الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة

أمين الشقاوي

تقديم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين: أما بعد: فقد اطّلعت على الكتاب الموسوم بـ «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة»: دروس يومية إعداد الشيخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. والشيخ أمين معروف لديّ وهو من الدعاة المعروفين بالعلم والبصيرة، وقد سمعتُ عدداً من كلماته التي يلقيها في المساجد. ولما تصفّحتُ الكتاب وجدتُه منوعاً يشمل موضوعات متعددة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه، وفي العلم، والوصايا، والأدعية والأذكار، وآداب الطعام، والمحرمات، وصيانة الأعراض واللباس، والمواعظ والرقائق والفضائل والأخلاق، وقضايا اجتماعية كقضية المرأة وغيرها وتوجيهات عامة وغيرها. ولا شكّ أن هذه الموضوعات شاملة لقضايا متعددة من أمور الدين، الناس بحاجة إليها، فهذه الكلمات مفيدة لعامة الناس، وهي مفيدة للدعاة والخطباء وأئمة المساجد يقرؤونها على الناس دروساً يومية. وإنني أوصي عموم المسلمين بقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وأوصي أيضاً أئمة المساجد والخطباء والدعاة بالاستفادة من هذا الكتاب على شكل دروس يومية تقرأ على المصلين.

والمؤلف - وفقه اللَّه - بذل جهده في اختيار الموضوعات المهمة، ودعمها بالأدلة من كتاب اللَّه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة والتابعين وأهل العلم المعتبرين، ورجع إلى كتب التفسير وكتب الفقه وكتب الحديث وكتب التاريخ والسِّير، فجاء هذا الكتاب - بحمد اللَّه - وافياً بالغرض نافعاً يجد فيه الباحث بغيته. وأسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب وبكلمات الشيخ أمين التي يلقيها في المساجد، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين، وأن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه جواد كريم. وصلى اللَّه وبارك على عبد اللَّه ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين. كتبه عبد العزيز بن عبد الله الراجحي 12/ 4 / 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ ناصر بن سليمان العمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المكرم الأخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي - وفقه اللَّه -: سلام اللَّه عليكم ورحمته وبركاته. وبعد: أشكركم على هديتكم كتاب «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» وقد تصفحت سفركم الجميل وألفيته من الكتب النافعة في بابه ومناسباً في وقتنا هذا لما اشتمل عليه من موضوعات تهم العامة والخاصة، وتقرب كثيراً من المعاني إلى الأفهام وتصلح حال كثير من الناس بأسلوب لطيف وتأصيل شرعي مستمد من الكتاب والسنة وأقوال السلف. وفقكم اللَّه وجعلكم مباركين أينما كنتم ونفع بعلمكم ورزقنا وإياكم حسن القصد والعمل. كتبه ناصر بن سليمان العمر الاثنين 12 ربيع الأول 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ سعد بن عبد الله الحميد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد اطلعت على كتاب «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» الذي ألفه أخونا الشيخ أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية - وفقه اللَّه -، فوجدته كتاباً نافعاً مناسباً لعموم المسلمين، وبخاصة الدعاة والخطباء وأئمة المساجد، فقد ضمَّنه مؤلفه خمسين ومئة درس في موضوعات متعددة في العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والقضايا الاجتماعية والأسرية، وما يخص المرأة، وبعض القضايا المعاصرة، كما حرص المؤلف على تجنب الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما أمكن، فنسأل اللَّه تعالى أن يجزل له المثوبة، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد. كتبه سعد بن عبد الله الحميد 7 ربيع الأول 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد استمعت إلى بعض الكلمات والدروس التي كان يلقيها الشيخ: أمين بن عبد اللَّه الشقاوي، وكانت هذه الدروس والكلمات مفيدة وقيِّمة، فهي جامعة ومختصرة مع الاعتناء بالأدلة من الكتاب والسنة، والنقل عن أهل العلم. وقد قام - وفقه اللَّه - بجمع هذه الكلمات والدروس في كتاب أسماه: «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» وهي شاملة لكثير من قضايا الشريعة من: التوحيد، والعقيدة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتفسير، والحديث، وغير ذلك من القضايا والمسائل. فبارك اللَّه فيه ونفع به الإسلام والمسلمين. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد كُلفتُ من قِبَلِ إدارة شؤون الدعوة والإِرشاد بفرع وزارة الشؤون الإِسلامية والأوقاف والدعوة والإِرشاد بالرياض، بإلقاء كلمات وعظية في مساجد مدينة الرياض، وفي أثناء تنقلي بمساجد المدينة أَشار عليَّ بعض الفضلاء من أئمة المساجد بكتابة ما يُلقى من هذه الكلمات؛ لكي يستفيد منها أئمة المساجد وطلبة العلم، وعامة الناس. فاستخرت الله عز وجل، ثم شرعت في كتابتها لعل الله أن ينفع بها. والجزء الأول من كتاب الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة، جمعتُ فيه ثلاثين كلمة متنوعة، وقد طُبع الطبعة الأولى عام 1422 هـ، ثم بدا لي أن أضيف عليه أربعين كلمة أخرى، فطُبع الكتاب الطبعة الثانية (الجزء الأول والثاني) في مجلد واحد عام 1423 هـ. وفي عام 1426 هـ طُبع الكتاب للمرة الثالثة، بإضافة ثمانين كلمة (الجزء الأول والثاني والثالث) في مجلد واحد، فأصبح المجموع (مئة وخمسين كلمة). وقد بذلت جهدي ألاَّ أورد فيها من الأحاديث إلا ما صُحح، والله أسأل أن يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم. المؤلف

الكلمة الأولى: الإخلاص

الكلمة الأولى: الإِخلاص الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ أعظم الأصول المهمة في دين الإِسلام تحقيق الإِخلاص لله تعالى في جميع العبادات، قال بعضهم: الإِخلاص هو ألا تطلب على عملك شاهدًا غير الله تعالى، ولا مجازٍ سواه (¬1). قال أبو عثمان سعيد النيسابوري: صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق لدوام النظر إلى الخالق، والإخلاص: أن تريد بقلبك وعملك وفعلك رضا الله تعالى خوفًا من سخط الله كأنك تراه بحقيقة عملك بأنه يراك حتى يذهب الرياء عن قلبك، ثم تذكر منّة الله عليك إذ وفقك لذلك العمل حتى يذهب العجب من قلبك وتستعمل الرفق في عملك حتى تذهب العجلة من قلبك. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا جُعِلَ الرِّفقُ فِي شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَمَا نُزِعَ مِن شَيءٍ إلاَّ شَانَهُ» (¬2). والعجلة اتّباع الهوى، والرفق اتّباع السنة، فإذا فرغت من عملك وجل قلبك خوفًا من الله أن يردّ عليك عملك فلا يقبله منك. قال الله تعالى: ¬

(¬1) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - (2/ 124). (¬2) صحيح مسلم برقم (2594).

{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، ومن جمع هذه الخصال الأربعة كان مخلصًا في عمله إن شاء الله (¬1). والإِخلاص هو حقيقة الدِّين، ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. وقال تعالى: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14]، وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} [الملك: 2]. قال الفضيل: {أَحْسَنُ عَمَلاً}: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السُّنَّة (¬2). وقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. قال أبو العالية: «وصاهم بالإِخلاص في عبادته»، والإِخلاص أعظم أعمال القلوب. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن تأمّل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد من ¬

(¬1) البيهقي في شعب الإيمان رقم (6475) طبعة الشؤون الإسلامية بدولة قطر. (¬2) مدارج السالكين (2/ 69).

الأعمال التي ميزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت» (¬1). وقال أيضًا: لو نفع العلم بلا عمل لما ذمّ الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بغير إخلاص لما ذم المنافقين (¬2). والإِخلاص شرط لقبول العمل، فإن العمل لا يُقبل إلا بشرطين: أولاً: أن يكون العمل موافقًا لما شرعه الله في كتابه، أو بيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (¬3). ثانيًا: أن يكون العمل خالصًا لوجه الله تعالى. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (¬4). ومصداق ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. والإِخلاص هو الأساس في قبول الدعاء، قال تعالى: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [غافر: 14]. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3/ 330) نقلاً عن كتاب الإخلاص والشرك الأصغر ص: 5. (¬2) الفوائد ص: 66. (¬3) صحيح البخاري برقم (2697)، وصحيح مسلم برقم (1718) واللفظ له، طبعة بيت الأفكار الدولية. (¬4) صحيح البخاري برقم (1)، وصحيح مسلم برقم (1907).

وفقدان الإِخلاص سبب لرد العمل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (¬1) ولما بلغ هذا الحديث معاوية بكى بكاءً شديدًا، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2) [هود: 15 - 16]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1905) .. (¬2) صحيح ابن حبان برقم (409). (¬3) صحيح البخاري برقم (2810)، وصحيح مسلم برقم (1904).

وروى النسائي في سننه من حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ شَيْءَ لَهُ». فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ شَيْءَ لَهُ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فإنه يصليه حيث كان ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرًّا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص (¬2). وقيل لسهل التستري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإِخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب (¬3). وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي، إنها تتقلب عليَّ. وقال سليمان الدّاراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء. وقال بعض السلف: من سلم له من عمره لحظة خالصة لوجه الله، نجا وذلك لعزة الإِخلاص، وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب؛ فإن الخالص هو الذي لا باعث له إلا طلب القرب من الله تعالى (¬4). والخلاصة: إن الإخلاص لله تعالى وإرادة وجهه رأس مال العبد وملاك أمره، وقوام حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه، وقرة ¬

(¬1) سنن النسائي برقم (31740)، وقال النووي: إسناده جيد "الترغيب والترهيب" (1/ 61). (¬2) الفتاوى (2/ 263). (¬3) مدارج السالكين (2/ 69). (¬4) انظر: "الإخلاص طريق الخلاص" لأخينا الشيخ عبدالهادي وهبي ص: 176.

عينه، ولذلك خُلق وبه أُمر، وبذلك أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلَّا بأن تكون رغبته إلى الله عز وجل وحده، فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده، ومن كان كذلك كفاه الله كل مهمٍّ، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه ما لا يستطيع دفعه عن نفسه، ووقاه وقاية الوليد، وصانه من جميع الآفات. ومن كان لله كان الله له، حيث لا يكون لنفسه (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) روضة المحبين لابن القيم ص: 408، بتصرف.

الكلمة الثانية: السبعة الذين يظلهم الله في ظله

الكلمة الثانية: السبعة الذين يظلهم الله في ظله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (¬1). يجمع الله الخلائق يوم القيامة، الأولين منهم والآخرين {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى} [النجم: 31]. في يوم طويل قدره، عظيم هوله، شديد كربه، حذّر الله منه عباده وأمرهم بالاستعداد له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2]. في ذلك اليوم العظيم تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ قَدْرَ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031).

كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» (¬2). في ذلك الموقف العظيم يظل الله في ظله هؤلاء السبعة، فلنتأمل أعمالهم التي أوجبت لهم هذا الجزاء العظيم. فالأول: الإِمام العادل الذي يحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى، كما قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ} [ص: 26]. ممتثلاً أمر ربه له سبحانه إذْ يقول: {إِنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا» (¬3). فهذا ثواب من عدل في حكمه وأعطى الحق أهله، فانظر إلى جزاء من جار في حكمه وظلم ولم يعدل، وأغلق بابه دون أصحاب الحاجات. قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا ¬

(¬1) معنى حديث أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2864). (¬2) صحيح البخاري برقم (6532)، وصحيح مسلم برقم (2863). (¬3) صحيح مسلم برقم (1827).

يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ أَتَى اللهَ عز وجل مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلاَمَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمرو بن مرة أنه قال: يا معاوية إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِن إِمَام أَو وَالٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الحَاجَةِ وَالخَلَّةِ وَالمَسْكَنَةِ إِلاَّ أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» قَالَ: فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ (¬3). والثاني: شاب نشأ في عبادة الله، وقد وفقه الله منذ نشأ للأعمال الصالحة، وحببها إليه، وكرَّه إليه الأعمال السيئة وأعانه على تركها، إما بسبب تربية صالحة، أو رفقة طيبة، أو غير ذلك، وقد حفظه مما نشأ عليه كثير من الشباب من اللهو واللعب وإضاعة الصلوات والانهماك في الشهوات والملذات، وقد أثنى الله على هذا النشء المبارك بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]. ولما كان الشباب داعيًا قويًا للشهوات، كان من أعجب الأمور ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 267)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (5718). (¬2) صحيح البخاري برقم (7150)، وصحيح مسلم برقم (142) واللفظ لمسلم. (¬3) مسند الإمام أحمد (29/ 565) برقم (18033)، وقال محققوه: صحيح لغيره.

الشاب الذي يلزم نفسه بالطاعة والاجتهاد فيها، فاستحق بذلك أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله. لقد علم أنه مسؤول عن شبابه فيم أبلاه، فعمل بوصية نبيه - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها حيث يقول: «اغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ» (¬1). والثالث: رجل قلبه معلق بالمساجد، فلا يكاد إذا خرج من المسجد أن يرتاح لشيء حتى يعود إليه، لأن المساجد بيوت الله، ومن دخلها فقد حلَّ ضيفًا على ربه، فلا قَلْبَ أطيب ولا نفسَ أسعد من رجلٍ حلَّ ضيفًا على ربه في بيته وتحت رعايته. وهؤلاء عمَّار المساجد على الحقيقة الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. روى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسجِدُ بَيْتَهُ، بِالرَّوْحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، إِلَى رِضْوَانِ اللهِ إِلَى الْجَنَّةِ» (¬2). وهذه الضيافة تكون في الدنيا: بما يحصل في قلوبهم من الاطمئنان والسعادة والراحة، وفي الآخرة: بما أعدَّ لهم من الكرامة في الجنة. ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (4/ 341) رقم (7844)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077). (¬2) حلية الأولياء (6/ 176)، وقال المنذري في كتابه: الترغيب والترهيب (1/ 298)، رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار، وقال إسناده حسن وهو كما قال رحمه الله. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (716).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلاً (¬1) كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» (¬2). والرابع: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، لأن أوثق عرى الإِيمان الحب في الله والبغض في الله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]. روى أبو داود في سننه من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ» (¬4). وهذه إحدى الخصال التي يجد بها العبد حلاوة الإِيمان ولذته، فهذان الرجلان لم تجمعهما قرابة ولا رحم ولا مصالح دنيوية، وإِنَّما جمع بينهما حب الله تعالى حتى فرَّق بينهما الموت وهما على ذلك. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: ¬

(¬1) نزله: مكاناً ينزله. (¬2) صحيح البخاري برقم (662)، وصحيح مسلم برقم (669) واللفظ له. (¬3) سنن أبي داود برقم (4681)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (5965). (¬4) صحيح مسلم برقم (54).

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عز وجل عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ». فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ؟ ! انْعَتْهُمْ لَنَا - يَعْنِي: صِفْهُمْ لَنَا - فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَفْزَعُونَ؛ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» (¬1). والخامس: رجل دعته امرأة إلى نفسها، وليست كأي امرأة، بل هي امرأة لها مكانة ومنزلة رفيعة، وقد أعطاها الله من الجمال ما يجعل الفتنة بها أشد، والتعلق بها أعظم، فيا الله كيف ينجو من وقع في مثل ذلك الموقف، إلا بإيمان عميق وبصيرة نافذة؟ ! قال القاضي عياض: «وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى، وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 343) طبعة دار صادر، وشرح السنة للبغوي (13/ 50 - 51) برقم (3464)، وقال محققاه شعيب، وزهير: وأخرجه أحمد (5/ 341، و 343) وشهر بن حوشب مختلف فيه وله شاهد بنحوه من حديث ابن عمر. أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 170 - 171)، وصححه، وأقره الذهبي وآخر من حديث أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه (2508) وإسناده صحيح.

والجمال من أكمل المراتب، وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. وذات المنصب هي ذات الحسب والنسب الشريف» (¬1). قال تعالى في هذا وأمثاله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَاوَى} [النازعات: 40 - 41]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلهِ، فَادْعُوا اللهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِئَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ ... الحديث» (¬2). والسادس: رجل تصدَّق بصدقة، وما أكثر المتصدقين! وما أعظم أجورهم عند الله! لكن الذي تميز به هذا المتصدق ونال به هذا الأجر العظيم - وهو إظلال الله له -، إخلاصه في صدقته، فقد بلغ به الإِخلاص حتى كاد أن يخفيها عن نفسه لو استطاع. وقد مدح الله المتصدقين، فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ثم خص المسرِّين فقال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 122). (¬2) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (2215)، وصحيح مسلم برقم (2743) واللفظ له.

وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]. وعن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» (¬1). أما السابع: فرجل امتلأ قلبه بمحبة الله وخشيته وتعظيمه، فذكر الله بمكان خال لا يراه إلا هو، ذكر عظمته وفضله عليه ورحمته فدمعت عيناه شوقًا إليه، وفي هذا وأمثاله يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]. روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬2). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير البكاء من خشية الله وكذلك الصالحون من قبل ومن بعد، وقد توعَّد الله أصحاب القلوب القاسية بأشدِّ الوعيد، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) المعجم الصغير للطبراني (2/ 95)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (3759). (¬2) سنن الترمذي برقم (1639)، وقال: حديث ابن عباس حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (4113).

الكلمة الثالثة: التوفيق

الكلمة الثالثة: التوفيق الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ توفيق الله عز وجل لا غنى للعبد عنه، لا في الدنيا ولا في الاخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَامُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]. فمن وفقه الله لتزكية نفسه فقد أفلح وفاز، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وأعلى مراتب توفيق الله لعبده: أن يحبِّب إليه الإِيمان والطاعة، ويُكرِّه إليه الكفر والمعصية، وهي المرتبة التي نالها أَصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وامتن الله بها عليهم في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]. قال ابن القيم رحمه الله: «يخاطب الله جل وعلا عباده المؤمنين، فيقول: لولا توفيقي لكم لما أذعنت نفوسكم للإِيمان، فلم يكن الإِيمان بمشورتكم وتوفيق أَنفسكم، ولكني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرهت إليكم ضده الكفر والفسوق» (¬1). ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 447).

والتوفيق من الأمور التي لا تُطلب إلاَّ من الله، إِذْ لا يقدر عليه إلاَّ هو، فمن طلبه من غيره فهو محروم. قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وهذه الهداية المذكورة في الاية هي التي يسمِّيها العلماء هداية التوفيق، قال شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. قال ابن القيم رحمه الله: «أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك» (¬1). وبهذا جاء التوجيه النبوي الكريم، روى أبو داود في سننه من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَانِي كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» (¬2). ومما يغلط فيه كثير من الناس ظنهم أن من رزق مالاً، أو منصبًا، أو جاهًا، أو غير ذلك من الأمور الدنيوية، أنَّه قد وُفق، والأمر ليس كما ظنوا، فإِنَّ الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، وقد ذكر الله هذا عن ذلك الإِنسان، وأخبر أن الأمر ليس كما ظن. قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ} [الفجر: 15 - 17]. والصواب أن الموفق هو الذي إِذا أُعطي منصبًا، أو جاهًا، استعمله ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 445). (¬2) سنن أبي داود برقم (5090). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3388).

في مرضاة ربه، ونصرة دينه، ونفع إخوانه، وإن رُزِقَ مالاً أخذه من حله وصرفه في طاعة ربه، فإن من حكمة الله تعالى أن يبتلي عباده، فالموفق منهم هو الذي إذا أُعطي شكر، والمخذول هو الذي إذا أُعطي طغى وكفر، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَأَىَهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]. وقال الله عن نبيه سليمان: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَىَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]. وتوفيق الله لعباده يكون على أحوال كثيرة، فمنها: أن يعرض الخير على أناس فيردونه حتى ييسر الله له من أراد به الخير من عباده، وقد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشر سنين يعرض نفسه على القبائل لينصروه، فلم يستجيبوا له حتى وفق الله الأنصار لذلك، فنالوا الشرف العظيم في الدنيا والآخرة. ومنها: أن يوفق الله العبد في آخر حياته لعمل صالح يموت عليه، فيختم الله به أعماله. روى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَاسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَسْلَمَ. وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ» وفي رواية: فَلَمَّا مَاتَ، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» (¬1). ومنها أن يُوفق الله العبد لعمل قليل أجره عند الله كثير، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1356)، وأحمد (3/ 260) والرواية له.

قَالَ: «أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ» فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا» (¬1). فمن اتَّقَى الله تعالى وملأ الإِخلاص قلبه، وعلم الله منه صدق نيته، وأكثر من دعائه، فقد أخذ بمجامع الأسباب الموصلة إلى التوفيق، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2808)، وصحيح مسلم برقم (1900).

الكلمة الرابعة: حسن الخلق

الكلمة الرابعة: حسن الخلق الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنَّ من أفضل الأعمال التي دعا إليها الشرع ورغَّب فيها حسن الخلق، فهو من أعظم مواهب الله لعباده. قال تعالى عن نبيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَامُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» (¬1). وحسن الخلق يشمل جوانب كثيرة من حياة المسلم، في أقواله وأعماله، وفي عبادته لربه وتعامله مع عباده. قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. وقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2002) وقال: حديث حسن صحيح.

قال ابن عباس: «أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب؛ والحلم عند الجهل، والعفو عند الإِساءة، فإِذا فعلوا ذلك عصمهم الله، وأخضع لهم عدوهم» (¬1). ومن وصايا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - للصحابِيَّيْنِ الجليلَيْنِ أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: أنه قال: «اتَّقِ اللهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: «جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته» (¬3). اهـ. ولما سُئِل - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ قَالَ: «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» (¬4). ولا يكتمل إيمان عبد ما لم يوفق للخلق الحسن. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا» (¬5). قال بعض السلف: حسن الخلق قسمان: أحدهما مع الله عز وجل وهو أن تعلم أن كل ما يكون منك يوجب عذرًا، وأن كل ما يأتي من الله يوجب شكرًا. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (12/ 243). (¬2) سنن الترمذي برقم (1987)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) الفوائد (84 - 85). (¬4) سنن الترمذي برقم (2004)، وحسن إسناده الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 194) برقم (1630). (¬5) سنن الترمذي برقم (1162)، وقال: حديث حسن صحيح.

ثانيهما: حسن الخلق مع الناس وجِماعه أمران: بذل المعروف قولاً وفعلاً، وكف الأذى قولاً وفعلاً (¬1). فحريٌّ بمن تمسك بهذا أن يصل إلى مراتب العاملين، فقد روى أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» (¬2). لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس خلقًا، فمن أحب أن يهتدي إلى معالي الأخلاق فليقتد بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. روى الترمذي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ » (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث عطاء بن يسار قال: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه -، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ، وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا» (¬4). ¬

(¬1) تهذيب السنن لابن القيم شرح سنن أبي داود (13/ 130). (¬2) سنن أبي داود برقم (4798) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3/ 911) برقم (4013). (¬3) سنن الترمذي برقم (2015) وأصله في الصحيحين. (¬4) صحيح البخاري برقم (2125).

قال حسان بن ثابت يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأَحسنُ مِنْكَ لم ترَ قطُّ عينِي ... وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ خُلِقتَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ... كَأَنكَ قدْ خُلِقْتَ كما تَشَاءُ قال عبد الله بن المبارك رحمه اله: حُسْنُ الخُلُقِ: طَلَاقَةُ الوَجْهِ، وَبَذْلُ المَعْرُوْفِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَأَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُوْنُ مِنَ النَّاسِ (¬1). وحسن الخلق يعمر الديار ويزيد في الأعمار، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: «إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ» (¬2). والمسلم لا بدَّ أن تواجهه في حياته مواقف كثيرة، إن لم يستعمل فيها حسن الخلق فإنه سيفشل في مواجهتها. فمن القواعد العامة في هذا المجال: أن لا تسرع بالملامة في حق من أساء إليك، أو قصر في حقك، وأن تعامله بحسن الظن والتماس العذر، وعلى العكس من ذلك أن لا تقول قولاً، ولا تفعل فعلاً قد تحتاج فيما بعد للاعتذار منه، ففي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنهُ» (¬3). قَالَ الشَّاعرُ: وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بَقِيت ... فإِن هُمُ ذَهَبَت أَخلاقُهم ذَهَبُوا ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (ص: 160). (¬2) مسند الإمام أحمد (42/ 153) برقم (25259)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬3) الضياء في المختارة (6/ 188) برقم (2199) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 689) برقم (354).

وقال آخر: صلاَحُ أمرِكَ للأَخلاَق مَرجعُهُ ... فَقوِّمِ النَّفسَ بالأَخلاَقِ تَستَقِم ومن الأمثلة التي استعمل فيها حسن الخلق فكانت نتائجها حميدة، ما روي أن رجلاً لقي علي بن الحسين فسبه، فثارت إليه العبيد، فقال: مهلاً، ثم أقبل على الرجل فقال: ما سُتر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحى الرجل، فألقى عليه خميصة (¬1) كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) كساء أسود مربع معلم. (¬2) مختصر منهاج القاصدين (ص: 238).

الكلمة الخامسة: العجلة

الكلمة الخامسة: العجلة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن الصفات المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها: العجلة. قال الراغب: «العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامة القرآن، حتى قيل: الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (¬1). قال تعالى لنبيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خُلُقه القرآن، يتخلق بأخلاقه ويتأدَّب بآدابه، لذلك التزم بهذا التوجيه المبارك، فلم يكن يستعجل؛ بل كان يتأنّى ويصبر، وإلى هذا أرشد أمته؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «التَّأَنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» (¬2). وقال الله له أيضًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] فكان - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة المثلى - أولى الخلق التزامًا بهذا الأمر. ¬

(¬1) معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص: 334). (¬2) مسند أبي يعلى (7/ 247) برقم (4256) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 404) برقم (1795).

روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَاسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَامُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَامُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ» (¬1). فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (¬2). أما المسارعة إلى فعل الخيرات والمبادرة إليها، وانتهاز الفرص إذا حانت، فإن ذلك محمود وليس بمذموم. قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وقال موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]. روى أبو داود في سننه من حديث مصعب بن سعد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ» (¬3). لأن العجلة المذمومة القطع في الأمور قبل التفكر والمشاورة ¬

(¬1) هما جبلا مكة أبو قبيس والجبل الذي يقابله. (¬2) صحيح مسلم برقم (1795). (¬3) سنن أبي داود برقم (4810)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1794).

والاستخارة، ولهذا قال أبو حاتم البستي رحمه الله: «إن العَجِلَ يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعدما يحمد، والعَجِلُ تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تسميها أم الندامات» (¬1). اهـ. قال الشاعر: قَدْ يُدْرِكُ المُتأَنِّي بَعْضَ حَاجتِهِ ... وَقَد يَكُونُ مَعَ المُستَعجلِ الزَّلَلُ ومن الأمثلة على العجلة المذمومة: الاستعجال بالدعاء على الأهل، والمال والولد عند الغضب، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» (¬2). ولعل كثيرًا مما نرى من المصائب والأمراض وفساد الأولاد يكون بسبب الدعاء عليهم، وكثير من الناس لا يشعر بذلك، فهل من مُدَّكِر؟ ومنها: استعجال المرء إجابة دعائه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي» (¬3). ومنها: استعجال بعض المصلين في صلاتهم، فلا يتمُّون ركوعها ولا سجودها ولا يطمئنون فيها، وقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً صلى عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ ¬

(¬1) روضة العقلاء (ص: 288). (¬2) صحيح مسلم برقم (3009). (¬3) صحيح البخاري برقم (6340)، وصحيح مسلم برقم (2735) واللفظ له.

تُصَلِّ» - ثلاث مرات - في كل مرة يقول له ذلك. ثم قال له: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَا بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ... » (¬1) - الحديث. ومن واقعنا المعاصر نرى كثيرًا من الناس يندمون حين لا ينفعهم الندم، بسبب استعجالهم في أمور كان عليهم أن يتأنوا فيها، فمن ذلك: أنَّه لأقل الأسباب يطلق الرجل زوجته، فتتشتت الأُسَر، ويضيع الأطفال، وتُهدم البيوت، ويقع من الهم والغم ما الله به عليم، كل ذلك بسبب العجلة فهل من مُدَّكِر؟ ومنها: العجلة في قيادة السيارات، وما نسمعه من الحوادث المروِّعة التي كانت سببًا لإِزهاق نفوس كثيرة، وأمراض خطيرة، وعاهات مزمنة، إنما وقع بسبب العجلة. ومنها: أن يستبطئ الإِنسان الرزق فيستعجل، فيطلبه من طرق محرمة ووجوه غير مشروعة، روى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي (¬2)، أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ، حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَه تَعَالَى لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (757)، ومسلم برقم (397). (¬2) أي: قلبي. (¬3) حلية الأولياء (10/ 27) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2085).

الكلمة السادسة: كتابة الوصية

الكلمة السادسة: كتابة الوصية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من الأمور التي ينبغي تذكير المسلمين بها: كتابة الوصية، وذلك لما في كتابتها من المصالح الدينية والدنيوية، ولتساهل كثير من الناس بها. فلو قلت لأحدهم: هل كتبت وصيتك؟ لنظر إليك نظرة تعجب واستغراب، هل هو على فراش الموت حتى يكتب وصيته؟ ! ولم يعتبر بما يشاهده ويسمعه كل يوم من الميتات الفجائية التي تأتي بغتة، وقد أخبر عز وجل أن من عقوباته اخترام النفوس فجأة، فلا تتمكن من الوصية بشيء تريده، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَاخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50]، فكم من ميت مرتهن بدينه، وكم من غني لم ينتفع بماله بعد موته، وكم من حقوق أُضيعت، وأمانات لم تُؤَدَّ إلى أصحابها؟ ! كل ذلك سببه التساهل في كتابه الوصية. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» (¬1). ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (1078، 1079)، وقال: هذا حديث حسن. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6779).

والوصية سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله، فينبغي للمسلم أن يقتدي بهم فيوصي أولاده وقرابته من بعده بتقوى الله عز وجل والتمسك بدينه، ويوصيهم بما وصَّى به إبراهيم بنيه ويعقوب، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132]. والوصية على أحوال: واجبة، ومستحبة، ومحرمة. فتجب على المسلم إذا كانت عليه حقوق لله تعالى، كالنذر والزكاة، والحج، ونحوها. أو عليه ديون للخلق من أموال وغيرها، أو له ديون على الناس لم يعفهم منها. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ، إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي (¬1). وتُستحب لمن عنده سعة من المال أن يوصي بشيء منه، يُنفق في أعمال البر، ويكون له صدقة جارية بعد موته، وهذه الوصية لها شرطان: الأول: أن تكون بالثلث فما دون؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد لما أراد أن يوصي: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» (¬2). الثاني: أن تكون لغير وارث، روى الترمذي في سننه من حديث ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2738). (¬2) صحيح البخاري برقم (2738)، وصحيح مسلم برقم (1627).

أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (¬1). وتحرم الوصية بما يخالف الشرع، كأن يوصي أهله بالنياحة عليه، أو بقطع رحمه، أو إلحاق الأذى بالمسلمين، أو الانتقام من فلان، أو الإِضرار بورثته، وغير ذلك، فمن فعل شيء من ذلك فإِنّها لا تصح وصيته ولا تنفذ، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182]. نقل ابن كثير رحمه الله عن ابن عباس وغيره: أن الجنف هو الخطأ، ثم قال: وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثًا بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباةً، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل (¬2). إما مخطئًا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدًا آثمًا في ذلك. ومن فوائد الوصية إضافة إلى ما تقدم: 1 - الأجر العظيم لمن كتبها جزاء طاعته لله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]. 2 - الأجر العظيم فيما يوصي به من النصائح والمواعظ لما يُرجى من الانتفاع بها. 3 - إبراء ذمته من المخالفات الشرعية والحقوق المالية وغيرها. 4 - قطع النزاعات المحتملة، وإنهاء الخلافات التي قد تحدث بين ورثته من بعده، وهذا نموذج للوصية: ¬

(¬1) سنن الترمذي وهو جزء من حديث برقم (2121) وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 171) مختصراً.

يقول بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله: هذا ما أوصى به فلان بن فلان وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، أُوصي أولادي وأهلي وأَقاربي وجميع المسلمين بتقوى الله عز وجل، وأُوصيهم بما وصَّى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. وأُوصي بتسديد ما عليَّ من دين - إن كان عليه دين -، وإن أراد أن يقول: وأن يخرج من مالي ثلثه لفلان أو صدقة جارية، وأولادي القُصَّر يكون وليهم فلان، يحفظ لهم حقهم من التركة حتى يبلغوا، ثم يوصي بما أراد من وصايا دينية واجتماعية، وأن يكون غسله وتجهيزه وما يتبع ذلك على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يختم ذلك بالدعاء لنفسه بالمغفرة والرحمة ودخول الجنان. وعليه توثيق وصيته بشهادة رجلين عدلين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السابعة: البركة

الكلمة السابعة: البركة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّه ينبغي للمسلم أن يسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك له في علمه وعمله، وفي وقته وماله، وفي أهله وأولاده، وفي دنياه وآخرته، وأن يحرص على الأسباب التي تستجلب بها البركة. قال الراغب: «البركة هي ثبوت الخير الإِلهي في الشيء» (¬1). اهـ. فالبركة ما حلت في قليل إلا كثر، ولا كثير إلا نفع، وإن من أعظم ثمار البركة في الأمور كلها استعمالها في طاعة الله عز وجل. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم أعظم الناس قيامًا بالتقوى ولوازمها، كانت البركة لهم وبهم أَعظم وأعم، ولقد هداهم الله تعالى ومن شاء من صالحي العباد إلى ما فيه الخير كله والبركة كلها، وهو هذا الكتاب العظيم الذي أمر الناس بتعلمه وتدبره. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. ¬

(¬1) معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم (41).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي عثمان قال: قال عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله عنهما: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ - أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ -، فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ أُمِّي: احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ - أَوْ أَضْيَافِكَ - اللَّيْلَةَ. قَالَ: مَا عَشَّيْتِهِمْ؟ فَقَالَتْ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ - أَوْ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَوْ - فَأَبَى، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ، وَحَلَفَ لاَ يَطْعَمُهُ، فَاخْتَبَاتُ أَنَا فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ. فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ - أَوِ الأَضْيَافُ - أَنْ لاَ يَطْعَمَهُ - أَوْ يَطْعَمُوهُ - حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لاَ يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَاكُلَ، فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَاكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ، فَفَنِيَ» (¬2). وهناك أسباب كثيرة تُستجلب بها البركة. منها: تقوى الله جل وعلا، فما اتَّقَى الله عبد في أي أمرٍ من أُموره، إلاَّ بارك الله له فيه بقدر تقواه أو أعظم. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. ومنها: الدعاء، ولقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بطلب البركة في ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6141)، وصحيح مسلم برقم (2057). (¬2) صحيح البخاري برقم (6451)، وصحيح مسلم برقم (2973).

أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج: فنقول: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي الخَيْرٍ» (¬1)، وعلمنا أن ندعو لمن أطعمنا فنقول: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» (¬2)، وعلمنا أن ندعو بالبركة في طعامنا فنقول: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ» (¬3). وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُؤتَى بِالأَطفَالِ فَيَدعُو لَهُم بالبَرَكَةِ (¬4)، وَإِذَا أَتَوْهُ بالبَاكُورَةِ مِنَ الثَّمَرَةِ دَعَا فِيهَا بالبَرَكَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي ثِمَارِنَا، وَفِي مُدِّنَا، وَفِي صَاعِنَا، بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ». ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ (¬5). ومنها أن يأخذ المال بطيب نفس من غير شره ولا إلحاح. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام - رضي الله عنه -: «يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَاكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ» (¬6). ويلحق بهذا إنفاق المال في وجوه البر وإخراج زكاته، وبذل حقوقه بإِخلاص وطيب نفس. قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (1091)، وقال: حسن صحيح. (¬2) صحيح مسلم برقم (2042). (¬3) أبو داود برقم (3730)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (381). (¬4) سنن أبي داود برقم (5106)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 961) برقم (4259). (¬5) انظر: صحيح مسلم برقم (1373). (¬6) صحيح البخاري برقم (1472)، وصحيح مسلم برقم (1035).

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (¬1). وفي حديث قدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» (¬2). ومنها: الصدق في المعاملة من بيع وشراء وتجارة وشراكة وغيرها. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (¬3). ومنها: قضاء الأعمال والتجارات في أول النهار؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث صخر الغامدي - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» (¬4). قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً بَعَثَهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا، وَكَانَ لاَ يَبْعَثُ غِلْمَانَهُ إِلاَّ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى كَانَ لاَ يَدْرِي أَيْنَ يَضَعُ مَالَهُ؟ ! ومنها: اتباع السنة في الطعام والشراب، وفيه أحاديث نشير إلى بعضها، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلاَ تَاكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم جزء من حديث برقم (2588). (¬2) صحيح البخاري برقم (4684)، وصحيح مسلم برقم (993). (¬3) صحيح البخاري برقم (2110)، وصحيح مسلم برقم (1532). (¬4) مسند الإمام أحمد (3/ 416) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1300). (¬5) سنن الترمذي برقم (1805) وقال: حديث حسن صحيح.

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: «إِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ» (¬1). وروى ابن ماجه في سننه من حديث وحشي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّا نَاكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ؛ قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَأكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» (¬2). ومنها: أي من أسباب حصول البركة، استخارة المولى جل وعلا في الأمور كلها، مع الإِيمان بأَن ما يختاره الله لعبده خير مما يختاره لنفسه في العاجل والآجل؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه عليها يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن؛ فيقول: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ -، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ -، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2034). (¬2) سنن ابن ماجه برقم (3286) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2674). (¬3) صحيح البخاري برقم (1162).

الكلمة الثامنة: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه

الكلمة الثامنة: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَن تَرَكَ شَيئًا لِله عَوَّضَهُ اللهُ خَيرًا مِنهُ». وهذا الحديث ضعيف لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، وإن كان مشهورًا عند كثير من الناس، وقد ثبت بلفظ آخر من حديث أبي قتادة وأبي الدهماء قالا: أتينا على رجلٍ من أهل البادية وقلنا: هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، قال: سمعته يقول: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلهِ عز وجل إِلاَّ بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» (¬1). وهذا الحديث العظيم قد اشتمل على ثلاث جمل. الأولى قوله: «لَنْ تَدَعَ شَيْئًا»، وهذا لفظ عام يشمل كل شيء يتركه الإِنسان ابتغاء وجه الله تعالى. الثانية: قوله: «لِلهِ عز وجل»، هذه الجملة بيَّن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الترك لا بد أن يكون ابتغاء مرضاة الله، لا خوفًا من سلطان، أو حياء من إنسان، أو عدم القدرة على التمكن منه، أو غير ذلك. الثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَبْدَلَهُ اللهُ خَيرًا مِنْهُ»، هذه الجملة فيها بيان للجزاء الذي يناله من قام بذلك الشرط، وهو تعويض الله للتارك خيرًا وأفضل ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (38/ 170) برقم (23074)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وقال الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (1/ 19): وسنده صحيح على شرط مسلم.

مما ترك، والعوض من الله قد يكون من جنس المتروك، أو من غير جنسه، ومنه الأنس بالله عز وجل ومحبته وطمأنينة القلب وانشراح الصدر، ويكون في الدنيا والآخرة، كما علم الله المؤمن أن يدعو: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201]. قال قتادة السدوسي: لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله عز وجل، إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه قال: «يَقُولُ اللهُ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ» (¬1). والأمثلة التي تبين عظيم خلف الله تعالى لعباده كثيرة جدًّا، منها: ما قصه الله تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام في سورة (ص: )، وخلاصته: أنه كان محبًّا للجهاد في سبيل الله، ولذلك كانت عنده خيل كثيرة وكان يحبها حبًّا شديدًا، فاشتغل بها يومًا حتى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يصلي، فأمر بها فردت عليه، فضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف إيثارًا لمحبة الله عز وجل، وقد كان ذلك جائزًا في شريعتهم. فعوضه الله عز وجل خيرًا منها الريح التي تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب، تقطع في النهار ما يقطعه غيرها في شهرين. وإليك الآيات فتدبر. قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7501)، وصحيح مسلم برقم (128).

حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 30 - 36]. المثال الثاني: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم وأموالهم لله تعالى، فعوضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا وحكام الأرض وفتح عليهم خزائن كسرى وقيصر، ومكنهم من رقاب الملوك والجبابرة، هذا مع ما يُرجى لهم من نعيم الآخرة، فشكروا، ولم يكفروا، وتواضعوا ولم يتكبروا، وحكموا بالعدل بين الناس، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وتأمل قصة أحد هؤلاء المهاجرين، وهو صهيب الرومي - رضي الله عنه -، فعن عكرمة قال: لما خرج صهيب مهاجرًا تبعه أهل مكة فنثل كِنَانَتَهُ فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: «لاَ تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَضَعَ فِي كُلِّ رَجُلٍ مِنكُم سَهمًا، ثُمَّ أَصِيرَ بَعدُ إِلَى السَّيفِ، فَتَعلَمُونَ أَنِّي رَجُلٌ، وَقَد خَلَّفْتُ بِمَكَّةَ قَينَتَينِ فَهُمَا لَكُم، وَنَزَلَت عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله} [البقرة: 207]، فَلَمَّا رَأَىهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أَبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ، قَالَ: وَتَلاَ عَلَيهِ الآيَةَ» (¬1). المثال الثالث: نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام عرضت عليه ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (3/ 450) ورقم (1298) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وحسنه الشيخ مقبل الوادعي في كتابه الصحيح المسند من أسباب النزول (ص: 33).

المغريات في أرقى صورها، فاستعصم فعصمه الله، وترك ذلك لله عز وجل، لأن الله جعله من المُخلَصِين، وأُوذي بسبب ذلك فاختار السجن على ما يدعونه إليه، فصبر واختار ما عند الله فعوضه الله تعالى أحسن العوض، فمَلَّكه على خزائن الأرض، وعلمه تأويل الرؤيا، فنعم المُعْطِي، ونعم المُعْطَى، ونعمت العطية. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة: طول الأمل

الكلمة التاسعة: طول الأمل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فلقد ذم الله أقوامًا طالت آمالهم فألهتهم عن العمل للدار الآخرة، ففاجأهم الأجل وهم غافلون، فهم يتمنون أن لو مُدَّ لهم فيه ليستدركوا ما فات؛ ولكن هيهات هيهات. قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2 - 3]. وطول الأمل: هو الاستمرار في الحرص على الدنيا ومداومة الانكباب عليها، مع كثرة الإِعراض عن الآخرة (¬1). ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كثيرًا من الناس طالت آمالهم حتى جاوزت آجالهم. فعن بريدة - رضي الله عنه - قال: خَطَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذَا الأَمَلُ، وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ» (¬2) يعني الأجل. وإن من عجيب أمر ابن آدم أنه كلما اقترب من أجله طال أمله، وزادت رغبته في الدنيا وحرصه عليها، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، وهم قليل. ¬

(¬1) موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - (10/ 4857). (¬2) صحيح البخاري برقم (6418).

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأَمَلِ» (¬1). فالأمل لا ينفك عنه أكثر الخلق، ولولا الأمل ما تهنى أحد بعيش أبدًا، قال الشاعر: أُعَلِلُ النَّفسَ بِالآمَالِ أَرقُبُهَا ... مَا أَضيقَ العَيشَ لَولاَ فُسحَةُ الأَمَل قال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس إلاَّ للعلماء فلولا أملهم لما صنفوا ولا ألَّفوا (¬2). قال ابن حجر: وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته (¬3). فالعاقل من لم يغرَّه طول الأمل، ولم يُنسِه ما هو فيه من النعيم ما وعد الله به كل حي، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنيا كأَنَّكَ غَريبٌ، أو عَابِرُ سَبيلٍ». «وكَانَ ابْنُ عُمَر يَقُوْلُ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاح، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6420)، وصحيح مسلم برقم (1046). (¬2) فتح الباري (11/ 237). (¬3) فتح الباري (11/ 237). (¬4) البخاري برقم (6146).

زاد الترمذي: «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِن أَهْلِ الْقُبُورِ» (¬1). قال ابن رجب: وهذا الحديث أصل عظيم في قصر الأمل، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يتخذ هذه الدنيا وطنًا ومسكنًا، وإنما يكون حاله فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل (¬2). ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر! أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتًا نتوجه إليه، فقال: إنه لابد لك من متاع ما دمت ها هنا، قال: إن صاحب البيت لا يدعنا فيه (¬3). عن الحسن لما احتضر سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: بكى وقال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَهِدَ إِلَيْنَا عَهْدًا فَتَرَكْنَا مَا عَهِدَ إِلَيْنَا: أَنْ يَكُونَ بُلْغَةُ أَحَدِنَا مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ. قَالَ: ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا تَرَكَ، فَإِذَا قِيمَةُ مَا تَرَكَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا أَوْ بِضْعَةٌ وَثَلاَثُونَ دِرْهَمًا (¬4). فعلى العاقل أن يغتنم أيام حياته، فما يدريه لعله لم يبق له منها إلا يسير. قال ابن القيم رحمه الله: «ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما» (¬5). روى الترمذي في سننه من حديث عبد اللَّه بن عمرو قال: مرَّ عَلَينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصًّا (¬6) لَنَا فَقَالَ: «مَا هَذَا؟ ». ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2333)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 272) برقم (1902). (¬2) جامع العلوم والحكم (ص: 377). (¬3) جامع العلوم والحكم (ص: 773). (¬4) مسند الإمام أحمد (5/ 438)، وصححه ابن حبان (2480). (¬5) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (10/ 4865). (¬6) الخص: بيت يعمل من الخشب والقصب "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 37).

فَقُلْنَا: قَدْ وَهَى فَنَحْنُ نُصْلِحُهُ. قَالَ: «مَا أَرَى الأَمْرَ إِلاَّ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ» (¬1). ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكر الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. ولذلك يقول علي - رضي الله عنه -: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ، أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَأَنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتْ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ» (¬2). وروى البيهقي في شعب الإيمان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلُحَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهدِ وَاليَقِينِ وَهَلَكَ آخِرُهَا بِالبُخلِ وَالأَمَلِ» (¬3). ومن مفاسد طول الأمل: 1 - نسيان الموت وأهوال الآخرة وما أعد اللَّه فيها من النعيم المقيم لأهل طاعته، ومن العذاب الأليم لأهل المعاصي. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2335)، وقال هذا حديث حسن صحيح. (¬2) صحيح البخاري من قوله: ارتحلت الدنيا مدبرة برقم (6416). (¬3) (15/ 69) برقم (10046) وقال محققوه: إسناده حسن، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3845).

2 - يُقسي القلب ويُجِفُّ دَمع العين، ويزيد في شدة الحرص على الدنيا. 3 - يدفع إلى المعاصي ويبعد عن الطاعات. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة العاشرة: فضل القرآن وقراءته

الكلمة العاشرة: فضل القرآن وقراءته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ القرآن كلام الله تعالى، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به اهتدى، ومن أعرض عنه ضل وهوى، أثنى الله عليه في مواضع كثيرة منه؛ ليبين فضله ويوضِّح للناس مكانته ومنزلته، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 3 - 4]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَاتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]. فما من باطل إلا وفي القرآن ما يدمغه، ولا شبهة إلا وفيه بيان بطلانها، قال تعالى: {وَلاَ يَاتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]. وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. سمَّاه الله نورًا وجعله للناس شفاءً. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. أُعجب به الجن لما سمعوه، فآمنوا به واتبعوه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 - 2]. تكفل الله بحفظه وأعجز الخلق أن يأتوا بمثله. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» (¬1). ولهذه الفضائل العظيمة لكتاب الله، أمر الله بتلاوته والعمل به وتدبُّره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30]. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لقارئ القرآن من الحسنات. روى الترمذي في سننه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (817). (¬2) سنن الترمذي برقم (2910) وقال: حديث حسن صحيح غريب.

قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» (¬1). ويوم القيامة تتجلى هذه الفضائل لقارئ القرآن، فيشفع لقارئه ويعلو به في مراتب الجنة على قدر قراءته. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَا وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا» (¬3). وإن من عجيب حال الكثيرين منا: تقصيرهم في تلاوة كتاب ربهم وتدبره والعمل به، مع علمهم بفضله وأجره. قال أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -: لَو طَهُرَت قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَت مِن كَلاَمِ اللهِ عز وجل. ولهذا المعنى أشار تعالى بقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125]. فالآيات بينت حال المؤمنين، وحال المنافقين عند سماع القرآن وتلاوته، فليحذر المسلم أن يكون من ذلك الصنف الخاسر الذي لا يزيده سماع القرآن إلا خسارًا. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4937)، وصحيح مسلم برقم (798) واللفظ له. (¬2) صحيح مسلم برقم (804). (¬3) سنن الترمذي برقم (2914)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وعلى هذا فينبغي للمسلم ملاحظة هذه الأمور: أولاً: قراءة القرآن بتدبر وتمعن، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. قال عبد الله بن مسعود: «لاَ تَنثُرُوهُ كَنَثرِ الرَّملِ، وَلاَ تَهُذُّوهُ كَهَذِّ الشِّعرِ، قِفُوا عِندَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلاَ يَكُن هَمُّ أَحَدِكُم آخِرَ السُّورَةِ». ثانيًا: مراجعة الحفظ، روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» (¬1). ثالثًا: الخشوع عند تلاوة القرآن: روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَا عَلَيَّ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ! قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَرَاتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (¬2). رابعًا: عدم هجر القرآن، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] والهجر يشمل هجر التلاوة، والتدبر والعمل، والتحاكم إليه، كما قال ابن القيم رحمه الله. فلا بد من العناية بكلام الله عز وجل حفظًا، وتلاوة، وعملاً، حتى يكون المسلم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5033)، وصحيح مسلم برقم (791) واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري برقم (5050)، وصحيح مسلم برقم (800).

الكلمة الحادية عشرة: فضل رمضان

الكلمة الحادية عشرة: فضل رمضان الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن الخالق لجميع المخلوقات جل وعلا قد فضَّل بعضها على بعض، واختار منها ما شاء، فخلق الناس واختار منهم الأنبياء، وخلق الأماكن واختار منها المساجد، وخلق الشهور واختار منها رمضان، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]. وهذا «الشهر» قد خصَّه الله عز وجل بخصائص، من أعظمها وأجلها أن الله تعالى أنزل فيه هذا القرآن العظيم هدًى للناس وبينات، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. قال بعض أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى عقَّب بالفاء السببية التي تفيد التعليل؛ ليبين أن سبب اختيار رمضان ليكون شهر الصوم هو إنزال القرآن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر: 1]. ومن المعلوم أن ليلة القدر في رمضان، فينبغي للمسلم أن يكثر من قراءة القرآن في هذا الشهر المبارك. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما

قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» (¬1). ومنها أنه تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» (¬2)، وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» (¬3). ومنها أن فيه ليلة خير من ألف شهر، كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2 - 3]. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬4). والمقصود من هذه الخيرية أن العمل الصالح في هذه الليلة أفضل من العمل ألف شهر. ومنها: استجابة الدعاء فيه، والعتق من النار، روى البزار في ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6)، وصحيح مسلم برقم (2308). (¬2) صحيح البخاري برقم (3277)، وصحيح مسلم برقم (1079). (¬3) سنن الترمذي برقم (682)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 209) برقم (549). (¬4) صحيح البخاري برقم (1901)، وصحيح مسلم برقم (759).

مسنده من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ - يَعْنِي: فِي رَمَضَانَ -، وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوَةً يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ» (¬1). ومنها: أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» (¬2). ومنها: فضل الاعتمار فيه: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَانٍ: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟ ». قَالَتْ: نَاضِحَانِ كَانَا لأَبِي فُلاَنٍ - زَوْجِهَا - حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَكَانَ الآخَرُ يَسْقِي عَلَيْهِ غُلاَمُنَا. قَالَ: «فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي» (¬3). ومنها: تكفير الخطايا والسيئات، روى ابن حبان في صحيحه من حديث مالك بن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده قال: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المِنبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً قَالَ: «آمِينَ» ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً أُخرَى فَقَالَ: «آمِينَ»، ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً، فَقَالَ: «آمِينَ»، ¬

(¬1) كشف الأستار (1/ 457 - 458) برقم (962) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 586) برقم (1002). (¬2) صحيح البخاري برقم (1904)، وصحيح مسلم برقم (1151). (¬3) صحيح البخاري برقم (1782)، وصحيح مسلم برقم (1256) واللفظ له.

ثُمَّ قَالَ: «أَتَانِي جِبرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَن أَدرَكَ رَمَضَانَ فَلَم يُغفَر لَهُ فَأَبعَدَهُ اللهُ، قُلتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَن أَدرَكَ وَالِدَيهِ أَو أَحَدَهُمَا فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبعَدَهُ اللهُ، قُلتُ: آمِينَ، فَقَالَ: وَمَن ذُكِرتَ عِندَهُ فَلَم يُصَلِّ عَلَيكَ فَأَبعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلتُ: آمِينَ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬3). ومعنى: «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» في الحديثين السابقين، أي: مصدقًا بفرضية الصيام، وراغبًا في ثوابه، طيبة نفسه بالصيام، غير كاره لصيامه ولا مستثقل لقيامه، وبعض الناس يصوم ويقوم عادة لأنه رأى الناس يفعلون ذلك، وهذا خطأ، فإنَّه لا تُنال هذه الأجور العظيمة إلا بإِخلاص وابتغاء ثواب الله وجزائه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم (410). (¬2) صحيح البخاري برقم (1901)، وصحيح مسلم برقم (759). (¬3) صحيح البخاري برقم (2009)، وصحيح مسلم برقم (759).

الكلمة الثانية عشرة: فضل الصيام

الكلمة الثانية عشرة: فضل الصيام الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من أفضل الأعمال الصالحة وأجلها عند الله تعالى الصيام، فقد رغَّب فيه الشرع وحثَّ عليه، وجعله أحد أركان الإِسلام العظام، وأخبر جل وعلا أنه لا تستغني عنه الأمم؛ لما فيه من تهذيب الأخلاق، وتطهير النفوس، وحملها على الصبر، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وقال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]. وقال تعالى بعد ما ذكر المسارعين إلى الخيرات من الرجال والنساء: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (¬1) (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2840)، وصحيح مسلم برقم (1153). (¬2) سبعين خريفاً أي سبعين سنة.

ومن فضائل الصيام: أنه وقاية للعبد من عذاب الله يوم القيامة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» (¬1). ومنها: أنه طريق عظيم إلى الجنة؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لاَ عِدْلَ لَهُ»، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِي: «عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ» (¬2)، وفي رواية: فكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهارًا، إلا إذا نزل بهم ضيف (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» (¬4). ومنها: أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ» (¬5). ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (3/ 396) قال المنذري: في كتابه: "الترغيب والترهيب" (2/ 9) حديث رقم (1432): إسناده حسن. (¬2) مسند الإمام أحمد (36/ 465) برقم (22149) وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬3) صحيح ابن حبان برقم (3416، 3417). (¬4) صحيح البخاري برقم (1896)، وصحيح مسلم برقم (1152). (¬5) مسند الإمام أحمد (2/ 174)، قال المنذري في كتابه: "الترغيب والترهيب" (2/ 10) حديث رقم (1436): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع بإسناد حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3882).

ومنها: أن الصائم يوفَّى أجره بغير حساب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» (¬1). ومنها: أنه كفارة لكثير من المخالفات، فمن ذلك أنه كفَّارة لحنث اليمين، وقتل الصيد في الإحرام، قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. روى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّدَقَةُ» (¬2). ومنها: أن من صام رمضان وأدَّى الفرائض الأخرى كان من ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1904)، وصحيح مسلم برقم (1151). (¬2) صحيح البخاري برقم (1895).

الصدِّيقين والشهداء، روى ابن حبان في صحيحه من حديث عمرو بن مرة الجهني - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أرأيت إن شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأدَّيت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته فمِمَّن أنا؟ قال: «مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» (¬1). ومنها أن صيام رمضان يكفِّر الخطايا والسيئات. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬2). وقد فضل الله بعض الأزمنة على بعض وخصها بمزيد من الفضل، فمن ذلك: صيام ست من شوال، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» (¬3). ومنها: صيام شهر الله المحرم، وخاصة اليوم العاشر، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم (3429)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 46)، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخي البزار؛ وأرجو أنه إسناد حسن أو صحيح. أهـ. (¬2) صحيح البخاري برقم (1901)، وصحيح مسلم برقم (759). (¬3) صحيح مسلم برقم (1164). (¬4) صحيح مسلم برقم (1163).

سُئِلَ عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ» (¬1). ومنها: صيام يوم عرفة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة؟ فقال: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» (¬2). ومنها: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاَثٍ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ» (¬3). ومنها: صيام الاثنين والخميس، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1163). (¬2) صحيح مسلم برقم (1162). (¬3) صحيح البخاري برقم (1178)، وصحيح مسلم برقم (721). (¬4) رواه الترمذي برقم (747)، وقال: حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 227) برقم (596).

الكلمة الثالثة عشرة: فضل قيام الليل

الكلمة الثالثة عشرة: فضل قيام الليل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من أفضل الأعمال وأجل الطاعات التي رغب فيها الشارع قيام الليل، فهو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فهم عاكفون على مناجاة ربهم، يرغبون ويتضرعون إلى واهب الخيرات وعظيم العطايا والهبات سبحانه. قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]. وقد ذكرهم الله تعالى بأحسن الذكر، فقال: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18]. قال الحسن: كابدوا الليل، ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء، والاستكانة، والاستغفار (¬1). وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. ¬

(¬1) مختصر قيام الليل للمروزي (ص: 96).

روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَابُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا؛ أَعَدَّهَا اللهُ لِمَن أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلاَنَ الكَلاَمَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ» (¬2). وروى الطبراني في معجمه الأوسط من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -؛ قال: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬3). قال الشاعر يصف قومه وقد كانوا أهل جد واجتهاد في طاعة الله: إِذَا مَا اللَّيلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ ... فَيُسْفِرُ عَنهُمُ وَهُمُ رُكُوعُ أَطَارَ الخَوْفُ نَومَهُمُ فَقَامُوا ... وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ لَهُم تَحْتَ الظَّلَامِ وَهُمْ سُجُودٌ ... أَنِينٌ مِنْهُ تَنْفَرِجُ الضُّلُوعُ وقد أمر الله نبيه بقيام الليل وحثه عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 - 4]. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3549)، قال أبو عيسى الترمذي وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2814). (¬2) (37/ 539) برقم (22905)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) معجم الطبراني الأوسط (4/ 306) برقم (4278)، وقال المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 485) حديث رقم (918): إسناده حسن.

وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. وكان صلوات الله وسلامه عليه يأخذ بهذا التوجيه الرباني الكريم ويستجيب لأمر ربه، تقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ ! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ! » (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِئَةِ. ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ» (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على قيام الليل ويرغِّبهم فيه، فقال في شأن عبد الله بن عمر: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ». قَالَ سَالِمٌ - ابن عبد الله بن عمر -: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً (¬3). وحثَّ أُمته على قيام الليل، فقال: «أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ» (¬4). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1130)، وصحيح مسلم برقم (2820). (¬2) صحيح مسلم برقم (773). (¬3) صحيح البخاري برقم (1121)، وصحيح مسلم برقم (2478). (¬4) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (1163) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِئَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ» (¬1). ووقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ » (¬4). قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لَوْلاَ ثَلاَثٌ مَا أَحْبَبْتُ العَيشَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا: الغَزوُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمُكَابَدَةُ السَّاعَاتِ مِنَ اللَّيلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلاَمَ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ (¬5). ومن أعظم الأسباب التي تعين على قيام الليل: التبكير في النوم، ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (1398)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 262) برقم (1246). (¬2) صحيح البخاري برقم (1137)، وصحيح مسلم برقم (749). (¬3) صحيح مسلم برقم (755). (¬4) صحيح البخاري برقم (1145)، وصحيح مسلم برقم (758). (¬5) مختصر قيام الليل للمروزي (ص: 62) بمعناه.

فإن السهر آفة العصر، وخاصة إذا كان في غير طاعة الله كما هو حال الكثير من الناس، إما على مشاهدة دش أو تلفاز أو لعب ورق أو مجلس قيل وقال، أو غير ذلك. ولذلك: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬2). وقيام رمضان شامل للصلاة من أول الليل وآخره، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان، فينبغي الحرص عليها والاعتناء بها واحتساب الأجر والثواب من الله عليها، وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها». اهـ (¬3). وعلى المسلم أن يحرص على القيام مع الإِمام حتى ينصرف، روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (568). (¬2) صحيح البخاري برقم (2009)، وصحيح مسلم برقم (759). (¬3) مجالس شهر رمضان (ص: 18). (¬4) جزء من حديث رواه الترمذي في سننه برقم (806) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة الرابعة عشرة: الدعاء - آدابه وموانعه -

الكلمة الرابعة عشرة: الدعاء - آدابه وموانعه - الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من أجل الطاعات وأعظم العبادات والقربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه جل وعلا: الدعاء، لما يتضمن من الاعتراف بعظمة الباري وقوته، وغناه وقدرته، ولما فيه من تذلل العبد وانكساره بين يدي خالقه جل وعلا. وقد أمرنا الله بالدعاء ووعدنا الإِجابة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. والناس في الدعاء على ثلاثة أحوال: فمنهم من يدعو غير الله وهم المشركون، فإنَّهم وإن أخلصوا الدُّعاء في الشدة فإِنَّ ذلك لا ينفعهم، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ويشبههم من بعض الوجوه: المسلم الذي يدعو الله في الشدائد والكرب، فإِذا جاء الرخاء غفل ونسي. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ» (¬1). ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3382) وقال: هذا حديث غريب وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6290).

ومنهم قوم أعطاهم الله من واسع فضله فلم يشكروا؛ بل طغوا واستكبروا، قال الله في هؤلاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. ومنهم المؤمنون الذين عرفوا قدر ربهم، وأيقنوا أنه لا سعادة ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلا منه. قال تعالى مثنيًا عليهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينًا لأمته فضل الدعاء: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ» (¬1)، وَقَالَ أَيضًا: «لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ» (¬3). فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل يحب من عباده كثرة الدعاء والإِلحاح فيه، قال الشاعر: لاَ تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً ... وَسَلِ الَّذِي أَبوَابُه لاَ تُحْجَبُ اللهُ يَغْضَبُ إِن تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ وهذا شاعر جاهلي يقول في معلقته: وَاللهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ ... عَلاَّمُ مَا أَخْفَتِ الْقُلُوبُ ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3370)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 138) برقم (2684). (¬2) سنن الترمذي برقم (2139)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 225) برقم (1738). (¬3) سنن الترمذي برقم (3524)، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 172) برقم (2797).

مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ ... وَسَائِلُ اللهَ لاَ يَخِيبُ ويجب على العبد أن يراعي في دعائه الأمور التالية: أولاً: الإِخلاص لله في الدعاء. روى أبو داود في سننه من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» (¬1). وقد قال الله تعالى مبينًا وجوب إِخلاص العبادة له: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. ثانيًا: ألا يستعجل العبد في استجابة الدعاء، فإِنّ الله سبحانه أعلم بمصالح عباده، وما من داعٍ إلا ويستجاب له بأَن يُعطى سؤله، أو يصرف عنه من الشر مثله، أو يدَّخر له في الآخرة كما ثبت بذلك الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاستعجال في الدعاء. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» (¬3). ثالثًا: ألاَّ يدعو بإِثم أو قطيعة رحم. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» (¬4). ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (1479)، وقال: الترمذي: حسن صحيح، وانظر: صحيح الجامع الصغير برقم (3401). (¬2) انظر: مسند الإمام أحمد (17/ 213) برقم (11133)، وقال محققوه: إسناده جيد. (¬3) صحيح البخاري برقم (6340)، وصحيح مسلم برقم (2735). (¬4) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم (2735).

رابعًا: أن يكون حاضر القلب حال الدعاء، مقبلاً على ربه عند مناجاته في خشوع وسكينة، موقنًا بالإِجابة. وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ» (¬1). خامسًا: تقوى الله بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]. قال بعض السلف: لا تستبطئ الإِجابة وقد سددت طريقها بالمعاصي. قال الشاعر: نَحْنُ نَدْعُو الإِلَهَ فِي كُلِّ كَرْبٍ ... ثُمَّ نَنْسَاهُ عِنْدَ كَشْفِ الكُرُوب كَيْفَ نَرْجُو إِجَابَةً لِدُعَاءٍ ... قَدْ سَدَدْنَا طَرِيقَهَا بِالذُّنُوب سادسًا: أن يعلم أن من أعظم موانع استجابة الدُّعاء أكل الحرام، وإن من المحزن أن كثيرًا منا لا ينتبه لهذا. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» (¬2). وعلى سبيل المثال ترى البعض يأخذ أموال الناس بالظلم والقوة، وبعضهم بالمكر والحيلة، ومنهم من يبخس العمال حقوقهم، وآخرون يساهمون بأموالهم في البنوك الربوية، أو يتعاطون في أموالهم وتجاراتهم ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3479)، وحسّنه الألباني في الأحاديث الصحيحة برقم (594). (¬2) صحيح البخاري برقم (2083).

معاملات محرمة أو مشبوهة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ! » (¬1). سابعًا: أن يعلم المسلم أن من موانع الدعاء ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، روى الترمذي في سننه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَامُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (¬2). وقد ذكر أهل العلم آداب الدعاء، وبينوا ذلك في كتبهم، فينبغي للعبد أن يعرفها ويأخذ بها، فمن ذلك أن يبدأ الدّاعي بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعزم المسألة، فلا يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، ونحوها، وأن يرفع يديه حال الدعاء مستقبلاً القبلة وأن يكون على طهارة، وأن يكون معترفًا بذنبه ونعمة الله وفضله عليه، ومنها إظهار الافتقار إلى الله تعالى والشكوى إليه، وأن لا يعتدي في الدعاء، وقد بينت هذه الآداب بأحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يتحرى الأوقات الفاضلة التي ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1015). (¬2) سنن الترمذي برقم (2169)، وقال: هذا حديث حسن.

يستجاب فيها الدعاء كحال السجود، وبين الأذان والإِقامة، والدعاء في جوف الليل، وآخر النهار يوم الجمعة، وعند نزول المطر، وإفطار الصائم، وليلة القدر، ويوم عرفة، ودبر الصلوات المكتوبات، وعند النداء للصلوات المكتوبات، وعند إقامة الصلاة، وعند زحف الصفوف في سبيل الله، وعند الاستيقاظ من النوم ليلاً والدعاء بالمأثور، وقد ثبتت هذه المواضع بأحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإِخبار عمن يستجاب دعاؤهم، فمنهم: دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، ودعوة الوالد، والمسافر، والصائم، والمظلوم، والإِمام العادل، ودعوة الولد الصالح، ودعوة المستيقظ من النوم إذا دعا بالمأثور وغيرهم. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (¬1). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يختار في دعائه جوامع الدعاء فيقول: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وكان يكثر منها، ويقول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (¬2)، وقال لعلي: «قُل: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي» (¬3)، وعلم عائشة أن تقول في ليلة القدر: «اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (13/ 410) برقم (8043)، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده] طبعة مؤسسة الرسالة [. (¬2) مسند الإمام أحمد (19/ 160) برقم (12107) وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم. (¬3) سنن أبي داود برقم (4225)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 795) برقم (3556).

فَاعْفُ عَنِّي» (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ «(¬2). وغيرها من الأدعية. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3513)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 66) برقم (1462) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال محققوه: إسناده حسن.

الكلمة الخامسة عشرة: فضل الصدقة

الكلمة الخامسة عشرة: فضل الصدقة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ من أبواب الخير العظيمة التي رغب فيها الشارع الحكيم وحث عليها، الصدقة. قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]. وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ». وَقَالَ: «يَمِينُ اللهِ مَلأَى، سَحَّاءُ (¬1) لاَ يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» (¬2). ¬

(¬1) السح: الصب الدائم، ومعنى لا يغيضها شيء: أي لا ينقصها. (¬2) صحيح البخاري برقم (4684)، وصحيح مسلم برقم (993).

فهذا وعد من الله بالإِنفاق على من أنفق في سبيل الله، والله تبارك وتعالى لا يخلف وعده. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَأَىنِي قَالَ: «هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ فَلَمْ أَتَقَارَّ (¬1) أَنْ قُمْتُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا - مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ -، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ». فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: «وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه - صلى الله عليه وسلم -، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان ¬

(¬1) فلم أتقار: أي لم يمكنني القرار والثبات. (¬2) صحيح البخاري برقم (6638)، وصحيح مسلم برقم (990). (¬3) صحيح البخاري برقم (1461)، وصحيح مسلم برقم (998).

أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالصدقة ويحث عليها ويدعو إليها بحاله وقوله. ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - أشرح الخلق صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قَلبًا، فإِنَّ للصدقة وفعل المعروف تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدر» (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا تَاتِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ، وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ دِينَارٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ» (¬2). ولما سُئِلَ - صلى الله عليه وسلم -: أي الصدقة أعظمُ، قال: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَامُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، أَلاَ وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» (¬3). ومن فضائل الصدقة: أنها إذا كانت من كسب حلال خالصة لوجه الله تعالى، فإِنَّ الله تعالى يقبلها بفضله، ويضاعف ثوابها لصاحبها أضعافًا مضاعفة، والله ذو الفضل العظيم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ -، وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (¬4) فيأتي المؤمن يوم القيامة، وإذا بحسناته أمثال الجبال فيفرح بثواب الله. ¬

(¬1) زاد المعاد (2/ 22 - 23) بتصرف. (¬2) صحيح البخاري برقم (6444)، وصحيح مسلم برقم (991). (¬3) صحيح مسلم برقم (1032) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) صحيح البخاري برقم (1410)، وصحيح مسلم برقم (1014).

ومنها: تكفير السيئات. روى الترمذي في سننه من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» (¬1). ومنها: نماء المال وزيادته، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (¬2). ومنها استظلال المؤمن في ظل صدقته يوم القيامة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ... منهم: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» (¬3). ويوم القيامة يأتي العالم بعلمه، والمجاهد بجهاده، والمصلي بصلاته، والصائم بصيامه، ويأتي المتصدِّق بالعلم والجهاد والصلاة، والصيام، فهو قد طبع كتبًا للعلماء وقفًا على إخوانه المسلمين، وبنى مسجدًا يصلي فيه المسلمون، وأعان المجاهدين في سبيل الله بماله، وفطَّر الصائمين على نفقته، فيحصل له أجر هؤلاء جميعًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ومنها أن الصدقة تقي العبد كثيرًا من الشرور والمصائب، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وهذا شيء معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به؛ لأنهم جربوه، حتى لو كانت هذه الصدقة من ظالم أو كافر فإن الله يدفع عنه بها كثيرًا من الشرور والمصائب» (¬4). ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2616)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) صحيح مسلم برقم (2588). (¬3) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031). (¬4) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 50).

قال الشاعر: مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لاَ يُعْدَمْ جَوَازِيَهُ ... لاَ يَذْهَبُ العُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاس ومن أفضل أنواع الصدقة، الصدقة الجارية التي تستمر للعبد بعد وفاته مثل حفر الآبار، وبناء المساجد، وطباعة الكتب، ودعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم، والأوقاف الخيرية على الفقراء والمساكين ونحو ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬1). وعلى المنفق أن يراعي الأمور التالية: الإِخلاص لله عز وجل في صدقته، وأن يحذر من الصدقة بالرديء من طعام أو لباس أو نحو ذلك، أو أن يتبع صدقته المن والأذى، أو أن يبخل بما أعطاه الله، أو أن يحتقر شيئًا من الصدقة، أو أن يرجع في صدقته. فائدة: ذكر أبو نعيم في حلية الأولياء أن أويس القرني كان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانًا فلا تؤاخذني به (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1631). (¬2) (2/ 87).

الكلمة السادسة عشرة: مخالفات يقع فيها بعض الصائمين

الكلمة السادسة عشرة: مخالفات يقع فيها بعض الصائمين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: تعيش الأمة الإِسلامية هذه الأيام موسمًا عظيمًا من مواسم الخير. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. إلا أن هناك مخالفات يقع فيها بعض الصائمين أحببت التذكير بها، أداءً لحق الله تعالى، وقيامًا بواجب النصيحة. روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ» (¬1). فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن طائفة من الناس يصومون لكن لا يكتب لهم عند الله أجر الصائمين، وإنما نصيبهم من هذا الصيام الجوع والعطش، وذلك لأن الجوارح لم تمتنع عن معصية الله، فالعين تنظر إلى ما حرم الله، والأذن تستمع إلى ما حرَّم الله، واللسان يتكلم بما يغضب الله. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]. ¬

(¬1) سنن ابن ماجه برقم (1690)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 282) برقم (1371).

وطائفة أخرى تقوم الليل ولكن لا يكتب لهم أجر القائمين، إما لفقدان الإِخلاص في عبادتهم، أو لعدم موافقتها لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لغير ذلك. ولذا ينبغي للصائم أن يحذر من الوقوع في المعاصي، فليس الصيام هو الإِمساك عن الطعام والشراب فحسب، وانَّما إِمساك الجوارح عما حرَّم الله. ومن هذه المخالفات: تأخير الصلاة عن وقتها، فبعض الصائمين ينام بعد تناوله السحور فلا يستيقظ إلاَّ عند طلوع الشمس، فيضيع صلاة الصبح، وآخرون ينامون قبل صلاة العصر، فلا يستيقظ أحدهم إلا عند غروب الشمس، فيضيع صلاة العصر قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، روى البخاري في صحيحه من حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» (¬1). وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]؛ جاء في حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ: أَرَأَيتَ قَولَهُ تَعَالَى: ... {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أَيُّنَا لاَ يَسْهُو وَلاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ؟ ! قَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ إِضَاعَةُ الْوَقْتِ، يَلْهُو حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ (¬2). وفي مثل هؤلاء يقول تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (553). (¬2) مسند أبي يعلى (1/ 336) برقم (700)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 441) حديث رقم (822): إسناده حسن.

ومنها التخلف عن صلاة الجماعة، فبعض الصائمين يؤدون الصلاة لوقتها، ولكنه يتخلف عن صلاة الجماعة، قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَاءِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102]. وفي هذه الآية وجوب صلاة الخوف جماعة في حال الحرب، ففي حال السلم من باب أولى. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» (¬1). ومنها: السهر الطويل أكثر الليل أو كله على شاشات القنوات الفضائية التي تبث شرورها وسمومها على أشكال متعددة، حيث يعرض بها برامج يقصد بها تشكيك المسلمين في دينهم، وإظهار عظمة الكفار والإِعجاب بحضارتهم، كالتمثيليات الهابطة، والأغاني الماجنة، والصور الخليعة. ومنها: ما يفعله بعض الصائمين المبتلون بشرب الدخان ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (657)، وصحيح مسلم برقم (651).

هداهم الله، فبدلاً من أن يفطروا على ما أحل الله لهم من الطيبات يفطرون على الدخان الذي بعث الله رسوله بتحريمه وأمثاله؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. ومنها: الفحش والبذاءة في اللسان وسائر المعاصي الأخرى. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (¬2). ومنها كثرة النوم لساعات طويلة، وحديث: «نَومُ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ» حديث ضعيف لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلا ينبغي للمسلم أن يضيع ساعات الصوم بكثرة النوم، فإن المسلم يُسأل عن وقته يوم القيامة. روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1903). (¬2) صحيح البخاري برقم (1904)، وصحيح مسلم برقم (1151).

جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ » (¬1). قال الشاعر: وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2417) وقال: حديث حسن صحيح.

الكلمة السابعة عشرة: فضل العشر الأواخر من رمضان

الكلمة السابعة عشرة: فضل العشر الأواخر من رمضان الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه العشر الأواخر أنه يجتهد فيها ما لا يجتهد في بقية الشهر، روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديثها رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ: أَحْيَا اللَّيْلَ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» (¬2). أحيا ليله أي بالصلاة والذكر والدعاء، وأيقظ أهله أي أيقظهم من نومهم ليجتهدوا في الصلاة والذكر والتضرع إلى الله تعالى، وهذه السنة قد لا ينتبه لها بعض المسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. أما شد المئزر فقد قال كثير من أهل العلم: إنه كناية عن اعتزال النساء والتفرغ للعبادة، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في هذه العشر في المسجد، وينقطع عن الدنيا ويخلو بربه يدعوه ويناجيه ويسأله ويتضرع إليه. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1175). (¬2) صحيح البخاري برقم (2024)، وصحيح مسلم برقم (1174).

والاعتكاف من أنفع العبادات لإِصلاح القلوب، وجمع الهمم، والتخلص من العيوب، ومن جرب عرف. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ (¬1). فإن قال قائل: ما الحكمة في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للعشر الأواخر بكثرة الاعتكاف والاجتهاد في طاعة الله. فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك التماسًا لليلة القدر. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ (¬2) تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَاسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ» (¬3). فهذه الليلة ليلة عظيمة مباركة، لا يحرم خيرها إلا محروم، وهي في العشر الأواخر تنتقل فيها كما يريد الله. روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» (¬4). وفي السبع الأواخر آكد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2026)، وصحيح مسلم برقم (1172). (¬2) في قبة تركية أي: قبة صغيرة من لبود. (¬3) صحيح البخاري برقم (2018)، وصحيح مسلم برقم (1167). (¬4) صحيح البخاري برقم (2017).

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ» (¬1). وكان أُبي بن كعب يحلف: لاَ يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. قال زر بن حبيش: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟ قَالَ: بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِالْعَلاَمَةِ: «أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيضَاءَ لاَ شُعَاعَ لَهَا» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأُنْسِيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: مُطِرْنَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ فَوَكَفَ (¬3) الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ طِينًا وَمَاءً (¬4). قال الحافظ ابن حجر: «والصحيح أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تتنقل» (¬5). اهـ. وهذه حكمة إلاهية فلو حددت لاجتهد الناس فيها وتركوا بقية الليالي، واستوى في ذلك المجتهد والكسول. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2015)، وصحيح مسلم برقم (1165). (¬2) صحيح مسلم برقم (762). (¬3) فوكف المسجد: أي قطر ماء المطر من سقفه. (¬4) صحيح البخاري برقم (2027)، وصحيح مسلم برقم (1167). (¬5) فتح الباري (4/ 266).

والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يحرص على هذه الليلة لما جعل الله فيها من الفضل والأجر، فمما خصَّها الله به أنها خير من ألف شهر، قال تعالى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، أي العبادة فيها خير من عبادة ثلاثة وثمانين عامًا وبضعة أشهر. ومنها: أنه نزل فيها القرآن العظيم، قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر: 1] أي القرآن. ومنها: أنه يكثر نزول الملائكة فيها لكثرة الخيرات والبركات، قال تعالى: {تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ} [القدر: 4 - 5]. ومنها: أن الله يغفر لمن قامها إيمانًا واحتسابًا؛ فعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬1). وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة عندما سألته: أرأيت إن علمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ الْقَدرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2009)، وصحيح مسلم برقم (759). (¬2) سنن الترمذي برقم (3513) وقال: حديث حسن صحيح.

الكلمة الثامنة عشرة: فضل الذكر

الكلمة الثامنة عشرة: فضل الذكر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ من أفضل الأعمال الصالحة اليسيرة التي تقرب المسلم إلى ربه جل وعلا: الذكر. وقد ذكر الله تعالى الذاكرين في كتابه بأجلِّ الذكر: فقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191]. وبيّن في آية أخرى فضل الذكر، وأنه تطمئن به قلوب أهل الإِيمان؛ فقال: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28]، وجعل جزاء الذاكر أن يذكره سبحانه، وهل هناك أرفع من أن يذكر الله سبحانه عبده المؤمن؟ ! قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ» (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7405)، وصحيح مسلم برقم (2675).

قال ابن القيم رحمه الله: «ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا» (¬1). وانظر إلى هذا الحديث العجيب في بيان فضل الذكر والذاكرين. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ؛ فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ». قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ! قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» (¬3). وروى أبو داود في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً» (¬4). ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 71). (¬2) سنن الترمذي برقم (3377)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 139) برقم (2688). (¬3) صحيح مسلم برقم (2676). (¬4) سنن أبي داود برقم (3667) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 698) برقم (3114).

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ اللهَ بِالْخَيْرِ كُلِّهِ (¬1)، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لِكُلِّ شَيْءٍ جِلاءٌ، وَإِنَّ جِلاءَ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللهِ عز وجل (¬2). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فقد الماء؟ ! (¬3). وقال ابن القيم: «وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده» (¬4). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (¬5). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلاَ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، ¬

(¬1) شعب الإيمان (1/ 408). (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 67). (¬3) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 71). (¬4) الفوائد (ص: 215). (¬5) صحيح البخاري برقم (6403)، وصحيح مسلم برقم (2691).

وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ ! تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ» (¬1) الحديث. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» (¬2). ومما يدل على فضل الذكر ومكانته العظيمة وأنه ينوب عن بعض الأعمال، ويقوم مقامها ما رواه أبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة من حديث عبد الله بن حبيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ظن بالمال أن ينفقه، وبالليل أن يكابده، فعليه بسبحان الله وبحمده» (¬3). وقد أمر الله عباده المؤمنين بالذكر الكثير فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41 - 42]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته من الأذكار ما يملأ الأوقات! فلكل حالة أو زمن ذكر يخصه ففي الصباح أذكار مخصوصة، وفي المساء كذلك وعند النوم، واليقظة، وعند دخول البيت والخروج منه، وعند طعامه وشرابه، وغير ذلك من أحواله، ولاشك أن من حافظ على هذه الأذكار فإنه سيكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات وبهذا يأمن مما اتصف به المنافقون حيث يقول الله عنهم: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (843)، وصحيح مسلم برقم (595). (¬2) صحيح مسلم برقم (2695). (¬3) برقم (3627)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6377).

ومن الأذكار العامة التي تشرع في كل وقت: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن جويرية: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ. فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا». قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلَ وَأَكْثَرَ مِن ذِكْرِكَ اللَّيْلَ مَعَ النَّهَارِ وَالنَّهَارَ مَعَ اللَّيْلِ؟ أَنْ تَقُولَ: سُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا خَلَقَ، وَسُبْحَانَ الله مِلءَ مَا خَلَقَ، وَسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا فِي الأَرضِ وَالسَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ الله مِلءَ مَا فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ الله عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَسُبْحَانَ الله عَدَدَ كُلِّ شَيءٍ، وَسُبْحَانَ الله مِلءَ كُلِّ شَيءٍ، وَتَقُولُ: الحَمْدُ لله مِثْلَ ذَلِكَ» (¬2). ومن الأذكار التي تقال في الصباح والمساء، ويقولها العبد كلما شَعَر بحاجته إلى مغفرة ربه، ما رواه البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ». قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2726). (¬2) مسند الإمام أحمد (36/ 459) برقم (22144)، وقال محققوه: حديث صحيح، وصحيح ابن حبان برقم (827) واللفظ له.

مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6306).

الكلمة التاسعة عشرة: المواظبة على العبادة

الكلمة التاسعة عشرة: المواظبة على العبادة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإنّ الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته بعباده يسّر عليهم فعل الطاعات في هذا الشهر، وقواهم عليها وأعانهم على ترك المعاصي والشهوات، ولذا يكون من إقبال القلوب على الخير في هذا الشهر ما لا يكون في غيره، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» (¬1). وإن مطالبة النفس بأن تقوم في غير رمضان بما تقوم به في رمضان مطلبٌ صعبٌ، لأن الأسباب الموجبة لذلك في رمضان لا تتوفر في غيره، ولكن ينبغي التنبه لأمرين: الأول: أن البعض من الناس إذا خرج رمضان عاد إلى ما كان عليه قبله، من ترك بعض الفرائض والواجبات، أو ارتكاب بعض المعاصي والسيئات، وهذه وإن كان إثمُها في رمضان أعظم، إلا أنه لا يسقط الإِثم ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (682) وأصله في الصحيحين، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 209) برقم (549).

في غير رمضان؛ لأن وجوبها على العبد فعلاً وتركاً على الدوام. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99]. وقال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت. قال عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]. روى مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: قُلْ لِي فِي الإِسلاَمِ قَولاً لاَ أَسأَل عَنهُ أَحَدًا بَعدَك، قَالَ: «قُل: آمَنتُ بِاللهِ، فَاستَقِمْ» (¬1). قال العلماء: معنى الاستقامة لزوم طاعة الله. ومن تلك المعاصي: الانقطاع عن بيوت الله، والتساهل في صلاة الجماعة، وهجر القرآن الكريم الذي كانوا يقرؤونه في رمضان، والانكباب على القنوات الفضائية التي تعرض التمثيليات الهابطة، والأغاني الماجنة، والصور الخليعة المحرمة، فإلى الله المشتكى. الثاني: التقصير في نوافل العبادات، فيستحب للمسلم أن لا ينقطع عنها في غير رمضان، وقد شرع من الصيام، والقيام، والصدقات، وفعل الخير، ما يملأ الأوقات ويجعل العبد موصولاً بربه على الدوام. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أن ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (38).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» (¬1)؛ بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى أصحابه عن الانقطاع عن العمل الصالح. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» (¬2). ومن هذه النوافل التي شرعت بعد رمضان صيام ست من شوال، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» (¬3). ومنها صيام يوم عرفة؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سُئِلَ عن صيام يوم عرفة؟ قال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» (¬4). ومنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاَثٍ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ» (¬5). ومنها: قيام الليل طوال العام، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ» (¬6). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6464)، وصحيح مسلم برقم (783). (¬2) صحيح البخاري برقم (1152)، وصحيح مسلم برقم (1159). (¬3) صحيح مسلم برقم (1164). (¬4) صحيح مسلم برقم (1162). (¬5) صحيح البخاري برقم (1178)، وصحيح مسلم برقم (721). (¬6) صحيح مسلم برقم (1163).

ومنها باب الصدقة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. وغير ذلك من أبواب الخير العظيمة التي فتحها الله لعباده على الدوام. والعبد لا يدري متى يفجأه الأجل، فالعاقل من تهيأ للقاء ربه، ولم يغره طول الأمل؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [لقمان: 33]. وقال تعالى عن أقوام طالت آمالهم، وساءت أعمالهم، وغفلوا عن ذكر ربهم: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2 - 3]. فالدُّنيا ليست بدار بقاء، فطوبى لعبدٍ عرف قدرها فأخذ منها أفضل ما فيها، وهو استغلال أوقاتها بالتزود منها للحياة الباقية، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. واعلموا عباد الله أن كل حي صائر إلى فناء، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة العشرون: سنن العيد

الكلمة العشرون: سنن العيد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فنسأل الله كما بلغنا رمضان وأعاننا على صيامه وقيامه أن يتقبَّله منا، إنَّه جواد كريم، وبعد: فمن الأُمور التي ينبغي التذكير بها: أحكام صلاة العيد، وما يفعله المسلم في يوم العيد من السنن الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فمن ذلك: أولاً: ينبغي للمسلم أن يحرص يوم العيد على الاغتسال والطيب، فقد استحبه طائفة من أهل العلم، وثبت عن ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الصَّلاَةِ (¬1)، واستحب بعض أهل العلم إزالة شعر الإِبطين، وتقليم الأظافر، وما يتبع ذلك؛ لأن ذلك من تمام الزينة، ولبس أحسن ما يجد من الثياب. فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ يَلبَسُ أَحسَنَ ثِيَابِهِ فِي العِيدَينِ (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ لِلْعِيدَيْنِ أَجْمَلَ ثِيَابِهِ، فَكَانَتْ لَهُ حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا لِلْعِيدَيْنِ وَالجُمُعَةِ (¬3). ¬

(¬1) موطأ مالك (ص: 115)، وقال محققه: أثر صحيح. (¬2) سنن البيهقي (3/ 281). (¬3) زاد المعاد (1/ 441).

ثانيًا: يُستحب قبل خروجه إلى الصلاة في عيد الفطر أن يأكل تمرات وترًا، والوتر إما أن يكون ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَاكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَاكُلَهُنَّ وِتْرًا (¬1). ثالثًا: يستحب له أن يذهب من طريق ويرجع من آخر، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ (¬2). قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. رابعًا: السنة أن تكون الصلاة في مصلى العيد وليس المسجد، وهذا هو المعروف من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ومواظبته، كما رجحه جمع من أهل العلم. خامسًا: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى قبل العيد أو بعده نافلة في المصلى، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا (¬3). لكن إذا كانت الصلاة في المسجد فإنَّه يصلي تحية المسجد ركعتين. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة السلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (953). (¬2) صحيح البخاري برقم (986). (¬3) صحيح البخاري برقم (989). (¬4) صحيح البخاري برقم (444)، وصحيح مسلم برقم (714).

سادسًا: إذا رجع إلى بيته يشرع له أن يصلي ركعتين؛ روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ (¬1). سابعًا: يستحب التكبير من غروب شمس ليلة العيد، وأوجبه بعض أهل العلم لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. ويكبر من حين خروجه من بيته حتى يأتي الإمام إلى المصلى، وهذا التكبير مشروع باتفاق الأئمة الأربعة. وجاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِلْعِيدَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَاتِيَ الْمُصَلَّى، وَيُكَبِّرُ حَتَّى يَاتِيَ الإِمَامُ (¬2)، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدُ، وَيَستَحِبُّ التَّكبِيرَ فِي المَسَاجِدِ وَالمَنَازِلِ وَالطُّرُقِ (¬3). ثامنًا: تأكد صلاة العيد على الرجال والنساء، ورجح جمع من أهل العلم الوجوب، واستدلوا بحديث أُمِّ عَطِيَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِهَا الْعَوَاتِقَ؛ أي البالغات والحُيَّض؛ وَأَمَرَ الحُيَّضَ أَن يَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ ¬

(¬1) سنن ابن ماجه برقم (1293) وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/ 476). وانظر إرواء الغليل (2/ 10) للشيخ الألباني رحمه الله. (¬2) سنن الدارقطني (2/ 44) رقم (4)، وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل برقم (650). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 167)، وصحح الشيخ الألباني في إرواء الغليل (2/ 125).

وَدَعْوَةَ الْمُسلِمِينَ (¬1). تاسعًا: التهنئة بالعيد، فقد نقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا يقولون في العيد: تقبَّل الله منا ومنكم، ذكر ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله (¬2)، والحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (980)، وصحيح مسلم برقم (890). (¬2) مجموع الفتاوى (24/ 253). (¬3) فتح الباري (2/ 446)، وانظر تمام المنة (ص: 354 - 356) للشيخ الألباني رحمه الله.

الكلمة الحادية والعشرون: الرؤيا

الكلمة الحادية والعشرون: الرؤيا الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فحديثنا اليوم عن الرؤيا، وسيكون الكلام فيها عن الأمور التالية: أولاً: فضل الرؤيا ومنزلتها في الشريعة الإِسلامية. ثانيًا: أقسام الرؤيا وأنها على ثلاثة أقسام. ثالثًا: تعبير الرؤيا وبعض الفوائد المتعلقة بذلك. رابعًا: بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في الرؤيا. خامسًا: أمثلة للرؤيا الصالحة. أما ما يتعلق بفضل الرؤيا ومنزلتها: فيقول الله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6]. وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ}، أي: يعلمك تفسير الرؤيا. روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر؛ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (479).

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل: {لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [يونس: 64]؛ قال: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا المُسلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ» أي في آخر الزمان وذلك عند كثرة الفتن، وغربة الدين، وشدة الحاجة إلى المبشرات التي تطمئن بها قلوب المؤمنين، ولذلك قال: «لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا المُؤْمِنِ» فهي خاصة بالمؤمنين. وقوله: «جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ»؛ قال بعض أهل العلم: إن مدة النبوة ثلاثة وعشرون سنة منها: نصف سنة، الوحي فيها رؤيا يراها النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم؛ فيكون ذلك جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْهُ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث السابق: «أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا»، دليل على أهمية الصدق، وأن أصدق الناس كلامًا هو أصدقهم رؤيا. وأما أقسام الرؤيا فهي ثلاثة، روى الترمذي في سننه من حديث ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (45/ 502) برقم (27509)، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬2) سنن الترمذي برقم (2270)، وقال: هذا حديث صحيح، وأصله في الصحيحين. (¬3) صحيح البخاري برقم (6982)، وصحيح مسلم برقم (160).

أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الرُّؤْيَا ثَلاَثٌ: فَرُؤْيَا حَقٌّ، وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» (¬1). هذا الحديث بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ليس كل ما يُرى في المنام من الرؤيا الصالحة، فما يراه الإِنسان في منامه؛ من المفزعات والمزعجات فهو من الشيطان ليحزن المؤمن بذلك، وما يراه مما يعرض له في يومه وليلته فتلك الأحلام، وأحاديث النفس تعرض له في اليقظة فيحلم بها في منامه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاَثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلاَثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ» (¬3). أما تعبير الرؤيا، فهو علم شريف خص الله تعالى به بعض أنبيائه، وأوليائه، كمحمد ويوسف عليهما السلام، وممن اشتهر بذلك من الصحابة: أبو بكر. ومن التابعين محمد بن سيرين، وغيرهم من الصالحين في كل زمان ومكان. ولقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من رأى رؤيا ألاَّ يقصها على كل أحد. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2280)، وقال: حديث حسن صحيح، وأصله في الصحيحين. (¬2) صحيح البخاري برقم (7044)، وصحيح مسلم برقم (2262). (¬3) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (7017)، وصحيح مسلم برقم (2263).

روى أبو داود في سننه من حديث أبي رزين العقيلي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ... وَلاَ يَقُصُّهَا إِلاَّ عَلَى وَادٍّ (¬1) أَوْ ذِي رَايٍ» (¬2). ومن فوائد ذلك: ألا تعبر الرؤيا تعبيرًا خاطئًا، أو بما يحزن صاحبها. وأما الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس فيما يتعلَّق بالرؤيا: فنذكر من ذلك ثلاثة أخطاء مهمة. أولاً: الكذب في الرؤيا بأن يدَّعي أنه رأى كذا وكذا ولم ير ذلك؛ روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ» (¬3). ثانيًا: اعتماد بعض الجهال من الصوفية وغيرهم على الرؤيا في الأحكام الشرعية من تحليل حرام، أو تحريم حلال ونحو ذلك؛ وليس من ذلك أن يعمل العبد عملًا صالحًا فيرى ما يبشره بقبوله أو نفعه. ثالثًا: ليس كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه يكون رآه حقًا حتى يراه على صورته الحقيقية التي كان عليها - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد كان ابن سيرين رحمه الله إذا قال له أحد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: صف لي الذي رأيت؛ فإن وصفه بصفته الحقيقية قال له: «رَأَيتَ». ومن الأمثلة للرؤيا الصالحة: رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من المبشرات لمن رآه؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَىنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَأَىنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ بِي» (¬4). ¬

(¬1) أي صاحب مودة. (¬2) جزء من حديث في سنن أبي داود برقم (5020)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 947) برقم (4198). (¬3) صحيح البخاري برقم (7042). (¬4) صحيح البخاري برقم (6994)، وصحيح مسلم برقم (2266) واللفظ له.

ولكن كما تقدم أن يراه على صورته الحقيقية. ومنها أيضًا رؤيا يوسف عليه السلام؛ كما في الآية: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]. قال الله في تأويلها: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَاوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [يوسف: 100]. ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ ابْنِ رَافِعٍ فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2270). طاب: أي كمل واستقرت أحكامه.

الكلمة الثانية والعشرون: شاب نشأ في عبادة الله

الكلمة الثانية والعشرون: شاب نشأ في عبادة الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (¬1). يجمع الله الخلائق يوم القيامة، الأولين منهم والآخرين {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى} [النجم: 31]؛ في يوم طويل قدره، عظيم هوله، شديد كربه، حذَّر الله منه عباده وأمرهم بالاستعداد له. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031).

وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]. روى مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ؛ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» (¬2). ولا يتسع الوقت للحديث عن السبعة، ولكن نقف وقفات يسيرة مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ». فهذا الشاب وفقه الله منذ نشأ للأعمال الصالحة، وحببها إليه وكره إليه الأعمال السيئة وأعانه على تركها، إما بسبب تربية صالحة، أو رفقة طيبة، أو غير ذلك؛ وقد حفظه الله مما نشأ عليه كثير من الشباب من اللهو واللعب، وإضاعة الصلوات والانهماك في الشهوات والملذات، وقد أثنى الله على هذا النشء المبارك بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]. ولما كان الشباب داعيًا قويًا للشهوات، كان من أعجب الأمور الشاب الذي يلزم نفسه بالطاعة والاجتهاد فيها، واستحق بذلك أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2864). (¬2) صحيح البخاري برقم (6532)، وصحيح مسلم برقم (2863).

لقد علم أنه مسئول عن شبابه فيما أبلاه؛ فعمل بوصية نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أوصى بها، حيث قال: «اغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ» (¬1). روى الترمذي في سننه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟ » (¬2). والشباب هم عماد الأمة، وهم جيل المستقبل؛ منهم يتكون بناء الأمة، ومنهم ينشأ العلماء والمصلحون والمجاهدون وغيرهم من أبناء المجتمع، الذين إذا صلحوا انتفعت بهم مجتمعاتهم في الدُّنيا والآخرة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬3). ومن الأمثلة على الشباب الملتزم بطاعة ربه شباب الصحابة، أمثال أسامة بن زيد الذي أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيادة جيش المسلمين المتجه إلى الشام، وعمره لم يتجاوز السابعة عشر، وفي القوم كبار الصحابة، حتى ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (5/ 435) برقم (7916)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077). (¬2) سنن الترمذي برقم (2416)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (946). (¬3) صحيح مسلم برقم (1631).

أن أبا بكر كان يستأذن أسامة بن زيد أن يُبقي عمر عنده في المدينة فيأذن أسامة في ذلك، وعلي بن أبي طالب الذي بات في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما هاجر إلى المدينة وعرَّض نفسه للقتل، فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعفر بن أبي طالب الذي كان قائدًا لجيش المسلمين في معركة مؤتة الشهيرة خلفًا للقائد زيد بن حارثة - رضي الله عنه - الذي قُتِلَ في تلك المعركة، فحمل راية المسلمين وأخذ سيفه وهو يقول: يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... عَلَيَّ إِنْ لاَقَيْتُهَا ضِرَابُهَا فقطعوا يده اليمنى، فأَمسك الراية بيده اليسرى، فقطعوا يده اليسرى، فضم الراية إلى صدره، فتكاثروا عليه فقتلوه. يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: الْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي الْقَتْلَى، فَإِذَا هُوَ قَد ضُرِبَ بِضْعًا وَتِسْعِينَ ضَرْبَةً مَا بَينَ ضَربَةٍ بِسَيفٍ وَطَعْنَةٍ بِرُمحٍ (¬1). قال تعالى: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]. ومن الأمثلة كذلك: محمد بن القاسم الذي فتح بلاد السند والهند وعمره لم يتجاوز السابعة عشر، كما تروي لنا كتب السير، قال الشاعر: عُبَّادُ لَيْلٍ إِذَا جَنَّ الظَّلاَمُ بِهِم ... كَمْ عَابِدٍ دَمْعُهُ فِي الْخَدِّ أَجْرَاهُ وأُسْدُ غَابٍ إِذَا نَادَى الْجِهَادُ بِهِم ... هَبُّوا إِلَى المَوْتِ يَسْتَجْدُونَ رُؤْيَاهُ يَا رَبِّ فَابْعَثْ لَنَا مِن مِثْلِهِمْ نَفَرًا ... يُشِيِّدُونَ لَنَا مَجْدًا أَضَعْنَاهُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4261).

ومن الأمثلة المعاصرة: الشباب الذين يملؤون المساجد، والمدارس، والجامعات، يطلبون العلم الشرعي، ويدعون إلى دين الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويلتحقون بحلقات تحفيظ القرآن الكريم. وهذا شيء يثلج الصدر، وأمتنا لا يزال فيها الخير إلى يوم القيامة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثالثة والعشرون: التحذير من الشرك

الكلمة الثالثة والعشرون: التحذير من الشرك الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإنّ أعظم الذنوب عند الله تعالى: الشرك به سبحانه. قال تعالى: {وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33] الآية. والشرك ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر، وشرك أصغر، فأما الشرك الأكبر فهو الذي يخرج صاحبه من دائرة الإِسلام، ويوجب له الخلود في النار، ويحرم عليه الجنة إذا لم يتب منه ومات عليه، ومن الشرك الأكبر صرف عبادة من العبادات لغير الله تعالى مثل الدعاء، أو النذر، أو الخوف، أو الذبح، قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَاوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. ومن أنواع الشرك الأكبر: شرك الدعاء، ودليله قول الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. فأخبر تعالى أن المشركين يخلصون الدعاء لله في الشدة،

ويشركون به في الرخاء، فلم ينفعهم إخلاصهم المؤقت، فدل على أن التوحيد لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر عليه حتى الممات. ومنه شرك النية والإِرادة والقصد، ودليله قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]. قال ابن عباس: «إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا؛ وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين» (¬1). ومنها شرك الطاعة، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. روى الترمذي في سننه من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية، قال: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» (¬2). قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 439). (¬2) سنن الترمذي برقم (3095)، وحسنه الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص: 20).

فمن أطاع غير الله تعالى في تحريم الحلال، أو تحليل الحرام واتخذ ذلك دينًا وشرعًا، فقد أشرك بالله. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله» (¬1). ومنها شرك المحبة، ودليله قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ} [البقرة: 165]. قال ابن كثير: «يذكر تعالى حال المشركين به في الدُّنيا ومآلهم في الآخرة، حيث جعلوا له أندادًا، أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحب الله، وهو الله لا إله إلا هو، لا ضِدَّ له ولا نِدَّ» (¬2). أما الشرك الأصغر فهو الذي لا يخرج صاحبه من الملة، ولكنه ينقص من توحيده، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وينقسم إلى قسمين: شرك ظاهر، وشرك خفي. أما الظاهر فهو يختص بالأعمال والأقوال الظاهرة، أما الألفاظ الظاهرة فمثل الحلف بغير الله وقول: ما شاء الله وشئت، وقول: لولا الله وفلان؛ فلا يجوز لأحد أن يساوي غير الله به سبحانه؛ بل يقول: ما شاء الله، ثم فلان، ولولا الله ثم فلان وهكذا. أما الأفعال: فهي كثيرة جدًّا، مثل تعليق التمائم خوفًا من العين، أو لبس الحلقة أو الخيط لرفع البلاء أو دفعه، هذا مع اعتقاده أنها سبب لرفع ¬

(¬1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 383). (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 202).

البلاء أو دفعه، فإن اعتقد أنها تدفع أو ترفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر. القسم الثاني: شرك خفي، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: وهذا الشرك بحر لا ساحل له وقل من ينجو منه؛ فمن أراد بعمله غير التقرب إلى الله تعالى فقد أشرك في إرادته ونيته. والإِخلاص أن يخلص لله في أقواله وأفعاله ونيته وإرادته؛ فإن هذه هي الملة الحنيفية؛ ملة إبراهيم عليه السلام التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإِسلام (¬1). اهـ. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه -، قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: «يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ» (¬2). وإنما سُمي الرياء شرك خفي لأن صاحبه يظهر أن عمله للَّه، وقد قصد به غيره أو شركه فيه، وزيَّن صلاته لأجله (¬3). والنيات والمقاصد وأعمال القلوب لا يعلمها إلاَّ اللَّه سبحانه وتعالى. ¬

(¬1) الداء والدواء لابن قيم الجوزية (ص: 184). (¬2) صحيح ابن خزيمة (2/ 67) برقم (937)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 199) برقم (31). (¬3) الدين الخالص (2/ 385).

قال الشاعر: ولا تكُ بالأعمال يومًا مُرائيًا ... فإِن الرِّيا شِرك بنص الدلائل فَوَيلٌ لِمن قَد كان يعمَلُ بِالرِّيا ... بطاعته للَّه ليس بعامِل وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ». قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟ » (¬1). يعني أنه يبطل أعمال المرائين، وأنه يُحيلَهم على الذين راءوهم في الدنيا فيُقال: انظروا: هل يثيبونكم، أي: أُولئك الذين تزينتم عندهم ورائيتموهم في الدنيا؟ هل تجدون عندهم ثوابًا؟ هل تجدون عنهم جزاءً على أعمالكم؟ ! (¬2). وللَّه در القائل: وكل امرِيءٍ يومًا سيُعرف سَعْيُهُ ... إذا حُصِّلت عند الإلهِ الحصائلُ وقد يتهاون بعض الناس بهذا النوع لتسميته شركًا أصغر، وهو إنما سُمي أصغر بالنسبة للشرك الأكبر، وإلا فهو أكبر من جميع الكبائر، ولذلك قال العلماء: 1 - إن الشرك الأصغر إذا دخل عملاً فسد ذلك العمل وحبط. 2 - إن الشرك الأصغر لا يغفر لصاحبه، وليس فاعله تحت ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (39/ 39) برقم (23630)، وقال محققوه: حديث حسن. (¬2) إصلاح المجتمع (ص: 11).

المشيئة كصاحب الكبيرة؛ بل يعذب بقدره، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. فالواجب على المؤمن أن يحذر من الشرك بجميع أنواعه وأن يخشى على نفسه منه، فقد خاف إبراهيم عليه السلام على نفسه من الشرك وهو إمام الموحدين، فقال لربه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: فلا يأمن من الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، وبما يخلصه منه، من العلم بالله وبما بعث به رسوله من توحيده والنهي عن الشرك به (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فتح المجيد (ص: 47).

الكلمة الرابعة والعشرون: الحياء

الكلمة الرابعة والعشرون: الحياء الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ من الصفات الحميدة والأخلاق الجميلة التي دعا إليها الشارع: صفة الحياء. قال تعالى عن موسى عليه السلام عندما سقى للمرأتين: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] الآية. روى الإمام أحمد في كتابه الزهد، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال: يا رسول الله: أوصني، قال: «أُوصِيكَ أَن تَستَحِي مِنَ اللهِ كَمَا تَستَحِي رَجُلاً مِن صَالِحِي قَومِكَ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (¬2). وهذا الحديث فيه دليل على أن الحياء مانع للإِنسان من ارتكاب ما يضره في دينه، أو يخل بأدبه ومروءته، فإِذا فقدت منه هذه الخصلة لم يبال بما صنع. ¬

(¬1) الزهد للإمام أحمد (ص: 46)، والشعب للبيهقي (6/ 145 - 146) برقم (7738)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 376) برقم (741). (¬2) صحيح البخاري برقم (6120).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» (¬1). وكانت العرب في الجاهلية تتحلى بصفة الحياء، فهذا أبو سفيان قبل إسلامه عندما وقف أمام هرقل ملك الروم ليسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر عن نفسه قائلاً: لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عليه. قال ابن القيم رحمه الله: وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، وهو خاصة الإِنسانية؛ فمن لا حياء فيه ليس معه من الإِنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخلق - أي الحياء - لم يكرم ضيف، ولم يوف بالوعد، ولم تؤد أمانه، ولم تقض لأَحدٍ حاجة؛ ولا تحرى الرجل الجميل ففعله والقبيح فتجنبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع عن فاحشة؛ ... فإن الباعث على هذه الأفعال إما ديني، وهو رجاء عاقبتها الحميدة، وإما دنيوي وهو ... حياء فاعلها من الخلق؛ فقد تبيّن أنه لولا الحياء إما من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها ... إلى آخر ما قال» (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه -: مَن قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَن قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلبُهُ (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (9)، وصحيح مسلم برقم (35). (¬2) مختصر من كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص: 277) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1802). (¬3) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص: 82 - 83) برقم (93).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ» (¬1). قال الشاعر: إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ فَلاَ وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيرٌ ... وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيرٍ ... وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ قال ابن القيم رحمه الله: ومن عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه، فقد جاء في الحديث الصحيح: «الْحَيَاءُ لاَ يَاتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» (¬2) والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم؛ بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع، ومن استحيا من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته. اهـ (¬3). روى ابن حبان في صحيحه من حديث أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا كَرِهَ اللهُ مِنْكَ شَيْئًا فَلاَ تَفعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (24)، وصحيح مسلم برقم (36). (¬2) صحيح البخاري برقم (6117)، وصحيح مسلم برقم (37). (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (61 - 62). (¬4) صحيح ابن حبان (3 - 4)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح موارد الظمآن برقم (2116).

قال القحطاني رحمه الله: وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ ... وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَان فَاسْتَحِي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَهَا ... إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي ومثاله: ما يقوم به بعض الذين يسافرون إلى الخارج لقضاء الشهوات والملذات، ثم يخبر أحدهم بجريمته التي فعل من شرب خمر أو فاحشة؛ أو غير ذلك من المعاصي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» (¬1). وهؤلاء لهم نصيب من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. وهنا أمر ينبغي التنبه له، وهو أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من الحياء، قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ} [الأحزاب: 53]. قال الإِمام النووي: قد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يُجله، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإِخلال ببعض الحقوق، والجواب عن هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم: أبو عمرو بن الصلاح، أن هذا المانع ليس من الحياء؛ بل هو عجز وخور ومهانة، فالحياء الحقيقي خلق ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6069)، وصحيح مسلم برقم (2990).

يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. اهـ (¬1). وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على إنكار المنكر وأمر بتغييره، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم (1/ 5 - 6). (¬2) صحيح مسلم برقم (49).

الكلمة الخامسة والعشرون: وقفة مع آيتين من كتاب الله

الكلمة الخامسة والعشرون: وقفة مع آيتين من كتاب الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فنقف وقفة يسيرة مع آيتين من كتاب الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} هذا الخطاب للمؤمنين. أولاً: لأنهم الذين تنفعهم الذكرى. ثانيًا: لتطهيرهم وتزكيتهم من الأخلاق السيئة. قال القرطبي: «جاء الاستفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ على أن يقول الإِنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما إن كان ذلك في الماضي فإنه يكون كذبًا، وأما في المستقبل فيكون ذلك إخلافًا بالوعد وكلاهما مذموم» (¬1). اهـ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به؛ فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه: إيمان لا شك فيه وجهاد أهل معصيته، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق ذلك عليهم، فأنزل الله الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (18/ 80).

وهذا اختيار (¬1) ابن جرير رحمه الله. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أي: لِمَ تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به، وأنتم لا تفعلونه؟ ! وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون متصفون به؟ ! ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس مبادرة إليه، والناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس عنه. اهـ (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (¬3) فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ، مَا شَانُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَامُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (¬4). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ (¬5) مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ» (¬6). قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}: قال الراغب: المقت هو البغض الشديد لمن تراه فعل القبيح (¬7)، كما في ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 358). (¬2) تفسير ابن سعدي (ص: 6911). (¬3) يعني أمعاءه. (¬4) صحيح البخاري برقم (3267)، وصحيح مسلم برقم (2989). (¬5) يعني آلات القطع والقص. (¬6) مسند الإمام أحمد (19/ 244) برقم (12211)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬7) معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص: 490).

قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء: 22]. قال النخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس قوله: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} [هود: 88]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (¬1). قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّبًا (¬2). ومن فوائد الآيتين الكريمتين: أولاً: استدل بها بعض أهل العلم على وجوب الوفاء بالوعد. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬3). قال ابن حجر: «أصل الديانة منحصر في ثلاث، القول، والفعل، والنية، فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف» (¬4). روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/ 80). (¬2) صحيح البخاري باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، أي خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفاً لقولي. فيقول: لو كنت صادقاً ما فعلت خلاف ما تقول وهذا على رواية فتح الذال، وعلى رواية كسر الذال معناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل، وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل. (¬3) صحيح البخاري برقم (33)، وصحيح مسلم برقم (59). (¬4) فتح الباري (1/ 90).

قال: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا صَبِيٌّ فَذَهَبتُ لأَخرُجَ لأَلعَبَ، فَقَالَت أُمِّي: يَا عَبدَ اللهِ تَعَالَ أُعطِكَ، فقال لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ» (¬1). ثانيًا: إن العلم قرين العمل؛ ولذلك يُسْألُ المرء يوم القيامة عن علمه ماذا عمل به؟ كما روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ » (¬2). وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ مَثَلُ مِصْبَاحٍ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ» (¬3). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود» (¬4). ثالثًا: أن الله عز وجل نهى المؤمن أن يقول ما لا يفعل؛ لكن لو كان المؤمن مقصرًا في طاعة الله مرتكبًا لبعض المعاصي فإن ذلك لا يسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (4991)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 942 - 943) برقم (4176). (¬2) سنن الترمذي برقم (2417) وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) المعجم الكبير للطبراني (2/ 166) برقم (1681)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 173): إسناده حسن، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 1133). (¬4) الفتاوى الكبرى (5/ 342).

لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1). كان الحسن - رضي الله عنه - إذا نهى عن شيء لا يأتيه أصلاً، وإذا أمر بشيء كان شديد الأخذ به، وهكذا تكون الحكمة. قال أبو الأسود الدؤلي: لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَاتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَابْدَأ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَت عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فهُناك يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقتَدَى ... بِالْعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ قال ابن حزم: والمراد أن أبا الأسود إنما قصد بالإِنكار المجيء بما نهى عنه المرء، وأنه يتضاعف قبحه فيه مع نهيه عنه، فقد أحسن كما قال تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] وقد صحّ عن الحسن أنه سمع إنسانًا يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله. قال الحسن: «ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ولا يأمر بمعروف. قال ابن حزم: صدق الحسن وهو قولنا آنفًا» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/ 69) برقم (49). (¬2) الأخلاق والسير في مداواوة النفوس (ص: 99 - 100).

الكلمة السادسة والعشرون: تأملات في قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك}

الكلمة السادسة والعشرون: تأملات في قوله تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ} الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فنقف وقفة يسيرة مع آية من كتاب الله. قوله تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. يقول تبارك وتعالى: قل يا محمد معظمًا لربك وشاكرًا له ومفوضًا إليه ومتوكلاً عليه: اللهم مالك الملك، والملك: قيل النبوة، وقيل: الغلبة، وقيل: المال والعبيد. والصحيح الذي رجحه بعض المفسرين أنه عام لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص، فقوله: {تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}، أي أنت المعطي وأنت المانع وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، وأنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد. قال ابن كثير رحمه الله: رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال: وقالوا ... - أي الكفار - لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، كالوليد بن المغيرة. وغيره. قال الله ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]. أي أهم الخزان لرحمة الله، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة من يشاؤون، ويمنعونها عمن يشاؤون، فنحن نتصرف فيما

خلقنا كما نريد بلا مانع ولا مدافع، لنا الحكمة البالغة والحجة التامة، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد. قال سبحانه: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] (¬1). اهـ. قوله تعالى: {بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أي الخير كله منك ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشر فإنه لا يضاف إلى الله لا وصفًا ولا اسمًا، ولكنه يدخل في مفعولاته ويندرج في قضائه وقدره؛ فالخير والشر داخل في القضاء والقدر فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه، ولكن لا يضاف إلى الله، فلا يقال: بيدك الخير والشر ولكن بيدك الخير كما قال الله، وقال رسوله. اهـ (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه في قيام الليل أنه كان يقول: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» (¬3). تأدبًا مع الله تعالى. ومن فوائد الآيتين الكريمتين: أولاً: ما نقله ابن كثير في تفسيره أن فيها تنبيهًا وإرشادًا إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأمة؛ لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأُمي المكي خاتم الأنبياء على الإِطلاق، ورسول الله إلى الثقلين، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًا من الأنبياء ولا رسولاً، من العلم بالله وشريعته، وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 41 - 42). (¬2) تفسير ابن سعيد (ص: 401). (¬3) صحيح مسلم برقم (771).

عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع؛ فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار (¬1). اهـ. ثانيًا: أن العزة لا تطلب إلا من الله تعالى وهي إنما تأتي بطاعته واجتناب معصيته. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وقال تعالى: {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء: 138 - 139]. وقال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يخاطب الأنصار: «أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللهُ؟ ! » (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه -: «نَحنُ قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسْلاَمِ، فَمَهمَا ابتَغَينَا العِزَّةَ بِغَيرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ» (¬3). ثالثًا: أن الذل الذي يصيب الإِنسان إنما هو بمعصيته لله ولرسوله، قال تعالى عن بني إسرائيل عندما عصوا الله ورسوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 42). (¬2) مسند الإمام أحمد (18/ 105) برقم (11547)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين. (¬3) مستدرك الحاكم (1/ 236 - 237)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه: سنده صحيح.

حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬1). وقال الحسن رحمه الله: «إِنَّهُم وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ» (¬2). قال الشاعر: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا رابعًا: إثبات قدرة الله، فهو سبحانه القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولذلك يشرع للمؤمن أن يسأل الله بقدرته أن ييسر له الخير، ويصرف عنه الشر، روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله عنه -: أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا يجده في جسده منذ أسلم؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ. ثَلاَثًا. وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» (¬3). خامسًا: فضل الدعاء وأهميته، وكان السلف يدعون: اللهم أعزني ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (2/ 92)، وقال الذهبي في السير (15/ 509): إسناده صالح. (¬2) الجواب الكافي (ص: 53). (¬3) صحيح مسلم برقم (2202).

بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك (¬1)، وينبغي للمؤمن أن يسأل الله من خيري الدُّنيا والآخرة. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (¬2). وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الجواب الكافي (ص: 53). (¬2) صحيح البخاري برقم (4522)، وصحيح مسلم برقم (2690).

الكلمة السابعة والعشرون: القناعة

الكلمة السابعة والعشرون: القناعة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن الصفات المحمودة التي حث الله ورسوله عليها: صفة القناعة. قال الراغب: القناعة هي الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها (¬1). قال تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32] وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] الآية. قال علي وابن عباس رضي الله عنهما: الحياة الطيبة هي القناعة (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (¬3). وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث ¬

(¬1) معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص: 429). (¬2) تفسير ابن كثير (8/ 352). (¬3) صحيح البخاري برقم (6446)، وصحيح مسلم برقم (1051).

أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَبَا ذَر، أَتَرى كَثْرَة المَالِ هُو الغِنى؟ »، قُلتُ: نَعَم يَا رَسولَ الله. قَالَ: «فَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقرَ»، قُلتُ: نَعَم يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «إِنَّمَا الغِنَى غِنَى القَلبِ والفَقرُ فَقرُ القَلبِ» (¬1). والعرض هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث السابق: الغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة، لأن من كان طالبًا للزيادة لم يستغن بما عنده فليس له غنى. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث عبيدالله بن محصن الخَطَمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ (¬3) لَهُ الدُّنْيَا» (¬4). وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن إلى أن ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يشعر بكثرة نعم الله عليه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (¬5). ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح ابن حبان برقم (684) ومستدرك الحاكم (5/ 466) برقم (7999)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه بهذه السياقة، وإنما أخرجاه من طريق الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر مختصراً. (¬2) صحيح مسلم برقم (1054). (¬3) معنى حيزت: أي جُمعت. (¬4) سنن الترمذي برقم (2346)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2/ 274) برقم (1913). (¬5) صحيح البخاري برقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963).

قال ابن جرير وغيره: هَذَا حَدِيْثٌ جَامِعٌ لأَنْوَاعٍ مِنَ الخَيْرِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَن فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَت نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِن نِعْمَةِ اللهِ، وَحَرَصَ عَلَى الازْدِيَادِ لِيَلحَقَ بِذَلِكَ، أَو يُقَارِبَهُ. هَذَا هُوَ المَوْجُوْدُ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُوْرِ الدُّنْيَا إِلَى مَن هُوَ دُوْنَهُ فِيْهَا، ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللِه تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ فِيْهِ الخَيْرَ. اهـ (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكثر الناس قناعة وزهدًا في الدنيا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لعروة ابن أختها: «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَبْيَاتِهِمْ، فَيَسْقِينَاهُ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك: أن فاطمة نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِسْرَةً مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَقَالَ: «هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» (¬3). وفي الصحيحين من حديث أبي حازم قال: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُشِيرُ بِإِصْبَعِهِ مِرَارًا يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ مَا شَبِعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَهْلُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا (¬4). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه أن يجعل رزقه كفافًا، أي مقدار حاجته فقط. ¬

(¬1) صحيح مسلم شرح النووي (6/ 97). (¬2) صحيح البخاري برقم (6459)، وصحيح مسلم برقم (2972). (¬3) مسند الإمام أحمد (20/ 440) برقم (13223)، وقال محققوه: حديث حسن. (¬4) صحيح البخاري برقم (5374)، وصحيح مسلم برقم (2976) واللفظ له.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه بالقناعة وعيشة الكفاف، روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ» (¬2). وكان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم؛ فعن أنس بن مالك قال: «اشْتَكَى سَلْمَانُ فَعَادَهُ سَعْدٌ، فَرَأَىهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَلَيْسَ قَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ أَلَيْسَ؟ أَلَيْسَ؟ قَالَ سَلْمَانُ: مَا أَبْكِي وَاحِدَةً مِنَ اثْنَتَيْنِ مَا أَبْكِي ضنًّا لِلدُّنْيَا وَلاَ كَرَاهِيَةً لِلآخِرَةِ، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَهِدَ إِلَيّ عَهدًا فَمَا أُرَانِي إِلاَّ قَدْ تَعَدَّيْتُ. قَالَ: وَمَا عَهِدَ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ يَكْفِي أَحَدَكُمْ مِثْلُ زَادِ الرَّاكِبِ. وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَد تَعَدَّيت. قَالَ ثَابِتٌ: فَأَحْصَوْا مَا تَرَكَهُ سَلْمَانُ، فَإِذَا هُوَ بِضْعَة وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا» (¬3). وقال عمر - رضي الله عنه -: «إِنَّ الطَّمَعَ فَقرٌ، وَإِنَّ اليَأسَ غِنَى، إِنَّهُ مَن يَيأَسْ عَمَّا فِي أَيدِي النَّاسِ استَغنَى عَنهُم» (¬4). والقناعة كنز عظيم، وعلامة من علامات التقوى كما قيل: «القناعة كنز لا يفنى». ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6460)، وصحيح مسلم برقم (1055). (¬2) سنن ابن ماجه برقم (4217)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 412) برقم (3398). (¬3) مسند الإمام أحمد (5/ 438)، وابن ماجه برقم (4104) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 392) برقم (3312). (¬4) إحياء علوم الدين (3/ 239).

وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «التَّقوَى: الخَوفُ مِنَ الجَلِيلِ، وَالعَمَلُ بِالتَّنزِيلِ، وَالقَنَاعَةُ بِالقَلِيلِ، وَالاِستِعدَادُ لِيَومِ الرَّحِيلِ». وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني قنعت (¬1). وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك. قال الشاعر: خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاكَ وَارْضَ بِهَا ... لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلاَّ رَاحَةُ البَدَن وَانْظُر لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... هَل رَاحَ مِنْهَا بِغَيرِ القُطْنِ وَالكَفَن وقال آخر: وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا ... وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ وقال آخر: إِنَّ الغِنَيَّ هُوَ الغَنِيُّ بِنَفْسِهِ ... وَلَو أَنَّهُ عَارِي المَنَاكِبِ حَاف مَا كُلُّ مَا فَوقَ البَسِيطة كَافِيًا ... فَإِذَا قَنِعْتَ فَكُلُّّ شَيْءٍ كَاف قال الغزالي رحمه الله كان محمد بن واسع يبل الخبز اليابس بالماء ويأكل، ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (3/ 239). (¬2) إحياء علوم الدين (3/ 239).

الكلمة الثامنة والعشرون: النهي عن المسألة

الكلمة الثامنة والعشرون: النهي عن المسألة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن الصفات المذمومة التي حذَّر منها الشارع: المسألة، والمقصود بالمسألة أن يسأل الإِنسان الناس أموالهم أو حاجاتهم من غير ضرورة أو حاجة ملحة، لما يتضمن السؤال من الذل لغير الله تعالى. قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]. قال ابن كثير في تفسيره: أراد لا يلحون في المسألة ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ». قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 478).

يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَستكْثِرْ» (¬2). قال أبو حامد الغزالي: والسؤال في الأصل أنه حرام، وإنما يُباح لضرورة أو حاجة ملحة قريبة من الضرورة؛ لما فيه من الشكوى من الله تعالى، وفيه إظهار قصور نعمة الله على عبده وهو عين الشكوى، وفيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى، وكذلك أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالبًا، فقد يعطيه حياءً أو رياءً وهذا حرام على الآخذ (¬3). قال الشاعر: مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ ... وَسَائِلُ اللهَ لاَ يَخِيبُ وقال آخر: لاَ تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً ... وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابَه لاَ تُحْجَبُ اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغضَبُ وقال آخر: فَلَو تَسْأَلِ النَّاسَ التُّرابَ لأَوْشَكُوا ... إِذَا قُلت هَاتُوا أَنْ يَمِلُّوا فَيَمْنَعُوا وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - من تحل له المسألة، فروى مسلم في صحيحه ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1476)، وصحيح مسلم برقم (1039). (¬2) صحيح مسلم برقم (1041). (¬3) إحياء علوم الدين (4/ 223) باختصار وتصرف.

من حديث قبيصة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً (¬1) فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ (¬2) فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ (¬3) حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَاكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا (¬4)» (¬5). وروى الترمذي في سننه من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ» (¬6). قال الصنعاني: وأما سؤاله السلطان فإنَّه لا مذمة فيه؛ لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال، ولا منة للسلطان على السائل، لأنه وكيل، فهو كسؤال الإِنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه (¬7). وقال أيضًا: والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين في حديث قبيصة، أو أن يكون السلطان (¬8). اهـ. قال الشاعر: وَذُقْتُ مَرَارَة الأَشيَاء جَمْعًا ... فَمَا طَعمٌ اَمَرُّ مِنَ السُّؤَال ¬

(¬1) يعني ديناً أو دية عن غير للإصلاح. (¬2) يعني حريق أو هلاك زرع أو غير ذلك. (¬3) يعني فقر وضرورة بعد غنى. (¬4) السحت هو الحرام. (¬5) صحيح مسلم برقم (1044). (¬6) سنن الترمذي برقم (681) وقال: حديث حسن صحيح. (¬7) سبل السلام (1/ 632). (¬8) سبل السلام (1/ 636).

وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر الغنى الذي يحرم به السؤال، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل ابن الحنظلية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّهُ «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمرِ جَهَنَّمَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: «مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ» (¬1). وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العمل وإن كان شاقًا، والمال الذي يأتي منه قليل فهو خير للمرء من السؤال. فروى البخاري في صحيحه من حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأَنْ يَاخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَاتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» (¬2). وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السائل من غير ضرورة ولا حاجة ملحة إنما يفتح على نفسه باب الفقر. روى الترمذي في سننه من حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، - وذكر منها: - وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» (¬3). اهـ. بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ البيعة من بعض أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئًا. روى مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ » وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا ¬

(¬1) جزء من حديث في مسند الإمام أحمد (29/ 166) برقم (17625)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬2) صحيح البخاري برقم (1471). (¬3) جزء من حديث في سنن الترمذي برقم (2325)، وقال: حديث حسن صحيح.

رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: «أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ ». فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ » قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا». فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟ ». قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا». قَالَ: فَرُبَّمَا سَقَطَ سَوْطُ ثَوْبَانَ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ حَتَّى يَنْزِلَ إِلَيْهِ فَيَاخُذَهُ (¬2). وكان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم، فلا يسألون الناس شيئًا من متاع الدنيا. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَاكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَابَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1043). (¬2) مسند الإمام أحمد (37/ 67 - 68) برقم (22385)، وقال محققوه: حديث صحيح.

أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَابَى أَنْ يَاخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَا حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تُوُفِّيَ - رضي الله عنه - (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1472)، وصحيح مسلم برقم (1035). (¬2) صحيح البخاري برقم (1469)، وصحيح مسلم برقم (1053).

الكلمة التاسعة والعشرون: وقفة مع قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة}

الكلمة التاسعة والعشرون: وقفة مع قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ} الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فنقف وقفة يسيرة مع آية عظيمة من كتاب الله، قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]. يأمر الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر الناس يوم الحسرة والندامة، وهو يوم القيامة، حيث تشتد فيه الحسرة، وتعظم فيه الندامة، وأيُّ حسرةٍ أعظَمُ، من فوات رضا الله وجنته؟ ! واستحقاق سخطه؟ ! والخلود في ناره؟ ! على وجه لا يتمكن فيه أحدٌ من الرجوع إلى الدنيا ليستأنف العمل. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الزمر: 15]. قال ابن عباس: يوم الحسرة اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذر منه عباده. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ}، قال: يوم القيامة. وقرأ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56]. وقوله: {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ}: أي فُرِغَ من الحساب، وصار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.

وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}: أي في الدنيا بشهواتهم وملذاتهم عن العمل ليوم الحسرة، وقوله: {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: لا يصدقون بالبعث بعد الموت وما فيه من نعيم مقيم لمن أطاع الله، ومن عذاب أليم لمن عصى الله. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ - زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ». قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا (¬1). وفي رواية لهما من حديث ابن عمر: «فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ» (¬2). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أنه في يوم الحسرة والندامة يندم الكافر على كفره، والظالم على ظلمه، والمقصر في طاعة ربه على تقصيره، ولكن لا ينفع الندم؛ قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4730)، وصحيح مسلم برقم (2849) واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري برقم (6548)، وصحيح مسلم برقم (2850).

الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * قَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29]. وقال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]. وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]. ثانيًا: أنه ينبغي للمؤمن أن لا يكون في غفلة؛ بل على استعداد للقاء ربه، قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [العنكبوت: 5]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. ثالثًا: أنّه في يوم الحسرة يرى الكافر أنه لم يلبث في دنياه إلا قليلاً، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس: 45]، وقال تعالى: ... {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]. رابعًا: إن من أعظم ما يتحسر عليه أهل النار أن الواحد منهم يتمنى أنه يفدي نفسه من عذاب الله بماله، وولده والناس أجمعين، بل وملك الدنيا بأسرها، مع أنه طُلبَ منه أهون من ذلك، فلم يفعل، قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 11 - 14]. وقال - سبحانه -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91].

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَقُولُ اللهُ سبحانه وتعالى لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ - أَحْسَبُهُ قَالَ: - وَلاَ أُدْخِلَكَ النَّارَ، فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ» (¬1). خامسًا: أنه ينبغي للمؤمن أن يحافظ على إسلامه وإيمانه حتى الممات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر يقول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دَيْنِكَ وَطَاعَتِكَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6557)، وصحيح مسلم برقم (2805) واللفظ له. (¬2) مسند الإمام أحمد (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم. (¬3) صحيح مسلم برقم (2654).

الكلمة الثلاثون: مقتطفات من سيرة سعد بن معاذ - رضي الله عنه -

الكلمة الثلاثون: مقتطفات من سيرة سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علمٍ من أعلام هذه الأمة؛ وبطل من أبطالها، وفارسٍ من فرسانها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر. هذا الصحابي شهد بدرًا وأحدًا والخندق، وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة؛ وأن عرش الرحمن قد اهتز لموته، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير. قال ابن حجر: فكان من أعظم الناس بركة في الإِسلام (¬1)، وله مناقب كثيرة. قال الذهبي في ترجمته: السيد الكبير الشهيد أبو عمرو سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأوسي الأشهلي كان رجلاً أبيض طوالاً جميلاً، حسن الوجه، حسن اللحية (¬2): قالت عائشة: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر (¬3). قال ابن إسحاق: لَمَّا أَسلَمَ وَقَفَ عَلَى قَومِهِ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ ¬

(¬1) الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 86). (¬2) سير أعلام النبلاء (11/ 279). (¬3) سير أعلام النبلاء (11/ 279).

الأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا نَقِيبَةً، قَالَ: فَإِنَّ كَلاَمَكُم عَلَيَّ حَرَامٌ رِجَالُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَوَاَللهِ مَا بَقِيَ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ إِلاَّ أَسْلَمُوا (¬1). روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا؛ قَالَ: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّامِ فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ، فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا سَعْدٌ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ؛ فَقَالَ: نَعَمْ. فَتَلاَحَيَا بَيْنَهُمَا. فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي. ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ؛ قَالَ: فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ، وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ، فَغَضِبَ سَعْدٌ. فَقَالَ: دَعْنَا عَنْكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ؛ قَالَ: إِيَّايَ؛ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ وَاللهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ؛ إِذَا حَدَّثَ. فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ لاَ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي، فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَسَارَ مَعَهُمْ فَقَتَلَهُ اللهُ (¬2). ويظهر في الموقف السابق شجاعة سعد وشدته على الكافرين، واعتزازه بدينه؛ فمع أنه بمكة لوحده إلا أنه كان يهدد سادات قريش في ¬

(¬1) سيرة ابن هشام (2/ 40). (¬2) صحيح البخاري برقم (3632).

عقر دارهم؛ وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جُبَّةٌ مِنْ سُنْدُسٍ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا؛ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَنَادِيلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا! » (¬1). ومن مواقفه العظيمة: مَا رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْعَرِقَةِ، رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ (¬2)، فَضَرَبَ عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلاحَ فَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهْوَ يَنْفُضُ رَاسَهُ مِنَ الْغُبَارِ، فَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلاحَ؟ وَاللهِ وَمَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَأَيْنَ؟ » فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَاتَلَهُم رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحُكْمَ فِيهِم إِلَى سَعْدٍ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالنِّسَاءُ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ، قَالَ هِشَامٌ: قَالَ أَبِي: فَأُخبِرتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَقَد حَكَمَ فِيهِم بِحُكمِ اللهِ عز وجل»، ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَالَ: وَتَحَجَّرَ كَلْمُهُ لِلْبُرْءِ (¬3): اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ فِيكَ، مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخْرَجُوهُ. اللَّهُمَّ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي أُجَاهِدْهُمْ فِيكَ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا. فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ (¬4) فَلَمْ يَرُعْهُمْ (وَفِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ) إِلاَّ وَالدَّمُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3802)، وصحيح مسلم برقم (2469) واللفظ له. (¬2) عرق في وسط الذراع إذا قطع لم يرقأ الدم. (¬3) أي يبس جرحه وكاد أن يبرأ. (¬4) أي: نحره.

يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَاتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ جُرْحُهُ يَغِذُّ دَمًا (¬1) فَمَاتَ» (¬2). وقد حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفراق سعد كثيرًا، وأخبر أن عرش الرحمن قد اهتز لموته، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» (¬3)، ومع هذه المنزلة العظيمة لسعد إلا أنه لم يسلم من ضمة القبر، فروى النسائي في سننه من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن سعد بعد وفاته: «هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ» (¬4)، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» (¬5)، قال الذهبي: وهذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء؛ بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار ونحو ذلك؛ فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد وما هي من عذاب القبر ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه؛ قال تعالى: ¬

(¬1) يغذ دماً أي يسيل يقال إذا الجرح يغذ إذا دام سيلانه. (¬2) صحيح البخاري برقم (4122)، وصحيح مسلم برقم (1769). (¬3) صحيح البخاري برقم (3803)، وصحيح مسلم برقم (2466). (¬4) سنن النسائي برقم (2055)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 441) برقم (1942). (¬5) مسند الإمام أحمد (40/ 327) برقم (24283)، وقال محققوه: حديث صحيح ..

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ} [مريم: 39]، وقال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، فنسأل الله تعالى العفو واللطف. ومع هذه الهزات فسعد ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء - رضي الله عنه -، كأنك يا هذا تظن أن الفائز لا يناله هول في الدارين، ولا روع ولا ألم ولا خوف، سل ربك العافية وأن يحشرنا في زمرة سعد. اهـ (¬1). وكانت وفاته سنة خمس من الهجرة، وهو في ريعان شبابه، عمره آنذاك سبع وثلاثون سنة، صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفن بالبقيع، رضي الله عن سعد وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 290 - 291).

الكلمة الحادية والثلاثون: أصل الدين وقاعدته

الكلمة الحادية والثلاثون: أصل الدين وقاعدته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإِيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. قال الشيخ الإِمام محمد بن عبد الوهاب: «وصفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها، وتكفر أهلها وتعاديهم، وأما معنى الإِيمان بالله: أن تعتقد أن الله هو الإِله المعبود وحده دون ما سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإِخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم، وهذه ملة إبراهيم عليه السلام التي سفه نفسه من رغب عنها». وهذا هو توحيد العبادة، وهو دعوة الرسل إذ قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

فلا بد من نفي الشرك في العبادة رأسًا والبراءة منه وممن فعله، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]، فلا بد من البراءة من عبادة ما كان يُعبد من دون الله، وقال الله عنه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} [مريم: 48]. فيجب اعتزال الشرك وأهله والبراءة منهما، كما صرح به في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَأَىَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. والذين معه هم الرسل كما ذكره ابن جرير، وهذه الآية تتضمن التحريض على التوحيد، ونفي الشرك، والموالاة لأهل التوحيد، وتكفير من تركه بفعل الشرك المنافي له، فإن من فعل الشرك فقد ترك التوحيد. والعروة الوثقى: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة للنفي والإِثبات، نفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له» (¬1). اهـ. وبيّن في موضع آخر أن أَصل الدِّين وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك والموالاة فيه، وتكفير من تركه، وأدلة هذا في القرآن كثيرةٌ جدًّا، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. فأمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى لا إِله إلا الله الذي دعا إِليه العرب وغيرهم، والكلمة هي لا إِله إلا الله، فسرها ¬

(¬1) مجموعة التوحيد (ص: 11، 14).

بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ}، فقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ}، فيه معنى لا إِله، وهو نفي العبادة عما سوى الله، وقوله: {إِلاَّ اللهَ}، هو المستثنى في كلمة الإِخلاص، فأمره تعالى أن يدعوهم إلى قصر العبادة عليه وحده، ونفيها عمن سواه». فإنهما ضدان لا يجتمعان، فمتى وجد الشرك انتفى التوحيد، وقال تعالى في حق من أشرك: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8]. فكفره تعالى باتخاذ الأنداد وهم الشركاء في العبادة، وأمثال هذه الآيات كثير، فلا يكون المرء موحدًا إلا بنفي الشرك والبراءة منه وتكفير من فعله. الثاني: الإِنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه، وتكفير من فعله، فلا يتم مقام التوحيد إلا بهذا، وهو دين الرسل أنذروا قومهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21]. والشرك محبط لجميع الأعمال صغيرها وكبيرها، ولا يقبل الله من المشرك صرفًا ولا عدلاً ولا فرضًا ولا نفلاً. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

وقال عن أنبيائه وأحبابه: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]. وإنَّ مما تقشعر منه القلوب والأبدان، وهو منذر بخطر عظيم، يداهم الأمة في أفضل ما تملكه وتعتز به، ألا وهو ما يبثه الكفرة أعداء الإِسلام عبر القنوات الفضائية وغيرها من الوسائل، من الدعايات الهدامة التي تسعى إلى تشكيك المسلمين في دينهم وتدعوهم بمكر ودهاء إلى الانسلاخ منه، فالحذر من ذلك، إضافة إلى الأخطار الكثيرة التي لا يمكن الخلاص منها إلا بما سبق ذكره من تحقيق التوحيد والتمسك به، ومعرفة الشرك والكفر والحذر منهما، والبراءة من أهلهما. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية والثلاثون: فوائد من قوله تعالى {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}

الكلمة الثانية والثلاثون: فوائد من قوله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] إلخ. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى مسلم في صحيحه من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: اطْرُدْ هَؤُلاَءِ لاَ يَجْتَرِؤُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلاَلٌ، وَرَجُلاَنِ نَسِيتُ اسمَيهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] (¬1). يأمر الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأمر عام له ولأمته - بلزوم الصالحين، ومصابرة النفس على مصاحبتهم، والبقاء معهم، خصوصًا الفقراء منهم والضعفاء، فالآية نزلت فيهم، والمكث معهم أبعد عن مظاهر الدنيا، وفتنتها، ثم ذكر أهم صفاتهم، وهي شغل أوقاتهم بالعبادة بحسب الأحوال، لا يريدون بذلك رياء ولا سمعة، ولا ليقال: فلان قارئ أو عابد، أو عرضًا من الدنيا زائل، إِنما يريدون بذلك ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2413).

وجه الله تعالى وطلب مرضاته، ثم نهاه تعالى عن مصاحبة أهل الدنيا، فقال: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28] أي: لا تتطلع إلى مصاحبة غيرهم من أهل الشرف والغنى، لما يحصل بذلك من اشتغال القلب بزينة الدنيا عن أمر الآخرة. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: «فإنَّ ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدُّنيا تروق للناظر، وتسحر القلب، فيغفل عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية والندامة السرمدية». اهـ (¬1). ثم نهاه نهيًا آخر، فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، فنهاه عن طاعة الغافلين عن ذكر الله المتبعين أهواءهم، الذين أَضاعوا دينهم، فطاعة من هذه صفته هي الخسارة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآية الكريمة فوائد كثيرة: الأولى: الحثُّ على الصبر. والمراد بالصبر هو الصبر على طاعة الله الذي هو أَعلى أنواع الصبر، وقد ذكر الله الصبر في أكثر من تسعين موضعًا من كتابه لأهميته ومكانته العظيمة، بل إنه في الآية الواحدة يتكرر الأمر بالصبر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. والثانية: استحباب ذكر الله والدعاء طرفي النهار. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: «لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 425).

ويرغب فيه» (¬1). اهـ. قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} [ق: 39]. روى أبو داود في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلأَنْ أَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى أَن تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» (¬3). الثالثة: الحث على مجالسة الصالحين الأخيار، حتى لو كانوا فقراء أو ضعفاء، فإن في مجالستهم خيرًا كثيرًا، روى أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَاكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ» (¬4). قال أبو سليمان الخطابي: وإنما حذر من صحبة من ليس بتقيٍّ وزجر عن مخالطته، ومؤاكلته؛ لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب. اهـ (¬5). ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي (ص: 425). (¬2) سنن أبي داود برقم (3667)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 698) برقم (3114). (¬3) صحيح مسلم برقم (2695). (¬4) سنن أبي داود برقم (4832)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 917) برقم (4045). (¬5) شرح السنة للبغوي (13/ 69).

روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (¬1). قال الشاعر: عَنِ المَرءِ لاَ تَسَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ يَقتَدِي الرابعة: الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وكما قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35]. الخامسة: الحث على الإِخلاص لله تعالى، فقد ذكر الله في الآية الأخرى عن عباده الصالحين أنهم يريدون بهذا العمل وجه الله، لا رياءً ولا سمعة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (4833)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 917) برقم (4046).

الكلمة الثالثة والثلاثون: دروس وعبر من قوله تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا .. }

الكلمة الثالثة والثلاثون: دروس وعبر من قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا .. } [الزخرف] إلى آخر الآيات. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ذالله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: «يخبر تعالى بأن الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده التي لا يُقَدِّم عليها شيئًا لَوَسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا، ولجعل {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} أي درجًا من فضة {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} إلى سطوحهم. {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا} من فضة {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}، {وَزُخْرُفًا} أي: ولَزَخْرَفَ لهم دنياهم بأنواع الزخارف، لكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفًا عليهم من التسارع في الكفر، وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعًا عامًا أو خاصًا لمصالحهم، وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا منغصة مكدرة فانية، وأن الآخرة عند الله خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها

خالدون، فما أشد الفرق بين الدارين» (¬1). اهـ. وفي هذه الآيات الكريمات فوائد كثيرة منها: - أن ما يعطيه الله الكفار من نعم الدنيا إنما ذلك لهوان الدنيا عنده، وحقارتها، وابتلاء لهم وفتنة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20]، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬2). ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - عندما صعد إلى مشربة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما آلى - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله: هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه؟ ! وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس. وقال: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! » ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» وفي رواية: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟ ! » (¬3). - ومنها: أن كثرة النعم والخيرات التي يعطيها الله لعبده ليست دليلاً على محبته. قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي (ص: 765). (¬2) صحيح مسلم برقم (2808). (¬3) صحيح البخاري برقم (4913)، وصحيح مسلم برقم (1479).

الخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنهُ اسْتِدْرَاجٌ» (¬1). ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. - ومنها أن فيها الترغيب في الآخرة والزهد في الدنيا، قال سبحانه: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. - ومنها بيان حقارة الدنيا وهوانها على الله، روى الترمذي في سننه من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِالسُّوقِ داخلاً من بعض العالية وَالنَّاسُ كنفته، فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ - أي صغير الأذن - ميِّتٍ، فتناوله فأخذ بأذنه فقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ » فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ » قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ ! فَقَالَ: «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث مستورد أخي بني فهر - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (28/ 547) برقم (17311)، وقال محققوه: حديث حسن. (¬2) سنن الترمذي برقم (2320)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. (¬3) صحيح مسلم برقم (2957).

هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا تَرْجِعُ؟ » (¬1). وقال عمر - رضي الله عنه -: لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل، ثم جاءه الموت، لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره، ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء (¬2). وقال أحد السلف: نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة، أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: ومن حدق بصيرته في الدنيا والآخرة، علم أن الأمر كذلك (¬4). ومنها: أن الله تعالى يمنع عبده بعضًا من أمور الدنيا لينال منزلة عالية عنده يوم القيامة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَخَافُونَ عَلَيْهِ» (¬5). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2858). (¬2) مدارج السالكين (3/ 97). (¬3) مدارج السالكين (3/ 97). (¬4) مدارج السالكين (3/ 97). (¬5) مسند الإمام أحمد (39/ 37) برقم (23627)، وقال محققوه: حديث صحيح.

الكلمة الرابعة والثلاثون: أكل المال الحرام

الكلمة الرابعة والثلاثون: أكل المال الحرام الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَاكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصمهم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه، وأنه آثم آكل للحرام (¬1). اهـ. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. روى الترمذي في سننه من حديث كعب بن عياض - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» (¬2). ومما يُلاحظ، تساهل كثير من الناس في أكل المال الحرام، وذلك مصداقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنَ حَرَامٍ؟ ! » (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 210). (¬2) سنن الترمذي برقم (2336)، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2148). (¬3) صحيح البخاري برقم (2083).

قال ابن المبارك: لأن أرد درهمًا من شبهة أحب إليَّ من أن أتصدَّق بمئة ألف. قال عمر - رضي الله عنه -: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام» وإنما فعل ذلك - رضي الله عنه - امتثالاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان بن بشير: «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» (¬1) الحديث. ومن صور أكل المال المحرم: الربا الذي حرمه الله ورسوله، ولعن آكله، وكاتبه، وشاهديه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. وقد غلب حب المال على قلوب بعض المسلمين، فصاروا يتسابقون إلى شراء أسهم البنوك الربوية، وآخرون يودعون أموالهم في البنوك ويأخذون عليها زيادة ربوية يسمونها فوائد، وإن من الجرائم العظيمة والأمور الخطيرة، ما نشاهده من تسابق أهل هذه البنوك بوضع شتى الطرق والحيل لإِيقاع الناس في الربا، وترغيبهم بشتى الوسائل لتزداد أرصدتهم من هذه الأَموال الخبيثة، وعلى سبيل المثال: ما يسمى بطاقة فيزا سامبا، وقد صدرت فيها فتوى من اللجنة الدائمة بتحريم التعامل بها وأنها من الربا الذي حرمه الله ورسوله، وهي بطاقة يصدرها البنك بمبلغ معين يسمى قيمة إصدار، ويحق لحاملها أن يشتري ما شاء من سلع وحاجيات على أن يرد قيمة هذه السلع خلال مدة معينة، فإن لم يفعل فإنه يحسب عليه عن كل يوم فائدة (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (52)، وصحيح مسلم برقم (1599). (¬2) فتوى رقم (17611).

ومن صور أكل المال المحرم: الاعتداء على رواتب العمال وعدم إعطائهم حقوقهم في أوقاتها، وأكل مال اليتيم، والاعتداء على ممتلكات الناس، ومن صور أكل المال المحرم التي نشاهدها كثيرًا في الأسواق: الحلف على السلعة باليمين الكاذب، والغش في المعاملات وغير ذلك. وآكل الحرام إنما يعرِّض نفسه للعقوبة في الدنيا، وفي قبره، ويوم القيامة. أما في الدنيا: فقد تكون العقوبة خسارة في ماله، أو محق إلهي للمال الذي اكتسبه ونزع البركة منه، أو مصيبة في جسده، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]. وأما في قبره، فقد ورد في الحديث أن عبدًا يُقال له مدعم كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستشهد في غزوة خيبر، أصابه سهم طائش، فقال الصحابة رضي الله عنهم: هنيئًا له الشهادة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» (¬1). وهذه الشملة عباءة قيمتها دراهم معدودة، ومع ذلك لم يسلم صاحبها من عقوبة أكل المال الحرام. وأما في الآخرة فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن عجرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يَا كَعْبُ! لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُه مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6707). (¬2) قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (23/ 425) برقم (15284) وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.

قال الشاعر: المالُ يذهبُ حِلُّهُ وحَرَامُهُ ... يَوْمًا وتَبْقى في غدٍ آثامُهُ لَيْس التقي بمُتَّق لإلهِه ... حَتَّى يطيب شَرابُهُ وطَعَامُهُ ومن عقوبة أكل المال الحرام: حرمان إجابة الدعاء وقبول العبادة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ! » (¬1). وهذا الحديث فيه تحذير لطائفة من الناس خدعهم الشيطان، وزين لهم أعمالهم السيئة، فتراهم يأكلون الحرام وينفقون منه في بعض الأَعمال الصالحة، كبناء المساجد، أو المدارس، أو حفر الآبار، أو غير ذلك، ويظنون أنهم بهذا برئت ذمتهم، فهؤلاء يُعاقبون مرتين: الأولى: أن الله لا يقبل منهم أعمالهم الصالحة التي أنفقوا عليها من الأموال المحرمة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا» (¬2). الثانية: أنَّ الله يعاقبهم على هذا المال المحرم، ويحاسبون عليه يوم القيامة. روى البخاري في صحيحه من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها: أن ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1015). (¬2) قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم (1015).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). قال سفيان الثوري: من أنفق الحرام في الطاعة، فهو كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهر إلا بالماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3118).

الكلمة الخامسة والثلاثون: وقفة مع آيات من كتاب الله

الكلمة الخامسة والثلاثون: وقفة مع آيات من كتاب الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى في سياق قصة آدم مع عدو الله إبليس: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 123 - 124]. ذكر الله سبحانه في هذه الآيات حال من اتبع هداه وما له من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده، فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}، فتكفل الله لمن حفظ عهده علمًا وعملاً أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره في الآخرة، فقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وقال سبحانه: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]. ثم بين سبحانه حال الفريق الآخر فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124] أي كتابي، ولم يتبعه ويعمل بما فيه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}. قال ابن كثير رحمه الله: (أي في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء

وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في رَيْبِهِ يتردد فهذا من ضنك المعيشة) (¬1). اهـ. قال ابن القيم رحمه الله: «وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا، وحاله في البرزخ؛ فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدة وجهد وضيق، وفي الآخرة يُنسى في العذاب، وهذا عكس أهل السعادة والفلاح، فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة، ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب» (¬2). وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]؛ اختلف المفسرون في ذلك: هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ فمن قال: إنه من عمى البصيرة، استدل بقوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ المَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22]، وقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45]، وغير ذلك من الآيات التي أثبتت لهم الرؤية في الآخرة. والذين قالوا: إنه من عمى البصر؛ استدلوا بقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]. وقد فصل في ذلك العلامة ابن القيم، وخلص إلى أن الحشر ينقسم إلى قسمين: الأول من القبور إِلى الموقف، والثاني من الموقف إلى النار. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (9/ 377). (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 79).

فعند الحشر الأول: يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون. وعند الحشر الثاني: يحشرون على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا، فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته، والقرآن يصدق بعضه بعضًا (¬1): {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. ثم أخبر سبحانه عن حال هذا المعرض يوم القيامة، وأنه يغشاه الذل والهوان فيتألم ويضجر من هذه الحال فيقول: رب لم حشرتني أعمى فيُجاب: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]، أي: أن هذا هو عين عملك والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تُدان، فكما عميت عن ذكر ربك ونسيته ونسيت حظك منه، أعمى الله بصرك في الآخرة وتركك في العذاب. ومن فوائد الآيات الكريمات: بيان حال من أعرض عن ذكر الله في الدنيا، وأنه يعيش في ضلال وظلام، ويتخبط في الجهالة، وهو مع هذه الحالة يحسب أنه من المهتدين. وبسبب إعراضه عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله عاقبه بأن قيض له شيطانًا يصاحبه فيصده عن الحق، ويزين له طرق الضلال. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36 - 37]، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه وعاين هلاكه ندم (¬2) فقال: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ} [الزخرف: 38]. ومنها أن من تمسك بهذا الذكر، وهو القرآن فإنه يسعد في الدنيا ¬

(¬1) تفسير ابن القيم (ص: 363). (¬2) تفسير ابن القيم (ص: 953).

والآخرة، وتحصل له الطمأنينة، وانشراح الصدر والشفاء من أمراض الأبدان والقلوب، والهداية إلى صراط الله المستقيم. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82]. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السادسة والثلاثون: وقفة مع قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول}

الكلمة السادسة والثلاثون: وقفة مع قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ} الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. روى الطبراني في المعجم الصغير من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِن نَفسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَهلِي وَمَالِي، وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِن وَلَدِي، وَإِنِّي لأَكُونُ فِي البَيتِ فَأَذكُرُكَ فَمَا أَصبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنظُرَ إِلَيكَ، وَإِذَا ذَكَرتُ مَوتِي وَمَوتَكَ عَرَفتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلتَ الجَنَّةَ رُفِعتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إِذَا دَخَلتُ الجَنَّةَ خَشِيتُ أَلاَّ أَرَاكَ، فَلَم يَرُدَّ عَلَيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَيئًا حَتَّى نَزَلَ جِبرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الآيَةِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ... } (¬1). ¬

(¬1) معجم الطبراني الصغير (1/ 26)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7) رجاله رجال الصحيح إلا عبدالله بن عمران وهو ثقة وله شاهد من حديث ابن عباس كما في المجمع (7/ 7) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. قال الشيخ مقبل الوادعي في كتابه "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص: 80 - 81) وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 240) و (8/ 125) والواحدي في أسباب النزول بهذا السند، وقال الشوكاني: إن المقدسي حسنه، وله شواهد كما في تفسير ابن كثير (4/ 151 - 152) تزيده قوة.

وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ... }، قال ابن كثير رحمه الله: أي من عمل بما أمره الله ورسوله وترك ما نهاه الله ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء، ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصدِّيقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم، ثم أثنى الله عليهم بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ» فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَلِمتُ أَنَّهُ يُخَيَّرُ (¬2). قال ابن حجر: الرفيق الأعلى: هم المذكورون في سورة النساء في قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ... } الآية (¬3). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله شَهِدْتُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهِ وأَنَّكَ رَسُولُ اللِه، وَصَليْتُ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ زكَاةَ مَالِي، وَصُمْتُ شَهر رَمَضَانَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَومَ اَلْقِيَامَة هَكَذَا - وَنَصَبَ إِصْبَعيهِ - مَا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 151 - 152). (¬2) صحيح البخاري برقم (4437، 4440)، وصحيح مسلم برقم (2444). (¬3) فتح الباري (8/ 138).

لَمْ يَعُقَّ واِلدَيه» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - قال: كنت أبيت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سَلْ»، فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: «أَوَ غَيرَ ذَلِكَ؟ » قلت: هو ذاك، قال: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفسِكَ بِكَثرَةِ السُّجُودِ» (¬2). قال ابن كثير: وأعظم من هذا كله ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرها من طرق متواترة، عن جمع من الصحابة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المَرءُ مَعَ مَن أَحَبَّ» قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث (¬3) (¬4). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ من الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» (¬5). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (39/ 522 - 523) وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2) صحيح مسلم برقم (489). (¬3) تفسير ابن كثير (4/ 155). (¬4) صحيح البخاري برقم (6169)، وصحيح مسلم برقم (2640). (¬5) صحيح البخاري برقم (3256)، وصحيح مسلم برقم (2831).

الكلمة السابعة والثلاثون: شرح حديث: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة»

الكلمة السابعة والثلاثون: شرح حديث: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ» الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬1). هذا الحديث اشتمل على حكم عظيمة، وجمل نافعة، ينبغي أن نقف عندها وقفة تأمل وتدبُّر، وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة صغيرة اختصرت كلامه فيها في هذه الكلمة: قوله: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ» يعني أن الله بعثه داعيًا إلى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إلى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دُعي بالسيف، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، وفيه إشارة إلى قرب ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (2/ 92). وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/ 509): إسناده صالح.

بعثته - صلى الله عليه وسلم - من قيام الساعة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعثِتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَينِ» قال: وضم السبابة والوسطى (¬1). وقوله: «حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ» هذا هو المقصود الأَعظم من بعثته وبعثة الرسل من قبله، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]؛ بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم، على ذلك كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ... } [الأعراف: 172]. وقوله: «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» فيه إشارة إلى أن الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدنيا ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها، وإنما بعثه داعيًا إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول دعوة التوحيد ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه، فإِن المال إنما خلقه لبني آدم يستعينون به على طاعته وعبادته، فمن استعان به على الكفر بالله والشرك به، سلط الله عليه رسوله وأتباعه، فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6504)، وصحيح مسلم برقم (2951).

عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء لرجوعه إلى من كان أحق به، ولأجله خُلِقَ. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69]، وهذا مما خص الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأمته، فإنه أحل لهم الغنائم. قوله: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» هذا يدل على أن العز والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لامتثال متابعة أمر الله تعالى، قال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، فالذلة والصغار تحصل بمخالفة أمر الله، والمخالفون لأمر الله ورسوله ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الأول: مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره، كمخالفة الكفار وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم تحت الذلة والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وضرب على اليهود الذلة والمسكنة لأن كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر عناد. الثاني: من اعتقد طاعته ثم يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية، فله نصيب من الذل والصغار. قال الحسن البصري: «إِنَّهُم وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ»، وقال الإِمام أحمد بن حنبل: اللهم أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية، قال الشاعر أبو العتاهية: أَلاَ إِنَّما التَّقْوى هِيَ العِزُّ والْكَرَمُ ... وِحُبُكَ لِلدُّنْيَا هَو الذلُ والسَّقَمُ وَليْسَ عَلَى عبدٍ تَقِيٍ نَقِيصَةً ... إِذا حَقَقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمَ

الثالث: من خالف أمره من أهل الشبهات؛ وهم أهل الأهواء والبدع، فكلهم لهم نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفتهم لأوامره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وأهل البدع والأهواء كلهم مفترون على الله، وبدعتهم تتغلظ بحسب كثرة افترائهم عليه، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفته أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله، فمن سلك سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل». روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬1). ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سكة الحرث فقال: «مَا دَخَلَت دَارَ قَومٍ إِلاَّ دَخَلَهَا الذُّلُّ» (¬2)، ... فمن ترك ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة، حصل له الذل. فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟ ! (¬3). اهـ. قوله: «وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»، هذا يدل على أمرين: ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (3462). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (29/ 30): إسناده جيد. (¬2) صحيح البخاري برقم (2321). (¬3) شرح حديث يتبع الميت ثلاثة ابن رجب الحنبلي

أحدهما: التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وبخ الله من تشبه بهم في شيء من قبائحهم، قال تعالى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 96]. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن حلق اللحى، وعن تسليم اليهود والنصارى وغيرها من النواهي. الثاني: التشبه بأهل الخير والتقوى، فهذا حسن وهذا مندوب إليه، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأخلاقه، وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أحب، ولا بد من مشاركته في أصل عمله وإن قصر المحب عن درجته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثامنة والثلاثون: سورة التكاثر

الكلمة الثامنة والثلاثون: سورة التكاثر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا وتحتاج منا إلى تأمل وتدبُّر سورة التكاثر، قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 1 - 8]. قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال ابن كثير: يقول تعالى: أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث مطرف عن أبيه عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ! ». وفي رواية له: «وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ» (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 442). (¬2) صحيح مسلم برقم (2958).

قال الشاعر: يا جَامِعَ المال في الدنيا لِوارثهِ ... هل أَنْت بالمَال بعد الموْت تَنْتَفعُ لا تُمْسِك المال واسْتَرْضِ الإلَهَ بهِ ... فإنَّ حَسْبَك مِنه الريُّ والشَّبَعُ وقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ} قال ابن القيم: «وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت، إيذانًا بأنهم غير مستبقين ولا مستقرين في القبور، وأنهم بمنزلة الزائرين يحضرونها مرة ثم يظعنون عنها، كما كانوا في الدنيا كذلك زائرين لها غير مستقرين فيها. ودار القرار هي الجنة أو النار» (¬1). وقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: ما هكذا ينبغي أن يُلهيكم التكاثر عن طاعة الله، وسوف تعلمون عاقبة تشاغلكم بالتكاثر، وكرر الجملة هنا لزيادة التأكيد، كما قال بعض المفسِّرين. قال ابن القيم: وقيل: ليسَ تأكيدًا؛ بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، وهذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس (¬2). وقوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ} أي لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى القلوب لما ألهاكم التكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصالحة، ولكن عدم العلم الحقيقي صيركم إلى ما ترون. وقوله: {لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ} هذا قسمٌ من الله تعالى بأَن عباده - مؤمنهم وكافرهم - سيشاهدون النار بأعينهم، ثم أكد هذا الخبر بأنه واقع لا محالة، وأَنّهم سيكونون متيقنين برؤية النار يقينًا لاشك فيه، ولكن الله ينجي المؤمنين منها، وقد جعل ¬

(¬1) تفسير ابن القيم (ص: 513). (¬2) تفسير ابن القيم (ص: 515).

سبحانه رؤيتهم لها ليعرفوا فضل الله عليهم بإنجائهم منها، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72]. وقوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر] أي: ليسألنكم الله يوم القيامة عن كل نعمة أنعم بها عليكم، كالأمن والصحة والسمع والبصر والعافية، وما يطعمه الإِنسان ويشربه، هل قمتم بشكرها وأديتم حق الله فيها ولم تستعينوا بها على معاصيه، أَم اغتررتم بها ولم تقوموا بشكرها فيعاقبكم على ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ ». قَالاَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا». فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَيْنَ فُلاَنٌ؟ ». قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ؛ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ، وَتَمْرٌ، وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ». فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2038).

قال النووي في شرح الحديث: والسؤال هنا سؤال تعداد النعم وإعلام بالامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة (¬1). وأما بالنسبة للكفار فإنه سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ » (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلعَبدِ يَومَ القِيَامَةِ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ (¬3) وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» (¬4). روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسأل عنه يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يعني العبد - من النعيم أَنْ يُقَالَ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ونرويكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟ » (¬5). قال ابن القيم: فللَّه ما أعظمها من سورة، وأجلها وأعظمها فائدة، وأبلغها موعظة وتحذيرًا، وأشدها ترغيبًا في الآخرة، وتزهيدًا ¬

(¬1) شرح النووي (5/ 214). (¬2) سنن الترمذي برقم (2416) وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) أي: أجعلك سيداً على غيرك. (¬4) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (2968). (¬5) سنن الترمذي برقم (3358)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 76) برقم (539).

في الدنيا، على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها، فتبارك من تكلم بها حقًّا، وبلغها رسوله عنه وحيًا (¬1). اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) التفسير القيم (ص: 523).

الكلمة التاسعة والثلاثون: سورة الإخلاص

الكلمة التاسعة والثلاثون: سورة الإِخلاص الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وأَشهدُ أَن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أَن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإنّ الله أنزل هذا القرآن لتدبره والعمل به، قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. وجعل فيه الشفاء والنور والهداية، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82]. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]. ومن السور التي تتكرر على أسماعنا وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبُّر سورة الإِخلاص، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه -: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لاَ تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى؛ فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ. وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ

النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «يَا فُلاَنُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَامُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ ! » فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. وفي رواية: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عز وجل (¬1) فَقَالَ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ ». فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «اللهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ» (¬3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشفي بهذه السورة مع غيرها من السور، والقرآن كله شفاء. روى البخاري في صحيحه من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}؛ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَاسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (¬4). قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} قال ابن كثير: أي هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7375)، وصحيح مسلم برقم (813). (¬2) صحيح البخاري برقم (774). (¬3) صحيح البخاري برقم (5015)، ورواه مسلم من طريق أبي الدرداء برقم (811). (¬4) صحيح البخاري برقم (5017).

في جميع صفاته وأفعاله (¬1). اهـ. وقوله: {اللهُ الصَّمَدُ} قال عكرمة عن ابن عباس: الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، والعرب تسمي أشرافها الصمد، وقال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده. وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي: ليس له والد ولا ولد ولا صاحبة. قال مجاهد: «ولم يكن له كفوًا أحد، أي: صاحبة». اهـ. والمراد بالصاحبة: الزوجة، كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، أي هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه؟ ! تعالى وتقدَّس. قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 88 - 94]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 513). (¬2) صحيح البخاري برقم (7378).

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ» (¬1). ومن فوائد هذه السورة الكريمة: أولاً: إثبات وحدانية الله جل وعلا والرد على اليهود، والنصارى الذين يجعلون له الولد، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. ثانيًا: أن هذه السورة اشتملت على اسم الله الأعظم الذي إذا سُئِلَ به أَعطى وإِذا دُعي به أجاب. روى أبو داود في سننه من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ بِالاِسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» (¬2). ثالثًا: استحباب قراءتها عند المبيت كما تقدم من فعله عليه الصلاة والسلام، وقراءتها أيضًا صباحًا ومساءً ثلاث مرات. روى أبو داود في سننه من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ لَنَا، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4974). (¬2) سنن أبي داود برقم (1493)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 279) برقم (1324).

فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتُمْ؟ » فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (5082)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 957 - 958) برقم (4241).

الكلمة الأربعون: وقفة مع قوله تعالى {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات}

الكلمة الأربعون: وقفة مع قوله تعالى {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} الآية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنّ الله أنزل هذا القرآن لتدبُّره والعمل به، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا} هنا الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يتأتى خطابه، فهو مأمور بالبشارة إن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكل من خلفه في العلم والدعوة فإنه يمكن أن يقول هذه البشارة، وهي الإخبار بما يسر، وهنا المُبشَّر هم المؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والمُبشَّر به جنات تجري من تحتها الأنهار، والمُبشِّر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والآمر بالتبشير هو الله تعالى. وقوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: جمعوا بين الاستسلام الباطن، وهو الإِيمان، والاستسلامُ الظاهر، وهو العمل الصالح، وجمعوا بين الإِخلاص في القلب، وهو أمر باطن، والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أمر ظاهر، فالبشرى لمن جمع بين الأمرين. وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: بساتين جامعة للأشجار،

وسميت جنة لأنها تجن من فيها، أي تستره لكثرة أشجارها وأغصانها. والمراد هنا: دار النعيم التي أعدَّها الله للمتقين، والأنهار التي تجري من تحتها أي من أسفلها وتحت القصور والأشجار، وهي أربعة أصناف ذكرها الله بقوله: {مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] الآية (¬1). وقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، لأنه يشبهه في اللون والحجم، ولكنهم إذا طعموه تبين لهم أنه غيره، وهذا من تمام لذة الآكلين إذا أتوا بالطعام أو بالثمر متشابهًا، ولكنه يختلف في الذوق، حيث صار هذا من تمام اللذة وكمال النعمة. وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، قال مجاهد: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬2). ¬

(¬1) من أحكام القرآن للشيخ ابن عثيمين (ص: 128). (¬2) صحيح البخاري برقم (2796)، وصحيح مسلم برقم (1880).

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْطَى قُوَّةَ مِئَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ». فقال رجل من اليهود: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «حَاجَةُ أَحَدِهِم عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جِلْدِهِ فَإِذَا بَطْنُهُ قَدْ ضَمَر» (¬1). وقوله: {فِيهَا خَالِدُونَ} هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فهو نعيم سرمدي أبدي. ومن فوائد الآية الكريمة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه: من أحكام القرآن: أَولاً: أنه ينبغي أن يبشر العامل بما يستحق من الثواب، لأن ذلك أبلغ في نشاطه ومثابرته على العمل. ثانيًا: أن البشرى بالجنة لا تكون إلا لمن آمن وعمل صالحًا، فمجرد العقيدة لا تكفي للبشارة بالجنة؛ بل لا بد من إيمان وعمل، ولهذا يربط الله تعالى دائمًا الإِيمان بالعمل الصالح. ثالثًا: أن في الجنة أنهارًا وثمارًا، ولكنها تختلف عما في الدنيا اختلافًا عظيمًا لا يمكن أن يدركه الإِنسان بحسه في الدنيا كما قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (32/ 65) برقم (19314)، وقال محققوه: حديث صحيح.

رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}» (¬1). رابعًا: أن في الجنة أزواجًا مطهرة يتلذذ الإِنسان بهن، ويتمتع بهن كما قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58]، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 55 - 56]. وهذا يدل على أنهم يتلذذون بهذه الزوجات في الجلوس على الأرائك والاتكاء عليها، مع تقديم الفواكه من الولدان والخدم. خامسًا: أن أهل الجنة خالدون فيها، وقد بينت الآية الأخرى أن هذا الخلود خلود أبدي: قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: 108] (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3244)، وصحيح مسلم برقم (2824). (¬2) أحكام القرآن للشيخ ابن عثيمين (ص: 130 - 134).

الكلمة الحادية والأربعون: وقفة مع حديث وفاة أبي طالب

الكلمة الحادية والأربعون: وقفة مع حديث وفاة أبي طالب الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أَن محمدًا عبده ورسوله وبعد: عن سعيد بن المسيب عن أبيه - رضي الله عنه - قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ» فقال أبو جهل وعبد الله ابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغبُ عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويُعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] (¬1). وفي رواية أنه قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3884)، وصحيح مسلم برقم (24) واللفظ له.

ذلك الجزع لأقررت بها عينك (¬1). قال أبو طالب في شعره: وَلَقَدْ عَلمْتُ بَأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنَ خَيرِأَدْيانِ البْرِيَّة دِينًا لَوْلا الملامَةُ أوْ حذارِ مَسَبَّةٍ ... لوَجدْتني سمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن عبد الله ابن أبي أمية ابن المغيرة قد أسلم وحسن إسلامه في آخر حياته (¬2)، أما أبو جهل الطاغية المعروف فقد قتل يوم بدر على الكفر. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة من ذلك: أولاً: أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين، ولا الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ودخول الجنة والنجاة من النار. روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَاذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَاذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» (¬3). قال ابن كثير رحمه الله: وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والدفع عنه وعن أصحابه وما قاله فيه من الممادح والثناء وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها وما تضمنته من العيب والتنقص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تُدانى ولا ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (25). (¬2) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 36). (¬3) صحيح مسلم برقم (976).

تسامى ولا يُمْكن عربيًا مُقاربتُها ولا معارضتها، وهو في ذلك كله يعلم أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صادق بار راشد ولكن مع هذا لم يقدر اللَّه له الإيمان، لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها ولولا ما نهانا اللَّه عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه. ا. هـ (¬1). وقد نهى تعالى نبيه والمؤمنين عن الاستغفار لمن مات مشركًا، ولو كان قريبًا أو حبيبًا، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة 113]. كما بين سبحانه وتعالى أن الاستغفار لهم لا ينفعهم ولا يقبله الله من صاحبه، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. ثانيًا: إِن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه اقتصرت بعد نزول الآيات الكريمات على تخفيف العذاب عنه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رضي الله عنه -: قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ» قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ (¬2) مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ ¬

(¬1) البداية والنهاية (4/ 314 - 315) بتصرف. (¬2) الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب. (¬3) صحيح البخاري برقم (3883)، وصحيح مسلم برقم (209).

بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» (¬1). وفي رواية: «مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا» (¬2). ثالثًا: أن الشرك لا تنفع معه طاعة، ولا يَقْبلُ الله من صاحبه صرفًا ولا عدلاً ولا فرضًا ولا نفلاً، بل هو محبط لجميع الأعمال الصالحة كبيرها وصغيرها، هذا حكم الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وقال عن أنبيائه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (¬3). رابعًا: أن المشرك لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، حتى لو كان هذا الشافع نبيًّا كريمًا أو وليًّا صالحًا. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لاَ تَعْصِنِي؟ ! فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لاَ أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْىٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ! فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (212). (¬2) صحيح مسلم برقم (213). (¬3) صحيح مسلم برقم (2985).

فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ (¬1) مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُنزِلَ عَلَيهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ... لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا» (¬3) .. الحديث. وصدق الله إذ يقول: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} [سبأ: 37]. خامسًا: الحذر من صحبة الأشرار، ففي الحديث أن أبا جهل وعبد الله ابن أبي أمية ما زالا يحرضان أبا طالب على الثبات على دينه حتى مات على الكفر وختم له بتلك الخاتمة السيئة. وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختيار الجليس الصالح، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (¬4). قال الشاعر: عن المرء لا تسلْ وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الضبع الذكر. (¬2) صحيح البخاري برقم (3350). (¬3) صحيح البخاري برقم (4771)، وصحيح مسلم برقم (206). (¬4) سنن أبي داود برقم (4833) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 917) برقم (4046).

الكلمة الثانية والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي}

الكلمة الثانية والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]. قال القرطبي: ذهب جمهور المفسِّرين إِلى أن هذه الآية في صدقة التطوع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإِظهار، وكذلك سائر العبادات الإِخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات (¬1). اهـ. قال ابن كثير: وفي الآية دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإِظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية وإلا فالإسرار أفضل (¬2). اهـ. قال القرطبي: وهذا - أي إظهار الصدقة - لمن قويت حالته ¬

(¬1) تفسير القرطبي (3/ 332). (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 322).

وحسنت نيته وأمن من الرياء، وأما من ضعف عن هذه الرتبة فالسر له أفضل. اهـ (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. قال ابن القيم: وتأمل تقييده تعالى الإِخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لم يمكن إخفاؤه، كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس، وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له؛ فيزهدون في معاملته ومعاوضته؛ وهذا قدر زائد من الإِحسان إليه لمجرد الصدقة مع تضمنه الإِخلاص .... إلى آخر ما قال (¬2). وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، ولهذا جعله سبحانه خيرًا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإِنفاق من سيئاته؛ ولا تخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنَّه بما تعلمون خبير. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» (¬3). وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - صنفًا آخر يستحق ذلك التكريم، وهو الذي ذكر الله ¬

(¬1) تفسير القرطبي (3/ 333). (¬2) تفسير ابن القيم (ص: 170). (¬3) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031).

خاليًا ففاضت عيناه. روى أبو داود في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» (¬1). وروى الطبراني في المعجم الصغير من حديث عبد الله بن جعفر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» (¬2). قال العز بن عبد السلام في تفاوت فضل الإِسرار والإِعلان بالطاعات: فإن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب أن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها ما شُرِعَ مجهورًا كالأذان والإِقامة والتكبير والجهر بالقراءة في الصلاة؛ والخطب الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإقامة الجمعة والجماعات، وغير ذلك، فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإِخلاص، فيأتي به مخلصًا كما شرع؛ فيحصل على أجر ذلك الفعل، وعلى أجر المجاهد لما فيه من المصلحة المتعدية. الثاني: ما يكون إسراره خيرًا من إعلانه، كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أذكارها، فهذا إسراره خيرٌ من إعلانه. الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أُخرى، كالصدقات، فإن خاف على ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (1333) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 248) برقم (1184). (¬2) المعجم الصغير للطبراني (2/ 95) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (3759).

نفسه الرياء، أو عُرف ذلك منه كان الإِخفاء أفضل من الإِبداء لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] إلى آخر ما قال (¬1). ومما تقدّم من الآيات والأحاديث يتبيَّن أنه ينبغي للمؤمن أن يخفي أعماله الصالحة عن الخلق، إلا التي يشرع إعلانها، فإن الذي يعمل لأجله لا تخفى عليه أعماله، وسيجزيه عليها أوفر الجزاء، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105]، وليعلم العبد أنه لا ينفعه اطلاع الناس على ما يعمله؛ بل قد يضره إذا أحب ذلك. وقد كان هدي السلف الصالح الحرص على إِخفاء الأعمال، وذلك لكمال إخلاصهم وصفاء نياتهم. روى أبو داود في سننه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: «مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ» فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ (¬2). ونقل الذهبي في سير أعلام النبلاء أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب. وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السر حتى توفي علي (¬3). ¬

(¬1) قواعد الأحكام (1/ 152). (¬2) سنن أبي داود برقم (1329) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 247) برقم (1180). (¬3) سير أعلام النبلاء (4/ 683).

ونقل المنذر بن سعيد عن جارية للربيع أنه كان يدخل عليه الداخل وفي حجره المصحف فيغطيه (¬1)، وذكر ابن الجوزي أن داود بن أبي هند صام عشرين سنة ولم يعلم به أهله، كان يأخذ غداءه ويخرج إلى السوق فيتصدق به في الطريق، فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت، وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق. قال الشافعي رحمه الله: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء (¬2). وقال الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليجمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركت أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 260). (¬2) جامع العلوم والحكم (1/ 310). (¬3) تفسير ابن كثير (2/ 221).

الكلمة الثالثة والأربعون: الولاء والبراء في الإسلام

الكلمة الثالثة والأربعون: الولاء والبراء في الإِسلام الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن الله افترض على المؤمنين عداوة المشركين وبغضهم، وهذه هي ملة إبراهيم عليه السلام، وهي ملة نبينا وملتنا، وقدوته، وقدوتنا، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: 123]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]. وهو مبني على أصلين: الأول: إخلاص العبادة لله سبحانه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163]. الثاني: البراءة من الشرك والمشركين وإظهار عداوتهم. قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَأَىَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [الممتحنة: 4]. وإذا كان واجبًا على المسلم أن يقول هذا لقومه الذين هو بين أظهرهم، فكونه واجبًا مع الكفار الأبعدين عنه، المخالفين له في جميع

الأمور أبين وأبين، فمن لم يحقق هذين الأصلين لا يصح له أن ينتسب إلى إبراهيم وملته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]. بل لقد حرم على المؤمن موالاة الكافرين ولو كانوا من أقرب الناس إليه. قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. وذكر الشيخ الإِمام محمد بن عبد الوهاب صورًا لموالاة الكفار في رسالته «أوثق عرى الإِيمان» فقال: أحدها: التولي العام، الثاني: المودة والمحبة الخاصة، الثالث: الركون القليل. قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74 - 75]. فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلاة الله وسلامه عليه، فكيف بغيره. الرابع: مداهنتهم ومداراتهم، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]. الخامس: طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون، كما قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. وقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. السادس: تقريبهم في الجلوس والدخول على أمراء الإِسلام. السابع: مشاورتهم في الأمور. الثامن: استعمالهم في أمر من أمور المسلمين.

أي أمر كان إمارة أو عمالة، أو كتابة، أو غير ذلك. التاسع: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين. العاشر: مجالستهم ومزاورتهم والدخول إليهم. الحادي عشر: البشاشة لهم والطلاقة. الثاني عشر: الإِكرام العام لهم. الثالث عشر: استئمانهم وقد خَوَّنَهُم الله، الرابع عشر: معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل كبري القلم وتقريب الدواة ليكتبوا ظلمهم. الخامس عشر: مناصحتهم. السادس عشر: اتباع أهوائهم، السابع عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم، الثامن عشر: الرضى بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم. التاسع عشر: ذكر ما فيه تعظيم لهم كتسميتهم: سادات وحكماء. كما يُقال للطاغوت: السيد فلان، أَو يقال لمن يدَّعي علم الطب: الحكيم. ونحو ذلك. العشرون: السكن معهم في ديارهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ (¬1)» (¬2). وكما حرم سبحانه موالاة الكفار أعداء الدِّين، فقد أوجب موالاة المؤمنين ومحبتهم. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56]. وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. ومن مظاهر موالاة المؤمنين: أولاً: الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين لأجل الفرار ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (2787) وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم (6186). (¬2) مجموعة التوحيد (ص: 170، 172).

بالدين، فقد تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. ثانيًا: مناصرة المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم. قال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72]. ثالثًا: النصح ومحبة الخير لهم، وعدم غشهم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (13)، وصحيح مسلم برقم (45).

الكلمة الرابعة والأربعون: مقتطفات من سيرة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -

الكلمة الرابعة والأربعون: مقتطفات من سيرة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، وفارس من فرسانها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، أسلم وعمره لم يتجاوز السابعة عشر عامًا، وكان من السابقين إِلى الإِسلام، يقول عن نفسه: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلاَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ (¬1)، وكان قائدًا لجيش المسلمين في معركة القادسية الشهيرة، وعلى يديه فتحت مدائن كسرى، وهو أول من أراق دمًا في سبيل الله، وأول من رمى بسهم في الإِسلام، وقد فدَاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبويه يوم أحد، عندما رأى شجاعته واستبساله في الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة. وهو أحد الستة الذين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، قال عنه الذهبي: «الأمير أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3727).

مالك بن أهيب القرشي الزهري المكي، وله قرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو من بني زُهرة، وأُم النبي - صلى الله عليه وسلم - آمنة بنت وهب زُهرية، وهي ابنة عم أبي وقاص» (¬1). روى الترمذي في سننه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امرُؤٌ خَالَهُ» (¬2). قالت عائشة بنت سعد: كان أبي قصيرًا دحداحًا، غليظًا، ذا هامة، وجاء في بعض الروايات أنه كان يميل إلى السمرة. روى مسلم في صحيحه من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لاَ تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وَلاَ تَاكُلَ وَلاَ تَشْرَبَ. قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا. قَالَ: مَكَثَتْ ثَلاَثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ: عُمَارَةُ فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الآيَةَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] إلخ الآية (¬3). وفي رواية أنه قال: يَا أُمَّهْ، تَعلَمِينَ واللهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِئَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ دِيني هذا، فَإِنْ شِئْتِ فَكِلِي، وَإِنْ شِئْتِ لاَ تَاكُلِيِ، فَأَكَلَتْ (¬4). وقد كانت لسعد مواقف عظيمة، تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدين، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 92 - 93). (¬2) سنن الترمذي برقم (3752)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 220) برقم (2951). (¬3) صحيح مسلم برقم (1748). (¬4) ابن أبي حاتم برقم (17164).

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة، فقال: «لَيْتَ رَجُلاً صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ» قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: «مَنْ هَذَا؟ » قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا جَاءَ بِكَ؟ » قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أحرسُهُ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نام. قالت عائشة: فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعت غطيطه (¬1) (¬2). ومنها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث قيس، قال: سمعت سعدًا - رضي الله عنه - يقول: إِنِّي لأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوِ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ (¬3). قال الشرَّاح: أي لجفافه ويبسه، وقد أبلى سعد في موقعة أحدٍ بلاء عظيمًا، فقد جاء عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ عن حديثهما. اهـ (¬4). وكانا يقاتلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد القتال، وكان ذلك في موقعة أحد، وكان سعد من أمهر رماة العرب. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» (¬5). ¬

(¬1) وهو صوت النائم المرتفع. (¬2) صحيح البخاري برقم (2885)، وصحيح مسلم برقم (2410). (¬3) صحيح البخاري برقم (3728)، وصحيح مسلم برقم (2966). (¬4) صحيح البخاري برقم (3722)، وصحيح مسلم برقم (2414). (¬5) صحيح البخاري برقم (3725)، وصحيح مسلم برقم (2411).

وهذا الحديث يدل على كفاءته العظيمة، ومنزلته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن المواقف التي تدل على ورعه وتقواه أنه اعتزل الفتنة التي حدثت بين الصحابة، وجاء إليه أصحابه وقالوا: يا سعد ألا تشارك معنا في القتال؟ قال: لا، حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان يقول هذا مؤمن وهذا كافر، وأنشد يقول: لاَ تَخْلِطَنَّ خَبيثَاتِ بِطِيَبةٍ ... وَاخْلَعْ ثِيَابكَ منْهَا وَانْجُ عُريَانًا ومنها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَأَىهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ ! فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» (¬1). والمراد بالغني غني النفس، والخفي المنقطع إلى العبادة، والاشتغال بأمور نفسه لا يبغي منصبًا ولا شهرة. قال الذهبي رحمه الله: اعتزل سعد الفتنة فلا حضر الجمل ولا صفين ولا التحكيم، ولقد كان أهلا للإمامة كبير الشأن - رضي الله عنه - (¬2). ولما احتضر قال ابنه مصعب: كان رأسه في حجري، فبكيت، فرفع رأسه إليَّ فقال: أي بني ما يبكيك؟ قلت: لمكانك وما أرى بك. قال: لا تبكِ فإن الله لا يعذبني أبدًا، وإِنِّي من أهل الجنة، ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2965). (¬2) سير أعلام النبلاء (1/ 122).

قال الذهبي: صدق والله فهنيئًا له (¬1). وكانت وفاته سنة خمس وخمسين من الهجرة، في قصره بالعقيق، وأَوصى أن يُدفن في جبة صوف، وقال: لقيت المشركين فيها يوم بدر وإنما خبأتها لهذا اليوم، وعمره آنذاك ثمانية وسبعون عامًا، ودُفِنَ بالبقيع، رضي الله عن سعد وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 122 - 123).

الكلمة الخامسة والأربعون: النهي عن الإسراف

الكلمة الخامسة والأربعون: النهي عن الإِسراف الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن الصفات المذمومة التي نهى الشارع عنها صفة الإِسراف: قال الراغب: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإِنسان وإِن كان ذلك في الإِنفاق أشهر (¬1). وقال سفيان بن عيينة: ما أنفقت في غير طاعة الله سرف وإِن كان ذلك قليلاً (¬2). قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. والإِسراف يتناول المال وغيره، قال تعالى محذرًا عباده من الإِسراف: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. قال بعض السلف: جمع الله الطب في نصف آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا ... } (¬3). وقال تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. ¬

(¬1) موسوعة نضرة النعيم (9/ 3884). (¬2) موسوعة نضرة النعيم (9/ 3894 - 3895). (¬3) تفسير ابن كثير (6/ 288).

قال عطاء بن أبي رباح قال: نهوا عن الإِسراف في كل شيء (¬1). قال ابن كثير: «أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن» (¬2). روى النسائي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» (¬3) (¬4). وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: «كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ» (¬5). وروى الترمذي في سننه من حديث المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (¬6). وفرَّقَ بعض العلماء بين التبذير والإِسراف الذي جاء النهي عنه في قوله تعالى: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. فقالوا: «إن التبذير هو صرف الأموال في غير حقها، إما في المعاصي؛ وإما في غير فائدة لعبًا وتساهلاً بالأموال، أما الإِسراف ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (6/ 190). (¬2) تفسير ابن كثير (6/ 190). (¬3) مخيلة هي العجب والكبر. (¬4) رواه النسائي برقم (2559)، ورواه البخاري معلقاً مجزوماً به (ص: 1132). (¬5) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به (ص: 1132) باب قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]. (¬6) سنن الترمذي برقم (2380) وقال: حديث حسن صحيح، وحسنه الحافظ في فتح الباري (9/ 528).

فهو الزيادة في الطعام والشراب واللباس في غير حاجة». قال تعالى مادحًا عباده المقتصدين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. قال ابن كثير رحمه الله: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا (¬1). اهـ. وقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وهذا هو التوسط المأمور به، لا بخل، ولا إمساك ولا إِسراف ولا تبذير، لكن بين ذلك، قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامًا للبخل ناهيًا عن الإِسراف: لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، أي لا تكن بخيلاً منوعًا لا تعطي أحدًا شيئًا، ولا تبسطها كل البسط، أي: ولا تسرف في الإِنفاق فتعطي فوق طاقتك؛ وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملومًا محسورًا، أَي فتقعد إن بخلت ملومًا يلومك الناس، ويذمونك، ويستغنون عنك، كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلقة: وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَيَبْخَلُ بِمَالهِ ... عَلى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَم ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهي الدّابة التي عجزت عن السير. اهـ (¬2). قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت به فهو لك، وما أنفقت رياء وسمعة ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 322). (¬2) تفسير ابن كثير (3/ 63).

فذلك حظ الشيطان (¬1). وقال ابن الجوزي: العاقل يدبر بعقله معيشته في الدنيا، فإِن كان فقيرًا اجتهد في كسب وصناعة تكُفّه عن الذل للخلق، وقلل العلائق واستعمل القناعة، فعاش سليمًا من منن الناس عزيزًا بينهم، وإِن كان غنيًا فينبغي له أن يدبر في نفقته، خوفَ أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق ... » إلى آخر ما قال (¬2). وينبغي أن ينتبه لأمر، وهو أن الإِنفاق في الحق لا يُعَدُّ تبذيرًا، قال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مدًّا في غير حق كان مبذرًا (¬3). ومن الإِسراف الذي يقع فيه بعض الناس: الإِسراف في الولائم وحفلات الزواج وغيرها من المناسبات صغيرة أو كبيرة، حيث تقدم بها الأطعمة أكثر من الحاجة. ومنها الإِسراف في استخدام نعمة الماء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ (¬4)» (¬5). وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن أن يزيد على وضوئه ثلاث مرات. روى النسائي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء؟ فأراه الوضوء ثلاثًا، ثلاثًا، ثم قال: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ ¬

(¬1) الدر المنثور (5/ 275). (¬2) صيد الخاطر (ص: 404). (¬3) تفسير ابن كثير (8/ 475). (¬4) المد ملء كفي الرجل الممتلئ. (¬5) صحيح البخاري برقم (201)، وصحيح مسلم برقم (325).

أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ (¬1)». ومنها: الإِسراف في استخدام نعمة المال. روى البخاري في صحيحه من حديث خولة الأنصارية قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2) ويدخل في هذا الحديث الذين يسافرون إلى بلاد الكفار، فينفقون المبالغ الطائلة في تلك الرحلات، وهم بهذا جمعوا بين معصيتين الأولى: السفر إلى بلاد الكفار، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. روى الترمذي في سننه من حديث جرير - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا» (¬3). الثانية: دعم اقتصاد هذه الدول الكافرة بهذه الأموال التي تنفق فيها. روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ » (¬4) الحديث. وغير ذلك من الصور. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن النسائي برقم (140)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 31) برقم (136). (¬2) صحيح البخاري برقم (3118). (¬3) سنن الترمذي برقم (1604)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1461). (¬4) سنن الترمذي برقم (2426) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة السادسة والأربعون: وقفة مع قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}

الكلمة السادسة والأَربعون: وقفة مع قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} الآية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإِنَّ الله أَنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. وعملاً بهذه الآية الكريمة فلنستمع إلى آية من كتاب الله تعالى، ولنتدبر ما فيها من العظات والحكم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: أدبوهم وعلموهم (¬1)، وقال قتادة رحمه الله: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأَن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإِذا رأيتَ لله معصية زجرتهم عنها (¬2). وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ} أي: حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم والحجارة، قال ابن مسعود: هي حجارة من الكبريت الأسود (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 59). (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 59). (¬3) تفسير ابن كثير (14/ 59).

وقوله: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} قال الشيخ ابن سعدي: أي غليظة أخلاقهم، شديد انتهارهم، يفزعون بأصواتهم، ويخيفون بمرآهم، ويهينون أصحاب النار بقوتهم، ويمتثلون فيهم أمر الله الذي حتَّم عليهم العذاب، وأَوجب عليهم شدة العقاب (¬1). اهـ. وقوله: {لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، هذا مدح للملائكة وانقيادهم لأمر الله وطاعتهم له في كل ما أمرهم به. ومن فوائد الآية الكريمة: 1 - أنه يجب على الرجل أن يأمر أهله بالمعروف ويحثهم عليه، وينهاهم عن المنكر ويزجرهم عنه؛ فيأمرهم بالصلاة، والزكاة، والصيام، وسائر فرائض الإِسلام، ويحثهم على الأخلاق الجميلة؛ والآداب الحسنة، ويرغبهم في فضائل الأعمال، كقراءة القرآن، وتعلم العلوم النافعة، قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وقال عن إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]. روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (¬2). قال الفقهاء: وهكذا في الصوم، ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة، لكي ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي (ص: 874). (¬2) سنن أبي داود برقم (495)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 97) برقم (466).

يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر (¬1). وكذلك يجب عليه أن ينهاهم عن كل ما يغضب الله من الأقوال والأفعال، فينهاهم عن الفواحش والآثام ما ظهر منها وما بطن، وعن قول الزور، وينهى نساءه وبناته عن التبرج والسفور، والخروج إلى الأسواق ومواقع الريب، وينهى جميع أهله ومن تحت يده عن مصاحبة الأشرار ومخالطتهم، والتشبه بالكفار والفساق، ويقطع عنهم الوسائل المفضية إلى غضب الله وسخطه، المشغلة عن رضاه وطاعته، كالقنوات الفضائية، والتلفاز، ونحوها من الوسائل التي تدعو إلى الرذائل ورديء الأخلاق. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» (¬2). 2 - عظم ما أعد الله لأَعدائه من العذاب والنكال، ففي هذه الآية أخبر تعالى أن حطب النار التي توقد بها: جثث بني آدم وحجارة من الكبريت الأسود، وأخبر في آية أخرى عن هولها وشدة عذابها فقال: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 15 - 18]. وقال أيضًا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ * وَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 27 - 29]. وقال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 59). (¬2) صحيح البخاري برقم (1418)، وصحيح مسلم برقم (2629).

روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» قَالُوا: وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» (¬2). 3 - إثبات وجود الملائكة وأنه يجب الإِيمان بهم وأنهم أصناف، فمنهم: خزنة النار الموكلون بتعذيب أهل النار وإهانتهم وأن عددهم كما ذكر الله عز وجل تسعة عشر، قال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] وإن كبير هؤلاء الملائكة ملك كريم اسمه مالك، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، وأن الإِيمان بالملائكة وأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ركن من أركان الإِيمان الستة، قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة: 285]. 4 - أن على المؤمن أن يقي نفسه من عذاب الله، وهذه الوقاية تكون ولو بأقل القليل من فعل الخير. روى مسلم في صحيحه من حديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2842). (¬2) صحيح البخاري برقم (3265)، وصحيح مسلم برقم (2843).

تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ؛ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1016).

الكلمة السابعة والأربعون: آفة السهر

الكلمة السابعة والأربعون: آفة السهر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن العادات السيئة التي ابتُلي بها كثير من الناس في هذه الأزمان السهر حتى ساعة متأخرة من الليل. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العِشاء، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لأن النوم قبلها قد يؤدِّي إلى إخراجها عن وقتها مطلقًا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدِّي إلى النوم عن الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام الليل. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يضرب الناس على ذلك ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره (¬2). ومن مفاسد هذا السهر: أولاً: أنه يؤدي إلى إضاعة صلاة الفجر، فيحرم المسلم نفسه من الأجر والثواب، ويعرضها لعقوبة الله، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (568)، وصحيح مسلم برقم (647). (¬2) فتح الباري (2/ 73).

وقال تعالى: {وَقُرْآَنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى صَلاَةَ الصُّبْحِ فَهْوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ، فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث عمارة بن رويبة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يَعْنِي: الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ (¬2). ثانيًا: أنه يؤدي إلى النوم عن قيام الليل، قال تعالى يذكر عباده المؤمنين المتقين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]، وقال أيضًا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]. روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬3). (ثالثًا): إضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه، وهذا الوقت سيسأل عنه العبد يوم القيامة. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (657). (¬2) صحيح مسلم برقم (634). (¬3) مستدرك الحاكم (5/ 463) برقم (7991) وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 639) برقم (1213): رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 507) برقم (831).

روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ » (¬1). وهذا لمن كان سهره في المباح، أما إذا كان سهره على المحرمات كالنظر إلى القنوات الفضائية السيئة، أو التحدث في أعراض المسلمين، أو غير ذلك من المنكرات، فقد جمع إلى هذه القبائح إضاعة وقته فيما يغضب ربه عز وجل. قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: لا يجوز للمسلم أن يسهر سهرًا يترتب عليه إضاعته لصلاة الفجر في الجماعة أو في وقتها، ولو كان ذلك في قراءة القرآن أو طلبه العلم؛ فكيف إذا كان سهره على التلفاز أو لعب الورق أو ما أشبه ذلك؟ وهو بهذا العمل آثم، ومستحق لعقوبة اللَّه سبحانه، كما أنه مستحق للعقوبة من ولاة الأمر بما يردعه وأمثاله (¬2). (رابعًا): الأضرار الصحية التي تنتج عن السهر؛ فإن الله تعالى جعل الليل سكنًا للناس، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل: 86] والنوم في الساعات الأولى من الليل لا يعوض، وقد استثنى العلماء السهر إذا كان في طاعة الله، وفيه مصلحة شرعية، كقيام الليل أو الدعوة إلى الله أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو طلب علم شرعي؛ أو السهر مع الضيف أو الزوجة. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2417)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) الفتاوى (1/ 92).

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا سَمَرَ بعدَ الصلاةِ - يعني العِشَاء الآخرة - إلا لأحد رَجُلَيْنِ مُصَلٍّ أو مُسافرٍ» (¬1). لذا ينبغي على المؤمن أن يحرص على التبكير في نومه، حرصًا على تطبيق السنة، وتخلصًا من آفة السهر ومفاسده، وعليه أن يحرص على آداب النوم؛ كالنوم على طهارة والمداومة على الأذكار الشرعية قبل النوم، وغير ذلك من الآداب التي ذكرها أهل العلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (6/ 90) برقم (3603)، وقال محققوه: حديث حسن.

الكلمة الثامنة والأربعون: الحج وجوبه وفضله

الكلمة الثامنة والأربعون: الحج وجوبه وفضله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. وقال تعالى: {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. وقال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» (¬2). وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (8)، وصحيح مسلم برقم (16). (¬2) صحيح مسلم برقم (1337).

قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ، يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ، لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ» (¬1). فهذه الآيات والأحاديث المتقدمة، فيها بيان أن الحج ركن من أركان الإِسلام، وفريضة من فرائضه العظام. والقول الراجح من كلام أهل العلم أن الحج يجب على الفور، فمن استطاع الوصول إلى البيت ولم يحج فهو على خطر عظيم، وما يدريه لعله يأتيه الأجل وهو لم يقض هذه الفريضة العظيمة. عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقول: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَبْعَثَ رِجَالاً إلَى هَذِهِ الأَمْصَارِ، فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جَدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث الفضل بن عباس - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعْجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يعني الفريضة - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم (3695) وصححه الألباني في الترغيب والترهيب (2/ 42) برقم (1166). (¬2) التلخيص الحبير (2/ 223) والأثر أسنده اللالكائي في الاعتقاد (1567) وابن الجوزي في التحقيق (1213) وغيرهما. (¬3) مسند الإمام أحمد (3/ 333) برقم (1834) وقال محققوه: حديث حسن. (¬4) مسند الإمام أحمد (5/ 58) برقم (2867) وقال محققوه: حديث حسن.

ومن فضائل الحج: أولاً: أن الحج يهدم ما كان قبله من الذنوب، روى مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في قصة إسلامه، وفيها: فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ ! » قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ » قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قال: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ » (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (¬2). ثانيًا: أن الحج أفضل الأعمال بعد الإِيمان والجهاد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيِمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» قِيَلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيِل اللهِ» قِيَلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجُّ مَبْرُوْرٌ» (¬3). ثالثًا: أن النفقة في الحج يضاعف الأجر لصاحبها كما يضاعف أجر المجاهد، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِسَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ» (¬4). ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم (121). (¬2) صحيح البخاري برقم (1521)، وصحيح مسلم برقم (1350). (¬3) صحيح البخاري برقم (26)، وصحيح مسلم برقم (83). (¬4) مسند الإمام أحمد (38/ 106) برقم (23000) وقال محققوه: حديث حسن لغيره.

رابعًا: أن الحج إذا كان خالصًا لوجه الله، وموافقًا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت نفقته من كسب حلالٍ طيب فجزاؤه الجنة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُوْرُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ» (¬1). قال الشاعر: إِذَا حجَجَت بِمَال أَصلُهُ دَنِسُ ... فما حجَجْت ولكن حجَّت العِيرُ ما يَقْبَلُ اللَّهُ إلا كُلَّ طيبةٍ ... ما كُلُّ من حَج بيتَ اللَّه مَبْرُورُ خامسًا: أن الحج والعمرة من أعظم أسباب الغنى. روى النسائي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالْذُّنُوْبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيَرُ خَبَثَ الْحَدِيْدِ» (¬2). سادسًا: أن اللَّه تعالى يباهي بالحجاج الملائكة. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إِنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَن يُعْتِقَ اللَّهُ عَبْداً مِن النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟ » (¬3). سابعًا: أن من طاف بالبيت واستلم الحجر الأسود شهد له يوم القيامة. روى الترمذي في سننه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1773)، وصحيح مسلم برقم (1349). (¬2) سنن النسائي برقم (2630)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 558) برقم (2467). (¬3) صحيح مسلم برقم (1348).

في الحجر: «وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍ» (¬1). ثامنًا: أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه كما ثبت بذلك الحديث عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). تاسعًا: أن الحجاج وفد اللَّه روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالحَاجُّ وَالمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ» (¬3). وفضائل الحج ومنافعه الدينية والدنيوية كثيرة جدًّا، وقد أشار الله إليها بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (961)، وقال: هذا حديث حسن. (¬2) مسند الإمام أحمد (23/ 46) برقم (14694) وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬3) سنن ابن ماجه برقم (2893)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 149) برقم (2339).

الكلمة التاسعة والأربعون: نواقض الإسلام العشرة

الكلمة التاسعة والأربعون: نواقض الإِسلام العشرة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد ذكر أهل العلم نواقض للإِسلام أي مفسدات، من فعلها خرج من دائرة الإِسلام إلى الكفر، نسأل الله السلامة والعافية، أذكرها للعلم بها والحذر منها. أولاً: الشرك في عبادة الله، وهو أعظم ذنب عصي اللهُ به، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَاوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. وقال لقمان في وصيته لابنه: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وله صور منها: أن يصرف العبد شيئًا من العبادة لغير الله، مثل النذر أو الذبح أو غير ذلك. ثانيًا: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعًا، قال تعالى: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ

اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]. ثالثًا: من لم يكفِّر المشركين أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، لأن الله عز وجل كفرهم في آيات كثيرة وأمر بعداوتهم لافترائهم الكذب عليه، ولا يحكم بإسلام المرء حتى يكفر المشركين، فإن توقف في ذلك أو شك في كفرهم مع تبينه فهو مثلهم. أما من صحح مذهبهم واستحسن ما هم عليه من الكفر فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الإِسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهذا والى أهل الشرك فضلاً عن أن يكفرهم، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. الناقض الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، وتمثيل ذلك بالذين يقولون: إن إنفاذ حكم الله في رجم الزاني المحصن أو قطع يد السارق لا يناسب هذا العصر الحاضر، لأن زماننا قد تغير عن زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أن غيره من الأحكام مثله أو أفضل منه. قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. قال ابن القيم رحمه الله: واللَّهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّها ... لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَان

لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسلاخَ الْقَلْبِ عَنْ ... تَحْكِيمِ هَذَا الْوَحْيِ وَالْقُرْآن وَرِضَى بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَخَرْصِهَا ... لاَ كَانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ الْمَنَّان ومن ذلك أصحاب القوانين الوضعية، الذين جعلوها شرعًا ومنهاجًا يسيرون عليه، ويلزمون الناس به، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. الناقض الخامس: «من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو عمل به كفر» وهذا باتفاق العلماء، وقد نال المنافقون النصيب الأكبر من هذه الخصلة، وهم يعملون ببعض شرائع الإِسلام الظاهرة؛ ولكنهم في الخفاء يضمرون البغض والكراهية لشريعة الإِسلام وأَهلها، ويتربصون بهم الدوائر، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 61]، وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. وقد حكم الله على من كره شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكفر والضلال، وأن أعمالهم باطلة مردودة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 8 - 9]. فكل من كره ما أنزل الله فعمله حابط، وإن عمل بما كره، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. الناقض السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ثوابه أو

عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]؛ فالاستهزاء بشيء مما جاء به الرسول كفر بإجماع المسلمين ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء كما لو هزل مازحًا. وقد ذكر الله تعالى حال هؤلاء المستهزئين الساخرين بأشر ما ذكر به قومًا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون} [المطففين: 29 - 30] وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]. وقد نهى الله تعالى عن مجالسة هؤلاء المستهزئين وأن من جلس معهم فهو مثلهم، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. الناقض السابع: السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر. قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]. أما الصرف: فهو صرف الرجل عما يهواه، كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها، والعطف عمل سحري كالصرف، ولكنه عطف

الرجل عما لا يهواه إلى محبته، والسحر محرم بجميع طرقه وفي جميع الشرائع. الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. الناقض التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر؛ لأنه مكذب لقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، فمن رغب الخروج عن شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو ظن الاستغناء عنها، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وعيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد؛ بل يكون متبعًا لشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشريعته عليه الصلاة والسلام باقية إلى يوم القيامة، وعامة لجميع الناس؛ ولا يسع أحد الخروج عنها، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. الناقض العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. والمراد بالإِعراض هو الإِعراض عن تعلم أصل الدين الذي يكون به المرء مسلمًا. قال ابن القيم رحمه الله: وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع، فذكرها ثم قال: وأما كفر الإِعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -

لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة (¬1). اهـ. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف؛ إلا المكره. قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (¬2). اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 366 - 367). (¬2) مجموعة التوحيد (ص: 39).

الكلمة الخمسون: سوء الخاتمة

الكلمة الخمسون: سوء الخاتمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأَشهد أَن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأَشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ - فِيْمَا يَرَى النَّاسُ - عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلْ فِيْمَا يَرَى الْنَّاسُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيْمِهَا» (¬1). قال ابن بطال: وفي تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة، وتدبير لطيف؛ لأنه لو علم وكان ناجيًا أعجب وكسل، وإن كان هالكًا ازداد عتوًّا؛ فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء (¬2). لأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ خَوْفُ الصَّالِحِيْنَ مِنْ سُوَءِ الْخَاتِمَةِ شَدِيْدًا، يَقُوْلُ أَحَدُهُمْ: خَوْفُ الصَّالِحِيْنَ مِنْ سُوَءٍ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ كُلِّ خَطرَةٍ وَحَرَكَةٍ، وَيَقُوْلُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَا أَحَدٌ أَمِنَ عَلَى إِيْمَانِهِ أَلاَّ يُسْلَبَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلاَّ سُلِبَهُ (¬3)، وَلَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ سُفْيَانَ الْثَّوْرِيَّ رحمه الله جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَمِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ؟ فَقَالَ: لاَ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6493)، وصحيح مسلم برقم (2651) واللفظ للبخاري. (¬2) فتح الباري (11/ 330). (¬3) مختصر منهاج القاصدين (ص: 391).

الإِيْمَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ (¬1). فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنة. قال ابن القيم رحمه الله: وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى (¬2). قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي: ولسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابٌ ولها طرقٌ وأَبوابٌ، وأَعظمها الانكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها، والإِعراض عن الآخرة والإِقدام والجرأة على معاصي الله، وربما غلب على الإِنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية، وجانب من الإِعراض، ونصيب من الجرأة والإِقدام، فملك قلبه وسبى عقله، فربما جاءه الموت على ذلك، وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم ولله الحمد وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة (¬3). اهـ. وقد يظهر من المحتضر ما يدل على سوء الخاتمة، مثل النكول عن النطق بالشهادتين، ورفض ذلك، والتحدُّث بالسيئات والمحرمات، وإِظهار التعلُّق بها ونحو ذلك من أقوال وأفعال تدل على الإِعراض عن دين الله والتبرم لنزول قضائه (¬4). ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين (ص: 391). (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 148). (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 146، 148). (¬4) مشاهد الاحتضار للشيخ خالد الشايع (ص: 75).

قال ابن القيم: وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة، عقوبة لهم على أعمالهم السيئة (¬1). قال ابن رجب: وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة (¬2). اهـ. وقد ذكر بعض أهل العلم أسبابًا ينشأ عنها سوء الخاتمة: أولاً: التسويف بالتوبة، والاستمرار في المعاصي، والتهاون في فعل الواجبات، ويضمر بعضهم أنه سيتوب ولكن متى؟ يقول الأعزب: حين أتزوج، والطالب: حين أتخرج، والفقير: حين أتوظف، ويقول الصغير: حين أكبر. وهكذا يحدد كل واحد موعدًا لتوبته فيقال لهؤلاء جميعًا: من يضمن لكم بلوغ هذه الآمال، أما تخشون أن تخترمكم المنايا قبل وصولها، ثم لو وصلتم إليها هل تضمنون أن توفقوا للتوبة وقد قضيتم الأعمار في الغواية والضلال، والشهوات المحرمة التي غالبًا ما تكون سببًا لانقلاب القلوب وانتكاسها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110]، ثم بين ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 146). (¬2) جامع العلوم والحكم (ص: 172 - 173).

سبب هذا الانقلاب فقال: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي بسبب رد الحق أول ما جاءهم، ثم قال: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وقد ذم الله قومًا طالت آمالهم حتى ألهتهم عن العمل للدار الآخرة، ففاجأهم الأجل وهم غافلون. قال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2 - 3]. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِيْ طَالِبٍ - رضي الله عنه -: إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: طُولَ الأَمَلِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَإِنَّهُ يُنْسِي الآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ (¬1). ثانيًا: حب المعصية، فإن الإنسان إذا داوم على المعاصي ولم يسارع إلى التوبة منها ألفها قلبه فاستولت على تفكيره في اللحظات الأخيرة من عمره، فيموت عليها، ويبعث عليها. روى مسلم في صحيحه من حديث جَابِرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (¬2). قال ابن كثير: والذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الأيمان، فيقع في سوء الخاتمة (¬3). قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح مسلم برقم (2878). (¬3) البداية والنهاية (9/ 163).

فإنها هي التي أوقعته، وآخر حضرته الوفاة، فقيل له: قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء حتى قبضت روحه. وقيل لآخر عند موته: قل لا إله إلا الله، فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها، والقصص في هذا كثيرة (¬1). قال ابن قدامة رحمه الله: وإذا عرفت معنى سوء الخاتمة فاحذر أسبابها، وأعد ما يصلح لها، وإياك والتسويف بالاستعداد فإن العمر قصير، وكل نفس من أنفاسك بمنزلة خاتمتك؛ لأنه يمكن أن تخطف فيه روحك، والإِنسان يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه (¬2). فعلى العبد أن يلزم نفسه بالطاعة والتقوى، وأن ينأى بنفسه عما حرم الله، وأن يبادر بالتوبة من المعاصي، وأن يلح في دعاء الله أن يختم له بالخاتمة الحسنى، وأن يحسن الظن بربه عز وجل، روى مسلم في صحيحه من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُوْلُ: «إِنَّ قُلُوْبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ عز وجل كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ شَاءَ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوُبِ صَرِّفْ قُلُوْبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: جامع العلوم والحكم (ص: 173)، والجواب الكافي (ص: 147). (¬2) مختصر منهاج القاصدين (ص: 393). (¬3) صحيح مسلم برقم (2654).

الكلمة الحادية والخمسون: الوقت وخطر السفر إلى الخارج

الكلمة الحادية والخمسون: الوقت وخطر السفر إلى الخارج الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: العصر هو الزمن، وقال ابن القيم: إن تسمية الدهر عصرًا أمر معروف في لغة العرب (¬1). وأقسم الله سبحانه وتعالى بالزمن لأنه مستودع أعمال العباد خيرها وشرها، ولشرفه وعظمته، ففي هذا القسم ينبه الله الخلق إلى قيمة الوقت وما ينبغي عليهم من الاعتناء به والحرص عليه، وقد أقسم الله بأجزاء الوقت في مواضع أخرى فقال: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]. وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2]، وقال: ... {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2] وهذا الزمن أغلى من الذهب والفضة فإنهما يعوضان، وأما الزمن فإنه إذا فات لا يعوض، وعمر الإِنسان الذي لا يتجاوز عشرات معدودة من السنين سيسأل المرء عن كل جزئية من جزئياته، بل إن هذا من أصول الأَسئلة التي توجه له يوم القيامة. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا تَزُوْلُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ ¬

(¬1) بدائع التفسير (5/ 328 - 329).

الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيْمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيْمَ أَبْلاَهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ فِيْمَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيْمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيْهِ؟ » (¬1). فيُسأَلُ عن عمره على وجه العموم، وعن شبابه على وجه الخصوص؛ لأن الشباب هو محور القوة والنشاط، وعليه الاعتماد في العمل أكثر من غيره في مراحل العمر الأخرى. والزمن من أفضل نعم الله على عباده، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (¬2) والغبن أن يشتري الإِنسان السلعة بأضعاف ثمنها، فمن صلح بدنه وتفرغ من الأشغال العالقة به، ولم يسع لإِصلاح آخرته، يقال عنه: إنه رجل مغبون، وفي الحديث إشارة إلى أن الزمن نعمة كبرى لا يستفيد منها إلا الموفقون الأفذاذ، وأن المستفيد قليل والكثير مفرط ومغبون. روى الحاكم في المستدرك من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا: وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ» (¬3). ومن تأمل أحوال السلف، ومن سار على نهجهم، وجدهم أحرص الناس على كسب الوقت وملئه بالخير، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ - رضي الله عنه -: مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ، نَقُصَ فِيْهِ أَجَلِيْ، وَلَمْ يَزِدْ فِيْهِ عَمَلِي. ¬

(¬1) شعب الإيمان (2/ 286) برقم (1785 - 1786) وقد سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري برقم (6412). (¬3) مستدرك الحاكم (5/ 435) برقم (7916) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 244) برقم (1077).

وقال ابن القيم: إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطع عليك أمر دنياك وآخرتك (¬1). وقال أيضًا: أعظم الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء (¬2). قال الشاعر: وَالوَقْتُ أنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ وقال آخر: إنّا لَنفْرحُ بِالأَيامِ نَقْطَعُهَا ... وكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَل فَاعْمَلْ بِنفَسِكَ قَبْلَ المَوْتِ مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّمَا الرِّبْحُ والخُسْرَانُ فِي العَمَل ومما تقدم يتبين خسارة من أضاعوا أوقاتهم في السفر إلى بلاد الكفار، ولهذا وجب التنبيه على ما لهذه الأسفار من المخاطر والمفاسد. فمن ذلك: (أولاً): أن في السفر إلى بلاد الكفار مخالفة صريحة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى الترمذي في سننه من حديث جَرِيْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: «لاَ تَرَايَا نَارَاهُمَا» (¬3). ¬

(¬1) فوائد الفوائد (ص: 385). (¬2) المصدر السابق (ص: 385). (¬3) سنن الترمذي برقم (1604) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 119) برقم (1307).

وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله، أو السفر للدعوة إلى الله، أو لعلاج مرض، لا يتوفر إلا ببلادهم، أو السفر لدراسة لا يمكن الحصول عليها في بلاد المسلمين؛ أو للتجارة وكل ذلك مشروط بأن يكون مظهرًا لدينه، عالمًا بما أوجب الله عليه، قوي الإِيمان بالله، قادرًا على إقامة شعائره، مع أمن الفتنة، وللضرورة أحكامها. (ثانيًا): كثرة المغريات والفتن الداعية إلى ارتكاب الفواحش والمحرمات، وخاصة فتنة النساء. روى مسلم في صحيحه من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِي النَّاسِ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬1). وقال أيضًا: «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» (¬2). قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «السفر إلى البلاد التي فيها الكفر والضلال والحرية وانتشار الفساد من الزنا وشرب الخمر، وأنواع الكفر والضلال، فيه خطر كبير وعظيم على الرجل والمرأة، وكم من صالح سافر ورجع فاسدًا، وكم من مسلم رجع كافرًا، وخطر السفر عظيم؛ والواجب الحذر من السفر لبلادهم لا في شهر العسل ولا في غيره» (¬3).اهـ. (ثالثًا): إضاعة الوقت فيما لا يرضي الله عز وجل، وهذا الوقت كما تقدم سيسأل عنه العبد يوم القيامة. (رابعًا): إضاعة المال الكثير في غير فائدة، وإنما في الشهوات والملذات، قال تعالى: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2741). (¬2) صحيح مسلم برقم (2742). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (2/ 195) للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.

(خامسًا): أنه قد لا يسلم من انحراف عقدي أو خلقي أو عملي في العبادة وغيرها، وإن سلم هو فربما تبقى مناظر هذه البلاد التي فيها الكنائس وأماكن الفساد والتبرج والخلاعة وتباع فيها الخمور علنًا في الطرقات في ذاكرة أبنائه وبناته، وكفى بهذه مفسدة. (سادسًا): تأثر المسلم بالكثير من تقاليد الكفار وعاداتهم السيئة. (سابعًا): التعود على عدم الاكتراث بالدين وعدم الالتفات لآدابه وأوامره. (ثامنًا): أن كثرة رؤية المنكرات للمسافر هناك من إضاعة الصلوات، وتبرج النساء، وبيع المحرمات، وغير ذلك كل هذا يضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قلب المسلم؛ وهو مأمور بإنكار ما يخالف الشرع. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1) إلى غير ذلك من المفاسد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (49).

الكلمة الثانية والخمسون: التوكل

الكلمة الثانية والخمسون: التوكل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن أعظم العبادات القلبية التوكل على الله تعالى في جميع الأُمور، قال بعض أهل العلم: التوكل صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في جلب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وأن يكل العبد أموره كلها إلى الله، وأن يحقق إيمانه بأنه لايعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع إلا هو سبحانه وتعالى (¬1). قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]. وقد أمر الله عباده المؤمنين بالتوكل في مواضع عديدة من كتابه، وجاء ذكره في أكثر من خمسين آية. قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]. وقال سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]. وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 217 - 219]. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (2/ 497).

روى الترمذي في سننه والإمام أحمد في مسنده من حديث عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُوْنَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَانًا» (¬1). قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق، قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3]. وقد دل حديث عمر - رضي الله عنه - أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير (¬2). اهـ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: تَوَكِّلْ عَلَى اللهِ تُسَقْ إِلَيْكَ الأَرْزَاقُ بِلاَ تَعَبٍ وَلاَ تَكَلُّفٍ (¬3). قَالَ سَعِيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ: التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الإِيْمَانِ (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وقال: «التوكل نصف ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2344) وقال: حديث حسن صحيح، ومسند الإمام أحمد (1/ 332) برقم (205) وقال محققوه: إسناده قوي. (¬2) جامع العلوم والحكم (2/ 502). (¬3) جامع العلوم والحكم (2/ 502). (¬4) جامع العلوم والحكم (2/ 497).

الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل استعانة والإِنابة هي العبادة» (¬1). روى أبو داود في سننه من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ» قَالَ: «يُقَالُ حِيْنَئِذٍ: هُدِيْتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيْتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِيْنُ: فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟ ! » (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيْمُ عليه السلام حِيْنَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيْمَانًا وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ (¬3). فإبراهيم عليه السلام عندما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، كانت عاقبته ما قاله جل وعلا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. ومحمد عليه الصلاة والسلام حين قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، كانت عاقبته ما قاله سبحانه: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]. ومؤمن آل فرعون عندما كاده قومه قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} [غافر: 44]، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ¬

(¬1) التفسير القيم (ص: 587)، ومدارج السالكين (2/ 118). (¬2) سنن أبي داود برقم (5095)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 959) برقم (4249). (¬3) صحيح البخاري برقم (4563).

وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ} [غافر 45]. وها هنا مسألة مهمة ينبغي للمسلم فهمها فهمًا صحيحًا، وهي التوفيق بين التوكل وفعل السبب، فأقول: أولاً: التوكل هو عمل القلب واعتماده على الله تعالى في جلب الخير ودفع الشر، وفي جميع أمور العبد كلها الدنيوية والأخروية، أما الأسباب فإنها عمل الجوارح فعلًا وتركًا. ثانيًا: من الناس من يترك فعل الأسباب كلها ويدَّعي أنه من المتوكلين، ومنهم من يتعلق قلبه بالأسباب ويعتقد أنه لا يتم له أمر إلا بفعل سبب، وكلا الطائفتين قد جانبت الصواب. والحق أن المتوكل حقيقة هو من فوض أمره إلى الله ثم نظر، فإن كان هذا الأمر له أسباب مشروعة فعلها انقيادًا للشرع لا اعتمادًا عليها، ولا انقيادًا لها، وإنما امتثالاً لأمر الشارع، فإن لم يكن هناك أسباب مشروعة اكتفى بالتوكل على الله. يشهد لما تقدم ما رواه الترمذي في سننه من حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه -: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (¬1). أما الطائفة الأخرى التي تعلقت قلوبها بالأسباب، فقد ضعف عندها الإِيمان بكفاية الله تعالى لمن توكل عليه، فتراها تجتهد في فعل الأسباب وإن لم تكن مطلوبة شرعًا أو عقلاً، وقد أخطأ هؤلاء حين ظنوا أنه لا يتم أمر إلا بسبب. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2517)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 309) برقم (2044).

فالله عز وجل يعطي ويمنع بسبب وبغير سبب، وقد أخبر سبحانه في آيات كثيرة أن في التوكل على الله كفاية للعبد. قال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ} [الزمر: 36] وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. أي كافيه، وقال تعالى: {وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 3]. قال ابن رجب رحمه الله: والمتوكل حقيقة من يعلم أن اللَّه قد ضمن لعبده رزقه وكفايته، فَيصدق اللَّه فيما ضمنه، ويثق بقلبه، ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به، والرزق مقسوم لكل أحدٍ من برٍ وفاجر ومؤمن وكافر، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: (6)]. هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60]. فما دام العبد حيًا فرزقه على اللَّه وقد ييسره اللَّه بكسب وبغير كسب، فمن توكل على اللَّه لطلب الرزق فقد جعل التوكل سببًا وكسبًا ومن توكل عليه لثقته بضمانه، فقد توكل عليه ثقة به وتصديقًا، وما أحسن قول المثنّى الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد: لا تكونوا بالمضمون مهتمين، فتكونوا للضامن متهمين وبرزقه غير راضين (¬1). واعلم يا عبد الله أن التوكل مرتبة عظيمة لا ينال كمالها إلا القليل من العباد، والمتوكلون أحباء الله وأولياؤه. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (2/ 508).

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. ولو توكل العبد على الله حق التوكل لم يحتج إلى غيره، لكن لما علم الله تعالى ضعف البشر شرع لهم من الأسباب ما يتمم لهم به معنى التوكل، وذلك من رحمته تعالى بعباده ولطفه بهم. قال المروذي رحمه الله: قيل لأبي عبد اللَّه: أي شيء صدق التوكل على اللَّه؟ قال: أن يتوكل على اللَّه، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء، فإذا كان كذا كان اللَّه يرزقه وكان متوكلاً (¬1). فعلى المسلم أن يفهم هذه الحقائق، وأخص بالذكر إخوانًا لنا يطلبون أرزاقهم بطرق محرمة أو مشبوهة، كالذين يعملون في البنوك الربوية، أو يتاجرون بما حرم الله، كآلات اللهو أو المخدرات، أو الخمور، أو الدخان، أو يتعاملون بالكذب والغش والخيانة والخداع، لأخذ أموال الناس بغير حق، ويكفي أن نسوق إلى هؤلاء جميعًا هذا الحديث العظيم الذي أوحاه جبريل الأمين إلى الرسول الكريم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فاسمعوه وتأملوه؛ فإنه جدير بالتفهم والتدبُّر لما اشتمل عليه من الحكم العظيمة. رواى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أَبِيْ أُمَامَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ»: إِنَّ رُوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوْعِي: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوْتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ أَجَلَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (2/ 503). (¬2) حلية الأولياء (10/ 27) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2085).

الكلمة الثالثة والخمسون: مبطلات الأعمال

الكلمة الثالثة والخمسون: مبطلات الأعمال الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]. روى الترمذي في سننه من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: هُمُ الَّذِيْنَ يَشْرَبُوْنَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُوْنَ؟ قَالَ: «لاَ يَا بِنْتَ الْصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِيْنَ يَصُوْمُوْنَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ، وَهُمْ يَخَافُوْنَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ يُسَارِعُوْنَ فِي الْخَيْرَاتِ» (¬1). ولقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة، يخشون أن تحبط أعمالهم وألا تقبل منهم، لرسوخ علمهم وعميق إيمانهم، قَالَ أَبُوْ الْدَّرْدَاءِ: لأَنْ أَعْلَمَ أَنَّ اللهَ تَقَبَّلَ مِنِّيْ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا، لأَنَّ اللهَ يَقُوْلُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3175)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 80) برقم (2537).

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِيْنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يَقُوْلُ: إِنَّهُ عَلَى إِيْمَانِ جِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ عليهما السلام. ومبطلات الأعمال كثيرة، منها ما يبطل جميع الأعمال مثل الشرك والردة والنفاق الأكبر، ومنها ما يبطل العمل نفسه كالمن بالصدقة وغير ذلك، وسوف أقتصر على ذكر خمسة أمور وعسى أن يكون فيها تنبيه على ما سواها: الأول: الشرك: فإنّه محبط لجميع الأعمال، قال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. روى الترمذي في سننه من حديث أَبِيْ سَعْدِ بْنِ أَبِيْ فَضَالَةَ الأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُوْلُ: «إِذَا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيْهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلهِ أَحَدٌ فَليَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ «(¬1). الثاني: الرياء وهو على قسمين: الأول: أن يقصد بعمله غير وجه الله، فهذا شرك أكبر محبط لجميع الأعمال، ويسميه بعض أهل العلم: شرك النية والإِرادة والقصد، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3154)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 74) برقم (2521).

النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ الرِّيَاءِ يُعْطَوْنَ بِحَسَنَاتِهِمْ فِيْ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لاَ يُظْلَمُوْنَ نَقِيرًا، يَقُوْلُ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا التِمَاسَ الدُّنْيَا صَوْمًا، أَوْ صَلاَةً، أَوْ تَهَجُّدًا بِاللَّيْلِ، لاَ يَعْمَلُهُ إِلاَّ التِمَاسَ الدُّنْيَا، يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: أُوَفِّيهِ الَّذِيْ التَمَسَ فِيْ الدُّنْيَا مِنَ المَثَابَةِ وَحَبِطَ عَمَلُهُ الَّذِيْ كَانَ يَعْمَلُهُ لالتِمَاسِ الدُّنْيَا وَهُوَ فِيْ الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِيْنَ (¬1). القسم الثاني: أن يعمل العمل يقصد به وجه الله ثم يطرأ عليه الرياء بعد الدخول فيه، فهذا شرك أصغر. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث مَحْمُوْدِ بْنِ لَبِيْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ» قَالُوْا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُوْلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوْا إِلَى الَّذِيْنَ كُنْتُمْ تُرَاؤُوْنَ فِيْ الدُّنْيَا، فَانْظُرُوْا هَل تَجِدُوْنَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟ ! » (¬2). وروى ابن خزيمة في صحيحه من حديث محمود بن لبيد قال: خرج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: » أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ» (¬3). وقد يتهاون بعض الناس بهذا النوع بتسميته شركًا أصغر، وهو إنما سمي أصغر بالنسبة للشرك الأكبر، وإلا فهو أكبر من جميع الكبائر، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (7/ 422). (¬2) مسند الإمام أحمد (39/ 39) برقم (23630) وقال محققوه: حديث حسن. (¬3) صحيح ابن خزيمة (2/ 67) برقم (937)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) برقم (31).

ولذلك قال العلماء. 1 - إن الشرك الأصغر إذا دخل عملاً فسد ذلك العمل وحبط. 2 - إن الشرك الأصغر لا يغفر لصاحبه، وليس فاعله تحت المشيئة، كصاحب الكبيرة، بل يُعذب بقدره، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. فالواجب على المؤمن أن يحذر من الشرك بجميع أنواعه، وأن يخشى على نفسه منه، فقد خاف إبراهيم عليه السلام من الشرك وهو إمام الموحدين، فقال لربه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام (¬1). ثالثًا: المن والأذى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى} [البقرة: 262]. قال الشاعر: أَفْسَدتَ بالمَنِّ ما أَسْدَيت من حَسَنٍ ... ليسَ الكَرِيمُ إذ أسَدَى بمنان روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِيْ ذَرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثٍ مَرَّاتٍ. قَالَ أَبُوْ ذَرٍّ: خَابُوْا وَخَسِرُوَا، مَنْ هُمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: «المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ «(¬2). ¬

(¬1) فتح المجيد (ص: 74). (¬2) صحيح مسلم برقم (106).

رابعًا: ترك صلاة العصر، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى} [البقرة: 238]. روى البخاري في صحيحه من حديث بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ «(¬1). خامسًا: التألي على الله، روى أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده والبغوي في شرح السنة من حديث ضمضم بن جوس اليمامي قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ، فقال: يا يمامي تعال، وما أعرفه، فقال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنة أبدًا، فقلت: ومن أنت - يرحمك الله -؟ قال: أبو هريرة، قال: فقلت: إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته، قال: فإنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا فِيْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ مُتَحَابَّيْنِ، أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ فِي العِبَادَةِ، وَالآخَرُ كَأَنَّهُ يَقُوْلُ: مُذْنِبٌ، فَجَعَلَ يَقُوْلُ: أَقْصِرْ أَقْصِرْ عَمَّا أَنْتَ فِيْهِ، قَالَ: فَيَقُوْلُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، قَالَ: حَتَّى وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيْنَا رَقِيْبًا، فَقَالَ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَبَدًا، وَلاَ يُدْخِلُكَ اللهُ الجَنَّةَ أَبَدًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ فَقَالَ لِلمُذْنِبِ: ادْخُلِ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِيْ، وَقَالَ لِلآخَرِ: أَتَسْتَطِيْعُ أَنْ تَحْظُرَ عَلَى عَبْدِيَ رَحْمَتِي؟ ! فَقَالَ: لاَ يَا رَبِّ، قَالَ: اذْهَبُوْا بِهِ إِلَى النَّارِ» قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: وَالَّذِي نَفْسِيْ بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (594). (¬2) سنن أبي داود برقم (4901) ومسند الإمام أحمد (14/ 46 - 47)، وقال محققوه: إسناده حسن، وشرح السنة (14/ 384 - 385) واللفظ له.

الكلمة الرابعة والخمسون: الأجل والرزق

الكلمة الرابعة والخمسون: الأجل والرزق الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: » إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُوْنُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُوْنُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ «(¬1). في هذا الحديث أربع قضايا من أمور الغيب يجب الإِيمان بها، واليقين الجازم بصدقها، وسيقتصر حديثي على اثنين منها، وهما: الأجل والرزق. لقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله كتب الآجال والأرزاق، فلا يزيد فيهما حرص حريص، ولا يردهما كراهية كاره. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: » كَتَبَ اللهُ مَقَادِيْرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِيْنَ أَلفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7454)، وصحيح مسلم برقم (2643). (¬2) صحيح مسلم برقم (2653).

وقد أكد سبحانه وتعالى هذه الحقيقة في آيات كثيرة من كتابه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]. وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. وقد ظن بعض المنافقين أن تأخرهم عن الجهاد في سبيل الله وجبنهم عن ملاقاة الأعداء سيكون مانعًا لهم من الموت، فقطع الله تلك الآمال الكاذبة بقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، ولهذا فإن الوقائع تشهد بأن الذين يقتلون مدبرين أكثر بأضعاف كثيرة من الذين يقتلون مقبلين، قال الشاعر: تَأَخّرَتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ ... لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا وقال الشافعي رحمه الله: ومن نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا ... فَلاَ أَرْضٌ تَقِيهِ وَلاَ سَمَاءُ ومثل الأجل الرزق، فإن ما كُتب للعبد منه سيناله لا محالة، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22 - 23]. روى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ رُوْحَ القُدُسِ نَفَثَ فِيْ رُوْعِي: أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوْتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوْا فِيْ الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ» (¬1). فما كُتب للعبد من رزق وأجل لا بد أن يستكمله قبل أن يموت. روى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ المَوْتُ» (¬2). وتأمل هذا الحديث في أدب الدعاء وهو يؤكد هذه الحقيقة. روى مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها أنها قالت: اللهم متعني بزوجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّك سَأَلتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوْبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُوْمَةٍ، لاَ يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ، وَلاَ يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّهِ، وَلَوْ سَأَلتِ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِيْ النَّارِ، وَعَذَابٍ فِيْ القَبْرِ، لَكَانَ خَيْرًا لَكِ» (¬3). ومما تقدم يتبين ما يأتي: أولاً: الإِيمان بأن الآجال والأرزاق مقسومة، معلومة، لا يجلبهما حرص حريص ولا يردهما كراهية كاره. ¬

(¬1) حلية الأولياء (10/ 27) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم (2085). (¬2) حلية الأولياء (7/ 90) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 672) برقم (952). (¬3) صحيح مسلم برقم (2663).

ثانيًا: أن هذا لا يمنع فعل الأسباب التي شرع الله لعباده الأخذ بها، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. ثالثًا: في حديث أبي أمامة المتقدِّم إشارة إلى أمرين اثنين. الأول: أن يسعى العبد في طلب الرزق الحلال، وأن يجتنب الحرام والأسباب المؤدِّية إليه. الثاني: أن لا يطلب الرزق بجشع وحرص، وليستحضر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِيْ قَلبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» (¬1). قال عمر - رضي الله عنه -: بين العبد وبين رزقه حجاب فإن قنع ورضيت نفسه، أتاه رزقه، وإن اقتحم وهتك الحجاب لم يُزد فوق رزقه (¬2). رابعًا: الأسباب التي تستجلب بها الأرزاق وتستدفع بها المكاره كثيرة وهذه إشارة إلى بعضها. 1 - التوكل على الله. روى الترمذي في سننه والإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُوْنَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوَ خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَانًا» (¬3). ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2465) ومسند الإمام أحمد (35/ 467) برقم (21590)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬2) جامع العلوم والحكم (2/ 502). (¬3) سبق تخريجه.

2 - الاستقامة على شرع الله عز وجل، قال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]. 3 - المداومة على الاستغفار والتوبة: قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. 4 - صلة الأرحام: روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِيْ رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِيْ أَثَرِهِ، فَليَصِلْ رَحِمَهُ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2557).

الكلمة الخامسة والخمسون: الخشوع في الصلاة

الكلمة الخامسة والخمسون: الخشوع في الصلاة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] فلما ذكر بقية صفاتهم ذكر جزاءهم فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]. قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال: كَانَ خُشُوْعُهُمْ فِيْ قُلُوْبِهِمْ فَغَضُّوا بِذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ وَخَفَضُوا لِذَلِكَ الجَنَاحَ (¬1). قال ابن القيم: علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح، ولو اعتد له بها ثوابًا لكان من المفلحين (¬2). والخشوع يأتي بمعنى لين القلب ورقته وسكونه، فإِذا خشع القلب تبعه خشوع الجوارح لأنها تابعة له، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ وَإِنَّ فِيْ الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلبُ» (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 107). (¬2) مدارج السالكين (1/ 526). (¬3) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (52)، وصحيح مسلم برقم (1599) واللفظ له.

ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته يقول: «خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي» (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا أَوَانُ العِلمِ أَنْ يُرْفَعَ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: زِيَادٌ ابْنِ لَبِيْدٍ: أَيُرْفَعُ العِلمِ يَا رَسُوْلَ اللهِ، وَفِيْنَا كِتَابُ اللهِ وَقَدْ عَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؟ ! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ المَدِيْنَةِ»، ثُمَّ ذَكَرَ ضَلالَةَ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ وَعِنْدَهُمَا مَا عِنْدَهُمَا مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، فَلَقِيَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ بِالمُصَلَّى، فَحَدَّثَهُ هَذَا الحَدِيْثَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: صَدَقَ عَوْفٌ، ثُمَّ قَالَ: فَهَل تَدْرِيْ مَا رَفعُ العِلمِ؟ قَالَ: قُلتُ: لاَ أَدْرِيْ، قَالَ: ذَهَابُ أَوْعِيَتِهِ. قَالَ: وَهَل تَدْرِيْ أَيُّ العِلمِ أَوَّلُ أَنْ يُرْفَعَ؟ قَالَ: فَقُلتُ: لاَ أَدْرِيْ، قَالَ: «الخُشُوعُ حَتَّى لاَ تَكَادَ تَرَى خَاشِعًا» (¬2). فإذا دخل المصلي المسجد بدأت الوساوس والأفكار والانشغال بأمور الدنيا في ذهنه، فما يشعر إلا وقد انتهى الإِمام من صلاته، وحينئذ يتحسر على صلاته التي لم يخشع فيها ولم يذق حلاوتها، وإنما كانت مجرد حركات وتمتمات كالجسد بلا روح. قال ابن القيم رحمه الله: (صلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحيي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتًا، أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره؛ فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور، وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميت الذي ¬

(¬1) قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم (771). (¬2) مسند الإمام أحمد (39/ 418) برقم (23990)، وقال محققوه: حديث صحيح.

يريد إهداءه إلى بعض الملوك ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا ولا يثيبه عليها فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها). اهـ (¬1). قال بعضهم: إن الرجلين ليكونان في الصلاة وإن ما بينهما كما بين السماء والأرض (¬2). روى أبو داود في سننه من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلاَّ عُشْرُ صَلاَتِهِ، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خَمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا» (¬3). والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون له قرة عين، روى النسائي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ وَالطِّيْبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِيْ فِي الصَّلاَةِ» (¬4)، بل إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر صلى، وكان يقول: «قُمْ يَا بِلاَلُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ» (¬5). من الأمور التي تعين على الخشوع في الصلاة: أولاً: أن يستحضر المسلم عظمة الباري سبحانه وتعالى، وأنه واقف بين يدي ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 11). (¬2) مدارج السالكين (1/ 567). (¬3) سنن أبي داود برقم (796)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 151) برقم (714). (¬4) سنن النسائي برقم (3939)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 827) برقم (3680). (¬5) سنن أبي داود برقم (4986)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 941) برقم (4171).

جبار السماوات والأرض، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]. ثانيًا: أن ينظر المسلم إلى موضع السجود ولا يلتفت في صلاته. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَزَالُ اللهُ مُقْبِلاً عَلَى العَبْدِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ» (¬1). ثالثًا: تدبر القرآن الكريم والأذكار التي يقولها في صلاته، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. فإذا تدبَّر المسلم أذكار الركوع والسجود وغيرها من الأذكار كان ذلك أوعى للقلب وأقرب للخشوع. رابعًا: ذكر الموت في الصلاة. روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث سعد بن عمارة أخي بني سعد بن بكر وكانت له صحبة أن رجلاً قال له: عظني في نفسي يرحمك الله، قال: «إِذَا أَنتَ صَلَّيتَ فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ» (¬2). خامسًا: أن يهيئ المصلي نفسه فلا يصلي وهو حاقن ولا بحضرة طعام، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ» (¬3) ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (35/ 400) برقم (21508) وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬2) معجم الطبراني الكبير (6/ 44) برقم (5459)، وقال الحافظ في الإصابة (3/ 70): ورجاله ثقات، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 546) برقم (1914): وهو في حكم المرفوع كما هو ظاهر. (¬3) صحيح مسلم برقم (560).

وأن يزيل كل ما يشغله في صلاته من الزخارف والصور ونحوها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام. فنظر إلى علمها. فلما قضى صلاته قال: «اذْهَبُوْا بِهَذِهِ الخَمِيْصَةِ إِلَى أَبِيْ جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَائْتُوْنِيْ بِأَنْبِجَانِيِّهِ، فَإِنَّهَا أَلهَتْنِي آنِفًا فِيْ صَلاَتِي» (¬1). سادسًا: مجاهدة النفس في الخشوع، فالخشوع، ليس بالأمر السهل فلا بد من الصبر والمجاهدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ومع الاستمرار والمجاهدة يسهل الخشوع في الصلاة. سابعًا: استحضار الثواب المترتب على الخشوع، روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوْبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوْءَهَا وَخُشُوْعَهَا وَرُكُوْعَهَا، إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيْرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكثر الناس خشوعًا في الصلاة، روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن الشخير قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِيْ صَدْرِهِ أَزِيْزٌ كَأَزِيْزِ الرَّحَى مِنَ البُكَاء (¬3). وَأَبُوْ بَكْرٍ كَانَ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يُسْمِعُ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ إِذَا صَلَّى بهم (¬4)، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (373)، وصحيح مسلم برقم (556). (¬2) صحيح مسلم برقم (228). (¬3) سنن أبي داود برقم (904) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 170) برقم (799). (¬4) صحيح البخاري (ص: 151)، باب إذا بكى الإمام في الصلاة.

وَعُمَرُ - رضي الله عنه - صَلَّى بِالنَّاسِ وَقَرَأَ سُوْرَةَ يُوَسُفَ فَسُمِعَ نَشِيْجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: 18] (¬1). قال ابن القيم رحمه الله والناس في الصلاة على مراتب: أحدها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها، ومواقيتها، وحدودها، وأركانها. الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس والأفكار. الثالث: من حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته فهو في صلاة وجهاد. الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها، لئلا يضيع شيئًا منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها. الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظرًا بقلبه إليه مراقبًا له، ممتلئًا من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل. فالقسم الأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفر عنه، ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 34 - 35).

والرابع مثاب، والخامس مقرب من ربه لأن له نصيبًا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة، فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا، قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقرت عينه أيضًا به في الدنيا، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1773)، وصحيح مسلم برقم (1349).

الكلمة السادسة والخمسون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الكلمة السادسة والخمسون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ... المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]. قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُوْنَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَليُؤَدِّ شَرْطَ اللهِ فِيْهَا (¬1). قال القرطبي رحمه الله: إنما صارت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى (¬2). وقال أيضًا: في هذه الآية مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببًا في هلاكهم (¬3). وأخبر سبحانه أن الناجين من الأمم هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 159). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (5/ 261). (¬3) الجامع لأحكام القرآن (5/ 264).

قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. وقال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَاتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَاتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 163 - 166]. وقصة اعتدائهم في السبت أنهم نهوا عن الصيد في يوم السبت، فاحتالوا على ارتكاب المحرم بأن جعلوا الشباك يوم السبت، وجمعوا السمك يوم الأحد، وظنوا أنهم يسلمون من الإِثم. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: كَانُوْا أَثْلاَثًا: ثُلُثٌ نَهَوْا، وَثُلُثٌ قَالُوْا: لَمْ تَعِظُوْنَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ، وَثُلُثٌ أَصْحَابُ الخَطِيْئَةِ، فَمَا نَجَا إِلاَّ الَّذِيْنَ نَهَوْا، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ (¬1). وبشَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعظيم الأجر والثواب فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن الحضرمي قال: أخبرني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ من أُمَّتِي قَومًا يُعطَوْنَ مِثل أُجُورِ أَوَّلِهِم يُنكِرُونَ المُنكَرَ» (¬2). وبين سبحانه أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجب لسخطه ولعنته. قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (6/ 428) وقال: إسناده جيد. (¬2) مسند الإمام أحمد (38/ 241) برقم (23181) وقال محققوه: حسن لغيره.

إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1) وهذا الحديث أصل في تغيير المنكر، ولذلك عدّه أهل العلم من الأحاديث التي عليها مدار الدِّين، حتى قيل إنه شطر الشريعة، وقيل: إنه الإِسلام كله، لأن الإِسلام إما معروف يجب الأمر به أو منكر يجب النهي عنه، وفيه بيان مراتب تغيير المنكر وهي الإِنكار باليد واللسان، وهذا يجب بحسب القدرة والطاقة، وأن لا يترتب عليه منكر أكبر منه. المرتبة الثالثة: الإِنكار بالقلب يستلزم من العبد مفارقة المكان الذي فيه المنكر. قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: من لم يكن في قلبه بغض ما يبغض الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإِيمان الذي أوجبه الله عليه. اهـ. وقال أيضًا: وإذا كان جماع الدِّين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، قال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/ 69) برقم (49).

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وهذا واجب كل مسلم قادر، وهو فرض الكفاية، ويصير فرضَ عين على القادر الذي لم يقم به غيره (¬1). والمنكرات إذا انتشرت ولم تُغيَّر كان ذلك نذير شر وهلاك للأمة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُوْلُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيْلٌ لِلعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَاجُوْجَ وَمَاجُوْجَ مِثْلُ هَذِهِ»، وَحَلِّقْ بِإِصْبَعَيْهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيْهَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَنُهلَكُ وَفِيْنَا الصَّالِحُوْنَ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس إنكم لتقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَاخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ» (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لاَ يَمنَعَنَّ رَجلاً مِنْكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أن يَتَكَلَّمَ بِالحَقِّ إِذَا رَأَىه أَو عَلِمَهُ» (¬4). ¬

(¬1) الفتاوى (28 - 65 - 66). (¬2) صحيح البخاري برقم (3346)، وصحيح مسلم برقم (2880). (¬3) سنن أبي داود برقم (4338) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 818) برقم (3644). (¬4) مسند الإمام أحمد (17/ 490) برقم (11403) وقال محققوه: إسناده صحيح.

قال ابن القيم رحمه الله: إنكار المنكر له أربع درجات: الأولى أن يزول ويخلفه ضده أي المعروف، الثانية أن يقل: أي المنكر وإن لم يزل من جملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة (¬1). ومن النماذج المشرقة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ما نقله الذهبي في السير عن شجاع بن الوليد قال: كنت أحج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا (¬2). وينقل عنه أنه كان يقول: إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلَّم فيه فلا أفعل، فأبول أكدم دمًا (¬3)، ونقل الذهبي عن الحافظ عبد الله المقدسي أنه كان لا يرى منكرًا إلا غيَّره بيده أو بلسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، قد رأيته مرة يهريق خمرًا فجبذ صاحبه السيف فلم يخف منه، وأخذه من يده، وكان قويًّا في بدنه، كثيرًا ما كان بدمشق ينكر ويكسر الطنابير والشبابات (¬4). قال الإِمام النووي: واعلم أن هذا الباب، أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذا الزمان إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ ¬

(¬1) إعلام الموقعين (3/ 4، 5). (¬2) السير للذهبي (7/ 259). (¬3) السير للذهبي (7/ 259). (¬4) السير للذهبي (21/ 454).

عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]؛ فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، ولا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: ... {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]. وليعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقًا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإِنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص دنياه. إلى آخر ما قال رحمه الله (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للإمام النووي (1/ 24).

الكلمة السابعة والخمسون: الصلاة ومكانتها في الإسلام

الكلمة السابعة والخمسون: الصلاة ومكانتها في الإِسلام الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد عظَّمَ الإِسلام شأن الصلاة، ورفع ذكرها وأَعلى مكانتها فهي أعظم أَركان الإِسلام بعد الشهادتين، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمْ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (¬1). والصلاة هي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِن صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬2). والصلاة هي الفارق بين المسلم والكافر، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (8)، وصحيح مسلم برقم (16). (¬2) رواه الطبراني في الأوسط (2/ 240) برقم (1859) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (1358).

«بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ» (¬1). والصلاة حاجز بين العبد والمعاصي، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. وكان من آخر وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعالج سكرات الموت: «الصَّلاَةَ، الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (¬2). ولها فضائل عظيمة: منها: أَنّها كفارة للخطايا والذنوب، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَل يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ » قَالُوْا: لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا» (¬3). ومنها: أن هذه الصلاة نورٌ للعبد: روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِيْ مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: » الطُّهُوْرُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، وَالحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيْزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ، أَوْ تَمْلأُ، مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (82). (¬2) سنن ابن ماجه برقم (2697) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 109) برقم (2183). (¬3) صحيح البخاري برقم (528)، وصحيح مسلم برقم (667).

نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوْبِقُهَا» (¬1). ومنها أن المسلم يبلغ بالصلاة والصيام مقام الشهداء. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: كَانَ رَجُلاَنِ مِنْ بَلِيٍّ حي مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلاَفِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلاَةَ السَّنَةِ؟ ! » (¬2). والصلاة يجب أن تؤدَّى في أوقاتها المحددة شرعًا، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. قال البخاري: موقَّتاً وقَّته عليهم. وأداء الصلاة في وقتها من أحب الأعمال إلى الله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِيْ سَبِيِلِ اللهِ» (¬3). ومما جاء في الترهيب من تأخير الصلاة عن وقتها حديث رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وجاء فيه: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَاسِهِ، فَيَثْلَغُ رَاسَهُ فَيَتَدَهْدَ الحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الحَجَرَ فَيَاخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (223). (¬2) مسند الإمام أحمد (14/ 127) برقم (8399) وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) صحيح البخاري برقم (527)، وصحيح مسلم برقم (85).

حَتَّى يَصِحَّ رَاسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُوْدُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ فِيْ المَرَّةِ الأُوْلَى، ثُمَّ قَالاَ لَهُ: أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِيْ أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَاسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَاخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوْبَةِ» (¬1). وهذه الصلاة يجب أن تؤدَّي في بيوت الله عز وجل، قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَاءِكُمْ وَلْتَاتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102]. فبيَّنت الآية وجوب صلاة الجماعة في حال الحرب، ففي حال السلم من باب أولى. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى المُنَافِقِيْنَ صَلاَةُ العِشَاءِ وَصَلاَةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُوْنَ مَا فِيْهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِيَ بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُوْنَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوْتَهُمْ بِالنَّارِ» (¬2). قال بعض أهل العلم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هم بذلك إلا أن هؤلاء المتخلفين قد ارتكبوا ذنبًا عظيمًا. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7047). (¬2) صحيح البخاري برقم (657)، وصحيح مسلم برقم (651) واللفظ له.

وجاء في ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «وَرَجُلٌ قَلبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ» (¬1)، والمساجد بيوت الله من دخلها فقد حل ضيفًا على ربه، فلا قلب أطيب ولا نفس أسعد من ضيف حل على ربه في بيته وتحت رعايته، روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كَانَ المَسْجِدُ بَيْتَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ، وَالجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ إِلَى الجَنَّةِ» (¬2). وهذه الضيافة تكون في الدنيا بما يحصل في قلوبهم من الاطمئنان والسعادة والراحة، وفي الآخرة بما أعد لهم من الكرامة والنعيم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (660)، وصحيح مسلم برقم (1031). (¬2) الطبراني في الكبير (6/ 254) برقم (6143) قال المنذري في كتاب الترغيب والترهيب (1/ 298) رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار وقال: إسناده حسن وهو كما قال رحمه الله. اهـ. وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 253) برقم (330).

الكلمة الثامنة والخمسون: مقتطفات من سيرة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -

الكلمة الثامنة والخمسون: مقتطفات من سيرة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أَعلام هذه الأُمة، وبطل من أَبطالها، وفارس من فرسانها، صحابي جليل من أَصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر. أسلم هذا الصحابي سنة ثمان من الهجرة، وخاض عشرات المعارك. يقول عنه المؤرخون: لم يهزم في معركة قط لا في جاهلية ولا في إسلام، يقول عن نفسه: «لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِيْ يَدِيَ يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِيْ يَدِيَ إِلاَّ صَفِيْحَةٌ يَمَانِيَّةٌ» (¬1). وهذا يدل على شجاعته الفائقة، وعلى القوة العظيمة التي ركبها الله في جسده، وكان قائدًا لجيش المسلمين في معركتي اليمامة واليرموك الشهيرتين، وقطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وكانت هذه من أَعاجيب هذا القائد، وقد سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيف الله المسلول، وأَخبر أنه: «سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ سَلَّهُ اللهُ عَلَى المُشرِكِينَ» والمنافقين، وقال عنه: «نِعْمَ عَبْدُ اللهِ وَأَخُو العَشِيرَةِ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4265). (¬2) مسند الإمام أحمد (1/ 216) برقم (43) وقال محققوه: حديث صحيح بشواهده.

إنه فارس الإِسلام خالد بن الوليد بن المغيرة القرشي المخزومي المكي، وهو ابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، كان رجلاً ضخمًا، عريض المنكبين، قوي البنية، أَشبه الناس بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد كانت لهذا الصحابي مواقف عظيمة تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدِّين، ومن هذه المواقف: معركة مؤتة الشهيرة، وقد حدثت سنة ثمان من الهجرة في نفس السنة التي أسلم فيها خالد، وكان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل، وعدد جيش الروم مائتي ألف مقاتل، ونظرًا لعدم تكافؤ العدد بين المسلمين وعدوهم، فقد ظهرت في هذه المعركة بطولات عظيمة للمسلمين، فقد أمَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش المسلمين زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، فإِن قتل فعبد الله بن رواحة، وقد استشهد القادة في هذه المعركة، بعد ذلك أخذ الراية ثابت بن أقرم، وقال للمسلمين: أمّروا عليكم رجلاً، فاختاروا خالد بن الوليد، وهنا ظهرت شجاعته العظيمة وعبقريته الفذة، فقام بإعادة ترتيب جيش المسلمين مرة ثانية، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، ثم جعل بعض الجيش يتأخر قليلاً، ثم بعد فترة يأتون على هيئة مدد، حتى يضعف من عزيمة العدو، ثم حمل بالمسلمين حملة عظيمة على الروم جعلتهم يتقهقرون وتضعف عزيمتهم، وأَبدى - رضي الله عنه - من صنوف الشجاعة والبطولة ما تتقاصر عنه همم الأَبطال، ثم إنه بحنكته وسياسته اتخذ طريقة عجيبة في الانسحاب المنظم بالمسلمين، واكتفى بتلك الضربة، ورأى ألا يقحم المسلمين في معركة غير متكافئة، وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فتحًا، فقال عندما نعى القادة الثلاثة: «ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ «(¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3757).

وقد شهد خالد حروب الردة، وغزا العراق، وقد اختلف أهل السير في أسباب عزل خالد عن قيادة جيش المسلمين في الشام، ولعل الصحيح ما نقل عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: لاَ، لأَنزِعَنَّ خَالِدًا حَتَّى يَعلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللهَ إِنَّمَا يَنصُرُ دِينَهُ بِغَيرِ خَالِدٍ (¬1). ومن أقواله العظيمة أنه قال: مَا مِن لَيلَةٍ يُهدَى إِلَيَّ فِيهَا عَرُوسٌ أَنَا لَهَا مُحِبٌّ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِن لَيلَةٍ شَدِيدَةِ البَردِ، كَثِيرَةِ الجَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ، أُصَبِّحُ فِيهَا العَدُوَّ (¬2). وكتب رسالة إلى الفرس قال فيها: لَقَد جِئتُكُم بِقَومٍ يُحِبُّونَ الْمَوتَ كَمَا تُحِبُّ فَارِسٌ شُربَ الْخَمْرِ. قال قيس بن أبي حازم: سمعت خالدًا وهو يقول: مَنَعَنِي الجِهَادُ كَثِيرًا مِن تَعَلُّمِ القُرآنِ الكَرِيمِ (¬3). قال أبو الزناد: لَمَّا احتُضِرَ خَالِدٌ جَعَل يَبكِي، وَقَالَ: لَقَد شَهِدتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ المَعَارِكِ زَحفًا، وَمَا فِي جَسَدِي مَوضِعُ شِبرٍ إِلاَّ وَفِيهِ ضَربَةٌ بِسَيفٍ، أَو رَميَةٌ بِسَهمٍ، أَو طَعنَةٌ بِرُمحٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتفَ أَنفِي كَمَا يَمُوتُ البَعِيرُ، فَلاَ نَامَت أَعيُنُ الجُبَنَاءِ (¬4)؛ لقد تمنى خالد الشهادة ونرجو أن الله بلغه إياها. روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف عن أبيه عن جده: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (¬5). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 378). (¬2) سير أعلام النبلاء (1/ 375). (¬3) ذكره الحافظ في المطالب العالية (4041). (¬4) سير أعلام النبلاء (1/ 382). (¬5) صحيح مسلم برقم (1909).

وعند وفاته لم يترك إلا فرسه وسلاحه وغلامه، جعلها في سبيل الله، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال: رَحِمَ اللهُ أَبَا سُلَيمَانَ كَانَ عَلَى مَا ظَنَنَّا بِهِ (¬1). وجاء في حديث عمر بن الخطاب في الزكاة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُم تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيل اللهِ» (¬2). وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين من الهجرة في مدينة حمص الشامية، وعمره آنذاك ثمانية وخمسون عامًا (¬3). رضي الله عن خالد وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 383). (¬2) صحيح البخاري برقم (1468). (¬3) سير أعلام النبلاء (1/ 383).

الكلمة التاسعة والخمسون: مقتطفات من سيرة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

الكلمة التاسعة والخمسون: مقتطفات من سيرة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي وُلِدَ قبل البعثة بعشر سنين، وتربّى في بيت النبوة، وهو أول من أسلم من الصبيان، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُوْنَ مِنِّيْ بِمَنْزِلَةِ هَارُوْنَ مِنْ مُوْسَى؟ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» (¬1)، وقال له أيضًا: «لاَ يُحِبُّكَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضُكَ إِلاَّ مُنَافِقٌ» (¬2)، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدا غزوة تبوك، وقد اشتهر بالفروسية والشجاعة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فقد بشَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وهو على قيد الحياة، إِنَّه فارس الإِسلام أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، وله قرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها. وصفه أهل السير بأنه كان أسمر اللون، كثيف شعر اللحية، ربعة من الرجال، ضخم البطن، حسن الوجه، إلى القصر أقرب، ويكنى أبا الحسن أو أبا تراب (¬3). وقد كانت لهذا الصحابي مواقف بطولية رائعة تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدين، فمنها أنه بات في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الهجرة، ¬

(¬1) قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم (2404). (¬2) صحيح مسلم برقم (78). (¬3) تاريخ الخلفاء (ص: 132، 133).

وعرض نفسه للقتل فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أول من بارز في سبيل الله مع حمزة - رضي الله عنه - وعبيدة بن الحارث، وهو من النفر القلة الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد. ومنها ما حدث في غزوة الخندق عندما اقتحم عمرو بن ود بفرسه، وكان فارسًا من فرسان العرب المشهورين، وطلب من المسلمين المبارزة وهو مقنع بالحديد، فقال: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون إليَّ رجلاً. فخرج إليه علي بن أبي طالب، فقال: ارجع يا ابن أخي ومن أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال له علي بن أبي طالب: ولكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضبًا، واستقبله عليٌّ بدرقته وضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التكبير فعرف أن عليًّا قتله وهو يقول: نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَايهِ ... وَنَصَرْتُ رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَاب لاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ خَاذِلَ دِينَهُ ... وَنَبِيَّهُ يَا مَعْشَرَ الأَحْزَاب ومن مواقفه العظيمة أن خيبر لما استعصت على جيوش المسلمين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ،

ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيْهِ، فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُوْنَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬1). فلما وصل علي خرج له ملكهم مرحب وهو يخطر بسيفه ويقول: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاَحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهَةِ الْمَنْظَرَهْ أَكِيلُكُم بِالسَّيفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ فاختلف علي ومرحب ضربتين، فأما ضربة علي فكانت القاضية وفتح الله عليه. ومع شجاعته العظيمة فقد كان من علماء الصحابة، ومن دهاة العرب، فقد جيء بامرأة إلى عمر وقد ولدت غلامًا لستة أشهر فأمر برجمها. فقال له علي: يا أمير المؤمنين ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]؟ فالحمل ستة أشهر والفصال وهو الفطام في عامين. فترك عمر رجم المرأة وكان يقول: قضية ولا أبا الحسن لها. وكان - رضي الله عنه - شديد الورع فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث أبي عمرو بن العلاء عن أبيه قال: خطب علي فقال: أيها الناس والله الذي لا إله إلا هو ما رزأت (¬2) من مالكم قليلاً ولا كثيرًا إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب فقال: أهداها إلي الدهقان (¬3)، ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2406). (¬2) أي: ما أخذت. (¬3) (42/ 480).

وروى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبًا في هذا المال، وأنت تفعل بنفسك هذا؟ فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئًا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي، أو قال: من المدينة (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن زرير أنه قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: حسن: يوم الأضحى - فقرب إلينا خزيرة (¬2)، فقلت: أصلحك الله، لو قربت إلينا من هذا البط - يعني الوز - فإن الله عز وجل قد أكثر الخير، فقال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاَ يَحِلُّ لِلخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلاَّ قَصعَتَانِ، قَصعَةٌ يَأكُلُهَا هُوَ وَأَهلُهُ، وَقَصعَةٌ يَضَعُهَا بَينَ يَدَي النَّاسِ» (¬3). ومن أقواله العظيمة أنه كان يقول: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله). ومن أقواله أيضًا: (خمس خذوهن عني: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له) (¬4). وقيل: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا، قال: (ما أصف لكم من ¬

(¬1) (1/ 82). (¬2) لحم يقطع صغاراً ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُرَّ عليه الدقيق. (¬3) (2/ 19)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (362). (¬4) تاريخ الخلفاء (ص: 147).

دار، من افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، ومن صح فيها أمن، حلالها الحساب، وحرامها العقاب). وقال أيضًا: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والنقص في اللذة: قيل وما النقص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلال إلا جاء ما ينغصه إياها (¬1). قال ابن كثير: ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا بقتله، فكان كما أخبر سواء بسواء (¬2). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسُ رَجُلَيْنِ؟ قُلنَا: بَلَى يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: أُحَيْمِرُ ثَمُوْدَ الَّذِيْ عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ، يَعْنِيْ قَرْنَهُ، حَتَّى تبلَّ مِنْهُ هَذِهِ، يَعْنِيْ لِحْيَتَهُ» (¬3). وكان قتله - رضي الله عنه - على يد الشقي الخارجي عبد الرحمن بن مُلجم سنة أربعين من الهجرة، في السابع عشر من شهر رمضان، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. قال الذهبي رحمه الله: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار، وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل (¬4). ¬

(¬1) تاريخ الخلفاء (ص: 144). (¬2) البداية والنهاية (9/ 204). (¬3) مسند الإمام أحمد (30/ 257) برقم (18321)، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬4) تاريخ الإسلام (ص: 654).

وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده من طريق عمرو ذي مر قال: لما أصيب علي بالضربة، دخلت عليه وقد عصب رأسه، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أرني ضربتك. قال: فحلها، فقلت: خدش وليس بشيء. قال: إني مفارقكم. فبكت أم كلثوم من وراء الحجاب، فقال لها: اسكتي، فلو ترين ما أرى لما بكيت. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا ترى؟ قال: هذه الملائكة وفود، والنبيون، وهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا علي أبشر فما تصير إليه خير مما أنت فيه» (¬1). وقد رثاه أبو الأسود الدؤلي، وبعضهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية: أَلاَ يَا عَينُ ويحك أَسْعِدينا ... أَلاَ تَبْكِي أَمِيرَ المُؤمِنِينَا تُبكِّي أُمُّ كُلْثُوم عَلَيهِ ... بعَبرَتها وَقد رأت اليَقِينَا أَلاَ قُل لِلخَوَارِج حيثُ كَانُوا ... فَلا قَرَّت عُيُونُ الشَّامِتِينَا أَفِي الشَّهر الحَرَام فَجعتُمُونَا ... بِخَير النَّاس طُرًّا أَجمَعِينَا قَتَلتُم خير من ركب المَطَايَا ... فَذَللها ومن رَكِبَ السَّفِينا ومَن لبسَ النِّعال ومن حَذَاها ... ومن قرأ المثانِي والمُبِينا وكل مُنَاقب الخيراتِ فيه ... وحُب رسُول رَبّ العَالَمِينَا لقد علِمت قُريشُ حيثُ كانُوا ... بأَنَّك خَيْرُها حَسبًا ودِينَا كأن الناس إذ فَقَدوا عَليًّا ... نَعَامُ حَارَ في بلدٍ سِنِينَا رضي الله عن علي، وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) أُسد الغابة (3/ 303).

الكلمة الستون: الصبر

الكلمة الستون: الصبر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (بيَّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة) (¬1). اهـ. وقد ذكر الله الصبر في مواضع عديدة من كتابه، وأضاف إليه كثيرًا من الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد ذكر الله الصبر في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. وجعل الإِمامة في الدِّين موروثة عن الصبر واليقين، بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فإن الدين كله علم بالحق، وعمل به، والعمل به لابد فيه من الصبر، وطلب علمه يحتاج إلى الصبر) (¬2). اهـ. قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 196). (¬2) بصائر ذوي التمييز (3/ 376).

ومن الأدلة على أهمية الصبر أن الله أمر به رسوله أول ما أَوْحَى إِليه، وأمره بالإِنذار، فقال: {يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]. وفي قوله: ولربك فاصبر إشارة إلى إخلاص الصبر لله تعالى، لا ليُقال صبور، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ} [الرعد: 22] الآية. قال بعض السلف: (عجبًا للصبر تداوى به الأَشياء ولا يُداوى بشيء). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالْصَّبْر ضِيَاءٌ» (¬2) وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالْصَّبْرِ (¬3). وقال علي - رضي الله عنه -: إن الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له (¬4). والصبر هو حبس النفس على الطاعة، وكفها عن المعصية، والرضى بقضاء الله وقدره دون شكوى فيه ولا معه. قال ابن القيم: «الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (6470)، وصحيح مسلم برقم (1053). (¬2) قطعة من حديث أخرجه مسلم في صحيحه برقم (223). (¬3) الدر المنثور (1/ 163). (¬4) بصائر ذوي التمييز (3/ 376).

صبر الأوامر والطاعات حتى يؤدِّيها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها». اهـ (¬1). فأما الصبر على طاعة الله، فإن النفس لا تستقيم على أمر الله بيسر وسهولة، فلا بد من ترويضها وكبح جماحها، وهذا يحتاج إلى اصطبار قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقال تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث عتبة بن غزوان أخي بني مازن بن صعصعة وكان من الصحابة: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنْ مِنْ وَرَاءِكُمْ أَيَّامُ الصَّبْرِ المُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: «بَلْ مِنْكُمْ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ». أَوْ قَالَ: «عَلَى الشَّوْكِ» (¬3). ويدخل في ذلك الصبر على الطاعات الواجبة والسنن المشروعة، ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 163). (¬2) معجم الطبراني الكبير (17/ 117) برقم (289)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (494). (¬3) مسند الإمام أحمد (15/ 34) برقم (9073)، وقال محققوه: حديث صحيح.

والدعوة إلى الله، وطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك. ثانيًا: الصبر عن معصية الله فإن العبد محتاج إلى الصبر عن ملذات الدنيا وشهواتها المحرمة، قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]. قال بعض المفسِّرين: صبروا عن معصية الله (¬1). ثالثًا: صبر على أقدار الله كفراق الأحبة، وخسارة المال، وزوال الصحة، وسائر أنواع البلاء، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. روى الترمذي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشدُّ بلاء؟ قال: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الْرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِيْنِهِ، فَإِن كَانَ فِي دِيْنِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِن كَانَ فِي دِيْنِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِيْنِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيْئَةٌ» (¬2). قال الشاعر: وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ ... لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ العَسَل وقال آخر: واصبِر على القَدَرِ المحتُوم وَارْض بِهِ ... وإن أَتَاكَ بِمَا لاَ تَشْتَهِي القَدَرُ فَمَا صَفَا لامرِئٍ عَيْشٌ يُسرُّ بِهِ ... إِلاَّ سَيَتْبَعُ يَوْمًا صَفْوه كَدَرُ ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (21/ 469). (¬2) سنن الترمذي برقم (2398) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وينبغي للمسلم أن يصبر عند أول سماعه للمصيبة، وأن يسترجع ربه. وأن يذكر مصابه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. روى الدارمي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: «اتَّقِّي اللهَ وَاصْبِرِي» قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي - ولم تعرفه -، فقيل لها: إنَّه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِن مُسْلِمٍ تُصِيْبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُوْلُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا لِله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيْبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَخْلَفَ اللهُ لَه خَيْرًا مِنْهَا» قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أولُ بيت هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). لكن لا يشرع للمسلم أن يسأل الله الصبر قبل وقوع البلاء، ولكن يسأل الله العافية. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 53)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (347). (¬2) صحيح البخاري برقم (1283)، وصحيح مسلم برقم (926). (¬3) صحيح مسلم برقم (918).

النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً وهو يقول: اللهم إنِّي أسألك الصبر، فقال: «قَد سَأَلْتَ الْبَلاَءَ فَسَلِ الله الْعَافِيَةَ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (36/ 348) برقم (22017)، وقال محققوه: إسناده حسن.

الكلمة الحادية والستون: عذاب القبر ونعيمه

الكلمة الحادية والستون: عذاب القبر ونعيمه الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَحَدَكُم إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِن كَانَ مِن أَهْلِ الْجَنَّة فَمِن أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِن كَانَ مِن أَهْلِ النَّارِ فَمِن أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). فهذا الحديث أحد نصوصٍ كثيرة من القرآن والسنة تثبت عذاب القبر ونعيمه، وأنه حق يجبُ الإِيمان به والاستعداد له. قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} [الواقعة: 88 - 95]. قال ابن كثير: هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند الاحتضار، إما أن يكون من المقربين، وإما أن يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1379)، وصحيح مسلم برقم (2866).

فقوله فروح وريحان وجنت نعيم، أي: فلهم روح وريحان، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت. اهـ (¬1). وقد استدل بعض العلماء على أن عذاب القبر حق يجب الإِيمان به، بقوله تعالى عن آل فرعون {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46]. قال ابن كثير: فإن أرواحهم تعرض على النار صباحًا ومساءً، إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُوْنَ فِيْ الْقُبُوْرِ مِثْلَ أَوْ قَرِيْبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ المُوقِن لاَ أَدرِي أي ذلك قالت أسماء - فَيَقُوْلُ: مُحَمَّدُ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوْقِنًا، وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ (لاَ أَدْرِيْ أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ) فَيَقُوْلُ: لاَ أَدْرِيْ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُوْلُوْنَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر، فقال: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (13/ 396). (¬2) تفسير ابن كثير (12/ 193) بتصرفز (¬3) صحيح البخاري برقم (1053)، وصحيح مسلم برقم (905).

«نَعَم عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ» قَالَت عَائِشَة: فَمَا رَأَيْت رَسُوْل اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً، إِلاَّ تَعَوَّذَ مِن عَذَابِ الْقَبْرِ (¬1). وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُمته صورة هذا الابتلاء الذي يكون في القبر. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِيْ قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُوْلاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُوْلُ فِيْ هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَيَقُوْلُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُوْلُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: فَيَرَاهُمَا جَمِيْعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ - أَوِ الْمُنَافِقُ - فَيَقُوْلُ: لاَ أَدْرِيْ، كُنْتُ أَقُوْلُ مَا يَقُوْلُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيْدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيْهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. قال: «نَزَلَتْ فِيْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُوْلُ: رَبِّيَ اللهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عز وجل: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}» [إبراهيم: 27] (¬3). وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يستغفروا للميت، ويسألوا له الثبات، روى أبو داود في سننه من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1372)، وصحيح مسلم برقم (584). (¬2) صحيح البخاري برقم (1338)، وصحيح مسلم برقم (2870) مختصراً. (¬3) صحيح مسلم برقم (2871).

من دفن الميت وقف عليه وقال: «اسْتَغْفِرُوْا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيْتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ» (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر الاستعاذة من عذاب القبر، وأمر بذلك أصحابه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ هَذِه الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُوْرِهَا، فَلَوْلاَ أَن لاَ تَدَافَنُوَا لَدَعَوْتُ اللهَ أَن يُسْمِعَكُم مِن عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ». ثم أقبل علينا بوجهه: فقال: «تَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِن عَذَابِ النَّارِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِن عَذَابِ النَّارِ، فقال: تَعَوَّذُوْا بِاللهِ مِن عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِن عَذَابِ الْقَبْرِ» (¬2). والقبر أول منزل من منازل الآخرة، روى الترمذي في سننه من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِل مِن مَنَازِلِ الآَخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ الْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» (¬3). وفي القبر ضمة لا يسلم منها أحد. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا، نَجَا مِنهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» (¬4). ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (3221) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 620) برقم (2758). (¬2) صحيح مسلم برقم (2867). (¬3) سنن الترمذي برقم (2308)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 267) برقم (1878). (¬4) مسند الإمام أحمد (4/ 327) برقم (24283)، وقال محققوه: حديث صحيح.

وروى النسائي في سننه من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن سعد بن معاذ: «هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ» (¬1). قال الشافعي: يومُ القيامةِ لا مالٌ ولاَ وَلَدُ ... وَضَمَّةُ القَبْرِ تُنسي لَيلَةَ العُرس ليتصور كل واحد منا نفسه وقد حُمل على أكتاف الرجال، ووُضع في هذه الحفرة الضيقة المظلمة التي لا أنيس فيها، ولا جليس، ولا مال، ولا بنون، وأصبح القبر مسكنه، والتراب فراشه والدود أنيسه، في ذاك الموقع لا تنفع الأموال، ولا المناصب، ولا الشهادات، قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} [سبأ: 37]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ، وَمَالُهُ، وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (¬2). فينبغي للمؤمن أن يتدارك نفسه وأن يبادر بالتوبة النصوح؛ وأن يلزم نفسه بالطاعة والتقوى، وأن يكون على استعداد للقاء ربه. قال الشاعر: تَزَوَّد من التَّقوَى فَإنَّكَ لا تَدْرِي ... إِذا جَنَّ ليلٌ هل تَعيش إلى الفَجر فَكَم من فتًى يُمسيِ ويُصبحُ لاَهِيًا ... وقد نُسجتَ أكْفَانُهُ وَهُوَ لاَ يَدْرِي وكم من صحيح مَاتَ من غير علَّةٍ ... وكم من سقيم عاش حينًا من الدَّهر ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري برقم (6514)، وصحيح مسلم برقم (2960).

وكم من صِغَارٍ يرتجى طُولُ عُمُرهم ... وقد أُدْخِلَتْ أجسَادُهُم ظُلمةَ القَبر وأختم بهذه البشارة، قال ابن كثير رحمه الله وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة، تسرح أيضًا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد اللَّه لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، فإن الإمام أحمد بن حنبل رواه عن محمد بن إدريس الشافعي ورواه الشافعي عن مالك بن أنس ومالك عن الزهري عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا نَسْمَةُ الْمؤْمِنِ طَائرٌ يَعْلَقُ (¬1) في شجَر اَلجَنَّة حتى يُرجِعُهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعثُهُ» (¬2) (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) أي يأكل. (¬2) مسند الإمام أحمد (25/ 58)، قال محققوه: إسناده صحيح ما فوق الإمام الشافعي على شرط الشيخين. (¬3) تفسير ابن كثير (3/ 263).

الكلمة الثانية والستون: فضل الدعوة إلى الله

الكلمة الثانية والستون: فضل الدعوة إلى الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء عليهم السلام في سورة النساء، ثم قال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]. فبيَّن تعالى في هذه الآية وظيفتهم، وهي دعوة الناس إلى الله تعالى تبشيرًا بالخير، وتحذيرًا من الشر، قال تعالى لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * دَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] ثم أمره أن يبين لأمته أن هذه وظيفته ووظيفة أتباعه، فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. فالرسل وأتباعهم مأمورون بدعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، وإنذارهم عن الشرك به ومعصيته، وهذا مقام شريف، ومرتبة عالية لمن وفقه الله تعالى للقيام بها على الوجه الذي يُرضي الله تعالى. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. ولما عرف الصالحون شرف هذه المهمة حرصوا عليها، فلم

يسيروا إليها مشيًا؛ بل سعوا لها سعيًا، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} [يس: 20]. روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ لَمَّا أرسله لقتال اليهود في خيبر: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيْهِ. فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُوْنَ لَكَ حُمْرُ الْنَّعَمِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُوْرِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُوْرِهِمْ شَيْئًا» (¬2)، فتأمَّل أخي هذا الفضل العظيم، فإنَّ الداعي إلى الله يجري له ثواب من اهتدى بدعوته وهو نائم في فراشه، أو مشتغل في مصلحته؛ بل إن ذلك يجري له بعد موته، لا ينتهي ذلك إلى يوم القيامة. وبعد ما تقدَّم أذكِّر نفسي وإخواني ببعض الوصايا، التي أرجو أن تكون علامات يستنيرون بها في طريق الدعوة إلى الله. أولاً: أوصي الداعية إِلى الله بالإِخلاص في دعوته، وقد أرشد تعالى إلى ذلك بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]. قال الشيخ الإِمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وفيه مسائل منها: ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2406). (¬2) صحيح مسلم برقم (2674).

التنبيه على الإِخلاص؛ لأن كثيرًا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه (¬1)، قال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء. وهذا موسى عليه السلام لما أمره الله بدعوة فرعون سأل ربه أن يرزقه حسن الإِبانة عما يريد، لا ليُقال خطيبًا أو فصيحًا كما أخبر سبحانه أنه قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]. ثانيًا: على الداعي إلى الله أن يتزود بالعلم الشرعي، كما قال تعالى لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فإنه بهذا تكون دعوته أقرب إلى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحري بمن كان كذلك أن تستجاب دعوته. قال ابن القيم رحمه الله: وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد، وأجلها، وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى أقصى حد يصل إليه السعي، ويكفي في هذا شرف العلم، أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء (¬2). اهـ. ثالثًا: دل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]: أن من توفر فيه هذان الأمران، كانت دعوته واجبة القبول. وهما: ألا يأخذ على دعوته أجرًا سوى ما يرجوه من ربه (¬3)، وأن يكون من المهتدين، وذلك يشمل هدايته في دعوته وهدايته في نفسه، وفي ضمن هذا التنبيه للدَّاعي إلى الله كما يدعو الناس بقوله أن يدعوهم بعمله. ¬

(¬1) كتاب التوحيد (ص: 16). (¬2) التفسير القيم (ص: 319). (¬3) ولا يدخل في ذلك ما يأخذه من كلف بالدعوة من أجر من بيت المال.

رابعًا: الصبر في سبيل الدعوة إلى الله، كما قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]. ومن لوازم الصبر ألا يستطيل الطريق، ولا يستعجل النتائج. روى البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردته في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِيْ الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيْهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوْضَعُ عَلَى رَاسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيْدِ ما دُوْنَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِيْنِهِ. وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيْرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُوْنَ» (¬1). خامسًا: يجب أن يعلم الدعاة وغيرهم أن دعوة الإِسلام دعوة عالمية، يجب أن تنتشر، وأن تبلَّغ إلى الناس جميعًا، في مشارق الأرض ومغاربها؛ لتقوم الحجة على العباد، ولكي تصل دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى كل من بعث إليهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]. وقد علم الدعاة المصلحون ورثة الرسل هذه الحقيقة، فقاموا وبينوها للناس امتثالاً لأمر ربهم حين قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6943).

قال سماحة الشيخ الإِمام العلامة ابن باز رحمه الله: الواجب على جميع القادرين من العلماء وحكام المسلمين والدعاة الدعوة إلى الله، حتى يصل البلاغ إلى العالم كافة في جميع أنحاء المعمورة، وهذا هو البلاغ الذي أمر الله به، قال الله تعالى لنبيه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]. فالرسول عليه البلاغ، وهكذا الرسل جميعًا عليهم البلاغ وعلى أتباع الرسل أن يبلغوا. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَلِّغُوْا عَنِّي وَلَو آيَةً» (¬1). وليس بخافٍ على كل من له أدنى علم أو بصيرة أن العالم الإِسلامي اليوم، بل العالم كله في أشد الحاجة إلى الدعوة الإِسلامية الصحيحة، التي تشرح للناس حقيقة الإِسلام، وتوضح لهم أحكامه ومحاسنه، وبذلك يتضِّح لكل طالب علم أن الدعوة إلى الله من أهم المهمات، وأن الأمة في كل زمان ومكان في أشد الحاجة إليها؛ بل في أشد الضرورة إلى ذلك، فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوادعوة الله؛ وأن يصبروا على ذلك، وأن تكون دعوتهم نابعة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة، وعلى طريقة الرسول وأصحابه ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم (¬2). وقال أيضًا: فعند قلة الدعاة وكثرة المنكرات وغلبة الجهل كحالنا ¬

(¬1) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (3461). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (1/ 248، 333) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1959، 1960).

اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها من تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة؛ لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره، ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقتهم وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة، وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (1/ 332).

الكلمة الثالثة والستون: تربية الأبناء

الكلمة الثالثة والستون: تربية الأبناء الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من أكبر الأمانات، وأعظم المسؤوليات تربية الأولاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أدبوهم وعلموهم الخير، وعلى الأب أن يراعي في التربية الأمور التالية. أولاً: اختيار الزوجة الصالحة، وهي أول خطوة من خطوات التربية، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬2). ثانيًا: الإِخلاص لله في التربية واحتساب الأجر على الله فيما يبذل فيها من جهد أو مال، لا ليقال إنه أحسن فيها، أو يشار إليه بالبنان، قال ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5090)، وصحيح مسلم برقم (1466) واللفظ له. (¬2) صحيح مسلم برقم (1467).

تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (¬1). فالتربية عبادة من أَجَلِّ العبادات، لما يترتب عليها من منافع خاصة وعامة، ولما فيها من المشقة والعناء. ثالثًا: تعويد الأولاد على العبادات وحثِّهم عليها بالرفق والحسنى منذ الصغر؛ ليألفوها ويحبوها، قال تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] الآية. روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (¬2). وفي رواية: «عَلِّمُوْا الْصَّبِيَّ الصَّلاَةَ ابْنَ سَبْعِ سِنِيْنَ، وَاضْرِبُوْهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرٍ» (¬3). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن كان عنده صغير، أو مملوك، أو يتيم، فلم يأمره بالصلاة فإنه يُعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويعزر الكبير تعزيرًا بليغًا؛ لأنه عصى الله ورسوله (¬4). اهـ. وقال ابن القيم رحمه الله: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإِساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1)، وصحيح مسلم برقم (1907). (¬2) سنن أبي داود برقم (495)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 97) برقم (466). (¬3) سنن الترمذي برقم (407)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) الفتاوى (22/ 51).

وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدِّين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا (¬1). اهـ. رابعًا: تجنيبهم المحرمات والمنكرات، وتحذيرهم منها، وغرس بغضها في قلوبهم لما تجره عليهم من ويلات في الدنيا والآخرة، وبعض الآباء لا يهتم بهذا، بحجة أنهم صغار وغير مكلفين، وهذا خلاف ما كان عليه المعلم الناصح - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كِخٍ، كِخٍ» لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَاكُلُ الصَّدَقَةَ؟ ! » (¬2). خامسًا: القدوة الحسنة، وهي من ضروريات التربية، فمعلوم أن الابن يعجب بأبيه ويحب تقليده والاقتداء به، فيجب على الآباء والأمهات والمربين أن لا تخالف أقوالهم أفعالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]. وقال تعالى عن نبي الله شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ} [هود: 88]. قال الشاعر: لاَ تَنْهَ عَن خُلُقٍ وَتَاتِيَ مِثلَهُ ... عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ سادسًا: إبعادهم عن جلساء السوء، وتوجيههم إلى مصاحبة الأخيار والصالحين. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) تحفة المودود في أحكام المولود (ص: 80). (¬2) صحيح البخاري برقم (1491).

قال: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (¬1). وبعض الآباء هدانا الله وإياه لا يعرف أين يذهب أبناؤه، ولا من يصاحبون، ولا كيف يقضون أوقاتهم، وربما جعل هذه المهمة خاصة بالأم، ومعلوم أن الأم لاتستطيع متابعتهم في أكثر الأحوال، وأعظم وأقبح من ذلك تولية الخدم والسائقين تربية الأولاد وتوجيههم فإلى الله المشتكى. سابعًا: إلحاق الابن بحلقات تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في المساجد. روى البخاري في صحيحه من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (¬2). ثامنًا: حماية الأبناء من وسائل الإِعلام السيئة، فمن العوامل التي تؤدِّي إلى انحراف الأولاد وتدفعهم إلى ارتكاب الجريمة والسير في مهاوي الرذيلة، ما يشاهدونه في القنوات الفضائية وعلى شاشة التلفاز، من أفلام خليعة، وتمثيليات هابطة، وكذلك أفلام الكرتون السيئة التي تحتوي على كثير من المخالفات الشرعية في العقيدة والسلوك، مع تساهل كثير من الناس بها، وغفلتهم عما تحتويه من الشرور العظيمة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (4833)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 917) برقم (4046). (¬2) صحيح البخاري برقم (5027).

يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن الغش: إدخال هذه الأجهزة التي تفسد عليهم دينهم وأخلاقهم. تاسعًا: تعليمهم أمور الإِسلام والإِيمان وغرس تعظيم الله في قلوبهم، وحبهم له، وتحبيب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وبيان فضله وفضل الاقتداء به، وتعليمهم الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة كآداب اللباس، والمسجد، والطعام والشراب وأذكار الصباح والمساء، واحترام الكبير، والأدب مع الزملاء والأصدقاء، وتعويدهم على الكلام الحسن وتجنيبهم الألفاظ القبيحة، والنظافة في البدن والثياب، وغير ذلك من جميل الآداب وكريم الخصال. عاشرًا: تعويدهم على النوم مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا وشغل أوقاتهم بما ينفعهم والإِذن لهم في اللعب المباح في أوقات محددة حتى لا يملوا. الحادي عشر: أن يكون الأب رفيقًا في تعامله معهم. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ» (¬2)، وأَن يعدل بينهم في كل شيء، في كلامه وسلامه، ونفقته، وعطاياه، وغيرها مما يحتاجون إليه حتى لا تقع الغيرة بينهم. روى مسلم في صحيحه من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7150)، وصحيح مسلم برقم (142) واللفظ له. (¬2) صحيح مسلم برقم (2594). (¬3) قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم (1623).

الثاني عشر: أن يعلم الأب أن الهداية بيد الله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، وإنما عليه هداية الدلالة والإِرشاد، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]. وعليه أن يكثر من الدعاء لهم بالصلاح والهداية، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. وليحذر من الدعاء عليهم. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (3009). (¬2) مطوية في تربية الأبناء للشيخ عبداللطيف بن باجس الغامدي.

الكلمة الرابعة والستون: خطورة الاستهزاء بالدين

الكلمة الرابعة والستون: خطورة الاستهزاء بالدِّين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من الذنوب العظيمة التي تخرج فاعلها من دائرة الإِسلام وتوجب له الخلود في نار جهنم الاستهزاء بالله أو رسوله أو كتابه أو المؤمنين، وحيث إن الموضوع واسع المجال لمن أراد أن يتكلَّم فيه، رأيت إيجاز القول في العناصر التالية: 1 - تعريف الاستهزاء وذكر أمثلة لذلك. 2 - حكم الاستهزاء وبيان الأدلة على كفر المستهزئين وأقوال أهل العلم في ذلك. 3 - حكم توبة المستهزئ وهل تُقبل أم لا؟ 4 - صور من الاستهزاء في وقتنا المعاصر. أما تعريفه: فإن الاستهزاء لغة: مصدر من قولهم استهزأ يستهزئ، وهو مأخوذ من مادة (هـ - ز - أ) التي تدل على السخرية، أو على مزح في خفية، أو على السخرية واللعب (¬1). اهـ. قال بعض أهل العلم: ينقسم الاستهزاء إلى قسمين - الاستهزاء الصريح، كالذي نزلت الآية فيه، وهو قولهم: ما رأينا مثل قُرّائنا هؤلاء، ¬

(¬1) ابن فارس في المقاييس (6/ 52)، مفردات الراغب (ص: 540).

أرغب بطونًا، أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين، وقول بعضهم: دينكم هذا دين خامس. وقول الآخر: دينكم أخرق، وقول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: جاءكم أهل الدِّيك، من باب السخرية بهم، وما أشبه ذلك مما لا يُحصى، إلا بكلفة مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية (¬1). قال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله -: ومثل هذا ما يقوله بعضهم: إن الإِسلام لا يصلح للقرن العشرين، وإِنَّما يصلح للقرون الوسطى، وإِنَّه تأخر ورجعية، وأَن فيه قسوة ووحشية في عقوبات الحدود والتعازير، وأنه ظلم المرأة حقها حيث أباح الطلاق وتعدد الزوجات، وقولهم: الحكم بالقوانين الوضعية أحسن للناس من الحكم بالإِسلام، ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد وينكر عبادة القبور والأضرحة: هذا متطرِّف، أو يريد أن يفرق جماعة المسلمين، أوهذا وهابي، أو مذهب خامس أو الدين ليس في الشعر استهزاء بإعفاء اللحية، وما أشبه هذه الأقوال التي كلها سب للدين وأهله واستهزاء بالعقيدة الصحيحة (¬2). اهـ. 2 - الاستهزاء غير الصريح، وهو البحر الذي لا ساحل له مثل الغمز بالعين، وإِخراج اللسان، ومد الشفة، والغمز باليد عند تلاوة كتاب الله، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬3). أما حكم الاستهزاء فإنه كفر، وهو من نواقض الإِسلام العشرة كما ذكر ذلك أهل العلم، وهو من أعظم صفات المنافقين والأدلة على ذلك كثيرة، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ ¬

(¬1) مجموعة التوحيد (ص: 409). (¬2) كتاب التوحيد (ص: 47). (¬3) مجموعة التوحيد (ص: 409).

وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 29 - 32]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]. وسبب نزول هذه الآية عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة: دخل حديث بعضهم في بعض، أن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فقال: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاَءِ أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلاَ أَكْذَبَ أَلْسُنًا، وَلاَ أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ» وهو يعني بقوله هذا: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء رضي الله عنهم، فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر: فكأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «{أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]، مَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَمَا يَزِيْدُ عَلَيْهِ» (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (5/ 4036) برقم (16970)، وقال الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في كتابه الصحيح المسند من أسباب النزول (ص: 126): الحديث رجاله رجال الصحيح إلا هشام ابن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في الميزان، وله شاهد بسند حسن عند ابن أبي حاتم (4/ 64) من حديث كعب بن مالك. (¬2) الفتاوى (7/ 273).

قال الإِمام النووي رحمه الله: ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: بسم الله استخفافًا بالله تعالى كفر (¬1). وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه «التوحيد»: باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول، وفيه مسائل: الأولى وهي العظيمة: أن من هزل بهذا كافر (¬2). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد ابن عبد الوهاب: أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من ذلك، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر، ولو هازلاً، لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا (¬3). اهـ. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: «الذي يبغض اللحية ويقول وساخة، هل هو مرتد؟ فأجاب: إن كان يعلم أنه ثابت عن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا استهزاء بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فحريٌّ أن يحكم عليه بذلك» (¬4). وإن من الردة عن دين الله: ما يتلفظ به بعض أبناء المسلمين من كلمات كفرية، يخرجون بها من دين الإِسلام وهم لا يشعرون. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا (¬5) يَهْوِي ¬

(¬1) روضة الطالبين (10/ 67). (¬2) (ص: 58). (¬3) تيسير العزيز الحميد (ص: 617). (¬4) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (11/ 195). (¬5) أي ما يتفكر هل هي خير أو شر؟

بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (¬1). أما عن توبة المستهزئ، فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه «القول المفيد في شرح كتاب التوحيد»: وقد اختلف أهل العلم فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه، هل تقبل توبته أم لا؟ على قولين: الأول: أنها لا تقبل توبته، بل يقتل كافرًا ولا يُصلى عليه ولا يدعى له بالرحمة، وهو المشهور عند الحنابلة. الثانية: أنها تُقبل توبته إذا علمنا صدقه وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم (¬2). ومن صور الاستهزاء التي نرى ونسمع وللأسف في هذه الأيام، هذه المقالات السيئة والرسوم الساخرة، التي تكتب في الجرائد والمجلات والكتب، ويزعمون أنها للتسلية وفيها الكفر والردة عن الدِّين. أحدهم رسم ديكًا تتبعه أربع دجاجات يقصد السخرية من تعدد الزوجات، وآخر كتب مقالاً تهجم فيه على الحجاب، وزعم أنه تخلف ورجعية، وآخر سوَّل له الشيطان سوء عمله فجعل القرآن شعرًا يتغنى به على أنغام الموسيقى. نسأل الله السلامة والعافية. وينبغي أن يعلم أنه يجب الإِنكار على هؤلاء المستهزئين وتنبيههم على عظيم جرمهم وخطورته، فإن لم يستجيبوا فلا يجوز الجلوس معهم في مجلس واحد، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6477)، وصحيح مسلم برقم (2988). (¬2) (2/ 268) بتصرف.

سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن الصحف والمجلات والكتب التي تنشر المقالات الإلحادية والصور الخليعة وتشيد بالكفار والفجار وأهل الفن، وهل يجوز شرائها أو بيعها أو الترويج لها؟ فأجاب: الصحف التي هذا شأنها يجب أن تقاطع وأن لا تشترى ويجب على الدولة إذا كانت إسلامية أن تمنعها لأن هذه تضر المجتمع وتضر المسلمين فالواجب على المسلم أن لا يشتريها وأن لا يروجها وأن يدعو إلى تركها، وعلى المسؤولين الذين يستطيعون منعها أن يمنعوها (¬1). أ. هـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الموسوعة البازية في المسائل النسائية (2/ 1274).

الكلمة الخامسة والستون: وقفة مع حديث شريف

الكلمة الخامسة والستون: وقفة مع حديث شريف الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬1). هذا الحديث الشريف اشتمل على وصايا عظيمة وجمل نافعة، من هذا الملك الكريم جبريلَ عليه السلام، ينبغي أن نقف عندها وقفة تأمُّل وتدبُّر. فقوله: عش ما شئت: أي مهما طال عمرك في هذه الحياة فإن الموت نهاية كل حي ومصيره، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (5/ 463) برقم (7991)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 485): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم (73).

تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30 - 31]. قال كعب بن زهير: كُلُّ ابن أُنثىَ وإن طالَت سَلامتُهُ ... يَومًا على آلةٍ حَدباءَ مَحمُولُ وقال آخر: المَوتُ بابٌ وكُلُّ النَّاسِ داخِلُهُ ... فَلَيتَ شِعرِي بَعدَ المَوتِ مَا الدَّارُ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ (¬1)، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ (¬2). فَسَأَلَ اللهَ أَن يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ»، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ». ومن فوائد قوله: «عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ»: أن يعلم المؤمن أن الموت قد يأتيه بغتة وهو في غفلة عنه، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 - 11]. فينبغي للمؤمن أن يكون على استعداد للقاء ربه ولا يغتر بالحياة الدنيا. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [العنكبوت: 5]. ¬

(¬1) أي ضربه والمفهوم من الحديث أنه ضربه على عينه فأخرجها. (¬2) صحيح البخاري برقم (1339)، وصحيح مسلم برقم (2372).

وقال تعالى: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [فاطر: 5]. وقوله: «وَأَحْبِبْ مَنْ أَحبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» أي أحبب من شئت من زوجة، وأولاد، ومال ومنصب، وجاه، وغيرها، من متاع الدُّنيا فإنّك عما قريب ستفارقها. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (¬1). ومن فوائد الجملة السابقة: الاستعداد لفراق الأحبة، حتى إذا وقع يكون المؤمن قد تأهب لذلك فيخف وقعه عليه. ومنها: أن يهتم المؤمن للرفيق الذي لا يفارقه في الدنيا والآخرة، وهو عمله الصالح. قوله: «وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ». قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء: 123]. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وقد ذكّر الله بذلك فأعظم الذكر، فانظر إلى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6514)، وصحيح مسلم برقم (2960).

يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]. قوله: «وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ» فيه إشارة إلى تعويض المؤمن عما يفوته من شرف الدنيا المنهي عن الحرص عليه، فيرتفع ذكره ويشرف قدره بقيام الليل، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]. وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَلَيْكُم بِقِيَامِ الْلَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَابُ الصَّالِحِيْنَ قَبْلَكُم، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُم، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ» (¬1). وقوله: «وَعِزُّهُ استِغنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»، العزة مطلب لكل نفس أبية، وإن من أعظم أسباب نيل العزة: التعلق بمن العزة بيده سبحانه، وترك التعلق بمن دونه ممن لا يزيد التعلق بهم إلاَّ ذلاًّ وهوانًا. قال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. وقال تعالى: {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء: 138 - 139]. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (3549) وقال: وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 199 - 202) برقم (452).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» (¬1). وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسْتَغْنُوْا عَنِ النَّاسِ وَلَو بِشَوْصِ السِّوَاكِ» (¬2). قال الشاعر: لا تَسأَلَنَّ بُنَيَّ آدمَ حَاجَةً ... وَسَلِ الَّذِي أَبوَابُهُ لاَ تُحْجَبُ اللهُ يَغْضَبُ إِن تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغضَبُ وقال عمر - رضي الله عنه -: إِنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَإِنَّ الْيَاسَ غِنَى، إِنَّهُ مَنْ يَيْأَسْ عَمَّا فِيْ أَيْدِي النَّاسِ اسْتَغْنَى عَنْهُمْ (¬3). وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ يَبُلُّ الْخُبْزَ الْيَابِسَ بِالْمَاءِ وَيَاكُلُ، وَيَقُوْلُ: مَنْ قَنِعَ بِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَحَدٍ (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1469)، وصحيح مسلم برقم (1053). (¬2) الطبراني في الكبير (11/ 444) برقم (12257) وقال المنذري في كتابه: "الترغيب والترهيب" (1/ 636): رواه البزار والطبراني بإسناد جيد. (¬3) إحياء علوم الدين (3/ 239). (¬4) إحياء علوم الدين (3/ 239).

الكلمة السادسة والستون: زكاة الفطر

الكلمة السادسة والستون: زكاة الفطر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن العبادات التي أوجبها الله على المسلمين في هذا الشهر المبارك زكاة الفطر وقد شرعها الله للصائمين تطهيرًا للنفس من أدران الشح، وتطهيرًا للصائم مما قد يؤثر فيه، وينقص ثوابه من اللغو والرفث، ومواساة للفقراء والمساكين، وإظهارًا لشكر نعمة الله تعالى على العبد بإتمام صيام شهر رمضان وقيامه، وفعل ما تيسر من الأعمال الصالحة فيه. روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: فَرَضَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلمَسَاكِيْنِ (¬1). وتجب زكاة الفطر على كل مسلم ذكرًا كان أو أنثى حرًا كان أو عبدًا، إذا ملك المسلم صاعًا زائدًا عن حاجته وأهل بيته في يوم العيد وليلته. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: فَرَضَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ، وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ، وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ ¬

(¬1) قطعة من حديث في سنن أبي داود برقم (1609)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 303) برقم (1420).

بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ» (¬1). وإن أخرجها عن الحمل تطوعًا فلا بأس بذلك. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» (¬2)، وفي رواية عنه: «وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ» (¬3). وينبغي للمسلم أن يخرج أطيب هذه الأصناف وأنفعها للفقراء والمساكين فلا يخرج الرديء. قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]. وذهب بعض أهل العلم أمثال شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله إلى أنه يجزئ عن المسلم أن يخرج زكاة الفطر من غير الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد الخدري، ما دامت هذه الأصناف من جنس ما يقتات به أهل البلد مثل الأرز وغيره (¬4). والمراد بالصاع الوارد في زكاة الفطر أربعة أمداد، والمدُّ، أي: ملء كفي الرجل المتوسط اليدين من البُرِّ الجيد ونحوه، وهو ما يساوي ثلاثة كيلو تقريبًا (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1503)، وصحيح مسلم برقم (984). (¬2) صحيح البخاري برقم (1508)، وصحيح مسلم برقم (985). (¬3) صحيح البخاري برقم (1510). (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (25/ 68 - 69). (¬5) فتاوى اللجنة (9/ 365 - 371) برقم (5733 و 12572).

ولإِخراج زكاة الفطر وقتان: الأول: وقت يبدأ من غروب الشمس ليلة العيد، وأفضله ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فَرَضَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الفِطْرِ .... الحديث وفيه قَالَ: وَأَمَرَ بِهَا أَن تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوْجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَة (¬1). الثاني: وقت إجزاء، وهو قبل العيد بيوم أو بيومين، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِيهَا الَّذِيْنَ يَقْبَلُوْنَهَا، وَكَانُوْا يُعْطُوْن قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَو يَوْمَيْنِ (¬2). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» (¬3). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: إن أخَّرها بعد صلاة العيد فهي قضاء، ولا تسقط بخروج الوقت، وهو يأثم بذلك (¬4). وتعطى هذه الزكاة للفقراء والمساكين، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «طُعمَةً لِلمَسَاكِينِ»، ويجوز أن يعطي الجماعة أو أهل بيت زكاتهم لمسكين واحد، وأن تقسم صدقة الواحد على أكثر من مسكين للحاجة لذلك. ولا يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا، لنص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنواع ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1503)، وصحيح مسلم برقم (986). (¬2) صحيح البخاري برقم (1511). (¬3) سنن أبي داود برقم (1609)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 303) برقم (1420). (¬4) انظر جامع الفقه لابن القيم (3/ 69)، والشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين (6/ 173).

الأطعمة مع وجود قيمتها، فلو كانت القيمة مجزئة لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يعلم أن أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج زكاة الفطر نقودًا مع إمكان ذلك في زمانهم، وأيضًا إخراج القيمة يؤدِّي إلى خفاء هذه الشعيرة العظيمة وجهل الناس بأحكامها. والأصل أن الشخص يدفع زكاة فطره لفقراء البلد الذي يدركه عيد الفطر وهو فيه، ويجوز نقلها إلى بلد آخر فيه فقراء أشد من البلد الذي فيه المزكي، وهذا ما تفتي به اللجنة الدائمة (¬1). أما كون الشخص يوكل أهله أن يخرجوا الزكاة في بلدهم وهو في بلد آخر فليس من هذا الباب، وهو جائز. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 369) برقم (6364).

الكلمة السابعة والستون: سورة العصر

الكلمة السابعة والستون: سورة العصر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. أقسم سبحانه بالعصر وهو الزمن كله، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه، أما العباد فليس لهم أن يقسموا إلا بالله تعالى. وإقسامه سبحانه وتعالى بالعصر لما يجري فيه من الحوادث والمتغيرات، ولأنه مستودع أعمال العباد خيرها وشرها، وأَقسم سبحانه وتعالى ليؤكد للعباد بأن كل إنسان في خيبة وخسارة مهما كثر ماله وولده. وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة. أولًا: الإِيمان وهو قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح. ثانيًا: العمل الصالح: وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله بأن يكون فاعله لله مخلصًا ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - متبعًا، وعطف العمل الصالح على الإِيمان وإن كان داخلاً فيه من أجل الاهتمام به، والتأكيد على أن تصديق القلب لا ينفع بدون عمل. ثالثًا: التواصي بالحق، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والدعوة إلى الله على بصيرة وحكمة، وتعليم الجاهل، وتذكير الغافل فلا يكفي أن الإِنسان يقتصر على إصلاح نفسه، بل لابد أن يعمل على إصلاح غيره، وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يعد تدخلًا في أمور الناس كما يزعم بعض السفهاء، بل إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يريدون الخير والنجاة للناس، وإنقاذهم من عذاب الله، وبهذه الخصلة ثبتت لهذه الأمة الخيرية التي فضلت بها على الأمم. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. رابعًا: التواصي بالصبر، لما كان الداعي إلى الله تعالى، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يلحقه أذى الناس، أمر تعالى بالصبر على أذاهم، وتحمل ما يناله من الأذى؛ وفي وصية لقمان لابنه قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَامُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17]. وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ... [آل عمران: 186]. قال الشافعي رحمه الله: (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم) (¬1). وهذه السورة مع وجازة ألفاظها فقد جمعت أسباب السعادة كلها، فكفى بها حجة على الخلق، وقد اشتملت على فوائد كثيرة أذكر منها: أولاً: إقسام الله تعالى بشيء يدل على عظمته وأهميته، ففي هذا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 451).

القسم ينبه جل وعلا الخلق إلى قيمة الوقت وما ينبغي عليهم من الاعتناء به والحرص عليه، وقد أقسم سبحانه بإجزاء الوقت في مواضع أخرى، فقال: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]. وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2]. وقال تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2]. وهو مع ذلك من أفضل نعم الله على عباده. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (¬1). ثانيًا: القسم من الله تعالى يدل على عظمة المقسم عليه وهو هذه الخصال الأربع التي لا ينال الفوز والفلاح إلا بها. ثالثًا: فضل الإِيمان ومنزلته العظيمة، حيث بدأ به وجعله أول واجب على الخلق. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَ لاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ» (¬2). رابعًا: أن الإِيمان بالقلب لا يكفي؛ بل لابد من العمل الصالح، وفيه رد على من يقول: إن الإِيمان بالقلب، وهو مع ذلك تارك للفرائض ومرتكب للمحرمات، معتد على حدود الله تعالى. خامسًا: أَن العمل لا يقبل إلا أن يكون صالحًا ولا يكون صالحًا حتى يكون صاحبه مخلصًا لله فيه، وموافقًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6412). (¬2) صحيح مسلم برقم (54).

سادسًا: أن التواصي يكون بالحق لا بغيره، والحق هنا هو الإِيمان بالله تعالى، والعمل الصالح، ومجانبة ما يناقضهما. سابعًا: دل الاستثناء على أن أهل هذه الصفات هم قليل، وقد قال تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. ثامنًا: فضل الصبر، حيث جعله سبحانه أحد الخصال التي لا ينال الفوز إلا بها، وفي هذا الحث على الدعوة إلى الله تعالى مهما لحق الدَّاعي من المشقة والأذى، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (9/ 64) برقم (5022)، وقال محققوه: إسناده صحيح.

الكلمة الثامنة والستون: الطلاق

الكلمة الثامنة والستون: الطلاق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمن الظواهر الاجتماعية السيئة التي انتشرت بين الناس في هذه الأيام كثرة حالات الطلاق، ففي إحصائية لمعدل حالات الطلاق في مدينة الرياض فقط وصل العدد إلى اثنين وثلاثين وأربعمئة حالة شهريًا، وهذا رقم مرتفع جدًّا يدل على خطورة الأمر، إِن لم يتدارك. ولذلك وجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم تحذير الناس من هذا الأمر، وبيان خطورته، لما يترتب عليه من مفاسد من تشتت الأسر، وضياع الأولاد، وتقطع وشائج الأصدقاء والأرحام وغير ذلك، وقد رغّب الشارع في الإِبقاء على الحياة الزوجية، ونهى عن كل ما يعرضها للزوال، فأَمر بالمعاشرة بالمعروف، ولو مع الكراهة، قال تعالى: ... {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرً} [النساء: 19]. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على النساء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ أَعْوَجَ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ

أَعْلاَهُ، فَإِن ذَهَبْتَ تُقِيْمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَم يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» (¬1). وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيْءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيْءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» قَالَ الأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: «فَيَلْتَزِمُهُ» (¬2). ودور المرأة في حدوث حالات الطلاق أكبر من الرجل، فهي تتحمل ما نسبته 65 % من حالات الطلاق تقريبًا، وذلك لعدم الصبر والتحمل والاحتساب عند غالبيتهن، فيقارن أنفسهن بمن هن أحسن منهن حالاً في المعيشة، فيدعوهن ذلك إلى التمرد على أزواجهن، سواء باختيارهن أو بتحريض من الآخرين كالفضائيات، أو بعض وسائل الإِعلام المختلفة، ولجوء هذه الوسائل إلى إفهام الزوجة بين الفينة والأخرى إلى أن الزوج متسلط وظالم، وقد سلبها حقوقها وحريتها، ولم يجعلها تواكب العصر، ومطالبتهم لمن هذه حالها بالتمرد على زوجها ومجتمعها، ودينها، بأساليب خبيثة، فتبدأ بعدم الاستجابة لمطالبه التي أوجبها الله عليها، وتضجره وتشغله بالمشاكل حتى يضيق بها ذرعًا، ويلجأ إلى التخلص من هذه المشاكل بالطلاق. أما الأسباب الأخرى التي عرفتها بعد السؤال والتحرِّي فهي كالآتي: أولاً: أن بعض حالات الطلاق في السنة الأولى من الزواج ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5186)، وصحيح مسلم برقم (1468). (¬2) صحيح مسلم برقم (2813).

لعدم المعرفة بين الزوجين من قبل، وذلك لعدم الرؤية الشرعية، أو لإِخفاء العمر أو إخفاء بعض العيوب، أو التسرع في اتخاذ قرار الطلاق وعدم التروي فيه، أو لعدم سؤال أحدهما عن الآخر، فعندما تتكشف الأمور يلجأ أحدهما إلى الانفصال، ولذلك شرع التحري لكل من الزوجين والسؤال عن خلقه ودينه. ثانيًا: أن يُصاب الزوجان أو أحدهما بالسحر أو بالعين فيصير أحدهما لا يحتمل الآخر ولا يطيق النظر إليه، وفي هذه الحالة ينبغي أن يلجأ كل منهما إلى الله تعالى بإخلاص الدعاء، والمحافظة على الرقى الشرعية والأدعية النبوية. ثالثًا: أن بعض الشباب المتزوجين في مقتبل العمر، لا يحسون بالمسؤولية لأنهم لم يتحملوا تكاليف الزواج، ولذلك يتسرعون في اتخاذ قرار الطلاق، ولذلك ينبغي على ولي المرأة أن يتحرى عن حال الخاطب قبل الزواج. رابعًا: تخلي بعض الأزواج عن مسؤولية أولادهم، ورمي الحمل على الزوجات، أو الغياب المتكرر عن المنزل، أو السهر إلى أوقات متأخرة من الليل، أو الانحراف، أو عدم الإِنفاق أو الاضطهاد، فتضطر الزوجة إلى طلب الطلاق أو العكس عندما يكون ذلك من الزوجة. خامسًا: تدخلات الوالدين أو الأقارب في مشاكل الزوجين، فيفسدون حياتهما بحسن أو بسوء نية. سادسًا: تحميل الزوجة لزوجها فوق طاقته، وعدم قناعتها بالنفقة والسكن، أو مطالبته بالتغاضي عن مخالفتها، كالخروج من بيته بدون إذنه، أو عدم القيام بواجباتها الشرعية نحوه.

سابعًا: اضطرار بعض المتزوجين بأكثر من زوجة إلى الطلاق لطلب الزوجة الأولى أو أهلها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فبعض وسائل الإِعلام تُحرِّض الزوجة على ترك بيتها عندما يلجأ زوجها إلى التعدد، وتعتبر أن ذلك خيانة زوجية وظلم لها ولأولادها حتى لو كان الزوج عادلًا. ثامنًا: استيلاء بعض الأزواج على رواتب زوجاتهم العاملات، فيؤدِّي ذلك إلى إثارة المشاكل، وبالتالي إلى الطلاق، وهذا لا يجوز. عن أبي حرة الرقاشي عن عمه - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» (¬1). ومما ينبغي التنبيه عليه أن الزوج إذا اضطر إلى الطلاق، فعليه أن يراعي الأمور التالية: أولاً: أن يستخير الله تعالى، ويستشير الصالحين الناصحين من أقاربه وإخوانه، ولا يقدم على الطلاق إلاَ لأسباب واضحة توجب ذلك. ثانيًا: أن يكون الطلاق في حال طهر لم يجامعها فيه أو حاملاً. ثالثًا: عليه ألا يزيد في الطلاق على واحدة اتباعًا للسنة. رابعًا: ألا تخرج المرأة من بيتها، ولا يخرجها زوجها ما دامت في العدة. فربما كان ذلك سببًا في صلاح حالهما، ومراجعة أحدهما للآخر ¬

(¬1) قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (34/ 299 - 300) برقم (20695)، وقال محققوه: صحيح لغيره.

كما أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والستون: لذة العبادة

الكلمة التاسعة والستون: لذة العبادة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن من منح الله لعباده، منحة التلذذ بالعبادة، وأعني بها ما يجده المسلم من راحة النفس وسعادة القلب، وانشراح الصدر عند القيام بعبادة من العبادات، وهذه اللذة تتفاوت من شخص لآخر حسب قوة الإِيمان وضعفه. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. ويجدر بالمسلم أن يسعى جاهدًا إلى تحصيل لذة العبادة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لبلال: «قُمْ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ» (¬1) لما يجده فيها من اللذة والسعادة القلبية، وإطالته - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الليل دليل على ما يجده في الصلاة من الأنس والسرور بمناجاة ربه، وتصديق ذلك في كتاب الله، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. وبكى معاذ بن جبل عند موته فقيل له في ذلك قال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (4986)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 941) برقم (4171).

ويقول ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (¬1). ويقول أحد السلف: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا (¬2). وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن للطاعة حلاوة يجدها المؤمن. روى البخاري ومسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (¬3). وفي رواية: «مَن كَانَ أَن يُلقَى فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» (¬4). وإن لتحصيل لذة العبادة أسبابًا منها: أولاً: مجاهدة النفس على طاعة الله تعالى حتى تألفها وتعتادها، وقد تنفر النفس في بداية طريق المجاهدة، ولكن إذا شمر صاحبها عن ساعد الجد، وكانت عنده تلك الإِرادة والعزيمة القوية، فسينالها بإذن الله، فالأمر يتطلب مصابرة وقوة تحمل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 81). (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 82). (¬3) صحيح البخاري برقم (6941)، وصحيح مسلم برقم (43). (¬4) صحيح مسلم برقم (43).

وقال تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. عن فضالة بن عبيد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُجَاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللهِ» (¬1). قال أحد السلف: «ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك». وقال ابن رجب: (واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عرفت منك الجد جدت، وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك وطلبت منك حظوظها وشهواتها) (¬2). قال الشاعر: لأستسهلن الصعب أو أُدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر ثانيًا: البعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن المعاصي حجاب تمنع من الشعور بلذة العبادة لما يورثه من قسوة وغلظة وجفاء، قال بعض السلف: (ما ضرب الله عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب). قال ابن القيم رحمه الله: (وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة، وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين، وأطيب العيش عيش المستأنسين، فلو نظر العاقل ووازن لذة المعصية، وما توقعه من الخوف والوحشة، لعلم سوء حاله وعظيم غبنه، إذا باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والضرر ¬

(¬1) قطعة من حديث في سنن الترمذي برقم (1621)، وقال: حديث فضالة حديث حسن صحيح. (¬2) نقلاً عن كتاب لذة العبادة (ص: 12).

الداعي له) (¬1). اهـ. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا في صدرك فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور، يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة وانشراح صدر وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول) (¬2). قال سفيان الثوري: (حرمت قيام الليل بسبب ذنب أذنبته) (¬3). وسئل وهيب بن الورد فقيل له: (متى يفقد العبد لذة العبادة؟ إذا وقع في المعصية، أو إذا فرغ منها؟ قال: يفقد لذة العبادة إذا هم بالمعصية). ثالثًا: ترك فضول الطعام والشراب والكلام والنظر، فيكفي المسلم أن يقتصر في طعامه وشرابه على ما يعينه على أداء عبادته وعمله، فلا يسرف في الأكل قال تعالى: ... {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (¬4). قال أحد السلف: راحة القلب في قلة الآثام، وراحة البطن في قلة الطعام، وراحة اللسان في قلة الكلام. ¬

(¬1) الداء والدواء (ص: 401). (¬2) تهذيب مدارج السالكين (ص: 312). (¬3) لذة العبادة (ص: 18). (¬4) سنن الترمذي برقم (2380) وقال: حديث حسن صحيح.

وأختم بكلام ابن القيم رحمه الله قال: (ولا تظن أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] مختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة، وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم، وقد أثنى على خليله إبراهيم عليه السلام بسلامة قلبه، فقال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83 - 84]. وقال حاكيًا عنه: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]. والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد (¬1). رابعًا: أن يستحضر العبد أن هذه العبادة التي يقوم بها من صلاة أو صيام أو حج أو صدقة إنما هي طاعة لله وابتغاء مرضاته، وأن هذه العبادة يحبها الله ويرضى عنه بها وهي التي تقربه من ربه سبحانه. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ ¬

(¬1) الداء والدواء (ص: 165 - 166).

حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» (¬1). خامسًا: أن يستحضر العبد أن هذه العبادات لا تضيع ولا تفنى كما تفنى كنوز الدنيا وأموالها ومناصبها ولذاتها بل يجدها العبد أحوج ما يكون إليها، بل إنه ليجد ثمراتها في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مما هو أجل وأعظم؛ فمن استحضر ذلك لم يبالِ بما فاته من الدنيا وسُرَّ بهذه العبادات ووجد حلاوتها ولذتها، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} [طه: 112]. روى مسلم في صحيحه من حديث العباس بن عبد المطلب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» (¬2) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ! هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ» (¬3) الحديث. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (6502). (¬2) برقم (34). (¬3) صحيح البخاري برقم (1897)، وصحيح مسلم برقم (1027).

الكلمة السبعون: أسباب الثبات على الدين

الكلمة السبعون: أسباب الثبات على الدين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن حاجة المسلم اليوم لأسباب الثبات على الدين والتمسك به عظيمة جدًّا، لانتشار الفتن، وقلة الناصر، وغربة الدِّين، ومن تلك الأسباب: أولاً: الإِقبال على القرآن العظيم حفظًا وتلاوة وعملاً، فهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصمه الله، ومن أعرض عنه ضل وغوى، أخبر تعالى أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا القرآن مفرقًا هي التثبيت، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]. ثانيًا: الإِيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. قال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة في القبر. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} ... [النساء: 66].

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم على الأعمال الصالحة، وَكَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَيْهِ أَدْوَمَهُ وَإِنْ قَلَّ. وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه. ثالثًا: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. فالآيات تنزل لتثبت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفئدة المؤمنين معه مثل قصة إبراهيم، وموسى، ومؤمن آل فرعون وغيرها. رابعًا: الدعاء، فإن من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدُّعاء أن يثبتهم كما علمنا سبحانه أن نقول: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]. و «قُلُوبُ بَنِي آدَمَ كُلُّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» (¬1). كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر أن يقول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ» (¬2). خامسًا: ذكر الله، وهو من أعظم أسباب التثبيت، وتأمل في هذا الاقتران في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد. سادسًا: الدعوة إلى الله عز وجل، وهي وظيفة الرسل وأتباعهم. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2654). (¬2) مسند الإمام أحمد (19/ 160) برقم (12107)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم.

وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. والعبد إذا حرص على هداية الخلق، فإن الله يجعل ثوابه من جنس عمله، فيزيده هدىً وثباتًا على الحقِّ، كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. سابعًا: الرفقة الصالحة: فمصاحبة العلماء والصالحين والدعاة والمؤمنين، والجلوس معهم، من أكبر العون على الثبات، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية ... [الكهف: 28]. وجاء في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين إنسانًا: أنه سأل عن رجل عالم فقال: «مَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله عن دور شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في التثبيت في محنة السجن: (وكنّا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم بطلبها والمسابقة إليها) (¬2). اهـ. ثامنًا: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإِسلام، وهذه طريقة ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3470)، وصحيح مسلم برقم (2766). (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 82).

النبي - صلى الله عليه وسلم - في تثبيت أصحابه وهم يعذبون على الإِسلام في أول الدعوة، عن خباب بن الأرت: أنه شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجده من التعذيب وطلب منه الدعاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (¬1). تاسعًا: الصبر، فإنه من أعظم أسباب الثبات على دين الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَلاَ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» (¬2). وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: «فَإِنَّ مِنْ وَرَاءِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» (¬3). عاشرًا: التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار، وتذكر الموت، فعندما يتأمل المؤمن قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6943). (¬2) صحيح البخاري برقم (1469)، وصحيح مسلم برقم (1053). (¬3) سبق تخريجه.

مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]. تهون عليه الصعاب، ويزهد في الدنيا، وتشتاق نفسه إلى الدار الآخرة والدرجات العلى. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر أصحابه بالجنة ليثبتهم على التمسك بالدين والصبر عليه، فقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ياسر وعمَّار وأمه، وهم يؤذون في سبيل الله، فقال: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (4/ 470) برقم (5696) وصححه الألباني في فقه السيرة (ص: 107). (¬2) انظر: رسالة الشيخ محمد المنجد "أسباب الثبات على الدين".

الكلمة الحادية والسبعون: وقفة مع قوله تعالى {زين للناس حب الشهوات}

الكلمة الحادية والسبعون: وقفة مع قوله تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فيقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 14 - 17]. قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬1). فأما إذا كان القصد بهن العفاف، وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5096)، وصحيح مسلم برقم (2741).

ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬1). وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، روى الإمام أبو داود في سننه من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ» (¬2). وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة للنفقة في القربات وصلة الأرحام، والقرابات ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح شرعًا (¬3). اهـ. وقوله تعالى: {وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ} قال ابن جرير رحمه الله بعدما نقل اختلاف المفسرين في المراد به: والصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير كما قال الربيع بن أنس، وقوله تعالى: {وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ} قال ابن جرير: «المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنًا لمن رآها» (¬4). وتربية الخيل أنواع، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ، فَهْيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1467). (¬2) قطعة من حديث في سنن أبي داود برقم (2050) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 386) برقم (1805). (¬3) تفسير ابن كثير (3/ 26 - 27). (¬4) تفسير ابن جرير - طبعة دار السلام (3/ 1711 - 1713).

وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَيُعِدُّهَا لَهُ، فَلاَ تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرًا، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ مَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا، وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ كَانَ لَهُ، بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ - حَتَّى ذَكَرَ الأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا - وَلَوِ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلاً، وَلاَ يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا، وَيُسْرِهَا، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ، فَذَاكَ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ» (¬1). وقوله: {وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ} الأنعام: الإبل والبقر والغنم، والحرث الأرض المتخذة للغراس والزراعة، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا}، أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الزائلة، {وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ}، أي حسن المرجع، ثم قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} أي قل يا محمد للناس الذين زين لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكرنا: أأُخبركم وأُعلمكم بخير وأفضل لكم من ذلك كله؟ ! {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {خَالِدِينَ فِيهَا}، أي ماكثين فيها أبد الآباد، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}، أي من الدنس والخبث والأذى، والحيض والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: ... {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 27]، أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ}، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2860)، وصحيح مسلم برقم (987).

أي: يعطي كلاَّ ما يستحقه من العطاء. ثم إن الله تعالى بعد ذكره الموازنة بين متع الدنيا ونعيم الآخرة، ذكر صفات المتقين الذين آثروا نعيم الآخرة الباقي على متع الدنيا الزائلة، فاسمع لصفاتهم، وتمثلها في نفسك، عسى أن تكون منهم فتفوز فوزًا عظيمًا. فأولها: الإيمان بالله وبرسله وكتبه، المتضمن الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه للمؤمنين من الفضل العظيم، وما أعد للكافرين الغافلين من العقاب الأليم. ثانيها: اعترافهم بذنوبهم، وعلمهم أنه لا يغفرها إلا الله ربهم. ثالثها: إيمانهم بالنار وعذابها، وسؤالهم ربهم أن يقيهم منها. رابعها: صبرهم عن شهوات الدنيا وملذاتها، إيمانًا منهم بأن الله سيعوضهم خيرًا منها، والصبر من أفضل خصال الإيمان، ولا يتم إلا باستكمال أركانه الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على أقدار الله. خامسها: الصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والصديقون مع الأنبياء والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا. سادسها: قنوتهم لله رب العالمين، وذلك يقتضي محبتهم له، وانكسارهم بين يديه، والتجاءهم إليه رغبة ورهبة وخشوعًا. سابعها: إنفاقهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته، لا رياءً وسمعة. ثامنها: طلبهم المغفرة من ربهم في وقت الأسحار، حين ينزل الرب إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى! هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ! هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ! حَتَّى يَنْفَجِرَ

الصُّبْحُ» (¬1)، وهم يدعونه ويسألونه ويستغفرونه، والغافلون يغطون في نوم عميق. يقول تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (1145)، وصحيح مسلم برقم (758).

الكلمة الثانية والسبعون: نصائح عامة

الكلمة الثانية والسبعون: نصائح عامة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» (¬1). وهذه بعض النصائح التي أوصي بها نفسي وإخوتي. الأولى: المحافظة على هذه الصلاة في بيوت الله عز وجل. قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. والصلاة هي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬2). ¬

(¬1) برقم (55). (¬2) (2/ 240) برقم (1859)، وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (3/ 343) برقم (1358).

وهذه الصلاة هي الفارق بين المسلم والكافر، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ، وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، تَرْكُ الصَّلاَةِ» (¬1)، وكان من آخر ما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعالج سكرات الموت أن قال: «الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (¬2)، وقال عمر - رضي الله عنه - يوم أن طعن، وهو يعالج سكرات الموت، وجرحه يثعب دمًا: «لاَ حَظَّ فِي الإِسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ». الثانية: أداء الأمانة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث شداد بن أوس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُوْنَ مِن دِينِكُمُ الأَمَانَةُ» (¬3)، قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور (¬4). اهـ، وقال بعضهم: عمل كل ما لله فيه طاعة، واجتناب كل ما لله فيه معصية، سواء كان ذلك في عبادة أو معاملة، فالصلاة أمانة، والزكاة أمانة، وحفظ الجوارح أمانة، والعمل أمانة لابد للمسلم أن يؤديه بكل إخلاص وإتقان حتى تبرأ ذمته بذلك. والأمانة من أبرز أخلاق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فنوح، وهود، وصالح ولوط، أخبر الله عنهم في سورة الشعراء، أن كل رسول من هؤلاء، قد قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107]، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهورًا بأنه الأمين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (82). (¬2) سن ابن ماجه برقم (2697). (¬3) معجم الطبراني الكبير (9/ 353) رقم (9754)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1739). (¬4) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (14/ 253).

الثالثة: اجتناب المعاصي، والذنوب، فهي أساس كل شر وبلاء، قال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وما الذي أخرج أبوينا من الجنة دار النعيم، واللذة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ ! قال الشاعر: تَصِلُ الذَّنُوبَ إلى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرَكَ الْجِنَانِ بِهَا وَفَوزَ الْعَابِد وَنَسِيتَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحد روى الإمام أحمد من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ» (¬1). وقال الأوزاعي رحمه الله: «لاَ تَنْظُر إِلَى صِغَرِ المَعْصِيَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عَصَيْتَ». قال الشاعر: رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَ إِدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَياةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا الرابعة: حسن الخلق، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. روى الترمذي في سننه، من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (37/ 467) برقم (22808) وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (3/ 279): ورواته محتج بهم في الصحيح.

«مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيْزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» (¬1)، وقال ابن المبارك: «حُسْنُ الخُلُقِ طَلاَقَةُ الوَجْهِ، وَبَذْلُ المَعْرُوْفِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَأَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُوْنُ مِنَ النَّاسِ» (¬2)، وقال ابن القيم: «جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله، وحسن الخلق، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، ولا يكتمل إيمان عبد ما لم يوفق للخلق الحسن» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا» (¬4)، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الناس خلقًا، فمن أحب أن يهتدي إلى معالي الأخلاق، فليقتد بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِيْنَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ » (¬5). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2002) وقال حديث حسن صحيح. (¬2) جامع العلوم والحكم (160). (¬3) الفوائد (84 - 85). (¬4) برقم (1162) وقال: حديث حسن صحيح. (¬5) سنن الترمذي برقم (2015)، وأصله في الصحيحين.

الكلمة الثالثة والسبعون: مفاسد العنوسة

الكلمة الثالثة والسبعون: مفاسد العنوسة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الظواهر الاجتماعية السيئة التي انتشرت في المجتمع في هذه الأيام كثرة حالات العنوسة، ففي إحصائية قديمة لإحدى جامعات المملكة اتضح أن نسبة الفتيات اللاتي لم يتزوجن، وهن طالبات في المرحلة الجامعية يصل إلى خمسة آلاف طالبة، وفي إحصائية أخرى لإحدى الوزارات اتضح أن نسبة الفتيات اللاتي بلغن سن الزواج ولم يتزوجن يصل إلى مليون ونصف امرأة. وهذا رقم مرتفع جدًّا يدل على خطورة هذا الأمر، وكم أحدثت هذه العنوسة من مفاسد، وأمراض نفسية، ومشاكل أسرية؟ ! ولقد حث الشارع على النكاح، ورغب فيه، ولو مع قلة ذات اليد، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]. روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (¬1). وهذه العنوسة لها أسباب، أذكر بعضًا منها لعل ذلك يساعد على إيجاد حلٍّ لهذه المشكلة: ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5066)، وصحيح مسلم برقم (1400).

أولاً: الانشغال بالدراسة، والاعتذار بها عن الزواج حتى يكبر سن الفتاة، ويرغب عنها الكثير من الخطاب، على أنه يمكن في كثير من الأحوال الجمع بينهما كما هو مشاهد، ولو فرضنا تعذر الجمع، فإن الزواج أولى من الانشغال بالدراسة. ثانيًا: المغالاة في المهور، وما يتبعها من النفقات. قال أهل العلم: «المشروع أن يكون قليلاً ميسرًا». روى الحاكم في المستدرك من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ» (¬1)، وقال عمر - رضي الله عنه -: «لاَ تُغَالُوْا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَو كَانَت مَكْرُمَةً، أَو تَقْوَى عِنْدَ اللهِ لَكَانَ أَوْلاَكُم بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، مَا أَصْدَقَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأَةً مِن نِسَائِهِ، وَلاَ بِنْتًا مِن بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِن ثِنْتَي عَشْرَة أُوْقِيَّةً، وَالأُوْقِيَّةُ أَرْبَعُوْنَ دِرْهَمًا» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فمن دعته نفسه على أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه، فلا ينبغي له أن يصدق المرأة ما لا يقدر على وفائه من غير مشقة (¬3). قال ابن القيم رحمه الله بعد سياق بعض الأحاديث المتعلقة بالصداق: «وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته، وعسره» (¬4). ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (2/ 537) برقم (2796) وقال محققه: وإسناده جيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3279). (¬2) سنن الترمذي برقم (1114) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) مجموع الفتاوى (32/ 194). (¬4) زاد المعاد (5/ 62).

ثالثًا: تركيز كثير من الأسر على أحوال الخاطب الدنيوية، من منصب، ومال، وجاه، فإن لم يتوفر ذلك اعتذروا عن قبوله، وإن كان من أهل الخلق والدين، وهذا مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِيْنَهُ، وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيْضٌ» (¬1). رابعًا: استيلاء بعض الآباء الجشعين على رواتب بناتهم العاملات، وبالتالي يمنعونهن من الزواج حتى يستمروا في كسب هذه الأموال، وقد نهى الله عن عضل النساء، قال تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]. خامسًا: اعتذار كثير من الفتيات عن الرجل المتزوج، وهذا خطأ، فعلى المرأة أن تفكر بعقلها، فخير لها أن تبقى في ظل زوج على أن تكون عانسًا في بيت أبيها، وقد سبق ذكر الحديث: «إِذَا خَطَبَ إِلَيكُم مَن تَرْضَوْنَ دِيْنَهُ، وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيْضٌ». والنساء يفوق عددهن الرجال، وهناك المطلقة، والمتوفى عنها زوجها، والتي كبر سنها ولم تتزوج، فلو اكتفى كل رجل بزوجة واحدة لبقي كثير من النساء من غير زواج، وهذا خلاف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وفيه مفسدة عظيمة، ولذلك شرع الله للرجل تعدد الزوجات، قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. ¬

(¬1) برقم (1085)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 314) برقم (865).

سادسًا: أن بعض النساء المطلقات يصبن بعد طلاقهن بإحباط، فلا تفكر في الزواج مرة ثانية، وهذا خطأ، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، وعلى المرأة أن تحسن الظن بربها، فهو مقسم الأرزاق، والموفق بين الزوجين، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130]. روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلاَ يَقُولُ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ خَيْراً فَلَهُ وإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» (¬1). قال الشاعر: مَا بَينَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتُهَا ... يُبَدِّلُ اللهُ مِن حَالٍ إلى حَال ومن الأسباب التي بدأت تنتشر في بعض المجتمعات: عزوف بعض الشباب عن الزواج، هروبًا من تحمل المسؤولية، وهذا خروج عن الفطرة وسنن المرسلين، ومنهم من يكون قليل ذات اليد، مقارنة بالأوضاع والعادات الاجتماعية، ومنهم من يكون من المنهمكين على وسائل الإعلام السيئة، التي زرعت في نفسه مع طول النظر والمتابعة تصورًا سيئًا عن النساء عمومًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم (638).

الكلمة الرابعة والسبعون: النكت

الكلمة الرابعة والسبعون: النكت الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الأمور المنكرة التي انتشرت بين الناس في هذه الأيام ما يُسمى بالنكت، وهذه النكت قصص مكذوبة يقصد بها إضحاك الآخرين، وإدخال السرور إلى قلوبهم. روى الإمام أبو داود في سننه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» (¬1). ومن مفاسد هذه النكت ما يلي: أولاً: الكذب، وهو من أعظم المفاسد، وقد نهى الله تعالى عنه في آيات كثيرة، قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. قال بعض المفسرين الزور: الكذب (¬2). روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (4990) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 942) برقم (4175). (¬2) تفسير ابن جرير (7/ 5838).

وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» (¬1). وروى البخاري في صحيحه حديث سمرة بن جندب الطويل، وفيه رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَة آَتِيَانِ وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْت مَعَهُمَا ... فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِن حَدِيْدٍ، وَإِذَا هُوَ يَاتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِن ذَلِكَ الجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُوْدُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُوْلَى، قَالَ: قُلتُ: سُبْحَانَ اللهِ مَا هَذَانِ؟ .... قَالَ: قَالاَ: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ» (¬2). وهذه النكت وإن قُصِد بها المزاح، فإنه ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود من حديث أبي أمامة أنه قال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» (¬3). وهذا - والله أعلم - إذا لم تتضمن قولاً فاحشًا، أو نشر فاحشة، أو إشاعة منكر، أو استطالة في عرض مسلم، فما كان من هذا ونحوه لا شك أنه من المحرمات، كما سبق في الحديث المتقدم. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6094)، وصحيح مسلم برقم (2607) واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري برقم (7047). (¬3) سنن أبي داود برقم (4800)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 911) برقم (4015).

قال ابن مسعود: «الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل» (¬1) ثم تلا عبد الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال أيضاً: «المؤمن يُطبع على الخلال كلها غير الخيانة والكذب» (¬2). ثانيًا: ومن مفاسدها أن بعض هذه النكت تحتوي على الاستهزاء بدين الله، أو المؤمنين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الكفر والخروج من دائرة الإسلام، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. وهو من نواقض الإسلام العشرة. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من ذلك، فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، كفر ولو مازحًا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا» (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، يكفر به صاحبه بعد إيمانه» (¬4). ثالثًا: أنها تؤدي إلى السخرية بالناس واحتقارهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُسْلِمُ ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (8/ 425). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (8/ 425)، وقال محققو مسند الإمام أحمد بن حنبل (36/ 505): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) تيسير العزيز الحميد (ص: 617). (¬4) الفتاوى (7/ 273).

أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا - وَيُشِيْرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسِلِم عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (¬1). رابعًا: أن فيها إضاعة الوقت، وهذا الوقت سيُسأل عنه العبد يوم القيامة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُوْلُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَن عُمُرِه فِيْمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَن عِلمِهِ فِيْمَ فَعَلَ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيْمَ أَنْفَقَهُ؟ » (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (¬3). خامسًا: أن بعض هذه النكت تحتوي على الفحش وبذاءة اللسان، وهذا لا يليق بالمؤمن، لا قوله، ولا الاستماع إليه، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قال بعض المفسرين: أي الكذب، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لَم يَكُن رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُوْلُ: «إِنَّ مِن خِيَارِكُم أَحْسَنَكُم أَخْلاَقًا» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) قطعة من حديث برقم (2564). (¬2) برقم (2417) سبق تخريجه. (¬3) برقم (6412). (¬4) صحيح البخاري برقم (3559)، وصحيح مسلم برقم (2321).

الكلمة الخامسة والسبعون: وصايا لطلبة العلم

الكلمة الخامسة والسبعون: وصايا لطلبة العلم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فهذه بعض الوصايا التي أوصي بها نفسي وإخواني، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح. الوصية الأولى: الحرص على طلب العلم الشرعي، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (¬1). قال بعض أهل العلم: «من لم يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا». روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَم يُوَرِّثُوْا دِيْنَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوْا العِلمَ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (¬2). قال الأوزاعي: «النَّاسُ عِنْدَنَا هُم أَهْلُ العِلمِ، وَمَن سِوَاهُم فَلَيْسُوا ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3116)، وصحيح مسلم برقم (1037). (¬2) برقم (3641) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 342) برقم (2159).

بِشَيْءٍ»، وقال الإمام أحمد بن حنبل: «حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الرجل يحتاج الى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه». وأهل العلم هم القائمون بأمر الله حتى تقوم الساعة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية وثوبان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَاتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (¬1) - وفي رواية: «قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ» (¬2). قال الإمام أحمد بن حنبل: «إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ». وقال أيضاً: دينُ النبِي محمدٍ آثارُ ... نِعمَ المطيةُ للفتى الأخبارُ لا تَرْغبنَّ عنِ الحديثِ وأهلِهِ ... فالرأيُ ليلُ والحديثُ نهارُ ولرُبَّما جَهِلَ الفَتَى طُرُق الهُدى ... والشمسُ بازغةٌ لها أنوارُ وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في آخر الزمان يرفع العلم، ويكثر الجهل، ورفع العلم بموت حملته. روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (71)، وصحيح مسلم برقم (1920) واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري برقم (71). (¬3) صحيح البخاري برقم (100)، وصحيح مسلم برقم (2673) واللفظ له.

وفي هذه الحال يكون تعلم العلم وتعليمه أوجب وأوكد، وليعلم أن رأس العلوم كلها هو كتاب الله الكريم، فلنحرص على حفظه وفهمه وتدبره، والعمل به، وكذلك تعلم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتفقه فيها، وليكن أخذنا للعلم من أهله، وهم السلف الصالحون، والأئمة المهديون، حتى لا نقع في الفتاوى المضلة، والأهواء المهلكة. الوصية الثانية: الدعوة إلى الله عز وجل، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: « ... لأَن يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬1). وهذا الحديث يغلط فيه بعض الناس، حيث يقوم بالدعوة، وربما تجرأ على الفتوى وهو من أجهل الناس، وقد يستدل بحديث «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (¬2). ولم يعلم المسكين أن تبليغ آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون إلا بعد فهمهما بمراجعة أقوال المفسرين، وشراح الأحاديث حسب الطرق الصحيحة التي سلكها أهل العلم، وبينوها لطلاب العلم. والدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والمقصود بها دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل، وقال عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب معاذ بن جبل، وقد أرسله إلى أهل اليمن ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2942)، وصحيح مسلم برقم (2406). (¬2) صحيح البخاري برقم (3461).

يدعوهم إلى الله تعالى: «إِنَّكَ تَاتِي قَوْمًا مِن أَهْلِ الكِتَابِ، فَادْعُهُم إِلَى شَهَادَةِ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُوْلُ اللهِ، فَإِنْ هُم أَطَاعُوْكَ لذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُم أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِم خَمْسَ صَلَوَاتٍ ........... إِلَى آخِرِ الحَدِيْثِ» (¬1)، وروى البخاري من حديث عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» (¬2). قال ابن القيم رحمه الله «إذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلَّها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لابد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى أقصى حد يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء» (¬3). وقال الشيخ عبد العزيز رحمه الله: «الواجب على جميع القادرين من العلماء، وحكام المسلمين، والدعاة، الدعوة إلى الله عز وجل حتى يصل البلاغ إلى العالم كافة في جميع أنحاء المعمورة، وهذا البلاغ الذي أمر الله به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. فالرسول عليه البلاغ، وهكذا الرسل جميعًا عليهم البلاغ صلوات الله وسلامه عليهم، وعلى أتباع الرسول أن يبلغوا ... إلخ» (¬4). الوصية الثالثة: حفظ الوقت، فمن الملاحظ أن بعض الشباب لا يحرص على استغلال وقته، واغتنام شبابه ونشاطه، فتجده ينام الساعات ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1458)، وصحيح مسلم برقم (19) واللفظ له. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) التفسير القيم (ص: 319). (¬4) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله (1/ 333) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1959، 1960).

الطوال من غير حاجة، والآخر يضيع وقته في قراءة الجرائد لفترات طويلة، وآخر في الزيارات الكثيرة، وهَلُمَّ جَرًّا. روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ؟ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَ عَلِمَ؟ » (¬1)، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» (¬2). ويقول الشاعر: والوَقْتُ أَنْفسُ ما عُنِيتَ بِحفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليك يضِيعُ الوصية الرابعة: حسن الخلق، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]، روى الترمذي في سننه، من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيْزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» (¬3)، قال ابن المبارك: «حُسْنُ الخُلُقِ طَلَاقَةُ الوَجْهِ، وَبَذْلُ المَعْرُوْفِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَأَن تَحْتَمِلَ مَا يَكُوْنُ مِنَ النَّاسِ». وبهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه، فروى الترمذي في سننه من ¬

(¬1) رقم (2416) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 289) برقم (1969). (¬2) مستدرك الحاكم (5/ 435) برقم (7916) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077). (¬3) (4/ 362) برقم (2002) وقال: حديث حسن صحيح.

حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» (¬1). قال ابن القيم: «جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه». اهـ (¬2)، ولا يكتمل إيمان عبد مالم يوفق للخلق الحسن، روى الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانًا أَحْسَنُهُم خُلُقًا، وَخِيَارُكُم خِيَارُكُم لِنِسَائِهِم خُلُقًا» (¬3). ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقًا، فمن أحب أن يهتدي إلى معالي الأخلاق فليقتد بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ » (¬4). الوصية الخامسة: الثبات على هذا الدين، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99]، أي الموت، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، روى الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلبِي عَلَى دِيْنِكَ» (¬5)، وقد وردت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين أن المتمسكين بدينهم في آخر الزمان، الثابتين عليه يكونون غرباء، ولكنهم بذلك ينالون من الأجر مثل ما ناله أصحاب ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (1987) وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) الفوائد (84 - 85). (¬3) برقم (1162) وقال حديث حسن صحيح. (¬4) سنن الترمذي برقم (2015) وأصله في الصحيحين. (¬5) سبق تخريجه.

النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كان الإسلام غريبًا، وذلك بصبرهم عليه حال الغربة، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيْبًا، وَسَيَعُوْدُ غَرِيْبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوْبَى لِلغُرَبَاءِ» (¬1)، وجاء في الحديث الآخر أنهم: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» (¬2)، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن القابض على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمر، روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عتبة بن غزوان أخي بني مازن بن صعصعة وكان من الصحابة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِنْ وَرَاءِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، المُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» قالوا: يا نبي الله أَوَمِنْهُم، قال: «بَلْ مِنْكُمْ» (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر ما يحصل في آخر الزمان من الفتن، قال: «المُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ أو قال: عَلَى الشَّوْكِ» (¬4). فأوصي نفسي، وإخواني بالثبات على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والصبر على ذلك قال تعالى: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [يونس: 109]، وقال تعالى: {وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ولا شك أن المسلم في هذه الأزمنة يواجه فتن ¬

(¬1) برقم (145). (¬2) قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (11/ 231) برقم (6650) وقال محققوه: حديث حسن لغيره. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه.

الشهوات والملذات العظيمة، لكن من استعان بالله أعانه الله، ومن يتصبر يصبره الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. جعلنا الله وإياكم منهم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السادسة والسبعون: مخالفات يقع فيها بعض الحجاج

الكلمة السادسة والسبعون: مخالفات يقع فيها بعض الحجاج الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن على المسلم أن يحرص أن يكون حجه موافقًا لحج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: «لِتَاخُذُوْا مَنَاسِكَكُم، فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» (¬1)، وهناك مخالفات شرعية يقع فيها بعض الحجاج، أحببت التذكير بها أداء لحق الله، وقيامًا بواجب النصيحة. أولاً: إخراج الصلاة عن وقتها، قال الإمام ابن النحاس في ذكره بعض منكرات الحجاج ومنها، وهو أعظمها فتنة، وأجلها في الدين مصيبة، وأكثرها وجودًا وبلية هو تضييع أكثرهم للصلاة في الحج، وكثير منهم لا يتركونها، بل يضيعون وقتها ويجمعونها على غير الوجه الشرعي، وذلك حرام بالإجماع (¬2)، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. ثانيًا: ما يفعله بعض الحجاج الذين يقومون بزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج وبعده، من استقبال قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعائه بكشف الضر وجلب النفع، وهذا شرك ينافي التوحيد لا يرضاه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل نهى عنه وحذر منه. قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} ¬

(¬1) برقم (1297). (¬2) تنبيه الغافلين (ص: 284).

[الجن: 18]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر مثل ما صنعوا (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل قال له: ما شاء الله وشئت: «أَجَعَلْتَنِي وَاللهِ عَدْلاً؟ ! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ» (¬2). ثالثًا: التصوير، وهو من المحرمات التي يجهل حرمتها كثير من الحجاج، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التصوير في أحاديث كثيرة، ولعن فاعله، روى البخاري ومسلم، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث جندب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِه، وَمَن يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ» (¬4). هذا أولاً، وثانيًا: أن بعض الحجاج يتخذ لنفسه صورًا حال إحرامه، أو رافعًا يديه يدعو، أو يقرأ، أو غير ذلك من أحوال العبادة ليطلع عليها أهله وأقاربه إذا عاد إليهم، وقد يدخل هذا في الرياء المنهي عنه، بل يخشى على فاعل ذلك أن يحبط عمله من حيث لا يشعر. رابعًا: من أراد الحج أو العمرة فليحرم من الميقات الذي يمر به، ولا يجوز تجاوز الميقات بلا إحرام لمريد الحج أو العمرة، روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هُنَّ لَهُنَّ ¬

(¬1) قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم (531). (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 339) برقم (1839) وقال محققوه: صحيح لغيره .. (¬3) برقم (5950)، وصحيح مسلم برقم (2109). (¬4) برقم (6499)، وصحيح مسلم برقم (2987).

وَلِمَن أَتَى عَلَيْهِنَّ مِن غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّن أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ» (¬1). وأما من يأتي عن طريق الجو في الطائرة، أو البحر في السفينة، فمن الأولى أن يحرم عند محاذاة الميقات، أو قبله بقليل احتياطًا، ولا ينتظر حتى يصل إلى جدة؛ لأن هذا مخالف لما عليه فتاوى علمائنا، كالشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى، وغيرهما. خامسًا: أن كثيرًا من الحجاج يلزم أدعية خاصة في الطواف يقرأها من كتاب مناسك، وقد يكون مجموعة منهم يتلقونها من قارئ يلقنهم إياها، ويرددونها خلفه بصوت جماعي، وأكثر هذه الأدعية والأذكار لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء بها بهذه الطريقة بدعة محدثة. روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيْهِ فَهُوَ رَدٌّ» (¬2). إضافة إلى أن فيه تشويشًا على الحجاج الآخرين. سادسًا: ومن الأخطاء العظيمة المتعلقة بيوم عرفة، أن بعض الحجاج يبقون خارج حدود عرفة حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأ عظيم؛ لأن الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له، روى الترمذي من حديث عبد الرحمن بن يعمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» (¬3). ¬

(¬1) برقم (1524)، وصحيح مسلم برقم (1181). (¬2) برقم (2697)، وصحيح مسلم برقم (1718). (¬3) جزء من حديث في سنن الترمذي برقم (889)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 265) برقم (705).

سابعًا: ما يتعلق بمزدلفة، فبعض الحجاج لا يتأكد من حدود مزدلفة، ويبيت خارجها، وبعضهم يخرج منها قبل منتصف الليل، ولا يبيت فيها، ومن لم يبت فيها من غير عذر فقد ترك واجبًا من واجبات الحج، ويلزمه دم مع التوبة، ويرى بعض أهل العلم أن المبيت بمزدلفة، وصلاة الصبح بها ركن من أركان الحج، كالوقوف بعرفة، لأن الله نص عليه، فقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - سواها بعرفة حينما قال: «وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» (¬1) (¬2). روى الترمذي في سننه من حديث عروة الطائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» (¬3). ثامنًا: أن بعض الحجاج يوكلون من يقوم برمي الجمار عنهم، مع قدرتهم على ذلك ليسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام، ومشقة العمل، وهذا مخالف لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله} [البقرة: 196]، وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن حكم التوكيل عن المريض والمرأة العاجزة كالحبلى والثقيلة والضعيفة التي لا تستطيع رمي الجمار؟ فأجاب بأنه لا بأس بالتوكيل عنهم (¬4)، أما القوية النشيطة فإنها ترمي بنفسها، ومن عجز عنه نهارًا رمى بالليل. ¬

(¬1) جزء من حديث في سنن الترمذي برقم (885)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 263) برقم (702). (¬2) الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (7/ 305 - 306). (¬3) سنن الترمذي برقم (891) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) فتاوى الحج والعمرة (ص: 111 - 112).

تاسعًا: أن بعضهم إذا أراد تقصير شعر رأسه يكتفي بأخذ شعرات من رأسه، أو يأخذ من جانب ويدع آخر، والصحيح أن الواجب على الحاج أن يحلق رأسه كله أو يقصره كله، هذا في حق الرجل، أما المرأة فإنها تقص من ضفائرها بقدر أنملة فقط. والأفضل أن يبدأ بالشق الأيمن في الحلق أو التقصير. عاشرًا: أن بعضهم إذا تحلل التحلل الأول حلق لحيته أو قصر منها، قال الشيخ ناصر الدين الألباني: وهذه المعصية من أكثر المعاصي شيوعًا بين المسلمين في هذا العصر، بسبب استيلاء الكفار على أكثر بلادهم، ونقلهم هذه المعصية إليها، وتقليد المسلمين لهم فيها مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - إياهم عن ذلك صراحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى» (¬1). وفي هذه القبيحة عدة مخالفات: الأولى: مخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم - الصريح بالإعفاء. الثانية: التشبه بالكفار. الثالثة: تغيير خلق الله الذي فيه طاعة الشيطان في قوله كما حكى الله تعالى ذلك عنه: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119]. الرابعة: التشبه بالنساء، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك. وإن من المشاهدات التي يراها الحريص على دينه أن جماهير من الحجاج يكونون قد وفروا لحاهم بسبب إحرامهم، فإذا تحللوا منه فبدل أن يحلقوا رؤوسهم كما ندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلقوا لحاهم التي ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5892)، وصحيح مسلم برقم (259).

أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها، فإنا لله وإنا إليه راجعون (¬1) (¬2). أسأل الله أن يتقبل من المسلمين حجهم، وسائر أعمالهم، وأن يوفقنا لكل خير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواها عنه جابر (ص: 8 - 9)، للشيخ ناصر الدين الألباني. (¬2) انظر مخالفات الحج والعمرة للشيخ عبدالعزيز السدحان.

الكلمة السابعة والسبعون: التوبة

الكلمة السابعة والسبعون: التوبة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الأعمار تُطوى، والأيام تنقضي، والعمر قصير، والأجل قريب، ولا يدري ابن آدم متى يأتيه الموت، قال الشاعر: أشَابَ الصغيرُ وأفنَى الكبير ... مرور اللياليَ وَكرُّ العشي إذا ليلةٌ هَرَمْت أُخْتَها ... أتَى بَعدَ ذلكَ يومٌ فتي نَروحُ ونغدُو لحَاجَاتِنَا ... وحَاجَاتُ من عَاشَ لا تنقضي تموتُ مع المرءِ حاجاتُهُ ... وتَبْقَى لهُ حاجةٌ ما بقي والله سبحانه وتعالى حث عباده على التوبة قبل حلول الأجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. ودعا سبحانه جميع عباده إلى التوبة، فدعا إليها من قال: إن الله هو المسيح، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة، ومن قال: يد الله مغلولة، ومن ادعى لله الصاحبة والولد، فقال لهم جميعًا: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74].

ودعا إليها فرعون مع زعمه أنه لا إله غيره، وأنه ربهم الأعلى فقال لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44]. ودعا إليها المشركين قاطبة، فقال لهم بعد الأمر بقتلهم حيثما وجدوا: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]. ودعا إليها المنافقين، فقال سبحانه: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145 - 146]. ودعا إليها من عمل أكبر الكبائر، وهي الشرك، وقتل النفس بغير حق، والزنا، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]. والتوبة واجبة على الفور من جميع الذنوب، كبيرها وصغيرها، قال الإمام النووي رحمه الله: «واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَلهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا ¬

(¬1) شرح النووي (6/ 59).

قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» (¬1). والمراد بالتوبة التوبة النصوح، وهي التي اكتملت شروطها. أما شروطها فهي: الإقلاع عن الذنب، الندم على فعله، العزم على أن لا يعود إليه، وزاد آخرون: الإخلاص لله في التوبة، لا خوفًا من سلطان، أو حياء من إنسان، أو غير ذلك، وإنما رجاء ثوابه وخوفًا من عقابه، فإن كان الذنب مرتبطًا بحق آدمي فلا بد من شرط رابع، وهو أن يبرأ من حق صاحبها. ويشترط للتوبة ثلاثة شروط: الأول: أن تكون التوبة قبل الغرغرة، أي قبل حشرجة الروح في الصدر عند دنو الأجل، وحضور الموت، لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18]. روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِن اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَم يُغَرْغِرْ» (¬2). الثاني: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَاتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الأنعام: 158]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6308)، وصحيح مسلم برقم (2747). (¬2) برقم (3537) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 175) برقم (2802).

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوْبَ مُسِيْءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوْبَ مُسِيْءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن تَابَ قَبْلَ أَن تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا تَابَ اللهُ عَلَيْهِ» (¬2). الثالث: أن تكون قبل نزول العذاب لمن عصى الله تعالى؛ لأن الأمم المخسوف بها انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85]. ولم يستثن من هذه السنة إلا قوم يونس، لحكمة أرادها الله سبحانه، فقال: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (¬3). ¬

(¬1) برقم (2759). (¬2) برقم (2703). (¬3) هذه الكلمة مستفادة من خطبة للشيخ سعد الحميد.

الكلمة الثامنة والسبعون: شرح حديث (يتبع الميت ثلاثة)

الكلمة الثامنة والسبعون: شرح حديث (يتبع الميت ثلاثة) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (¬1). وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة قيمة، اختصرت كلامه فيها في هذه العجالة: فقال: وتفسير هذا أن ابن آدم في الدنيا لا بد له من أهل يعاشرهم، ومال يعيش به، فهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما، فالسعيد من اتخذ من ذلك ما يعينه على ذكر الله تعالى، وينفقه في الآخرة، فيأخذ من المال ما يبلغ به إلى الآخرة، ويتخذ زوجة صالحة تعينه على إيمانه، فأما من اتخذ أهلاً ومالاً يشغلونه عن الله تعالى، فهو خاسر كما قال تعالى عن الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: 11]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]. روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ ¬

(¬1) برقم (6514)، وصحيح مسلم برقم (2960).

أَحبَبتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬1). فإذا مات ابن آدم، وانتقل من هذه الدار، لم ينتفع من أهله وماله بشيء إلا بدعاء أهله له، واستغفارهم، وما ثبت عنه من الشرع، وبما قدمه من ماله بين يديه، قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬2). فأما الصاحب الأول: الأهل، فأهله لا ينفعه منهم بعد موته إلا من استغفر له، ودعا له كما تقدم، وقد لا يفعل، وقد يكون الأجنبي أنفع للميت من أهله كما قال بعض الصالحين: أهلك يقتسمون ميراثك، وهو قد تفرد بحزنك يدعو لك، وأنت بين أطباق الثرى، فمن الأهل من هو عدو، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]. وأما الصاحب الثاني: وهو المال، فيرجع عن صاحبه أولاً، ولا يدخل معه في قبره، ورجوعه كناية عن عدم مصاحبته له في قبره، ودخوله معه. روى مسلم في صحيحه من حديث مطرّف عن أبيه قال: أتيت ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (1631).

النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}. قال: «يَقُوْلُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَو تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ! » (¬1). وروى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ » قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا مالُهُ أحَبُّ إليه. قال: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» (¬2). فلا ينتفع العبد من ماله إلا بما قدمه لنفسه، وأنفقه في سبيل الله عز وجل، فأما ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه، إلا أن يكون فيه نية صالحة، وقيل: بل يثاب عليه مطلقًا، وقال بعض الملوك لأبي حازم الزاهد: ما بالنا نكره الموت؟ قال: لتعظيمك الدنيا، جعلت مالك بين عينيك، فأنت تكره فراقه، ولو قدمته لآخرتك لأحببت اللحوق به. قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]. وكان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله، حتى كان يومًا راكبًا على ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال، وقلدها، وجعلها في سبيل الله عز وجل. أما الخليل الثالث: فهو العمل الذي يدخل مع صاحبه في قبره فيكون معه فيه، ويكون معه إذا بعث، ويكون معه في مواقف القيامة، وعلى الصراط، وعند الميزان، وبه تقسم المنازل في الجنة والنار، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. ¬

(¬1) برقم (2958). (¬2) برقم (6442).

وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]. قال بعض السلف في تفسير الآية السابقة: أي يمهدون لأنفسهم في القبر، فالعمل الصالح يكون مهادًا لصاحبه في القبر، حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد، بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده من خير أو شر، فالعاقل من عمر بيته الذي تطول إقامته فيه، ولو عمره بخراب بيته الذي يرتحل عنه قريبًا لم يكن مغبونًا بل كان رابحًا. وقال بعض السلف: اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة على قدر مكثك فيها. قال الحسن: تبع رجل من المسلمين جنازة أخيه فلما دلي في قبره قال الرجل: ما أرى يتبعك من الدنيا إلا ثلاثة أثواب، أما والله لقد تركت بيتي كثير المتاع، أما والله إن أقالني الله حتى أرجع لأقدمنه بين يدي، قال: فرجع فقدمه والله بين يديه، وكانوا يرون أنه عمر بن عبد العزيز. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والسبعون: فضل التبكير إلى الصلاة

الكلمة التاسعة والسبعون: فضل التبكير إلى الصلاة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من فضل الله ورحمته بعباده أن يسر لهم من الطاعات والعبادات ما يتقربون بها إليه سبحانه، ومن تلك الطاعات والقربات التبكير إلى الصلوات الخمس التي جعلهن بفضله خمسًا في العمل، وخمسين في الأجر والثواب. والتبكير إلى الصوات الخمس من الطاعات التي غفل عنها كثير من المصلين في هذا الزمان، فلا يحضرون إلا عند الإقامة، أو بعد الشروع في الصلاة. ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة، وأصدقها في التبكير إلى الصلاة، يقول عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: «ما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها، وما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء»، ويقول سعيد بن المسيب: «ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وما فاتتني صلاة الجماعة منذ أربعين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة»، قال الذهبي: «هكذا كان السلف في الحرص على الخير» (¬1). ¬

(¬1) منجد الخطيب، مأخوذ من سير أعلام النبلاء (2/ 205 - 206).

ومن فضائل التبكير إلى الصلوات: أولاً: استغفار الملائكة لمن ينتظر الصلاة، وكونه في حكم المصلي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي قال: «المَلاَئِكَة تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُم (¬1) مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَم يُحْدِثْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لاَ يَزَالُ أَحَدُكُم فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَن يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ» (¬2). ثانيًا: إدراك الصف الأول، وما فيه من الفضل العظيم، والثواب الجزيل، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» (¬3). ثالثًا: إدراك تكبيرة الإحرام، وهي من أفضل التكبيرات، ومفتاح الصلاة، روى الترمذي من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» (¬4). رابعًا: الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب، روى أبو داود في سننه من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ ¬

(¬1) أي تستغفر له. (¬2) صحيح البخاري برقم (659)، وصحيح مسلم برقم (649). (¬3) صحيح البخاري برقم (615)، وصحيح مسلم برقم (437). (¬4) برقم (241)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 314) برقم (2652).

وَالإِقَامَةِ» (¬1). خامسًا: الدنو والقرب من الإمام، وهذه فضيلة عظيمة، روى الإمام أبو داود من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «احْضُرُوا الذِّكْرَ، وَادْنُوا مِنَ الإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الجَنَّةِ وَإِن دَخَلَهَا» (¬2). سادسًا: إدراك السنن القبلية التي قبل الصلاة، كسنة الفجر، روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا» (¬3). وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ (¬4). وروى أبو داود في سننه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، حَرُمَ عَلَى النَّار» (¬5)، وروى أيضًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَحِمَ اللهُ امْرَءًا صَلَّى قَبْلَ العَصْرِ أَرْبَعًا» (¬6). سابعًا: الحضور إلى المسجد بسكينة ووقار، فالسعي الذي يفعله كثير من الناس لإدراك الصلاة يفوتهم السكينة والوقار، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمُ بالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلاَ تُسْرِعُوْا، ¬

(¬1) برقم (521)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 105) برقم (489). (¬2) برقم (1108)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 206) برقم (980). (¬3) برقم (725). (¬4) سنن الترمذي برقم (424) وقال: حديث حسن. (¬5) برقم (1269): وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 236) برقم (1130). (¬6) برقم (1271): وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 236) برقم (1132).

فَمَا أَدْرَكْتُم فَصَلُّوْا، وَمَا فَاتَكُم فَأَتِمُّوا» (¬1). ثامنًا: قراءة الأذكار والاستغفار، وذكر الله عز وجل بين الأذان والإقامة، فلو حضر المصلي إلى المسجد مبكرًا لأمكنه على أقل تقدير أن يقرأ عشرين آية، وفي اليوم مئة آية، وفي الأسبوع سبعمئة آية، وفي الشهر ثلاثة آلاف آية، وهذا خير كثير، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وينبغي للمؤمن أن يُعَوِّدَ نفسه على التبكير إلى المسجد حتى يسهل عليه، ويجد الراحة، والسعادة في ذلك، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ... لاَ يَزَالُ قَومٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (636)، وصحيح مسلم برقم (602). (¬2) جزء من حديث برقم (438).

الكلمة الثمانون: أسباب انشراح الصدر

الكلمة الثمانون: أسباب انشراح الصدر الحمد لله، الصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن ضيق الصدر، وما ينتاب المسلم من هموم وغموم، وأحزان أمور لا يكاد يسلم منها أحد. قال ابن حزم رحمه الله: «فكرت في سعي العقلاء، فرأيت سعيهم كلهم في مطلوب واحد، وإن اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم، فهذا في الأكل والشرب، وهذا في التجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا في اللغو واللعب، وغير ذلك، ولم أر في جميع هذه الطرق طريقًا موصلاً إليه، ولعل أكثرها إنما يوصل إلى ضده، وإنما الإقبال على الله وحده، وإيثار مرضاته على كل شيء ضده، فليس للعبد أنفع من هذا الطريق، وأوصل منه على لذته، وسعادته» (¬1). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أسباب شرح الصدر، فقال: أولاً: التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ¬

(¬1) الجواب الكافي (ص: 171 - 172)، وقد لخصه ابن القيم رحمه الله.

كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه. ثانيًا: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر، ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق وحرج، فصار في أضيق سجن وأصعبه، فنصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]. ثالثًا: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل العلم الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبهم عيشًا. رابعًا: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، حتى يقول أحيانًا: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحال، فإني إذًا لفي عيش طيب، وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، ولا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح. ومن أعظم أسباب ضيق الصدر الإعراض عن الله عز وجل وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ

ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، فإن من أحب شيئًا غير الله عذب، وسجن قلبه في محبته ذلك الغير. خامسًا: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه وحبسه وعذابه. قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28]. سادسًا: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس، وأنكدهم عيشًا، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ، مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا، وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ، فَسَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ» (¬1). سابعًا: الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، ومتسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له إلا من جنس الحيوان البهيمي، وأما سرور الروح ولذتها ونعيمها وابتهاجها فمحرم على كل جبان، كما هو محرم على كل بخيل. ثامنًا: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2917)، وصحيح مسلم برقم (1021).

وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البرء، فإن الإنسان إذا أتى بالأسباب التي تشرح صدره، ولم يخرج تلك الأوصاف المذمومة من قلبه لم يحظ من انشراح صدره بطائل. تاسعًا: ترك فضول النظر والكلام، والاستماع والمخالطة، والأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل ألمًا وغمومًا وهمومًا في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم، وما أنكد عيشه، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة، وكانت همته دائرة عليها، فلهذا نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]. ولذلك نصيب من قوله تعالى: {وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]. والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أكمل في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب، وأكمل الخلق متابعة له أكملهم انشراحًا ولذة، وقرة عين، وعلى حسب متابعته ينال العبد من انشراح صدره وقرة عينه، ولذة روحه ما ينال. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (¬1). ¬

(¬1) انظر: زاد المعاد (2/ 23 - 28).

الكلمة الحادية والثمانون: كفارات الذنوب

الكلمة الحادية والثمانون: كفارات الذنوب الحمد لله، الصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن أفضل ما يتمناه المسلم أن يخرج من هذه الدنيا وقد غفر الله له ذنوبه، وضاعف له في حسناته. ومن حكمة الله تعالى أن جعل للإنسان أعداء يزينون له الذنوب، ويهونونها عليه، ويبعدونه عن الخير، وهم: النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والهوى، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَاوَى} [النازعات: 40 - 41]. وقال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43]. ومن رحمة الله بعباده أن هيأ لهم أسبابًا يكفر بها عنهم الذنوب، ويمحوها، وهذه الكفارات الماحيات هي الأقوال والأعمال التي شرعها في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك:

أولاً: الإيمان بالله وتوحيده والعمل الصالح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيْسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا» (¬1). ثانيًا: اجتناب الكبائر من الذنوب، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ» (¬2). ثالثًا: التوبة الصادقة، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]. روى ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ» (¬3). رابعًا: الاستغفار، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ ¬

(¬1) برقم (2565). (¬2) برقم (233). (¬3) برقم (4250)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 419) برقم (3427).

غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106]. وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. روى الإمام أبو داود من حديث زيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّوْمُ وَأَتُوْبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: « ... يَا عِبَادِي، إِنَّكُم تُخْطِئُوْنَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيْعًا، فَاسْتَغْفِرُوْنِي أَغْفِرْ لَكُمْ» (¬2). خامسًا: الوضوء، روى مسلم في صحيحه من حديث حمران مولى عثمان - رضي الله عنه - قال: أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضأ، ثم قال: إن ناسًا يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث لا أدري ما هي؟ إلا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: «مَن تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، وَكَانَت صَلاَتُهُ، وَمَشْيُهُ إِلَى المَسْجِدِ نَافِلَةً» (¬3). سادسًا: الصلاة، والمشي إليها، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ أَدُلُّكُم عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوْا: بَلَى يَارَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الوُضُوْءِ عَلَى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَى إِلَى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ ¬

(¬1) برقم (1517)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 283) برقم (1343). (¬2) قطعة من حديث برقم (2577). (¬3) برقم (229).

الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» (¬1). سابعًا: الصدقات، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، روى الترمذي في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ» (¬2). ثامنًا: الحج والعمرة، روى النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيْدِ» (¬3). تاسعًا: المصائب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَارِبُوْا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» (¬4). عاشرًا: صيام رمضان وقيامه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬5)، وروى البخاري ¬

(¬1) برقم (251). (¬2) قطعة من حديث برقم (2616)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) برقم (2631)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 558) برقم (2467). (¬4) برقم (2574). (¬5) صحيح البخاري برقم (38)، وصحيح مسلم برقم (759).

ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (37)، وصحيح مسلم برقم (759).

الكلمة الثانية والثمانون: الحسد

الكلمة الثانية والثمانون: الحسد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الصفات المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها: الحسد، وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة منه، فقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5]. قال: الراغب: الحسد تمني زوال نعمة من مستحق لها، وربما كان مع ذلك سعي في إزالتها (¬1)، والحسد من صفات أشر عباد الله اليهود، كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (¬2)، وروى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن جبريل عليه السلام ¬

(¬1) مفردات ألفاظ القرآن (ص: 116). (¬2) والبخاري برقم (6065)، ومسلم برقم (2559).

أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ» (¬1). قال ابن رجب: الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل، ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام: فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ويسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو ذنب إبليس، حيث حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها، ومنهم من يحدث نفسه بذلك اختيارًا، ويعيده في نفسه مستروحًا تمني زوال نعمة أخيه، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية، وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنى أن يكون مثله، فإن كانت الفضائل دنيوية، فلا خير في ذلك، كما قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]. وإن كانت فضائل دينية فهو حسن، وقد تمنى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهادة في سبيل الله عز وجل، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ ¬

(¬1) برقم (2186).

اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» (¬1). وهذا هو الغبطة، وسماه حسدًا من باب الاستعارة، وقسم آخر إذا وجد من نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداء الإحسان إليه، والدعاء، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يُبْدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرًا منه، وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه. اهـ (¬2)، قال ابن سيرين: «ما حسدت أحدًا على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ ! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ ! ». اهـ. وقال أبو الدرداء: «ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده». وقال ابن عباس: «إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم»، وقال معاوية - رضي الله عنه -: «كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها»، ولذلك قيل: كُلُّ العداواتِ قد تُرْجَى إِماتَتُهَا ... إلا عدَاوَة من عادَاكَ عن حَسَد وقال آخر: أيا حاسداً لِي عَلى نعْمَتي ... أَتدْرِي على مَن أسَأت الأدبَ أَسَاتَ على اللهِ في حُكْمِهِ ... لأنك لم تَرْضَ لِي ما وَهَبَ فَأَخْزَاكَ رَبِّي بأن زَادَني ... وَسَدَّ عَلَيكَ وجوهَ الطَلَب روى الترمذي في سننه من حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: أن ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5025)، وصحيح مسلم برقم (815). (¬2) جامع العلوم والحكم، (ص: 260 - 263).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ»، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِن وُضُوْئِهِ، وَقَد تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، وَجَاءَ فِي القِصَّةِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما تَبِعَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنِّي أَوَيْتُ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ؟ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَم أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيْرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ غِشًّا، وَلاَ أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَت بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيْقُ (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعدة أمور: 1 - التعوذ بالله من شره، والتحصن واللجأ إليه. 2 - تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]. 3 - الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً. ¬

(¬1) برقم (2510)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3361). (¬2) (20/ 125) برقم (12697) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

4 - التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه. 5 - الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه في خواطر نفسه. 6 - تجريد التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. 7 - الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا في دفع العين وشر الحاسد. 8 - وهو من أصعب الأسباب، إطفاء نار الحاسد بالإحسان إليه. 9 - تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، الذي أَزِمَّةُ الأمور بيده سبحانه (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) التفسير القيم لابن القيم (ص: 585 - 593).

الكلمة الثالثة والثمانون: المعاصي وعقوباتها

الكلمة الثالثة والثمانون: المعاصي وعقوباتها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمما ابتليت به مجتمعات المسلمين في هذه الأزمان كثرة المعاصي والذنوب، وانتشار المنكرات على اختلاف أنواعها. قال ابن القيم رحمه الله: وهذه المعاصي لها أضرارٌ على القلوب، كضرر السموم على الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه المعاصي والذنوب، فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء فطرده ولعنه وأبدله بالرحمة لعنًا، وبالإيمان كفرًا؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله؟ إنها المعاصي والذنوب! ! (¬1). ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 37 - 38) بتصرف.

قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]. وهذه الذنوب منها كبائر ومنها صغائر، وقد دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم: 32]. أي صغائر الذنوب، روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَن تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قُلتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيْمٌ! قَالَ: قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَن يَطْعَمَ مَعَكَ» قَالَ: قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» (¬1). ومن الناس من يتساهل في الذنوب والمعاصي، ويقول: ما دمت أُؤدِّي أركان الإسلام وفرائضه فالذنوب أمرها سهل، والله غفور رحيم، وهذا الكلام ليس بصحيح، فإن الله غفور رحيم، وشديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]. وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]. وقال تعالى محذرًا من معصية نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4477)، وصحيح مسلم برقم (86).

وقال سبحانه: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِيَّاكُم وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوْا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُوْدٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُوْدٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُم، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ» (¬1)، وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمُوبِقَاتِ» (¬2). قال أبو عبد الله البخاري: يعني بذلك المهلكات. ومعصية واحدة كانت سببًا لهزيمة الصحابة في معركة أحد، عندما أَمَرَهُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَلاَّ يَنزِلُوا مِنَ الجَبَلِ، فَعَصَوهُ وَنَزَلُوا، فَقُتِلَ سَبعُونَ، كما جاء في الصحيح (¬3). ومعصية واحدة كانت سببًا في دخول امرأة النار، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَاكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» (¬4). بل إن العبد ليتساهل بالكلمة التي تخرج من فمه، ولا يلقي لها بالاً، تكون سببًا لدخوله النار، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (¬5). ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (6492). (¬3) البخاري برقم (3986). (¬4) صحيح البخاري برقم (3318)، وصحيح مسلم برقم (2242). (¬5) صحيح البخاري برقم (6477)، وصحيح مسلم برقم (2988) واللفظ له.

ومعصية واحدة أخرجت آدم من الجنة، قال الشاعر: تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذَّنُوبِ وتَرْتَجي ... درك الجنان بها وفوز العابد وَنَسِيت أَنَ الله أَخْرَج آدَما ... مِنْهَا إلى الدنيا بِذَنْب وَاحِد قال الأوزاعي رحمه الله: «لاَ تَنْظُر إِلَى صِغَرِ المَعْصِيَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عَصَيْتَ». ومن عقوبات المعاصي - وهي كثيرة، ذكرها ابن القيم في كتابه «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» - فمنها: أولاً: أنها تورث الذل لصاحبها، فإن العز كل العز بطاعة الله، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. وقال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» (¬1). وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «اللهم أعزنا بالطاعة، ولا تذلنا بالمعصية». وقال الحسن البصري رحمه الله: «إِنَّهُم وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ» (¬2). وفي دعاء القنوت: «إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ» (¬3) ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العز بحسب طاعته، ومن ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) الجواب الكافي (ص: 53). (¬3) سنن الترمذي برقم (464)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 144) برقمم (411).

عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه وله من الذل بحسب معصيته» (¬1). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «يا مَعْشَرَ الأَنصارِ! أَلَمْ تَكُونُوا أَذلَّةً فأَعَزَّكُمُ الله؟ » قالوا: صَدَقَ اللهُ ورسولُهُ (¬2). قال ابن المبارك: رَأَيتُ الذُّنوبَ تُمِيْتُ القُلوبَ ... وَقَدْ يُورثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا وتَركُ الذُّنوبِ حَيَاةُ القُلوب ... وَخَيْرٌ لنَفْسِكَ عِصْيانُهَا ثانيًا: أنها تورث الوحشة بين العبد وربه، وبين العبد وبين الناس، ولو اجتمعت للعبد لذات الدنيا كلها لم تذهب تلك الوحشة، قال عبد الله بن عباس: «إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق» (¬3). ويشهد لكلام ابن عباس قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 124 - 125]. وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. ثالثًا: ومن عقوباتها: أنها إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها ¬

(¬1) الداء والدواء (ص: 277). (¬2) مسند الإمام أحمد (18/ 105) برقم (11547) وقال محققوه: إسناده صحيح وأصله في الصحيحين. (¬3) الجواب الكافي (ص: 49).

فكان من الغافلين، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبُهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (3334)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة الرابعة والثمانون: التقوى

الكلمة الرابعة والثمانون: التقوى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} [النساء: 131]. في هذه الآية الكريمة وصى الله سبحانه جميع خلقه الأولين والآخرين بأن يتقوه، وخص سبحانه المؤمنين بوصية التقوى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]. قال طلق بن حبيب: «التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله». قال الذهبي: «أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بِتَرَوٍّ من العلم والاتِّباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يَفتقر اجتنابُها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفًا من الله، لا ليُمْدَحَ بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز» (¬1). اهـ. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 601).

قال شيخ الإسلام: «التقوى هي فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه». قال الشاعر: خَلِّ الذُّنوبَ صَغيرَهَا ... وكَبيرَهَا ذَاكَ التُّقَى واصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْق ... أرْضِ الشَّوْكِ يَحْذرُ ما يرى لا تَحْقِرنَّ صَغِيرةً ... إنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصى وقال آخر: إذَا المرءُ لمْ يلبَسْ ثِيابًا منَ التُّقى ... تَقَلَّبَ عُريَانًا وإنْ كانَ كاسِيًا وخَيْرُ لِباسِ المَرْءِ طَاعةُ ربِّهِ ... ولا خَيْرَ فيمَنْ كانَ لله عَاصِيًا قال الحسن البصري رحمه الله: «ما زالت التقوى بالمتقين، حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الوقوع في الحرام». وقد ذكرت التقوى في كتاب الله في أكثر من مائتين وخمسين موضعًا، بل إنه قد تكرر الأمر بالتقوى في الآية الواحدة مرتين أو ثلاثًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ} [الحشر: 18]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]. والمتقون هم أولياء الله وأحبابه، قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]، والمتقون هم أكرم الناس عند الله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، روى الإمام

أحمد في مسنده من حديث أبي نضرة - رضي الله عنه - قال: حدثني من سمع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق أنه قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ » قالوا: بلغ رسول الله (¬1)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يوصي أصحابه بالتقوى، ويبدأ بها خطبه ووصاياه، روى مسلم في صحيحه من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا» (¬2)، وقال للصحابي أبي ذر كما في سنن الترمذي: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ» (¬3) الحديث. فطريق السعادة، والعز، والكرامة، والنصر هو التقوى، وإنما تأتي المصائب، والبلايا، والمحن بسبب إهمال التقوى، وإضاعتها، أو إضاعة جزء منها. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. ومن ثمرات التقوى: أولاً: معية الله للمتقين، بالنصر والحفظ والإعانة والمحبة والتوفيق، وهذه منقبة عظيمة للمتقين، فلو لم يكن للمتقين إلا أنهم حازوا بهذه المعية من الله لكفى بها فضلاً وشرفًا، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، وقال أيضًا: {إِنَّ اللهَ مَعَ ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (38/ 474) برقم (23489) وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬2) برقم (1731). (¬3) سنن الترمذي برقم (1987)، وقال: حديث حسن صحيح.

الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل]. ثانيًا: حب الله للمتقين، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]. ثالثًا: غفران الذنوب، ومعرفة الحق من الباطل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الأنفال: 29]. رابعًا: التقي يجعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. خامسًا: التقي يوفق للعمل النافع، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. سادسًا: قبول الله تعالى من المتقين الأعمال الصالحة: قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. قال شيخ الإسلام: «وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه، فعمله خالصًا لله، موافقًا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه، وإن كان عاصيًا في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه، وإن كان مطيعًا في غيره» (¬1). اهـ، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها. سابعًا: ولاية الله تعالى بالتقوى، فإنه بالتقوى تنال ولاية الله، فمن اتقى الله فلا خوف عليه فيما يستقبل، ولا حزن ولا أسف على ما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 322).

مضى، فإنه سبحانه يعوضه خيرًا مما فاته، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]. ثامنًا: تيسير الأمور، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]؛ أي: من اتقى الله يسر الله له الأمور، وسهل عليه كل أمر عسير. تاسعًا: الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]. عاشرًا: الفوز بالجنة، والنجاة من النار، قال تعالى: {وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34]، وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخامسة والثمانون: تحريم الغناء

الكلمة الخامسة والثمانون: تحريم الغناء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]. صح عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما فسرا {لَهْوَ الحَدِيثِ}: بالغناء، وحلف ابن مسعود ثلاث مرات، فقال: «وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، {لَهْوَ الحَدِيثِ}: هُوَ الْغِنَاءُ» (¬1). وقال أيضًا: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ» (¬2). قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على تفسير ابن مسعود وغيره للآية السابقة بأن المراد بها الغناء: فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول - صلى الله عليه وسلم - علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وُجد إليه سبيل (¬3). روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري: أن ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 46) طبع وزارة الشؤون الإسلامية. (¬2) إغاثة اللهفان (1/ 368). (¬3) إغاثة اللهفان (1/ 359).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ (¬1) وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ (¬2) يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ (¬3) لَهُمْ، يَاتِيهِمْ - يَعْنِي: الْفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ (¬4) لَيلاً، وَيَضَعُ الْعَلَمَ (¬5) عَلَيْهِمْ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (¬6). فهذا الحديث يخبر عن أمر عظيم، وهو إهلاك بعض الأمة بأنواع من الهلاك، بسبب ما يرتكبون من الأمور ظاهرة التحريم، ومنها استحلالهم لآلات الملاهي المحرمة شرعًا، وهي في وقتنا المعاصر مثل: الكمنجا، والعود، والطبل، والبيانو، والربابة، والمزمار، وغيرها من المعازف، ودلالة الحديث على التحريم من وجهين: الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «يَسْتَحِلُّونَ» أي يصيرونها حلالاً بعد حرمتها، ففيه التصريح بأن المذكورات في الحديث محرمة، ومنها المعازف. الثاني: قرن المعازف مع الشيء المقطوع بحرمته بإجماع المسلمين، وهو الزنا وشرب الخمر، ولبس الحرير، وهو دليل على حرمتها. روى الترمذي في سننه من حديث عمران بن حصين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَذْفٌ وَخَسْفٌ وَمَسْخٌ»، فقال رجل من المسلمين: متى ذاك يا رسول الله؟ قال: «إِذَا ظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ» (¬7). ¬

(¬1) الحر: أي الزنا. (¬2) علم: أي جبل. (¬3) بسارحة: أي ماشية لهم. (¬4) فيبيتهم الله: أي يهلكهم ليلاً. (¬5) ويضع العلم: أي يسقط الجبل عليهم. (¬6) برقم (5590). (¬7) برقم (2212)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 242) برقم (1801).

قال ابن القيم رحمه الله: «وقد توعد الله سبحانه مستحلي المعازف بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد». اهـ (¬1). قال الشاعر: فهذا الحقُّ ليسَ بهِ خفَاء ... فدعني عن بُنيَّات الطَّريق وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما خلاصته: «وإنما ذلك إذا استحلوا هذه المحرمات بالتأويلات الفاسدة، فإنهم لو استحلوها مع اعتقاد أن الرسول حرمها كانوا كفارًا، ولم يكونوا من أمته» (¬2). اهـ. وقد اتفق الأئمة الأربعة على تحريم المعازف، ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف، بل يحرم عندهم اتخاذها. ولما سئل الإمام مالك عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ قال: إنما يفعله عندنا الفساق (¬3). ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عنه قال: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ» (¬4). وأما مذهب أبي حنيفة، فهو من أشد المذاهب، فقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقصب، وصرحوا بأنه معصية، يوجب الفسق وتُرد به الشهادة (¬5). وقد انتشر الغناء وللأسف في مجتمعنا، فالأغاني في التلفاز والقنوات الفضائية والمسجل والراديو، وغيرها من آلات اللهو. قال يزيد بن الوليد: «إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في ¬

(¬1) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/ 283). (¬2) إغاثة اللهفان (1/ 478). (¬3) إغاثة اللهفان (1/ 344). (¬4) المصدر السابق (1/ 348). (¬5) إغاثة اللهفان (1/ 345).

الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر. وقال: فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا، أو رقية الزنا» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: «ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب، ومن طرَّق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبدًا للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع من البلايا، وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة؟ ! » (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: فدع صاحب المزمار والدف والغِنا ... وما اختاره عن طاعة الله مذهبَا ودعه يعيش في غيهِ وضلالِهِ ... على تَاتِنَا يحيا ويُبعث أشيبا وفي تَنْتِنَا يومَ المَعَادِ نَجاتُه ... إلى الجنةِ الحمراءِ يُدْعى مُقربَا سيعلم يوم العرض أيَّ بضَاعَةٍ ... أَضاعَ وعند الوزنِ مَا خَفَّ أّوْ رَبَا ويعلمُ ما قد كان فيه حياتُه ... إذا حُصِّلتْ أعمالُه كلها هَبَا ومما تقدم من الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة، وأقوال أهل العلم، يتبين تحريم الغناء، وأنه من كبائر الذنوب، فيجب على ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 365). (¬2) إغاثة اللهفان من وساوس الشيطان (1/ 366 - 367).

المؤمن أن ينأى بنفسه عنه، فإنه لا يجتمع كلام الرحمن، ومزمار الشيطان في قلب امرئ أبدًا. تنبيه: انتشر في هذا الزمان ما يسميه أصحاب التسجيلات «الأناشيد الإسلامية»، قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه تحريم آلات اللهو، بعد أن ذكر الأدلة على تحريم الغناء: «ويتبين أنه لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرع، فكيف يجوز التقرب إليه بما حرم، وأنه من أجل ذلك حرم العلماء الغناء الصوفي، واشتد إنكارهم على مستحله، فإذا استحضر القارئ في باله هذه الأصول القوية، تبين له بكل وضوح أنه لا فرق في الحكم بين الغناء الصوفي، والأناشيد الدينية، بل قد تكون في هذه آفة أخرى، وهي أنها قد تلحن على ألحان الأغاني الماجنة، وتوقع على القوانين الموسيقية الشرقية أو الغربية التي تطرب السامعين وترقصهم، وتخرجهم عن طورهم، فيكون المقصود هو اللحن والطرب، وليس النشيد بالذات، وهذه مخالفة جديدة، وهي التشبه بالكفار والمجان، وقد ينتج من وراء ذلك مخالفة أخرى، وهي التشبه بهم في إعراضهم عن القرآن، وهجرهم إياه، فيدخلون في عموم شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قومه كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان 30] (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (ص: 181).

الكلمة السادسة والثمانون: تحريم الزنا وأسبابه

الكلمة السادسة والثمانون: تحريم الزنا وأسبابه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. فالآيات السابقة يبين الله فيها أن من صفات عباده المؤمنين عدم الإشراك به، وعدم قتل النفس المحرمة، وأنهم يحفظون فروجهم عن الفواحش، وحذر من أنه من يقدم على هذه الفواحش فإن مصيره الخلود في العذاب المضاعف المهين، مالم يرفع ذلك بالإيمان، والعمل الصالح، والتوبة الصادقة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا} [الفرقان: 68 - 71].

إن الزنا من أعظم الذنوب بعد الشرك بالله، فقد قرنه الله بالشرك، وقتل النفس، لما فيه من إضاعة الأنساب، وانتهاك الحرمات، وإشعال العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه، أو ابنته، أو أخته، وفي ذلك خراب للعالم، ولهذا كان الزاني المحصن من الثلاثة الذين أحل الله دماءهم، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» (¬1). وقد توعده النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ منهُ الإيمَانُ فَكَانَ عَليْهِ كالظُّلَّةِ، فَإذَا انْقَطَعَ رَجَعَ إليه الإيمَانُ» (¬3). وفي صحيح البخاري، في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وفيه: جاء جبريل وميكائيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّوْرِ، وَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: فَإِذَا فِيْهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ. قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيْهِ فَإِذَا فِيْهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُم يَاتِيهِم لَهَبٌ مِن أَسْفَلَ مِنْهُم، فَإِذَا أَتَاهُم ذَلِك اللَّهَبُ ضَوْضَوْا (أَي: صَاحُوْا مِن شِدَّة حَرِّه). فَقُلتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الزُّنَاةُ، وَالزَّوَانِي» (¬4). ¬

(¬1) البخاري برقم (6878)، ومسلم برقم (1676). (¬2) صحيح البخاري برقم (6809)، وصحيح مسلم برقم (57). (¬3) برقم (4690) وقال الذهبي في كتاب الكبائر (ص: 60): هذا الحديث على شرط البخاري ومسلم. (¬4) برقم (7047).

ولذلك أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - البيعة من أصحابه على أن لا يقعوا في هذه الفاحشة، روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا» (¬1) الحديث. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «ولا أعلم بعد قتل النفس ذنبًا أعظم من الزنا»، وقال المنذري رحمه الله: «صح أن مدمن الخمر إذا مات لقي الله كعابد وثن، ولا شك أن الزنا أشد، وأعظم من شرب الخمر». ولما حرم الله الزنا حرم الأسباب التي تؤدي إليه، ومن أعظمها: أولاً: إطلاق البصر قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، والنظر يكون في الأسواق، والأماكن العامة، وعبر شاشات القنوات الفضائية، والمجلات الهابطة، والتلفاز، وغيره. ثانيًا: خروج النساء متبرجات متعطرات إلى الأسواق، وهذا التبرج باب عظيم يؤدي إلى الفاحشة، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]. ثالثًا: دخول الرجال الأجانب على المرأة، وأخطر الأجانب على المرأة أقارب زوجها، وأقارب أبويها، فإنهم يترددون غالبًا، وربما كان يجمعهم بيت واحد، وتارة تكون وحدها في البيت عند دخول أحدهم، روى البخاري، ومسلم من حديث عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ» (¬2)، والحمو هو قريب الزوج. ¬

(¬1) البخاري برقم (18)، ومسلم برقم (1709). (¬2) البخاري برقم (5232)، ومسلم برقم (2172).

رابعًا: ما يحدث من بعض المجتمعات الإسلامية من إقامة الحد على الضعيف، وتركه عن القوي، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الزنا، وهذا الذي فعله بنو إسرائيل، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ» (¬1). خامسًا: تأخير من بلغ من الشباب، والشابات عن الزواج، فإنه بمجرد بلوغه تشتد عنده الشهوة، فإذا لم يكن بجانبه حلال يطفئها به، فربما يلجأ إلى الحرام الذي يجلب له العار في الدنيا، والخزي في الآخرة، روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» (¬2)، وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ، وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» (¬3). سادسًا: انتشار آلات اللهو، والفساد في البيوت، فالغناء هو بريد الزنا، والأفلام الخليعة التي تحكي الغرام بين الرجل والمرأة، عبر القنوات الفضائية الفاضحة، أو المواقع الإباحية في الإنترنت، أو مقاطع البلوتوث التي أساء استخدامها بعض الشباب، وصاروا يتداولون فيها الصور العارية كل ذلك مما يدعو إلى الفاحشة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. ¬

(¬1) البخاري برقم (3475)، ومسلم برقم (1688). (¬2) البخاري برقم (5066)، ومسلم برقم (1400). (¬3) سبق تخريجه.

سابعًا: انحراف بعض الرجال، وخيانتهم لزوجاتهم بمعاشرة النساء الأجنبيات على غير الوجه الشرعي، فيكون هذا مدعاة لأن تقابل الزوجة زوجها بمثل ما قابلها به، وفي هذا يقول الشافعي رحمه الله: يا هاتكًا حُرَمَ الرجال وتابعًا ... طُرُقَ الفَسَاد عِشْتَ غَيرَ مُكَرَّم لو كنتَ حُراً من سُلاَلَةِ مَاجدٍ ... ما كُنتَ هَتَّاكاً لِحُرْمَةِ مُسْلم من يَزنِ في قَومٍ بِألفي دِرْهَمٍ ... فِي أَهلِه يُزْنَى بِربع الدرهَم إن الزِنا دَيْن فإن أقرضتَهُ ... كَانَ الوَفَا مِنْ أَهلِ بَيتِكَ فاعلم وهذا الزوج الفاسق هو الذي سن هذه السيئة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان له وزرها، ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). تنبيه: انتشر في هذا الزمان ما يسمى بجوال الكاميرا، وكم حدثت مفاسد منه، فكم من نساء محصنات غافلات صورن فيه، وكم من أعراض انتهكت عن طريقه، كم هدم من بيوت، وشتت من أسر، وجلب من مآسٍ؟ ! فينبغي للمؤمن أن يحذِّر أهله منه، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَسْؤُوْلٌ عَن رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُوْلٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُوْلٌ عَنْهُم» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1017). (¬2) البخاري برقم (2554)، ومسلم برقم (1829). (¬3) هذه الكلمة مستفادة من خطبة للشيخ سعد الحميد حفظه الله.

الكلمة السابعة والثمانون: الاستخارة

الكلمة السابعة والثمانون: الاستخارة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري، والترمذي، والنسائي من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّوْرَةَ مِنَ القُرْآنِ، وَيَقُوْلُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُم بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِن غَيْرِ الفَرِيْضَةِ، ثُمَّ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيْرُكَ بِعِلمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيْمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوْبِ، اللَّهُمَّ إِن كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ، ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ، خَيْرٌ لِي فِي دِيْنِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَو قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيْهِ، وَإِن كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ - وَيَذْكُرُ الأَمْرَ، وَيُسَمِّيْهِ - شَرٌّ لِي فِي دِيْنِي، وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَو قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْه، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» (¬1). قال ابن أبي جمرة: الحكمة في تقديم الصلاة على دعاء الاستخارة: «أن المراد هو حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع، ولا أنجح من ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6382)، وسنن الترمذي برقم (480)، والنسائي برقم (3253).

الصلاة، لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مالًا وحالاً» (¬1). وقال بعض أهل العلم: يجوز تكرارها - أي الاستخارة - في الأمر الواحد، وممن ذهب إلى جواز ذلك الحافظ العراقي، ومال إلى ذلك الشوكاني في النيل، فقال: قد يستدل للتكرار بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا دَعَا، دَعَا ثَلاَثًا، حديث صحيح. هذا وإن كان المراد به تكرار الدعاء في الوقت الواحد، فإن الدعاء الذي تسن الصلاة له تكرر الصلاة له، كالاستسقاء (¬2). اهـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، فقد قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران: 159]، وقال قتادة: «ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم» (¬3). اهـ. قال الشيخ كمال الدين محمد بن علي الزملكاني: إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له، سواء انشرحت نفسه أم لا، فإن فيه الخير، وإن لم تنشرح نفسه. وقال: وليس في الحديث ما يدل على اشتراط انشراح النفس (¬4). اهـ. تنبيه: الاستخارة تكون في الأمر الذي يريد أن يقدم عليه، سواء كان مترددًا فيه أم جازمًا، وليس كما يظن البعض أن الاستخارة في الأمر الذي يتردد فيه، لأن الاستخارة طلب التوفيق، والنتائج لا يعلمها إلا الله، وكم من أمر ظن صاحبه أن فيه خيرًا فكان فيه هلاكه، وكم من أمر ظن ¬

(¬1) فتح الباري (11/ 186). (¬2) نيل الأوطار (2/ 90). (¬3) الكلم الطيب لابن تيمية (ص: 71). (¬4) طبقات الشافعية الكبرى (9/ 206).

صاحبه أن فيه شرًا، فكان فيه نجاته؟ ! وحسبنا في ذلك قول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. ومن فوائد الاستخارة وثمراتها: أولاً: إنها دليل على تعلق قلب المؤمن بالله عز وجل، وتوكله عليه في سائر أحواله، قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 217 - 219]. ثانيًا: الاستخارة تزيد ثواب المرء، وتقربه من ربه، وذلك لما تتضمنه من الصلاة والدعاء، وفي الحديث: قلت: فما الصلاة يا رسول الله؟ قال: «خَيْرُ مَوْضُوعٍ» (¬1). ثالثًا: في الاستخارة مخرج من الحيرة والشك، وهي مدعاة للطمأنينة وراحة البال، لأن العبد يفوض أمره إلى ربه الذي أزمة الأمور بيده سبحانه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ} [آل عمران: 154]. رابعًا: حصول الخير ودفع الشر؛ لأن ما يختاره الله لعبده أفضل مما يختاره العبد لنفسه؛ لأنه سبحانه هو العالم بمصالح عباده، العالم بغيبيات الأمور. خامسًا: حصول البركة في الأمر الذي سيقدم عليه، والبركة ما حلّت في قليل إلا كثر، ولا كثير إلا نفع، وفي حديث الاستخارة ¬

(¬1) جزء من حديث في مسند الطيالسي (1/ 65) برقم (478)، وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم (3870).

السابق: «وَبَارِكْ لِي فِيهِ». سادسًا: أن المرء قد يحتقر شيئًا لصغره، ويكون في فعله أو تركه ضرر عظيم، ولذلك شرعت الاستخارة في الأمور كلها (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) نيل الأوطار للشوكاني (2/ 88) طبعة وزارة الشؤون الإسلامية.

الكلمة الثامنة والثمانون: وقفة مع آيات من كتاب الله

الكلمة الثامنة والثمانون: وقفة مع آيات من كتاب الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58]. قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}، قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات، فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل عن غيرهم لما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم. قال ابن عباس: فاكهون: أي فرحون، وقال بعض المفسرين: أي في شغل مفكه للنفس ملذ لها من كل ما تهواه النفوس، وتلذه العيون، ويتمناه المتمنون، ومن ذلك نكاح زوجاتهم الأبكار من الحور العين في الجنة اللاتي قد جمعن حسن الوجوه والأبدان، وحسن الأخلاق» (¬1). قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} أي في ظلال الأشجار على السرر المزينة باللباس المزخرف الفاخر الحسن، متكئون عليها اتكاءً يدل على كمال الراحة، والطمأنينة، واللذة. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 369)، وتفسير ابن سعدي (ص: 819).

قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي فاكهة كثيرة من جميع أنواع الثمار اللذيذة، من عنب وتين ورمان، وغيرها، ولهم ما يدّعون: أي يطلبون فمهما طلبوه وتمنوه أدركوه، كما قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. قوله تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: في هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم، وأكده بقوله: {قَوْلاً}، وإذا سلم عليهم الرب الرحيم حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه، وحصلت لهم التحية، التي لا تحية أعلى منها، ولا نعيم مثلها، فما ظنك بتحية ملك الملوك الرب العظيم الرؤوف الرحيم لأهل دار كرامته الذين أحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدًا، فلولا أن الله تعالى قدر أن لا يموتوا، وألا تزول قلوبهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور لحصل ذلك، فنرجو ربنا أن لا يحرمنا ذلك النعيم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم (¬1). اهـ. ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: إن في الجنة أزواجًا مطهرة يتلذذ الإنسان ويتمتع بهن مع الجلوس على الأرائك، والاتكاء عليها، وتقديم الفواكه من الولدان والخدم، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، قال مجاهد: «مطهرة من الحيض، والغائط، والبول، والنخام، والبزاق، والمني، والولد». وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 56]، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن ¬

(¬1) (ص: 819 - 820).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُعْطَى قُوَّةَ مِئَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَالشَّهْوَةِ» (¬2). فقال رجل من اليهود: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِن جِلْدِهِ فإذَا بَطنُهُ قَدْ ضَمَرَ». قال الشاعر: وَجَنَّاتُ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ ... لِقَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى دَوَاماً تَبَتَّلُ بِهَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوسُ وَتَشْتَهِي ... وَقُرَّةُ عَينٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرَحَّلُ مَلاَبِسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَسُنْدُسٌ ... وَإِسْتَبْرَقٌ لاَ يَعْتَرِيهِ التَّحَلُّلُ وَأَزْوَاجُهُم حُورٌ حِسَانٌ كَوَاعِبُ ... عَلَى مِثلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بَل هُوَ أَشْكَلُ يُطَافُ عَلَيهِم بِالَّذِي يَشْتَهُونَهُ ... إِذَا أَكَلُوا نَوْعاً بِآخَرَ بَدَّلُوا ثانيًا: إن في الجنة أنهارًا وفواكه، ولكنها تختلف عما في الدنيا اختلافًا عظيمًا، لا يمكن أن يدركه الإنسان بحسه في الدنيا، كما قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. قال ابن عباس: «لاَ يُشبِهُ شَيءٌ مِمَّا فِي الجَنَّةِ مَا فِي ¬

(¬1) البخاري برقم (2796)، ومسلم برقم (1880). (¬2) (32/ 65) برقم (19314) وقال محققوه: حديث صحيح.

الدُّنيَا إِلاَّ الأَسمَاءَ». روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَال اللهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِيْنَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوْا إِن شِئْتُم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}» (¬1). ثالثًا: إثبات كلام الرب تعالى لأهل الجنة، كما في قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44]. قال ابن كثير: «الظاهر أن المراد - والله أعلم - تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام. أي: يوم يسلم عليهم، كما قال تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]» (¬2). رابعًا: أن رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا في الجنة، ورضاه عنهم أفضل النعم التي يكرم الله بها أهل الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث صهيب الرومي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَل أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ قَالَ: يَقُوْلُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيْدُوْنَ شَيْئًا أَزِيْدُكُم؟ فَيَقُوْلُوْنَ: أَلَم تُبَيِّضْ وُجُوْهَنَا؟ أَلَم تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوْا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِم مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِم عز وجل»، زاد في رواية: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] (¬3). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِن اللهَ تبارك وتعالى يَقُوْلُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ! فَيَقُوْلُوْنَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ! فَيَقُوْلُ: هَل رَضِيْتُم؟ فَيَقُوْلُوْنَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَد أَعْطَيْتَنَا مَا لَم تُعْطِ أَحَدًا مِن خَلقِكَ؟ فَيَقُوْلُ: أَنَا أُعْطِيكُم أَفْضَلَ مِن ذَلِكَ. قَالُوْا: يَا ¬

(¬1) البخاري برقم (3244)، ومسلم برقم (2824). (¬2) تفسير ابن كثير (11/ 184). (¬3) برقم (181).

رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِن ذَلِكَ؟ فَيَقُوْلُ: أُحِلُّ عَلَيْكُم رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم بَعْدَهُ أَبَدًا» (¬1). خامسًا: أن أهل الجنة كلما طلبوا شيئًا وتمنوه أدركوه، روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَأَلَ مُوْسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيْءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَقُوْلُ: أَي رَبِّ، كَيْفَ وَقَد نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُم وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِم؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَن يَكُوْنَ لَكَ مِثْلُ مُلكِ مَلِكٍ مِن مُلُوْكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُوْلُ: رَضِيْتُ رَبِّ! فَيَقُوْلُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ: رَضِيْتُ رَبِّ! ! فَيَقُوْلُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُوْلُ: رَضِيْتُ رَبِّ! قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاَهُم مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُم بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَم تَرَ عَيْنٌ وَلَم تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَم يَخْطُرْ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ» (¬2). قَال: وَمِصْدَاقُه فِي كِتَاب اللهِ عز وجل: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (6549)، ومسلم برقم (2829). (¬2) برقم (189).

الكلمة التاسعة والثمانون: تأملات في قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان}

الكلمة التاسعة والثمانون: تأملات في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عن فضله، وكرمه، وامتنانه، ولطفه بخلقه، وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع ناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله، ومنزلته للتساوي بينه، وبين ذاك. اهـ (¬1). قال ابن عباس: إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى لَيَرفَعُ ذُرِّيَّةَ المُؤمِنِ فِي دَرَجَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي العَمَلِ، لِتَقَرَّ بِهِم عَينُهُ، ثُمَّ قَرَأَ الآيَةَ: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية (¬2). قال ابن كثير: وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (13/ 232). (¬2) تفسير ابن كثير (13/ 232).

وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِن اللهَ عز وجل لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الجَنَّةِ، فَيَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُوْلُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» (¬1) (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬3). قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]؛ لما أخبر تعالى عن مقام الفضل، ورفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر تعالى عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحدًا بذنب أحد، فقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره، سواءً كان أبًا أو ابنًا، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ} [المدثر: 38 - 41]. ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أنها قيدت إلحاق ذرية المؤمن إلى درجته في الجنة بالإيمان، أما إذا كانت على غير الإيمان، فإنها لا تنتفع بصلاح الآباء، والأبناء، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ¬

(¬1) المصدر السابق (13/ 232). (¬2) (16/ 356 - 357) برقم (10610)، وقال محققوه: إسناده حسن، وقال ابن كثير في تفسيره (13/ 232): إسناده صحيح. (¬3) برقم (1631).

المُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40]. وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَلقَى إِبْرَاهِيْمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُوْلُ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ: أَلَم أَقُلْ لَكَ: لاَ تَعْصِنِي، فَيَقُوْلُ أَبُوْهُ: فَاليَوْمَ لاَ أَعْصِيَكَ، فَيَقُوْلُ إِبْرَاهِيْمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَن لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُوْنَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِن أَبِي الأَبْعَدِ؟ فَيَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِيْنَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيْمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلتَطِخٍ (¬1)، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ، فَيُلقَى فِي النَّارِ» (¬2). ثانيًا: إن فضل الله واسع، وهو سبحانه لا ينقص المؤمن من عمله شيئًا، بل يضاعفه له أضعافًا كثيرة، قال تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا} [طه: 112]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. ثالثًا: عدل الله سبحانه وتعالى، فهو لا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا ¬

(¬1) الذيخ: هو الضبع الذكر وقد تلطخ بالنجاسة. (¬2) برقم (3350).

يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، وقال تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. رابعًا: أن هذه الآية الكريمة من البشائر العظيمة التي يفرح بها المؤمنون، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. خامسًا: الاهتمام بتربية الأبناء تربية إسلامية، كتعليمهم العبادات، وحثهم عليها، وإلحاقهم بحلقات تحفيظ القرآن الكريم، وتعليمهم الآداب الحسنة، والأخلاق الكريمة، وتجنيبهم المحرمات، والمنكرات، وتحذيرهم منها، والدعاء لهم بالصلاح والهداية، حتى ينتفع بهم آباؤهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، روى الإمام أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مُرُوْا أَوْلاَدَكُم بِالصَّلاَةِ وَهُم ... أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِيْنَ، وَاضْرِبُوْهُم عَلَيْهَا وَهُم أَبْنَاءُ عَشْر سِنِيْنَ، وَفَرِّقُوْا بَيْنَهُم فِي المَضَاجِعِ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (5027).

الكلمة التسعون: الاستغفار

الكلمة التسعون: الاستغفار الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى مسلم في صحيحه من حديث الأغر المزني - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي اليَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر قال: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي المَجلِسِ الوَاحِدِ مِئَةَ مَرَّةٍ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والعبد دائمًا بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب يحتاج فيه إلى استغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه ولا يزال محتاجًا إلى التوبة، والاستغفار، ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد - صلى الله عليه وسلم - يستغفر الله في جميع الأحوال» (¬3). اهـ. ¬

(¬1) برقم (2702). (¬2) برقم (1516) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 283) برقم (1342). (¬3) التحفة العراقية (1/ 79).

وقد أمر الله نبيه والمؤمنين بالاستغفار، ووعدهم بالمغفرة، فقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106]، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19]، وقال تعالى: ... {وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]. والاستغفار يكون للنفس وللغير، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} [غافر: 7]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِن اللهَ عز وجل لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الجَنَّةِ، فَيَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُوْلُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ» (¬1). ولا يجوز الاستغفار للمشرك، ولو كان حبيبًا، أو قريبًا، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113 - 114]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبرَ أُمِّهِ، فَبَكَى، وَأَبكَى مَن حَولَهُ، فَقَالَ: «اسْتَاذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَاذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا ¬

(¬1) سبق تخريجه.

الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» (¬1). كما بين سبحانه أن الاستغفار لهم لا ينفعهم، ولا يقبله الله من صاحبه، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. وصيغ الاستغفار كثيرة، وقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك ما رواه أبو داود من حديث زيد - رضي الله عنه - مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» (¬2). ومنها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا، وَقَالَ: «اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ، وَمِنْكَ السَّلاَمُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ»، قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الاِسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ (¬3). ومن أفضلها ما رواه البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس قال: «سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَليَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، قَالَ: مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ ¬

(¬1) برقم (976). (¬2) برقم (1517) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 283) برقم (1343). (¬3) برقم (591).

مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (¬1). والاستغفار يشرع في أي وقت، ويجب عند فعل الذنب الإقلاع عنه، والاستغفار منه، ويستحب بعد الأعمال الصالحة؛ ليجبر ما كان فيها من تقصير، كالاستغفار ثلاثاً بعد الصلاة، كما مر، والاستغفار في الحج، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]. ومن أفضل أوقات الاستغفار وقت السحر، قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} [آل عمران: 135 - 136]. قال الفضيل بن عياض: استغفار بلا إقلاع، توبة الكذابين. ويقاربه ما جاء عن رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. والاستغفار سبب لنزول المطر، والإمداد بالأموال، والبنين، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]، والاستغفار سبب لدفع البلاء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] قال علي - رضي الله عنه -: «مَا نَزَلَ بَلاءٌ إِلاَّ بِذَنبٍ، وَلاَ رُفِعَ إِلاَّ بِتَوبَةٍ». وقال أبو موسى: «كَانَ لَنَا أَمَانَانِ، ذَهَبَ أَحَدُهُمَا، ¬

(¬1) برقم (6306).

وَهُوَ كَونُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا، وَبَقِيَ الاِستِغفَارُ مَعَنَا، فَإِنْ ذَهَبَ هَلَكْنَا» (¬1). والاستغفار سبب لنزول الرحمة، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]. والاستغفار كفارة للمجلس، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) التوبة إلى الله، للغزالي (ص: 124). (¬2) برقم (3433)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 153) برقم (2730).

الكلمة الحادية والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى (العزيز)

الكلمة الحادية والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى (العزيز) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِئَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (¬1)، وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬2). ومن أسماء الله الحسنى: العزيز، قال القرطبي: «العَزِيزُ مَعنَاهُ المَنِيعُ، الَّذِي لاَ يُنَالُ، وَلاَ يُغالَبُ» (¬3)، وقال ابن كثير: العَزِيزُ: الَّذِي عَزَّ كُلُّ شَيءٍ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ الأَشيَاءَ فَلاَ يُنَالُ جَنَابُهُ لِعِزَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ، وَكِبرِيَائِهِ (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: العزة متضمنة لأنواع ثلاثة: 1 - عزة القوة، الدال عليها من أسمائه القوي المتين. 2 - عزة الامتناع، فإنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، بل هو الضار النافع ¬

(¬1) البخاري برقم (6410)، ومسلم برقم (2677). (¬2) برقم (7392). (¬3) تفسير القرطبي (2/ 131) نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى. (¬4) تفسير ابن كثير (2/ 456) (3/ 6).

المعطي المانع. 3 - عزة القهر، والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته، منقادة لإرادته، لا يتحرك منها متحرك إلا بحوله، وقوته (¬1)، وقال بعضهم: ذكر العزيز في القرآن في اثنتين وتسعين مرة (¬2)، قال تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]، وقال تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4]، وقال أيضًا: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38]. ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن من أسمائه: العزيز الذي لا يُغلب، ولا يُقهر، يُعطي الشجاعة والثقة به سبحانه، لأن معناه أن ربه لا يُمانع، ولا يرد أمره، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاؤوا، والمتأمل في قصص الأنبياء والرسل يجد ذلك واضحًا جليًا، فمن ذلك قصة موسى عليه السلام، عندما حاول فرعون أن يمنع خروج هذا الصبي بأن أمر بقتل جميع الذكور من بني إسرائيل، لأنه علم أنه سيخرج فيهم نبي ينتزع منه ملكه، ولكن يأبى الله العزيز إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، فولد موسى عليه السلام، وتربى في قصر فرعون، وفي بيته، وتحت رعايته، ولما حاول قتله أهلكه الله، وقائده هامان، وجنوده أجمعين، وغيرها من القصص (¬3). ثانيًا: أن العزيز في الدنيا والآخرة هو من أعزه الله، قال تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ ¬

(¬1) نزهة الأعين النواظر (434 - 435) نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم (7/ 2821 - 2822). (¬2) النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، للنجدي (1/ 136). (¬3) انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 138).

تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فمن طلب العزة فليطلبها من رب العزة، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، أي من أحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعًا، وقد ذم الله أقوامًا طلبوا العزة من غيره سبحانه، فوالوا أعداء الله من الكافرين، ظنًا منهم أن هذا هو سبيل العزة، وطريقها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]. ومع عظم الطاعة تزداد العزة، فأعز الناس هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم من المؤمنين المتبعين لهم. قال فخر الدين الرازي: «وعزة كل أحد بقدر علو رتبته في الدين، فإنه كلما كانت هذه الصفة فيه أكمل كان وجدان مثله أقل، وكان أشد عزة، وأكمل رفعة» (¬1). ولهذا قال سبحانه: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللهُ» (¬2). وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «نَحنُ قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسْلاَمِ، فَمَهمَا ابتَغَينَا العِزَّةَ بِغَيرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ» (¬3)، وكان من دعاء السلف: ¬

(¬1) شرح الأسماء (ص: 196) نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 140). (¬2) مسند الإمام أحمد (18/ 105) برقم (11547) وقال محققوه: إسناده صحيح وأصله في الصحيحين. (¬3) مستدرك الحاكم (1/ 236 - 237) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه الشيخ عبدالسلام علوش: إسناده صحيح.

«اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ وَلاَ تُذِلَّنَا بِمَعصِيَتِكَ» (¬1). فصاحب الطاعة عزيز، وصاحب المعصية ذليل، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: «وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» (¬2). ثالثًا: سؤال الله تعالى، والتضرع إليه بهذا الاسم العزيز، روى الترمذي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي، وَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وَجَعِي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ، ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ» (¬4). رابعًا: من أسباب العزة والرفعة العفو والتواضع، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ» (¬5). فمن عفا عن شيء مع مقدرته على الانتقام، عظم في القلوب في الدنيا، وفي الآخرة يعظم الله له الثواب، وكذلك التواضع رفعة في الدنيا والآخرة. خامسًا: أن ما أصاب المسلمين من ضعف، وذل وهوان، وتخلف عن بقية الأمم في هذه الأزمنة، إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، ¬

(¬1) الجواب الكافي (ص: 53). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) برقم (3588) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 184) برقم (2838) وأصله في صحيح مسلم. (¬4) جزء من حديث البخاري برقم (7383)، ومسلم برقم (2717) واللفظ له. (¬5) برقم (2586).

والبعد عن دين الله تعالى، ولو أنهم تمسكوا بهذا الدين، وعملوا به لأعزهم الله، ونصرهم على الأعداء، ولأصبحوا سادة العالم، وقادة الشعوب، كما حصل للصحابة رضي الله عنهم، فقد وصلت فتوحاتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ، وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ». وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ في أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ، وَالْجِزْيَةُ (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (28/ 155) برقم (16957) وقال محققوه: إسناده صحيح.

الكلمة الثانية والتسعون: شكر النعم

الكلمة الثانية والتسعون: شكر النعم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن نعم الله علينا لا تعد، ولا تحصى، بل هي متتابعة، بتتابع الليل والنهار، قال تعالى: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]. ومن أعظم هذه النعم نعمة الهداية لهذا الدين، قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى: ... {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والعبد دائمًا بين نعمة من الله تحتاج إلى شكر، وذنب يحتاج فيه إلى استغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، إلى آخر ما قال» (¬1). ¬

(¬1) التحفة العراقية (1/ 79).

ومن هذه النعم على سبيل المثال: نعمة السمع، والبصر والفؤاد، قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. ومنها نعمة الأمن في الأوطان، فإن حاجة الناس إلى الأمن أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فقد قدمه إبراهيم عليه السلام على الرزق، فقال الله عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، ولأن الناس لا يهنأون بطعام ولا شراب مع الخوف، قال تعالى ممتنًا على قريش بهذه النعمة: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]. وغير ذلك من النعم التي لا يستطاع حصرها، ولا الإحاطة ببعضها، وصدق الله إذ قال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]. وهذه النعم بلا شك تحتاج إلى شكر، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. ومن الأسباب المعينة على شكر النعم: أولاً: التأمل في نعم الله، واستحضارها في كل لحظة وحين، وعدم الغفلة عنها، فإن كثيرًا من الناس يتنعمون بشتى أنواع النعم من مآكل، ومشارب، ومراكب، ومساكن، ومع ذلك لا يستشعرون هذه النعم، لأنهم لم يفقدوها يومًا من الأيام، واعتادوا عليها، لذلك فإن الله يريد منا التأمل في هذه النعم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]. ثانيًا: أن ينظر كل واحد منا إلى من هو أسفل منه، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انْظُرُوا إِلَى

مَنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أجْدَرُ أنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (¬1)، وفي رواية: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ» (¬2). قال ابن جرير: «هَذَا حَدِيْثٌ جَامِعٌ لأَنْوَاعٍ مِنَ الخَيْرِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَن فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَت نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِن نِعْمَةِ اللهِ، وَحَرَصَ عَلَى الازْدِيَادِ لِيَلحَقَ بِذَلِكَ، أَو يُقَارِبَهُ. هَذَا هُوَ المَوْجُوْدُ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُوْرِ الدُّنْيَا إِلَى مَن هُوَ دُوْنَهُ فِيْهَا، ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ فِيْه الخَيْرَ» (¬3). اهـ. ثالثًا: أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر هذه النعم، هل قام بذلك أو قصر؟ قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]. روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ أُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَأُرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ؟ » (¬4)، وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِن اللهَ تَعَالَى يَقُوْلُ لِلعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَلَم أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ (¬5)، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ وَالإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسْ، وَتَرْبَعْ؟ فَيَقُوْلُ: بَلَى. فَيَقُوْلُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963) واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري برقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963). (¬3) صحيح مسلم، شرح النووي (6/ 97). (¬4) مستدرك الحاكم (5/ 191) برقم (7285)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 76) برقم (539). (¬5) أي أجعلك سيداً على غيرك.

مُلاَقِيَّ؟ فَيَقُوْلُ: لاَ. فَيَقُوْلُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيْتَنِي» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُوْلُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَن عُمُرِهِ فِيْمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَن عِلمِهِ فِيْمَ فَعَلَ؟ وَمَالِهِ مِن أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيْمَ أَنْفَقَهُ؟ » (¬2). رابعًا: شكر هذه النعم بالقلب والقول والفعل، قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، وقال أيضًا: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]؛ فاستمرار هذه النعم بالشكر بأنواعه الثلاثة، وذهابها بالمعاصي والذنوب، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ، قَالَت عَائِشَةُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَتَصنَعُ هَذَا، وَقَد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟ ! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ! » (¬3). قال الشاعر: إذا كُنْتَ في نِعْمَة فَارْعَهَا ... فإن المعَاصِي تزيلُ النعم وحُطْها بطاعَةِ ربِ العبادِ ... فَرَبُّ العبَادِ سَرِيعُ النقم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جزء من حديث مسلم في صحيحه برقم (2968). (¬2) برقم (2416)، وقال حديث حسن صحيح. (¬3) صحيح البخاري برقم (1130)، وصحيح مسلم برقم (2820).

الكلمة الثالثة والتسعون: الورع

الكلمة الثالثة والتسعون: الورع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الصفات المحمودة التي حث عليها الشرع، ورغب فيها: الورع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَأَمَّا الْوَرَعُ فَإِنَّهُ الإِمْسَاكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ، لأَنَّهَا قَدْ تَضُرُّ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» (¬1). وقال الشيخ ابن عثيمين: «الورع ترك ما يضر، ومن ذلك ترك الأشياء المشتبه في حكمها، والمشتبه في حقيقتها، فالأول اشتباه في الحكم هل هو حرام أو حلال؟ والثاني اشتباه في الحال، فالإنسان الورع هو الذي إذا اشتبه الأمر عليه تركه إن كان اشتباهاً في تحريمه، وفعله إن كان اشتباهاً في وجوبه لئلا يأثم بالترك» (¬2) أهـ. روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 615). (¬2) شرح رياض الصالحين (3/ 485 - 486).

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» (¬1). وروى الحاكم في المستدرك من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فَضْلُ العِلمِ أحبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِيْنِكُمُ الوَرَعُ» (¬2). وروى النسائي من حديث الحسن بن علي قال: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ» (¬3). وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ البِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» (¬4). والورع بابه واسع يشمل الورع في النظر، والسمع، واللسان، والبطن، والفرج، والبيع، والشراء، وغير ذلك. ويكثر وقوع كثير من الناس في المحرمات والشبهات، بسبب تخلف هذه الأمور الثلاثة: الورع في اللسان، والبطن، والنظر، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. قال الإمام أحمد بن حنبل: ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (52)، وصحيح مسلم برقم (1599) واللفظ له. (¬2) (1/ 283) برقم (320) وقال محققه: الحديث عندي أنه حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم (4214). (¬3) برقم (5711) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1153) برقم (5269). (¬4) برقم (2553).

«هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيلحقها بصره» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيْهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» (¬2)، ومعنى «مَا يَتَبَيَّنُ» أي: ما يتفكر فيها، ولا يتأملها هل هي خير أو شر؟ وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْهَا، فَقَالَت: «أَحْمِي سَمْعِي، وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا»، قَالَت: وَهِيَ الَّتِي كَانَت تُسَامِيْنِي مِن أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ» (¬3). وقال وهيب بن الورد، ولو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أو حرام. وقد كان عليه الصلاة والسلام إمام الورعين، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِهَا» (¬4)؛ لأن الصدقة محرمة عليه، وعلى أهل بيته. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقتفون أثره عليه السلام، ويتبعون سنته، فروى البخاري في صحيحه من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَاكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ ¬

(¬1) الورع للمروذي (ص: 111). (¬2) صحيح البخاري برقم (6477)، وصحيح مسلم برقم (988) واللفظ له. (¬3) صحيح البخاري برقم (4750)، وصحيح مسلم برقم (2770). (¬4) البخاري برقم (2432)، ومسلم برقم (1070).

فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث نافع - يعني عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: «كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ فِي أَرْبَعَةٍ، وَفَرَضَ لاِبْنِ عُمَرَ ثَلاَثَةَ آلاَفٍ وَخَمْسَمِئَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ. يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ» (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه -: «تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا» (¬3)، وقال عبد الله بن المبارك: «لأن أرد درهمًا واحدًا من شبهة، أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف»، وكان عمر بن عبد العزيز تسرج له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها، وأسرج عليه سراجه، وقال لامرأته يومًا: «عندك درهم أشتري عنبًا؟ قالت: لا. قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين، ولا تقدر على درهم. قال: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم». وتقدم كلام الشيخ ابن عثيمين أن الاشتباه على نوعين: اشتباه في الحكم، فلا يدري المؤمن هل هو من الحلال البين؟ أو من الحرام البين؟ فهذا أمثلته كثيرة جدًّا، لأنها تختلف باختلاف أفهام العلماء، فمنهم من يرى التحريم، ومنهم من يرى الحل، وقد يمثل لذلك ببعض ¬

(¬1) برقم (3842). (¬2) برقم (3912). (¬3) مصنف عبدالرزاق (8/ 152) برقم (14683).

المعاملات، والمساهمات المالية المنتشرة في هذه الأيام (¬1). الثاني الاشتباه في الحال، وقد يمثل لذلك بالدجاج المستورد من الخارج، فبعض العلماء يرى جوازه؛ لأنه من طعام أهل الكتاب، قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وقد تبين لدى بعض طلبة العلم أن كثيرًا من هذا الدجاج يذبح بالصعق الكهربائي، أو غيرها من طرق الذكاة غير الشرعية، وهذا من المشتبه حاله، فالورع تركه. ومما ينبغي التنبيه عليه أن من تورع، وترك الشبهات، فإن الله يعوضه خيرًا مما فاته، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة، وأبي الدهماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ عز وجل إِلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ولمزيد من التفصيل انظر كتاب "الأسهم المختلطة" للشيخ صالح العصيمي فقد أجاد فيه وأفاد. (¬2) سبق تخريجه.

الكلمة الرابعة والتسعون: علاج الهموم والغموم

الكلمة الرابعة والتسعون: علاج الهموم والغموم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن المؤمن لا تخلو حياته من الهموم والأحزان التي تكدر عليه عيشته، وتنغص عليه لذته، ومع ما في ذلك من تكفير للسيئات، ورفع للدرجات، فإن فيها فوائد أخرى، من أهمها أنها تدفع المؤمن للجوء إلى الله، والانكسار بين يديه، والتضرع إليه، فيحصل بذلك للقلب من الراحة والطمأنينة، واستشعار القرب من الله عز وجل ما لا يمكن وصفه. وأيضًا فإن هذه المنغصات تجعل المؤمن يعرف حقارة الدنيا، فيزهد فيها، ولا يركن إليها، ويقبل على الآخرة على بصيرة بأنها خير وأبقى، إذ لا هم فيها ولا حزن، كما قال سبحانه: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35]، فما أعظم هذه الفائدة لمن عرف حكمة الله تعالى فيها! وهذه بعض الأسباب التي تُدفعُ بها الهموم والغموم والأحزان والمصائب لمن أحسن استعمالها. أولاً: الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وهذا وعد من الله لمن آمن

وعمل صالحًا، أن الله يحييه حياة سعيدة، روى مسلم في صحيحه من حديث صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (¬1). ثانيًا: فرح المسلم بما يحصل له من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، جزاء صبره واحتسابه على ما يصيبه من هموم الدنيا، ومصائبها. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (¬2)، وفي رواية لمسلم: «حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» (¬3)، وفي رواية أخرى لمسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا، إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» (¬4). فيعلم المسلم أن ما يصيبه من هموم، وغموم إنما هو تكفير لسيئاته، وتكثير لحسناته، قال أحد السلف: «لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس»، وكان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء. ثالثًا: معرفة حقيقة الدنيا، وأنها فانية، متاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدرة، لا تصفو لأحد، إن أضحكت قليلاً، أبكت طويلاً، وإن سرت يسيرًا أحزنت كثيرًا، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فيوم لك، ويوم عليك، روى مسلم في ¬

(¬1) برقم (2999). (¬2) البخاري برقم (5642). (¬3) برقم (2573). (¬4) برقم (2572).

صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» (¬1)، وهي كذلك دار نصب، وأذى، وغم، وهم، ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُستَرِيحٌ، وَمُستَرَاحٌ مِنهُ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا المُستَرِيحُ وَالمُستَرَاحُ مِنهُ؟ قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلاَدُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ» (¬2) فهذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا، يهون عليه المصائب، والهموم؛ لأنه يعلم أن ذلك من طبيعتها. رابعًا: هموم الدنيا وغمومها تشتت النفس، وتفرق شملها، فإذا جعل العبد الآخرة همه جمع الله له شمله، وقويت عزيمته، روى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ، وَلَمْ يَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» (¬3). خامسًا: الدعاء، فإنه علاج نافع لدفع الهم، والغم، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله من الهم، والحزن. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: كُنتُ أَخدِمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَزَلَ، فَكُنتُ أَسمَعُهُ ¬

(¬1) برقم (2956). (¬2) البخاري برقم (6512)، ومسلم برقم (950). (¬3) برقم (2465)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6516).

كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَانِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» (¬2). فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعا، وعمل له، وانقلب همه فرحًا، وسرورًا. سادسًا: التوكل على الله، قال تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، أي: كافيه من كل شيء مما يهمه من أمر الدنيا والآخره، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام، ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله، وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم، والغموم، وزالت عنه كثيرٌ من الأسقام القلبية والبدنية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ... » (¬3) إلى آخر ما قال. والأسباب كثيرة لمن تأملها، وقد اقتصرت على الأهم منها، وجماع هذه الأسباب قراءة القرآن بتدبر، فإنه ربيع القلوب، ونور الصدور، وجلاء الأحزان، وذهاب الهموم والغموم، والشفاء لجميع ¬

(¬1) برقم (2893). (¬2) برقم (5090) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 959) برقم (4246). (¬3) الأسباب المفيدة في الحياة السعيدة، (ص: 24 - 25).

الأمراض البدنية والقلبية، قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. فمن قرأ هذا القرآن بتدبر وإقبال، ذهبت عنه الهموم والغموم، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28] (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: رسالة الشيخ محمد المنجد: (علاج الهموم).

الكلمة الخامسة والتسعون: قصة نبي الله أيوب عليه السلام

الكلمة الخامسة والتسعون: قصة نبي الله أيوب عليه السلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فلقد قصّ الله علينا في كتابه العزيز قصص الأنبياء والمرسلين، لنأخذ منها الدروس والعبر، ولتثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقوية إيمان المؤمنين، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. وقال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. ومن هؤلاء الرسل نبي الله أيوب عليه السلام، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83 - 84]. وقال تعالى: {وَاذُكْر عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّيِ مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41 - 44].

قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: إن أيوب عليه السلام كان رجلاً كثير المال بأنواعه المتعددة، من الأراضي الواسعة، والأنعام والمواشي، وكان ذلك بأرض البَثْنِيَّة بأرض حوران بالشام، قال ابن عساكر: «كانت كلها له، فابتلاه الله بفقد ذلك كله، وابتُلي بأنواع البلايا في جسده، حيث لم يبق موضع في جسده لم يسلم من الأذى سوى قلبه ولسانه، وكان يذكر الله بهما، ويسبح ليلاً ونهارًا، وصباحًا ومساءً، حتى عافه الجليس، واستوحش منه الأنيس، وعافه القريب والبعيد، ورمي في مزبلة خارج بلده، ولم يبق عنده سوى زوجته، كانت تحفظ حقه، وقديم إحسانه، وشفقته عليها، وكانت تعمل بالأجر عند الناس، وتأتيه بالطعام، مع صبرها على فراق المال والولد، ومرض الزوج بعد النعمة، والحرمة التي كانت فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكما تقدم كانت تخدم الناس بالأجر، وتطعم أيوب عليه السلام، ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها، لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفًا من أن ينالهم من بلائه، أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحدًا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمت به أناسًا، فلما كان من الغد لم تجد أحدًا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام، فأتته به فأنكره، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا قال في دعائه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فجاء الفرج من الله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أُمر به، فأنبع الله عينًا باردة الماء، وأمره أن يغتسل فيها، ويشرب من مائها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم الذي كان في جسده ظاهرًا وباطنًا، وأبدله الله بعد ذلك

صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تامًّا، ومالاً كثيرًا، حتى صب له من المال مطرًا عظيمًا، جراد من ذهب، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ» (¬1). وأخلف الله له أهله، كما قال سبحانه: {وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84]. قيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: عوضه الله عنهم في الدنيا بدلهم، وقيل غير ذلك، رحمة منا ورأفة وإحسانًا وذكرى للعابدين (¬2). ومن الدروس والعبر المستفادة من قصة نبي الله أيوب عليه السلام: أولاً: ابتلاء الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وأن هذا البلاء لم يزده إلا صبرًا، واحتسابًا، وحمدًا، وشكرًا، حتى إن المثل ليضرب بصبره عليه السلام، ويضرب المثل بما حصل له من أنواع البلاء. قال السدي: «تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم، والعصب»، روى أبو يعلى في مسنده من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ نَبِيَّ اللهِ أَيُّوبَ لَبَثَ بِهِ بَلاَؤُهُ ثَمَانِيَ عَشرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ، وَالبَعِيدُ، إِلاَّ رَجُلاَنِ مِن إِخوَانِهِ، كَانَا يَغدُوَانِ إِلَيهِ، وَيَرُوحَانِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ذَاتَ يَومٍ: تَعلَم وَاللهِ لَقَد أَذنَبَ أَيُّوبُ ذَنبًا مَا أَذنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنذُ ثَمَانِ عَشرَةَ سَنَةً لَم يَرحَمهُ اللهُ، فَيَكشِفْ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَى أَيُّوبَ لَم يَصبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ أَيُّوبُ: لاَ أَدرِي مَا تَقُولاَنِ، غَيرَ أَنَّ اللهَ ¬

(¬1) برقم (279). (¬2) البداية والنهاية (1/ 507 - 509).

يَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أَمُرُّ بِالرَّجُلَينِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذكُرَانِ اللهَ، فَأَرجِعُ إِلَى بَيتِي فَأُكَفِّرُ عَنهُمَا كَرَاهِيَةَ أَن يُذكَرَ اللهُ إِلاَّ فِي حَقٍّ ... » (¬1) الحديث. وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلاَبَةٌ زِيدَ فِي بَلاَئِهِ، وَإِنَ كَانَ فِي دِينِه رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» (¬2). ثانيًا: أن يقال: يا أهل البلاء، يا من ابتليتم في أموالكم، أو أولادكم، أو أنفسكم اصبروا، واحتسبوا، فإن العوض من الله، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. قال ابن كثير: «هذه تذكرة لمن ابتلي في جسده، أو ماله، أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه» (¬3). قال الشاعر: إذا بُلِيتَ فَثِقْ بالله وارْضَ بِهِ ... إن الذِي يكشفُ البلوَى هو اللهُ ¬

(¬1) (6/ 299) برقم (3617)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 53 - 54) برقم (17). (¬2) (3/ 78) برقم (1481) وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) البداية والنهاية (1/ 513).

إذا قَضَى اللهُ فاستسلم لِقدْرتِه ... مَا لامرِئٍ حيلةٌ فيما قَضَى اللهُ ثالثًا: أن من أصيب بمصيبة فصبر واحتسب واسترجع عوضه الله خيرًا مما فاته، كما حصل لأيوب عليه السلام، روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا». قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي فَقُلْتُهَا. قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). رابعًا: أن في هذا رسالة للزوجات المؤمنات بأن يصبرن على مرض أزواجهن، أو فقرهم، أو غير ذلك مما يحصل لهم، ولهن في ذلك قدوة امرأة أيوب عليه السلام، وكيف صبرت واحتسبت حتى كشف عن زوجها الغمة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» (¬2)، وفي رواية: أن امرأة قالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَقُّ الزَوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَن لَو كَانَت قَرَحةٌ فَلَحَستهَا ما أَدَّتْ حَقَّهُ» (¬3). خامسًا: أن الله تعالى يجعل لأوليائه المتقين فرجًا ومخرجًا، فإن أيوب حلف أن يضرب امرأته مئة سوط، قال ابن كثير: «فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ الضغث، وهو شمراخ النخل، فيضربها ضربة ¬

(¬1) برقم (918). (¬2) جزء من حديث (20/ 65) برقم (12614)، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬3) صحيح ابن حبان برقم (4152).

واحدة، ويكون هذا بمنزلة الضرب بمئة سوط، ويبر ولا يحنث، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله، وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة الصِّدِّيقة البارة الراشدة؛ ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البداية والنهاية (1/ 514).

الكلمة السادسة والتسعون: الأسباب الجالبة لمحبة الله

الكلمة السادسة والتسعون: الأسباب الجالبة لمحبة الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ} [البقرة: 165]، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (¬1). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الأسباب الجالبة لمحبة الله عشرة: الأول: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أُريد به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال عبد الله بن مسعود: «لاَ تَنثُرُوهُ كَنَثرِ الدَّقلِ، وَلاَ تَهُذُّوهُ كَهَذِّ الشِّعرِ، قِفُوا عِندَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ، وَلاَ يَكُن هَمُّ أَحَدِكُم آخِرَ السُّورَةِ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (16)، وصحيح مسلم برقم (43). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 256) برقم (8733).

الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» (¬1). الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد 28]، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: «أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذكُرُنِي، إِن ذَكَرَنِي فِي نَفسِهِ ذَكَرتُهُ فِي نَفسِي، وَإِن ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرتُهُ فِي مَلإٍ هُم خَيرٌ مِنهُم» (¬2). الرابع: إيثار محابه على محابك، عند غلبة الهوى، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله، ويبغض ¬

(¬1) برقم (6502). (¬2) صحيح البخاري برقم (7405)، وصحيح مسلم برقم (2675) واللفظ له.

ما يبغضه الله، ويوالي فيه، ويعادي فيه، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬1)، وفي صحيح البخاري أن عمر - رضي الله عنه - قال: يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «الآنَ يَا عُمَرُ» (¬2). الخامس: مطالعة القلب لأسماء الله الحسنى وصفاته، ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها، قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. السادس: مشاهدة بره، وإحسانه، ونعمه الظاهرة، والباطنة، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]. ومن أعظم هذه النعم: نعمة الهداية لهذا الدين، قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. السابع - وهو أعجبها -: انكسار القلب بين يديه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل»، روى البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس: ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (15)، وصحيح مسلم برقم (44). (¬2) برقم (6632).

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَيِّدُ الاِستِغفَارِ أَن يَقُولَ العَبدُ ... فَذَكَرَ الحَدِيثَ» فجمع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَبُوءُ لَكَ بِنِعمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنبِي» بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، فمشاهدة المنة توجب له المحبة والشكر لولي النعمة والإحسان، ومطالعة عيب النفس، والعمل، توجب الذل والانكسار والافتقار في كل وقت، وألا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً، ولا مقامًا، ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه، ويرى في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك، وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود إلى الله ويتداركه برحمته (¬1). اهـ. الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي، وتلاوة كتابه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ » (¬2). التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، وعدم الكلام إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك، ومنفعة لغيرك، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ¬

(¬1) انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 7 - 8). (¬2) البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758).

«لَوْلاَ ثَلاَثٌ مَا أَحْبَبْتُ العَيشَ فِي الدُّنْيَا: الغَزوُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمُكَابَدَةُ السَّاعَاتِ مِنَ اللَّيلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلاَمَ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» (¬2). العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب سبحانه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مختصر قيام الليل للمروزي (ص: 62) بمعناه. (¬2) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (6136)، وصحيح مسلم برقم (47).

الكلمة السابعة والتسعون: حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -

الكلمة السابعة والتسعون: حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3]، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الكَوثَرُ الخَيرُ الكَثِيرُ الَّذِي أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشرٍ: قُلتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزعُمُونَ أَنَّهُ نَهرٌ فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهرُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيرِ الكَثِيرِ الَّذِي أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَينَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ إِذ أَنَا بِنَهرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلتُ: مَا هَذَا يَا جِبرِيلُ؟ قَالَ: الكَوثَرُ الَّذِي أَعطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ مِسكٌ أَذفَرُ» (¬2). وهذا الكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر الحوض قال: «يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَا» (¬3)، ¬

(¬1) برقم (6578). (¬2) برقم (6581). (¬3) برقم (2300).

وفي رواية أخرى لمسلم: «يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ» (¬1). وهذا الحوض، وصفته ثبتت بطرق عن جمع من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واشتهر ذلك واستفاض، بل تواترت في كتب السنة من الصحاح، والحسان، والمسانيد، والسنن، والحوض هو مجمع الماء. قال النووي رحمه الله: «وَهَذَا تَصرِيحٌ بِأَنَّ الحَوضَ حَقِيقِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَبَقَ، وَأَنَّهُ مَخلُوقٌ مَوجُودٌ اليَومَ» (¬2). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وَالحَوضُ مَوجُودٌ الآنَ» (¬3) لما رواه البخاري، ومسلم من حديث عقبة بن عامر: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَومًا فَصَلَّى عَلَى أَهلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى المَيْتِ، ثُمَّ انصَرَفَ عَلَى المِنبَرِ، فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضي الآنَ» (¬4). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» (¬5). ولهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض (¬6). اهـ. وأما في كيفية مائه، فإنه أشد بياضًا من اللبن، هذا اللون، أما في الطعم فإنه أحلى من العسل، وفي الرائحة أطيب من المسك. روى مسلم من حديث أبي ذر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر الحوض ¬

(¬1) برقم (2301). (¬2) شرح صحيح مسلم (5/ 59). (¬3) شرح العقيدة الواسطية (2/ 157). (¬4) البخاري برقم (6590)، ومسلم برقم (2296). (¬5) البخاري برقم (6588)، ومسلم برقم (1391). (¬6) شرح العقيدة الواسطية (2/ 157).

قال: «مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» (¬1)، وفي رواية في الصحيحين: «وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ» (¬2). أَمَّا آنِيَتُهُ فَعَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَهَذَا وَرَدَ فِي بَعضِ أَلفَاظِ الحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَينِ (¬3)، وفي بعضها: «آنِيَتُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ» (¬4)، وهذا لفظ أشمل لأنه يكون كالنجوم في العدد، وفي الوصف بالنور واللمعان، فآنيته كنجوم السماء كثرة، وإضاءة، وفي بعض روايات الصحيح: أَنَّ هَذِهِ الأَبَارِيقَ مِن ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ (¬5). ومساحة هذا الحوض طوله شهر، وعرضه شهر، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا يقتضي أن يكون مدورًا، لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من سير الإبل المعتاد (¬6)، فقد جاء في الصحيحين: «أَنَّ عَرْضَهُ مِثْلُ طُولِهِ مِن عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ»، وعمان بلدة بالبلقاء من الشام، وأيلة بلدة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر (¬7). وفي رواية أخرى: «مَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ»، وهما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام (¬8)، وفي رواية أخرى: «قَدْرُ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ ¬

(¬1) برقم (2301). (¬2) صحيح البخاري برقم (6579)، وصحيح مسلم برقم (2292). (¬3) البخاري برقم (6580)، ومسلم برقم (2303). (¬4) صحيح البخاري برقم (6579)، وصحيح مسلم برقم (2292). (¬5) صحيح مسلم برقم (2303). (¬6) شرح العقيدة الواسطية (2/ 159). (¬7) صحيح مسلم برقم (2300). (¬8) صحيح البخاري برقم (6577)، وصحيح مسلم برقم (2299).

أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ» (¬1)، وفي أخرى: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَييْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ» (¬2). وذكر بعض العلماء تأويلات لاختلاف هذه المسافات التي ذكرت في عرض الحوض وطوله. منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة، وقيل غير ذلك (¬3). وزمن الورود على الحوض قبل العبور إلى الصراط، لأن المقام يقتضي ذلك، حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل العبور إلى الصراط، وقد رجح بعض أهل العلم ذلك، ومن شرب من الحوض لم يظمأ أبدًا، لما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: «وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَا أَبَدًا» (¬4). أما أسباب الورود على الحوض، فمنها: أولاً: التمسك بالكتاب والسنة، والثبات على ذلك، والبعد عن البدع المحدثة في الدين وكبائر الذنوب، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنِّي قَد تَرَكْتُ فِيْكُم شَيْئَيْنِ لَن تَضِلُّوْا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الحَوْضِ» (¬5). ¬

(¬1) البخاري برقم (6580)، مسلم برقم (2303). (¬2) البخاري برقم (6591)، ومسلم برقم (2298). (¬3) انظر: فتح الباري (11/ 472). (¬4) البخاري برقم (6579)، ومسلم برقم (2292). (¬5) (1/ 284) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2937).

وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَنَا فَرَطُكُم عَلَى الحَوْضِ، مَن مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَن شَرِبَ لَم يَظْمَا أَبَدًا، وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُم وَيَعْرِفُوْنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُم، فَأَقُوْلُ: إِنَّهُم مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوْا بَعْدَكَ. فَأَقُوْلُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن غَيَّرَ بَعْدِي»، فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا (¬1). قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون للكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر، والله أعلم (¬2). اهـ. ثانياً: عدم إعانة الولاة الظلمة على ظلمهم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن عجرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أعاذَكَ اللهُ من إِمارَةِ السُّفهاءِ، قال: وما إمارةُ السفهاءِ؟ قال: أمراءُ يكونون بَعْدِي لا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي فمن صَدَّقَهُم بِكَذِبِهِمْ وأعَانَهُم على ظُلْمِهِم فَأُولئكَ لَيْسُوا مِنِّي ولَسْتُ مِنْهُم ولا يَرِدُوا عليَّ حَوْضِي، ومنْ لَمْ يُصَدِّقْهم بِكَذِبِهِمْ، ولمْ يُعِنْهُم على ظُلْمِهِم فَأُولَئِك مِنِّي وأنا مِنْهم وسَيَرِدُوا عليَّ حَوْضِي» (¬3). ثالثاً: الصبر على ما يصيب المؤمن من نقص في الدنيا، واستئثار غيره بها، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6583 - 6584، 6593)، وصحيح مسلم برقم (2290). (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 137). (¬3) (22/ 332) برقم (14441) وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.

قال لأصحابه الأنصار: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْحَوْضِ» (¬1). رابعاً: المحافظة على الوضوء، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر الحوض قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ» (¬2). اللهم أوردنا حوض نبيك، واجعلنا من المتبعين لسنته، اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من أتباعه مع النبيين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (3147)، ومسلم برقم (1845). (¬2) برقم (248).

الكلمة الثامنة والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى (الشافي)

الكلمة الثامنة والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى (الشافي) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا، مِئَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة: «الشافي»، والشفاء يشمل شفاء الأبدان، وشفاء الصدور من الشبه والشهوات، قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]. روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عاد مريضًا يقول: «أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغادِرُ سَقَمًا» (¬2). وفي هذا الحديث طلب الشفاء من جميع الأمراض، وليس من ذاك المرض الذي أصيب به المريض، ويشرع للمسلم أن يقول: «يا ¬

(¬1) البخاري برقم (2736)، ومسلم برقم (2677). (¬2) البخاري برقم (5743)، ومسلم برقم (2191).

شافي اشفني» فالله عز وجل يشفي من أمراض القلوب كالغل، والحسد، والشهوات، ويشفي من أمراض الأبدان، ولا يُدعى بهذا الاسم سواه. ومن آثار الإيمان بهذا الاسم: أولاً: أن الله تعالى هو الشافي، ولا شافي إلا هو، ولا شفاء إلا شفاؤه، ولا يرفع المرض إلا هو، سواء كان مرضًا بدنيًا أو نفسيًا، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]. ثانيًا: أن الله تعالى هو الشافي، لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء، وله أسباب، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً، إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» (¬1). ومن الأسباب التي جعلها الله شفاء: الدعاء: قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ: أَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» (¬2). ومنها القرآن العظيم: قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. ¬

(¬1) برقم (5678). (¬2) برقم (3106) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 600) برقم (2663).

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور المرضى، ويدعو لهم، ويرقيهم بكتاب الله تعالى، كما كان يرقي نفسه بالقرآن، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للمريض: «بِسْمِ اللهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» (¬1)، «وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ» (¬2). ومنها العسل: قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69]. ومنها الحبة السوداء: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ»، قال ابن شهاب: «وَالسَّامُ الْمَوْتُ» (¬3). ومنها الحجامة: روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» (¬4). ومنها ماء زمزم: روى ابن ماجه في سننه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (¬5)، وقد جربت أنا وغيري ¬

(¬1) البخاري برقم (5745)، ومسلم برقم (2194). (¬2) صحيح البخاري برقم (5735)، وصحيح مسلم برقم (2192). (¬3) البخاري برقم (5688)، ومسلم برقم (2215). (¬4) برقم (5681). (¬5) برقم (3062) وحسنه ابن القيم في زاد المعاد (4/ 360 - 361).

من الإستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرئت بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر، ولا يجد جوعاً، ويطوف مع الناس كأحدهم، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مراراً (¬1). وكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ» (¬2). ومنها ما أنزله الله عز وجل في الأرض من ترابها، ومياهها، وأشجارها، وثمارها، وغير ذلك مما خص الله بعلمه من شاء من عباده. ثالثًا: أن هذا الشفاء قد يتأخر لحكمة إلهية، رفعًا لدرجات المريض، وتكفيرًا لسيئاته: قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83 - 84]، ذكر بعض المفسرين أنه لبث في مرضه ثمانية عشر عامًا ابتلاء من الله لنبيه، روى الترمذي في سننه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» (¬3). ومما نبه عليه بعض أهل العلم أن بعض المرضى إذا أصيبوا بمرض تعلقت قلوبهم بالأسباب، كالمستشفيات، والأطباء، والواجب أن يكون ¬

(¬1) زاد المعاد (4/ 361). (¬2) مصنف عبدالرزاق (5/ 113) برقم (9112). (¬3) برقم (2402) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 287) برقم (1960).

تعلق القلب بالذي أنزل الداء، ولا يرفعه إلا هو. وعلى المريض أن يحذر من اليأس، وإن استعصى مرضه، ففرج الله قريب، يذكر لي أحد الإخوة وقد أصيب بحادث سيارة أنه مكث في غيبوبة أربعة أشهر، ووالدته تقرأ عليه القرآن في سرير المستشفى، وتدعو له، ثم استيقظ من هذه الغيبوبة، وقد شفاه الله، وهو حي يرزق، فسبحان الله الشافي، ورجل آخر أصيب بمرض السرطان، وقرر الأطباء أن ليس له علاج، فاستمر على العسل والحبة السوداء مع خلطهما ببعض الأعشاب لعدة أشهر، فشفاه الله وعافاه، فسبحان الله العزيز الحكيم. ويذكر أحد المسؤولين في الحرم المكي أن ناسًا من هؤلاء المرضى، الذين قرر الأطباء أن ليس لهم علاج ممن أصيبوا بأمراض مستعصية، أنهم اعتكفوا في المسجد الحرام يشربون من ماء زمزم، ويدعون ربهم، ويتضرعون إليه، فإنه لا ملجأ منه إلا إليه، فشفاهم الله الشافي، والقصص في هذا كثيرة، وما ذكرته غيض من فيض، وقليل من كثير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والتسعون: خطر الدش

الكلمة التاسعة والتسعون: خطر الدش الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فحديثنا اليوم عن فتنة دخلت بيوت كثير من المسلمين، وحصل منها الكثير من الشرور والمفاسد، إنه الدش؛ والكلام عنها يكون في العناصر التالية: أولاً: المخالفات الشرعية، ثانيًا: أقوال العلماء، ثالثًا: شبهات والجواب عنها، برنامج ستار أكاديمي وخطورته. فمن تلك المخالفات ما يتعلق بأمور العقيدة، وهو أخطر ما يكون، فهو يعرض صور الكفار وحضارتهم بطريقة تدعو إلى الإعجاب والميل لهم، وبالتالي يضعف جانب البراءة من المشركين والكفار المأمور به في الآيات الكريمات، والأحاديث الشريفة، قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضُ فِي اللهِ» (¬1). ومنها: إظهار بعض الشعائر الإسلامية بصورة كريهة، كوضع ¬

(¬1) (30/ 488) برقم (18524) وقال محققوه: حديث حسن بشواهده.

اللحية على رجل ناقص العقل، وتمثيل تعدد الزوجات على أنه خيانة زوجية، ولمز الصالحين، وأهل الخير، ونحو ذلك مما هو استهزاء صريح بشعائر الإسلام، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. ومنها: تصوير الاختلاط بين الرجال والنساء على أنه لا حرمة فيه، عن طريق المسلسلات، وقصص الحب والغرام، وهذا يؤدي إلى نشر الفاحشة والرذيلة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. والمؤمن مأمور بغض البصر عن النساء الأجنبيات، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله قال: «سَأَلْتُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» (¬1)، فكيف بمن يتعمد النظر في النساء الكاسيات العاريات، وهن بكامل زينتهن على شاشات القنوات الفضائية، وكذلك رؤية النساء للرجال الأجانب وهم بكامل زينتهم، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]. ومنها: الغناء المصحوب بالمعازف، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]، وأكثر المفسرين كابن عباس، وابن مسعود فسروه بالغناء، وكان ابن مسعود يحلف على ذلك، روى البخاري في ¬

(¬1) برقم (2159).

صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ» (¬1)، فإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنهم يستحلونها معنى ذلك أنها في الأصل حرام. ومنها: قتل الغيرة عند المسلمين، وكيف يرضى المسلم الغيور أن تجلس زوجته وبناته أمام شاشات القنوات الفضائية ينظرن إلى الشباب والشابات، وهم في أوضاع جنسية سيئة يندى لها الجبين، ويتفطر لها القلب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ ! لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» (¬2)، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «شاع في هذه الأيام بين الناس ما يسمى بالدش، أو بأسماء أخرى، وأنه ينقل جميع ما يبث في العالم من أنواع الفتن والفساد، والعقائد الباطلة، والدعوة إلى أنواع الكفر والإلحاد، مع ما يبثه من الصور النسائية، ومجالس الخمر والفساد، وسائر أنواع الشر الموجود في الخارج، وثبت لدي أنه قد استعمله كثير من الناس، وأن آلاته تباع وتصنع في البلاد، فلهذا وجب علي التنبيه إلى خطورته، ووجوب محاربته والحذر منه، وتحريم استعماله، في البيوت وغيرها، وتحريم بيعه وشرائه، وصنعه أيضًا، لما في ذلك من الضرر العظيم، والفساد الكبير، والتعاون على الإثم والعدوان، ونشر الكفر والفساد بين المسلمين، والدعوة إلى ذلك بالقول والعمل ...... إلى آخر ما قال» (¬3). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ ¬

(¬1) برقم (5590). (¬2) البخاري برقم (7416)، ومسلم برقم (1499). (¬3) مجموع مقالات وفتاوى الشيخ ابن باز (7/ 399).

يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬1). وهذه الرعاية تشمل الرعاية الكبرى، والرعاية الصغرى، وتشمل رعاية الرجل في أهله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهلِهِ، وَهُوَ مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ» (¬2)، وعلى هذا فمن مات وقد خلف في بيته شيئًا من صحون الاستقبال، فإنه قد مات وهو غاش لرعيته، وسوف يحرم من الجنة كما جاء في الحديث، ولهذا نقول: إن أي معصية تترتب على هذا الدش الذي ركبه الإنسان قبل موته فإن عليه وزرها بعد موته، وإن طال الزمن، وكثرت المعاصي. فاحذر أخي المسلم أن تخلف بعدك ما يكون إثمًا عليك في قبرك، وما كان عندك من هذه الدشوش فإن الواجب عليك أن تكسره؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا على وجه محرم غالبًا، ولا يمكن بيعه؛ لأنك إذا بعته مكنت المشتري من استعماله في معصية الله، وحينئذ تكون ممن أعان على الإثم والعدوان، وكذلك إذا وهبته، فإنك معين على الإثم والعدوان، ولا طريق للتوبة من ذلك قبل الموت، إلا بتكسير هذه الآلة «الدش» التي حصل فيها من الشر والبلاء ما هو معلوم اليوم للعام والخاص، فاحذر يا أخي أن يأتيك الموت فجأة، وفي بيتك هذه الآلة الخبيثة، فإن إثمها ستبوء به، وسوف يجري عليك بعد موتك» (¬3). ومن الشبهات قول بعضهم: «إنه يشاهد في هذا الدش البرامج الدينية، وأخبار العالم، فيقال: إن هذا موجود في إذاعة القرآن الكريم وأفضل منه، وقد نصح الشيخ ابن باز رحمه الله بالاستماع إليها، وغيرها من البدائل الأخرى». ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7150)، وصحيح مسلم برقم (142) واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري برقم (893)، وصحيح مسلم برقم (1829). (¬3) خطبة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله بتاريخ 25/ 3 / 1417 هـ.

سئلت اللجنة الدائمة عن برنامج تعرضه إحدى القنوات الفضائية المسمى باستار أكاديمي، وما يشابهه من البرامج، وبعد دراسة الموضوع رأت اللجنة تحريم بث هذه البرامج، ومشاهدتها، وتمويلها، والمشاركة فيها، والاتصال عليها للتصويت، أو إظهار الإعجاب بها، وذلك لما اشتملت عليه تلك البرامج من استباحة للمحرمات المجمع على تحريمها والمجاهرة بها، ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» (¬2). وأي مجاهرة بالمحرمات والفواحش تفوق ما تبثه هذه البرامج، التي اشتملت على جملة من المنكرات العظيمة؟ ! من أهمها: أولاً: الاختلاط بين الجنسين من الذكور والإناث، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» (¬3). فكيف بهذه البرامج التي تقوم فكرتها الرئيسية على خلط الجنسين من ¬

(¬1) برقم (5590). (¬2) البخاري برقم (6069)، ومسلم برقم (2990). (¬3) البخاري برقم (1862)، ومسلم برقم (1341).

الذكور والإناث، وإزالة الحواجز فيما بينهم مع ما عليه الإناث من التبرج والسفور، وإظهار المفاتن مما يسبب الشر والبلاء، قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} الآية [النور: 31]. ثانيًا: الدعوة الصريحة للفاحشة، ووسائلها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. ثالثًا: الدعوة إلى إماتة الحياء، وقتل الغيرة في قلوب المسلمين بألفة مشاهدة هذه المناظر التي تهيج الغرائز، وتبعد عن الأخلاق والفضائل، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى، إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (¬1)، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ ! لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي» (¬2). ولا يكفي في ذلك أيها المسلم أن تترك المشاركة في هذه البرامج والنظر إليها، بل يجب عليك النصح والتذكير لمن تعلم أنه يشارك فيها بأي وجه من الوجوه، لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان (¬3). اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (6120). (¬2) برقم (6846)، وصحيح مسلم برقم (1499). (¬3) رقم (22895)، وتاريخ 8/ 2 / 1425 هـ.

الكلمة المئة: «فضل صلاة الفجر»

الكلمة المئة: «فضل صلاة الفجر» الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]، ومن بين هذه النعم العظيمة: نعمة النوم التي امتن الله بها على عباده، قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9]، فسكون العبد ساعات بالليل بعد حركة النهار المتواصلة مما يساعد على حياة المسلم وبقاء نمائه ونشاطه؛ ليؤدي وظائفه التي خلقه الله من أجلها، ومن بين هذه الوظائف: صلاة الفجر جماعة في المسجد، وهي صلاة فاضلة عظيمة. وإليك أخي المسلم البشائر والفضائل العظيمة لمن أدى صلاة الفجر مع الجماعة: أولاً: أنه في ذمة الله، أي في ضمان الله، وحفظه ورعايته في الدنيا والآخرة، روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ

فِي نَارِ جَهَنَّمَ» (¬1). ثانيًا: أنها نجاة للعبد من النار، روى مسلم في صحيحه من حديث عمارة بن رويبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يَعْنِي: الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ (¬2). ثالثًا: أنها سبب لدخول الجنة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬3). رابعًا: شهادة الملائكة لهذه الصلاة، قال تعالى: {وَقُرْآَنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» (¬4). خامسًا: النور التام يوم القيامة، روى ابن ماجة في سننه من حديث سهل بن سعد الساعدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬5). سادسًا: أنه يكتب له قيام ليلة، روى مسلم من حديث عثمان بن عفان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ ¬

(¬1) برقم (657). (¬2) برقم (634). (¬3) البخاري برقم (574)، ومسلم برقم (635). (¬4) البخاري برقم (555)، ومسلم برقم (632). (¬5) برقم (781) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 130) برقم (633).

اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» (¬1). سابعًا: الأمن من النفاق، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» (¬2)، وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مْنَافِقٌ، مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يَتَهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ» (¬3)، وقال ابن عمر: «كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الإنْسَانَ فِي العِشَاءِ، وَفِي الفَجْرِ، أَسَانَا بِهِ الظَّنَّ» (¬4). ثامنًا: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬5)، فإذا كانت سنة الفجر خير من الدنيا وما فيها من أموال وقصور، وأنهار، وزوجات، وغير ذلك من الشهوات والملذات، فكيف إذن بصلاة الفجر؟ ! تاسعًا: رؤية الله عز وجل وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتسابق إليها المتسابقون، روى البخاري ومسلم من حديث جرير البجلي - رضي الله عنه - قال: «كُنَّا عِندَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيلَةً - يَعنِي البَدرَ - فَقَالَ: إِنَّكُم سَتَرَوْنَ رَبَّكُم، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُم ¬

(¬1) برقم (656). (¬2) البخاري برقم (657)، ومسلم برقم (651). (¬3) جزء من حديث برقم (654). (¬4) صحيح ابن حبان برقم (2096). (¬5) برقم (725).

أَلاَّ تُغْلَبُوْا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوْعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوْبِهَا فَافْعَلُوْا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} [ق: 39]» (¬1). عاشرًا: أن المحافظ على صلاة الفجر من أطيب الناس عيشًا، وأنشطهم بدنًا، وأنعمهم قلبًا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَاسِ أَحَدِكُم إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيْلٌ فَارْقُدْ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيْطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيْثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ» (¬2). وقد وردت نصوص كثيرة فيها التحذير الشديد لمن تهاون في صلاة الفجر؛ فمن ذلك: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» (¬3). قال بعض أهل العلم: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما همَّ بذلك إلا أن هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة قد ارتكبوا ذنبًا عظيمًا، وجرمًا كبيرًا». ومنها ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قال: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ نَامَ لَيلَهُ حَتَّى أَصبَحَ. قَالَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ» (¬4)، وحسب من كان كذلك خيبةً وخسارةً وشرًّا. ¬

(¬1) البخاري برقم (554)، ومسلم برقم (633). (¬2) البخاري برقم (1142)، ومسلم برقم (776). (¬3) البخاري برقم (657)، ومسلم برقم (651). (¬4) البخاري برقم (1144)، ومسلم برقم (774).

ومنها أن المتخلف عن صلاة الفجر يعرض نفسه لعقوبة الله في قبره، ويوم القيامة، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وفي صحيح البخاري قصة رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وجاء فيه: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يُثْلَغُ رَاسُهُ بِالحَجَرِ، فَسَأَلَ عَنهُ، فَقِيلَ لَهُ: «إِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي يَاخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوْبَةِ» (¬1). وسئلت اللجنة الدائمة برقم (5130) عن شخص لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس فما حكم صلاته؟ وهل يؤثر على الصيام؟ فكان الجواب: تركه لصلاة الصبح من غير نوم ولا نسيان بل تكاسلاً عنها حتى تطلع الشمس كفر أكبر على الصحيح من أقوال العلماء، وعلى هذا القول صيامه غير صحيح. اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (7047).

الكلمة المئة وواحد: السعادة

الكلمة المئة وواحد: السعادة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن كل إنسان في هذه الحياة يسعى إلى السعادة، وهي مطلب حقيقي لجميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والغني والفقير، كلهم يريدون السعادة ولكنهم يختلفون في نظرتهم لها، فمنهم من يراها في جمع المال والدرهم، وآخر يراها في الحصول على المناصب الرفيعة، وآخر يراها في الحصول على الشهادات العالية، ومنهم من يراها في غير ذلك. والحق أن هذه الأمور جزء من السعادة، وليست السعادة كلها، فهي سعادة وقتية تزول بزوالها، فصاحب المال قد يفقد ماله، وصاحب المنصب قد يزاح من منصبه، بل إن هذا المال الذي هو عصب الحياة إذا لم يستخدمه صاحبه في طاعة الله يكون وبالاً عليه، قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]. قال الشاعر: ولسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْع مَالٍ ... ولَكِنَّ التَقِيَّ هُو السَّعيدُ ليسَ السَعيدُ الذي تُسْعِدُهُ دُنياهُ ... إن السَعيدَ الذي ينجُو من النَار كما قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ

يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]. روى ابن حبان في صحيحه من حديث سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالمَسْكَنُ الوَاسِعُ، وَالجَارُ الصَّالِحُ، وَالمَرْكَبُ الهَنِيءُ» (¬1)، وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬2). ووصفت هذه المرأة الصالحة في حديث آخر رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «سُئل رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيْعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» (¬3). وذكر الشيخ السعدي رحمه الله أن من أسباب السعادة: أولاً: الإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، قال ابن عباس: الحياة الطيبة هي الحياة السعيدة (¬4)، وهذه السعادة شعور يضعه الله في قلوب عباده الصالحين وإن كانوا في ضيق الدنيا. قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن شيخه ابن تيمية رحمه الله: «ومع ما كان فيه من ضيق السجن إلا أنه كان من أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم عيشًا، وأنعمهم قلبًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا ضاقت بنا الأرض، واشتد بنا الكرب، أتيناه فما هو إلا أن نسمع كلامه ونراه، حتى ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم (4021). (¬2) برقم (1467). (¬3) (12/ 383 - 384) برقم (7421) وقال محققوه: إسناده قوي. (¬4) تفسير ابن كثير (8/ 352).

ينقلب ذلك قوة وثباتًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من طيبها وريحها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها» (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن في الدنيا لجنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة» (¬2). وقال أيضًا عندما قيل له: إن السلطان قد أمر بنفيك إلى قبرص أو قتلك، أو سجنك، فقال: «والله إن بي من الفرح والسرور ما لو قسم على أهل الشام لوسعهم، والله إني كالغنم لا تنام إلا على صوف، إن نفيت إلى قبرص دعوت أهلها إلى الإسلام». ويقول أحد السلف: «إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب»، ويقول آخر: «لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف». ثانيًا: من أسباب السعادة الإيمان بقضاء الله وقدره، فإن الإنسان إذا آمن بالقضاء والقدر، أحس براحة نفسية، وانشراح صدر بما وقع له، وإن كان مما يكره، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان الستة. روى أبو داود في سننه من حديث ابن الديلمي عن أُبي بن كعب أنه قال: «لو أن الله عَذَّبَ أَهْل سَماواته وأَهلَ أَرْضه عَذَّبَهُم وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُم، وَلَو رَحمهُم كَانَت رَحْمَتُهُ خيراً لهم من أعْمالهم، ولو أنْفَقت مِثْلَ أُحدٍ ذَهباً في سبيل اللهِ مَا قَبِلَهُ الله مِنْك حتى تُؤْمن بالقدر، وتَعلَم أن ما أصابَك لم يكن لِيُخْطِئكَ وأن ما أَخطأك لم يكُن ليُصيبك فلو مُتَّ على ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 82). (¬2) المصدر السابق نفسه (ص: 81).

غير هذا لَدَخَلْتَ النارَ»، قال: ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، واعْلم أنَ الأُمَةَ لو اجْتَمعُوا على أن يَنْفَعُوكَ، لم يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قد كَتَبَه الله لكَ، ولو اجتمعوا على أن يضرُوكَ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قد كَتبَهُ الله عليكَ، رُفِعَت الأقلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (¬2). قال عمر - رضي الله عنه -: «أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر». قال عبيد الله بن عتبة: واصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَحْتُوم وارْضَ به ... وإن أَتَاكَ بمَا لا تَشتهي القدرُ فَما صَفَا لامرئٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بهِ ... إلا سَيَتْبَعُ يوْماً صَفْوَهُ كَدَرُ ثالثاً: ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردّها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته، فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا ¬

(¬1) برقم (4699) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 890) برقم (3932). (¬2) (4/ 409 - 410) برقم (2669) وقال محققوه: إسناده قوي.

السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك؛ إذا فعل ذلك اطمأن قلبه، وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه (¬1). رابعاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل، فإن له سرًا عجيبًا، في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وذكر ابن القيم مئة فائدة للذكر. منها: أن الذكر يطرد الهم والحزن، ويجلب الفرح والسرور وطيب العيش. قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28]. خامساً: القناعة برزق الله، فإن من قنع بما قسم الله سبحانه له انشرح صدره، وارتاحت نفسه، روى مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَم، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» (¬2). سادساً: أن يعلم المؤمن علم اليقين أن السعادة الحقيقية في الآخرة، وأن الدنيا دار المصائب والنكد والأحزان، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]. وقال تعالى حاكيًا عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الأسباب المفيدة للحياة السعيدة للشيخ السعدي (ص: 20). (¬2) برقم (1054).

قال: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» (¬1). ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله: متى يرتاح المؤمن؟ قال: أول ما يضع قدمه في الجنة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2956).

الكلمة المئة واثنان: فتنة الدجال

الكلمة المئة واثنان: فتنة الدجال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الفتن العظيمة التي حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته منها في آخر الزمان فتنة الدجال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر قال: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّاسِ، فَأَثنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: «إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (¬1). قال الإمام السفاريني رحمه الله: «وينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال، لا سيما في زماننا الذي اشرأبت فيه الفتن، وكثرت فيه المحن، واندرست فيه معالم السنن، وصارت السنن فيه كالبدع، والبدعة شرع يتبع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (¬2). والدجال رجل من بني آدم، له صفات كثيرة، وردت بها الأحاديث لتعريف الناس به، وتحذيرهم من شره حتى إذا خرج عرفه المؤمنون، ¬

(¬1) البخاري برقم (6175)، ومسلم برقم (169). (¬2) لوامع الأنوار البهية (2/ 106 - 107).

فلا يفتنون به. ومن صفاته أنه رجل أحمر، قصير، أفحج، جعد الرأس، ممسوح العين اليمنى، كأنها عنبة طافية، وعينه اليسرى عليها ظفرة غليظة، أي لحمة تنبت في مقدمة العين، ومكتوب بين عينيه (كافر) يقرؤها كل مسلم، كاتب أو غير كاتب، وهو عقيم لا يولد له. ويخرج الدجال من جهة المشرق من خراسان، ويتبعه سبعون ألفًا من يهود أصبهان، قال ابن كثير: «فيكون بدء ظهوره من أصبهان، من حارة بها يقال لها اليهودية، وينصره من أهلها سبعون ألف يهودي، عليهم الأسلحة والسيجان، وهي الطيالسة الخضر، وكذلك ينصره سبعون ألفًا من التتار، وخلق من أهل خراسان، فيظهر أولاً في صورة ملك من الملوك الجبابرة، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيتبعه على ذلك الجهلة من بني آدم، والطغام من الرعاع والعوام، ويخالفه ويرد عليه من هداه الله من عباده الصالحين، وحزب الله المتقين، فيفر الناس منه إلى الجبال، ويسيرون في الأرض، فلا يترك بلدًا إلا دخله، إلا مكة والمدينة، فقد حرم الله عليه دخولهما؛ لأن الملائكة تحرسهما (¬1). وفتنة الدجال أعظم الفتن منذ خلق الله آدم، وذلك بسبب ما يجريه الله معه من الخوارق العظيمة، التي تبهر العقول، وتحير الألباب، فقد ورد أن معه جنة ونارًا، وجنته نار، وناره جنة، وأن معه أنهار الماء، وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض. ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث، استدبرته الريح، إلى غير ذلك من الخوارق، كل ذلك وردت به الأحاديث الصحيحة، محنة من الله واختبارًا، ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية (19/ 205) بتصرف.

روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ، مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ، أَحَدُهُمَا رَايَ الْعَيْنِ، مَاءٌ أَبْيَضُ، وَالآخَرُ رَايَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ، فَلْيَاتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا، وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَاطِئْ رَاسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان في ذكر الدجال أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ»، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَاتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَامُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَاتِي الْقَوْمَ، فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ، فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ، فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ، وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَاطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤ، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ ¬

(¬1) برقم (2934).

إِلاَّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَاتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ» (¬1). أما الوقاية من فتنة الدجال، فقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، ومن ذلك: أولاً: التمسك بالكتاب والسنة، ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأن الله تعالى منزه عن ذلك، وأن الدجال أعور، والله ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت، والدجال يراه الناس عند خروجه مؤمنهم وكافرهم. ثانيًا: التعوذ من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» (¬2). ثالثًا: معرفة الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بين فيها صفات الدجال، وزمن خروجه، ومكانه، وطريق النجاة منه، وقد ذكرت بعض ذلك، ومن أراد التوسع فليراجع النهاية لابن كثير، أو إتحاف الجماعة للشيخ التويجري، أو أشراط الساعة للشيخ الوابل، أو غيرها. رابعًا: حفظ آيات من سورة الكهف، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة فواتح سورة الكهف على الدجال، وفي بعض الروايات خواتمها، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَفِظَ ¬

(¬1) برقم (2937). (¬2) برقم (588).

عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» (¬1)، وفي رواية: «مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ» (¬2). قال النووي: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتن بالدجال، وكذلك آخرها، قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [الكهف: 102] (¬3). خامسًا: الفرار من الدجال، والابتعاد عنه، والأفضل سكنى مكة والمدينة، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدجال لا يدخل مكة والمدينة، فينبغي للمسلم إذا خرج الدجال أن يبتعد منه، وذلك لما معه من الشبهات والخوارق العظيمة التي يجريها الله على يديه فتنة للناس، فإنه يأتيه الرجل وهو يظن في نفسه الإيمان والثبات فيتبع الدجال، روى أبو داود في سننه من حديث عمران بن حصين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَاتِيهِ وَهْوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ، هَكَذَا قَالَ» (¬4). نسأل الله أن يعيذنا من فتنته وجميع المسلمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (809). (¬2) برقم (809). (¬3) شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 92 - 93). (¬4) برقم (4319) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 814) برقم (3629).

الكلمة المئة وثلاثة: شرح اسم الله (الحكيم)

الكلمة المئة وثلاثة: شرح اسم الله (الحكيم) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلاَّ وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في كتابه: «الحكيم»، والمراد: «الحكيم في أفعاله وأقواله وقدره، فيضع الأشياء في محالّها بحكمته وعدله» (¬2). وللحكيم معنيان: أحدهما: الحاكم الذي له الحكم المطلق الكامل من جميع الوجوه، والخلق كلهم محكومون، له الحكم كله، وإليه يرجع الأمر كله، يحكم على عباده بقضائه وقدره، ويحكم بينهم بدينه وشرعه، ثم يوم القيامة يحكم بينهم بالجزاء بين فضله وعدله، فلا حاكم إلا الله، ولا يجوز تحكيم قانون ولا نظام سوى حكم الله، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ ¬

(¬1) برقم (2736)، وصحيح مسلم برقم (2677). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 456).

الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]. قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]. وللحكيم معنى آخر، وهو ذو الحكمة، والحكمة ضد السفه، وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها. ولذلك كانت أحكام الله الكونية والشرعية والجزاء مقرونة بالحكمة ومربوطة بها، فلم يخلق سبحانه شيئًا عبثًا، ولم يترك خلقه سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون، فما أعطى الله شيئًا إلا لحكمة، ولا أنعم بنعمة إلا لحكمة، ولا أصاب بمصيبة إلا لحكمة، وما أمر الله بشيء إلا لحكمة، والحكمة في فعله والتزامه، ولا نهى عن شيء إلا لحكمة والحكمة في تركه واجتنابه. قال تعالى مقررًا هذه الصفة العظيمة صفة الحكمة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، وللحكيم معنى ثالث وهو المحكم الذي أحكم كل شيء خلقه فما في خلق الرحمن من تفاوت ولا تناقض ولا خلل، صنع الله الذي أتقن كل شيء وليس في شرعه من تناقض ولا اختلاف، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82] (¬1). قال بعضهم: ذكر الحكيم في أكثر من تسعين مرة، اقترن في أكثرها بالعزيز والعليم، مما يدل على أن حكمته صادرة عن عزة وعلم، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيم} [آل عمران: 126]، وقال تعالى: {نَرْفَعُ ¬

(¬1) الضياء اللامع من الخطب الجوامع (1/ 86 - 87).

دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] وقال أيضًا: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [الأنعام: 18]. ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: أن الأحكام الشرعية في الإسلام من لدن حكيم خبير، وما جاءت إلا لإسعاد البشرية، فليس هناك أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} [التين: 8]، وقال تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. ثانيًا: أن الله حكيم في أقداره، فما يقدره الله تعالى على العباد من خير أو شر إنما هو لحكمة بالغة، وتدبير حكيم، قال تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن الحكمة: «وله سبحانه الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة بالغة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكل الألسن عن التعبير عنها» (¬1). ثالثًا: أن كلام الله حكيم ومحكم، وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو كلام أحكم الحاكمين ورب العالمين، وقد وصف الله القرآن العظيم، وهو كلامه المنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه حكيم ومحكم في ثمان آيات منها قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وقال تعالى: {يس * وَالقُرْآَنِ الحَكِيمِ} [يس: 1 - 2]. ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 439).

فالقرآن حكيم في أسلوبه الرائع، حكيم في تشريعاته، حكيم في أمره ونهيه، حكيم في قصصه وأخباره، حكيم في كل ما اشتمل عليه. رابعًا: أن الله يؤتي الحكمة من يشاء، قال تعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وتنوعت عبارات المفسرين في المراد بالحكمة، وقد اختصرها بعضهم بقوله: «يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرًا كثيرًا». قال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» (¬1). خامسًا: خلق الله سبحانه وتعالى محكم، لا خلل فيه ولا قصور، قال تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]. وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]. سادسًا: أن الله سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وهي عبادته سبحانه: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} ¬

(¬1) البخاري برقم (73)، ومسلم برقم (816).

[الذاريات: 56 - 58]. سابعًا: كراهة التكني بأبي الحكم، روى أبو داود في سننه من حديث هانئ بن يزيد: أنه لما وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا أَحْسَنَ هَذَا! فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللهِ. قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ. قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (4955) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 936) برقم (4145). (¬2) انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 241 - 257).

الكلمة المئة وأربعة: نعمة الهداية

الكلمة المئة وأربعة: نعمة الهداية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أعظم نعم الله على عباده نعمة الهداية لهذا الدين، قال تعالى عن الأعراب: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى ممتنًّا على نبيه بهذه النعمة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7]. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ ! » (¬1). وامتن الله على أهل الجنة بهذه النعمة، فقال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]. والهداية على قسمين: 1 - هداية الدلالة والإرشاد والبلاغ، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وفي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4330)، وصحيح مسلم برقم (1061).

إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وفي قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ} [المائدة: 92]. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: «فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬1). 2 - هداية التوفيق لقبول الحق والإعانة عليه، وهي التي تفرد بها سبحانه فقال لنبيه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. ومن أنواع الهداية: أن يهدي الله العبد للقيام بالأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة مع الناس، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي أيوب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَائِي وَذُنُوْبِي كُلَّهَا، اللَّهُمَّ أَنعِمْنِي، وَأَحْيِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَالأَخْلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ» (¬2). ومن أعظم أنواع الهداية أن يهدي الله العبد للقيام بالتوحيد، والبعد عن الشرك، فإن من قام بذلك نال الأمن في الدنيا والآخرة قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2942)، وصحيح مسلم برقم (2406) واللفظ له. (¬2) (4/ 578 - 579) برقم (5996) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1266).

مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه الهداية، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» (¬1)، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو لأصحابه بالهداية، وأرشد أمته إلى ذلك، روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله أنه قال: لقد شكوت إليه - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» (¬2). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا عصت وأبت، فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى، هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ، سَدَادَ السَّهْمِ» (¬4). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ، حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَهْوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللهِ: اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا ¬

(¬1) برقم (2721). (¬2) البخاري برقم (3036)، ومسلم برقم (2475). (¬3) البخاري برقم (2937)، ومسلم برقم (2524). (¬4) برقم (2725).

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّ الأَعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا» (¬1) قال شيخ الإسلام: «والعبد مضطر دائمًا إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، وهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء، فإنه لا نجاة من العذاب، ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله» (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: «إن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملاً، وقبل أوامره، وصدق بأخباره كان ذلك سببًا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل فإن الهداية لا نهاية لها، ولو بلغ العبد فيها ما بلغ» (¬3)، قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76]، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]. وأخبر عز وجل أن من أراد هدايته لهذا الدين فإنه يشرح صدره له، وعلى العكس من ذلك من أراد له الشقاء والغواية، فإنه يضيق بهذا الدين ذرعًا، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. ومن أسباب الثبات على الهداية: الدعاء: فقد روى الترمذي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله يكثر أن يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: ¬

(¬1) البخاري برقم (3034)، ومسلم برقم (1803). (¬2) الفتاوى (14/ 37) بتصرفز (¬3) الفوائد (1/ 151).

«نَعَمْ إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يَقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» (¬1). ومنها المسارعة إلى الأعمال الصالحة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2140) وقال: هذا حديث حسن.

الكلمة المئة وخمسة: الزكاة

الكلمة المئة وخمسة: الزكاة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الزكاة فريضة من فرائض الإسلام، وهي الركن الثالث من أركانه العظام، وقد دل على وجوبها الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. وقال تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِرْتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوَا أَن لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ، وَيُقِيْمُوْا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوْا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ عَصَمُوْا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَمْوَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أعرابيًّا أتى ¬

(¬1) البخاري برقم (8)، ومسلم برقم (16). (¬2) البخاري برقم (25)، ومسلم برقم (22).

النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: «تَعْبُدُ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيْمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ المَفْرُوْضَةَ، وَتَصُوْمُ رَمَضَانَ» قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» (¬1). وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها، قال تعالى: ... {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. فكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (¬2). وجاء في الحديث المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ما خلاصته: أَنَّ صَاحِبَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ إِذَا لَم يُؤَدِّ حَقَّهَا، بُطِحَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَي: أَنَّه يُبْطَحُ عَلَى وَجْهِهِ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ وَاسِعَةٍ، ثُمَّ تَاتِي هَذِهِ البَهَائِمُ فَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَأَظْلاَفِهَا، ¬

(¬1) البخاري برقم (1397)، ومسلم برقم (13) من حديث أبي أيوب. (¬2) برقم (987)

وَتَنْطَحُهُ بِقُرُوْنِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا رُدَّ عَلَيْه آخِرُهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِيْنَ أَلفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيْلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَلاَ مِنْ صَاحِبِ مَالٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلاَّ تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَيُقَالُ: هَذَا مَالُكَ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهُ، أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ» (¬2). والشجاع: الحية الذكر، والأقرع الذي تمعط شعره لكثرة سمه، وقيل: الشجاع الذي يواثب الراجل والفارس ويقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحاري، يتبع صاحبه الذي منع الزكاة. والزكاة تجب في أربعة أصناف: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، والسائمة من بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، وهي التي ترعى في البراري، والذهب والفضة، وعروض التجارة، وهي السلع المعدة للبيع، ويدخل في ذلك الأراضي، والعمارات، والسيارات المعدة للبيع، وغير ذلك من أصناف السلع، ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود، لا تجب الزكاة فيما دونه، وله تفصيل معروف في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والزكاة حق لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعًا أو يدفع ضرًّا، ولا أن يقي بها ماله، أو يدفع بها ¬

(¬1) البخاري برقم (4659)، ومسلم برقم (987). (¬2) البخاري برقم (1403)، ومسلم برقم (988) واللفظ له.

عنه مذمة، بل يجب على المسلم صرف زكاته لمستحقيها لكونهم من أهلها لا لغرض آخر، مع طيب النفس، والإخلاص لله في ذلك حتى تبرأ ذمته، ويستحقَّ جزيلَ المثوبَةِ والخَلَفَ، وقد أوضح الله سبحانه في كتابه الكريم أصناف المستحقين للزكاة فقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. ولو أعطيت الزكاة لمستحقيها لما بقي فقير في الإسلام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وستة: صلاة الجماعة

الكلمة المئة وستة: صلاة الجماعة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي أعظم الواجبات والفرائض بعد الشهادتين، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده المحافظين على أدائها في المساجد فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ، مَا دَامَ فِي مُصَلاَهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلاَ يَزَالُ

أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ» (¬1)، وفي رواية: «صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (¬2)، وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» (¬3). قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «وقد أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شانها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين، فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وكيف يعرف الناس محافظة العبد عليها، وتعظيمه لها، وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه، وتهاون بشأنها، قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] «فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب وشدة الخوف، فكيف بحال السلم؟ ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك» (¬4). اهـ. والنصوص التي تبين وجوب صلاة الجماعة كثيرة، فمن ذلك ما ¬

(¬1) البخاري برقم (647)، ومسلم برقم (649). (¬2) صحيح البخاري برقم (645)، وصحيح مسلم برقم (650). (¬3) برقم (251). (¬4) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز رحمه الله.

رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ، وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ» (¬1). قال بعض أهل العلم: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما همَّ بذلك إلا أن هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة قد ارتكبوا ذنبًا عظيمًا، نسأل الله السلامة والعافية»، وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى فقال: يا رسول الله: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ» (¬2). وفي رواية لأبي داود قال: «لاَ أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» (¬3). وروى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّى» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود موقوفًا عليه أنه قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (657)، وصحيح مسلم برقم (651) واللفظ له. (¬2) برقم (653). (¬3) برقم (552) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 110) برقم (516). (¬4) برقم (551)، قال الألباني رحمه الله: صحيح دون جملة العذر، وبلفظ: ولا صلاة له، صحيح سنن أبي داود (1/ 110) برقم (515).

وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مْنَافِقٌ، مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ» (¬1). وأجاب العلماء عن حديث صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين درجة، أن المراد بيان ثواب صلاة الجماعة، وأن أجرها أكثر، وليس حكم صلاة الجماعة، والأفضلية لا تدل على عدم الوجوب فقد ثبت الوجوب بآيات وأحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يُضاف إلى ذلك ما فيها من المصالح والمنافع العظيمة، التي تدل على أن الحكمة تقضي بوجوبها. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ومنها: أولاً: إظهار شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وهي الصلاة؛ لأن الناس لو بقوا يصلون في بيوتهم ما عرف أن هناك صلاة. ثانيًا: التواد بين الناس؛ لأن ملاقاة الناس ومصافحتهم لبعضهم البعض توجب المحبة والمودة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ ¬

(¬1) برقم (654).

بَيْنَكُمْ» (¬1). ثالثًا: شعور الناس بالمساواة في عبادة الله، لأنه في هذا المسجد يجتمع أغنى الناس إلى جنب أفقر الناس، والأمير إلى جنب المأمور، والحاكم إلى جنب المحكوم، والصغير إلى جنب الكبير، وهكذا فيشعر الناس بالمساواة؛ ولهذا أُمر بمساواة الصفوف، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» (¬2). رابعًا: ما يحصل من تفقد الأحوال، أحوال الفقراء والمرضى، والمتهاونين بالصلاة، فإن الفقير إذا علم بحاله جماعة المسجد تصدقوا عليه، وواسوه، وكذلك إذا تخلف عن صلاة الجماعة عرف الناس أنه مريض، فقدموا له المساعدة أو متهاونًا فبادروه بالنصيحة (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (54). (¬2) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم (432). (¬3) الشرح الممتع على زاد المستنقع (4/ 135 - 138).

الكلمة المئة وسبعة: مخالفات شرعية تتعلق بالنكاح

الكلمة المئة وسبعة: مخالفات شرعية تتعلق بالنكاح الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من نعم الله العظيمة على عباده نعمة الزواج، وهو من سنن المرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآَيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]. وقد حث عليه الشارع لما يترتب عليه من مصالح دينية ودنيوية، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» (¬1). وتكثر في هذه الأيام حفلات الزواج، وهذا شيء طيب يبشر بالخير؛ إلا أنه مما ينافي شكر هذه النعمة، وقوع كثير من المخالفات، فمن ذلك: أولاً: المغالاة في المهور بما لا يطاق، والمشروع أن يكون قليلاً ميسرًا، روى الحاكم في المستدرك من حديث عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ» (¬2). وقال عمر - رضي الله عنه -: «أَلاَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5065)، وصحيح مسلم برقم (1400). (¬2) (2/ 537) برقم (2796) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه برقم (4083).

لاَ تُغَالُوا صَدُقَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ، لَكَانَ أَوْلاَكُمْ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَكَحَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، وَلاَ أَنْكَحَ شَيْئًا مِنْ بَنَاتِهِ، عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً»، وَالأُوقِيَّةُ عند أهل العلم أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وثنتا عشرة أوقية، هو أربعمئة وثمانون درهماً (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة أنها سئلت: كم كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: «كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا، قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلْكَ خَمْسُ مِئَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَزْوَاجِهِ» (¬2). وفي زيادة المهور مفاسد كثيرة من أعظمها تأخر كثير من الرجال والنساء عن الزواج، أو تركه بالكلية، وفي ذلك ما لا يخفى من المفاسد. ثانيًا: دبلة الخطوبة، حيث يلبس الرجل دبلة تسمى دبلة الخطوبة، وهي عبارة عن خاتم يضعه في يده، وكثير من الناس يعتقد أن العقد مرتبط بهذه الدبلة، خاصة إذا كانت من الذهب، وقد حرم لبس الذهب على الرجال بأدلة كثيرة، منها ما رواه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ»، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله! لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال الشيخ الألباني: ووضع خاتم الخطوبة في يد العروس من ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (1114) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) برقم (1426). (¬3) برقم (2090).

عادات النصارى، وقد أمرنا بمخالفتهم (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬2). ثالثًا: المنصة، وهي جلوس الزوج والزوجة في مكان عال بمرأى من جميع الحاضرات، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: «ومن المنكرات العظيمة وضع منصة للعروسين أمام الحاضرات من النساء، فينظر الرجل إلى النساء الأجنبيات، وهن بكامل زينتهن، وقد يدخل معه بعض أقارب الزوج أو الزوجة، فيحصل الاختلاط والفتنة» (¬3). روى البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِيَّاكُم وَالدُّخُوْلَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ» (¬4). والحمو قريب الزوج، وفي هذا تحريك للغرائز والشهوات، وما ينتج عن ذلك من فتنة وفساد. رابعًا: التصوير، وهو من كبائر الذنوب، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ» (¬5). وخاصة إذا كان التصوير للنساء، فإن الفتنة بهن أعظم، وتقوم بعض النساء بتصوير الحاضرات في الحفل وهن بكامل زينتهن، وهذا من أعظم المفاسد، وهل يرضى أحد منا أن تلتقط صورة ابنته أو أخته وتنتشر بين الناس، فإلى الله المشتكى. ¬

(¬1) انظر: آداب الزفاف (ص: 212 - 213). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر: التبرج وخطره، رسالة صغيرة للشيخ عبدالعزيز ابن باز. (¬4) البخاري برقم (5232)، ومسلم برقم (2172). (¬5) (6/ 23) برقم (3558) وقال محققوه: إسناده صحيح.

خامسًا: إحضار المغنيات ليغنين في حفلات الزواج مع الآلات والمعازف، ولا شك أن هذا من أعظم المنكرات، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَكُوْنَنَّ مِن أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّوْنَ الحِرَ وَالحَرِيْرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ» (¬1). وإنما أجاز الشارع الضرب بالدف عند النساء بشرط أن لا يصحبه غناء ماجن من قبل النساء. سادسًا: الإسراف في الولائم، واستئجار الفنادق، وقصور الأفراح بأموال طائلة، فينبغي الاقتصاد في ذلك، وترك الإسراف، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. سابعًا: لبس كثير من النساء في حفلات الزواج اللباس العاري، أو المفتوح، أو الضيق الذي يصف البشرة، أو الخارج عن الحياء، حتى لو كان عند النساء، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صِنْفَانِ مِن أَهْلِ النَّارِ لَم أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُوْنَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيْلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُؤُوْسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلنَ الجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوْجَدُ مِن مَسِيْرَةِ كَذَا وَكَذَا» (¬2). وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حضور الحفلات المشتملة على المنكرات، فقال: حضورها واجب إذا كان الإنسان يستطيع بحضوره أن يغير المنكر، وأما إذا كان لا يستطيع تغييره فإن حضورها ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (2128).

منكر محرم عليه، ولا يجوز في ذلك طاعة الوالدين، ولا طاعة الزوج، حتى لو فرض أن الوالد والوالدة إذا لم يحضر الولد من ذكر أو أنثى هذه الحفلات حصل منهم غضب أو زعل، ولا يعد ذلك من العقوق؛ لأن هذا من طاعة الله، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ بِالمَعْرُوْفِ» (¬1). والمنكر لا طاعة فيه لأحد، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». اهـ (¬2). ثامنًا: السهر حتى ساعة متأخرة من الليل، وربما في بعض الحفلات إلى قرب صلاة الفجر، وهذا يؤدي إلى إضاعة صلاة الفجر، فيحرم المسلم نفسه من الأجر والثواب، ويعرضها لعقوبة الله، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن صَلَّى صَلاَةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّة اللهِ، فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللهُ مِن ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَن يَطْلُبْهُ مِن ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُم يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» (¬3). تاسعًا: من المنكرات التي ترتكب بمناسبة الزواج ذهاب الزوجين بعد زواجهما إلى بلاد الكفار، أو بلاد أخرى تماثلها في الفساد لقضاء شهر العسل زعموا، وفي ذلك مخالفة صريحة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى الترمذي من حديث جرير بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَنَا بَرِيْءٌ مِن ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4340)، وصحيح مسلم برقم (1840). (¬2) هذه الفتوى عليها توقيع الشيخ رحمه الله بتاريخ 16/ 9 / 1409 هـ. (¬3) برقم (657).

كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيْمُ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ المُشْرِكِيْنَ، لاَ تَرَاءَى نَارَاهُمَا» (¬1). وما ينتج عن ذلك السفر من مفاسد، وخلع للحجاب، واختلاط المرأة بالأجانب، وذهاب إلى أماكن اللهو والفساد، وغير ذلك من المفاسد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (1604) وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 29) برقم (1207).

الكلمة المئة وثمان: شرح حديث (من أصبح آمنا في سربه)

الكلمة المئة وثمان: شرح حديث (مَن أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فقد روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عبيد الله بن محصن الخطمي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أَصْبَحَ مِنْكُم آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوْتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ (¬1) لَهُ الدُّنْيَا» (¬2). قوله: «أَصْبَحَ» أي: أصبح في ذلك اليوم، وفيه إشارة إلى أن المؤمن عليه ألا يحمل هم المستقبل، فإن أمره بيد الله، وهو الذي يدبر الأمور، ويقدر الأقدار، وعليه أن يحسن الظن بربه، ويتفاءل بالخير. قوله: «آمِنًا فِي سِرْبِهِ»، قيل: المعنى: في أهله وعياله، وقيل: في مسكنه وطريقه، وقيل: في بيته، فهو آمن أن يقتله أحد، أو يسرق بيته، أو ينتهك عرضه. والأمن من أعظم نعم الله على عباده بعد نعمة الإيمان والإسلام، ولا يشعر بهذه النعمة إلا من فقدها، كالذين يعيشون في البلاد التي يختل فيها النظام والأمن، أو الذين عاصروا الحروب الطاحنة التي تهلك الحرث والنسل، فهم ينامون على أزيز الطائرات وأصوات ¬

(¬1) وحيزت: جمعت. (¬2) برقم (2346) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 274) برقم (1913).

المدافع، ويضع الواحد منهم يده على قلبه ينتظر الموت في أي لحظة، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. وقد وعد الله المؤمنين بالأمن إن حققوا التوحيد وأخلصوا الإيمان، وعملوا الصالحات، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]. قوله: «مُعَافًى فِي بَدَنِهِ»، أي: صحيحًا سالمًا من العلل والأسقام، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ وَالجُنُوْنِ وَالجُذَامِ، وَمَن سَيِّئِ الأَسْقَامِ» (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه صباحًا ومساءً هذه العافية في دينه ودنياه ونفسه وأهله وماله، وأمر أصحابه بذلك، روى الإمام أبوداود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لَم يَكُنْ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِيْنَ يُمْسِي وَحِيْنَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِيْنِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي ... » الحديث (¬2). ¬

(¬1) (20/ 309) برقم (13004) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) برقم (5074) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 957) برقم (4239).

وروى الترمذي في سننه من حديث معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: «سَلُوْا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَم يُعْطَ بَعْدَ اليَقِيْنِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ» (¬1). وأخبرالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكثير من الناس مفرط ومغبون في هذه النعمة، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ» (¬2). وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى اغتنام الصحة قبل المرض، روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغْتَنِم خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ ... وَذَكَر مِنْهَا: صِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ» (¬3). وكان ابن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري يقول: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَخُذ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِن حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» (¬4). والذي يزور مستشفيات المسلمين ويرى ما ابتلي به إخوانه من الأمراض الخطيرة التي عجز الطب الحديث عن علاج بعضها ليحمد الله عز وجل صباحًا ومساءً على نعمة العافية، وصدق الله إذ يقول: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ¬

(¬1) برقم (3558) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 180) برقم (2821). (¬2) برقم (6412). (¬3) (5/ 435) برقم (7916)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1077). (¬4) برقم (6416).

الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. قوله: «عنده قوت يومه»، أي: قدر ما يغديه ويعشيه، والطعام من نعم الله العظيمة، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]. وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله من الجوع، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِن الجُوْعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ» (¬1). ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه الكفاف، أي مقدار ما يكفيه، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوْتًا» (¬2). ومما تقدم يتبين أن من اجتمعت له هذه الخصال الثلاث في يومه، فكأنما ملك الدنيا كلها، وقد اجتمع لكثير من الناس أضعاف أضعاف ما ذكر في هذا الحديث، ومع ذلك فهم منكرون لها، محتقرون ما هم فيه، فهم كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} [النحل: 83]. وقال تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. ودواء هذا الداء أن ينظر المرء إلى من حرم هذه النعم، أو بعضها، كما أرشد إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انْظُرُوْا إِلَى مَن أَسْفَلَ مِنْكُم، ¬

(¬1) برقم (1547) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 288) برقم (1368). (¬2) البخاري برقم (6460)، ومسلم برقم (1055).

وَلاَ تَنْظُرُوْا إِلَى مَن هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَلاَّ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (¬1). قال ابن جرير وغيره: هَذَا حَدِيْثٌ جَامِعٌ لأَنْوَاعٍ مِنَ الخَيْرِ؛ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى مَن فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَت نَفْسُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْدَهُ مِن نِعْمَةِ اللهِ، وَحَرَصَ عَلَى الازْدِيَادِ لِيَلحَقَ بِذَلِكَ، أَو يُقَارِبَهُ. هَذَا هُوَ المَوْجُوْدُ فِي غَالِبِ النَّاسِ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُوْرِ الدُّنْيَا إِلَى مَن هُوَ دُوْنَهُ فِيْهَا، ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَةُ اللِه تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ وَفَعَلَ فِيْه الخَيْرَ. اهـ (¬2). وأختم بهذا الحديث الذي يبين أن كثيراً من الناس يعيشون عيشة الملوك: روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِن فُقَرَاءِ المُهَاجِرِيْنَ؟ فَقَال عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَاوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِن المُلُوْكِ (¬3). قال الشاعر: إذا اجتمع الإسلامُ والقُوتُ للفَتَى ... وأضْحَى صحيحاً جسمُهُ وهو في أمن فقد ملَكَ الدُنيا جميعاً وحازها ... وَحَقَّ عليه الشكرُ لله ذي المَنّ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (6490)، ومسلم برقم (2963). (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 97). (¬3) برقم (2979).

الكلمة المئة وتسع: تفسير آية الكرسي

الكلمة المئة وتسع: تفسير آية الكرسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة: 255]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة، والصفات الكريمة، فلقد كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردًا للإنسان في أوقاته صباحًا ومساءً، وعند نومه، وأدبار الصلوات المكتوبات. اهـ (¬1). وتُسمى آية الكرسي لذكر الكرسي فيها. قوله: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وهو الحي في نفسه، الذي لا يموت أبدًا، ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، (ص: 112).

القيم بغيره، ومن تمام حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، والسِّنَةُ هي النعاس، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات، فقال: «إِنَّ اللهَ عز وجل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَه أَن يَنَامَ، يَخفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّوْرُ لَو كَشَفَهُ لأَحْرَقَت سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلقِهِ» (¬1). قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إخبار بأن الجميع عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه، كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95]. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]. وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَاذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. وفي حديث الشفاعة الطويل قال - صلى الله عليه وسلم -: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ مِن مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَم يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَع رَاسَكَ، وَسَل تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» (¬2). ¬

(¬1) برقم (179). (¬2) البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194).

وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله تعالى إخبارًا عن الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. وقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} قال ابن كثير: أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل، وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] (¬1). قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}؛ روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، وَالعَرْشُ لاَ يَقدِرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ» (¬2). وهذا يدل على كمال عظمة الله وسعة سلطانه، فإذا كان هذا حال الكرسي، أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، فكيف بالعرش الذي هو أعظم من الكرسي؟ ! قال الطحاوي: والعرش والكرسي حق، قال ابن أبي العز الحنفي: العرش سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم (¬3)، وهو سقف المخلوقات، قال عبدالله بن رواحة: شَهِدتُ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرينَا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 309). (¬2) (2/ 678) برقم (3170)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ مقبل الوادعي في تخريجه لأحاديث تفسير ابن كثير (1/ 571)، وأخرجه الذهبي في كتابه العلو (ص: 76)، وصححه الألباني في مختصر العلو (ص: 45). (¬3) شرح العقيدة الطحاوية (ص: 311).

وَأَنَّ العَرشَ فَوْقَ الماءِ طَافٍ ... وَفَوقَ العَرشِ ربُّ العَالمِينَا وتَحْمِلهُ مَلائِكةٌ شِدَادُ ... مَلائِكةُ الإلَهِ مُسَوَّمِينَا (¬1) روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبدالله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» (¬2). وقوله: {وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}، أي: لا يثقله ولا يكترثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، وهو العلي بذاته، فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته، العظيم الذي يتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة. ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أنها أعظم آية في القرآن، وقد وردت نصوص كثيرة في فضلها، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ » قَالَ: قُلتُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ » قَالَ: قُلتُ: «اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّوْمُ»، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «لِيَهْنِكَ العِلمُ أَبَا المُنْذِرِ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ¬

(¬1) العقيدة الطحاوية (ص: 311). (¬2) برقم (4727)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (151). (¬3) برقم (810).

وَكَّلَنِي رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لأَرَفَعَنَّكَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ الحَدِيْثَ فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَن يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ» (¬1). ثانيًا: سعة علم الله وإحاطته بكل شيء، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. ثالثًا: عظمة الله سبحانه، وسعة سلطانه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]. رابعًا: أن الله تعالى لا يثقله ولا يكترثه حفظ السماوات والأرض، بل ذلك سهل يسير عليه، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (3275).

الكلمة المئة وعشرة: حفظ اللسان

الكلمة المئة وعشرة: حفظ اللسان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من نعم الله العظيمة على الإنسان، نعمة اللسان، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9]. وهذا اللسان إن لم يستخدم في طاعة الله، كان وبالاً على صاحبه، قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]. وقد وردت نصوص شرعية كثيرة تحث على حفظ اللسان، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. روى الترمذي في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَن عَمَلٍ يُقَرِّبُهُ إِلَى الجَنَّةِ وَيُبَاعِدُهُ مِنَ النَّارِ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَاسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ » قُلتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا». فَقُلتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُوْن بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ

يَا مُعَاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوْهِهِم - أَو: عَلَى مَنَاخِرِهِم - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِم؟ ! » (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيْهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» (¬2). قوله: «مَا يَتَبَيَّنُ فِيْهَا»، أي لا يدري هل هي في طاعة الله أو معصيته؟ وروى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَليَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيْئَتِكَ» (¬4). وروى الترمذي في سننه من حديث سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به؟ قال: «قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: «هَذَا» (¬5). وقال عبد الله بن مسعود: «أنذرتكم فضول الكلام، بحسب أحدكم ¬

(¬1) برقم (2616)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) صحيح البخاري برقم (6477)، وصحيح مسلم برقم (2988). (¬3) برقم (6474). (¬4) برقم (2406)، وقال: هذا حديث حسن. (¬5) برقم (2410)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ما بلغ حاجته» (¬1). قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: «يا أبا يحيى، حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم» (¬2). وقال الأوزاعي: «كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله برسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول: أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا ينفعه» (¬3). وقال عبد الله بن مسعود: «وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، مَا شَيْءٌ أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ هَذَا اللِّسَانِ» (¬4). قال الإمام النووي رحمه الله: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء. اهـ (¬5). وشر حركات الجوارح حركة اللسان، وهي أضر ما يكون على العبد. قال ابن القيم: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ¬

(¬1) الصمت لابن أبي الدنيا (ص: 241). (¬2) إحياء علوم الدين (3/ 120). (¬3) إحياء علوم الدين (3/ 112). (¬4) إحياء علوم الدين (3/ 200). (¬5) انظر: شرح صحيح مسلم (2/ 19).

ومن النظر الحرام، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ والاحتراز من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، ينزل في النار بالكلمة الواحدة أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يقطع ويذبح في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول. اهـ (¬1). وإذا أردت أن تعرف ذلك فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدَّث أنَّ رجلاً قال: «وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَن ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَلاَّ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟ فَإِنِّي قَد غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» (¬2). أو كما قال. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، وتكلم رجل في حق رجل، فقال له صاحبه: أغزوت الروم؟ قال: لم أفعل. قال: سلم منك النصارى، ولم يسلم منك أخوك المسلم! وقال بعضهم: تسعة أعشار الذنوب من اللسان. قال الشاعر: احفظْ لِسَانَكَ أيُّها الإنسانُ ... لا يلدَغَنَّك إنهُ ثُعبانُ كَمْ في المَقابِرِ من قتيلِ لِسانِه ... كانت تَهابُ لقاءهُ الشجعانُ قال بعض أهل العلم: في اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى، آفة السكوت عن الحق، أو آفة الكلام بالباطل، وقد تكون كل منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 140). (¬2) برقم (2621).

الحق شيطان أخرس عاص لله، مراء، مداهن، إذا لم يخف على نفسه مثل من يرى المنكرات أمام عينيه مع قدرته على التغيير ولا يفعل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِن لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لَم يَسْتَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ» (¬1). الآفة الثانية: التكلم بالباطل، وهو شيطان ناطق عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط هم أهل الصراط المستقيم، كفوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا يرى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً عن أنها تضره في آخرته يوم القيامة، عندما يأتي بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكره الله وما اتصل به. اهـ (¬2). والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (49). (¬2) انظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 142).

الكلمة المئة وإحدى عشرة: الحور العين

الكلمة المئة وإحدى عشرة: الحور العين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أعظم نعيم الجنة الذي وعد الله به المؤمنين، مما تشتاق إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب، الحور العين، فقد وصفهن الله بأحسن الصفات، وحلاهن بأجمل الحلي، وشوق الخطّاب إليهن، حتى كأن المؤمنين يرونهن رأي العين، قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 56 - 58]. قال الحسن وعامة المفسرين: «في صفاء الياقوت، وبياض المرجان» (¬1). وقال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ} [الواقعة: 22 - 23]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْشَانَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ اليَمِينِ} [الواقعة: 35 - 38]. والحور جمع حوراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء، شديدة سواد العين، قالت عائشة رضي الله عنها: «البياض نصف ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (13/ 334).

الحسن». وقال عمر - رضي الله عنه -: «إذا تم بياض المرأة في حسن شعرها، فقد تم حسنها». والعرب تمدح المرأة بالبياض، قال الشاعر: بيضٌ أَوَانسُ ما هممن بريبةٍ ... كظِباءِ مكةَ صيدُهنَ حرامُ يُحسبن مِن لِين الحديثِ زوانيا ... ويَصدُهنَ عن الخَنَا الإسلامُ قوله: {عُرُبًا} في الآية الكريمة، العرب جمع عروب، وهي التي جمعت إلى حلاوة صورتها، حسن التأني والتبعل والتحبب إلى الزوج بدلها وحديثها، وحلاوة منطقها، وحسن حركاتها. وذكر المفسرون في تفسير العرب بأنهن العواشق المتحببات، الغنجات، الشكلات، المتعشقات، الغلمات، المغنوجات، كل ذلك من ألفاظهم (¬1). قوله {أَتْرَابًا}: قال ابن عباس: وسائر المفسرين: مستويات على سن واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة (¬2). وقد أودع سبحانه في الحور العين من حسن الخَلق والخُلُق، وجمال الصورة، ورقة البشرة ما يبهر العقول، وتعجز الألسن عن وصفه. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُوْرَتُهُم عَلَى صُوْرَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، لاَ يَبْصُقُوْنَ فِيْهَا، وَلاَ يَتَمَخَّطُونَ، وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُم فِيْهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُم مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوْقِهِمَا مِن وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، ¬

(¬1) بدائع التفسير (4/ 354). (¬2) تفسير ابن كثير (13/ 376).

لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُم وَلاَ تَبَاغُضَ، قُلُوْبُهُم قَلبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُوْنَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِي سَوْطَهُ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا - يَعنِي الخِمَارَ - عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬2). والحور العين مطهرات من كل أذى وقذر ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]. قال جمع من المفسرين: المطهرة من طهرت من الحيض والبول، والنفاس، والغائط، والمخاط، والبصاق، وكل قذر وأذى مما يكون في نساء الدنيا (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى ¬

(¬1) البخاري برقم (3245)، ومسلم برقم (2834). (¬2) البخاري برقم (2796)، وأخرج مسلم أوله برقم (1880)، والغدوة الذهاب أول النهار للغزو في سبيل الله، والروحة الذهاب آخره للغزو في سبيل الله. (¬3) تفسير ابن كثير (1/ 322 - 323).

غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ (¬1). وإن من أعظم ما أتحف الله به عباده في دار كرامته، زواجهم من الحور العين، فبهذا الزواج تتحقق السعادة وتكتمل اللذة، قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20]. وقال سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 55 - 56]. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم: «شغلهم افتضاض الأبكار» (¬2). روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِن لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّوْنَ مِيْلاً، لِلمُؤْمِنِ فِيْهَا أَهْلُوْنَ، يَطُوْفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ، فَلاَ يَرَى بَعْضُهُم بَعْضًا» (¬3). وهذه الخيام غير الغرف والقصور التي في الجنة، فذاك نعيم آخر، روى الطبراني في المعجم الصغير من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قِيَلَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، هَل نَصِلُ إِلَى نِسَائِنَا فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصِلُ فِي اليَوْمِ إِلَى مِئَةِ عَذْرَاءَ» (¬4). والحور العين يشتقن إلى أزواجهن من المؤمنين، فتدعو الواحدة منهن على من يتعرض لزوجها في الدنيا، فكيف إذا قدم عليها وبشرت ¬

(¬1) بدائع التفسير (1/ 297). (¬2) تفسير ابن كثير (11/ 369). (¬3) البخاري برقم (3243)، ومسلم برقم (2838). (¬4) (2/ 68) برقم (795) وقال الحافظ أبو عبدالله المقدسي: هذا الحديث عندي على شرط الصحيح، تفسير ابن كثير (13/ 375).

بذلك، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لاَ تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللهُ، فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ، يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا» (¬1). وعرائس الجنان من الحور العين لا يزددن مع مرور الدهور والأحقاب إلا حسنًا وجمالاً، وحبًا وتوددًا لأزواجهن في الجنة. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَاتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً» (¬2). والصالحون في هذه الدار بعدما علموا ما جاء في كتاب ربهم وسنة نبيهم في شأنهن - أي الحور العين - يكونون في أشد الشوق والحب إليهن، مما له أكبر الأثر في إقبالهم على طاعة مولاهم، وأن يقر أعينهم بهن، قال ربيعة بن كلثوم: نظر إلينا الحسن ونحن شباب، فقال: يا معشر الشباب، أما تشتاقون إلى الحور العين؟ (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: يا خَاطِبَ الحُور الحسانِ وطالبًا ... لوصَالهن بِجنةِ الحيوان لو كُنتَ تدْري من خَطَبتَ ومن طلبْـ ... ـتَ بذلتَ ما تَحوي مِن الأثمان ¬

(¬1) (36/ 417) برقم (22101) وقال محققوه: إسناده حسن، والدخيل الذي يرحل سريعاً. (¬2) برقم (2833). (¬3) انظر: رسالة (بشرى المحبين بأخبار الحور العين) للشيخ سعد الحمدان.

أو كُنْتَ تدري أينَ مسكنها جَعْـ ... ـلت السعيَ مِنكَ لها على الأجفان ولَقدْ وصفتُ طريقَ مسكَنِها فإن ... رُمت الوِصَالَ فلا تكن بالوانِي أَسْرع وحُث السيرَ جهدَكَ إنما ... مَسْراكَ هذَا ساعةُ لزمان فاعْشق وحدثْ بالوصالِ النفسَ ... وابذلَ مهرَهَا ما دمتَ ذا إمكان واجْعل صيامَكَ قَبل لُقياها ويـ ... ـومَ الوصلِ يومَ الفطرِ من رمضان واجْعل نُعوتَ جَمَالها الحادي وِسر ... تلْقى المخَاوفَ وهيَ ذات أمان والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة واثنتا عشرة: الابتلاء

الكلمة المئة واثنتا عشرة: الابتلاء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يبتلى فيها المؤمن بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والشهوات والشبهات، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم تارة أخرى، فننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، قال ابن عباس: «{وَنَبْلُوكُمْ}: أي نبتليكم بالشر والخير، أي بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال» (¬1). ثم قال تعالى: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: فنجازيكم على مواقفكم من هذه الأحوال، فمن وقف موقف المؤمن واتقى الله في كل حالة نال المثوبة، ومن أساء نال العقوبة. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 178).

وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. روى البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيْمَن قَبْلَكُم يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيْهِ، فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ فَيُوْضَعُ عَلَى رَاسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَن دِيْنِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيْدِ مَا دُوْنَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَو عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَن دِيْنِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيْرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُم تَسْتَعْجِلُوْنَ» (¬1). وروى الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» (¬2). وسأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل: أن يمكن فيشكر الله عز وجل؟ أو يبتلى فيصبر؟ فقال الشافعي: لا ¬

(¬1) برقم (3612). (¬2) برقم (2398) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

يُمكَّن حتى يُبتَلَى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم ومحمدًا صلوات الله عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم الله فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة. اهـ (¬1). قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]. قال ابن القيم رحمه الله: والله أسأل أن يجعلكم ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هذه الأمور الثلاثة عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبدًا، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاثة. اهـ (¬2). والمؤمن يصيبه البلاء تكفيرًا لسيئاته، ورفعة لدرجاته، وحتى يتميز الخبيث من الطيب، وغير ذلك من الحكم. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكًا شديدًا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَجَل، إِنِّي أُوَعَكُ كَمَا يُوَعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُم»، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَجَل» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلاَّ حَطَّ اللهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن ¬

(¬1) الفوائد لابن القيم (ص: 232 - 233). (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 3). (¬3) برقم (5660).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» (¬1). قال أبو عبيدة الهروي: أي يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها، وقد تبتلى أمة الإسلام بتكالب الكفار واعتدائهم عليها، إما عقوبة لها على تقصيرها في طاعة ربها، أو ابتلاء واختبارًا لها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]. وما نراه في هذه الأزمان من تكالب أمم الكفر من كل مكان، واتحادهم ضد المسلمين، ما هو إلا مصداق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الإمام أبو داود من حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ»، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» (¬2). ولن يكون الخلاص والنجاة من ذلك إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والبراءة من الشرك وأهله، ويجب على المؤمن أن يكون على ثقة ويقين بنصر الله القريب، وإن كثر الأعداء، وعظمت قوتهم، فإن الله سينصر دينه والمؤمنين، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَاسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. ¬

(¬1) برقم (5645). (¬2) برقم (4297) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 810) برقم (3610).

وقال تعالى: {وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وثلاث عشرة: الزهد في الدنيا

الكلمة المئة وثلاث عشرة: الزهد في الدنيا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فقد وصف ربنا عز وجل حال الدنيا وأهلها فيها، وكشف حقيقتها، وبين قصر مدتها، وانقضاء لذتها، فقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد: 20]. فبين لنا العليم الحكيم في هذه الآية حال الدنيا التي افتتن الناس بها، وبين أنها لعب لا ثمرة فيه سوى التعب، ولهو يشغل صاحبه ويلهيه عما ينفعه في آخرته، وزينة تخدع المفتون بها، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية، ومباهاة بكثرة الأموال والأولاد، وعظم الجاه، وأشار سبحانه إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال، كمثل غيث أعجب الزراع نباته الناشئ منه، ثم يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى ما قدره الله له، فسرعان ما تراه مصفرًا متغيرًا ذابلاً بعد أن كان أخضر نضرًا، ثم يعود إلى اليبس هشيمًا متكسرًا، ففيه تشبيه جميع ما في الدنيا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل ويتلاشى في أقل من سنة، إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها.

ثم أشار سبحانه إلى عظم شأن الآخرة بما فيها من الآلام والعذاب الشديد لمن عصاه، والمغفرة والرضوان الموجب لكمال النعيم لمن أطاعه. قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ ... بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. وقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} ... [آل عمران: 14 - 15]. وقال تعالى: {وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26]. روى مسلم في صحيحه من حديث المستورد بن فهر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟ » (¬1). وروى ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَنَا وَالدُّنْيَا؟ ! إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ ¬

(¬1) برقم (2858).

تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: «ولا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر الأول: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، وألم المزاحمة عليها، والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع، مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وحزن وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين. النظر الثاني: النظر في الآخرة، وإقبالها، ومجيئها، ولا بد من دوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا، فهي كما قال سبحانه: {وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النافع العاجل، واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل، واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل، وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان، وضعف العقل والبصيرة، فإن الراغب في الدنيا، الحريص عليها، المؤثر لها إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق، فإن لم يصدق بذلك كان عادمًا للإيمان رأسًا، وإن صدق بذلك ولم يؤثر كان فاسد العقل سيئ ¬

(¬1) برقم (4109) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 394) برقم (3317).

الاختيار لنفسه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - عُرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل اهـ (¬1). قال الشاعر: لاَ طِيبَ لِلْعَيشِ مَا دَامَتْ لَذَّاتُهُ ... مُنَغَّصَةً بِادِّكَارِ المَوتِ وَالهَرَم وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا، واطمأن بها، وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَاوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8]. وقد عاتب سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا، ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة، ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207]. وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ¬

(¬1) الفوائد (ص: 112 - 113) بتصرف.

بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكثر الناس قناعة وزهدًا في الدنيا، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة ابن أختها: «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَبْيَاتِهِمْ، فَيَسْقِينَاهُ» (¬1). روى البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن الحارث قال: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَماً وَلاَ دِينَاراً وَلاَ عَبْداً وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئاً إِلاَّ بَغْلَتَهَ البَيْضَاءَ وَسِلاَحَهُ وَأَرْضاً جَعَلَهَا صَدَقَةً (¬2). بل إنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير (¬3). وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الأنصار أن يكون بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد الراكب، ووصى ابن عمر أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وقال لأبي هريرة: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ» (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: والزهد زهد في الحرام، وهو فرض عين، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6459)، وصحيح مسلم برقم (2972). (¬2) برقم (2739). (¬3) صحيح البخاري برقم (4467). (¬4) ابن ماجه في سننه برقم (4102) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (944).

وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبًّا، وزهد في الفضول، وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسه في الله، وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله، وفي كل ما شغلك عنه. وأفضل الزهد إخفاء الزهد، وأصعبه الزهد في الحظوظ، والفرق بينه وبين الورع أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع. إلى آخر ما قال (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الفوائد (ص: 138).

الكلمة المئة وأربع عشرة: العافية

الكلمة المئة وأربع عشرة: العافية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أعظم نعم الله على عباده بعد نعمة الإيمان والإسلام، نعمة العافية، قال تعالى عن نبي الله هود عليه السلام وهو يخاطب قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا ... إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} ... [هود: 52]. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (¬1). والغبن أن يشتري الإنسان السلعة بأكثر من ثمنها، فمن صح بدنه وتفرغ من الأشغال العالقة به، ولم يسع لإصلاح آخرته يقال عنه: رجل مغبون. روى الترمذي في سننه من حديث عبيد الله بن محصن الخطمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» (¬2). قوله: «آمِنًا فِي سِرْبِهِ»، أي: آمنًا على نفسه وأهله وعياله وماله. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

قوله: «مُعَافًى فِي جَسَدِهِ»، أي: من الأمراض، أي: صحيحًا سالمًا من العلل والأسقام. قوله: «عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ»، أي: كفاية قوته وحاجته من وجه حلال. قوله: «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، أي: ضمت وجمعت، فمن جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصيته. وإن من أعظم المطالب، وأرفع المراتب التي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها سؤال الله العافية، روى الترمذي في سننه من حديث رفاعة بن رافع قال: قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: «سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله تعليقًا على الحديث المذكور: «فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه، فجمع أمر الآخرة في كلمة، وأمر الدنيا كله في كلمة» (¬2). وروى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) تحفة الذاكرين (ص: 305).

الْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» (¬1). فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن أفضل ما سأله العباد أن يعافيهم الله، لأن العمدة الكبرى، والمنحة العظمى في نيل السعادة الدنيوية والأخروية هي العافية. وروى البزار في كشف الأستار من حديث أنس بن مالك: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ مُبْتَلَينَ، فَقَالَ: «أَمَا كَانَ هَؤُلاءِ يَسْأَلُونَ اللهَ الْعَافِيَةَ؟ ! » (¬2)، وفي الحديث دليل على أن سؤال الله العافية يدفع كل بلية، ويرفع كل محنة، ولهذا جاء - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاستفهام بمعنى الاستنكار، فكأنه قال لهم: كيف تتركون أنفسكم في هذه المحنة والابتلاء؟ وأنتم تجدون الدواء الحاسم لها، والمرهم الشافي لما أصابكم منها، وهو الدعاء بالعافية، واستدفاع هذه المحنة النازلة بكم، بهذه الدعوة الكافية، وفي هذا ما يزيد النفوس نشاطًا والقلوب بصيرةً، باستعمال هذا الدواء عند عروض كل داء، ومساس كل محنة، ونزول كل بلية، قال أحد الصالحين: «أكثروا من سؤال العافية، فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه لا يأمن ما هو أشد منه، وإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم». والذي يزور مستشفيات المسلمين ويرى ما ابتلي به إخوانه من الأمراض الخطيرة التي عجز الطب الحديث عن علاج بعضها، ليحمد الله عز وجل صباحًا ومساءً على نعمة العافية. ¬

(¬1) برقم (3851)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه برقم (3106). (¬2) (4/ 36) برقم (3134) وصححه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2197).

قال الشاعر: إني وإن كَان جَمْعُ المالِ يُعْجِبُنِي ... ما يعدلُ المالُ عِندي صِحَّة الجَسَد المالُ زينٌ وفي الأَولادِ مَكْرُمَةٌ ... والسُقْمُ يُنسِيك ذِكرَ المَالِ والوَلَد وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه العافية صباحًا ومساءً، وحتى عند نومه، فروى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (¬1). قال أبو داود: قال وكيع: يعني الخسف، وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن الحارث، يحدث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلاً إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَن يَقُولَ: «اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي ... الحديث، وقال في آخره: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟ فَقَالَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ، مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والعافية في الدنيا هي دفع الله عن العبد جميع الأسقام والبلايا وجميع ما يكرهه ويشينه، والعافية في الآخرة هي دفع الله عنه جميع أهوال الآخرة وأفزاعها، ولا يخرج مطلوب العبد من هذين القسمين. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله من سيئ الأسقام، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (2712).

البَرَصِ، وَالجُنُوْنِ، وَالجُذَامِ، وَمَن سَيِّئِ الأَسْقَامِ» (¬1). وأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى اغتنام الصحة قبل المرض، فروى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغتَنِم خَمسًا قَبلَ خَمسٍ .. ذكر منها: صِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِك» (¬2): وكَانَ ابْنُ عُمَرَ كما في صحيح البخاري يَقُوْلُ: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاح، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» (¬3) (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) برقم (6416). (¬4) انظر: رسالة الشيخ عبدالهادي وهبي "الوسيلة الكافية لتحقيق العافية".

الكلمة المئة وخمس عشرة: مكانة المرأة في الإسلام

الكلمة المئة وخمس عشرة: مكانة المرأة في الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فحديثنا اليوم عن المرأة، وسيكون الكلام فيها حول الأمور التالية: أولاً: حالة المرأة قبل الإسلام. ثانيًا: صور مضيئة لتكريم المرأة في الإسلام. ثالثًا: شبهات والجواب عنها. رابعًا: واجبنا نحو ذلك. أولاً: حالة المرأة قبل الإسلام: لقد كانت المرأة قبل الإسلام في بعض مجتمعات الجاهلية تعيش فترة عصيبة، فقد كانوا يكرهون ولادتها، فمنهم من يدفنها وهي حية تحت التراب خوفًا على نفسه من العار، ومنهم من يتركها تبقى في حياة الذل والمهانة. قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 - 59].وقال تعالى: {وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9].

والموؤدة هي البنت تدفن حية حتى تموت تحت التراب، والمرأة في الجاهلية ليس لها حظ في الميراث مهما عانت من الفقر والحاجة؛ لأن الميراث يختص بالرجال، بل إنها كانت تورث عن زوجها الميت كما يورث سائر المتاع، وكان الجمع الكثير من النساء يعشن تحت زوج واحد، حيث كانوا لا يتقيدون بعدد محدد من الزوجات، ولا يبالون بما ينالهن من المضايقات والظلم، روى مسلم في صحيحه من حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «وَاللهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ» (¬1). ثانيًا: صور مضيئة لتكريم المرأة في الإسلام: فقد رفع عنها المظالم، وأعاد لها مكانتها، وجعلها شريكة الرجل في الثواب والعقاب وسائر الحقوق، إلا ما اختص الله به النساء، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]. روى الترمذي في سننه من حديث أُمِّ عُمَارَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ ¬

(¬1) برقم (1479).

مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» (¬2). وحرم الإسلام اعتبار المرأة من موروثات الزوج، كما هو الحال في الجاهلية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]. فضمن لها استقلال شخصيتها، وجعلها وارثة لا موروثة، وجعل للمرأة حقًا في مال قريبها من الميراث، فقال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» (¬3). وروى ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» (¬4). ثالثًا: شبهات والجواب عنها: يردد أهل الشهوات عبر وسائل الإعلام المختلفة بأن المرأة تعاني من الظلم، وأنها شق معطل، وأن البيت سجن لها، والقوامة سيف مصلت ¬

(¬1) برقم (3211) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 92) برقم (2565). (¬2) (43/ 265) برقم (26195) وقال محققوه: حديث حسن لغيره. (¬3) برقم (5186)، وصحيح مسلم برقم (1468). (¬4) برقم (1977) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 334) برقم (1608).

عليها أن تتخلص منه، وقد أوجد ذلك وللأسف أثرًا عند بعض النساء. أما القول بأن المرأة تعاني من الظلم، فقد سبق الكلام عن مكانة المرأة في الإسلام، وكيف رفع المظالم التي كانت عليها في الجاهلية، وهي ليست شق معطل، بل إن بقاءها في بيتها وتربيتها لأولادها من أعظم الأعمال التي تثاب عليها، وتخرج ثمراتها إلى المجتمع المسلم. روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا، دَخَلَتْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَتْ» (¬1). والذي ينظر إلى المجتمعات الغربية وكيف خرجت المرأة لتزاحم الرجال، وتركت أطفالها في رعاية الخدم، أو الحضانة، أو غيرها، وما جنى هؤلاء الغربيون من الفساد، وانحلال الأخلاق، وكثرة أولاد الزنا، والتفكك الأسري، وانتشار المخدرات والمسكرات، وغير ذلك، ليدرك عظمة هذا الدين، وصدق الله إذ يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]. أما القوامة فقد جعلت لحماية المرأة وصيانة عرضها من الرجال، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. قال ابن كثير: «أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت». قال ابن عباس: «{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}: يعني أمراء عليهن، أي: تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة لأهله، ¬

(¬1) برقم (4151) وصححه الشيخ الألباني في آداب الزفاف (ص: 286).

حافظة لماله» (¬1). رابعًا: واجبنا نحو ذلك: أولاً: تربية أبنائنا وبناتنا وزوجاتنا تربية صالحة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «أدبوهم وعلموهم الخير»، وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ» (¬2). ولو أن كل رجل اهتم بأسرته، ورباهم على الكتاب والسنة؛ لصلح المجتمع كله. ثانيًا: التزود بالعلم الشرعي، وبالعلم يكتشف المؤمن ضلال المضلين، وانحراف المنحرفين من العلمانيين وأهل الأهواء والشهوات، ويستطيع الرد عليهم وكشف مخططاتهم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. ثالثًا: الدعوة إلى الله عز وجل، وتحذير الناس من أهل الشر، وما يخططون له من إفساد المرأة، وإبعادها عن دينها، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 20 - 21). (¬2) صحيح البخاري برقم (2558)، وصحيح مسلم برقم (1829).

قال: «فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

الكلمة المئة وست عشرة: التحذير من الربا

الكلمة المئة وست عشرة: التحذير من الربا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الذنوب العظيمة التي حرمها الله ورسوله، ولعن فاعلها، الربا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء فيه: « ... أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ -: أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ ¬

(¬1) برقم (1598).

يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَاتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالاَ: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحِجَارَةَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ... وذكر منها: الرِّبَا» (¬2). ومن صور الربا المحرم: شراء الأسهم الربوية، أو إيداع الأموال في البنوك، وأخذ الزيادة الربوية التي يسمونها فوائد، أو الاقتراض من البنوك، ورد المبالغ إليها مع الزيادة الربوية، وإن من الجرائم العظيمة، والأمور الخطيرة ما نسمعه ونشاهده هذه الأيام من تسابق أهل هذه البنوك بوضع شتى الطرق والحيل والدعايات لإيقاع الناس في الربا، وترغيبهم بشتى الوسائل لتزداد أرصدتهم من هذه الأموال الخبيثة، وعلى سبيل المثال ما يسمى بطاقة فيزا سامبا، وقد صدرت فيها فتوى من اللجنة الدائمة بتحريم التعامل بها، وأنها من الربا الذي حرمه الله ورسوله. جاء في الفتوى رقم (17611): يتداول بين الناس في الوقت الحاضر بطاقة فيزا سامبا، صادرة من البنك السعودي الأمريكي، وقيمة هذه البطاقة الذهبية (485) ريالاً، وإذا كانت فضية (245) ريالاً، تسدد هذه القيمة سنويًا لمن يحمل بطاقة فيزا للاستفادة منها كاشتراك سنوي، ويحق لحامل هذه البطاقة أن يسحب من فروع البنك المبلغ الذي يريده سلفة، ويسدد بنفس القيمة خلال مدة لا تتجاوز ¬

(¬1) برقم (7047). (¬2) البخاري برقم (2766)، ومسلم برقم (89).

أربعة وخمسين يومًا، وإذا لم يسدد المبلغ المسحوب سلفة خلال الفترة المحددة يأخذ البنك عن كل مئة ريال فوائد قيمتها ريال وخمس وتسعين هللة (1. 95)، ويحق لحامل هذه البطاقة شراء البضائع من المحلات التجارية التي تتعامل مع البنك، دون أن يدفع مالاً نقديًا، وتكون سلفة عليه للبنك، وإذا تأخر عن سداد القيمة عن مدة أربعة وخمسين يومًا يأخذ البنك عن كل مئة ريال ريالاً وخمسًا وتسعين هللة، فما حكم استعمال هذه البطاقة، والاشتراك السنوي مع هذا البنك. الجواب: إذا كان حال بطاقة فيزا سامبا كما ذكر، فهذا إصدار جديد من أعمال المرابين، وأكل لأموال الناس بالباطل، وتأثيمهم، وتلويث مكاسبهم، وتعاملهم، وهو لا يخرج عن حكم ربا الجاهلية المحرم في الشرع المطهر (إما أن تقضي، وإما أن تربي)، ولهذا لا يجوز إصدار هذه البطاقة، ولا التعامل بها. اهـ. ومن صوره كذلك بيع العينة، ويسميه بعض الناس الدينة، ومثاله: أن يبيع شخص سلعة على شخص آخر بمبلغ ألف ريال مؤجلة لمدة سنة، ثم في نفس الوقت يشتري البائع سلعته من المشتري بمبلغ خمسمئة ريال معجلة، وتبقى الخمسمئة ريال في ذمة المشتري الأول، وقد ورد النهي الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العينة، روى الإمام أبو داود في سننه من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلا، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬1). ومن الشبهات التي يرددها بعض الناس قول بعضهم: أنا مضطر لأخذ ¬

(¬1) سبق تخريجه.

القرض من هذا البنك الربوي، فعندي ضائقة مالية، أو أريد أن أتزوج، أو أريد أن أبني مسكنًا ولم أجد من يقرضني من الناس، والضرورات تبيح المحظورات، والجواب عن ذلك أن يقال: إن الضرورة إنما تكون عند خوف الشخص على حياته، فتباح له بقدر الحاجة، كأن يكون في خارج البلد، واشتد به الجوع والعطش حتى كاد أن يموت، ولم يجد إلا خمرًا أو ميتة، فتباح له بقدر ما يسد رمقه. قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. وقال بعض أهل العلم: إنه يتناول ثلاث لقم ولا يزيد عليها، وأيضًا يقال لهذا وأمثاله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3]. ومن الشبهات كذلك قول بعضهم: إن هذه البنوك مؤسسات تجارية، فهي تدفع رواتب للموظفين، وتدفع إيجارًا للمبنى، وتحتاج إلى أجهزة تشتريها بمبالغ مالية، وغير ذلك، فالقروض التي تعطيها للناس بفوائد إنما هي للمصاريف الإدارية، وهذا كلام فيه تضليل؛ لأن صورة الربا التي وردت النصوص الشرعية بتحريمها موجودة، ومنطبقة على هذه البنوك، وسواء سميت مصاريف إدارية، أو فوائد، أو غير ذلك، فالأسماء لا تغير الحقائق، وقد صدرت فتاوى من علماء هذه البلاد بتحريم التعامل مع هذه البنوك، عملاً أو شراءً أو اقتراضًا أو غير ذلك، جاء في الفتوى رقم (3197): ما حكم الزيادة التي تأخذها البنوك؟

الجواب: الفائدة التي تأخذها البنوك من المقترضين، والفوائد التي تدفعها للمودعين عندها، هذه الفوائد من الربا الذي ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع. اهـ. وجاء في الفتوى رقم (1080): هل ينطبق على كاتب الحسابات في بنك حديث لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه؟ الجواب: البنوك تتعامل بالربا مع من تقرضه، ومع من يودع فيها نقودًا، ومع غيرهم، ولا بد لمن عمل فيها كاتبًا للحسابات أن يتولى حساب المعاملات الربوية، ويقيد في الدفاتر ما على كل من أطراف المعاملات، وما له، ويتحدد بذلك المدين من الدائن، وعلى ذلك ينطبق الحديث المذكور على كاتب الحسابات في البنوك الربوية، وما في حكمها من المصارف. اهـ (¬1). اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (13/ 344).

الكلمة المئة وسبع عشرة: وقفة مع قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها .. }

الكلمة المئة وسبع عشرة: وقفة مع قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا .. } الآية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71، 72]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «هذا خطاب لسائر الخلائق برهم وفاجرهم، ومؤمنهم وكافرهم، أنه ما منهم من أحد إلا سيرد النار حكمًا حتمه الله على نفسه، وأوعد به عباده، فلا بد من نفوذه، ولا محيد عن وقوعه» (¬1). اهـ. روى الإمام الترمذي في سننه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ» (¬2). وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين، والصراط الذي وردت ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي (ص: 580). (¬2) برقم (3159) وقال: هذا حديث حسن.

الإشارة إليه في الأحاديث هو جسر منصوب على متن جهنم، وهو صراط دقيق جدًّا كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: «بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ» (¬1). والصراط ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال السفاريني رحمه الله: والصراط شرعاً جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون فهو قنطرة جهنم بين الجنة والنار وخُلِق من حين خلقت جهنم (¬2). قال الشاعر: أَمَامِي مَوْقف قُدَّامَ رَبّي ... يُسَائِلُنِي وَيَنْكَشِف الغِطَاءُ وَحَسْبِي أَن أَمُر على صِراطٍ ... كَحَد السَّيْفِ أَسْفَلُهُ لَظَاءُ روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث طويل: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ - قال في الحاشية: «الدحض والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام، ولا تستقر» - فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ، وَحَسَكٌ - الخطاف هو الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء، والكلاليب هي حديدة معطوفة الرأس، ويعلق عليها اللحم، والحسك هي شوكة صلبة معروفة - فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (183). (¬2) لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 189).

يُسْحَبُ سَحْبًا ... الحديث» (¬1). قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. قال ابن كثير: أي إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار، والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم، نجّى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا (¬2). اهـ. ومن فوائد الآيتين الكريمتين: أولاً: أن الورود على النار لا بد منه لكل الناس، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَ: «لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» (¬3). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» (¬4). ثانيًا: الصراط حق يجب الإيمان به، والاستعداد له بالعمل الصالح، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «والصراط حق، يوضع على شفير جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك، نسأل الله ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4581)، وصحيح مسلم برقم (183) مختصراً. (¬2) تفسير ابن كثير (9/ 287). (¬3) (44/ 590) برقم (27042) وقال محققوه: صحيح. (¬4) صحيح البخاري برقم (6656)، وصحيح مسلم برقم (2632) واللفظ له.

السلامة في الجواز» (2). ثالثًا: أن التقوى سبب النجاة في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]. رابعًا: أن الظلم عاقبته الهلاك في الدنيا والآخرة، لقوله في هذه الآية: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52]. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬1). وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]. خامسًا: أن سرعة مرور المؤمن على الصراط بقدر أعماله التي كانت في الدنيا؛ فلذلك ينبغي له المسارعة إلى الخيرات والأعمال الصالحة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. ¬

(¬1) البخاري برقم (4686)، ومسلم برقم (2583).

وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} [فاطر: 32]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب» (¬1). ومن أمثلة المبادرة إلى الأعمال الصالحة التبكير في الحضور إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة أو الجمعة، والإكثار من نوافل الصلاة، والصيام، والحج، والعمرة، والصدقة على الفقراء والمساكين، وغير ذلك من أبواب الخير العظيمة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 323).

الكلمة المئة وثماني عشرة: تحريم الدخان

الكلمة المئة وثماني عشرة: تحريم الدخان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن المعاصي التي انتشرت بين صفوف المسلمين، وابتلي بها كثير من الناس شرب الدخان، ولا يخفى على كل عاقل مطلع على مقاصد الشريعة الإسلامية تحريم هذا الدخان، وذلك من عدة وجوه: أولاً: إنه من الخبائث، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. ولا شك أن الدخان من الخبائث، ولا ينكر ذلك إلا مكابر، أو صاحب هوى، وكثير من الذين شربوا الخمور، واستخدموا المخدرات كانت البداية هي الدخان، ثم تطور الأمر بعد ذلك، والمعصية تقول: أختي أختي، وثبت طبيًا أن 80 % من الذين استخدموا المخدرات كانت البداية هي التدخين. ثانيًا: إن في شربه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (¬1). وفي الصحيحين من حديث ثابت بن الضحاك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). ولا شك بأن شارب الدخان إذا مات بسببه فإنه يعد قاتلًا لنفسه بتلك المواد السامة في السجائر وإن كان القتل بطيئًا، إذ لا خلاف بأن من تسبب في قتل نفسه، سواء كان القتل بطيئًا أو سريعًا فإنه يأثم بذلك. ثالثًا: إن في شربه أضرارًا صحية على البدن، وقد تعالت صيحات الأطباء بالتحذير منه، وقالوا: إن الدخان يحتوي على مواد سامة، من أهمها مادة النيكوتين، وهذه المادة لو وضع منها نقطتان في فم كلب لمات في الحال، وخمس نقاط تكفي لقتل جمل، ويقول أحد الأطباء: إن الكمية الموجودة من هذه المادة في سيجارة واحدة كافية لقتل إنسان لو أعطيت له بواسطة الوريد. وقد ذكر بعضهم أن أخوين تراهنا أيهما يدخن أكثر من الآخر، فمات أحدهما قبل السيجارة السابعة عشر، ومات الآخر قبل أن يتم الثامنة عشر. ومن أشد الأمراض التي يحدثها التدخين مرض السرطان، يقول ¬

(¬1) البخاري برقم (5778)، ومسلم برقم (109). (¬2) البخاري برقم (6105)، ومسلم برقم (110).

الأطباء: إن نسبة كبيرة من مرضى السرطان أصيبوا بهذا المرض بسبب الدخان، وأيضًا أمراض القلب والجهاز التنفسي. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ إضْرَارَ» (¬1). رابعًا: إن في شربه إضاعة للمال، قال تعالى: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27]. ولا شك بأن شارب الدخان من أكثر المبذرين، ولو رأينا شخصًا يمسك الدراهم بيده، ويشعل النار فيها لقلنا: إنه مجنون. روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ » (¬2). خامسًا: إن الدخان لا يقتصر ضرره على صاحبه، بل يتعدى ضرره إلى زوجته وأولاده وأقربائه وجلسائه، وقد تقرر عند الأطباء ذلك، وهو واضح من تلوث الهواء بالغازات السامة التي تنبعث منه، وتقدم في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ إضْرَارَ». سادسًا: إن الدخان تنبعث منه رائحة خبيثة تكون في فم المدخن وبدنه وثيابه، تؤذي الجليس والأنيس، وخصوصًا عند دخوله المسجد واختلاطه بالمصلين، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجدت منه رائحة الثوم والبصل ونحوها أن يخرج من المسجد، مع أنهما مما أحله الله، فكيف يكون نهيه إذًا لصاحب الدخان؟ وهو القائل: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ ¬

(¬1) (5/ 55) برقم (2865) وقال محققوه: حسن. (¬2) سبق تخريجه.

وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» (¬1). ومما ينبغي التنبيه عليه مقاطعة المحلات التجارية التي تبيع هذه السموم على الناس، وفي المقابل تشجيع المحلات والدكاكين التي تمتنع عن بيع الدخان، وهذا من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [المائدة: 2]. قد يقول البعض من الناس: لا أستطيع ترك الدخان، فيقال له: أنت تترك الدخان في رمضان أكثر من عشر ساعات، فالمسألة تحتاج إلى عزيمة وإرادة، وقد جرب أناسٌ كثيرون فتعبوا في بداية الأمر، ولكن الله علم منهم صدق النية، فأعانهم وتركوه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. وهناك عيادات متخصصة لمعالجة المدخنين، ويقوم عليها إخوة أفاضل، وقد نفع الله بها، وترك الكثير من المدخنين شرب الدخان بعد مراجعة هذه العيادات وأخذ العلاج اللازم. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة وأبي الدهماء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلهِ عز وجل، إِلاَّ أَبدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (854)، وصحيح مسلم برقم (564). (¬2) سبق تخريجه.

الكلمة المئة وتسع عشرة: فضل يوم الجمعة

الكلمة المئة وتسع عشرة: فضل يوم الجمعة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الله تعالى خص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بخصائص ومميزات عن بقية الأمم، ومن ذلك أنه جل وعلا اختار لهم هذا اليوم العظيم، وهو يوم الجمعة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا، فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلاَئِقِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا» (¬2). وروى ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ¬

(¬1) برقم (856)، ورواه البخاري بمعناه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - برقم (876). (¬2) برقم (854).

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطْلُعُ الشَّمْسُ ولا تَغْرُبُ على يومٍ أفضلَ من يَوْم الجُمعة، وما من دابَّة إلا وهي تَفْزَعُ يومَ الجُمُعةِ إلا هَذيْنِ الثَّقَلَيْنِ الجنَّ والإنْسَ» (¬1). ومن فضائل هذا اليوم: أن الله جعله عيدًا للمسلمين، روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ» (¬2) الحديث. ومنها: أن فيه ساعة الإجابة، وهي الساعة التي لا يسأل الله عبد مسلم فيها شيئًا إلا أعطاه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، يُزَهِّدُهَا» (¬3). واختلف العلماء في وقتها على أقوال، أرجحها قولان: الأول: أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، وحجة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى: أن عبد الله بن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة شيئًا؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاَةُ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم (2759) وصحيح ابن خزيمة برقم (1727)، وقال محققه د/ محمد الأعظمي: إسناده صحيح. (¬2) برقم (1098) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 181) برقم (901). (¬3) صحيح البخاري برقم (5294)، وصحيح مسلم برقم (852). (¬4) برقم (853).

الثاني: أنها بعد العصر، وهو أرجح القولين، لما روى النسائي من حديث جابر - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، لاَ يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلاَّ آتَاهُ إِيَّاهُ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ» (¬1). وهذا القول هو قول أكثر السلف، وعليه أكثر الأحاديث، أما حديث أبي موسى السابق فقد أعل بعلل كثيرة أشار إليها الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري (¬2). ومنها أنه يوم تكفير السيئات، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (¬3). ومن آداب يوم الجمعة التي ينبغي للمؤمن الحرص عليها: أولاً: استحباب قراءة الإمام {الم * تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} في فجر يوم الجمعة، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم * تَنْزِيلُ} السَّجْدَةُ، وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬4). ثانيًا: استحباب كثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وليلتها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي من حديث أوس بن أوس: «مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عليه السلام، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَليَّ». قَالُوا: ¬

(¬1) برقم (1389) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 308) برقم (1316). (¬2) انظر: فتح الباري (2/ 421 - 422). (¬3) برقم (233). (¬4) برقم (879).

يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ ! أَيْ يَقُولُونَ: قَدْ بَلِيتَ. قَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَاكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام» (¬1). وروى البيهقي في سننه من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَكْثِرُوا الصَّلاَةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» (¬2). ثالثًا: الأمر بالاغتسال فيه، وهو أمر مؤكد جدًّا، ويرى بعض العلماء وجوب الغسل، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ» (¬3). رابعًا: استحباب مس الطيب والسواك، ولبس أحسن الثياب، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَاكَ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَاتِيَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى رَكَعَ مَا شَاءَ أَنْ يَرْكَعَ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلاَتِهِ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا» (¬4). خامسًا: استحباب قراءة سورة الكهف، روى الحاكم من حديث ¬

(¬1) برقم (1374) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 297) برقم (1301). (¬2) (3/ 249) برقم (5790) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1407). (¬3) البخاري برقم (880)، ومسلم برقم (846). (¬4) (18/ 292) برقم (11768) وقال محققوه: إسناده حسن.

أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ» (¬1). سادساً: استحباب التبكير إلى صلاة الجمعة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أوس بن أبي أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعةِ، فَغَسَلَ أحَدُكُمْ رأسهُ واغْتَسَلَ ثم غدا أو ابتكرَ، ثم دنَا فاسْتَمَعَ وأنْصَتَ كانَ له بكلِّ خُطْوة خَطاها كَصِيام سنةٍ وقيامِ سَنَةٍ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» (¬3). والتبكير إلى الصلاة يوم الجمعة من السنن العظيمة، التي قصّر فيها كثير منا، ولعل فيما تقدم من الأحاديث الواردة في فضل التبكير ما يقوي العزائم، ويشحذ الهمم للمسارعة إلى هذا الفضل، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وليحذر المسلم من التخلف عن صلاة الجمعة أو التساهل في ذلك، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة ¬

(¬1) (3/ 117) برقم (3444) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6470). (¬2) (26/ 83) برقم (16161) وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) صحيح البخاري برقم (881)، وصحيح مسلم برقم (850).

حدثاه أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: «لَيَنْتهيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعهُم الجُمُعات أَوْ لَيَخْتمَن اللهُ على قُلُوبِهِم ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (865).

الكلمة المئة وعشرون: الأمانة

الكلمة المئة وعشرون: الأمانة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الأخلاق الجميلة التي وصف الله بها أنبياءه وعباده المؤمنين الأمانة. ... فوصف بها موسى عليه السلام في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. ووصف بها يوسف عليه السلام في قوله تعالى: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]. وكذلك غيرهما من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث كان كل واحد منهم يقيم الحجة على قومه بوجوب طاعته؛ لأن الله ائتمنه على رسالته، كما في قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 107، 108]. ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهورًا بينهم بأنه الأمين، فكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم، ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَّل عليًّا رد الودائع إلى أصحابها، وجبريل عليه السلام أمين الوحي، قد وصفه الله بذلك في قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194]. روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَامُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ (¬1). وهي من صفات المؤمنين المفلحين، كما في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. وبهذه الأمانة يحفظ الدين، والأعراض، والأموال، والأرواح، والمعارف، والعلوم، والولاية، والوصاية، والشهادة، والقضاء، والكتابة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72]. قال بعض المفسرين: المعنى أن الله تبارك وتعالى عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت، وإن ضيعت عوقبت، فأبت حملها شفقًا منها ألا تقوم بالواجب عليها، وحملها آدم إنه كان ظلومًا لنفسه، جهولًا بالذي فيه الحظ له. اهـ (¬2). قال ابن جرير تعليقًا على الآية الكريمة: وأولى الأقوال في ذلك ¬

(¬1) البخاري برقم (2681)، ومسلم برقم (1773). (¬2) تفسير الطبري (10/ 339).

بالصواب ما قاله الذين قالوا إنه عني بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين، وأمانات الناس، وذلك أن الله لم يخص بقوله: {عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} بعض معاني الأمانات لما وصفنا (¬1). قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين، ونسب هذا القول لجمهور المفسرين، وقال بعضهم: كل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، كالصلاة، والزكاة، والصيام، وأداء الدين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار (¬2). روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث شداد بن أوس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفقِدُونَ مِن دِينِكُمُ الأَمَانَةَ» (¬3). وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فقدان الأمانة من علامات الساعة، فروى البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة، فقال: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» (¬4). وروى البخاري ومسلم من حديث حذيفة قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، - أي مرتفعًا - وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، ¬

(¬1) تفسير الطبري (8/ 6715). (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 245). (¬3) (7/ 295) برقم (7182)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1793). (¬4) برقم (59).

فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» (¬1). وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن إضاعة الأمانة من علامات النفاق، فروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬2). وقد ذكرت الأمانة في القرآن على ثلاثة أوجه، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال 27]. والمراد الفرائض. وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. والمقصود الودائع، وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. والمراد العفة والصيانة. ومن الأمانة حفظ الأسرار الزوجية، فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلَ يُفْضي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (¬3). ومنها عدل الحاكم بين الرعية، فروى مسلم من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ¬

(¬1) البخاري برقم (6496)، ومسلم برقم (143). (¬2) البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (59). (¬3) برقم (1437).

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (¬1). ومما تقدم يتبين أن الأمانة أوسع مما يتصور بعض الناس أنها مقصورة على الودائع، فإنها تشمل أمانة الرجل على دينه أن يقوم به ويحافظ عليه، فوقت المسلم أمانة، وعرضه أمانة، وماله أمانة عنده، وسمعه وبصره ولسانه أمانة، وجوارحه على وجه العموم أمانة. ومنها أمانة الراعي على رعيته، والرجل على أهل بيته، والمرأة على بيتها وأولادها، والمدير على موظفيه الذين يعملون عنده، والموظف في وظيفته، والمدرس على طلابه، وبالجملة فإن الأمانة تشمل جميع وظائف الدين، كما قال القرطبي رحمه الله. اللهم اجعلنا ممن إذا اؤتمن أدى الأمانة، اللهم إنا نعوذ بك من الخيانة وسائر الصفات الذميمة، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، واجعلنا من الراشدين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (1825).

الكلمة المئة وإحدى وعشرون: صلة الأرحام

الكلمة المئة وإحدى وعشرون: صلة الأرحام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أنفس القرب، وأجل الطاعات، وأعلاها منزلة، وأعظمها بركة، وأعمها نفعًا في الدنيا والآخرة، صلة الأرحام، والأرحام هم أقارب الرجل نفسه، كأمه وأبيه، وابنه، وابنته، وأخته، وأخيه، وكل من كان بينه وبينه صلة من قبل أبيه، أو أمه، أو ابنه، أو ابنته، ولا يدخل في ذلك أقارب الزوج أو الزوجة، فهؤلاء يحسن إليهم، لكن ليسوا أرحامًا، وإنما هم أصهار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. وقد أوصى الله تعالى بصلة الأرحام: وجعل الوصية بصلة الأرحام قرينة الوصية بالتقوى، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. أي اتقوا الله بفعل طاعته، وترك معصيته، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لكن صلوها وبروها كما قال ابن عباس وغير واحد من السلف. قال تعالى: {فَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الروم: 38].

فبين سبحانه أن صلة الرحم حق لازم واجب الأداء، سواء كان حقًّا ماديًّا أو معنويًّا. ولقد كانت الدعوة لصلة الرحم من أوائل ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أول بعثته، ففي الصحيحين في قصة أبي سفيان مع هرقل حين سأله هرقل: فَمَاذَا يَامُرُكُمْ؟ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو سفيان: قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَامُر بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ (¬1). وصلة الأرحام سبب لبسط الرزق وطول العمر في الدنيا، وفي الآخرة الفوز بالجنة والنجاة من النار. ففي الصحيحين من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: أن أعرابيًا عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته، أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله، أو يا محمد، أخبرني بما يقربني من الجنة؟ وما يباعدني من النار؟ قال: فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نظر في أصحابه، ثم قال: «لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ»، قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ» (¬2). وفي رواية: «إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬3)، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» (¬4). ¬

(¬1) البخاري برقم (7)، ومسلم برقم (1773). (¬2) البخاري برقم (1397)، ومسلم برقم (39). (¬3) صحيح مسلم برقم (13). (¬4) البخاري برقم (5986)، ومسلم برقم (2557).

وقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب، التي توعد الله صاحبها بألوان من الوعيد والعقوبات العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهْوَ لَكِ». قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» (¬2). وقاطع الرحم مهدد بعدم دخول الجنة، ففي الصحيحين من حديث جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ» (¬3). والواصل لرحمه هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا ¬

(¬1) البخاري برقم (5987)، ومسلم برقم (2554). (¬2) برقم (2511) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) صحيح البخاري برقم (5984)، وصحيح مسلم برقم (2556) واللفظ لمسلم.

قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ ! فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» (¬2). قال شراح الحديث: أي كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن إليهم، ولكن ينالهم إثم عظيم لتقصيرهم بحقه، وإدخالهم الأذى عليه. قال الشاعر: وظُلْمُ ذَوِي القُرْبى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى المَرْءِ مِن وَقْع الحُسَام المُهَنَّد وتحصل صلة الرحم بالإحسان إليهم بما يتيسر من أنواع الإحسان، قال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، والعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء. قال القرطبي: تجب مواصلتها - يعني الرحم - بالتواد والتناصح والعدل والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، والنفقة على القريب، وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم. والمعنى الجامع للصلة أنها إيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم، بحسب الوسع والطاقة لكل شخص منهم بحسب منزلته وحاله، ومناسبة صلته، وتيسر ذلك. قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. ¬

(¬1) برقم (5991). (¬2) برقم (2558).

قال الإمام النووي: قال أصحابنا: «يستحب أن يقدم الأم في البر، ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الإخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام، كالأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب (¬1)، إلى آخر ما قال. روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي رمثة - رضي الله عنه - قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: «بِرَّ أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» (¬2). والصدقة على ذي الرحم تضاعف لصاحبها، روى الترمذي في سننه من حديث سلمان بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث ميمونة بنت الحارث: أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً، وَلَمْ تَسْتَاذِنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: «أَوَ فَعَلْتِ؟ »، قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِيهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 103). (¬2) (5/ 209) برقم (7327)، وقال محققه الشيخ عبدالسلام علوش: له شواهد. (¬3) برقم (658)، وقال الترمذي: حديث حسن. (¬4) البخاري برقم (2592)، ومسلم برقم (999).

الكلمة المئة واثنتان وعشرون: وقفة مع سورة الماعون

الكلمة المئة واثنتان وعشرون: وقفة مع سورة الماعون الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى تأمل وتدبر، سورة الماعون، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون: 1 - 7]. قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي: أرأيت يا محمد الذي لا يصدق بالجزاء وما فيه من ثواب وعقاب، وقيل: إنه عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث، {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47]، ويقول القائل منهم: {قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ} أي الذي يقهر اليتيم، ويظلمه حقه، ولا يطعمه، ولا يحسن إليه، واليتيم هو الذي مات أبوه، وهو دون سن البلوغ، ذكرًا كان أو أنثى. قوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} أي لا يأمر به من أجل بخله، أو تكذيبه بالجزاء، كما في قوله تعالى: {كَلاَّ بَل لاَ تُكْرِمُونَ

اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} [الفجر: 17 - 18]. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] فويل: أي عذاب لهم، قال بعض المفسرين: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فلا يصلونها إلا بعد خروج الوقت. روى أبو يعلى في مسنده من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: يَا أَبَتَاهُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تبارك وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أَيُّنَا لاَ يَسْهُو؟ أَيُّنَا لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ؟ ! قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، إِنَّمَا إِضَاعَةُ الْوَقْتِ يَلْهُو حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ (¬1). قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. وقال آخرون: يتركونها فلا يصلونها، وقد ورد ذلك عن ابن عباس، وقال: هم المنافقون الذين يتركون الصلاة سرًّا، ويصلونها علانية. قال ابن كثير رحمه الله: أي يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت دائمًا أو غالبًا، وإما يقصرون عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، وكل من اتصف بشيء من ذلك له قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل النفاق العملي، كما في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ ¬

(¬1) (1/ 336) برقم (700)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 441): إسناده حسن.

فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لاَ يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً» (¬1). فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى كما ثبت به النص الى آخر وقتها وهو وقت كراهة، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب، لم يطمئن، ولا خشع أيضًا، ولهذا قال: لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس، لا ابتغاء وجه الله، فهو كما إذا لم يُصل بالكلية، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142]. وقال تعالى ههنا: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}. قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} أي: لا أحسنوا عبادة ربهم بإخلاص العبادة له، ولا أحسنوا إلى خلقه، حتى ولا بإعارة ما يُنتفع به، ويُستعان به مع بقاء عينه ورجوعه إليهم كالإناء، والدلو، والفأس، فهؤلاء؛ لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى (¬2). أهـ. ومن فوائد السورة الكريمة: أولاً: أن فيها الحث على إطعام اليتيم والمسكين، والتحضيض على ذلك، روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وقال بإصبعيه السبابة والوسطى (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ»، وَأَحْسِبُهُ قَالَ: «وَكَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ» (¬4). ¬

(¬1) برقم (622). (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 468 - 471). (¬3) برقم (6005). (¬4) صحيح البخاري برقم (6007)، وصحيح مسلم برقم (2982) واللفظ له.

ثانيًا: الحث على أداء الصلاة في وقتها، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» (¬1). ثالثًا: الحث على فعل المعروف، وبذل الأموال الخفيفة، كعارية الإناء، والدلو، والكتاب، والفأس، ونحو ذلك؛ لأن الله ذم من لم يفعل ذلك. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً، أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ» (¬2). قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ، مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً (¬3). رابعًا: الحث على الإخلاص في العمل، والتحذير من الرياء والسمعة، كما قال تعالى عن عباده المؤمنين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9]. روى البخاري ومسلم من حديث جندب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ» (¬4). المعنى: أن من سمع فضحه الله، وبين للناس أن الرجل ليس ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (2631). (¬3) برقم (2631). (¬4) البخاري برقم (6499)، ومسلم برقم (2987).

مخلصًا، ولكنه يريد أن يسمعه الناس فيمدحونه على عبادته، ومن راءى كذلك يفضحه الله، ويبين أمره إن عاجلاً أو آجلاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وثلاث وعشرون: كلمة توجيهية للمدرسين

الكلمة المئة وثلاث وعشرون: كلمة توجيهية للمدرسين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فهذه بعض الوصايا التي أوصي بها نفسي وإخواني المدرسين، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها. أولاً: إخلاص النية لله تعالى في تعليمهم أبناءهم وإخوانهم الطلاب، وتربيتهم على ما يرضي ربهم جل وعلا، والصبر على ذلك احتسابًا للأجر منه، وابتغاء ثوابه، قال بعض أهل العلم: «الإخلاص هو ألا تطلب على عملك شاهدًا غير الله تعالى، ولا مجاز سواه، وهو حقيقة الدين، ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163]. والإخلاص شرط لقبول العمل، فإن العمل لا يقبل إلا بشرطين: الأول: أن يكون العمل ظاهره موافقًا لما شرعه الله في كتابه، أو بيّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث

عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (¬1). الثاني: أن يكون العمل خالصًا لوجه الله تعالى، روى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (¬2). قال الفضيل بن عياض: أحسن عملاً أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة (¬3). ومن أعظم الدلائل على الإخلاص: أن العبد يعمل العمل الصالح، ثم لا يبالي باطلاع الناس عليه، بل لو نسب إلى غيره لأفرحه ذلك لعلمه أنه محفوظ عند الله تعالى. وقيل لسهل التستري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص؛ لأنه ليس له فيها نصيب - أي من الدنيا -. ثانيًا: تقوى الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن، فإن تقوى الله عز وجل وصيته للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} [النساء: 131]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يوصي أصحابه بتقوى الله، ففي حديث العرباض بن سارية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ ¬

(¬1) البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718). (¬2) البخاري برقم (1)، ومسلم برقم (1907). (¬3) مدارج السالكين (2/ 93).

وَالطَّاعَةِ» (¬1). قال طلق بن حبيب: «التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله». والحذر من المعاصي كبيرها وصغيرها، فقد وعد الله تعالى من اجتنب الكبائر أن يكفر عنه الصغائر، ويدخله مدخلاً كريمًا، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31]. أي كثير الخير والبركة، والحذر من صغائر الذنوب، روى البخاري في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمُوبِقَاتِ» (¬2). قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ. قال الأوزاعي: «لاَ تَنْظُر إِلَى صِغَرِ المَعْصِيَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عَصَيْتَ». ثالثًا: القدوة الحسنة، فمن المعلوم أن الطالب يتأثر بمعلمه، ويحب تقليده والاقتداء به، فيجب على المربين والمعلمين ألا تخالف أقوالهم أفعالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. وقال تعالى عن نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (4607) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 871) برقم (3851). (¬2) برقم (6492).

أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]. قال الشاعر: لا تنهَ عنْ خُلقٍ وتأتي مثلَهُ ... عارٌ عليْكَ إذا فعلتَ عظيمُ رابعًا: حسن الخلق، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. قال تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» (¬1). وحسن الخلق يشمل جوانب كثيرة من حياة المسلم في أقواله وأعماله؛ في عبادته لربه، وتعامله مع عباده، قال عبد الله بن المبارك: «حُسْنُ الخُلُقِ طَلَاقَةُ الوَجْهِ، وَبَذْلُ المَعْرُوْفِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَأَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُوْنُ مِنَ النَّاسِ». فأوصي أخي المدرس أن يكون حسن الخلق مع زملائه، ومع طلابه، ومع أولياء أمورهم، وأن يكون رفيقًا في تعامله معهم. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ» (¬2). ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقًا، فمن أحب أن يهتدي ¬

(¬1) برقم (2002)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) برقم (2593).

إلى معالي الأخلاق، فليقتد بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، روى الترمذي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ » (¬1). خامسًا: أن يحرص المدرس على تربية طلابه تربية صالحة فيعلمهم أمور الإسلام والإيمان، ويغرس محبة الله وتعظيمه في قلوبهم، ويحبب إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويبين لهم وجوب اتباعه، والعمل بسنته، والاقتداء به، ويعلمهم الآداب الحسنة، والأخلاق الكريمة، كآداب المسجد، والمجلس، واحترام المعلم والكبير، والأدب مع الزملاء والأصدقاء، ويعودهم على الكلام الحسن، ويحذرهم من الألفاظ القبيحة، وغير ذلك من جميل الآداب وكريم الخصال. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2015)، وأصله في الصحيحين.

الكلمة المئة وأربع وعشرون: غض البصر

الكلمة المئة وأربع وعشرون: غض البصر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الفتن التي يواجهها المسلم في هذه الحياة فتنة النظر إلى النساء وهذه الفتنة تواجهه في السوق، وفي الطرقات، وفي الأماكن العامة، وفي الجرائد والمجلات، وفي غير ذلك، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» (¬2). ومن الأمور المعينة للتغلب على هذه الفتنة: أولاً: استحضار النصوص الواردة في الأمر بغض البصر، والنهي عن إطلاقه في الحرام، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. ¬

(¬1) البخاري برقم (5096)، ومسلم برقم (2740). (¬2) برقم (2742).

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ» (¬1)، وروى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله قال: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «يَا عَلِيُّ، لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» (¬3). ثانيًا: استحضار العبد اطلاع الله عليه، وإحاطته به لكي يخاف، ويستحي منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} [ق: 16]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وقال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]. وجاء في الأحاديث المختارة عن سعيد بن زيد أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، قال: «أُوصِيكَ أَن تَسْتَحِيَ اللهَ عز وجل، كَمَا تَستَحْيِي رَجُلاً صَالِحًا مِنْ قَوْمِكَ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6243)، وصحيح مسلم برقم (2657). (¬2) برقم (2159). (¬3) برقم (2149) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 403) برقم (1881). (¬4) الأحاديث المختارة (3/ 299) برقم (1099)، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 498) برقم (2541).

ثالثًا: أن يتذكر العبد شهادة العينين عليه يوم القيامة، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20]، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَضَحِكَ، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ » قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي. قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا. قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْكَلاَمِ. قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ» (¬1). رابعًا: أن يتذكر العبد منافع، وثمرات غض البصر، قال ابن القيم رحمه الله: «ومن ثمراته: أ - أن في غضه امتثال لأمر الله، الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]. ب - أنه يمنع وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه، قال الشاعر: كُلُّ الحوادِثِ مَبْدَأُهَا مِنَ النَّظَرِ ... وِمُعْظَمُ النَّارِ من مُسْتَصْغَر الشَّرر وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِي أَعْيُنِ الغَير مَوقُوفٌ على الخَطَر كَمْ نَظْرة فَتَكت في قَلْب صَاحِبِها ... فتكَ السِّهَامِ بِلا قَوس ولا وَتَر يَسُرُّ ناظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ ... لا مَرْحَباً بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَر ¬

(¬1) برقم (2969).

وقال آخر: وَكُنْتَ متى أرسَلتَ طَرفكَ رَائِداً ... لِقَلْبِكَ يوماً أَتعَبَتكَ المناظرُ رأيتَ الذي لاَ كُلَّهُ أنت قَادِرٌ ... عَليهِ وَلاَ عَنْ بَعْضِهِ أنتَ صابِرُ ج - أنه يورث القلب سرورًا، وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك بقهر عدوه بمخالفة نفسه وهواه (¬1)، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة، وأبي الدهماء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلهِ عز وجل، إِلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» (¬2). د - أنه يكسب القلب نورًا، كما أن إطلاقه يكسب القلب ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. ثم قال إثر ذلك: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]. أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره، واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان (¬3). خامسًا: الزواج وهو من أنفع العلاج وأقواه في معالجة هذا الأمر، روى البخاري، ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 158). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 158).

لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله من شر البصر الذي يؤدي إطلاقه إلى كل شر، فروى البخاري في الأدب المفرد من حديث شكل بن حميد - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله، علمني دعاءً أنتفع به. قال: «قُلْ: اللَّهُمَّ عَافِنِي مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَشَرِّ مَنِيِّي» (¬2). قوله: «وَبَصَرِي»: كي لا أنظر إلى محرم، وفي هذا الحديث الالتجاء إلى الله تعالى بالمعافاة من شر السمع والبصر واللسان والقلب، والمني؛ لأن هذه الحواس والأشياء خلقت للطاعة (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) واللفظ له، وأبو داود برقم (1551)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (515). (¬3) الشرح الممتع (4/ 22).

الكلمة المئة وخمس وعشرون: تحريم حلق اللحية

الكلمة المئة وخمس وعشرون: تحريم حلق اللحية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن المعاصي التي انتشرت بين صفوف الناس، وابتلي بها كثير من المسلمين حلق اللحية. روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث جرير - رضي الله عنه - قال: بَايَعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي: «فِيمَا اسْتَطَعْتَ»، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ (¬2). وعملاً بهذا التوجيه النبوي الكريم كانت هذه الكلمة للتذكير بتحريم حلق اللحية. واللحية اسم جامع للشعر النابت على العارضين والخدين والذقن، وقد وردت النصوص الشرعية بالتحذير من حلقها، أو أخذ جزء منها، وذلك من عدة وجوه: ¬

(¬1) برقم (55). (¬2) برقم (56).

أولاً: أنه تغيير لخلق الله، قال تعالى حاكيًا عن إبليس لعنه الله: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119]. فالواجب على المسلم أن لا يتعرض لشيء مما خلقه الله بالتغيير، إلا ما أذن الشرع في أخذه، مثل شعر الرأس، والشارب، والإبطين، والأظافر، وغير ذلك مما أذن فيه الشرع، وإذا كانت المرأة التي تقوم بنتف الحاجبين، وتفليج الأسنان للحسن، قد لعنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ» ما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله (¬1). وعلة ذلك أنها غيرت خلق الله، مع أنه مباح لها الزينة، فالرجل من باب أولى، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. ثانيًا: أن اللحية من سنن الفطرة، روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ ... وذكر منها: قَصَّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءَ اللِّحْيَةِ» (¬2). ثالثًا: أن في حلقها مخالفة للأحاديث الصحيحة الموجبة لإعفائها، وهي كثيرة، ومقتضى الأمر الوجوب ما لم يأت صارف عن هذا الأمر، فدل على أن إعفاءها أمر واجب على كل مسلم، قال ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5943)، وصحيح مسلم برقم (2125). (¬2) برقم (261).

تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. ومن هذه الأحاديث ما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انْهَكُوا الشَّوَارِبَ - يعني: حُفُّوا الشَّوَارِبَ -، وَأَعْفُوا اللِّحَى» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ (¬2)، وقد عد النووي الألفاظ التي وردت في اللحية، فبلغت خمسًا، وهي: أعفوا، وأرخوا، وأوفوا، وأرجوا، ووفروا، وهذه تدل على ترك اللحية وافرة، وعدم التعرض لها بشيء من الحلق أو النتف أو التقصير (¬3). رابعًا: أن في حلقها تشبهًا بالمشركين والمجوس واليهود والنصارى، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (¬5). وذلك أن المجوس يطيلون الشوارب، ويقصون اللحى، وبعضهم يحلقها تمامًا، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم في هذا وذاك، وفي الحديث الذي رواه ابن ¬

(¬1) البخاري برقم (5893)، ومسلم برقم (259). (¬2) برقم (259). (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 151). (¬4) البخاري برقم (5892)، ومسلم برقم (259). (¬5) برقم (260).

جرير، وابن سعد في الطبقات في قصة رسولي كسرى حينما رآهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حلق كل واحد منهما لحيته، ووفرا شاربيهما، فأعرض عنهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «وَيلَكُمَا، مَن أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ »، فقالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَكِن رَبِّي أَمَرَنِي أَن أُعفِيَ لِحيَتِي، وَأَن أَقُصَّ شَارِبِي» (¬1). فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على هذين الرجلين، مع العلم بأنهما كافران من المجوس، فالمسلم من باب أولى. إضافة إلى أن اللحية زينة وجمال للرجل. خامسًا: إن في حلقها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله، والخلفاء الراشدين والصحابة من بعدهم، قال تعالى حاكيًا عن هارون وهو يخاطب موسى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَاخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَاسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]. قال الشنقيطي رحمه الله: إذا ضمت هذه الآية إلى آية الأنعام التي ذكر فيها عز وجل الأنبياء، ثم قال لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. دلت على لزوم إعفاء اللحية وهذا دليل من كتاب الله. وإعفاء اللحية من السمت الذي أُمرنا به في القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجوههم ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير (2/ 266) وابن سعد في الطبقات (1/ 2 / 147)، وهو حسن. انظر: تخريج فقه السيرة (ص: 359) للألباني، والعزو منه.

بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء، حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى، وهو اللحية، وقد كَانَ - صلى الله عليه وسلم - كَثَّ اللِّحيَةِ، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق، نرجوا الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه (¬1). اهـ. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ (¬2)، وفي صحيح البخاري من حديث أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: «قُلْنَا لِخَبَّابٍ: أكان رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ» (¬3)، وهذا دليل على أنه كان يعفيها ولا يأخذ منها شيئًا، وهكذا الصحابة جميعًا ولم يعرف حلق اللحية إلا في الأزمنة المتأخرة. وبعض الناس يثير شبهة إذا نصحته بعدم حلق اللحية، فيقول: الإيمان بالقلب، وليست القضية تربية اللحية، فكم من إنسان حليق اللحية خدم الإسلام والمسلمين، وكم من إنسان أعفى لحيته وعليه من التقصير ما الله به عليم؟ فالجواب عن ذلك أن على المؤمن الالتزام بأوامر الله ورسوله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬4). ¬

(¬1) أضواء البيان (3/ 64). (¬2) قطعة من حديث برقم (2344). (¬3) برقم (746). (¬4) صحيح البخاري برقم (7288)، وصحيح مسلم برقم (1337)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وهذه شبهة باطلة، لو أخذنا بها لتركنا كثيرًا من الأوامر والنواهي التي جاء بها الشرع. ثم إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، فلا يكفي التصديق بالقلب، بل لا بد من العمل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ ... عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وست وعشرون: كلمة توجيهية للمرأة

الكلمة المئة وست وعشرون: كلمة توجيهية للمرأة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: قال تعالى: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. روى الترمذي في سننه من حديث أُمِّ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها: أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ} (¬1). وهذه بعض الوصايا التي أوصي بها أخواتي المسلمات، وأسأل الله أن ينفع بها، قال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. ¬

(¬1) برقم (3211)، وقال: حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 92) برقم (2565).

الوصية الأولى: التمسك بالتوحيد، والحذر من الشرك، قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان: 22]. وقد ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران عظيمان، وهما: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. فأمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى (لا إله إلا الله) الذي دعا إليه العرب وغيرهم، والكلمة السواء هي (لا إله إلا الله)، أي لا معبود بحق إلا الله، فلا دعاء ولا استغاثة، ولا ذبح، ولا نذر، ولا غير ذلك من العبادات إلا لله سبحانه، وهذه هي دعوة الرسل عليهم السلام. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله، فلا يتم مقام التوحيد إلا بهذا، وهو دين الرسل، أنذروا قومهم عن الشرك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والشرك محبط لجميع الأعمال، كبيرها وصغيرها، ولا يقبل الله من صاحبه صرفًا ولا عدلاً، ولا فرضًا ولا نفلاً، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا

عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] (¬1). وإن مما تقشعر منه القلوب والأبدان، وهو منذر بخطر عظيم يداهم الأمة في أفضل ما تملكه وتعتز به، ألا وهو ما يبثه الكفرة أعداء الإسلام عبر القنوات الفضائية، وغيرها من الوسائل من الدعايات الهدامة التي تسعى إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وتدعوهم بمكر ودهاء إلى الانسلاخ منه، فالحذر الحذر، وهذا هو الخطر الأول. أما الخطر الثاني: فمما يلاحظ انتشار الكهانة والسحر، وكثرة المرتادين لهم بعذر التداوي ونحوه، ولا يجوز للمسلمة الذهاب إلى هؤلاء الكهنة الذين يدّعون معرفة المغيبات، لتعرف منهم مرضها، كما لا يجوز لها أن تصدقهم فيما يخبرونها به، فإنهم يتكلمون رجمًا بالغيب، أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء حكمهم الكفر والضلال إذا ادعوا علم الغيب، روى مسلم في صحيحه من حديث صفية: عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (¬2). وهناك الأخطار الكثيرة التي لا يمكن الخلاص منها إلا بما سبق ذكره من تحقيق التوحيد، والتمسك به، ومعرفة الشرك والكفر والحذر منهما، والبراءة من أهلهما. الوصية الثانية: المحافظة على هذه الصلاة بأركانها وشروطها وواجباتها، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. ¬

(¬1) انظر: مجموعة التوحيد (ص: 45 - 48). (¬2) برقم (2230).

وهي أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، روى الطبراني في المعجم الأوسط من حديث عبد الله بن قرط: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِن صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬1). وكان من آخر ما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعالج سكرات الموت أن قال: «الصَّلاَةَ، الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيمَانُكُمْ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» (¬3). واعلمي أختي المسلمة أنه لا يكتمل إسلام المرأة إلا بالقيام بأركان الإسلام الخمسة، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» (¬4). الوصية الثالثة: التفقه في الدين، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية - رضي الله عنه -: أن ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) برقم (1420)، قال أبو عمر النمري: لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث وهو صحيح ثابت، سنن أبي داود (ص: 172). (¬4) سبق تخريجه.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (¬1). لذلك ينبغي للمرأة المسلمة أن تحرص على تعلم أمور دينها، كحضور الدروس والمحاضرات، والاستماع إلى الأشرطة المفيدة، وقراءة الكتب النافعة، ومن أهمها حفظ كتاب الله، فهو رأس العلوم كلها، ومنبع الحكم، ورياض الصالحين، والعصمة من الضلال لمن تدبره وعمل به، تقول عائشة رضي الله عنها: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» (¬2). الوصية الرابعة: تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن، فإن تقوى الله وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} [النساء: 131]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يوصي أصحابه بتقوى الله، وفي حديث العرباض بن سارية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» (¬3). والحذر من المعاصي، كبيرها وصغيرها، فقد وعد الله تعالى من اجتنب الكبائر أن يكفر عنه الصغائر، وأن يدخله مدخلاً كريمًا، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31]. الوصية الخامسة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ¬

(¬1) البخاري برقم (3116)، ومسلم برقم (1037). (¬2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم. (¬3) سبق تخريجه.

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. وهذا خطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، صيانة لهن وسائر نساء المؤمنين مخاطبات بذلك. قال تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. فعلى المرأة المسلمة أن تحرص على هذه الشعيرة العظيمة، خاصة في بيتها مع أولادها وأقاربها، وإذا رأت من أخواتها المسلمات تقصيرًا في طاعة الله في صلاتهن أو صيامهن، أو حقوق أزواجهن، أو غير ذلك، فعليها أن تنصحهن بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، مقتدية في ذلك بنساء الصحابة رضي الله عنهن. الوصية السادسة: الاتصاف بصفة الحياء، قال تعالى عن موسى عليه السلام عندما سقى المرأتين: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]. والملاحظ أن خلق الحياء أصبح ضعيفًا عند كثير من النساء، ومن صور ذلك خروج المرأة مع السائق بمفردها، أو لبس النقاب الذي يوضع على منتصف الأنف، فيستر ما تحت ذلك، ويظهر العينين والجبهة، أو لبس البنطال أمام النساء، أو وضع العباءة على الكتف، أو لبس الملابس الضيقة أو المفتوحة، أو العارية. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صِنْفَانِ مِن أَهْلِ النَّارِ لَم أَرَهُمَا ... وذكر أحدهما: نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيْلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُؤُوْسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلنَ الجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوْجَدُ

مِن مَسِيْرَةِ كَذَا وَكَذَا» (¬1). فعلى المرأة المسلمة أن تنتبه لما يريده أعداء الله، فهم يريدون انحلالها، وأن تصبح سلعة رخيصة بأيديهم، ويريدون سلخها من إيمانها ودينها، وخروجها عن فطرتها التي فطرها الله عليها، فعليها أن تكون على حذر من ذلك. الوصية السابعة: الإكثار من الصدقة، قال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظ النساء، وقال: «أَكْثِرْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه - صلى الله عليه وسلم -، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالصدقة، ويحث عليها، ويدعو إليها بماله وقوله، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - أشرح الخلق صدرًا، وأطيبهم عيشًا، وأنعمهم قلبًا، فإن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في انشراح الصدر. اهـ (¬3). ومن أفضل أنواع الصدقة التي تستمر للعبد بعد وفاته الصدقة ¬

(¬1) برقم (2128). (¬2) برقم (885). (¬3) زاد المعاد (2/ 21 - 22) بتصرف.

الجارية، كحفر الآبار، وبناء المساجد، وطباعة الكتب، والأوقاف الخيرية على الفقراء والمساكين، ونحو ذلك. الوصية الثامنة: الابتعاد عن رفيقات السوء، فقد أخبر تعالى أن الإنسان يندم يوم القيامة على مصاحبته للجليس السوء الذي أضله وأبعده عن طريق الحق، قال تعالى: ... {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 27 - 30]. وقال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. روى البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» (¬1). وكم من فتاة فشلت في دراستها بسبب رفيقات السوء، وكم من فتاة انتهك عرضها، وخسرت كرامتها بسبب رفيقات السوء، وكم من فتاة وقعت في المخدرات والمسكرات، وما ترتب على ذلك من مآسي كثيرة بسبب ذلك. لذلك أوصي أخواتي المسلمات بالحرص على الرفقة الصالحة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (5534)، ومسلم برقم (2628).

الكلمة المئة وسبع وعشرون: خطر التلفاز

الكلمة المئة وسبع وعشرون: خطر التلفاز الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فحديثنا هذا اليوم عن فتنة دخلت كل بيت إلا من رحم الله؛ إنه التلفاز، ولعل الكلام فيه يكون في العناصر التالية: أولاً: المخالفات الشرعية فيه. ثانيًا: أقوال العلماء فيه. ثالثًا: شبهات والجواب عنها. رابعًا: الحل. فمن تلك المخالفات الشرعية: ما يتعلق بأمور العقيدة، وهو أخطر ما يكون، فهو يعرض صور الكفار وحضارتهم بطريقة تدعو إلى الإعجاب بهم، والميل إليهم، وبالتالي يضعف جانب البراءة من المشركين والكفار المأمور به في الآيات الكريمات، والأحاديث النبوية الشريفة، قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا

عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الإِيْمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ وَتُبْغِضَ فِي اللهِ» (¬1). ومنها: إظهار بعض الشعائر الإسلامية بصور كريهة، كوضع اللحية على رجل ناقص العقل، وتشويه صورة الحجاب، ولمز الصالحين وأهل الخير، ونحو ذلك مما فيه استهزاء بشعائر الإسلام، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]. ومنها: ما يسمى بأفلام الكرتون، وتعرض هذه الأفلام بطريقة خبيثة يتلقى فيها الأطفال ما يخالف العقيدة الإسلامية، والآداب الفاضلة، من الكفر والضلال والعشق، فقد ذكرت الأخت طيبة اليحيى في كتابها «بصمات على ولدي»، بعد مشاهدتها لعدد من برامج الأطفال ما خلاصته: «أن هذه البرامج تحتوي على مخالفات شرعية كثيرة، مثل صور الصليب، والتبرج، والاختلاط، وسماع الموسيقى، وشرب الدخان»، وفيها يقول أحدهم وهو يخاطب زميله: كما كنت حين صنعتك، وكأنه الخالق الذي يخلق البشر، وقول آخر: «إن نظامهم يسيطر على كل المجرات في الكون ما خلا المجموعة الشمسية»، وهذا كفر، فنظام من ذلك الذي يسيطر على كل المجرات تلك السيطرة إلا ناموس الخالق جل وعلا. وينبغي على الآباء أن يعلموا الأبناء أن أكثر برامج التلفاز، ¬

(¬1) سبق تخريجه.

وخاصة المسلسلات والأفلام، وحتى الكارتونية منها مصدرها الدول الأجنبية (الكافرة) المعادية للإسلام والمسلمين، والتي لا شيء أحب إلى قلبها من إفساد المسلمين، وصرفهم عن دينهم وخلقهم وتراثهم الخير، حتى يبقوا دائمًا وأبدًا تحت سيطرتهم، مع إعلامهم أن اليهودية العالمية هي التي تسيطر على جميع وسائل الإعلام، والوكالات في الغرب، لذلك لا تقدم لنا إلا الشر بأثواب براقة خداعة (¬1). وغير ذلك من المخالفات الكثيرة، مما يقدح في عقيدة الطفل وسلوكه وأخلاقه. ومن المخالفات الشرعية الأخرى تصوير الاختلاط بين الرجال والنساء، على أنه أمر عادي لا حرمة فيه عن طريق المسلسلات، وقصص الحب والغرام، وهذا يؤدي إلى نشر الفاحشة والرذيلة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. والمؤمن مأمور بغض البصر عن النساء الأجنبيات، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]. روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله قال: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» (¬2). فكيف بمن يتعمد النظر إلى النساء العاريات وهن بكامل زينتهن على شاشة التلفاز، وكذلك رؤية النساء للرجال الأجانب وهم بكامل ¬

(¬1) انظر: (ص: 57، 67، 81) من كتاب الأخت طيبة اليحيى. (¬2) سبق تخريجه.

زينتهم، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]. ومنها: الغناء المصحوب بالمعازف، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]. وأكثر المفسرين كابن عباس وابن مسعود على أنه الغناء. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ» (¬1). أقوال العلماء فيه: سئل المشايخ عبد الله بن حميد، وعبد العزيز ابن باز، وابن عثيمين رحمهم الله عن التلفاز، هل هو حرام أو حلال؟ فأجابوا بأن التلفاز آلة لا نستطيع أن نحرمها، تستخدم للخير أو الشر، فإن استخدم التلفاز في محرم، مثل الغناء الماجن، وإظهار صور فاتنة، وتمثيليات هابطة، فيها كذب وخيانات زوجية، واختلاط بين الرجال والنساء، ومسلسلات بوليسية إجرامية، فإنه حرام، وإن استعمل في الخير كقراءة القرآن، وإبانة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك جائز، وإن تساوى الأمران، أو غلب جانب الشر كما هو الحال الآن، فهو حرام (¬2). وسئلت اللجنة الدائمة عن التلفاز، فقالوا: إنه آلة تستخدم للخير والشر، بحسب الحال التي تستخدم فيه، ولكن الأحوط ترك إدخاله، لأنه ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) انظر: رسالة الجواب المفيد في حكم التصوير، للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وبها ملحق عن حكم التلفاز.

قد يكون وسيلة إلى سماع ما يحرم، وذريعة إلى رؤية ما تنشأ منه فتنة من الصور العارية، وحركاتها الفاتنة (¬1). شبهات والجواب عنها: قد يقول قائل: ما هو البديل للتلفاز؟ وهذا هو الخطأ الفادح، وهو مطالبة المسلم دائمًا بالبدائل في كل شيء منع منه، وحرم عليه، مع أن الواجب على المسلم أن يقول: سمعنا وأطعنا، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور: 51]. والبدائل كثيرة، منها: حلقات تحفيظ القرآن الكريم، أو المحاضرات القيمة التي تقام في المساجد أو المؤسسات الخيرية، أو شراء الكتب النافعة، أو الأشرطة المفيدة، أو المسابقات الثقافية، وغير ذلك من البدائل التي لا تخفى على الجميع. ومن الشبهات كذلك: قول بعضهم: إنه يشاهد في هذا التلفاز الصلاة في الحرم المكي، والبرامج الدينية، والأخبار، فيقال: إن هذا موجود في إذاعة القرآن الكريم، وأفضل منه، وقد نصح الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بالاستماع إليها. ومنها قول بعضهم: أعلم أن التلفزيون بوضعه الحالي لا يجوز بقاؤه في بيتي، ولكن إذا لم أحضره للأولاد ذهبوا يشاهدونه عند الجيران، أو في أماكن أخرى، فيقال: أولاً: إن المنكر لا يزال بمنكر مثله، بل ينبغي أن تبين لهم أن ¬

(¬1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (26/ 271 - 272) برقم (2133).

المشاهدة لتلك البرامج حرام هنا وعند الجيران. ثانيًا: المنكر المترتب على اقتناء التلفزيون في البيت أعظم من المنكر المترتب على ذهابهم للمشاهدة عند الجيران؛ لأن ذهابهم عند الجيران سيقتصر على أوقات محدودة، أما وجوده في البيت فسوف يسهل لهم رؤية المنكرات في كل وقت. أخيرًا: تذكر يا عبد الله أن الموت قد يأتيك بغتة، وهذا الجهاز في بيتك، واسمع إلى هذا الحديث الذي تفزع لهوله القلوب، وتشيب منه الرؤوس، وترتعد منه الفرائص: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

الكلمة المئة وثمان وعشرون: ذم الترف

الكلمة المئة وثمان وعشرون: ذم الترف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. المترف: هو المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، والمعنى أن الله تعالى أمر هؤلاء المترفين بطاعته فلم يمتثلوا أمره، بل فسقوا وأفسدوا، فحق عليهم العذاب والدمار، وقد أخبر عز وجل عن حال هؤلاء المترفين، وأنهم أتتهم آيات الله ونذره فأعرضوا عنها واستكبروا عليها، فأخذهم العذاب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 64 - 67]. وقد أخبر عز وجل أن الترف من صفات الكفار، قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 41 - 45] أي منعمين مقبلين على الشهوات والملذات، وقد بين سبحانه أن عاقبة الترف وخيمة في الدنيا والآخرة، فقال عن نبيه صالح، وهو يخاطب قومه ثمود، وكانوا عربًا

يسكنون مدينة الحجر التي بين واد القرى وبلاد الشام، ومساكنهم معروفة، وتسمى الآن مدائن صالح: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} إلى أن قال {فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 146 - 159]، قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى واعظًا لهم، ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة، وجعلهم في أمن من المحذورات، وأنبت لهم من الجنات، وفجر لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزرع والثمرات، ولهذا قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال: إذا رطب واسترخى، وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين، قال ابن عباس وغير واحد: حاذقين، وفي رواية عنه: شرهين أشرين، وهو اختيار مجاهد وجماعة، ولا منافاة بينهم، فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم. اهـ (¬1). الشاهد أنهم كانوا يعيشون حياة الترف، فكذبوا رسولهم، فكان عاقبتهم الهلاك في الدنيا والآخرة. ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المترفين في الدنيا ينسون ما كانوا فيه من النعيم في الآخرة، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 362 - 363).

رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» (¬1). ولقد كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من أبعد الناس عن الترف، روى البخاري ومسلم من حديث عمر - رضي الله عنه -: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال: يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس، وقال: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! » ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» وفي رواية: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟ ! » (¬2). ومن مظاهر هذا الترف في وقتنا الحاضر: الإغراق في الكماليات بشكل عجيب، فعلى سبيل المثال بعض الأسر تغير أثاث المنزل بشكل سنوي حتى لو كان بحالة جيدة، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة. ومنها قيام بعض الأسر بشراء المأكولات والمشروبات بشكل يومي من المطاعم الغالية الثمن من غير حاجة إلى ذلك. ومنها أن بعض النساء تقوم بتغيير ملابسها بشكل مستمر في كل مناسبة أو عرس، حتى لو كان هذا الثوب لم يستعمل إلا مرة واحدة، وتدفع في ذلك المبالغ الطائلة. ومنها سفر بعض الناس للسياحة سنويًا، ويدفعون في ذلك المبالغ الطائلة حتى لو كانت هذه المبالغ بالدين، وغير ذلك من مظاهر الترف. ومن المفاسد التي تنتج عن الترف: ¬

(¬1) برقم (2807). (¬2) البخاري برقم (4913)، ومسلم برقم (1479).

أولاً: الأمراض الكثيرة في وقتنا الحاضر، كمرض السمنة، وأمراض القلب، والجلطات، وغيرها. ثانيًا: أنه يؤدي إلى الكسل، والراحة، والتعلق بالدنيا، مما يسهل على الأعداء التسلط على الأمة، وإفساد عقيدتها، ونهب خيراتها، وثرواتها، وأمة الإسلام ينبغي أن تكون أمة مجاهدة قوية تعد نفسها للدعوة إلى الله ونشر هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها، وإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد، ولا يكون هذا إلا بالعمل الجاد، وليس بالترفه والراحة، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. ثالثًا: أنه يؤدي إلى ضياع ثروات الأمة، ومقدراتها، فيما لا فائدة فيه، والأمة بأمس الحاجة إلى استغلال هذه الثروات، في بناء قوتها الاقتصادية، والعسكرية لتأخذ مكانتها بين الأمم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. رابعًا: أن الترف يؤدي إلى ضعف الأمة، وحاجتها إلى مساعدة الآخرين، وعدم اعتمادها على شبابها ومقدراتها، وهذا يؤدي بدوره إلى تسلط الأعداء عليها، ونهب خيراتها، وإفساد دينها، وغير ذلك من المفاسد. وهذا كله فيما إذا كان الترف مقتصرًا على التوسع والانبساط في المباح، فأما إذا تجاوز ذلك إلى الشهوات المحرمة فإن الأمر يكون قد وصل إلى مرحلة الخطر، ومنذر بالهلاك والدمار، كما مر في الآيات السابقة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وتسع وعشرون: أخطاء في الطهارة

الكلمة المئة وتسع وعشرون: أخطاء في الطهارة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الطهارة شرط من شروط الصلاة، التي لا تقبل إلا بها، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (¬2). وهناك أخطاء يقع فيها بعض المصلين تتعلق بالطهارة، أحببت التذكير بها أداء لحق الله تعالى، وقيامًا بواجب النصيحة. أولاً: أن بعض الناس، أو كثير منهم يعبدون الله على جهل، فيقعون في أخطاء فاحشة، في الطهارة، والصلاة، والصيام، والحج، وغيرها من العبادات، بل قد يتعدى ذلك إلى الخطأ في أمور في التوحيد والأيمان، وللأسف قد يكون بعض هؤلاء ممن يزعمون أنهم من المثقفين، غير أن ثقافتهم ثقافة ضحلة لا تتعدى الجرائد والمجلات والقنوات الفضائية، والواجب على المسلم أن يعرف دينه من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) برقم (224). (¬2) البخاري برقم (135)، ومسلم برقم (225).

ويسأل أهل العلم عما أشكل عليه من ذلك، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 43 - 44]. روى ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (¬1). وروى البخاري من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬2)، وكان يقول في حجته فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر: «لِتَاخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» (¬3)، وقد يبلغ الأمر ببعض الناس إلى الإعراض عن تعلم الدين، وفي هذا خطر عظيم، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ ... حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126]. ثانيًا: من الأخطاء ما يتعلق بالوضوء، فمن ذلك ترك إسباغ الوضوء، ومعنى الإسباغ إعطاء كل موضع من مواضع الوضوء حقه، وعلى المصلي أن ينتبه عند الوضوء إذا كان في يده ساعة أو خاتم أو غير ذلك، فلا بد أن يصل الماء إلى العضو، روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» (¬4). والعقب هو مؤخر القدم، روى مسلم في صحيحه من حديث ¬

(¬1) برقم (224) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 727) برقم (3914). (¬2) برقم (631). (¬3) برقم (1297). (¬4) برقم (241).

جابر - رضي الله عنه -، قال: أَخْبَرَنِي عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى (¬1). ومنها: عدم إكمال غسل اليدين إلى المرفقين، والواجب عليه غسل يديه كلها من أطراف الأصابع إلى المرافق؛ لأن الكفين داخلان في مسمى اليد، وقد نبه على ذلك بعض أهل العلم من المعاصرين. قال الشيخ ابن عثيمين وهو يتحدث عن صفة الوضوء: وغسل اليدين إلى المرافق من أطراف الأصابع إلى المرافق مرة واحدة، ويجب أن يلاحظ المتوضئ كفيه عند غسل ذراعيه، فيغسلهما مع الذراعين، فإن بعض الناس يغفل عن ذلك، ولا يغسل إلا ذراعيه، وهو خطأ (¬2). ومنها: أن بعضهم عند غسل الوجه لا يغسل صفحة وجهه كاملة، بل تبقى أجزاء من الوجه، جهة الأذنين لم يمسها الماء، والصحيح أن حدود الوجه من منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحيين والذقن طولاً، وعرضًا إلى أصول الأذنين. ومنها: أن بعضهم يكتفي بمسح مقدم رأسه، أو يمسح إلى منتصف الرأس، والصحيح أن عليه أن يمسح جميع الرأس، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال: ثُمَّ مَسَحَ رَاسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَاسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ (¬3). ¬

(¬1) برقم (243). (¬2) انظر: الضياء اللامع من الخطب الجوامع (2/ 52). (¬3) البخاري برقم (185)، ومسلم برقم (235).

ومنها: عدم تخليل أصابع اليدين والرجلين، فقد روى أبو داود في سننه من حديث المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تَوَضَّأَ يَدْلُكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ (¬1). وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَوَضَّاتَ فَخَلِّلْ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ» (¬2). ومنها: الإسراف في الماء، قال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ (¬3). وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن أن يزيد على وضوئه ثلاث مرات، روى النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (148) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 30) برقم (134). (¬2) برقم (39) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 14) برقم (36). (¬3) البخاري برقم (201)، ومسلم برقم (325). (¬4) برقم (140) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 31) برقم (136).

الكلمة المئة وثلاثون: أخطاء في الصلاة

الكلمة المئة وثلاثون: أخطاء في الصلاة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الصلاة هي عماد الدين، والركن الثاني من أركانه، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة؛ لذلك وجب على المسلم أن يحرص على أدائها، كما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين صفتها لأمته. روى البخاري في صحيحه من حديث مالك بن الحويرث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). وروى الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن قرط: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِن صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬2). وهناك أخطاء يقع فيها بعض المصلين أحببت التذكير بها أداء لحق الله تعالى، وقيامًا بواجب النصيحة، فمن ذلك: أولاً: عدم إقامة الصلب في الركوع أو السجود، روى النسائي في سننه وأحمد في مسنده من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -: أن ¬

(¬1) برقم (631). (¬2) سبق تخريجه.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لأَحَدٍ لاَ يُقِيمُ فِيهَا ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» (¬1). وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لص الصلاة وسارقها شرًّا من لص الأموال، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَسْوَأُ النَّاسِ الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ؟ قَالَ: «لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا»، أَوْ قَالَ: «لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» (¬2). أما الركوع فإن بعض الناس يخفض ظهره أكثر من اللازم، أو يرفعه، وهذا خطأ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهرَهُ وَسَوَّاهُ (¬3)، حَتَّى لَو صُبَّ المَاءُ عَلَيهِ لاَستَقَرَّ (¬4). وروى النسائي من حديث أبي حميد قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَكَعَ اعْتَدَلَ، فَلَمْ يَنْصِبْ رَاسَهُ، وَلَمْ يُقْنِعْهُ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (¬5). وأما السجود فإن بعض المصلين إذا سجد لا يمكن جبهته من الأرض، وبعضهم يرفع قدميه عن الأرض، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث العباس بن عبد المطلب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِرتُ أَن أَسجُدَ عَلَى سَبعَةِ أَعظُمٍ، الجَبهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنفِهِ، ¬

(¬1) سنن النسائي برقم (1027) ومسند الإمام أحمد (28/ 329) برقم (17103) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) (37/ 319) برقم (22642) وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) صحيح البخاري برقم (828). (¬4) سنن ابن ماجه برقم (872) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 144) برقم (712). (¬5) برقم (1039) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 224) برقم (994).

وَاليَدَينِ، وَالرُّكبَتَينِ، وَأَطرَافِ القَدَمَينِ» (¬1). وهذا الحديث يدل على أن أعضاء السجود سبعة، وأنه ينبغي للمصلي أن يسجد عليها كلها. ومنها: عدم الطمأنينة في الصلاة، وهي ركن من أركان الصلاة، لا تصح بدونه، روى البخاري في صحيحه من حديث زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلاً لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - عَلَيهَا (¬2). وفي هذا دليل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وأن الإخلال بها مبطل للصلاة؛ لأنه قال له: ما صليت، وهو نظير قوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد، وقال: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلِّمني! فقال: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَا مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا» (¬3). ومنها: مسابقة الإمام، وقد جاء النهي الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) البخاري برقم (812)، ومسلم برقم (490). (¬2) برقم (791). (¬3) البخاري برقم (757)، ومسلم برقم (397).

عن ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلاَ تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلاَ بِالسُّجُودِ، وَلاَ بِالْقِيَامِ، وَلاَ بِالاِنْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَاسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَاسَهُ رَاسَ حِمَارٍ؟ ! » (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ (¬3). ومنها: أن بعضهم إذا سلم الإمام التسليمة الأولى، وعليه قضاء بعض الركعات لا ينتظر حتى يسلم الإمام التسليمة الثانية، وإنما يقوم مباشرة ليكمل ما تبقى من الركعات، وهذا خطأ. والأولى أن ينتظر حتى يسلم الإمام التسليمة الثانية (¬4). ومنها: الصلاة بثياب مسبلة، والإسبال منهي عنه على وجه العموم، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، من ¬

(¬1) برقم (426). (¬2) البخاري برقم (691)، ومسلم برقم (427) واللفظ له. (¬3) برقم (690). (¬4) خروجاً من خلاف من يرى ركنيتها، وعليه يحكم ببطلان صلاته.

حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فِي النَّارِ» (¬2). وبعض أهل العلم يُشدد في الأمر إذا كان الإسبال في الصلاة؛ لأن من شروط الصلاة ستر العورة، والذي يصلي في الثياب المسبلة قد ستر عورته بثياب محرمة، ولذلك فإن صلاته في خطر. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (106). (¬2) برقم (5787).

الكلمة المئة وإحدى وثلاثون: خطر النفاق

الكلمة المئة وإحدى وثلاثون: خطر النفاق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أعظم الذنوب عند الله تعالى النفاق، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]. والنفاق ينقسم إلى قسمين: اعتقادي وعملي، فأما الاعتقادي فهو على ستة أنواع: تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو تكذيب بعض ما جاء به، أو بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بغض بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو المسرة بانخفاض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو الكراهية لانتصار دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فالمنافق في هذا القسم مؤمن الظاهر، كافر الباطن. أما إيمانه الظاهر فإنه يشهد شهادة الحق، ويصلي ويصوم ويحج ويجاهد ويشارك المسلمين في شعائر الدين الظاهرة، كما هو حال المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كل زمن يكون فيه الحق منصورًا، وأما كفره باطنًا فما يخفيه من التكذيب بالحق، وإضمار العداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].

وهذا الصنف من الناس هم أشد أعداء الله ورسوله، ولهذا كان جزاؤهم أعظم من جزاء الكافرين، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]. وقال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. وقال تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. وقد فضحهم الله تعالى في القرآن الكريم في أكثر من موضع، ووصفهم بأنهم كذابون يصدون عن سبيل الله، وأنهم يستكبرون، كما وصفهم بأنهم لا يفقهون ولا يعلمون، ولا يعقلون. ومن أبرز سماتهم - قاتلهم الله - موالاتهم للكفار، وعقدهم اللقاءات معهم في العلن تارة، وفي السر تارات، قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَاتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25 - 28]. قال الشنقيطي رحمه الله في تعليقه على الآية الكريمة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... }: هم المنافقون، يعتذرون عن موالاة الكفار من اليهود بأنهم يخشون أن تدور عليهم الدوائر، أي دول الدهر الدائرة من قوم إلى

قوم، كما قال الشاعر: إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ ... كَلاَكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا يعنون إما بقحط فلا يميروننا، ولا يتفضلون علينا، وإما بظفر الكفار بالمسلمين، فلا يدوم الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، زعمًا منهم أنهم عند تقلب الدهر بنحو ما ذكر يكون لهم أصدقاء كانوا محافظين على صداقتهم، فينالون منهم ما يؤمل الصديق من صديقه، وأن المسلمين يتعجبون من كذبهم في إقسامهم بالله جهد أيمانهم إنهم لمع المسلمين، وبين في هذه الآية أن تلك الدوائر التي حافظوا من أجلها على صداقة اليهود، أنها لا تدور إلا على اليهود والكفار، ولا تدور على المسلمين، بقوله: {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَاتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]. وعسى من الله نافذة؛ لأنه الكريم العظيم الذي لا يُطمع إلا فيما يعطي، والفتح المذكور قيل هو فتح المسلمين لبلاد المشركين، وقيل الفتح الحكم، كقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]. وعليه فهو حكم الله، بقتل مقاتلة بني قريظة، وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير، وقيل: هو فتح مكة، وهو راجع إلى الأول (¬1). وقال أيضًا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25] قال بعض العلماء: إنها نزلت في المنافقين، وقال بعضهم: إنها نزلت في اليهود، وإن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (1/ 314).

في بعض الأمر، وهو عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتثبيط عن الجهاد، ونحو ذلك. والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله (¬1). القسم الثاني: النفاق العملي، وهو خمسة أنواع: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، وقال مسلم في صحيحه: «إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» مكان «إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬2). وقد ذكر ابن رجب أن من النفاق العملي أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك (¬3). ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم لسعة علمهم، وعميق إيمانهم، يخشون على أنفسهم من النفاق، قال البخاري رحمه الله في صحيحه، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: «مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا». وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ»، وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَمْ ¬

(¬1) انظر: أضواء البيان (5/ 148). (¬2) البخاري برقم (34)، ومسلم برقم (58). (¬3) جامع العلوم والحكم (2/ 481).

يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] (¬1). وروي عن الحسن أنه كان يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو: ما مضى مؤمن قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. اهـ (¬2). وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لحذيفة: أسألك بالله يا حذيفة هل عدّني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين؟ قال: لا ولا أزكي أحدًا بعدك (¬3). فعمر - رضي الله عنه - لم يقل ذلك رياءً، ولكن العبد كلما ازداد علمًا زاد خوفه من ربه، والصحابة لعظم خوفهم من ربهم، وسعة علمهم لم يكونوا يحتقرون الذنوب، بل كانوا يستعظمونها، ويخافون عواقبها، ففي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمُوبِقَاتِ» (¬4). قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ. وفي صحيح البخاري من حديث زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه: قال أناس لابن عمر: «إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ ¬

(¬1) صحيح البخاري، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. (¬2) جامع العلوم والحكم (2/ 492). (¬3) جامع العلوم والحكم (2/ 491)، وانظر: رسالة الشيخ عبدالرحيم المالكي (النصيحة والتحذير من الوقوع في الخطر الكبير) (ص: 12 - 16). (¬4) برقم (6492).

إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا» (¬1). وإن من صور النفاق ما يطالب به بعض الناس الذين هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويدعون أنهم يريدون إصلاح المجتمع، ونفع الأمة، ويرددونه بين الفينة والأخرى من هتك للحجاب، والدعوة للتبرج والسفور واختلاط الشباب بالفتيات في الأعمال، ومقاعد الدراسة، وأن في قوامة الرجل على المرأة كبتًا لحريتها، فيطالبون بالمساواة، زعمًا منهم أن فيها إنصافًا وعدلاً بينها وبين الرجل، وإلى نشر الموسيقى في المدارس والمراحل التعليمية الأخرى، وإلى تقليص المواد الدينية، وتخفيضها، وإلى قيادة المرأة للسيارة. ومن صوره كذلك مطالبتهم للناس بالاعتماد على البنوك الربوية في بيعهم وشرائهم، وقروضهم، وسائر شؤونهم، وأن ما تأخذه البنوك من فوائد إنما هو لمصلحة المجتمع، ويدعم اقتصاده، وينشرون هذا عبر الصحف والمجلات، ووسائل الإعلام، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12]. إلى غير ذلك من المطالب والأساليب الماكرة التي يخططون لها ليلاً ونهارًا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (7178).

الكلمة المئة واثنتان وثلاثون: الظلم وعواقبه الوخيمة

الكلمة المئة واثنتان وثلاثون: الظلم وعواقبه الوخيمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الذنوب العظيمة التي حرمها الله على عباده، ورتب عليها العقوبة في الدنيا والآخرة الظلم، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]. وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا» (¬1). والظلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ظلم العبد نفسه بالكفر والشرك والنفاق، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن ¬

(¬1) برقم (2577).

مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» (¬1). فهذا النوع من الظلم لا يغفر الله لصاحبه إذا مات عليه، بل هو ملعون مطرود من رحمة الله في كتاب الله، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. القسم الثاني: ظلم بين العبد وبين الناس، وله صور كثيرة منها: أكل أموال الناس بالباطل ظلمًا وعدوانًا، مثل أكل مال اليتيم، أو عدم إعطاء العمال رواتبهم، أو بخسها، أو السرقة، أو الغش، أو الربا، وغير ذلك، قال تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ} [البقرة: 188]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). ومنها الاعتداء على أراضي المسلمين، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» (¬3). ومعنى طوقه: أي يجعل طوقًا في عنقه، يحمله، لا من أرض واحدة، بل من السبع الأرضين، نسأل الله العافية. ومنها ظلم الناس بالقتل والسجن والضرب والشتم والتعذيب، ¬

(¬1) البخاري برقم (32)، ومسلم برقم (124). (¬2) صحيح البخاري برقم (2447)، وصحيح مسلم برقم (2578) من حديث ابن عمر. (¬3) البخاري برقم (2453)، ومسلم برقم (1612).

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صِنْفَانِ مِن أَهْلِ النَّارِ لَم أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ، يَضْرِبُوْنَ بِهَا النَّاسَ ... » (¬1). وما يفعله اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة، بإخواننا المسلمين في فلسطين من قتل وتشريد وانتهاك للحرمات لهو من أعظم الظلم وأشنعه، ولا غرابة في ذلك، فهم قتلة الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [آل عمران: 181]. ومنها: اتهام الآخرين ورميهم بما ليس فيهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]. ومنها: مطل الغني، أي منع قضاء ما استحق أداؤه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» (¬2). فمن كان مديونًا لرجل، واستطاع السداد فلا يجوز المماطلة؛ لأن هذا من الظلم. ومنها: ظلم المرأة حقها من صداق ونفقة وكسوة، أو الاستيلاء على مالها، وغير ذلك من الأحوال، فمن وقع في شيء من الظلم فليسارع بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى، ولا يغتر بإمهال الله له، فإنه يمهل ولا يهمل. روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عز وجل يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ¬

(¬1) برقم (2128). (¬2) البخاري برقم (2287)، ومسلم برقم (1564).

ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بكرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ تبارك وتعالى الْعُقُوبَةَ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» (¬2). قال ابن تيمية رحمه الله: «إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويروى أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة» (¬3). ودعوة المظلوم مستجابة كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (¬4). قال الشاعر: لا تَظْلِمَنَّ إِذَا ما كُنْت مُقْتَدِراً ... فَالظُّلمُ مَرتَعُهُ يُفْضِي إلى النَدَم تَنَامُ عَيْنُكَ وَالمَظلُومُ مُنْتَبِهٌ ... يَدعُو عَلَيكَ وَعَينُ اللهِ لم تَنَم ونحن نرى في هذه الأيام تساقط هؤلاء الظلمة الطغاة واحدًا تلو الآخر، قد ذهب عزهم، وزال سلطانهم، وأصبحوا في حالة يُرثى ¬

(¬1) البخاري برقم (4686)، ومسلم برقم (2583). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مجموع الفتاوى (28/ 63). (¬4) قطعة من حديث (13/ 410) برقم (8043)، وقال محققو المسند: حديث صحيح بطرقه وشواهده.

لها، وصدق الله إذ يقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28]، وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. القسم الثالث: ظلم العبد نفسه بالمعاصي والذنوب، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} [فاطر: 32]. وقال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]. وهذا النوع من الظلم - وهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والذنوب التي دون الشرك - فإن صاحبه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له وستره. روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]» (¬1). ويجب على المؤمن أن يحرص على براءة ذمته من حقوق الآخرين، وأن يتحلل منهم قبل يوم القيامة، حيث لا درهم ولا دينار، ¬

(¬1) البخاري برقم (2441)، ومسلم برقم (2768).

وإنما هي الحسنات والسيئات. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2449).

الكلمة المئة وثلاث وثلاثون: تحريم الإسبال

الكلمة المئة وثلاث وثلاثون: تحريم الإسبال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]. فاللباس نعمة عظيمة من نعم الله الكثيرة على عباده لستر العورات، ووقاية من الحر والبرد وسائر الآفات، وقد جاءت الشريعة بأحكامه مفصلة، مبينة، وبينت القدر الواجب ستره، والمستحب من اللباس، والمحرم والمكروه والمباح مقدارًا وكيفية. ومما وردت به تحريم ما نزل عن الكعبين من كل ما يلبس من إزار أو ثوب أو بشت أو سروال أو بنطال إلى غير ذلك، مما يلبسه الرجال، فقد روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإِسْبَالُ فِي الإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1)، وأحاديث النهي عن الإسبال بلغت مبلغ التواتر المعنوي في الصحاح والسنن والمسانيد، وغيرها، برواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، ¬

(¬1) برقم (4094) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 771) برقم (3450).

وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، وجميعها تفيد النهي الصريح، نهي التحريم، لما فيها من الوعيد الشديد، ومعلوم أن كل متوعد عليه بعقاب من النار، أو غضب، أو نحوها، فهو محرم، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يقبل النسخ، ولا يُرفع حكمه، بل هو من الأحكام الشرعية المؤبدة في التحريم. والإسبال فيه عدة محاذير: أولاً: مخالفة السنة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى عَضَلَةِ سَاقَيْهِ (¬1)، ثُمَّ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، ثُمَّ إِلَى كَعْبَيْهِ، فَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّارِ» (¬2) وفي رواية أخرى: «فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَلاَ حَقَّ لِلإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ» (¬3)، والكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي مفصل الساق من القدم. ثانيًا: الوعيد الشديد لمن أسبل إزاره تحت الكعبين، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ» (¬4). ثالثًا: أنه من الخيلاء التي تورث في النفس العجب، والترفع، والكبر، ونسيان نعمة الله على عبده، وكل هذا من موجبات مقت الله للمسبل، ومقت الناس له، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. ¬

(¬1) وعضلة الساقين هي حد أعلى من أنصاف الساقين بقليل. (¬2) (13/ 247) برقم (7857) وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) سنن الترمذي برقم (1783) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) برقم (5787).

رابعًا: التشبه بالنساء، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» (¬1). خامسًا: تعريض الملبوس للنجاسة والقذر، والمؤمن مأمور باجتناب النجاسات، والبعد عنها، قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. ولهذا أمر عمر - رضي الله عنه - الرجل الذي زاره وهو على فراش الموت برفع إزاره، وقال له: هُوَ أَنقَى لِثَوبِكَ، وَأَتقَى لِرَبِّكَ (¬2). سادسًا: تعريض عبادته لعدم القبول، فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ فِي صَلاَتِهِ خُيَلاَءَ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي حِلٍّ وَلاَ حَرَامٍ» (¬3) (¬4). ¬

(¬1) برقم (5885). (¬2) صحيح البخاري برقم (3700) باب قصة البيعة - مقتل عمر بن الخطاب. (¬3) قال محمد شمس الحق العظيم آبادي: أي في أن يجعله في حل من الذنوب، وهو أن يغفر له، ولا في أن يمنعه ويحفظه من سوء الأعمال، أو في أن يحل له الجنة، وفي أن يحرم عليه النار، أو ليس هو في فعل حلال، ولا له احترام عند الله تعالى. عون المعبود (2/ 240). (¬4) برقم (637). قال أبو داود: روى هذا جماعة عن عاصم موقوفًا على ابن مسعود، منهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأبو الأحوص، وأبو معاوية، وصحح الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 126) برقم (595). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال: بينما رجل يصلي مسبلًا إزاره إذ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ، ثم جاء، ثم قال: اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال له رجل: يا رسول الله، ما لك أمرته أن يتوضأ، ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تعالى لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)، قال المنذري في مختصره: في إسناده أبو جعفر، وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه، قال النووي في رياض الصالحين بعد إيراده لهذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، (ص: 259) برقم (797).

سابعًا: إن الإسبال من الكبائر، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ»، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثٍ مِرَارٍ. قَالَ أَبُوْ ذَرٍّ: خَابُوْا وَخَسِرُوَا، مَنْ هُمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: «المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ» (¬1)، قال الشيخ بكر أبو زيد: «فلهذه الوجوه السابقة (¬2)، ورد النهي مطلقًا عن الإسبال في حق الرجال، وهذا بإجماع المسلمين إن كان لخيلاء، فإن كان لغير الخيلاء فهو محرم مذموم»، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر مرفوعًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ» (¬3). وظاهره أن مجرد الإسبال يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس ذلك، إضافة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على المسبل إسباله دون النظر في قصده الخيلاء أم لا، فقد أنكر على ابن عمر، وجابر بن سليم، وعلى عمرو الأنصاري، فرفعوا أُزرهم إلى أنصاف سوقهم، وهذا يدل بوضوح على أن الوصف بالخيلاء، وتقييد النهي به في بعض الأحاديث إنما خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الأغلب، فإنه لا مفهوم له عند عامة الأصوليين كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ويستثنى من هذا ¬

(¬1) برقم (106). (¬2) ما تقدم مأخوذ من رسالة (حد الثوب والأزرة وتحريم الإسبال ولباس الشهرة) للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف). (¬3) (34/ 238) برقم (20635) وقال محققوه: حديث صحيح.

الأصل ثلاث حالات: الحالة الأولى: من لم يقصد الإسبال لعارض من نسيان أو استرخاء مع تعاهد له برفعه، كما جاء في حديث أبي بكر المشهور. الحالة الثانية: من أسبل لمرض في قدميه، وللضرورة أحكامها. الحالة الثالثة: النساء فقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن بإرخاء ذيول ثيابهن لستر القدمين، وهما من عورة النساء (¬1). ومما سبق يتبين أن الإسبال في حق الرجال منهي عنه مطلقًا، وأنه في ذاته خيلاء، وان المسبل مرتكب لمحرم وكبيرة من كبائر الذنوب، معرض نفسه لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن النسائي برقم (5336) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1080) برقم (4929). (¬2) انظر: رسالة الشيخ بكر أبو زيد (حد الثوب والأزرة وتحريم الإسبال ولبس الشهرة) (ص: 22 - 24) بتصرف.

الكلمة المئة وأربع وثلاثون: فوائد من حديث خبيب بن عدي

الكلمة المئة وأربع وثلاثون: فوائد من حديث خبيب بن عدي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ، وَهْوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِئَتَيْ رَجُلٍ، كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَاكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَأَىهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَؤُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَلاَ نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا. فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللهِ لاَ أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ دَثِنَةَ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لاَ أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلاَءِ لأُسْوَةً، يُرِيدُ الْقَتْلَى، وَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى، فَقَتَلُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ دَثِنَةَ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقِيْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ

ابْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عِيَاضٍ أَنَّ بِنْتَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَأَعَارَتْهُ، فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ. وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَاكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ مِنَ اللهِ رَزَقَهُ خُبَيْبًا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: ذَرُونِي أَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلاَ أَنْ تَظُنُّوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَطَوَّلْتُهَا، اللهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَا ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، فَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا، فَاسْتَجَابَ اللهُ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ يَوْمَ أُصِيبَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ، وَمَا أُصِيبُوا، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمٍ حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبُعِثَ عَلَى عَاصِمٍ مِثْلُ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رَسُولِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعُوا مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا (¬1). هذا الحديث اشتمل على فوائد كثيرة، ذكر كثيرًا منها الحافظ ابن ¬

(¬1) برقم (3045).

حجر في كتابه فتح الباري (¬1). أولاً: جاء في الحديث أن عاصم بن ثابت قد قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، قال ابن حجر: لعله عقبة بن أبي معيط، وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن قتادة قال: «كان عاصم بن ثابت أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا أبدًا»، وفي رواية أنه قال: «إني أحمي لك اليوم دينك، فاحم لي لحمي»، فأرسل الله هذه الزنابير أو النحل فحمته من المشركين. قال عمر - رضي الله عنه - لما بلغه خبره: «يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته». ثانيًا: أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالعزيمة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن. ثالثًا: الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله. رابعًا: الدعاء على المشركين بالعموم، والصلاة عند القتل، وفي الحديث أن خبيب بن عدي أَوَّلُ مَن سَنَّ صَلاَةَ الرَّكْعَتَيْنِ عِندَ القَتلِ. خامسًا: فيه إنشاء الشعر وإنشاده عِندَ القَتلِ، ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه. سادسًا: أن الله تعالى يبتلي عبده المسلم بما شاء، كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ¬

(¬1) (7/ 384).

الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]. سابعًا: فيه استجابة دعاء المسلم، وإكرامه حيًا وميتًا، وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه. ثامنًا: فيه ما كان عليه مشركو قريش من تعظيم الحرم والأشهر الحرم. تاسعًا: فيه أن الغدر والخيانة من صفات الكفار، فقد قتلوا عبد الله بن طارق، وباعوا زيدًا وخبيبًا على قريش، من أجل دراهم معدودة. عاشرًا: كرامة الله لأوليائه في الدنيا والآخرة، فإن خبيبًا قد رزقه الله العنب وما بمكة من ثمرة، وهو موثق بالحديد عند عدوه، وصدق الله إذ يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. وغير ذلك من الفوائد والعبر عند التأمل. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وخمس وثلاثون: تحريم التصوير

الكلمة المئة وخمس وثلاثون: تحريم التصوير الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن المنكرات التي انتشرت بين الناس، وابتلي بها كثير من المسلمين التصوير، وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح، آدميًا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور، والأمر بطمس الصور، ولعن المصورين، وبيان أنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، ففي الصحيحين من حديث أبي زرعة قال: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى أَعْلَاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللهُ عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (¬1). وفيهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» (¬3). ¬

(¬1) البخاري برقم (5953)، ومسلم برقم (2111). (¬2) البخاري برقم (5950)، ومسلم برقم (2109). (¬3) البخاري برقم (5951)، ومسلم برقم (2108).

وفي الصحيحين من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَأَىهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ » فَقَالَتْ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»، وَقَالَ: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ» (¬1). وفي صحيح مسلم من حديث علي - رضي الله عنه -: أنه قال لأبي الهياج الأسدي: «أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ أَلاَّ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ، وَلاَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا» (¬2). قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: وهذه الأحاديث وما في معناها دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار، وهي لأنواع التصوير، سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو قرطاس أو غير ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين ما له ظل ولا غيره، ولا بين ما جعل في ستر أو غيره، بل لعن المصور وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وأن كل مصور في النار، وأطلق ذلك، ولم يستثن شيئًا، قال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ ¬

(¬1) البخاري برقم (5961)، ومسلم برقم (2107). (¬2) برقم (969).

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (¬1). وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ولا يجوز للمسلم أن يقتني الصور في بيته، ولا يحتفظ بها، إلا الصور الضرورية التي يحتاجها، كصورة حفيظة النفوس، وجواز السفر، وإثبات الشخصية، فهذه أصبحت ضرورية، وهي لا تتخذ من باب محبة التصوير، وإنما تتخذ للضرورة والحاجة، أما ما عدا ذلك من الصور فلا يجوز الاحتفاظ بها للذكريات، ولا الاطلاع عليها، وما أشبه ذلك، ويجب على الإنسان أن يتلف الصور، وأن يخلي بيته منها مهما أمكنه ذلك، وإذا كان في منزله صور معلقة على الحيطان، أو منصوبة، سواء كانت تماثيل أو كانت رسومًا على أوراق من صور ذوات الأرواح، كالبهائم والطيور والآدميين، وكل ما فيه روح، فإنه يجب إزالته، فقد غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما رأى سترًا وضعته عائشة على الجدار فيه تصاوير. اهـ (¬2). وقال الشيخ ناصر الدين الألباني وهو يرد على من فرق بين التصوير الشمسي والتصوير باليد: وقريب من هذا تفريق بعضهم بين الرسم باليد، وبين التصوير الشمسي بزعم أنه ليس من عمل الإنسان! وليس من عمله فيه إلا إمساك الظل فقط، كذا زعموا، أما ذلك الجهد الجبار الذي صرفه المخترع لهذه الآلة حتى استطاع أن يصور في لحظة ما لا يستطيعه بدونها في ساعات فليس من عمل الإنسان عند هؤلاء! وكذلك توجيه المصور للآلة وتسديدها نحو الهدف المراد تصويره، وقبيل ذلك تركيب ما يسمونه بالفلم، ثم بعد ذلك تحميضه، وغير ذلك ¬

(¬1) رسالة للشيخ بعنوان (الجواب المفيد في حكم التصوير) (ص: 13). (¬2) فتاوى الشيخ صالح الفوزان (2/ 193).

مما لا أعرفه، فهذا أيضًا ليس من عمل الإنسان عند أولئك أيضًا! (¬1) سئل الشيخ ابن عيثمين رحمه الله عن عرض الصور الكبيرة والصغيرة في المحلات التجارية وهي صور إما لممثلين عالميين أو أناس مشهورين وذلك للتعريف بنوع أو أصناف من البضائع كالعطورات وغيرها. وقال السائل: عند إنكارنا على أصحاب المحلات يجيبون بأنهم اطلعوا على فتوى لفضيلتكم بأن التصوير المجسم هو الحرام وغير ذلك فلا؟ فأجاب رحمه الله: من نسب إلينا أن المحرم من الصور هو المجسم وأن غير ذلك غير حرام فقد كذب علينا ونحن نرى أنه لا يجوز لبس ما فيه صورة سواء كان من لباس الصغار أو من لباس الكبار وأنه لا يجوز اقتناء الصور للذكرى أو غيرها إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه مثل التابعية والرخصة والله الموفق (¬2). وسئلت اللجنة الدائمة عن التصوير الذي تستخدم فيه كاميرا الفيديو هل يقع حكمه تحت التصوير الفوتوغرافي؟ فأجابت: نعم حكم التصوير بالفيديو حكم التصوير الفوتوغرافي بالمنع والتحريم لعموم الأدلة (¬3). ومن مفاسد الصور: أولاَ: فيها مضاهاة لخلق الله، وادعاء المشاركة لله في خلقه، الذي اختص به، فإنه هو الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى والصفات العلى. ¬

(¬1) آداب الزفاف (ص: 192). (¬2) فتاوى كبار العلماء في التصوير للشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري (ص: 124). (¬3) (1 / المجموعة الثانية) (ص: 288).

ثانيًا: إن التصوير وسيلة من وسائل الشرك، فأول ما حدث الشرك في الأرض كان بسبب التصوير، لما صور قوم نوح رجالاً صالحين ماتوا في عام واحد، فتأسفوا عليهم، فجاء الشيطان وألقى إليهم أن يصوروا تصاويرهم، وينصبوها على مجالسهم حتى يتذكروا بها العبادة، ففعلوا ذلك، ولما مات هذا الجيل جاء الشيطان إلى من بعدهم وقال: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليستقوا بها المطر، وليعبدوها، فعبدوها من دون الله عز وجل، ومن ثم حدث الشرك في الأرض بسبب التصوير. ثالثًا: أنه سبب في فساد الأخلاق، وذلك إذا صورت الفتيات في المجلات والصحف، والقنوات الفضائية، أو صورت للذكريات، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا يجر إلى الافتتان بتلك الصور، وبالتالي يوقع في القلب المرض والشهوة، ولهذا اتخذ المفسدون التصوير مطية ووسيلة لإفساد الأخلاق بتصوير النساء في الأفلام والمجلات، والأدوات المنزلية، والدعايات، وغيرها (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: فتاوى الشيخ صالح الفوزان (2/ 192 - 193).

الكلمة المئة وست وثلاثون: الموت وعظاته

الكلمة المئة وست وثلاثون: الموت وعظاته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن المنهمك في الدنيا المكب على شهواتها وملذاتها يغفل قلبه عن ذكر الموت فلا يذكره، وإن ذكره كرهه ونفر منه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]. وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. وأما العارف بربه، فإنه يذكر الموت دائمًا، أخذًا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ - يعني الموت -» (¬1). وروى ابن ماجه في سننه من حديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2307) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 266) برقم (1877).

ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ» (¬1). قال الحسن البصري رحمه الله: «فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحًا، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عليه، وهان عليه جميع ما فيها». قال الشاعر: لا طِيبَ للعيْشِ ما دامَت لذاتُهُ ... مُنْغَصةً بادِّكَار المَوتِ وَالهَرم وقال عمر بن عبد العزيز: إذا غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة فسد، وقال بعضهم: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والكسل في العبادة. والموت له سكرات وكربات، وهي تعتري كل مخلوق، وقد يهونها الله على بعض عباده، كالشهداء؛ لأن الشهيد «كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَاسِهِ فِتْنَةً»، كما في الحديث الصحيح (¬2). وقد تشدد هذه السكرات على بعض العباد تخفيفًا من الذنوب، ورحمة وزيادة في الدرجات، كالأنبياء عليهم السلام، وفي مقدمتهم خاتمهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فإنه قد لقي من الموت شدة، وهو أحب الخلق إلى الله. ففي صحيح الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا ¬

(¬1) برقم (4259) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1384). (¬2) سنن النسائي برقم (2053) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 441) برقم (1940).

وَجْهَهُ وَيَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ»، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «اللهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ (¬1). وحينما ثَقُلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: وَاكَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» (¬2). حتى إنه من شدة كربه قال: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ» (¬3). وكان كلما اغتسل عليه الصلاة والسلام، وهم بالصلاة مع الناس يغمى عليه ... - ثلاث مرات - (¬4). وَتَقُولُ عَائِشَةُ: مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي (¬5) وَذَاقِنَتِي (¬6) فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬7). وتشدد هذه السكرات على الكفار، وكذلك على عصاة المسلمين، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا ¬

(¬1) برقم (4449). (¬2) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (4462). (¬3) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (4442). (¬4) صحيح مسلم برقم (418). (¬5) قال ابن الأثير: الحاقنة: الوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الخلف، النهاية في غريب الحديث (1/ 64). (¬6) قال ابن الأثير: الذاقنة: الذقن، وقيل: طرف الحلقوم، وقيل: ما يناله الذقن من الصدر، النهاية في غريب الحديث (2/ 162). (¬7) صحيح البخاري برقم (4446).

كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [الأنفال: 50]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ - وفي رواية: الفَاجِرَ - إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ - غِلاَظٌ شِدَادٌ - سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ (¬1) مِنَ النَّارِ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَاسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ: اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ - الْكَثِيرُ الشِّعْبِ - مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ - فَتُقَطَّعُ مَعَهَا الْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ» (¬2) .. الحديث. وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ، إما مُحسِنٌ فَلَعَلَّهُ يَزْدادُ خَيْراً، وإمَّا مُسِيءٌ لَعَلَّهُ يَستعْتِبُ» (¬3). وروى الشيخان من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» (¬4). ¬

(¬1) المسموح: وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً وقهراً للبدن. (¬2) (30/ 501) برقم (18534) وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الشيخ الألباني في كتابه أحكام الجنائز وبدعها، وجمع زيادات الحديث (ص: 198 - 202). (¬3) (13/ 23) برقم (7578) وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬4) صحيح البخاري برقم (6351)، وصحيح مسلم برقم (2680).

وحق على كل إنسان أن يستعد للموت قبل نزوله، وذلك بالمبادرة بالعمل الصالح قبل حلول الأجل. لقد حثنا ربنا عز وجل أعظم الحث، ودعا إلى اغتنام الفرص في زمن المهلة، وأخبرنا أن من فرط في ذلك تمناه، وقد حيل بينه وبينه، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 9 - 10]. قال الشاعر: إِذَا أَنْت لم تَزْرَع وأَبْصرتَ حَاصِداً ... نَدِمتَ على التفرِيطِ في زَمَن البذْر روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: أَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاح، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» (¬1). وفي رواية للترمذي: «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِن أَهْلِ الْقُبُورِ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ غَدًا» (¬2). ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (2333) وصحح الزيادة الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1157).

قال الشاعر: تَفَانَوا جَمِيعاً فما مُخْبِرٌ ... وَمَاتُوا جَمِيعاً وَمَاتَ الخَبَرْ تَرُوحُ وَتَغْدُو بَنَاتُ الثَّرى ... وَتُمحى مَحَاسِنُ تِلكَ الصّورْ فَيَا سَائِلي عن أُناسٍ مَضَوا ... أَمَا لك فِيما تَرَى مُعْتَبَرْ؟ وقال آخر: ولو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموتُ غايةَ كلِّ حيّ ولكنَّا إذا متنا بُعثنا ... ونسأل بعدها عن كل شيّ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وسبع وثلاثون: مقتطفات من سيرة أبي بكر الصديق

الكلمة المئة وسبع وثلاثون: مقتطفات من سيرة أبي بكر الصديق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر. هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، ولم يفارق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حضر ولا سفر، ولد بعد حادثة الفيل بسنتين وستة أشهر، صلى بالناس إمامًا في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي مات فيه، وهو من أحب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته، وهو أول من أسلم من الرجال، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهو رفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وقد نال شرف صحبته في ذلك، وقد أنزل الله فيه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ} [التوبة: 40]. قال عمر بن الخطاب: «لَو وُزِنَ إِيمَانُهُ بِإِيمَانِ الأُمَّةِ لَرَجَحَ إِيمَانُهُ». إنه صِدِّيق هذه الأمة أبو بكر، واسمه عبد الله بن أبي قحافة

عثمان بن عامر بن عمرو القرشي، وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وصفته ابنته عائشة فقالت: «كان أبي أبيض نحيفًا خفيف العارضين، منحني الظهر قليلاً، غائر العينين. وقد وردت أحاديث تدل على فضله ومكانته، وأنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عائشة في مرضه الذي مات فيه: «ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكَ وَأَخَاكِ، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَابَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ» (¬1). قال العلماء: وفي هذا الحديث دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة، وأولاهم بإمامة المسلمين. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ، لاَ تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلاَ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي ¬

(¬1) برقم (5666)، وصحيح مسلم برقم (2387) واللفظ له. (¬2) البخاري برقم (3904)، ومسلم برقم (2382).

بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ» (¬1). وقد أنفق - رضي الله عنه - بعد إسلامه أربعون ألفًا على الصدقات، وإعتاق العبيد من المسلمين. روى الترمذي في سننه من حديث عمر بن الخطاب قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالاً، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ » قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ » قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر وعمر: «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلاَّ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» (¬4). وقد تولى الخلافة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت خلافته سنتان وسبعة أشهر، وعندما ارتدت العرب واشرأب النفاق، وانحازت ¬

(¬1) برقم (3661) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 200) برقم (2894) .. (¬2) برقم (3675) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) برقم (3658) وقال: هذا حديث حسن. (¬4) برقم (3664) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 201) برقم (2897).

الأنصار، قالت عائشة رضي الله عنها: «فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها»، وقال كلمته المشهورة: «لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ» (¬1). يقول العلماء: حفظ الله الدين، برجلين: أبو بكر في حروب الردة، وأحمد بن حنبل في فتنة الجهمية. وجمع القرآن في عهده، يقول علي بن أبي طالب: أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر. وكان - رضي الله عنه - شديد الورع، روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه (¬2). قال ابن حجر: أشار بذلك أنه كان كسوباً لمؤنته ومؤنة عياله بالتجارة من غير عجز تمهيداً على سبيل الاعتذار عما يأخذه من مال المسلمين إذا احتاج إليه، فقد روى ابن سعد وابن المنذر بإسناد صحيح عن مسروق عن عائشة قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، قالت: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي بستاناً له، فبعثنا بهما إلى عمر، فقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده (¬3). تقول عائشة رضي الله عنها: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1400)، وصحيح مسلم برقم (20). (¬2) برقم (2070). (¬3) فتح الباري (4/ 304).

لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يومًا باردًا، فحُمّ خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى صلاة، ودخل عليه الصحابة في مرضه، فقالوا: ألا ندعو لك طبيبًا ينظر إليك؟ فقال: قد نظر إلي، فقالوا: ما قال؟ قال: إني فعال لما أريد، تقول عائشة رضي الله عنها: لما ثقل أبي تمثلت بهذا البيت: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ فكشف عن وجهه وقال: ليس ذلك يا بنية، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] (¬1). روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: في كم كفنتم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سَحُوليةً، ليس فيها قميصٌ وَلاَ عمامةٌ. وقال لها: في أي يومٍ تُوفِيَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: يومَ الاثنَينِ. قال: فأَيُّ يومٍ هذا؟ قالت: يومُ الاثنينِ. قال: أَرجُو فيما بيني وبين الليل. فنظر إلى ثوبٍ عليه كان يُمَرَّضُ فيه، به ردعٌ من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيها. قلت: إن هذا خَلَقٌ؟ قال: إن الحَيَّ أَحَقُّ بالجديد من الميتِ، إنما هو للمهلة. فلم يتوفَّ حتَّى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفِنَ قبل أن يُصبِحَ (¬2). رضي الله عن أبي بكر، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 63 - 64). (¬2) برقم (1387).

الكلمة المئة وثمان وثلاثون: مقتطفات من سيرة عمر بن الخطاب

الكلمة المئة وثمان وثلاثون: مقتطفات من سيرة عمر بن الخطاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر. هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد بدرًا وأحدًا والخندق وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، ولد بعد حادثة الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان من السابقين إلى الإسلام، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المخرج في مسند الإمام أحمد: «إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ» (¬1). وقال عنه - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث المخرج في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا، إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (¬2). كان إسلامه فتحًا على المسلمين، وفرجًا لهم من الضيق، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة، تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابنته، وهو أحد ¬

(¬1) (9/ 144) برقم (5145) وقال محققوه: حديث صحيح من حديث ابن عمر. (¬2) البخاري برقم (3294)، ومسلم برقم (2396).

العشرة المبشرين بالجنة، وفي عهده سقطت دولتي فارس والروم، قال عنه عبد الله بن مسعود: «ما عُبِدَ اللهُ جَهرَةً حَتَّى أَسلَمَ هَذَا الرَّجُلُ». إنه فاروق هذه الأمة، عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، أبو حفص، كان إسلامه - رضي الله عنه - قد تحقق ببشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي في سننه من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ»، قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيهِ عُمَرُ (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ» (¬2). قال ابن عباس: «أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب»، وصفه أهل السير بأنه كان رجلًا طويلًا جدًّا، ومن طوله إنه إذا ركب الفرس تخط رجلاه بالأرض، ومع طوله فإنه كان ضخمًا عريض المنكبين، مفتول الساعدين، أبيض مشربًا بالحمرة، وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على فضله ومكانته، فمن ذلك ما رواه الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» (¬3)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ أَغَارُ؟ ! (¬4) ¬

(¬1) برقم (3681) وقال: هذا حديث صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 204) برقم (2907). (¬2) برقم (3684). (¬3) برقم (3686). (¬4) البخاري برقم (7023)، ومسلم برقم (2394).

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ اجْتَرَّهُ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ» (¬1). وقد كان - رضي الله عنه - رجلاً ملهمًا، نزل القرآن الكريم في موافقته في عدد من آرائه، ففي الصحيحين من حديث عمر أنه قال: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ؟ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (¬2). وكذلك وافقه في أسارى بدر، وفي ترك الصلاة على المنافقين، وفي غيرها من المواضع، وكان - رضي الله عنه - من أعلم الصحابة وأفقههم، قال عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان، ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح بهم علم عمر، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم (¬3). ¬

(¬1) البخاري برقم (3691)، ومسلم برقم (2390). (¬2) البخاري برقم (402)، ومسلم برقم (2399). (¬3) مستدرك الحاكم (4/ 39) برقم (4553) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والطبراني في الكبير (9/ 163) برقم (8809) وقال في مجمع الزوائد (9/ 69): رواه الطبراني بأسانيد ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة.

تولى الخلافة بعد أبي بكر الصديق، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وكان تقيًا ورعًا زاهدًا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد كثرت الفتوحات في عهده، وسقطت دولتي فارس والروم، وكانت هذه من أعظم الإنجازات في عهده، وأصيب الناس في إحدى سنوات عهده بمجاعة شديدة، أجدبت الأرض، واسودت، وانقطع المطر، وسمي ذلك العام عام الرمادة، فكان يأكل الخبز والزيت، ويقول: لن أشبع حتى يشبع أطفال المسلمين، وكان يقول: لو أن بغلة عثرت في طريق العراق لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة. وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن ميمون الأنصاري أنه قال: «شَهِدتُ عُمَرَ قَبلَ مَوتِهِ بِأَيَّامٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللهُ لأَدَعَنَّ أَرَامِلَ الْعِرَاقِ لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا، فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ رَابِعَةٌ إِلاَّ وَأُصِيبَ» (¬1). وقد أكرمه الله بالشهادة، فكان قتله على يد الغادر الشقي أبي لؤلؤة المجوسي في سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو يؤم الناس لصلاة الفجر، طعنه بسكين ذات شقين. وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خطب الناس على المنبر يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر أبا بكر ثم قال: رأيت رؤيا لا أُرَاهَا إلا لحضور أجلي، رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين، قال: وذُكِرَ لي أنه ديكٌ أحمرُ، فقصصتها على أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر رضي الله عنهما فقالت: يقتُلُكَ رَجُلٌ مِنَ العَجَمِ (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين حفصة أنه كان يقول: «اللهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ ¬

(¬1) برقم (3700). (¬2) (1/ 250) برقم (89) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

رَسُولِكَ» (¬1). فاستجاب الله لدعواته الصالحة. رضي الله عن عمر، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (1890).

الكلمة المئة وتسع وثلاثون: النهي عن البدع

الكلمة المئة وتسع وثلاثون: النهي عن البدع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 1 - 3]. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللهُ} [الشورى: 21]. روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (¬1). والبدعة هي كل ما أحدث في الشرع بغير دليل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ» (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (¬3). ¬

(¬1) البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718). (¬2) سنن النسائي برقم (1578) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 345 - 346) برقم (1487) وأصله في صحيح مسلم. (¬3) صحيح مسلم برقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: «وهو أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (¬1) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء (¬2). وقال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه» (¬3). وقال النووي: «وهذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك» (¬4). وقال الطرقي: «هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع» (¬5). وقال ابن القيم: «القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن» (¬6). وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم الجمعة: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» (¬7). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1)، وصحيح مسلم برقم (1907). (¬2) جامع العلوم والحكم (1/ 176). (¬3) فتح الباري (5/ 302 - 303). (¬4) فتح الباري (5/ 302 - 303). (¬5) فتح الباري (5/ 302 - 303). (¬6) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/ 213). (¬7) برقم (867).

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «وقد ثبت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الصالح بعدهم التحذير من البدع، والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. والمخالفة الصريحة لأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المحذرة من البدع، والمنفرة منها (¬1). اهـ. وَمَرَّ ابنُ مَسعُودٍ - رضي الله عنه - عَلَى أُنَاسٍ فِي المَسجِدِ يَنتَظِرُونَ الصَّلَاةَ وَهُم حِلَقٌ، وَفِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفَي أَيدِيهِم حَصًى، وَرَجُلٌ يَقُولُ لَهُم: سَبِّحُوا مِئَةً، فَيُسَبِّحُونَ، كَبِّرُوا مِئَةً فَيُكَبِّرُونَ، هَلِّلُوا مِئَةً فَيُهَلِّلُونَ، فَقَالَ لَهُم: عُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لاَ يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ! هَؤُلاَءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوَ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلاَلَةٍ؟ قَالُوا: وَاللهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ! قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَم يُصِبْهُ؟ ! (¬2). وقال أهل العلم: إن كل عمل يتقرب به المسلم إلى ربه عز وجل لا بد له من شرطين: ¬

(¬1) رسالة للشيخ بعنوان: التحذير من البدع (ص: 11). (¬2) معجم الطبراني الكبير (9/ 127) رقم (8636)، وروي بألفاظ كثيرة.

الأول: الإخلاص لله عز وجل، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (¬1). الثاني: المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقًا للشريعة في أمور ستة: 1 - السبب: فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيًا فهي مردودة على صاحبها، مثالها: رجل يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالتهجد عبادة وسنة، ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة، لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعًا، وهذا أمر مهم يتبين به ابتداع كثير ممن يظن أنه من السنة، وليس من السنة، ومن الأمثلة كذلك: بدعة المولد، فإن هذا السبب لم يشرع، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة، ولا القرون المفضلة، وإنما أحدثته الدولة العبيدية الرافضية، لما حكمت مصر في القرن العاشر. 2 - الجنس: فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها، فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم تشرع في جنسها، فهي غير مقبولة، ومثال ذلك: أن يضحي رجل بفرس، فلا تصح أضحيته، لأنه خالف الشريعة في جنسها، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام - الإبل، والبقر، والغنم -. 3 - القدر: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة، فيقال له: هذه بدعة غير مقبولة، لأنها مخالفة للشرع في القدر، ومن باب أولى لو ¬

(¬1) البخاري برقم (1)، ومسلم برقم (1907).

أن الإنسان صلى الظهر مثلاً خمسًا، فإن صلاته لا تصح بالاتفاق. 4 - الكيفية: فلو أن رجلاً توضأ، فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه، ثم وجهه، فيقال له: وضوءك باطل، لأنه مخالف للشرع في الكيفية. 5 - الزمان: فلو أن رجلاً ضحى في أول أيام ذي الحجة، فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان، وبعض الناس في شهر رمضان يتقرب إلى الله بذبح الأغنام، وهذا عمل بدعة لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية، والهدي، والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر كالذبح في عيد الأضحى فبدعة، وأما الذبح لأجل الأكل جائز. 6 - المكان: فلو أن رجلاً اعتكف في غير مسجد، فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، ولو قالت امرأة: أريد أن أعتكف في مصلى البيت فلا يصح اعتكافها، لمخالفة الشرع في المكان. ومن الأمثلة: لو أن رجلاً أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق، ووجد ما حوله قد ضاق، فصار يطوف من وراء المسجد، فلا يصح طوافه، لأن مكان الطواف البيت، قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1) [الحج: 26]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: رسالة (الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع)، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص: 20 - 23).

الكلمة المئة وأربعون: قدرة الله

الكلمة المئة وأربعون: قدرة الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإنه ينبغي للمؤمن أن يتأمل في آيات الله الدالة على كمال قدرته، ليعظمه حق تعظيمه، ويقدره حق قدره، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله - أي ابن مسعود - قال: «قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}» (¬1). ومن الآيات العظيمة الدالة على كمال قدرته خلق السماوات، ¬

(¬1) البخاري برقم (4811)، ومسلم برقم (2786).

والأرض، والجبال، والدواب في ستة أيام، ولو شاء لخلقها في لمحة بصر، ولكن كان ذلك لحكمة إلهية منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]. ومنها: أن الله تعالى خلق آدم من سلالة من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، يخرج من بين الصلب والترائب، ثم يستقر في قرار مكين، في مكان لا يعتريه شمس ولا هواء، ولاحر ولا برد، في ظلمات ثلاث، ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة الغشاء، أربعون يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، فإذا تمت هذه الأيام، وهي أربعة أشهر، أرسل الله تعالى إليه الملك الموكل بالأجنة، فنفخ فيه الروح، فأصبح إنسانًا بعد أن كان جمادًا، فتبارك الله أحسن الخالقين، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَانَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14]. ومنها: أن الله خلق عيسى من أم بلا أب، وأنطقه الله تعالى في المهد وهو صبي، ... قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. وقال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 27 - 31].

وقد ذكر الله تعالى في كتابه حوادث كثيرة تدل على قدرته على إحياء الموتى في هذه الدنيا. ومنها: قصة بني إسرائيل حين قالوا لنبيهم لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فعاقبهم الله تعالى، فأخذتهم الصاعقة، فماتوا، ثم بعثهم الله تعالى من بعد موتهم، وفي ... هذا يقول تعالى مخاطبًا بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ... [البقرة: 55 - 56]. ومنها: قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، قد تهدم بناؤها، ويبست أشجارها فاستبعد أن تعود على ما كانت عليه من العمران والسكان، فأراه الله تعالى آية في نفسه تدل على قدرته، فأماته الله مئة سنة، وكان معه حمار وطعام وشراب، فمات الحمار، وتمزقت أوصاله، ولاحت عظامه، وبقي الطعام والشراب لم يتغير واحد منهما بنقص ولا طعم ولا لون ولا رائحة، مئة سنة والشمس تصهره، والرياح تتعاقب عليه، ثم بعث الله عز وجل ذلك الرجل وأراه الحمار، فنظر إلى عظامه المتفرقة في الأرض يركب بعضها بعضًا، كل عظم في محله، ثم يكسوها الله لحمًا، وفي هذا يقول سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259]. ومنها: قصة إبراهيم الخليل حين سأل ربه أن يريه كيف

يحيي الموتى؟ فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة من الطير، فيقطعهن أجزاء فيفرقها على الجبال التي حوله، على كل جبل جزء من هذه الطيور، ثم يناديهن، وحينئذ تلتئم هذه الأجزاء المتفرقة في الجبال بعضها إلى بعض، ويأتين إلى إبراهيم عليه السلام مشيًا لا طيرانًا، وفي هذا يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]. فهذه الأمثلة من إحياء الله تعالى الموتى في الدنيا دليل على قدرته سبحانه على البعث يوم القيامة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وقال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وقال تعالى: ... {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77]. فسبحانه من إله عظيم قادر، لا يعجزه شيء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة المئة وإحدى وأربعون: علامات حسن الخاتمة

الكلمة المئة وإحدى وأربعون: علامات حسن الخاتمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر: 99]، في هذه الآيات وغيرها يوصي الرؤوف الرحيم عباده بالثبات على الدين والموت على الإسلام، لأنه من حصل له ذلك فاز الفوز العظيم الذي لا فوز أكبر منه، وسعد السعادة التي لا شقاوة معها، فإن من علامات سعادة العبد حسن خاتمته، ولا أحسن، ولا أفضل من أن يموت العبد مؤمنًا بربه، راضيًا بدينه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» (¬1). وأن من علامات حسن الخاتمة: الاستشهاد في سبيل الله، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ¬

(¬1) جزء من حديث في البخاري برقم (6493)، ومسلم برقم (2651).

عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169 - 170]، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلاَّ الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» (¬1). وترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصًا من قلبه، ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة لما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (¬2). ومنها: أن يوفق المحتضر للنطق بكلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، روى أبو داود في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَ آخِرَ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬3). قال بعض أهل العلم: «لأنها شهادة شهد بها عند موته، وقد ماتت شهواته، وذهلت نفسه لما حل به من هول الموت، وذهب حرصه ورغبته، وسكنت أخلاقه السيئة، وذل وانقاد لربه، فاستوى ظاهره بباطنه، فغفر له بهذه الشهادة لصدقه». ومنها: الموت بعرق الجبين: روى الترمذي في سننه من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -: عن ¬

(¬1) البخاري برقم (2817)، ومسلم برقم (1877). (¬2) برقم (1909). (¬3) برقم (3116)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 602) برقم (2673).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» (¬1). قال بعض أهل العلم: قيل: هو لما يعالج من شدة الموت، فقد تبقى عليه بقية من ذنوب، فيشدد عليه وقت الموت ليخلص عنها، وقيل: هو من الحياء، فإنه إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل وحياء من الله تعالى، فعرق لذلك جبينه، وقيل: يحتمل أن عرق الجبين علامة جُعِلَت لموتِ المؤمن، وإن لم يعقل معناه (¬2). ومنها: وفاة المسلم بالطاعون، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (¬3). ومنها: الموت بداء البطن، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن مَاتَ فِي البَطنِ فَهُوَ شَهِيدٌ» (¬4). وذكر بعض الشراح أن المبطون من أصابه إسهال، أو استسقاء، أو وجع بطن. ومنها: الموت بالحرق أو الغرق أو الهدم أو الطاعون أو ذات الجنب، أو موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، ¬

(¬1) برقم (982) وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (¬2) التذكرة للقرطبي (ص: 24) وتحفة الأحوذي (4/ 30). (¬3) البخاري برقم (2830)، ومسلم برقم (1916). (¬4) قطعة من حديث برقم (1915).

وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عتيك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غُلب، فصاح به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه، فاسترجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ»، فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ»، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: «المَوْتُ»، قالت ابنته: والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدًا فإنك كنت قد قضيت جهازك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ »، قالوا: القتل في سبيل الله تعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ» (¬2). وذات الجنب هو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع. والمرأة تموت بجمع، أي تموت وفي بطنها ولد، أو تموت من الولادة، كذا قاله المناوي (¬3) رحمه الله. ومنها: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس والمال، روى أبو داود في سننه من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ ¬

(¬1) البخاري برقم (653)، ومسلم برقم (1914). (¬2) برقم (3111)، وصححه الألباني في كتابه أحكام الجنائز وبدعها (ص: 54 - 55). (¬3) فيض القدير (4/ 179).

دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ»، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قَاتِلْهُ»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هُوَ فِي النَّارِ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (4774) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 906) برقم (3993). (¬2) برقم (140).

الكلمة المئة واثنتان وأربعون: وفاته عليه الصلاة والسلام

الكلمة المئة واثنتان وأربعون: وفاته عليه الصلاة والسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فبكى أبو بكر الصديق، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا (¬1). ففي هذا الحديث إشارة إلى قرب وفاته عليه الصلاة والسلام، وأن ساعة الفراق قد باتت قريبة، وإلى عزوفه عليه الصلاة والسلام عن الدنيا، واشتياقه إلى الرفيق الأعلى. وقال بعض أهل العلم: إن الله جمع لنبيه بين النبوة والشهادة، ويستدلون على ذلك بما أخرجه البخاري في صحيحه قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ ¬

(¬1) البخاري برقم (466)، ومسلم برقم (2382).

انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» (¬1). قال شراح الحديث: الأبهر عرق بالظهر متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه، وهو يشير بذلك إلى ما حصل له في غزوة خيبر عندما جاءته امرأة يهودية، يقال لها: زينب بنت الحارث بشاة مسمومة، وقدمتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع لقمة في فمه، فلم يستسغها، فرمى بها، ومكث عليه الصلاة والسلام من السنة السابعة إلى السنة الحادية عشرة وهو يعاني من آثار السم الذي يعاوده فترة بعد أخرى (¬2). قال ابن عبد البر: «ثم لما دنت وفاته عليه السلام، أخذه وجعه في بيت ميمونة، فخرج إلى أحد، فصلى عليهم صلاة الميت، ودعا لهم، وكان ذلك بعد ثماني سنوات من استشهادهم» (¬3). اهـ، وكان أول ما يشكو في علته الآلام الشديدة في رأسه، فدخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت: وارأساه يا نبي الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ»، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذاك، لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ أَنَا وَارَاسَاهْ» (¬4). وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه، يقول: «أَينَ أَنَا غَدًا؟ أَينَ أَنَا غَدًا؟ » يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء (¬5). تقول عائشة رضي الله عنها، وهي تحكي مشهد احتضاره عليه السلام: «كَانَ بَيْنَ ¬

(¬1) برقم (4428). (¬2) صحيح البخاري برقم (5777). (¬3) انظر: الدرر في اختصار المغازي والسير (1/ 269). (¬4) صحيح البخاري برقم (7217). (¬5) البخاري برقم (4450)، ومسلم برقم (2443).

يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «اللهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ» (¬1). تَقُولُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وتقول أيضًا: «مَا رَأَيتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيهِ الوَجَعُ مِن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -» (¬3)، وقال بعض أهل العلم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شدد عليه في سكرات الموت، رفعة لدرجاته، وإلا فهو المغفور له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ثم بدأت الحمى الشديدة تنتشر في جسده عليه الصلاة والسلام، فيقول: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِن سَبعِ قِرَبٍ لَم تُحلَلْ أَوكِيَتُهُنَّ»، فيوضع في مخضب ثم يصب عليه الماء من تلك القرب، حتى أشار إليهم: أَنْ حَسبُكُمْ» (¬4). وكانت فاطمة بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رأته وهو يعاني من هذه السكرات العظيمة، فقالت: واكرب أباه. فقال لها: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» (¬5). ولما هم بالصلاة مع الناس أغمي عليه ثلاث مرات (¬6)، ثم أفاق، ولكنه لا يزال يحمل هم الدعوة إلى الله، فيقول وهو في آخر رمق من حياته: «الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَت أَيمانُكُم (¬7)، لَعنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ (¬8)، أَلاَ فَلاَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (4449). (¬2) صحيح البخاري برقم (4446). (¬3) صحيح البخاري برقم (5646). (¬4) صحيح البخاري برقم (4442). (¬5) صحيح البخاري برقم (4462). (¬6) صحيح مسلم برقم (418). (¬7) سبق تخريجه. (¬8) صحيح البخاري برقم (435)، وصحيح مسلم برقم (531).

تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» (¬1). تقول عائشة رضي الله عنها: لما نزل به - أي الموت - ورأسه على فخذي غُشي عليه ثم أفاق، ثم شخص بصره إلى سقف البيت، وقد أخبرنا قبل ذلك: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ»، فيخير بين الدنيا وبين ما عند الله، فعرفت أنه لا يختارنا، وأنه الحديث الذي كان يحدثنا وَهْوَ صَحِيحٌ، ثم رفع بصره إلى السماء، وجعل يقول: «مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى»، فكانت آخر كلمة تكلم بها حتى قبض (¬2)، ومالت يده الشريفة. قالت فاطمة رضي الله عنها: يَا أَبَتَاهْ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ (¬3). قال الحافظ ابن كثير: وكانت وفاته عليه الصلاة والسلام سنة إحدى عشرة من الهجرة في الثاني عشر من ربيع الأول، الموافق يوم الاثنين، ومكث بقية الاثنين ويوم الثلاثاء بكماله، ودفن ليلة الأربعاء، وهو المشهور عند الجمهور (¬4). ومن الدروس والعبر المستفادة من وفاته عليه الصلاة والسلام: 1 - أن الموت سبيل كل حي، فلا أحد كائنًا من كان سيخلد في هذه ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (532). (¬2) صحيح البخاري برقم (4463)، وبرقم (4435) و (4440)، وصحيح مسلم برقم (2444). (¬3) صحيح البخاري برقم (4462). (¬4) البداية والنهاية (8/ 152).

الدنيا، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]. 2 - زهده عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة الدنيا، ورغبته في الآخرة، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن الحارث، قال: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلاَ أَمَةً، إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ الَّتِي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلاَحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لاِبْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً (¬1). بل إنه عليه الصلاة والسلام: تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (¬2). 3 - أن موته عليه الصلاة والسلام من أعظم المصائب، ولن يبتلى المسلمون بمصيبة أعظم من وفاته، روى الدارمي في سننه من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» (¬3) ليكون ذلك تسلية له في مصيبته. وروى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ ¬

(¬1) برقم (4461). (¬2) صحيح البخاري برقم (4467)، وصحيح مسلم برقم (1603). (¬3) (1/ 53) برقم (85) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (347).

رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَيْدِيَ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» (¬1). وقالت فاطمة رضي الله عنها لأنس بعدما دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ؟ ! » (¬2). قال الشاعر: اصبر لكل مُصيبةٍ وتَجَلدِ ... واعلمْ بأن المَرءَ غَيرَ مُخَلَّد وإذا أتَتكَ مصيبةٌ تَشْجَى بها ... فاذْكر مُصَابَكَ بالنبي محمدِ (¬3) اللهم احشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واجعلنا من أتباعه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (3618)، وقال ابن كثير: إسناده على شرط الشيخين، وقال الترمذي: حديث غريب صحيح. (¬2) صحيح البخاري برقم (4462). (¬3) انظر: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، وأثر ذلك على الأمة، للشيخ خالد أبو صالح.

الكلمة المئة وثلاث وأربعون: أسباب النصر على الأعداء

الكلمة المئة وثلاث وأربعون: أسباب النصر على الأعداء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان يبتلى فيها المؤمنون بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. وقال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. قال ابن كثير: أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من هذا من قتل وجراح، وتلك الأيام نداولها بين الناس، أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة، لما لنا في ذلك من الحكمة (¬1). وعداوة الكفار للمؤمنين عداوة قديمة، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ} [التوبة: 10]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 199 - 200).

والنصر على الأعداء له أسباب كثيرة، أذكر منها: أولاً: الإيمان بالله، والعمل الصالح، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 2 - 3]. وقال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55]. ثانيًا: الإخلاص والصدق في نصر دين الله، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. ثالثًا: التوكل على الله، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى

اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» (¬1). رابعًا: الثبات عند لقاء العدو، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ» (¬2). خامسًا: الشجاعة والإقدام عند لقاء العدو، واليقين أن الأجل لا يقدمه إقدام، ولا يؤخره إحجام، قال تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. قال الشاعر: تأخرتُ أَسْتَبْقِي الحَياةَ فلم أَجدْ ... لِنَفسي حياةً مِثلَ أن أتقَدَّمَا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشجع الناس، وأقواهم قلبًا عند لقاء العدو، روى مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ ¬

(¬1) البخاري برقم (3123)، ومسلم برقم (1876). (¬2) البخاري برقم (2966)، ومسلم برقم (1742).

الْبَاسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ - يَعنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). سادسًا: كثرة الذكر والدعاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه ويستغيث به في معاركه، كما في معركة بدر وغيرها، وكان من دعائه: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» (¬2). سابعًا: لزوم طاعة الله تعالى ورسوله، والحذر من المعاصي والتنازع، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬3). ثامنًا: لزوم طاعة الأمير، والحذر من الاختلاف عليه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي ¬

(¬1) برقم (1776). (¬2) صحيح البخاري برقم (2933)، وصحيح مسلم برقم (1742) واللفظ له. (¬3) سبق تخريجه.

فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» (¬1). تاسعًا: الصبر على مشاق الجهاد، وخاصة عند لقاء العدو، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]. وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (¬2). عاشرًا: الإخلاص لله، فلا يكون المقاتل مجاهدًا في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬3). الحادي عشر: الأخذ بأسباب القوة، والإعداد لذلك ¬

(¬1) البخاري برقم (7137)، ومسلم برقم (1835). (¬2) (5/ 19) برقم (2803)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) البخاري برقم (2810)، ومسلم برقم (1904).

امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» (¬1). ومن أعظم أسباب الخذلان: المعاصي والذنوب، فإنها تخون العبد وهو أحوج ما يكون إلى نصر ربه، قال تعالى مبينًا سبب انهزام بعض المسلمين في إحدى الغزوات: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين (¬2). ¬

(¬1) برقم (1917). (¬2) انظر رسالة الشيخ سعيد بن وهف القحطاني: الجهاد في سبيل الله. فضله، مراتبه، أسباب النصر على الأعداء

الكلمة المئة وأربع وأربعون: فضل أيام عشر ذي الحجة

الكلمة المئة وأربع وأربعون: فضل أيام عشر ذي الحجة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الخالق لجميع المخلوقات جل وعلا قد فضل بعضها على بعض، واختار منها ما شاء، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]. ومن هذه الأزمنة الفاضلة، التي فضلها الله على غيرها أيام عشر ذي الحجة، قال تعالى: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]. والإقسام بالشيء دليل على أهميته وعظمته، قال ابن عباس والزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: «إنها عشر ذي الحجة»، قال ابن كثير رحمه الله: «وهو الصحيح» (¬1). قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]. قال ابن عباس: «الأيام المعلومات أيام عشر ذي الحجة» (¬2). ¬

(¬1) تفسر ابن كثير (14/ 338). (¬2) صحيح البخاري، باب فضل العمل في أيام التشريق.

وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من أفضل الأيام، وأن العمل الصالح فيها أعظم من غيرها، روى البخاري والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ، وَلاَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ، مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ التَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّحْمِيدَ» (¬2). وفي هذه الأيام العشر يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم القر، وهي من أعظم الأيام عند الله، روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن قرط: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» (¬3) (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟ » (¬5). فهو يوم المغفرة والعتق، وصومه يكفر سنتين، روى مسلم والترمذي من حديث أبي قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ: إِنِّي أَحْتَسِبُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (969)، وسنن الترمذي برقم (757) واللفظ له. (¬2) (9/ 323 - 324) برقم (5446)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) يوم القر: هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة. (¬4) برقم (1765) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 331) برقم (1552). (¬5) برقم (1348).

عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» (¬1). قال ابن حجر: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة أنها مكان لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة، الصيام، الصدقة، الحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها (¬2)، وقال ابن رجب: لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة، في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في كل عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد (¬3). اهـ. ولا خلاف في تفضيل أيام العشر على بقية أيام السنة، لقوة النصوص في ذلك، والخلاف في الليالي، فقيل إن ليالي رمضان أفضل، وممن رجح ذلك ابن القيم، فقال: وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان، إنما فضلت باعتبار ليلة القدر، وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فضل باعتبار أيامه، إذ فيه يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم التروية (¬4). وينبغي لمن وفقه الله لمعرفة فضل هذه الأيام، وأمد له في عمره، أن يجتهد فيها بكثرة الأعمال الصالحة، فما هي إلا أيام معدودة ثم تنقضي، وكان السلف الصالح يجتهدون فيها، وكان سعيد بن جبير يجتهد فيها اجتهادًا عظيمًا، حتى ما يكاد يقدر عليه. ¬

(¬1) مسلم برقم (1162) والترمذي برقم (749) واللفظ له. (¬2) فتح الباري (2/ 460). (¬3) لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي (ص: 310). (¬4) زاد المعاد (1/ 57) بتصرف.

ومن الأعمال الصالحة في أيام العشر: حج بيت الله الحرام، وهو من أفضل الأعمال والقربات، قال تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]. روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (¬1). وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ، يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ، لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ» (¬2). ومنها: الصيام، قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]. وقال تعالى بعدما ذكر المسارعين إلى الخيرات من الرجال والنساء: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه.

لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» (¬1). ومنها: الصدقة: قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» (¬3). ومنها: ذكر الله. قال تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد: 28]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذكُرُنِي، فَإِن ذَكَرَنِي فِي نَفسِهِ ذَكَرتُهُ فِي نَفسِي، وَإِن ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرتُهُ فِي مَلإٍ هُم خَيرٌ مِنهُم» (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: «ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها، لكفى ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه.

بها فضلاً وشرفًا» (¬1). والذكر عمومًا، والتكبير خصوصًا من شعائر هذه الأيام، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. وتقدم حديث: «فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ التَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّحْمِيدَ»، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا (¬2). وكان السلف يحرصون على إحياء هذه الشعيرة في أيام العشر، وصفة التكبير: «اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ». وغير ذلك من أبواب الخير العظيمة التي فتحها الله لعباده. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 71). (¬2) صحيح البخاري، باب فضل العمل في أيام التشريق.

الكلمة المئة وخمس وأربعون: طلب العلم الشرعي

الكلمة المئة وخمس وأربعون: طلب العلم الشرعي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أفضل العبادات، وأجل الطاعات التي حث عليها الشرع طلب العلم الشرعي، والمقصود بالعلم الشرعي، علم الكتاب والسنة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. روى البخاري ومسلم من حديث معاوية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (¬1). قال بعض أهل العلم: «من لم يفقه في الدين لم يرد به خيرًا»، وروى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ ¬

(¬1) البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).

الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (¬1). قال الأوزاعي: «الناس عندنا هم أهل العلم، ومن سواهم فلا شيء»، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب». قال سفيان الثوري: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم، وقال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران فمر بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أُعطي هذا الرجل من الدنيا، قلت له: نعم، قال: هل أدلك على خلة؟ هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من المال ويحول اليه ما عندك من العلم فتعيش أنت غنياً جاهلاً ويعيش هو عالماً فقيراً؟ فقلت: ما أختار أن يُحَوِّلَ اللهُ ما عندي من العلم إلى ما عنده فالعلم غنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطانٌ بلا رجال، وفي ذلك قيل: العلمُ كَنزٌ وذخرٌ لا نفادَ لهُ ... نِعْم القرينُ إذا ما صَاحبَ صَحبا قد يجمعُ المرءُ مالاً ثُمَّ يُحرَمُهُ ... عما قليلٍ فيَلقَى الذلَّ والحَربَا وجامِعُ العلمِ مغبوطٌ به أبداً ... ولا يحاذرُ منه الفَوتَ والسَلبَا يا جامعَ العلمِ نِعمَ الذُّخرُ تَجمَعُهُ ... لا تَعْدلَنَّ به دُراً ولا ذَهَبَا (¬2) ومن فضائل هذا العلم: أنه يبقى أجره بعد انقطاع أجل صاحبه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) برقم (3641) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 694) برقم (3096). (¬2) جامع الآداب لابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد (1/ 271 - 272).

«إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬1). ومنها: أن أهل العلم هم القائمون بأمر الله حتى تقوم الساعة، روى البخاري ومسلم من حديث معاوية - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَاتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» (¬2)، روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال عن هذه الطائفة: «إن لم يكونوا من أهل الحديث فلا أدري من هم». قال عبد الله بن داود: سمعت سفيان الثوري يقول: إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها ومن أراد الآخرة وجدها ... وكان الشافعي إذا رأى شيخاً سأله عن الحديث والفقه، فإن كان عنده شيء وإلا قال له: لا جزاك الله خيراً عن نفسك ولا عن الإسلام، قد ضيعت نفسك وضيعت الإسلام (¬3). ومنها: أنه طريق عظيم إلى الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» (¬4). ومنها: أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري برقم (3641)، وصحيح مسلم برقم (1037) واللفظ له. (¬3) جامع الآداب لابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد (1/ 271 - 273). (¬4) قطعة من حديث برقم (2699).

أَهْلِ الأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ » (¬1). ومنها: أن الله تعالى يقذف لأهل العلم الربانيين هيبة ومحبة، وتقديرًا في قلوب الناس، فتجد الألسن تتابع في الثناء عليهم، والقلوب تتفق على احترامهم وتقديرهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. ومنها: أن طلب العلم خير للمرء من متاع الدنيا، روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة ابن عامر - رضي الله عنه - قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟ » فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: «أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ» (¬2). ووسائل طلب العلم كثيرة، كحضور الدروس العلمية للعلماء والمشايخ، والمحاضرات العامة، والكلمات في المساجد، وقراءة الكتب النافعة، والاستماع إلى الأشرطة المفيدة، وسؤال أهل العلم عما أشكل، وحفظ كتاب الله فهو رأس العلوم كلها. ولله دَرُّ الشافعي عندما قال: كل العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشغَلَةٌ ... إِلاَّ الحديثَ وعِلمَ الفِقْهِ فِي الدِّين ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3470)، وصحيح مسلم برقم (2766) واللفظ له. (¬2) برقم (803).

العلمُ ما كان فيه قال حدثنا ... وما سِوى ذَاكَ وسْوَاسُ الشَّياطِين وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من علامات الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا» (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من علم لا ينفع، روى النسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الأَرْبَعِ: مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ» (¬2). وروى ابن ماجة من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَلُوا اللهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ» (¬3). ويجب على المسلم أن يطلب العلم الشرعي خالصًا لوجه الله، لا من أجل منصب، أو مال، أو عرض من الدنيا، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عز وجل، لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، يَعْنِي: رِيحَهَا (¬4). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ ¬

(¬1) البخاري برقم (100)، ومسلم برقم (2673). (¬2) برقم (5467) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1125) برقم (5110). (¬3) برقم (3843) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 327) برقم (3100). (¬4) برقم (3664) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 697) برقم (3112).

الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَاسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (79)، وصحيح مسلم برقم (2282).

الكلمة المئة وست وأربعون: معنى لا إله إلا الله

الكلمة المئة وست وأربعون: معنى لا إله إلا الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن كلمة الإخلاص هي كلمة (لا إله إلا الله)؛ لأنها تعني إخلاص العبادة لله تعالى، وإفراده بها؛ لأن معناها: لا معبود حقًا إلا الله، وهي كلمة عظيمة، من أجلها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وفي سبيل تحقيقها أمر الله المؤمنين بالجهاد، وجردت السيوف ورُكبت الجياد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وكان كل رسول أول ما يدعو قومه إليها، فيقول كما قال تعالى: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23]، وقد كان الكفار الذين بعث فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقرون بأنه لا خالق إلا الله، كما قال تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]، غير أن هذا الإقرار لا يكفي في تحقيق التوحيد، إذ لا بد من المعرفة والعلم المستلزم لإفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا ما أراده ربنا عز وجل، إذ يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} [محمد: 19]، ولقد فهم كفار قريش وغيرهم أن هذا هو المعنى الذي تضمنته هذه الكلمة العظيمة، فقالوا: {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، ومن المسلمين من يقول هذه الكلمة، ويصلي ويصوم ويحج ويتصدق ومع ذلك يصرف شيئًا

من أنواع العبادة لغير الله تعالى، كالاستغاثة بالأولياء والصالحين، أو النذر لهم، أو دعائهم من دون الله، فهؤلاء لم يحققوا معنى لا إله إلا الله، وأنه إفراد الله بالعبادة، وصرف جميع أنواعها له، وأن من صرف شيئًا منها لغيره فهو مشرك، وإن قال لا إله إلا الله، وصلى، وصام، وزعم أنه مسلم، فإن العبد لا يكون مسلمًا حقًا، ولا ينجو من الخلود في نار جهنم إلا بالإيمان الخالص الذي لا يخالطه شرك، ولا يناقضه كفر، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، ومن عبد الله، وعبد معه غيره لم تنفعه تلك العبادة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقد ذكر أهل العلم أن معنى لا إله إلا الله يتضمن شروطًا لا يتم إلا بها. وشروط هذه الكلمة ثمانية: أولاً: العلم بمعناها، المراد منها، وما تنفيه، وما تثبته، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19]. روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). وكثير من الناس ينطق بها بلسانه، ولا يعلم شيئًا من معناها، ولهذا يقع في الشرك. ثانيًا: اليقين المنافي للشك بأن يكون قائلها متيقنًا بما تدل عليه، فإذا كان في قلبه شك بما تدل عليه لم تنفعه، قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ ¬

(¬1) برقم (26).

الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لاَ يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ، غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ثالثًا: الإخلاص المنافي للشرك، فلا يقولها رياء ولا سمعة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ» (¬2). رابعًا: الصدق المنافي للكذب، فيقول لا إله إلا الله صادقًا من قلبه، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» (¬3)، فاشترط الصدق في هذا الحديث. خامسًا: المحبة المنافية للبغض، فيحب هذه الكلمة، وما تدل عليه، وأهلها العاملين بمقتضاها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ} [البقرة: 165]. سادسًا: الانقياد لما دلت عليه، المنافي لترك ذلك، فيجب الانقياد لما تدل عليه لا إله إلا الله من الأعمال الظاهرة والباطنة، قال تعالى: ¬

(¬1) برقم (26). (¬2) برقم (6570). (¬3) البخاري برقم (128)، ومسلم برقم (32).

{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، والاستسلام هو الانقياد لأوامر الله. سابعًا: القبول المنافي للرد، فيجب القبول لما اقتضته هذه الكلمة من عبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، فمن قالها، ولم يقبل ذلك ويلتزم به، كان ممن قال فيهم سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]. ثامنًا: الكفر بما يعبد من دون الله من الطواغيت، وإثبات العبادة لله وحده، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى} [البقرة: 256]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ» (¬1). وقد نظم بعضهم فقال: عِلْمٌ، يَقينٌ، وإخلاصٌ، وَصِدْقُكَ مع ... محبةٍ وانقيادٍ والقبولُ لَهَا وزِيدَ ثامِنُهَا الكفرانُ مِنكَ بما ... سِوَى الإِلهِ مِنَ الأندادِ قد أُلِّهَا ومن فضائل هذه الكلمة العظيمة: أولاً: أنه يُفْتَحُ لقائلها أبواب الجنة الثمانية، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ» (¬2). ¬

(¬1) برقم (23). (¬2) صحيح البخاري برقم (3435)، وصحيح مسلم برقم (28) واللفظ له.

ثانيًا: أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم، فإنهم لا بد أن يخرجوا منها، ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَقُولُ الله عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي! لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» (¬1). وروى الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ دَهْرِهِ، أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ» (¬2). ثالثًا: أن من قالها قبل أن يموت، فمات عليها، دخل الجنة، روى أبو داود في سننه من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَانَ آخِرَ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (7510)، ومسلم برقم (192). (¬2) (6/ 274) برقم (6396) وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 1098) برقم (6434). (¬3) سبق تخريجه.

الكلمة المئة وسبع وأربعون: سورة الفلق

الكلمة المئة وسبع وأربعون: سورة الفلق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر، سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَاسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» (¬2). ¬

(¬1) البخاري برقم (5016)، ومسلم برقم (2192). (¬2) برقم (5017).

وروى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}» (¬1). قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ}. أي ألجأ وألوذ وأعتصم برب الفلق، أي الإصباح، ويجوز أن يكون أعم من ذلك؛ لأن الفلق كل ما يفلقه الله تعالى من الإصباح والنوى والحب، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، وقال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96]. قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}. أي: من شر جميع المخلوقات، حتى من شر النفس؛ لأن النفس أمارة بالسوء وفي الحديث: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن شر ما خلق يشمل شياطين الإنس والجن، والهوام، وغير ذلك. قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}: الغاسق، قيل إنه الليل، وقيل إنه القمر، والصحيح أنه عام لهذا وهذا، أما كونه الليل فلأن الله تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. والليل تكثر فيه الهوام والوحوش؛ فلذلك استعاذ من شر الغاسق أي الليل، وأما القمر فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه من حديث عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: «اسْتَعِيذِي بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ» (¬2). ¬

(¬1) برقم (814). (¬2) برقم (3366) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

لأن سلطانه يكون في الليل، وإذا وقب: أي إذا دخل، فالليل إذا دخل بظلامه غاسق، وكذلك القمر إذا أضاء بنوره فإنه غاسق، ولا يكون ذلك إلا بالليل. قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ}: هن الساحرات، يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد، ثم تنفث، ثم تعقد ثم تنفث، وهي بنفسها الخبيثة تريد شخصًا معينًا، فيؤثر هذا السحر بالنسبة للمسحور، وذكر الله النفاثات دون النفاثين لأن الغالب أن الذي يستعمل هذا النوع من السحر هن النساء، فلهذا قال: {النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ}، ويحتمل أن يقال: إن النفاثات يعني الأنفس النفاثات، فيشمل الرجال والنساء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: (لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ)، قَالَتْ: حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ، وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، دَعَا ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ جَاءَنِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَاسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَاسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ، أَوِ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَاسِي: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ (¬1)، قَالَ: لَبِيدُ ابْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ (¬2)، قَالَ: ¬

(¬1) أي: سحره. (¬2) قوله: مشط ومشاطة: قال ابن حجر: أما المشط فهو بضم الميم، ويجوز كسرها، أثبته أبو عبيدة، وأنكره أبو زيد، وبالسكون فيها، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط، وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية. فتح الباري (10/ 229) ..

وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ (¬1)، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ»، قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، وَاللهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلاَ أَحْرَقْتَهُ؟ قَالَ: «لاَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ» (¬2). وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}: الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، فتجده يضيق ذرعًا إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال أو جاه أو علم أو غير ذلك، فيحسده. والحساد نوعان: نوع يحسده ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، تجده مهمومًا مغمومًا من نعم الله على غيره، والشر والبلاء إنما هو بالحاسد إذا حسد، ولهذا قال {إِذَا حَسَدَ}، ومن حسد الحاسد العين التي تصيب المعان؛ لأنها لا تصدر غالبًا إلا من حاسد شرير الطبع، خبيث النفس، والعين كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العَينُ حَقٌّ، وَلَو كَانَ شَيءٌ سَابِقٌ القَدَرَ سَبَقَتهُ العَينُ» (¬3). وروى ابن عدي في الكامل من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ العَينَ لَتُدخِلُ الرَّجُلَ القَبرَ، وَالجَمَلَ القِدْرَ» (¬4). ¬

(¬1) قوله: جف طلعة ذكر: وهو الغشاء الذي يكون على الطلع، ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر في قوله: طلعة ذكر، وهو بالإضافة. أهـ. فتح الباري (10/ 229). (¬2) صحيح البخاري برقم (3268)، وصحيح مسلم برقم (2189) واللفظ له. (¬3) برقم (2188). (¬4) الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 408)، وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: حديث حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير برقم (4144).

قال المناوي: أي تقتله فيدفن في القبر، وتدخل الجمل القدر، أي إذا أصابته، أو أشرف على الموت ذبحه مالكه، وطبخه في القدر، وهذا يعني أن العين داء، والداء يقتل، فينبغي للعائن أن يبادر إلى معالجته بالبركة، فتكون رقية منه (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ (¬2). وذكر الله عز وجل الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد؛ لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفيًا، وعلى المؤمن أن يعلق قلبه بربه، ويفوض أمره إليه، ويحقق التوكل عليه، ويستعمل الأوراد الشرعية التي بها يحصن نفسه ويحفظها من شر هؤلاء السحرة والحساد، وغيرهم (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فيض القدير (4/ 397). (¬2) برقم (2186). (¬3) انظر: تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص: 352 - 354).

الكلمة المئة وثمان وأربعون: آداب الطعام

الكلمة المئة وثمان وأربعون: آداب الطعام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أسرار عظمة هذا الدين أنه ما ترك جانبًا من جوانب الحياة إلا وتناوله بالبيان والإيضاح، ومن هذه الجوانب التي تناولها هذا الدين آداب الطعام، ومن تلك الآداب: أولاً: التسمية قبل البدء بالطعام أو الشراب، روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» (¬1). وإذا نسي أن يسمي عند أول الطعام فليسم إذا ذكر، روى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَاماً فَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» (¬2). ثانيًا: الأكل والشرب باليمين، فلا يجوز للمسلم أن يأكل أو يشرب بشماله، روى مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع، أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، فَقَالَ: لاَ أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لاَ اسْتَطَعْتَ»، مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا ¬

(¬1) البخاري برقم (5376)، ومسلم برقم (2022). (¬2) برقم (1858) وقال: حديث حسن صحيح.

رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَاكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَاكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» (¬2). ثالثًا: الأكل بثلاثة أصابع، روى مسلم في صحيحه من حديث كعب بن مالك أنه حدثهم: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَاكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا» (¬3). رابعًا: لعق الأصابع وصحفة الطعام، فإذا أكل الإنسان الطعام، وبقي شيء يسير منه، لا يضره تناوله، أو بقي أثر للطعام في الصحفة، فالسنة أن يلعقها، لأن الإنسان لا يدري أين البركة، وكذلك السنة لعق الأصابع، روى مسلم في صحيحه من حديث كعب بن مالك قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَاكُلُ بِثَلاَثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا» (¬4)، وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: «إِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ؟ » (¬5). خامسًا: أكل ما تناثر من الطعام: روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَاخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَاكُلْهَا، وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلاَ يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» (¬6). ¬

(¬1) برقم (2021). (¬2) برقم (2020). (¬3) برقم (2032). (¬4) برقم (2032). (¬5) برقم (2033). (¬6) برقم (2033).

سادسًا: الأكل مع الغير مِنْ زوجة، أو أولاد أو ضيف غيرهم: روى أبو داود في سننه من حديث وحشي بن حرب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه -: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَاكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ، قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟ » قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» (¬1). سابعًا: النهي عن التنفس في الإناء: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» (¬2). ومثله النفخ في الطعام والشراب، روى أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ، أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ (¬3). ثامنًا: النهي عن الأكل من أعلى الصحفة، أو أوسطها: وينقسم إلى قسمين: الأول: أن يكون الطعام واحد بمعنى أن الذي في الصحفة طعام من نوع واحد، فالسنة أن يأكل مما يليه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: «وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» (¬4)، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ، وَلاَ تَاكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (¬5). الثاني: أن يكون الطعام أنواعًا، فلا بأس بالأكل من أعلى الصحفة، ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) برقم (153). (¬3) برقم (3728) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 710) برقم (3171). (¬4) صحيح البخاري برقم (5376)، وصحيح مسلم برقم (2022). (¬5) برقم (1805) وقال: حديث حسن صحيح.

وجوانبها، ويدل لذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَىِ الصَّحْفَةِ» (¬1). تاسعًا: النهي عن الشرب قائمًا: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» (¬2). عاشرًا: الاقتصاد في أكل الطعام: روى الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (¬3). فائدة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَافَهُ ضَيْفٌ وَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ، فَشَرِبَ حِلاَبَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَهُ، حَتَّى شَرِبَ حِلاَبَ سَبْعَ شِيَاةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلاَبَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةٍ أَمْعَاءٍ» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (2092)، ومسلم برقم (2041). (¬2) برقم (2026). (¬3) برقم (2380)، وقال حديث حسن صحيح. (¬4) برقم (2063) ومختصراً برقم (2062).

الكلمة المئة وتسع وأربعون: وقفة مع قوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}

الكلمة المئة وتسع وأربعون: وقفة مع قوله تعالى {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي في جهاد أعداء الدين، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله {أَمْوَاتًا} أي لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفُقدوا، وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا، والتمتع بزهرتها الذي يحذر من فواتها، من جبن عن القتال، وزهد في الشهادة، بل قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون، فهم أحياء عند ربهم في دار كرامته، ويرزقون بأنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه إلا من أنعم به عليهم. اهـ (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي (ص: 156 - 157).

رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ... [آل عمران: 169]؟ قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَاوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ! نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا، حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ، تُرِكُوا» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، غَيْرُ الشَّهِيدِ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» (¬2). قوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170]، أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله، أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم. ففي الصحيحين من حديث أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) برقم (1887). (¬2) صحيح البخاري برقم (2817)، وصحيح مسلم برقم (1877) واللفظ له.

يدعو على الذين قتلوهم، قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَانَا فِيهِمْ قُرْآنًا، ثُمِّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ، «بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا، أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا، وَأَرْضَانَا» (¬1). قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171]، أي يهنئ بعضهم بعضًا بأعظم شيء، وهو نعمة ربهم وفضله وإحسانه، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، بل ينميه ويشكره، ويزيده من فضله، مالا يصل إليه سعيهم. ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: إثبات نعيم البرزخ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ (¬2) نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (¬3). قال ابن كثير: وكأن الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم، وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكل مؤمن، بأن روحه تكون في الجنة، تسرح أيضًا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، فإن الإمام أحمد رواه عن محمد بن إدريس الشافعي، ورواه الشافعي عن ¬

(¬1) البخاري برقم (4090)، ومسلم برقم (677). (¬2) بارق: أي على جانب نهر، الفتح الرباني للبنا رحمه الله (13/ 28). (¬3) (4/ 220) برقم (2390) وقال محققوه: إسناده صحيح، قال ابن كثير في تفسيره (3/ 262): وهو إسناد جيد.

مالك بن أنس، ومالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» (¬1). وفي هذا الحديث أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان (¬2). ثانياً: الترغيب في الجهاد، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (¬3). ثالثاً: فضل الجهاد ومكانته العظيمة، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ قَالَ: فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» (¬4). رابعاً: أن فيها تسلية للأحياء عن قتلاهم، وتعزيتهم، وتنشيطهم للقتال في سبيل الله، والتعرض للشهادة، روى البخاري في صحيحه: أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ بِنْتَ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَلاَ تُحَدِّثُنِي ¬

(¬1) (25/ 57 - 58) برقم (15778) وقال محققوه: إسناده صحيح، من فوق الإمام الشافعي على شرط الشيخين. (¬2) تفسير ابن كثير (3/ 263). (¬3) برقم (1909). (¬4) برقم (2790).

عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ - أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ (¬1) - فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى» (¬2). خامساً: أن هذا الفضل الوارد في الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة لا يكون إلا لمن قاتل لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬3). أما من قاتل تحت راية عمية ينصر قومية، أو وطنية، أو حرية، أو غيرها من الشعارات الزائفة فهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ (¬4)، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» (¬5). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) أي: طائش لا يعرف من رماه. (¬2) برقم (2809). (¬3) البخاري برقم (2810)، ومسلم برقم (1904). (¬4) عمية: قال القاضي عياض: يقال بكسر العين وبضمها، وكسر الميم وتشديدها وتشديد الياء، قال الإمام: قيل الأمر الأعمى كالعصبية، لا يستبين ما وجهه، قاله أحمد بن حنبل، وقال إسحاق: هذا في تجارح القوم وقتل بعضهم بعضاً وكأنه من التعمية وهو التلبيس، وفي حديث ابن الزبير: يموت ميتة عمية، أي: ميتة فتنة وجهل. المصدر: إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (6/ 263). (¬5) برقم (1850).

الكلمة المئة وخمسون: سورة الفاتحة

الكلمة المئة وخمسون: سورة الفاتحة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من سور القرآن العظيم التي نقرؤها في كل صلاة فرضًا ونفلاً: سورة الفاتحة، وهي أعظم سور القرآن، روى البخاري في صحيحه من حديث أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟ ثُمَّ قَالَ لِي: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي أُوتِيتُهُ» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ، وَلاَ فِي الزَّبُورِ، وَلاَ فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ¬

(¬1) برقم (4474).

الَّذِي أُعْطِيتُهُ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَاسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلاَّ الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أُعْطِيتَهُ (¬2). قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ} الحمد هو الثناء، على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل بجميع الوجوه. و{رَبِّ العَالَمِينَ} الرب هو المتولي جميع العالمين، وهو الذي أوجد الخلق من العدم، وأنعم عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة فمنه تعالى، قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]. والرب هو المالك المتصرف، ويُطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، ولا يستعمل الرب لغير الله إلا بالإضافة، تقول: رب الدار، ولا تقول الرب على غير الله. قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها الله للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن ¬

(¬1) برقم (2875) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) برقم (806).

عداهم فلهم نصيب منها، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» (¬1). قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، أي: هو المتصرف في ذلك اليوم، وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، فهو مالك الدنيا والآخرة، وإنما أضيف الملك إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئًا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ} [الإنفطار: 17 - 19]. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غافر: 15 - 16]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا» (¬2). قال ابن عباس: «لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكمًا كملكهم في الدنيا، قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة، ¬

(¬1) برقم (2755). (¬2) البخاري برقم (2753)، ومسلم برقم (204).

يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه»، وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين. قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالعبادة كمال المحبة، وكمال الخضوع، والخوف والذل، وقدم المفعول - وهو إياك - وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، ولذلك قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فالأول التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة. بل إن الصلاة لا تصح لمن لم يقرأ بهذه السورة، روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (¬1). قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله بعد الفتح بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]. والهداية ههنا التوفيق والإرشاد، فليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع، والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله. و {الصِّرَاطَ} هو الطريق الواضح والمستقيم الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ¬

(¬1) البخاري برقم (756)، ومسلم برقم (394).

فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. وأنت دائمًا في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم، وعليك من الفرائض أن تصدق الله أن طريقه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج، وهذه أول الواجبات من هذه الآية، واعتقاد ذلك بالقلب، وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملاً وتركه مفصلاً، فإن أكثر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]. وأما قوله: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى، وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فيا سبحان الله، كيف يعلمه الله، ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائمًا، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله، هذا من ظن السوء بالله (¬1). ويستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، ومعناها: اللهم استجب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَامِينُهُ ¬

(¬1) انظر: رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة (ص: 18 - 27).

تَأمِينَ الْمَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬1). اللهم اجعل هذا القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، واجعله شافعًا وحجة لنا يوم القيامة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البخاري برقم (780)، ومسلم برقم (410).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين: أما بعد: فقد اطّلعت على الكتاب الموسوم بـ «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة: دروس يومية» إعداد الشيخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. والشيخ أمين معروف لديّ وهو من الدعاة المعروفين بالعلم والبصيرة، وقد سمعتُ عدداً من كلماته التي يلقيها في المساجد. ولما تصفّحتُ الكتاب وجدتُه منوعاً يشمل موضوعات متعددة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه، وفي العلم، والوصايا، والأدعية والأذكار، وآداب الطعام، والمحرمات، وصيانة الأعراض واللباس، والمواعظ والرقائق والفضائل والأخلاق، وقضايا اجتماعية كقضية المرأة وغيرها وتوجيهات عامة وغيرها. ولا شكّ أن هذه الموضوعات شاملة لقضايا متعددة من أمور الدين، الناس بحاجة إليها، فهذه الكلمات مفيدة لعامة الناس، وهي مفيدة للدعاة والخطباء وأئمة المساجد يقرؤونها على الناس دروساً يومية.

مقدمات

وإنني أوصي عموم المسلمين بقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وأوصي أيضاً أئمة المساجد والخطباء والدعاة بالاستفادة من هذا الكتاب على شكل دروس يومية تقرأ على المصلين. والمؤلف - وفقه اللَّه - بذل جهده في اختيار الموضوعات المهمة، ودعمها بالأدلة من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأقوال الصحابة والتابعين وأهل العلم المعتبرين، ورجع إلى كتب التفسير وكتب الفقه وكتب الحديث وكتب التاريخ والسِّير، فجاء هذا الكتاب - بحمد اللَّه - وافياً بالغرض نافعاً يجد فيه الباحث بغيته. وأسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب وبكلمات الشيخ أمين التي يلقيها في المساجد، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين، وأن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه جواد كريم. وصلى اللَّه وبارك على عبد اللَّه ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين. كتبه عبد العزيز بن عبد الله الراجحي 12/ 4 / 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ ناصر بن سليمان العمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المكرم الأخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي - وفقه اللَّه -: سلام اللَّه عليكم ورحمته وبركاته. وبعد: أشكركم على هديتكم كتاب (الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة) وقد تصفحت سفركم الجميل وألفيته من الكتب النافعة في بابه ومناسباً في وقتنا هذا لما اشتمل عليه من موضوعات تهم العامة والخاصة، وتقرب كثيراً من المعاني إلى الأفهام وتصلح حال كثير من الناس بأسلوب لطيف وتأصيل شرعي مستمد من الكتاب والسنة وأقوال السلف. وفقكم اللَّه وجعلكم مباركين أينما كنتم. ونفع بعلمكم ورزقنا وإياكم حسن القصد والعمل. كتبه ناصر بن سليمان العمر الاثنين 12 ربيع الأول 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ سعد بن عبد الله الحميد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد اطلعت على كتاب «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» الذي ألفه أخونا الشيخ أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية - وفقه اللَّه -، فوجدته كتاباً نافعاً مناسباً لعموم المسلمين، وبخاصة الدعاة والخطباء وأئمة المساجد، فقد ضمَّنه مؤلفه مئة درس في موضوعات متعددة في العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والقضايا الاجتماعية والأسرية، وما يخص المرأة، وبعض القضايا المعاصرة، كما حرص المؤلف على تجنب الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما أمكن، فنسأل اللَّه تعالى أن يجزل له المثوبة، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد. كتبه سعد بن عبد الله الحميد 7 ربيع الأول 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد استمعت إلى بعض الكلمات والدروس التي كان يلقيها الشيخ: أمين بن عبد اللَّه الشقاوي، وكانت هذه الدروس والكلمات مفيدة وقيِّمة، فهي جامعة ومختصرة مع الاعتناء بالأدلة من الكتاب والسنة، والنقل عن أهل العلم. وقد قام - وفقه اللَّه - بجمع هذه الكلمات والدروس في كتاب أسماه: (الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة)، وهي شاملة لكثير من قضايا الشريعة من: التوحيد، والعقيدة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتفسير، والحديث، وغير ذلك من القضايا والمسائل. فبارك اللَّه فيه ونفع به الإسلام والمسلمين. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون (102)} [آل عمران]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب]. فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فهذا هو المجلد الثاني من كتاب الدرر المنتقاة يشتمل على

الجزءين الرابع والخامس، حيث يحتوي كل جزء على خمسين كلمة وهو كسابقه قد التزمت ألا أورد فيه من الأحاديث إلا ما صحح فليطمئن قراء كتابي الأعزاء إلى ذلك، مع أني قد يسرت للقارئ الكريم الوصول إلى مصادر الكتب إذا أحب الرجوع إليها. وقد حرصت على ذكر بعض الموضوعات التي حدثت خلال السنوات الأخيرة، وقد قمت بضبط الأحاديث، وبعض الكلمات بالشكل ليتمكن القراء من القراءة الصحيحة، تلبية لطلبات قراء الكتاب. وأسأل اللَّه تعالى أن ينفع بهذا الكتاب جامعه وقارئه وناشره وسامعه، وأن يجزي كل من أعاننا على إخراجه خير الجزاء، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يقبله إنه جواد كريم. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تنويه: جاء في المجلد السابق في بعض المواضع عند ذكر علي وفاطمة قول: «عليه السَّلام» والذي عليه عمل السلف الترضي عن أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهل البيت وغيرهم، وقد أدخلت هذه الكلمة بغير علمي حيث إن الكتاب طبع خارج المملكة ولم يُتنبه لها إلا بعد الطبع. المؤلف الرياض 1/ 6 / 1430 هـ

الكلمة الأولى: فوائد من قوله تعالى: {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه}

الكلمة الأولى: فوائد من قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص: ]. وعملاً بهذه الآية الكريمة: لنستمع إلى آية من كتاب اللَّه، ونتدبر ما فيها من العظات والعِبر، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون (38)} [الأنعام]. قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}. قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تُعْرَفُ بأسمائها، وقال قتادة: الطير أمة والإنس أمة، والجن أمة، وقال السدي: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} أي خلق أمثالكم (¬1). قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} أي الجميع علمهم عند اللَّه، لا ينسى واحدًا من جميعهم من رزقه وتدبيره، سواء كان ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (6/ 31).

بريًّا أو بحريًّا، كقوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (6)} [هود]، أي: مُفصِح بأسمائها وأعدادها ومظانِّها، وحاصر لحركاتها وسكناتها، قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (60)} (¬1) [العنكبوت]، أي: لا تطيق جمعه وتحصيله، ولا تدَّخر شيئًا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}، أي: اللَّه يُقَيِّض لها رزقها على ضعفها، وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه، حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء (¬2). قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون}: روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس رضي اللهُ عنهما أنه قال: «حشرها: الموت». القول الثاني: إن حشرها هو بعثها يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت (5)} [التكوير] روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ»، قَالَ: لَا، قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» (¬3). وروى عبد الرزاق بسنده إلى أبي هريرة رضي اللهُ عنه أنه قال في قوله تعالى: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون}، قال: يحشر اللَّه الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (6/ 31). (¬2) تفسير ابن كثير (10/ 526). (¬3) (35/ 345) برقم 21438، وقال محققوه: حديث حسن.

وكل شيء فيبلغ من عدل اللَّه يومئذ؛ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء، قال: ثم يقول: «كوني ترابًا، فلذلك يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ]» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أنه قال: «لَقَد تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ، إِلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنهُ عِلمًا» (¬2). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: عدل اللَّه التام بين البهائم والطيور وسائر المخلوقات، وهذا العدل دقيق جدًّا حتى في مثقال الذرة الذي يحتقره الناس، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء]، وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» (¬3). ثانيًا: إن اللَّه قد تكفل برزق جميع الدواب والطيور والأسماك ¬

(¬1) تفسير عبد الرزاق (2/ 206). (¬2) (35/ 346) برقم 21439، وقال محققوه: حديث حسن. (¬3) ص: 104، حديث رقم 2582.

وسائر المخلوقات، من كان منها في الأرض أو الجو أو البحار والأنهار، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (6)} [هود]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (60)} [العنكبوت]. قال حاتم بن الأصم: وَكَيْفَ أَخَافُ الفقرَ واللَّهُ رازِقِي ... ورازقُ هذا الخلقِ في العسرِ واليسرِ تَكَفَّل بالأرزاقِ للخلقِ كلهم ... وللضبِ في البيداءِ والحوتِ في البحرِ ثالثًا: أنه يجب على المؤمن أن يتوكل على اللَّه الرزاق الذي رزق جميع المخلوقات فإن رزقه سبحانه لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار (¬1)، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون (22)} [الذاريات]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ: لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» (¬2). رابعًا: عِلْمُ اللَّه التام الشامل فلا يغيب عنه شيء، صغيرًا كان أو ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 526). (¬2) (1/ 332) برقم 205، وقال محققوه: إسناده قوي.

كبيرًا، ولا ينسى أحدًا من خلقه، سواء كان إنسانًا أو دابة أو طيرًا، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم]، وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (61)} [يونس]. خامسًا: إن المؤمن إذا استشعر عظمة اللَّه وقدرته وإحاطته بكل شيء، حاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة، وأبرأ ذمته من حقوق العباد. قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. سادسًا: إثبات الحشر لجميع المخلوقات حتى الدواب والطيور بنص الآية، والحديث. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية: الذلة وأسبابها

الكلمة الثانية: الذلة وأسبابها الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال أمير المؤمنين عمر رضي اللهُ عنه: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا اللَّه بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا اللَّه به أذلنا اللَّه» (¬1). قال الراغب: «الذل متى كان من جهة الإنسان نفسه لنفسه فمحمود، نحو قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: (54)]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (123)} [آل عمران] (¬2) اهـ، وفيما عدا ذلك يكون مذمومًا؛ لأن العزة للَّه ولرسوله وللمؤمنين». ومن أسباب الذل الذي جعله اللَّه عقوبة لمن عصاه، وخالف أمره وأمر رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أن من كفر به وحارب أولياءه أذلَّه اللَّه، قال تعالى عن اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ ¬

(¬1) جزء من حديث في مستدرك الحاكم (1/ 236 - 237)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه: سنده صحيح. (¬2) المفردات ص: 181.

مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون (112)} [آل عمران]. قال ابن جرير: يقول جل ثناؤه: أُلزم اليهود المكذبون بمحمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها من بلاد المسلمين والمشركين {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} أي: السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده، قبل أن يُثْقَفُوا في بلاد الإسلام (¬1). وأخبر جل وعلا أنه كتب الذل والصَّغار عليهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِين (152)} [الأعراف]. وقال تعالى عن أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون (29)} [التوبة]. قال ابن كثير: «أي أذلاء حقيرون مهانون» (¬2). ومن أسباب الذل والهوان: التكبر على أوامر اللَّه والاحتقار لعباد اللَّه: روى الترمذي في ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (3/ 1921). (¬2) تفسير ابن كثير (7/ 176).

سننه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ» (¬1). ومنها ترك الجهاد في سبيل اللَّه والاشتغال بالدنيا: روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬2). ومنها النفاق: قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون (8)} [المنافقون]، وكما أن الذل عقوبة في الدنيا، فهو كذلك عقوبة في الآخرة، قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. وبالجملة فكل من عصى اللَّه، وخالف أمر رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصابه الذل والصغار بقدر معصيته، كما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» (¬3). ¬

(¬1) ص: 406 برقم 2492، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) ص: 386 برقم 3462، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (1/ 42) برقم 11. (¬3) جزء من حديث في مسند الإمام أحمد (2/ 92)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 545 - 546) رقم 2831.

قال ابن المبارك: رأيتُ الذنوبَ تُميتُ القلوبَ ... وقد يُورثُ الذُّلَّ إدمانُها وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ ... وخيرٌ لنفسِكَ عصيانُهَا وأهل المعصية يجدون الذل في قلوبهم، وإن حاولوا إخفاءه. قال الحسن البصري رحمه الله: «إنهم وإن طقطقت بهم البغال (¬1)، وهملجت (¬2) بهم البراذين (¬3)؛ إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى اللَّه إلا أن يذل من عصاه» (¬4)، كما قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (18)} [الحج]. وقد علَّمنا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نستعيذ باللَّه من الذل، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ» (¬5). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَمِنْ ضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (¬6). والعزة لمن أطاع اللَّه، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ¬

(¬1) طقطقت البغال: صوتت حوافرها. (¬2) هملجت: أي مشت مشياً سهلاً. (¬3) البرذون: الفرس غير الأصيل. (¬4) الجواب الكافي، ص: 53. (¬5) ص: 183 برقم 1544، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 287) برقم 1366. (¬6) ص: 556 برقم 2893، وصحيح مسلم ص: 1085 برقم 1365.

جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (26)} [آل عمران]، أي: تعز من تشاء بطاعتك، وتذل من تشاء بمعصيتك، كما قال المفسرون. والمؤمن هو العزيز وإن قل ماله أو جاهه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وكان من دعاء السلف: «اللَّهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك» (¬1). والمؤمنون أعزة وإن قلُّوا، واللَّه ناصرهم إذا صدقوا في إيمانهم وطاعة ربهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (123)} [آل عمران]. وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال للأنصار: «أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ؟ ! » (¬2). والذل له عدة معان: التواضع: قال تعالى: {فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]، وقال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]. ¬

(¬1) الجواب الكافي، ص: 53. (¬2) مسند الإمام أحمد (18/ 105) برقم 11547 وقال محققوه: إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين.

القلة: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. السهولة: قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14)} [الإنسان]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لا بد من أذى لكل من كان في الدنيا، فإن لم يصبر على الأذى في طاعة اللَّه بل اختار المعصية، كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير، قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]؛ ومن احتمل الهوان والأذى في طاعة اللَّه على الكرامة والعز في معصية اللَّه، كما فعل يوسف عليه السَّلام وغيره من الأنبياء عليهم السَّلام والصالحين، كانت العاقبة له في الدنيا والآخرة» وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيماً وسروراً، كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزناً وثبوراً. فيوسف صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاف اللَّه من الذنوب، ولم يخف من أذى الخلق وحبسهم إذا أطاع اللَّه بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة، وأكرمته المرأة بالمال والرياسة وزوجها في طاعتها، فاختار يوسف الذل والحبس، وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية (¬1)، قال وهب بن منبه: لما مر يوسف على ¬

(¬1) الفتاوى (15/ 132).

امرأة العزيز بعدما أصبح عزيز مصر قالت: الحمد للَّه الذي جعل العبيد ملوكًا بطاعته، والملوك عبيدًا بمعصيته (¬1). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن المستقبل لهذا الدين، وأن اللَّه سيوصله إلى الناس كافة، ولو كره الكافرون. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث تميم الداري رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، وَبِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ». وكان تميم الداري رضي اللهُ عنه يقول: «قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية» (¬2). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (11/ 382). (¬2) مسند الإمام أحمد (28/ 154) برقم 16957 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط مسلم.

الكلمة الثالثة: العقوبات الإلهية وأسباب رفعها

الكلمة الثالثة: العقوبات الإلهية وأسباب رفعها الحمدُ للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمما ابتليت به مجتمعات المسلمين في هذه الأزمان كثرة المعاصي والذنوب، وانتشار المنكرات على اختلاف أنواعها وهذا نذير شر وهلاك للأمة، وقد تُبتلى بعقوبات في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى عن الأمم السابقة: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (40)} [العنكبوت]، روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا

الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا» (¬1). فبيَّن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضًا من العقوبات التي تصاب بها أمته في آخر الزمان، إذا وقعوا في المحرمات وجاهروا بها. والذي يتأمل في أحوال الناس في هذه الأيام يجد أن العقوبات قد حصلت بالفعل، فما النكبات المالية التي وقعت وتقع على الدول والأفراد، وانتشار الأمراض الخطيرة في الإنسان والحيوان، وغلاء الأسعار، ونزع البركات، وقلة الأمطار والجو الخانق والغبار، والزلازل، والبراكين، والآثار الناتجة عن إشعال الحروب والفتن هنا وهناك، إلا دليل واضح وبرهان ساطع لمن تدبر وعقل، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير (30)} [الشورى]، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون (41)} [الروم]، فإن سألت عن الدواء النافع والعلاج الناجع، فإليك بعضًا مما دل عليه القرآن والسنة: من الأسباب الواقية من هذه الشرور. أولاً: الإقلاع عن المعاصي والتوبة الصادقة إلى اللَّه، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (96)} [الأعراف]. ¬

(¬1) ص: 432 برقم (4019)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 370) برقم 3246.

قال بعض السلف: «لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طريقها بالمعاصي». قال الشاعر: نحنُ ندعُو الإلَهَ فيِ كلِّ كربٍ ... ثمَّ ننساهُ عِنْدَ كَشْفِ الكروبِ كيفَ نرجُو إجابةً لدعاءٍ ... قدْ سدَدْنَا طريقَهَا بالذنوبِ قال علي رضي اللهُ عنه: «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة». وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (31)} [النور: 31]. قال أبو العتاهية: لَهَوْنا لعمرُ اللَّهِ حتى تتابَعتْ ... ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ فيا ليتَ أن اللَّهَ يغفرُ ما مضَى ... ويَأذَنُ في توباتِنَا فنتوبُ ثانيًا: كثرة الاستغفار فهو سبب للإمداد بالأمطار والأموال والبنين ورغد العيش، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح]. قال الفضيل بن عياض: «استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين». روى مسلم في صحيحه من حديث الأغر المزني رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ» (¬1)، ¬

(¬1) ص: 1083، برقم (2702).

فإذا كان هذا حال سيد الأولين والآخرين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين؟ ! ثالثًا: البعد عن المال الحرام، ومن أعظمه: الربا الحرام الذي هو حرب على اللَّه ورسوله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون (279)} [البقرة]. وللأسف: إن كثيرًا من الناس يُودِعون أموالهم في هذه البنوك، ويأخذون عليها ربا يسمونه فوائد، أو يقترضون بزيادة ربوية، أو يشترون ويبيعون بأسهم البنوك الربوية. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم (51)} [المؤمنون]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]؛ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ! » (¬1). فبيَّن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أكل المال الحرام مانع من قبول الدعاء. ¬

(¬1) ص: 391، برقم (1015).

رابعًا: الابتعاد عن الشبهات ومنها الأسهم التي تهافت الناس عليها، وهي أشبه ما تكون بالقمار، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ: أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟ » (¬1). قال ابن المبارك: «لأن أرد درهمًا واحدًا من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بمئة ألف، وقال عمر: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام» قال بعض أهل العلم: إذا اشتبه عليك شيء هل هو من الحلال أو من الحرام فانظر إلى ثمرته ونتيجته، فإن الخير يأتي بالخير والشر لا ينتج عنه إلا شرًّا. قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «استَفْتِ نَفْسَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ المُفْتُونَ» (¬2). خامسًا: إخراج الزكاة في وقتها، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (¬3). وما أكثر الذين يمتنعون عن الزكاة أو يتحايلون على عدم إخراجها، وقد جاء في الحديث السابق ذكره قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَلَمْ ¬

(¬1) ص: 393، برقم (2083). (¬2) البخاري في التاريخ (1/ 144 - 145) من حديث وابصة، وحسنه الشيخ الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (1/ 224) برقم 948. (¬3) صحيح البخاري ص: 25 برقم 8، وصحيح مسلم ص: 40 برقم 16.

يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا» (¬1). قال الشاعر: وأحسبُ الناسَ لو أَعْطَوا زكاتَهمُ ... لَمَا رأيتَ بَني الإعدامِ شاكينا وكذلك الصدقة والإنفاق على الفقراء والمساكين والأقارب والمحتاجين، فإن اللَّه يدفع بذلك شرورًا عظيمة، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا تُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» (¬2). سادسًا: إخراج القنوات الفضائية السَّيِّئة التي تنشر الرذائل وتدعو إليها وتحارب الفضائل وتقلل من شأنها فكم هُتِكَتْ من أعراض، وكم ضُيِّعَتْ من صلوات بأسبابها؟ ! قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬3). وهذه الرعاية تشتمل الرعاية الكبرى والرعاية الصغرى، وتشمل رعاية الرجل في أهله؛ يقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (¬4)؛ وعلى هذا فمن مات وقد خلف في بيته شيئًا من صحون الاستقبال، «فإنه قد مات وهو غاش ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) جزء من حديث في سنن الترمذي ص: 425، برقم 2616، قال الترمذي عنه: حديث حسن صحيح. (¬3) صحيح البخاري ص: 1364، برقم 715، وصحيح مسلم ص: 81، برقم 142، واللفظ له. (¬4) صحيح البخاري ص: 179، برقم 893، وصحيح مسلم ص: 763، برقم 1829.

لرعيته وسوف يحرم من الجنة، كما جاء في الحديث، ولهذا نقول: إن أي معصية تترتب على هذا (الدش) الذي ركبه الإنسان قبل موته، فإن عليه وزرها بعد موته، وإن طال الزمان وكثرت المعاصي» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) خطبة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بتاريخ 25/ 3 / 1417 هـ.

الكلمة الرابعة: أخطاء في الصلاة

الكلمة الرابعة: أخطاء في الصلاة (2) الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الصلاة عماد الدين والركن الثاني من أركانه، وهي أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة، ولذلك وجب على المسلم أن يحرص على أدائها: كما أمره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، وبيَّن صفتها لأمته. روى البخاري في صحيحه من حديث مالك بن الحويرث رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). وروى الطبراني في الأوسط من حديث عبد اللَّه بن قرط رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِن صَلَحَت صَلَحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِن فَسَدَت فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬2). وهناك أخطاء يقع فيها بعض المصلين: أحببت التذكير بها أداءً لحق اللَّه تعالى، وقيامًا بواجب النصيحة؛ فمن ذلك: أولاً: الصلاة بالثياب الضيقة أو البنطال الضيق، قال بعض أهل العلم: والمحذور في ذلك أن اللباس الضيق يجسِّم العورة، وهذا ¬

(¬1) ص: 137، برقم 631. (¬2) (2/ 240) برقم 1859، وصححه الشيخ الألباني في «الصحيحة» برقم 1358.

على العموم منهي عنه، فكيف إذا كان في الصلاة? ! قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. ثانيًا: الصلاة في الثياب الشفافة: فكما يحرم الصلاة في اللباس الضيق لأنه يجسِّم العورة ويصف شكلها وحجمها، فكذلك تَحْرُمُ الصلاة في الثياب الرقيقة التي تشفُّ عما وراءها من البدن. قال الفقهاء في شروط صحة الصلاة: مبحث ستر العورة، ويشترط في الساتر: أن يكون كثيفًا، فلا يجزئ الساتر الرقيق (¬1). وهذا يحدث في الصيف: نجد أن بعض الناس يلبس الثياب الشفافة مع السراويل القصيرة، ثم يصلي فيها. ثالثًا: الصلاة في ملابس النوم أو (البيجامات) أو ملابس العمل، وقد تكون متسخة وبها روائح كريهة تؤذي المصلين، والسبب يعود إلى الكسل: فيتكاسل عن تغييرها؛ بينما لو أراد أن يزور مسؤولاً أو رجلاً له مكانته، لاستعدَّ لذلك؛ فربُّ العالمين أولى بالتجمُّل، قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب (32)} [الحج]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. رابعًا: الإسبال في الصلاة ويشمل الثوب و «البشت» والبنطال، والإسبال منهي عنه على وجه العموم، لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، قال: ¬

(¬1) انظر: المغني (2/ 286 - 287).

فقرأها رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول اللَّه؟ قال: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ» (¬2). فإذا كان هذا الوعيد الشديد لعموم المسبلين، ففي الصلاة أشد وأعظم؛ فقد روى أبو داود في سننه من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ فِي صَلَاتِهِ خُيَلَاءَ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ» (¬3). خامسًا: المواظبة على صلاة النافلة في المسجد وهذا خلاف السنة، والمستحب أن تكون صلاة النافلة في البيت؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حيث جابر بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا» (¬5). وروى ابن ماجه في سننه من حديث عبد اللَّه بن سعد رضي اللهُ عنه ¬

(¬1) ص: 68، برقم (106). (¬2) ص: 1132، برقم 5787. (¬3) صحّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 126)، برقم 595. (¬4) ص: 104، برقم 432، وصحيح مسلم ص: 307، برقم 777. (¬5) ص: 307، برقم 778.

قال: سألت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيُّما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: «أَلَا تَرَى إِلَى بَيْتِي مَا أَقْرَبَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ ! فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً» (¬1)، ولا بأس أن يصلي النافلة في المسجد أحياناً إلا أن السنة الغالبة صلاتها في البيت وهو أفضل كما دلت على ذلك الأحاديث المتقدمة. سادسًا: رفع بعض المصلين أصواتهم في القراءة السرية أو في بعض أذكار الصلاة، وهذا يشوش على الباقين صلاتهم، وقد ورد النهي عن ذلك؛ قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110)} [الإسراء]. روى مالك في الموطأ من حديث البياضي رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرج على الناس وهم يصلُّون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: «إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» (¬2). سابعًا: إدخال بعض المصلين أجهزة الجوال إلى المساجد: وبها نغمات موسيقية، وهذه النغمات لا تجوز خارج المسجد، فكيف بالمسجد? ! قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب (32)} [الحج]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي اللهُ عنه: ¬

(¬1) ص: 152، برقم 1378، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (2/ 190). (¬2) ص: 53، برقم 218، وقال محققه: حديث صحيح.

أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ» (¬1). وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة بتحريم النغمات الموسيقية الصادرة من هذه الجوالات (¬2)، ولا شك أن إدخالها إلى هذه المساجد انتهاك صريح لحرمتها، إضافة إلى إيذاء المصلين وإفساد صلاتهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58)} [الأحزاب]. ثامنًا: الصلاة في الملابس التي فيها صور، والصور منهي عنها على وجه العموم، فكيف بالمسجد? ! روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ، لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الهياج الأسدي: أن عليًّا رضي اللهُ عنه قال له: ألا أبعثك على ما بعثني رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ، وَلَا صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا» (¬4). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1101، برقم 5590. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (26/ 261) برقم 20842. (¬3) ص: 1156 برقم 5961، ومسلم ص: 875 برقم 2107. (¬4) ص: 374، برقم 969.

الكلمة الخامسة: شرح اسم الله الخالق المصور

الكلمة الخامسة: شرح اسم الله الخالق المصوِّر إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)} [الأعراف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (¬1)، وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬2). وقد ورد اسم اللَّه الخالق المصوِّر في آيات كثيرة، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الحشر: 24]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آل عمران: 6]. ¬

(¬1) ص: 1231، برقم 6410، ومسلم ص: 1075، برقم 2677. (¬2) صحيح البخاري، ص: 1409، برقم 7392.

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك (8)} [الانفطار]. قال بعضهم: المصوِّر هو الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة، وهيئات متباينة من الطول والقصر، والحسن والقبح، والذكورة والأنوثة: كل واحد بصورته الخاصة، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون]. ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين: أولاً: إن اللَّه تعالى هو الخالق وحده وما سواه مخلوق، قال تعالى: {قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار (16)} [الرعد]، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، فكل ما سوى اللَّه مخلوق محدَث، وكل المخلوقات سبقها العدم؛ قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)} [الإنسان]. ثانيًا: إن اللَّه تعالى لم يزل خالقًا كيف شاء ومتى شاء ولا يزال، قال تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} [النور: 45]، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد (16)} [البروج]. ثالثًا: إن اللَّه تعالى ذكره خالق كل شيء، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [غافر: 62]. رابعًا: خلق اللَّه عظيم، فلا يستطيع مخلوق أن يخلق مثله، فضلاً عن أن يخلق أفضل منه، قال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا

خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين (11)} [لقمان: 11]. وفي هذا تحدٍّ لجميع الخلق من الجن والإنس وغيرهم. وقد أثبت اللَّه عجزهم عن خلق ضعيف حقير: كالذباب، ولو اجتمعوا على ذلك، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب (73)} [الحج]. خامسًا: إن اللَّه حرَّم على عباده أن يصوِّروا الصور ذوات الأرواح، لما فيها من مضاهاة لخلق اللَّه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ ! فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَليَخْلُقُوا ذَرَّةً» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» (¬2)، وفي رواية: «يُقَالُ لَهُم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم» (¬3)؛ وفي هذا دليل على تعذيب المصوِّر: وهو أن يكلَّف نفخ الروح في الصورة التي صوَّرها، وهو لا يقدر على ذلك، فيستمر تعذيبه. سادسًا: خلق اللَّه العظيم، فهو الذي خلق السماوات ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 1155، برقم 5953، وصحيح مسلم ص: 876، برقم 2111. (¬2) صحيح البخاري ص: 1155، برقم 5950، وصحيح مسلم ص: 875، برقم 2109. (¬3) صحيح البخاري ص: 1155، برقم 5951، وصحيح مسلم ص: 875، برقم 2108.

والأرض، وهما أعظم من خلق الإنسان، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (57)} [غافر]، ومن عظمة خلق اللَّه: أن الكرسي وهو موضع القدمين - كما قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما - وسع السماوات والأرض جميعًا، والعرش أعظم من ذلك، واللَّه تعالى مستوٍ على عرشه، وهو أعظم وأكبر من كل شيء. سابعًا: إن اللَّه تعالى ما خلق هذا الخلق عبثًا، وإنما لغاية عظيمة، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم (116)} [المؤمنون]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِين (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون (18)} [الأنبياء]. قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق: أي بالعدل والقسط {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم]، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لهوًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار (27)} [ص: ] (¬1). ثم بين سبحانه الحكمة في الخلق فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (9/ 395).

وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين (58)} [الذاريات] (¬1). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (169 - 174).

الكلمة السادسة: شرح حديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»

الكلمة السادسة: شرح حديث: «لَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسِهِ» الحمدُ للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (¬1). هذا الحديث الشريف من الأحاديث العظيمة التي عليها مدار الدين، ولو عمل الناس به لقضى على كثير من المنكرات والخصومات بين الناس، ولعَمَّ المجتمع الأمن والخير والسلام، وهذا يحصل عند كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ويتفرد بها عنهم، والإيمان يقتضي خلاف ذلك: وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه اللَّه من الخير، من غير أن ينقص عليه من ذلك شيء (¬2). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ رضي اللهُ عنه: أنه سأل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أفضل الإيمان، قال: «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ ¬

(¬1) ص: 26 برقم 13، وصحيح مسلم ص: 50 برقم 45. (¬2) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ص: 147، بتصرف.

وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ» قال: وماذا يا رسول اللَّه؟ قال: «وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ» (¬1). وهذا من خصال الإيمان العظيمة، ولذلك رتَّب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخول الجنة على العمل بها، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث يزيد ابن أسد القسري رضي اللهُ عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَتُحِبُّ الْجَنَّةَ? » قلت: نعم، قال: «فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَاتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَاتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي؛ لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» (¬4). وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحب هذا لكل ضعيف، وإنما كان يتولَّى أمور الناس لأن اللَّه قوَّاه على ذلك، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولَّى سياسة دينهم ودنياهم. وكان محمد بن واسع يبيع حمارًا له، فقال له رجل: أترضاه لي? ¬

(¬1) (36/ 446)، برقم 22130، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬2) (27/ 216)، برقم 16655، وقال محققوه: حديث حسن. (¬3) ص: 770، جزء من حديث رقم 1844. (¬4) ص: 763، برقم 1826.

قال: لو رضيته لم أبعه؛ وهذا إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه، وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين، التي هي من جملة الدين. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة رضي اللهُ عنه قال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا! فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ » قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»؛ قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ » قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»؛ قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ » قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»؛ قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ»: قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»؛ قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ»: قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (¬1). قال ابن رجب: وينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية، ولهذا أُمر أن ينظر في الدين إلى من فوقه، وأن يتنافس في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون (26)} [المطففين]؛ ولا يكره أن أحدًا يشاركه في ذلك، بل ¬

(¬1) (36/ 440) برقم 22211، وقال محققوه: إسناده صحيح.

يحب للناس كلهم المنافسة فيه، ويحثهم على ذلك، وهذا من تمام أداء النصيحة للإخوان؛ فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية، اجتهد على لحاقه، وحزن على تقصير نفسه وتخلفه عن لحاق السابقين: لا حسدًا لهم على ما آتاهم اللَّه، بل منافسة لهم وغبطة وحزنًا على النفس، لتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين؛ وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرًا عن الدرجات العالية مستفيدًا بذلك أمرين نفيسين: الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها، والنظر إلى نفسه بعين النقص؛ وينشأ من هذا: أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه، لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، بل هو يجتهد في إصلاحها. وقد قال محمد بن واسع لابنه: أَمَّا أبوك فلا كثَّر اللَّه في المسلمين مثله، فمن كان لا يرضى عن نفسه، فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم؟ ! بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه، ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو عليه (¬1). اهـ. قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «إني لأَمُرُّ على الآية من كتاب اللَّه، فأَوَدُّ أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم». وقال الشافعي رحمه الله: «وددت أن الناس تعلَّموا هذا العلم، ولم يُنسَب إليَّ منه شيء». والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، ص: 148 - 149.

الكلمة السابعة: علو الهمة

الكلمة السابعة: علو الهمة الحمدُ للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه، وبعد: فإن من الخصال الجميلة، والخلال الحميدة، والأخلاق العالية الرفيعة: الهمة العالية، والناس إنما تعلو أقدارهم، وترتفع منازلهم: بحسب علو هممهم وشريف مقاصدهم، قال بعضهم: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، ومعنى ذلك: أن المؤمن لا تنتهي إنجازاته في أمور دينه ودنياه، بل كلما انتهى من إنجاز سعى إلى آخر، وهكذا حال صاحب الهمة العالية. وقد حثَّ سبحانه عباده على علوِّ الهمة، والمسارعة إلى الخيرات، والتنافس في أعالي الدرجات، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران]، وقال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُون (61)} [الصافات]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون (26)} [المطففين]. وبيَّن تعالى فضل المجاهدين أصحاب الهمم العالية، على القاعدين المُؤثِرِين للراحة والدَّعَة، فقال: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} [النساء]، وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» (¬1). وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابه كما روى الطبراني في الكبير من حديث الحسن بن علي رضي اللهُ عنهما: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى: يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَأَشرَافَهَا، وَيَكرَهُ سِفْسَافَهَا» (¬2) أي: الحقير الرديء منها. وكان نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أعلى الناس همة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّل (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)} [المزمل]، وكان نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمتثل لهذا التوجيه الرباني الكبير، فيقوم حتى تتفطر قدماه؛ وفي النهار جهاد، ودعوة، وقيادة للأمة، وكان في بيته تسع نسوة يقوم على شؤونهن، وكان يضع الحجر على بطنه من الجوع، وتمر الليالي تلو الليالي لا يوقد في بيت رسول اللَّه نار إن هو إلا الأسودان - التمر والماء - لقد ولَّى عهد النوم والراحة، قال تعالى: ¬

(¬1) (20/ 296) برقم 12981، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) (3/ 131) برقم 2894، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1/ 384) برقم 1890.

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب (8)} [الشرح]. وكان عليه الصلاة والسلام يحث أصحابه على الهمة العالية والمسابقة إلى الدرجات العالية، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه في غزوة بدر، قال: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ ! » قَالَ: لَا، وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَاكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ (¬1). ومن الأمثلة على الهمة العالية ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول اللَّه، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن اللَّه أشهدني قتال المشركين ليرين اللَّه ما أصنع، فلما كان يوم أُحُد، وانكشف المسلمون، قال: اللَّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني ¬

(¬1) ص: 789، برقم (1901).

المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول اللَّه ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتل وقد مَثَّلَ به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته بِبَنانِه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إلى آخر الآية [الأحزاب: 23] (¬1). وعلو الهمة على قسمين: الأول: رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، وهذا ما يسمى (عظيم الهمة، أو: عظيم اليقين). الثاني: رجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يحتقر نفسه فيضع همه في سفاسف الأمور وصغائرها، وهذا ما يسمى صغير الهمة؛ قال المتنبي: وَمَا أَرَى فِي عيوبِ الناسِ عيبًا ... كنقصِ القادرين عَلَى التمامِ ومن الأمثلة على علو الهمة: ما قاله مسروق عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه أنه قال: واللَّه ما أُنزلت آية، إلا وأنا أعلم فيما نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم أحدًا ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 542، برقم 2805؛ وصحيح مسلم ص: 790، برقم (1903).

أعلم بكتاب اللَّه مني، تبلغه المطايا، لأتيته. وكان الإمام البخاري يقوم في الليلة الواحدة: ما يقارب عشرين مرة، لتدوين حديث أو فكرة، وقال الإمام أحمد بن حنبل: رحلت في طلب السُّنَّة إلى الثغور والشامات والسواحل، والمغرب والجزائر، ومكة والمدينة، واليمن وخراسان وفارس، وقال: حججت خمس حجات: منها ثلاث حجج راجلاً من بغداد إلى مكة، وقال ابن الجوزي: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين، حتى جمع المسند وفيه ثلاثون ألف حديث. وقال أيضاً: ولو أني قلت: طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيها، وأحتقر همم الطلاب وللَّه الحمد (¬1). اهـ. وقال ابن الجوزي - في ترجمة الطبراني -: هو العلَّامة سليمان ابن أحمد مُسنِد الدنيا، زادت مؤلفاته على خمسة وسبعين مؤلفًا، سئل عن كثرة أحاديثه? ! فقال: كنت أنام على الحصير ثلاثين سنة. قال الشافعي رحمه الله: تَغَرَّبْ عن الأوطانِ في طلبِ العُلَا ... وسافِرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ تَفْرِيجُ هَمٍّ واكتسابُ معيشةٍ ... وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ ¬

(¬1) صيد الخاطر، ص: 402.

ومن الأمثلة على علو الهمة في وقتنا المعاصر: ما أخبرني به أحد الإخوة أن هناك أعمى وأصم وأبكم لا تفوته تكبيرة الإحرام، والعجيب أن الذي يقوده إلى المسجد: ابنه وهو أصم وأبكم، ومع ذلك: الاثنان عندهما همة عالية للمبادرة إلى بيوت اللَّه، والصلاة مع الجماعة، مع أنهما معذوران شرعًا. وقال المتنبي: وإذَا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا ... تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ وقال أيضاً: إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مروم ... فَلا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجومِ فَطعْمُ المَوتِ في أمرٍ حقيرٍ ... كَطَعْمِ المَوتِ في أمرٍ عَظيمٍ وقال أبو فراس الحمداني: ونَحْنُ أُناسٌ لا تَوسُّطُ عنْدَنَا ... لَنَا الصَدْرُ دُونَ العالمِينَ أو القبرُ تَهونُ عَليْنَا في المَعَالِي نُفُوسُنا ... ومَنْ خَطَبَ الحَسْنَاءَ لم يُغلهِ المهرُ قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن الهمة: فكيف يحسن بذي همة قد أزاح اللَّه عنه علله، وعَرَّفَهُ السعادة والشقاوة أن يرضى بأن يكون حيواناً وقد أمكنه أن يصير إنساناً، وبأن يكون إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملكاً، وبأن يكون ملكاً وقد أمكنه أن يكون ملكاً في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليهم من كل باب، قال تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار (24)} [الرعد].

وهذا الكمال إنما يُنَالُ بالعلم ورعايته والقيام بموجبه وأعظم النقص نقص القادر على التمام وحسرته على تفويته، فَثَبَتَ أنه لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع الذين يكدرون الماء ويقلون، إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، وفقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش له الغبراء (¬1). الخلاصة: أنه ينبغي للمؤمن أن تكون همته عالية، يسعى إلى معالي الأمور وفيما يصلحه من أمر دينه ودنياه، وأن يبذل في ذلك الغالي والنفيس، وألا يكون ضعيف الهمة يحب الراحة والكسل، فإنه بقدر الكد تكتسب المعالي، ومن طلب العلا سهر الليالي (¬2). قال الشاعر: وَمَنْ رَاَمَ العُلا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ ... أَضَاعَ العُمْرَ فِي طَلَبِ المُحَالِ تَرُومُ العِزَّ ثُمَّ تَنَامُ لَيْلاً ... يَغُوصُ البَحْرَ مَنَ طَلَبَ اللآلِي والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جامع الآداب من كلام ابن القيم بتحقيق يسري السيد محمد (1/ 218 - 219). (¬2) انظر: علو الهمة لأخينا الشيخ إسماعيل المقدم.

الكلمة الثامنة: فتنة المال

الكلمة الثامنة: فتنة المال الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من نعم اللَّه العظيمة على عباده: نعمة المال، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]. وقال تعالى ممتنًّا على نبيِّه بهذه النعمة: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى]، وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب (14)} [آل عمران]. قال عمر رضي اللهُ عنه كما في صحيح البخاري: «اللَّهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللَّهم إني أسألك أن أنفقه في حقه» (¬1). والمال إما أن يستخدم في الخير أو الشر، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم (15)} [التغابن]، وهو من الفتن العظيمة التي يُبتلى بها المؤمن، والقليل من الناس من يصبر عليها؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عياض بن ¬

(¬1) ص: 1236 كتاب الرقاق، باب قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هذا المال خضرة حلوة».

حمار رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ» (¬1)، وقال الإمام أحمد بن حنبل: «ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر». والعبد يُسأل عن ماله يوم القيامة ماذا عمل فيه؟ روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (¬2). وروى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ» (¬3). وقد جُبِلَت النفوس على حب المال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر]، روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ» (¬4). وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ ¬

(¬1) (29/ 215) برقم 17471، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2) ص: 396، برقم 2416، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) ص: 1030 برقم 5196، وصحيح مسلم ص: 1095 برقم 2736. (¬4) ص: 1236 برقم 6436، وصحيح مسلم ص: 402 برقم 1049.

وَطُولُ الْعُمُرِ» (¬1). وقد حذَّر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّته من فتنة المال، فروى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأصحابه: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (¬2). والذي يتأمل في أحوال الناس في هذه الأيام، وانكبابهم على كسب هذا المال بأي وسيلة كانت: سواء كان في مساهمات مشبوهة، أو معاملات فيها مخالفات شرعية: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها، ليتذكَّر قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: «لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ: أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ? » (¬3). وقد أرشد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّته إلى القناعة وعيشة الكفاف. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (¬4). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ¬

(¬1) ص: 1233 برقم 6421، وصحيح مسلم ص: 402 برقم 1047. (¬2) ص: 762 برقم 4015، وصحيح مسلم ص: 1188، برقم 2961. (¬3) ص: 393، برقم 2083. (¬4) ص: 404، برقم 1054.

أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (¬1) والعرض هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث الغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة، لأن من كان طالباً للزيادة لم يستغن بما عنده فليس له غنى. قال الشاعر: النفسُ تَجْزَعُ أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً ... والفَقْرُ خَيْرٌ مِن غِنًى يُطغِيهَا وَغِنَى النُّفُوسِ هُوَ الكفافُ فإنْ أَبَتْ ... فَجَمِيعُ ما فِي الأرضِ لا يَكْفِيهَا وقد ذمَّ اللَّه ورسوله عبد المال: الذي إذا أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون (58)} [التوبة]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» (¬2). وهذا المال إن لم يستخدمه صاحبه في طاعة اللَّه وينفقه في سبيله، كان وبالاً وحسرة عليه، قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 1238، برقم 6446؛ وصحيح مسلم ص: 402، برقم 1051. (¬2) ص: 1235، برقم 6435.

فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون (36)} [الأنفال]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ» (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ: بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُ مِئَةِ عَامٍ» (¬2). وقد أخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن البركة إنما تحل في هذا المال، إذا أخذه صاحبه بطيب نفس من غير شَرَهٍ ولا إلحاح، فروى البخاري ومسلم من حديث حكيم بن حزام رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَاكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» (¬3). وقد أخبر عزَّ وجلَّ أن المال عرض زائل ومتاع مفارَق، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (20)} [الحديد]. ¬

(¬1) (39/ 36)، برقم 23625؛ وقال محققوه: إسناده جيد. (¬2) (14/ 208)، برقم 8521؛ وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) ص: 287 برقم 1472، وصحيح مسلم ص: 398 برقم 1035.

روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (¬1). وبعض الناس يغلط، ويظن أن من رزق مالًا كثيرًا، فإنه قد وُفِّق: وهو دليل على محبة اللَّه له! والأمر ليس كذلك، فإن الدنيا يعطيها اللَّه من يحب ومن لا يحب؛ وقد ذكر اللَّه هذا عن الإنسان، وأخبر أن الأمر ليس كما ظن، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن (16) كَلاَّ} [الفجر]. والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1248 برقم 651، وصحيح مسلم ص: 1188 برقم 2960.

الكلمة التاسعة: فتنة النساء

الكلمة التاسعة: فتنة النساء الحمدُ للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الفتن العظيمة التي يواجهها المسلم في هذه الحياة: فتنة النساء، وهذه الفتنة تواجهه في السوق وفي الطرقات وفي الأماكن العامة، وفي الجرائد والمجلات وفي وسائل الإعلام، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب (14)} [آل عمران]. وقد حذر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمته من فتنة النساء، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً، أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬1). وقد أخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ ¬

(¬1) ص: 1010، برقم 5096، وصحيح مسلم ص: 1095، برقم 2740.

كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» (¬1). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن الصابر على هذه الفتنة: من السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظله، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «رَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» (¬2)؛ قال القاضي عياض: «وخصَّ ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها؛ فالصبر عنها لخوف اللَّه تعالى - وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال -: من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فرتَّب اللَّه عليه أن يظله اللَّه في ظله، وذات المنصب: هي ذات الحسب والنسب الشريف» (¬3)؛ قال تعالى - في هذا وأمثاله -: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى (41)} [النازعات]. وقدوة هذا الصابر على فتنة النساء: نبي اللَّه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السَّلام، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ¬

(¬1) ص: 1096، برقم 2742. (¬2) ص: 277، برقم 1423، وصحيح مسلم ص: 397، برقم 1031. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 122).

الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون (23)} [يوسف]، بل إن يوسف عليه السَّلام آثر السجن على أن ينقاد لهذه الفتنة، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين (33)} [يوسف]، قال ابن القيم: «وقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى عن يوسف الصِّدِّيق صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من العفاف أعظم ما يكون، فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان شابًّا والشباب مركب الشهوة، وكان عزبًا ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبًا عن أهله ووطنه والمقيم بين أهله وأصحابه، يستحي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع، وكان في صورة المملوك، والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال؛ والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله عفَّ للَّه ولم يطعها، وقدَّم حق اللَّه وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف تكون حاله? » (¬1). قال الشاعر: ¬

(¬1) بدائع التفسير (2/ 445 - 446) ...

وإني لتنهاني خلائقُ أَرْبعُ ... عن الفُحشِ فيها للكريم روادعُ حياءٌ وإسلامٌ وشيبٌ وعفةٌ ... وما المرءُ إلا ما حبتهُ الطبائِعُ والصبر على هذه الفتنة وإيثار رضا اللَّه على هوى النفس: من أفضل الأعمال التي تقرب العبد إلى ربه، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى (41)} [النازعات]. روى الإمامان البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِئَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ! فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ» (¬1) الحديث. وقد أمر اللَّه المؤمنين الذين لم يستطيعوا النكاح بالصبر والعفة، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33]. ومن أسباب دفع فتنة النساء: غض البصر وحفظ الفرج والنكاح ¬

(¬1) ص: 413 برقم 2215، وصحيح مسلم ص: 1096 برقم 2743.

الحلال، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون (30)} [النور]. روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ - أي النكاح - فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» (¬1). قال الشاعر: كلُّ الحوادثِ مبدأها من النظرِ ... ومعظمُ النارِ من مستصْغَرِ الشرَرِ والمرءُ ما دام ذا عين يُقلبُهَا ... فِي أعين الغيد موقوفٌ على الخَطَرِ كم نظرةٍ فتكتْ في قلب صاحبِها ... فَتْكَ السهام بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ يسُرُّ ناظرُه ما ضرَّ خاطرَه ... لا مرحباً بسرور عاد بالضرر وقد جعل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجنة ثوابًا لمن حفظ فرجه، روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» (¬2). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1005 برقم 5066، وصحيح مسلم ص: 549 برقم 1400. (¬2) ص: 1243، برقم 6474.

الكلمة العاشرة: فتنة الدنيا

الكلمة العاشرة: فتنة الدنيا الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن الفتن العظيمة التي حذر اللَّه ورسوله منها: فتنة الدنيا، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45)} [الكهف]. وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (20)} [الحديد]. وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوذ باللَّه من فتنة الدنيا. فروى البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن ميمون الأودي قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ،

وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» (¬1). وقد نهى اللَّه نبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التطلع إلى الدنيا وفتنتها، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]. وقال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه]. وبيَّن تعالى أن ما يعطيه الكفار من نعم الدنيا، إنما ذلك لهوان الدنيا عنده وحقارتها، وابتلاءً لهم وفتنةً، قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة]. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُون (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين (35)} [الزخرف]. روى الترمذي في سننه من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (¬2). ¬

(¬1) ص: 545، برقم 2822. (¬2) ص: 383، برقم 2320، قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ (أي: جانِبَهُ)، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ (أي: صغير الأذنين) مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ » فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ » قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ ! فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» (¬1). وقد حذر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمته من فتنة الدنيا وزخرفها، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمرو بن عوف رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (¬2). قال الشافعي رحمه الله: إن للَّه عباداً فُطنَا ... تركوا الدنيا وخافوا الفِتنا نَظَرُوا فيها فلمَّا علِمُوا ... أنها ليست لِحَيٍّ وَطَنَا جعلوها لُجةً واتخذُوا ... صالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنَا وقال ابن أبي حصينة المعري: أحلامُ نوم أو كظل زائلٍ ... إن اللبيب بمثلها لا يُخْدَعُ ¬

(¬1) ص: 1187، برقم 2957. (¬2) ص: 762، برقم 4015، وصحيح مسلم ص: 1188، برقم 2961.

وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أكثر الناس بُعدًا عن الدنيا وفتنتها، فروى الترمذي في سننه من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: نام النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول اللَّه، لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا؟ ! مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (¬1). وفي الصحيحين من حديث عمر: أنه رضي اللهُ عنه صعد إلى مشربة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما آلى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من نسائه، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول اللَّه هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة اللَّه من خلقه؛ وكان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متكئًا، فجلس وقال: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! » ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»، وفي رواية: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ ! » (¬2). قال علي رضي اللهُ عنه - وهو يصف الدنيا -: أولها عناء وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن حرص ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها (أي سعى إليها) فتنته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها (أي اعتبر بها) بصَّرته، قال الشاعر أبو الحسن التهامي: طُبِعَتْ على كدَرٍ وأنتَ تُريدُها ... صَفواً مِنَ الأقذاءِ والأكْدارِ ¬

(¬1) ص: 389، برقم 2377، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) ص: 969، برقم 4913، وصحيح مسلم ص: 593، برقم 1479.

وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا وزينتها، فروى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللهُ عنهما قال: أخذ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمنكبي فقال: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»؛ وكان ابن عمر رضي اللهُ عنهما يقول: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» (¬1). وكان الصحابة يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم، فروى ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: اشتكى سلمان فعاده سعد فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي? ! أليس قد صحبت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم? ! أليس? أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين ما أبكي ضنًّا للدنيا ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عهد إلي عهدًا فما أراني إلا قد تعديت، قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إليِّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب ولا أُراني إلا قد تعديت، قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهمًا من نفقة كانت عنده (¬2). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1232، برقم 6416. (¬2) ص: 444 برقم 4104، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 392 - 393) برقم 3312.

الكلمة الحادية عشرة: النهي عن السخرية بالناس واحتقارهم

الكلمة الحادية عشرة: النهي عن السخرية بالناس واحتقارهم الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الصفات الذميمة التي ذمها اللَّه ورسوله: السخرية بالناس واحتقارهم، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة (1)} [الهمزة]، والويل: كلمة تهديد ووعيد لمن كانت هذه صفاته، قال المعلمي رحمه الله: الهمز هو السخرية من الناس بالإشارة؛ كتحريك اليد قرب الرأس: إشارة إلى الوصف بالجنون، أو الإشارة بالعين: رمزًا للاستخفاف أو نحو ذلك. واللمز: هو السخرية من الناس بالقول، كتسمية الشخص باسم يدل على عاهة فيه أو مرض، أو اتهامه بخليقة سيئة، أو التعريض بذلك. اهـ (¬1). قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]. ¬

(¬1) مكارم الأخلاق في القرآن الكريم ليحيى المعلمي، ص: 333، نقلاً عن كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (10/ 4604).

قال الطبري رحمه الله: «إن اللَّه عمَّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض بجميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك» (¬1)؛ وقال أيضًا في قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}: «أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن اللَّه تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمَّ اللَّه بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين: أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها» (¬2). روى أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حسبك من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد: تعني قصيرة - فقال: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» قالت: وحكيت له إنسانًا فقال: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث المَعرُور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني سابَبتُ رجلاً فعيَّرته بأمِّه، فقال لي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، ¬

(¬1) تفسير الطبري (11/ 390). (¬2) تفسير الطبري (11/ 293). (¬3) ص: 529، برقم 4875، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 923) برقم 4080.

فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَاكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (¬1)؛ والسخرية بالناس من سمات الكفار والمنافقين، وقد نُهينا عن التشبه بهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (79)} [التوبة]. قال ابن كثير رحمه الله: «هذه أيضًا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى المتصدقون لا يسلمون منهم؛ إن جاء أحدهم بمال كثير قالوا: مُراءٍ، وإن جاء بقليل قالوا: إن اللَّه لغني عن صدقة هذا» (¬2). اهـ. والسخرية تميت القلب وتورثه الغفلة، حتى إذا كان يوم القيامة ندم الساخر وتحسَّر على فعله، قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين (56)} [الزمر]. والسخرية من الناس عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة، في الدنيا: قد يُبتَلَى الساخر بمثل ما سخر به، وفي الآخرة: عذاب اللَّه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِين (31)} [المطففين]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ¬

(¬1) ص: 29، برقم 30. (¬2) تفسير ابن كثير (7/ 247).

اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58)} [الأحزاب]. والساخر بعيد عن ربه قريب من الشيطان، قال تعالى عن الكفار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِين (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُون (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُون (111)} [المؤمنون]. قال القرطبي: «يستفاد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين، والاحتقار لهم والإزراء عليهم، والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من اللَّه عزَّ وجلَّ» (¬1). ومما تقدَّم، يتبيَّن لنا: أن السخرية بالناس ذنب عظيم، منافٍ للدِّين والمروءة والأدب. ومن صور هذا الاستهزاء في وقتنا المعاصر: السخرية بالعلماء والمشايخ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغيرهم من أهل الصلاح والخير، ولمزهم بالألقاب السيئة، وتأليف القصص المكذوبة التي تسمَّى النكت عليهم؛ وقد نص بعض أهل العلم: على أن الساخر من العلماء أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، إذا كان يسخر منهم لدينهم لا لذاتهم، فإن هذا من الكفر المخرج من دائرة الإسلام، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة]. ¬

(¬1) تفسير القرطبي (15/ 95).

ومنها: السخرية بالعمال المقيمين في هذه البلاد، أو الفقراء وضعفة الناس، واحتقارهم: لأن هذا من الجنسية أو البلد الفلاني؛ روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي اللهُ عنه قال: مر رجل على رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ » قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ » قالوا: حري إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يُستمع، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» (¬1)؛ وما يدري هذا الساخر: لعل الذي سخر منه خير وأتقى للَّه منه! قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. قال محمود الغزنوي: فلا تَحْقِرَنَّ خَلقاً مِن الناسِ عَلَّهُ ... وَلِيُّ إِلَهِ العالمينَ وَمَا تَدْرِي فذو القَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ خَافٍ عَنِ الوَرَى ... كَمَاَ خَفِيَتْ عَنْ عِلْمِهِمْ ليلةُ القدرِ ومنها السخرية بالجيران والأصدقاء والأقارب، وقد يكون الحامل على هذه السخرية والاحتقار: هو الحسد، فقد يبرز بعض الناس عند أقاربه أو أصدقائه: بتجارة أو علم أو دراسة، فيسخرون منه، ويلمزونه في المجالس، ليسقطوه من أعين الناس؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ ¬

(¬1) ص: 1009، برقم 5091.

عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ! إِخْوَانًا؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (¬1). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1035 برقم 2564.

الكلمة الثانية عشرة: تأملات في قوله تعالى: {إن المتقين في جنات وعيون}

الكلمة الثانية عشرة: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} [الحجر] الحمدُ للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِين (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِين (48) نَبِّاءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم (50)} [الحجر]. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون (45)} المتقون: هم الذين فعلوا الطاعات واجتنبوا المعاصي والذنوب، وجنات: أي بساتين جامعة للأشجار، وسميت جنة لأنها تجن من فيها: أي تستره لكثرة أشجارها وأغصانها. والعيون هي الأنهار الأربعة: ماء، وخمر، ولبن، وعسل، وهذه الأنهار تجري من تحت القصور والأشجار، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15].

قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِين (46)} أي بسلامة من كل داء وآفة، وآمنين: أي من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج، ولا انقطاع شيء من النعيم الذي أنتم فيه أو نقصانه، كالموت، والنوم، والمرض، والحزن، والهم، وسائر المكدرات، كما قال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود (34)} [ق]؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُنَادِي مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (43)} [الأعراف]» (¬1)؛ والأمن مطلب لجميع الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى عن أهل الجنة: آمنين، حتى تكتمل السعادة والفرحة. قال أميه بن الصلت: وَحَلَّ المُتَّقُونَ بِدَارِ صِدْقٍ ... وَعَيْشٍ ناعمٍ تَحْتَ الظِّلَالِ لَهُمْ مَا يَشْتَهُون ومَا تَمَنَّوا ... مِنَ الأَفْرَاحِ فِيهَا والكَمَالِ قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر]، الغل: هو الحقد والعداوة، فبيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من الغل في حال كونهم إخوانًا، وبيَّن هذا المعنى وزاد أنهم تجري من تحتهم ¬

(¬1) ص: 1140 برقم 2837.

الأنهار في نعيم الجنة، وذلك في قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (43)} [الأعراف]. قال ابن كثير: وهذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ» (¬1). ولما دخل عمران بن طلحة على علي رضي اللهُ عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وأدناه وقال: إني لأرجو أن يجعلني اللَّه وأباك من الذين قال اللَّه تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر]، والحكمة في نزع الغل: حتى تكتمل السعادة والفرحة، فإن الغل يفسد القلوب ويضيق به الصدر، ولذلك شرح اللَّه صدر نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأرسل اللَّه له في صغره ملَكَين، ونزعا ما في صدره من الغل والحقد وغسلا قلبه؛ قوله: {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} السرر: جمع سرير مثل جديد وجدد، وقيل: هو من السرور فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور، قال ابن عباس: على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر. السرير ما ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 1252، برقم 6535.

بين صنعاء إلى الجابية وهي قرية بالشام، وما بين عدن إلى أيلة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام، وقد وصف اللَّه هذه السرر بأنها منسوجة بقضبان الذهب وهي: (الموضونة)، فقال: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِين (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِين (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَة (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِين (16)} [الواقعة]. وقيل الموضونة: المصفوفة، كقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِين (20)} [الطور]. وأيضًا هذه السرر مرفوعة، قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَة (13)} [الغاشية]، وقال تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَة} [الواقعة]، وقال سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَان (76)} [الرحمن]. قوله تعالى: {مُتَقَابِلِين}: أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وذلك دليل على تزاورهم واجتماعهم وحسن أدبهم فيما بينهم، في كون كل منهم مقابلًا للآخر لا مستدبرًا له، متكئين على تلك السرر المزينة بالفرش واللؤلؤ وأنواع الجواهر. قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِين (48)} [الحجر]: بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء، و {نَصَبٌ}: نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب، فدلت الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة، وأكد هذا المعنى سبحانه، فقال تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب (35)}

[فاطر]؛ لأن اللغوب هو التعب والإعياء، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: أَتَى جِبرِيلُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَد أَتَت، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتكَ فَاقرَأ عَلَيهَا السَّلَامَ مِن رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرهَا بِبَيتٍ فِي الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» (¬1). قوله تعالى: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِين (48)}: بيَّن تعالى أن أهل الجنة لا يخرجون منها، فهم دائمون في نعيمها أبدًا بلا انقطاع، وأوضح سبحانه هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108)} [الكهف]. وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَاد (54)} [ص: ]، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {نَبِّاءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم (50)} [الحجر]، هذه الآية موازية لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ؛ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» (¬2). فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائمًا بين الخوف والرجاء والرغبة والرهبة، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه أحدث له ذلك الرجاء ¬

(¬1) ص: 726 برقم 3820، وصحيح مسلم ص: 988 برقم 2432. (¬2) ص: 1102، برقم 2755.

والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها؛ فالقنوط من رحمة اللَّه يأس، والرجاء مع التقصير إهمال، وخير الأمور أوساطها (¬1). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن سعدي (ص: 407).

الكلمة الثالثة عشرة: الغرور

الكلمة الثالثة عشرة: الغرور الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الصفات الذميمة التي نهى اللَّه ورسوله عنها: الغرور، قال الراغب: الغَرُورُ هو كل ما يَغُرُّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وغير ذلك (¬1)، وقال الكفوي: كل من غر شيئاً فهو غَرُورُ بالفتح والغُرُورُ بالضم الباطل (¬2)، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (185)} [آل عمران]. وقد حذر سبحانه من الغرور فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور (5)} [فاطر]، أي: لا يغرنكم الشيطان فيقول لكم: إن اللَّه يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم أو رئاستكم وغناكم أو سعة رحمته لكم، فتسرعوا في المعاصي، وأخبر سبحانه أن الغرور من عمل الشيطان، فقال: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64)} [الإسراء]. ¬

(¬1) المفردات للراغب ص: 359. (¬2) الكليات ص: 663.

قال ابن القيم رحمه الله: فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذتك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول: ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها؛ والفرق بين وعده وتمنيته: أنه يعد الباطل ويمنِّي المحال، والنفس المهينة التي لا قدر لها تغتذي بوعده وتمنيته، كما قال القائل: مُنًى إن تكن حقًّا تكن أحسن المُنَى ... وإلا فقد عِشنا بها زمنًا رغدًا (¬1) قال حسان بن ثابت: دَلاَّهم (¬2) بغرورِ ثم أَسْلَمَهُم ... إِنَ الخبيثَ لِمَنْ وَالاه غَرَّارُ وقالَ إِنِّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُم ... شَرَّ المَوَارِدِ فِيهِ الخِزيُ والعارُ والغرور على أقسام: القسم الأول: «غرور الكفار فمنهم من غرَّته الحياة الدنيا بشهواتها وملذاتها، قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70]، وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة، فالدنيا نقد والآخرة نسيئة، فإِذَن: الدنيا خير منها ولا بد من إتيانها؛ وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذَّات الدنيا يقين ولذات ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 107). (¬2) قال القرطبي: يقال أدلى دلوه: أرسلها، ودلاها: أخرجها، وقيل دلاهم: دللهم من الدالة وهي الجرأة، أي جرأهم. الجامع لأحكام القرآن (7/ 116).

الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك؛ ويرد عليهم بقوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، وبقوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى]. القسم الثاني: غرور العصاة من المؤمنين بقولهم: إن اللَّه كريم وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم: رجاء، وظنهم أن هذا هو الرجاء المحمود في الدَّين، وهذا جهل بالفرق بين الرجاء والغرة؛ وقد قيل للحسن: قوم يقولون: نرجو اللَّه، ويضيعون العمل! فقال: هيهات هيهات، تلك أمانيهم يترجحون (¬1) فيها، من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف شيئًا هرب منه. اهـ. وقد بين اللَّه الرجاء المحمود فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيم (218)} [البقرة]. القسم الثالث: «غرور طوائف لهم طاعات ومعاص، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يتوقعون المغفرة، ويظنون أنهم بذلك تترجح كفة حسناتهم، مع أن ما في كفة السيئات أكثر، وهذا غاية الجهل؛ فترى الواحد يتصدق بدراهم من الحلال والحرام، وما يأكله من أموال المسلمين أضعاف ذلك، ويظن أن إنفاق عشرة في الصدقة يكفر عنه مائة من مشبوه المال، وذلك غاية في الجهل والاغترار» (¬2)؛ ¬

(¬1) هكذا في الأصل ولعل الصواب يترددون. (¬2) إحياء علوم الدين (3/ 368 - 376) بتصرف.

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» (¬1)، وروى البخاري في صحيحه من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2)؛ قال عبد اللَّه بن المبارك: «لأن أردَّ درهمًا واحدًا من شبهة، أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف». وقد أخبر سبحانه أن الغرور من شأن الظالمين والكفار، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا (40)} [فاطر]. فمن الناس من إذا أعطي مالًا أو منصبًا أو جاهًا، ظن أن هذا دليل على إكرام اللَّه له ورضاه عنه، وأن هذا المنصب أو المال: إنما حصل عليه باجتهاده وتعبه؛ وهذا يشبه قارون عندما قال عن ماله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]، قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن (16) كَلاَّ} [الفجر]، أي: ليس الأمر كذلك؛ وآخرون إذا أعطي أحدهم نصيبًا من العلم الشرعي أو الدعوة أو العبادة: اغتر بذلك، وأعجب بعمله، وترفعت نفسه عن الآخرين، بل إن بعضهم يرى أن إخوانه ينبغي أن يخدموه ويوقروه، تقديرًا لعلمه أو ¬

(¬1) قطعة من حديث في صحيح مسلم ص: 391، برقم 1015. (¬2) ص: 596، برقم 3118.

لنشاطه في الدعوة، أو لعبادته: وهذا هو الغرور. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبان قال: أتيت عثمان بن عفان رضي اللهُ عنه بطهور وهو جالس على المقاعد فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء ثم قال: «مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، قال: وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا تَغْتَرُّوا» (¬1). قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر؛ ولما حضرت عبدالعزيز ابن مروان الوفاة وكان واليًا على مصر قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال: مالي كثير وما أخلف من الدنيا إلا هذا، ثم ولى ظهره وبكى وقال: أف لك من دار! إن كان كثيرك لقليل! وإن كان قليلك لكثير! وإن كنا منك لفي غرور» (¬2). وبالجملة فالناس على صنفين: الأول: غرور أهل الدنيا بدنياهم حيث تلهيهم أموالها ومناصبها وزينتها وزخارفها، حتى يدركهم الموت وهم غافلون، قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم (6) ¬

(¬1) ص: 1235 برقم 6433، وصحيح مسلم ص: 121 برقم 232. (¬2) الدر المنثور (4/ 193).

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم (8)} [التكاثر]. الثاني: غرور أهل العبادة والطاعة، وسببه إعجابهم بأعمالهم، فالواجب على العبد: أن يحمد اللَّه على توفيقه، وأن يخلص له وأن يصدق معه، وأن يعلم أن المنة للَّه وحده، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (17)} [الحجرات]. والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة عشرة: قسوة القلب

الكلمة الرابعة عشرة: قسوة القلب الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أعظم العقوبات التي يبتلى بها العبد: قسوة القلب، قال ابن منظور: القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه (¬1). وقال القرطبي: القسوة الصلابة والشدة واليُبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات اللَّه تعالى (¬2). قال تعالى: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون (16)} [الحديد]. قال ابن كثير: «يقول تعالى في هذه الآية: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له، وتسمع له وتطيعه» (¬3)، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «إن اللَّه استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة ¬

(¬1) لسان العرب (15/ 181). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (2/ 204). (¬3) تفسير ابن كثير (13/ 421).

من نزول القرآن، فقال: {أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية» (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أنه قال: «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللَّه بهذه الآية: {أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، إلا أربعُ سنين» (¬2). فإذا كان اللَّه قد حذر الصحابة، وهم خير القرون وأهل قيام الليل وصيام النهار والجهاد في سبيل اللَّه، والوحي ينزل عليهم ليلاً ونهارًا، فكيف بنا نحن في هذا الزمن الذي تعلَّق فيه الكثير منا بالدنيا وانتشرت الفتن، وأصبح الواحد منا يعيش غربة الدين! لقد نهى اللَّه المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدَّلوا كتاب اللَّه الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلَّدوا الرجال في دين اللَّه، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه، فعند ذلك: قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد (¬3). وذكر أهل التفسير: أن سبب توبة الفضيل بن عياض - وكان من قطاع الطريق - أنه عشق جارية فواعدته ليلًا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؛ فرجع القهقهرى وهو يقول: بلى واللَّه قد آن! فآواه ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (13/ 421). (¬2) ص: 1211، برقم 3027. (¬3) تفسير ابن كثير (13/ 423).

الليل إلى خربة (¬1) وفيها جماعة من السابلة (¬2)، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق، فقال الفضيل: أوَّاه! أراني بالليل أسعى في معاصي اللَّه، قوم من المسلمين يخافونني: اللَّهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام (¬3). وقد توعَّد اللَّه أصحاب القلوب القاسية بالعذاب الأليم، وبيَّن أن قسوة القلب سبب للضلال وانغلاق القلب، فلا يخشع ولا يعي ولا يفهم، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وهذه الآية كقوله عزَّ وجلَّ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122]. قال الشاعر: إذا قسا القلبُ لم تنفعهُ موعظة ... كالأرض إن سَبِخَت لم ينفَعِ المطرُ قال مالك بن دينار: ما ضُرِب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب اللَّه على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم. وقد ذم اللَّه في كتابه قسوة القلب، وأخبر أنها مانع عن قبول الحق والعمل به، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا ¬

(¬1) خربة: موضع الخراب. (¬2) السابلة: المارون على الطرقات المترددون في حوائجهم. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/ 256).

يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (74)} [البقرة]. قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما - في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} -: «أي من الحجارة لألين من قلوبكم، عمَّا تدعون إليه من الحق فلا تستجيبون» (¬1). وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَاسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون (42)} [الأنعام]؛ أي الفقر والضيق في العيش، والضراء: وهي الأمراض والأسقام والآلام، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون}: أي لعلهم يتضرعون إليه ويخشونه ويدعونه. وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (43)} [الأنعام]؛ أي فهلاً إذا ابتليناهم بذلك: تضرعوا إلينا، وتمسكنوا لدينا! {وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}: أي ما رقَّت ولا خشعت، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون}: أي من الشرك والمعاندة والمعاصي. وكان نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أرق الناس قلبًا، قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما: أن عطاء بن يسار سأله أن يخبره عن صفة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التوراة، قال: أجل واللَّه إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 457).

في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأمِّيِّين، أنت عبدي ورسولي سمَّيتك المتوكِّل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخَّاب (¬1) في الأسواق؛ ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللَّه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فيفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا (¬2). وفي الصحيحين من حديث عبد اللَّه - ابن مسعود رضي اللهُ عنه -: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: «اقرَأ عَلَيَّ» قلت: يا رسول اللَّه آقرأ عليك وعليك أُنزل؟ ! فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «نَعَم»؛ فقرأتُ سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)} [النساء]؛ قال: «حَسْبُكَ الآنَ»، فالتفتُّ إليه: فإذا عيناه تذرفان (¬3). ومن أسباب لين القلب: الإكثار من ذكر اللَّه وقراءة القرآن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب (28)} [الرعد]. وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. ومنها إطعام المسكين ومسح رأس اليتيم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ ¬

(¬1) وهو رفع الصوت بالخصام. (¬2) ص: 950 برقم 4838. (¬3) ص: 1001، برقم 5050، وصحيح مسلم ص: 313، برقم 800.

فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَاسَ الْيَتِيمِ» (¬1). وكذلك زيارة المقابر والمرضى، والزهد في الدنيا وتذكُّر الموت والآخرة، روى مسلم في صحيحه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» (¬3) يعني الموت، وفي رواية «فَمَا ذَكَرَهُ عَبدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَهُ عَلَيهِ، وَلَا ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي سِعَةٍ إِلَّا ضَيَّقَهُ عَلَيهِ» (¬4). قال الشاعر: دواءُ قَلْبِكَ خمسٌ عِنْدَ قَسْوتِهِ ... فَادْأَبْ عَلَيها تَفُزْ بالخيرِ والظفرِ خَلاءُ بَطنِ وقرآنٌ تَدَبَّرُه ... كَذَا تَضَرُّعُ باكٍ ساعةَ السَّحَرِ ثُمَّ التهجدُ جُنْحَ الليلِ أوْسَطَهُ ... وأن تُجَالِسَ أَهْلَ الخَيْرِ والخَبَرِ والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (2/ 263) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 533) برقم 854. (¬2) ص: 377، برقم 976، وابن ماجه ص: 171، برقم 1569 - واللفظ له -. (¬3) ص: 381، برقم 2307، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬4) أخرجها ابن حبان في صحيحه، ص: 534 برقم 2982.

الكلمة الخامسة عشرة: العجب

الكلمة الخامسة عشرة: العُجب الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من عظائم الأمور وكبائر الذنوب التي تهلك صاحبها، وتفسد عليه أعماله: تلك الخصلة الذميمة: العُجب (¬1)؛ قال الراغب الأصفهاني: العجب ظن الإنسان في نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها، قال بعضهم: هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المنعِم عزَّ وجلَّ. قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين (25)} [التوبة]، وقال تعالى عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُون (78)} [القصص]. وقال تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)} [الكهف]. ¬

(¬1) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص: 306.

فلما أعجب بما عنده نسي أن هذا فضل اللَّه عليه، وأن الذي أعطاه قادر على أن يأخذه فيعود فقيرًا كما كان، فكانت عاقبته ما ذكره اللَّه: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)} [الكهف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ (¬1)، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ (¬2) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (¬3). وروى البزار من حديث أنس رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ، لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ» (¬4). وروى البزار من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» (¬5). ورُوِيَ عن ابن مسعود رضي اللهُ عنه أنه قال: «الهلاك في شيئين: العُجب والقنوط» (¬6). قال ابن قدامة رحمه الله: واعلم أن العُجب يدعو إلى الكِبر لأنه أحد أسبابه فيتولد من العُجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة وهذا مع ¬

(¬1) هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين. (¬2) المراد أنه ينزل في الأرض مضطربًا متدافعًا. (¬3) ص: 1132، برقم 5789، وصحيح مسلم ص: 866، برقم 2088. (¬4) كشف الأستار (4/ 244) برقم 3633، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (3/ 545 - 546): رواه البزار بإسناد جيد. (¬5) (1/ 59) برقم 80، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1802. (¬6) مختصر منهاج القاصدين: ص: 298، 299.

الخَلْق؛ فأما مع الخالق: فإن العُجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يَمُنُّ على اللَّه تعالى بفعلها وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها؛ وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردَّها دون من رضيها وأُعجب بها، والعُجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل؛ فإن انضاف إلى ذلك أن يرى حقًّا له عند اللَّه إدلالاً، فالعُجب يحصل باستعظام ما عُجب به، والإدلال يوجب توقع الجزاء، مثل أن يتوقع إجابة دعائه وينكر ردَّه (¬1). اهـ. وَعِلَّةُ العُجب: الجهل المحض، وعلاجه: المعرفة المضادة لذلك الجهل، أي معرفة بأن ذلك الذي أثار إعجابه نعمة من اللَّه عليه من غير حق سبق له، ومن غير وسيلة يُدلي بها، ومن ثم ينبغي أن يكون إعجابه بجود اللَّه وكرمه وفضله؛ وإذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً ولم يُعجب به، لأن اللَّه هو الذي وفقه إليه، وإذا قيس بالنعم لم يَفِ بمعشار عُشرها، هذا إذا سلم من شائبة وسلم من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يُغلِّب الحذر من رده، ويخاف العقاب على التقصير فيه: هذا في علاج العُجب إجمالاً؛ أما علاج حالاته تفصيلاً: فإن ذلك يختلف باختلاف ما يحدث به العُجب، فإن كان ناشئًا عن حالة البدن وما يتمتع به صاحبه من الجمال والقوة ونحوهما، فعلاجه التفكر في أقذار باطنه، وفي أول أمره وآخره، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة، كيف تمرغت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع! وإن كان العُجب بكثرة الأموال والأولاد والخدم والأقارب ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين: ص: 298، 299.

والأنصار، فعلاجه أن يعلم ضعفه وضعفهم، وأَنَّ للمال آفات كثيرة وأنه غادٍ ورائح ولا أصل له. ومر بالحسن البصري شاب عليه بزة له حسنة، فدعاه فقال له: «ابن آدم مُعجب بشبابه، محب لشمائله، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لاقيت عملك، ويحك داوِ قلبك فإن مراد اللَّه من العباد صلاح قلوبهم»؛ وقال مسروق: «كفى بالمرء علمًا أن يخشى اللَّه، وكفى بالمرء جهلاً أن يُعجب بعلمه» (¬1). قيل للحسن البصري: من شر الناس؟ قال: من يرى أنه أفضلهم، وقال بعضهم: الكاذب في نهاية البعد من الفضل والمرائي أسوأ حالاً منه لأنه يكذب بفعله وقوله، والمعجب أسوأ حالاً منهما فإنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه، والمعجب عمي عن مساوئ نفسه ورآها محاسن وسُر بها، وقد قال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لا أطالبه بغيرها: إذا عجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه (¬2). والخلاصة: «أن العجب آفة كبيرة، ومرض خطير من أمراض القلوب، وإن لم يتداركه صاحبه فإنه يهلكه، ويكون سبباً في بطلان عمله وسقوطه من عين ربه». والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) بتصرف واختصار من كتاب نضرة النعيم (11/ 5357 - 5358). (¬2) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص: 306 - 307.

الكلمة السادسة عشرة: شرح اسم الله الفتاح

الكلمة السادسة عشرة: شرح اسم الله الفتَّاح الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن الأسماء الحسنى التي وردت في كتابه العظيم: الفتَّاح، وللفتَّاح معنيان: الأول: يرجع إلى معنى الحكم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشرعه: بإثابة الطائعين، وعقوبة العاصين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم (26)} [سبأ]؛ وقال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين (89)} [الأعراف]، قال ابن كثير: «أي افصل بيننا وبين قومنا، وانصرنا عليهم. {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين}: أي خير الحاكمين، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا» (¬2). ¬

(¬1) ص: 526، برقم 2736، وصحيح مسلم ص: 1076، برقم 2677. (¬2) تفسير ابن كثير (6/ 350).

فالآية الأولى فتحه بين العباد يوم القيامة، وهذا في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وأهله، ويوقع بهم العقوبات. الثاني: فتحة لعباده جميع أبواب الخيرات والبركات، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] الآية. يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويدُرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، ويفتح لعباده أبواب الرزق وطرق الأسباب؛ ويهياء للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسِّر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة (¬1). ومن ذلك الفتح: ما يفتح اللَّه عزَّ وجلَّ على نبيه يوم القيامة من أنواع المحامد، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَاسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ» (¬2). ومنها فتحه سبحانه لعباده باب التوبة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ ¬

(¬1) فتح الرحيم الملك العلام للشيخ عبدالرحمن السعدي ص: 42. (¬2) ص: 110، برقم 194، وصحيح البخاري ص: 1256، برقم 6565.

اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬1). ومنها فتحه سبحانه أبواب السماء لنزول البركات وإجابة الدعوات، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (96)} [الأعراف]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيلِ البَاقِي، يَهبِطُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيَا، ثُمَّ تُفتَحُ أَبوَابُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَبسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: هَل مِن سَائِلٍ يُعطَى سُؤلَهُ؟ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَطلُعَ الفَجرُ» (¬2). ومنها ما يفتح اللَّه على العبد المؤمن قبل موته بعمل صالح، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي عنبة الخولاني رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَسَلَهُ» قِيلَ: وَمَا عَسَلَهُ (¬3)؟ قَالَ: «يَفتَحُ اللَّهُ لَهُ عَمَلاً صَالِحًا قَبلَ مَوتِهِ، ثُمَّ يَقبِضُهُ عَلَيهِ» (¬4). ومن فوائد الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: أن الفتح والنصر لا يكون إلا من اللَّه؛ فهو الذي يفتح على ¬

(¬1) ص: 1104، برقم 2759. (¬2) (6/ 191) برقم 3673، وقال محققوه: حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. (¬3) قال الزمخشري في الفائق (2/ 429): هو من عسل الطعام يعسله، إذا جعل فيه العسل كأنه شبه ما رزقه اللَّه تعالى من العمل الصالح الذي طاب به ذكره بين قومه بالعسل الذي يُجعل في الطعام فيحلو به ويطيب. (¬4) (29/ 323)، برقم 17784، قال محققوه: صحيح لغيره.

عباده، فينصر من يشاء ويخذل من يشاء، وقد نسب اللَّه الفتح لنفسه: لينبِّه عباده على طلب النصر والفتح منه لا من غيره، وأن يعملوا بطاعته ليفتح لهم وينصرهم على أعدائهم، قال تعالى لنبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)} [الفتح]. وقال تعالى: {فَعَسَى اللهُ أَن يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} [المائدة: 52]. وقال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]. روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال يوم خيبر: «لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (¬1). ثانيًا: ما يفتح اللَّه سبحانه على عباده بأنواع الخيرات استدراجًا لهم: إذا تركوا ما أُمروا ووقعوا فيما نُهُوا عنه، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام: 44]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ»، ثم تلا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام] (¬2). ¬

(¬1) ص: 980، برقم 2406، وصحيح البخاري ص: 565، برقم 2942. (¬2) (28/ 547) برقم 17311، وقال محققوه: حديث حسن.

ثالثًا: ما يفتحه اللَّه على من يشاء من عباده: من الحكمة والعلم والفقه في الدين، بحسب التقوى والإخلاص والصدق، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (282)} [البقرة]، وقال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين (22)} [الزمر]. رابعًا: ما ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه أن يفتح عليه أبواب رحمته. روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ؛ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (¬1). خامسًا: إن اللَّه بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض، قال سبحانه: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (12)} [الشورى]، فما يفتحه من الخير للناس لا يملك أحد أن يغلقه عنهم، وما يغلقه فلا يملك أحد أن يفتحه عليهم، كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (2)} [فاطر]. فلو فتح اللَّه المطر على الناس، فمن ذا الذي يحبسه عنهم? ! حتى لو أدى المطر إلى إغراقهم: مثل ما حدث لقوم نوح، فقد وصلت المياه إلى رؤوس الجبال؛ ولو حبس عنهم المطر سنين عديدة، ما ¬

(¬1) ص: 93، برقم 773، قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 129) برقم 627.

استطاعوا أن يفتحوا ما أغلقه اللَّه، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَاتِيكُم بِمَاء مَّعِين (30)} [الملك]. وقال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَأَدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]. والخلاصة: إن الفتاح اسم عظيم من أسماء اللَّه تعالى، ومعناه: الحكم الذي يفتح بين عباده ويحكم بينهم بشرعه، ويفتح لعباده أبواب الخيرات والبركات؛ وينبغي للمؤمن أن يسأل ربه بهذا الاسم العظيم، فيقول: يا فتاح افتح علي بالعلم، يا فتاح افتح لي أبواب رحمتك، يا فتاح افتح لي أبواب رزقك. والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السابعة عشرة: خطورة الكذب

الكلمة السابعة عشرة: خطورة الكذب الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الصفات المذمومة التي حرمها اللَّه ورسوله، وتوعد صاحبها بالعذاب الأليم في الآخرة: الكذب، قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُون (62)} [النحل]. وأخبر سبحانه أن الكذب من صفات الكفار والمنافقين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون (107)} [التوبة]، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُون (17)} [يونس]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬1). ¬

(¬1) ص: 30، برقم 33 وصحيح مسلم ص: 56، برقم 59.

وبيَّن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن الكذب يقود صاحبه إلى النار. روى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» (¬1). والكذاب يُعَذَّبُ في قبره قبل يوم القيامة. روى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديث الرؤيا الطويل: «فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَاتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَاهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَاهُ إِلَى قَفَاهُ» قال: «ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى» فسأل عنه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقيل له: «إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ» (¬2). ورتب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الثواب العظيم لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا. روى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ ¬

(¬1) ص: 1177، برقم 6094 وصحيح مسلم ص: 1048، برقم 2607. (¬2) ص: 1346 - 1348، برقم 7047.

كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (¬1). قال الإمام أحمد بن حنبل: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل (¬2)، وقال أيضاً: يطبع المسلم على الخصال كلها إلا الخيانة والكذب (¬3). وقال ابن القيم رحمه الله: الكذب متضمن لفساد نظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه لا في معاشهم ولا في معادهم، بل هو متضمن لفساد المعاش والمعاد ومفاسد الكذب اللازمة له معلومة عند خاصة الناس وعامتهم، كيف وهو منشأ كل شر، وفساد الأعضاء لسان كذوب، وكم أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستلبت به من نعم، وتقطعت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودات، وافتقر به غني، وذل به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة، وخلت به دور وقصور، وعمرت به قبور، وأزيل به أنس، واستجلبت به وحشة، وأُفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدواً مبيناً ورد الغني العزيز مسكيناً. وهل ملئت الجحيم إلا بأهل الكذب الكاذبين على اللَّه وعلى رسوله وعلى دينه، وعلى أوليائه، المكذبين بالحق حمية وعصبية جاهلية (¬4). ¬

(¬1) ص: 523، برقم 4800، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 911) برقم 4015. (¬2) الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 23). (¬3) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي (2/ 195). (¬4) انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 73).

قال الشاعر: الكَذِبُ عار وخَيْرُ القَولِ أصْدَقُهُ ... والحَقُّ مَا مَسَّهُ مِنَ بَاطِلٍ زَهَقَا وقال آخر: وَدَعِ الكَذُوبَ فَلاَ يكُنْ لَكَ صَاحِباً ... إِنِّ الكَذوبَ لَبِئْسَ خِلًّا يُصْحَبُ وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكره الكذب ويشتد إنكاره على فاعله، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبغَضَ إِلَى أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الكَذِبِ، وَلَقَد كَانَ الرَّجُلُ يَكذِبُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكِذبَةَ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفسِهِ عَلَيهِ حَتَّى يَعلَمَ أَنَّهُ قَد أَحدَثَ مِنهَا تَوبَةً (¬1). وذكر العلماء رحمه الله: أن أعظم الكذب: ما كان كذبًا على اللَّه أو على رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال الذهبي رحمه الله: ولا ريب أن تعمد الكذب على اللَّه ورسوله، في تحليل حرام أو تحريم حلال: كفر محض (¬2). قال الذهبي: «إن الكذب في الحالتين السابقتين كبيرة: أي الكذب على اللَّه أو على رسوله، وأن الكذب في غير ذلك أيضًا من الكبائر في أغلب أقواله» (¬3). والصدق منجاة للعبد في الدنيا والآخرة؛ ففي الصحيحين ¬

(¬1) (42/ 101) برقم 25183 وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2) انظر: الكبائر (الكبيرة التاسعة) للذهبي. (¬3) انظر: الكبائر (الكبيرة الرابعة والعشرون) للذهبي.

في قصة الإفك عند قبول توبة كعب بن مالك بشره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، قال: يا رسول اللَّه إن اللَّه إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت، قال: فواللَّه ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه اللَّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني اللَّه به، واللَّه! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني اللَّه فيما بقي (¬1)، وأنزل اللَّه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين (119)} [التوبة]. وقد استثنى العلماء رحمهم اللَّه: الكذب إذا كان لإصلاح بين متخاصمين، والكذب في الحرب، والكذب إذا كان لدفع الظلم؛ فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وأخفى ماله وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخذها فإنه يكذب لإخفائها، والأحوط أن يُوري ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب؛ وقد استدل العلماء على جواز الكذب في هذا الحال: بما رواه البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم رضي الله عنها: أنها سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا». زاد مسلم: قال ابن شهاب رحمه الله: «ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقولُ الناسُ كَذِبٌ إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، ¬

(¬1) ص: 1111 برقم 2769، وصحيح البخاري ص: 681 برقم 3556.

وحديث المرأة زوجها» (¬1). ومما ينبغي التنبيه عليه: أن النكت وهي قصص مكذوبة يقصد بها إضحاك الآخرين داخلة في الكذب المنهي عنه. روى الترمذي في سننه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» (¬2). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 513 برقم 2692، وصحيح مسلم ص: 1047 برقم 2605 - والزيادة له -. (¬2) ص: 382 برقم 2314، وقال هذا حديث حسن.

الكلمة الثامنة عشرة: عصمة النبي صلى الله عليه وسلم

الكلمة الثامنة عشرة: عصمة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن سنة اللَّه في خلقه أن الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِين (34)} [الأنعام]. روى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللهُ عنهما: أن هرقل ملك الروم، سأل أبا سفيان عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل قاتلتموه؟ فقال: إن الحرب بيننا وبينه سجال، فقال هرقل: وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة (¬1). ولقد لقي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أعدائه كثير الأذى وعظيم الشدة، منذ أن جهر بدعوته المباركة امتثالاً لقول اللَّه تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين (94)} [الحجر]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. وقد كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحرس من قبل بعض أصحابه قبل نزول ¬

(¬1) ص: 23، برقم 7، وصحيح مسلم ص: 736، برقم 1773، واللفظ له.

الآية الكريمة، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ»، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟ » قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا جَاءَ بِكَ؟ » قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ نَامَ، قالت عائشة رضي الله عنها: فنام رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى سمعت غطيطه (¬1) (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، قالت: فأخرج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأسه من القبة، فقال لهم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ» (¬3). قال ابن كثير: ومن عصمة اللَّه لرسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حفظه له من أهل مكة وصناديدها، وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة، ونصب المحاربة له ليلًا ونهارًا، بما يخلقه اللَّه من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة؛ فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق اللَّه في قلبه محبة طبيعية لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر ¬

(¬1) الصوت الذي يخرج من النائم. (¬2) ص: 555، برقم 2885، وصحيح مسلم ص: 981 - 982، برقم 2410. واللفظ له. (¬3) ص: 485، برقم 3046، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 46) برقم 2440.

هابوه واحترموه؛ فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيَّض اللَّه له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة، فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود؛ فكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء، كاده اللَّه ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر فحماه اللَّه منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سَمَّه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه اللَّه به وحماه منه (¬1). اهـ. ومن الأمثلة على حفظ اللَّه لرسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ (¬2)، قال فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى! لئن رأيته يفعل ذلك لأَطَأَنَّ على رقبته، أو لأعَفِّرَنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يصلي، زعم لِيَطَأَ على رقبته، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو يَنكِصُ على عقبيه (¬3)، ويتقي بيديه، قال فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهَوْلاً وأجنحةً. فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَو دَنَا مِنِّي لَاختَطَفَتهُ المَلَائِكَةُ عُضوًا عُضوًا» (¬4). ومنها ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي بكر الصديق رضي اللهُ عنه في قصة الهجرة النبوية، قال: فارتَحَلنا بعدما مالت الشمس، واتَّبَعَنا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (5/ 291). (¬2) أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب. (¬3) أي رجع يمشي إلى ورائه. (¬4) ص: 1125، برقم 2797؛ وصحيح البخاري: ص: 984، برقم 4958، مختصرًا.

سراقةُ بن مالك، فقلت: أُتِينا يا رسول اللَّه، فقال: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»، فدعا عليه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فارتَطَمَت به فرسه إلى بطنها - أُرى - في جَلَدٍ من الأرض - شك زهير - فقال: إني أراكما قد دعوتُما عَلَيَّ، فادعُوَا لي، فاللَّه لكما أن أردَّ عنكما الطلب، فدعا له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنجا، فجعل لا يلقَى أحدًا إلا قال: قد كَفَيتُكم ما هنا، فلا يلقَى أحدًا إلا ردَّه، قال: ووَفَى لنا (¬1). ومنها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع رضي اللهُ عنه قال: غزونا مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُنينًا، فلما واجَهْنا العدوَّ تقدَّمتُ فأَعلُو ثنيَّةً، فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم، فتوارى عني فما درَيتُ ما صنع! ونظرتُ إلى القوم فإذا هم قد طلَعوا من ثنيَّةٍ أخرى، فالتَقَوا هم وصحابة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فولَّى صحابة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأَرجِع منهزِمًا وعَلَيَّ بُردَتان مُتَّزِرًا بإحداهما مُرتديًا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتُهما جميعًا، ومررتُ على رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منهزمًا وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَقَد رَأَى ابنُ الأَكوَعِ فَزَعًا» فلما غَشُوا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: «شَاهَتِ الوُجُوهُ»؛ فما خلق اللَّه منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فوَلَّوا مدبرين، فهزمهم اللَّه عزَّ وجلَّ، وقسم رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غنائمهم بين المسلمين (¬2). ¬

(¬1) ص: 691، برقم 3615؛ وصحيح مسلم: ص: 1206، برقم 2009 مختصرًا، وفي كتاب الزهد مطولاً. (¬2) ص: 739، برقم 1777.

ومنها ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَاسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ قَالَ، فَشَامَ (¬1) السَّيْفَ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬2). فهذه الأمثلة وغيرها تفيد كما سبق حفظه سبحانه لنبيه محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وذلك تصديقًا لوعده سبحانه: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، حتى يبلغ هذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون (9)} [الصف]، فصلوات اللَّه وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار. والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فشام أي سقط. (¬2) صحيح مسلم ص: 937 برقم 843، وصحيح البخاري ص: 559 برقم 2910.

الكلمة التاسعة عشرة: البشارة وفضائلها

الكلمة التاسعة عشرة: البشارة وفضائلها الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فحديثنا لهذا اليوم عن البشارة، قال بعضهم: البشارة كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه، ويستعمل في الخير والشر، وفي الخير أغلب (¬1). قال الرازي: والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيَّدة به، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم (34)} [التوبة]. اهـ (¬2). وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة: فيها بشائر عظيمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (64)} [يونس]. وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ ¬

(¬1) التعريفات للجرجاني ص: 45، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/ 163). (¬2) مختار الصحاح ص: 60.

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون (25)} [البقرة]. روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي اللهُ عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها - أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ -: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» (¬1). والكفار والمنافقون مبشَّرون بعذاب اللَّه، قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} [النساء]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيم (3)} [التوبة]. والمسلم إذا مر بقبر الكافر بشره بالنار؛ روى ابن ماجه في سننه من حديث سالم عن أبيه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأعرابي: «حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ»، قَالَ فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَعَبًا: مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ (¬2). ¬

(¬1) ص: 1247 برقم 6507، وصحيح مسلم ص: 1077 برقم 2684. (¬2) ص: 172 برقم 1573، قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (1/ 55) برقم 18.

قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: «وفي هذا الحديث فائدة هامة أغفلتها عامة كتب الفقه ألا وهي مشروعية تبشير الكافر بالنار إذا مرَّ بقبره، ولا يخفى ما في هذا التشريع من إيقاظ المؤمن وتذكيره بخطورة جرم هذا الكافر، حيث ارتكب ذنباً عظيماً تهون ذنوب الدنيا كلها تجاهه ولو اجتمعت، وهو الكفر باللَّه عزَّ وجلَّ والإشراك به. وإن الجهل بهذه الفائدة مما أدى ببعض المسلمين إلى الوقوع في خلاف ما أراد الشارع الحكيم منها فإننا نعلم أن كثيراً من المسلمين يأتون بلاد الكفار لقضاء بعض المصالح الخاصة أو العامة، فلا يكتفون بذلك حتى يقصدوا زيارة بعض قبور من يسمونهم بعظماء الرجال من الكفار! ويضعون على قبورهم الأزهار والأكاليل ويقفون أمامها خاشعين محزونين، مما يشعر برضاهم عنهم، وعدم مقتهم إياهم» (¬1). وقد بشَّر اللَّه المؤمنين الخائفين بالمغفرة والأجر العظيم، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيم (11)} [يس]. وبشَّر اللَّه المؤمنين الصابرين بالصلوات والرحمة، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِين (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون (157)} [البقرة]. ¬

(¬1) السلسلة الصحيحة (1/ 57).

وأمر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعض أصحابه أن يبشر الناس بالخير؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعثه ومعاذاً إلى اليمن فقال: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» (¬1). والأعمال الصالحة التي يعملها المؤمن، ويحمده الناس عليها: بشرى من اللَّه له؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه قال: قيل لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه قال: «تِلكَ عَاجِلُ بُشرَى المُؤْمِنِ» (¬2). والمؤمن الذي يمشي إلى المساجد في ظلمات الليل: مبشَّر بالنور التام يوم القيامة. روى أبو داود في سننه من حديث بُرَيدَة الأسلميِّ رضي اللهُ عنه: عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ: بِالنُّورِ التَّامِّ يَومَ القِيَامَةِ» (¬3). وبشَّر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من مات من أمته لا يشرك باللَّه شيئًا: بأن مصيره إلى الجنة؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ذَاكَ جِبْرِيلُ عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬4). ¬

(¬1) ص: 581، برقم 3038، وصحيح مسلم ص: 721، برقم 1733. (¬2) ص: 1059، برقم 2642. (¬3) ص: 84، برقم 561، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 545) برقم 2823. (¬4) ص: 1237، برقم 6443، وصحيح مسلم ص: 64، برقم 94.

وبشَّر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمته بأنهم أكثر أهل الجنة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد (2)} [الحج]»، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: «أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ أَلْفًا، وَمِنْكُمْ رَجُلٌ»؛ ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» قَالَ: فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ» (¬1). والرؤيا الصالحة بشرى من اللَّه تعالى للمؤمن؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ المَرءُ نَفْسَهُ» (¬2). ومن فوائد البشارة: أولاً: استحباب التبشير بالخير؛ قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين (223)} [البقرة]، وفي الصحيحين في قصة توبة كعب بن ¬

(¬1) ص: 1251، برقم 6530، وصحيح مسلم ص: 118، برقم 222. (¬2) ص: 1341، برقم 7017، وصحيح مسلم ص: 930، برقم 2263 واللفظ له.

مالك رضي اللهُ عنه: قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» (¬1). ثانيًا: فضل الأعمال المبشَّر بها مثل الصبر، والخوف من اللَّه، والمشي إلى المساجد في ظلمات الليل، وغيرها مما سبق ذكره. ثالثًا: البشارة تجلب الطمأنينة، وسكون النفس، وترفع الروح المعنوية، وتجلب السعادة والسرور. رابعًا: تعود البشارة بالنفع العاجل للمبشَّر، كما في حديث كعب بن مالك: عندما بشَّره الرجل الذي صعد الجبل، وصاح بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك، قال كعب: فنزعت له ثوبي? ، فكسوتهما إياه ببشارته، واللَّه ما أملك غيرهما (¬2). خامسًا: فضل المبشِّرين الذين يبشِّرون الناس بالخير، ولذلك جاء في الحديث السابق: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لبعض أصحابه: «بَشِّرَا، وَلَا تُنَفِّرَا» (¬3). سادسًا: حب المبشَّر لمن يبشِّره، واستئناسه به؛ روى البخاري ومسلم - في قصة نزول الوحي على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في أول نزوله في غار حراء -: فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده، فقال: «يَا خَدِيجَة، لَقَد خَشِيتُ عَلَى نَفسِي»؛ فقالت: كلا، أبشر! فواللَّه لا يخزيك اللَّه أبدًا، ¬

(¬1) ص: 834 - 837، برقم 4418، وصحيح مسلم ص: 1109 - 1111، برقم 2769. (¬2) ص: 834 - 837 برقم 4418، وصحيح مسلم ص: 1109 برقم 2769. (¬3) ص: 581 برقم 3038، وصحيح مسلم ص: 721 برقم 1733.

إنك لتَصِل الرحم، وتَصدُق الحديث، وتَحمِل الكَلَّ. الحديث (¬1). فَسُرَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكلامها، واطمَأَنَّ قلبه؛ وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحبها ويكثر من ذكرها، حتى بعد وفاتها؛ وقد بشَّرها ببيت في الجنة من قَصَب (¬2): لا صَخَب (¬3) فيه، ولا نَصَب (¬4) (¬5). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 21 برقم 3، وصحيح مسلم ص: 88 برقم 160 - واللفظ له -. (¬2) قصب: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف. (¬3) الصخب: هو الصوت المختلط المرتفع. (¬4) نصب: المشقة والتعب. (¬5) ص: 726 برقم 3820، وصحيح مسلم ص: 988 برقم 2432.

الكلمة العشرون: تأملات في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}

الكلمة العشرون: تأمُّلات في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم: لتدبُّره والعمل به، فقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]. وعملاً بهذه الآية الكريمة: فلنستمع إلى آية من كتاب اللَّه، ونتدبَّر ما فيها من العظات والعِبر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم (32)} [فصلت]. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال ابن كثير: أي أخلصوا العمل للَّه، وعملوا بطاعة اللَّه تعالى على ما شرع لهم (¬1). قال الزهري: تلا عمر هذه الآية على المنبر، ثم قال: استقاموا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (12/ 234).

واللَّه للَّه بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد اللَّه الثقفي رضي اللهُ عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولاً: لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ» (¬2). ولا يكون العبد على طريق الاستقامة: حتى تكون إراداته وأعماله وأقواله، وفق ما شرعه اللَّه، وعلى سنة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] فقال: {كَمَا أُمِرْتَ} ولم يقل: كما أردت؛ فالمهتدي حقيقة: هو من كان سويًّا في نفسه، ويسير على الصراط المستقيم، قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (22)} [الملك]. قوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ}: يعني عند الموت، قائلين: {أَلاَّ تَخَافُوا}: أي مما تُقدِمون عليه من أمر الآخرة، فإن للآخرة أهوالاً عظيمة تبدأ من القبر: فهو أول منازل الآخرة، فهناك القبر وظلمته وضمته ووحشته، والنفخ في الصور، وعرصات يوم القيامة، والصراط، والميزان، كل هذه الأهوال يهوِّنها اللَّه على أهل الاستقامة. قوله تعالى: {وَلاَ تَحْزَنُوا}: أي على ما خلفتموه من أمر الدنيا: من ولد وأهل ومال ودين، فإنا نخلفكم فيه. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (12/ 235). (¬2) ص: 49، برقم 38.

قوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون (30)} [فصلت]: فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ» (¬1). وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت: أنه قرأ سورة حم السجدة، حتى بلغ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ}، فوقف فقال: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه اللَّه من قبره يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن؛ فيؤمِّنُ اللَّه خوفه ويقر عينه، فما من عظيمة يخشى الناس منها يوم القيامة، إلا وهي للمؤمن قرَّة عين: لما هداه اللَّه، ولما كان يعمل له في الدنيا (¬2). قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال له: إن ربك يقرئك السلام، وقال محمد بن كعب: يقول له ملك الموت: السلام عليك يا ولي اللَّه، اللَّه يقرأ عليك السلام، ثم تلا: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ ¬

(¬1) (14/ 378)، برقم 8769؛ وصححه محققو المسند، وقالوا: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) عزاه ابن كثير في تفسيره (12/ 236 - 237) إلى ابن أبي حاتم، وقال محققوه: إسناده حسن.

تَعْمَلُون (32)} [النحل]؛ وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث، قال ابن كثير: وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدًّا وهو الواقع (¬1). قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت: 31]، أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر اللَّه، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون (101) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُون (102) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُون (103)} [الأنبياء]. قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون (31)} [فصلت] أي: في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون، قال تعالى: {يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِين (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُون (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُون (71)} [الزخرف]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (12/ 237).

قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون (31)} [فصلت]، أي: مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم كما اخترتم. قوله تعالى: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم (32)} [فصلت]؛ أي ضيافة وعطاء وإنعامًا من غفور لذنوبكم، رحيم بكم، رؤوف حيث غفر وستر، ورحم ولطف؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» (¬1)، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون (17)} [السجدة]. ومن فوائد الآيات الكريمات: 1 - أن الإيمان والاستقامة سببان لدخول الجنة. 2 - أن الملائكة تبشر المؤمن عند الاحتضار، وفي قبره، ويوم القيامة، وعلى أبواب الجنة، قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار (24)} [الرعد]. 3 - إن العامل ينبغي أن يبشَّر بما يستحق من الثواب، فإن ذلك أبلغ في نشاطه، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين (223)} [البقرة]. 4 - إن المؤمنين إنما يدخلون الجنة بفضل اللَّه ورحمته لا ¬

(¬1) ص: 623 برقم 3244، وصحيح مسلم ص: 1136 برقم 2824.

بأعمالهم؛ روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» (¬1). 5 - إن المؤمنين إذا دخلوا الجنة أُعطوا ما يريدون: مما تشتهيه نفوسهم وتلذ به أعينهم، بل وزيادة على ذلك، قال تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد (35)} [ق]، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1134، برقم 2818، وصحيح البخاري ص: 1241، برقم 6467.

الكلمة الحادية والعشرون: رؤية الله تعالى

الكلمة الحادية والعشرون: رؤية الله تعالى الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن أعظم نعيم لأهل الجنة: رؤية اللَّه تعالى، وهي الغاية التي شمَّر لها المشمِّرون وتنافس فيها المتنافسون، وحُرِمَها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون؛ قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} [القيامة]، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)}: «تنظر إلى ربها عزَّ وجلَّ» (¬1). وقال تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد} [ق]، قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي اللهُ عنهما: «المزيد: هو النظر إلى اللَّه عزَّ وجلَّ» (¬2)، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، والحُسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسَّرها بذلك رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ روى مسلم في صحيحه من حديث صهيب رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ»، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا ¬

(¬1) زاد المسير (8/ 422). (¬2) المصدر السابق (8/ 21).

أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» (¬1). وزاد: ثم تلا هذه الآية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وكذلك فسرها الصحابة رضي اللهُ عنهم؛ روى ذلك ابن جرير عن جماعة منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي اللهُ عنهم (¬2). وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون (15)} [المطففين]، احتج بها بعض السلف على الرؤية لأهل الجنة. قال الشافعي: في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزَّ وجلَّ يومئذ. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية كما دلَّ عليه منطوق قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} [القيامة]، وكما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة (¬3). قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وعذاب الحجاب من رب العالمين المتضمن لسخطه وغضبه عليهم هو أعظم عليهم من عذاب النار، ودل مفهوم الآية على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون ¬

(¬1) ص: 99، برقم 181. (¬2) جامع البيان (5/ 4198 - 4201). (¬3) تفسير ابن كثير (14/ 287).

بخطابه ويفرحون بقربه، كما ذكر اللَّه ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه النقل عن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬1). اهـ. قال في شرح الطحاوية: وأما الأحاديث عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة: رواها أصحاب الصحاح والمسانيد، وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيًّا، ومن أحاط بها يقطع بأن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالها؛ بل في هذه الأحاديث - مع إثبات الرؤية -: أنه يكلِّم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمع من قَرُبَ، وأنه يتجلَّى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي ثبتت بالكتاب والسنة (¬2). اهـ. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ » قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ» (¬3). وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ: آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ: آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ: إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 875. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص: 209 - 210، بتصرف. (¬3) ص: 1257 برقم 6573، وصحيح مسلم ص: 99 برقم 299.

وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» (¬1). وقد ورد في حديث صهيب المتقدم: ما يدل على أن المراد برداء الكبرياء في حديث أبي موسى: الحجاب، وأنه سبحانه يكشفه لأهل الجنة إكرامًا لهم فيرونه سبحانه. من الأسباب الموجبة لرؤية اللَّه تعالى: أولاً: الإيمان باللَّه وتوحيده، قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، والإحسان أعلى مراتب الإيمان. ثانيًا: المحافظة على صلاة الفجر وصلاة العصر؛ روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنه قال: كنا جلوساً عند رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا» يعني العصر والفجر؛ ثم قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] (¬2). ثالثًا: الابتعاد عن المعاصي والذنوب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا ¬

(¬1) ص: 959 برقم 4878، وصحيح مسلم ص: 178 برقم 180. (¬2) ص: 128 برقم 573، وصحيح مسلم ص: 249 برقم 633 واللفظ له.

وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» (¬1). رابعاً: الدعاء قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} [البقرة]. روى النسائي في سننه من حديث عمار بن ياسر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» (¬2). والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 68، 69، برقم 106. (¬2) ص: 154 برقم 1305، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع الصغير» برقم 1301.

الكلمة الثانية والعشرون: سترة المصلي

الكلمة الثانية والعشرون: سترة المصلي الحمدُ للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الصلاة هي عماد الدين، والركن الثاني من أركانه، وهي أول ما يُسأَل عنه العبد يوم القيامة؛ لذلك وجب على المسلم: أن يحرص على أدائها، كما أمره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيَّن صفتها لأمته. روى البخاري في صحيحه من حديث مالك بن الحويرث رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1). وروى الطبراني في الأوسط من حديث عبد اللَّه بن قرط رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ: الصَّلَاةُ، فَإِن صَلَحَت صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِن فَسَدَت فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬2). وهناك أخطاء يقع فيها بعض المصلين: أحببت التذكير بها أداء لحق اللَّه تعالى، وقيامًا بواجب النصيحة؛ فمن الأخطاء: ¬

(¬1) ص: 137، برقم 631. (¬2) (2/ 240)، برقم 1859، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم 1358.

عدم الاهتمام بالسترة، التي وردت النصوص الشرعيَّة الكثيرة بالأمر بها؛ فروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلْيَدْرَاهُ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل بن أبي حثمة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا، مَا لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» (¬2). ومن فوائد هذه السترة: أولاً: أنها سبب شرعي لعدم بطلان الصلاة بمرور المرأة البالغة، والحمار، والكلب الأسود؛ كما صح بذلك الحديث. ثانيًا: منع المرور بين يدي المصلي وإفساد خشوعه. ثالثًا: أن السترة تمنع الشيطان من المرور بين يدي المصلي، كما جاء في الحديث: «لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ». رابعًا: أن السترة تمنع المصلي من إطلاق نظره فيما أمامه: مما يذهب عليه خشوعه، وغير ذلك من الحكم الأخرى؛ وقد كان السلف الصالح يحرصون على السترة في صلاتهم، وكانوا ينكرون على من يصلي لغير سترة. ¬

(¬1) ص: 206، برقم 505. (¬2) (26/ 9) برقم 16090، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.

روى البخاري في صحيحه: أن عمر رضي اللهُ عنه رأى رجلاً يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية فقال: صل إليها (¬1)؛ قال ابن حجر: أراد عمر بذلك أن تكون صلاته إلى سترة (¬2) اهـ. فما فعله عمر يدل على أن السترة أمر مؤكد جدًّا؛ قال ابن مسعود: أربع من الجفاء - ذكر منها -: أن يصلي الرجل إلى غير سترة، أو يسمع المنادي لا يجيبه. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه أنه قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يبتدرون السواري عند المغرب (¬3)، وفي رواية: أنها الركعتان اللتان قبل المغرب (¬4). فالصحابة رضي اللهُ عنهم كانوا يحرصون على السترة في المسجد - مع ضيق الوقت -؛ روى ابن أبي شيبة من حديث نافع قال: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد، قال لي: ولِّني ظهرك (¬5)؛ وروى ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: أنه كان ينصب أحجارًا في البرية، فإذا أراد أن يصلي صلى إليها (¬6)؛ وهذا يدل على أنه لا فرق في السترة بين العمران والصحاري، كما يظهر من الأحاديث السابقة وفعل الصحابة رضي اللهُ عنهم. ¬

(¬1) ص: 116. (¬2) فتح الباري (1/ 577). (¬3) ص: 116 برقم (503)، وصحيح مسلم ص: 325 برقم 837. (¬4) صحيح مسلم ص: 325 برقم 837. (¬5) (2/ 141) برقم 2892. (¬6) (2/ 138) برقم 2877.

قال العلامة السفاريني: «واعلم أنه يستحب صلاة المصلي إلى سترة اتفاقًا، ولو لم يخش مارًّا» (¬1). أما مقدار السترة المجزئة التي تستر المصلي، وتدفع عنه ضرر المار: فهي طول مؤخرة الرحل؛ روى مسلم في صحيحه من حديث طلحة رضي اللهُ عنه قال: كنا نصلي والدواب تمر بين أيدينا، فذكرنا ذلك لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سترة المصلي، فقال: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ: الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ» (¬4). والرحل مقداره ذراع كما صرح بذلك بعض السلف: مثل عطاء وقتادة والثوري، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: والظاهر أن هذا على سبيل التقريب لا التحديد، لأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدَّرها بآخرة الرحل، وآخرة الرحل تختلف في الطول ¬

(¬1) شرح ثلاثيات المسند (2/ 786). (¬2) ص: 204 برقم 499. (¬3) ص: 204 برقم 500. (¬4) ص: 207 برقم 510.

والقصر، فتارة تكون ذراعًا، وتارة أقل منه؛ فما قارب الذراع أجزأ الاستتار به، واللَّه أعلم؛ فأما قدرها في الغلظ والدقة فلا حد له نعلمه، فإنه يجوز أن تكون دقيقة كالسهم والحربة، وغليظة كالحائط، فإن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يستتر بالعَنَزَة، وهي ما بين الرمح والعصا وبه زج؛ قال أبو سعيد: كان يستتر بالسهم والحجر في الصلاة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «سُتْرَةُ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ السَّهْمُ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَهْمٍ» (¬1) (¬2). تنبيهات: أولاً: ما يفعله بعض الناس من اتخاذ الخط سترة في الصحراء لا يصلح، والحديث الوارد في ذلك ضعفه جمع من أهل العلم: كابن الصلاح والعراقي وغيرهم. ثانيًا: أن المأموم لا تجب عليه سترة، والسترة في صلاة الجماعة من مسؤولية الإمام، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: «أقبلتُ راكبًا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك أحد» (¬3). ثالثًا: تحريم المرور بين يدي المصلي: لقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ¬

(¬1) (24/ 59) برقم 15342، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) المغني (3/ 82 - 83)، بتصرف. (¬3) ص: 40 برقم 76، وصحيح مسلم ص: 206 برقم 504.

الحديث المخرَّج في الصحيحين - من حديث أبي جهيم -: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ؟ ! لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» (¬1). الخلاصة: أن السترة سنة مؤكدة وقال بعض أهل العلم بوجوبها وهو قول قوي، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحرص عليها وسواء كان ذلك في المسجد، أو البيت، أو الصحراء: ما دام يصلي منفردًا أو إمامًا، وعليه أن يمنع من مر بين يديه، ويجزئه من السترة مقدار مؤخرة الرحل (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 117 برقم 510، وصحيح مسلم ص: 207 برقم 507. (¬2) انظر: كتاب «القول المبين في أخطاء المصلين»، للشيخ مشهور حسن سلمان (ص: 77 - 88).

الكلمة الثالثة والعشرون: سيرة مصعب بن عمير

الكلمة الثالثة والعشرون: سيرة مصعب بن عمير الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فهذه سيرة عَلَم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها: صحابي جليل من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر. هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام ممن شهد بدرًا وأُحُدًا، وكان حامل اللواء فيها، وممن هاجر الهجرتين: الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة؛ أسلم على يديه العشرات، وكان أول سفير في الإسلام، ويقال: إنه أول من صلى الجمعة في المدينة. إنه الشهيد البطل: مصعب بن عمير بن هشام البدري القرشي العبدري، قال ابن سعد في طبقاته: لما بلغ مصعب بن عمير أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، دخل عليه فأسلم وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه؛ وكان يأتي إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سرًّا، وقد أسلم في السنوات الثلاث الأولى من الدعوة قبل أن يصدع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالدعوة، لكن الواشين من المشركين - لما علموا بإسلامه -، سارعوا إلى الوشاية به عند أمه وقومه؛ قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء}

[النساء: 89]. فغضبوا عليه وحبسوه وأوثقوه، فلم يزل محبوسًا حتى فرَّ بدينه وهاجر إلى الحبشة (¬1). كان مصعب بن عمير فتى مكة المدلَّل، وكانت أمه من أغنى أهل مكة: تكسوه أحسن الثياب، وأجمل اللباس، وكان أعطر أهل مكة؛ فلما أسلم انخلع من ذلك كله، وأصابه من التعذيب والبلاء ما غيَّر لونه، وأنهك جسمه؛ روى البخاري في صحيحه من حديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَاسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ؛ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (¬2). قال ابن اسحاق: بعث رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مصعب بن عمير مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى يفقِّه أهلها ويقرئهم القرآن، فكان منزله على أسعد بن زرارة وكان إنما يسمى بالمدينة: المقرئ؛ يقال: إنه أول من جمع الجمعة بالمدينة وأسلم على يده أسيد بن حضير وسعد ابن معاذ، وهما سيدا قومهما وكفى بذلك فخرًا وأثرًا في الإسلام (¬3). اهـ. ¬

(¬1) الطبقات (3/ 116). (¬2) ص: 690 برقم 3612. (¬3) نقلاً عن «أسد الغابة»، لابن الأثير (4/ 134).

وروى البخاري في صحيحه من حديث البراء رضي اللهُ عنه قال: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَاتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)} فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ (¬1). ولما وقعت معركة أحد في العام الثالث من الهجرة النبوية، شارك فيها مصعب بن عمير مشاركة الأبطال، وأبلي فيها بلاء المؤمنين الصابرين، وحمَّله المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم راية المسلمين، وثبت مصعب بن عمير مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودافعت المشركين عنه لما تخلخلت صفوف المسلمين، وأصبحت الجولة للمشركين، وبقي اللواء في يد مصعب بن عمير يمسكه بقوة وثبات ويدافع عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وتدافع المشركون نحو اللواء، وأقبل ابن قمئة - عليه من اللَّه ما يستحق - فشدَّ على مصعب بن عمير، فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يردد قول الحق سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِين (144)} [آل عمران].ثم أخذ اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع، فضرب ابن قمئه يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه إلى صدره، ووقع مصعب بن عمير شهيدًا ¬

(¬1) ص: 747 برقم 3925.

مضرَّجًا بدمائه، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} [الأحزاب]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي وائل قال: عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَاخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً؛ فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَاسَهُ بَدَتْ رجلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنْ نُغَطِّيَ رَاسَهُ وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذخِرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا (¬1). فارق مصعب بن عمير الدنيا شهيدًا لم يخلف وراءه شيئًا من متاع الدنيا، ترك المال والجاه والنعيم، وآثرما عند اللَّه، قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} [النحل: 96]؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة وأبي الدهماء أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للَّهِ عزَّ وجلَّ، إِلا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» (¬2). رضي اللَّه عن مصعب، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته: مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 740 برقم 3897. (¬2) (38/ 170) برقم 23074، وقال الألباني رحمه الله في «السلسلة الضعيفة» (1/ 19): وسنده صحيح على شرط مسلم؛ وقال محققو المسند: إسناده صحيح.

الكلمة الرابعة والعشرون: السحر والمس والعين

الكلمة الرابعة والعشرون: السحر والمس والعين الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يُبتلَى فيها المؤمن بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والشهوات والشبهات؛ قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون (35)} [الأنبياء]. أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم تارة أخرى فننظر من يشكر ومن يكفر ومن يقنط ومن يصبر، ومن هذه الابتلاءات التي يصاب بها الناس: السحر والعين والمس وهي ثابتة بالشرع والحس، وقد كثر المتشكون منها في هذه الأزمان، وهذه الأمراض لها أسباب أذكر بعضًا منها: 1 - ابتلاء من اللَّه وهذا قد يحصل لبعض الصالحين والصالحات، وقد وقع ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو سيد البشر، كما روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَحَرَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَما يَفْعَلُهُ، حَتَّى جاءه الملكان وأخبراه

بموضع السحر، فَأَمَرَ بِه فَدُفِنَ (¬1). والسحر الذي أصابه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان مرضاً من الأمراض عارضاً شفاه اللَّه منه، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء فقد أُغمي عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مرضه ووقع حين انفكت قدمه، وجُحش شقه وهذا من البلاء الذي يزيده اللَّه به رفعة في درجاته ونيل كرامته، وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس فليس ببدع أن يُبتلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتُلِيَ بالذي رماه فشجه، وابتُلِي بالذي ألقى على ظهره السلى وهو ساجد، وغير ذلك فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند اللَّه (¬2). 2 - المعاصي والذنوب، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير (30)} [الشورى]. وقال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]. قال بعض السلف: إني لأعصي اللَّه فأرى ذلك في نفسي ودابتي. 3 - الغفلة عن ذكر اللَّه: قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين (36)} [الزخرف]. روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا ¬

(¬1) ص: 1129 برقم 5766، وصحيح مسلم ص: 901 برقم 2189. (¬2) بدائع الفوائد (2/ 742).

دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (¬1). 4 - الحسد، قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» (¬2). والعائن والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد يحصل له ذلك عند غيبه المحسود وحضوره أيضاً، ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينُهُ نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين. وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51]: إنه الإصابة بالعين، فأرادوا أن يُصيبوا بها رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته، وكان طائفة منهم تمر بهم الناقة والبقرة السمينة فَيَعِينُها ثم يقول لخادمه: خذ المِكتَلَ والدِّرهم وائتنا ¬

(¬1) ص: 837 برقم 2018. (¬2) ص: 1035 برقم 2564.

بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فَتُنْحَرَ (¬1). روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «العَينُ حَقٌّ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول اللَّه إن بني جعفر تصيبهم العين، أفنسترقي لهم؟ قال: «نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَضَاءَ، لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» (¬3). وروى ابن عدي في الكامل من حديث جابر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ العَينَ لَتُدخِلُ الرَّجُلَ القَبرَ، وَتُدخِلُ الجَمَلَ القِدرَ» (¬4). وأرشد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المؤمن إذا رأى شيئًا أن يبرك أي يقول: اللَّهم بارك عليه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل بن حنيف رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ؟ » (¬5). ومن أسباب الحفظ والوقاية من السحر أو العين أو غيرها: أولاً: التوكل على اللَّه فهو أعظم ما تدفع به الآفات وأنفع ما تحصل به المطالب، فمن توكل على اللَّه كفاه أموره كلها، قال تعالى: ¬

(¬1) بدائع الفوائد (2/ 751 - 752). (¬2) ص: 1125 برقم 5740، وصحيح مسلم ص: 900 برقم 2187. (¬3) (6/ 438) وسنن الترمذي ص: 342 برقم 2059، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 408)، وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 761) برقم 4144. (¬5) (25/ 356) برقم 15980، وقال محققوه: حديث صحيح.

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. ثانيًا: امتثال أوامر اللَّه واجتناب نواهيه، فمن حفظ اللَّه في أوامره ونواهيه حفظه اللَّه في دينه ودنياه وأهله وماله، قال تعالى: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين (64)} [يوسف]. روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ» (¬1). ثالثًا: كثرة ذكر اللَّه عند دخول المنزل وعند الخروج وفي الصباح والمساء؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» (¬2). رابعًا: تعويذ الصبيان؛ فقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» (¬3). خامسًا: أن يتصبح المؤمن بسبع تمرات عجوة، وهو نوع من تمر المدينة؛ روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللهُ عنه: ¬

(¬1) ص: 409 برقم 2516، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) ص: 629 برقم 3293، وصحيح مسلم ص: 1080 برقم 2691. (¬3) ص: 646 برقم 3371.

أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ» (¬1). قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: يرجى أن يعم ذلك جميع أنواع التمر، فإن المعنى موجود فيه (¬2). سادساً: المحافظة على صلاة الفجر جماعة مع المسلمين في المساجد، روى مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد اللَّه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ» (¬3)، ومن كان في ذمة اللَّه لم يكن للشيطان عليه سبيل. سابعاً: قراءة سورة البقرة في البيت، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة الباهلي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اقرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَركَهَا حَسرَةٌ، وَلَا تَستَطِيعُهَا البَطَلَةُ» (¬5)، قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة. ثامناً: المحافظة على قراءة المعوذتين في الصباح والمساء، وقد أوصى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه بهما وقال له: «تَعَوَّذْ بِهِمَا ¬

(¬1) ص: 1130 برقم 5769، وصحيح مسلم ص: 847 برقم 2074. (¬2) نقلاً عن كتاب السحر والمس والعين للشيخ فهد القاضي، ص: 9. (¬3) ص: 358 برقم 657. (¬4) جزء من حديث ص: 306 برقم 780. (¬5) جزء من حديث ص: 314 برقم 804.

فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» (¬1)، قال ابن القيم رحمه الله: حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس (¬2). تاسعاً: الإكثار من التعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق، في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البنيان أو الصحراء أو الجو أو البحر، روى مسلم في صحيحه من حديث خولة السلمية أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ فِيهِ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ» (¬3). عاشراً: قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» (¬4). الحادي عشر: قراءة آية الكرسي عند النوم، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَن قَرَأَهَا إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقرَبُهُ شَيطَانٌ حَتَّى يُصبِحَ» (¬5). الثاني عشر: إمساك الصبيان ساعة الغروب، روى البخاري ¬

(¬1) سنن أبي داود ص: 176 برقم 1463، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 275) برقم 1299. (¬2) بدائع الفوائد (2/ 426) نقلاً عن كتاب بائع دينه للدكتور/ عبد المحسن القاسم. (¬3) ص: 1086 برقم 2708. (¬4) ص: 995 برقم 5009، وصحيح مسلم ص: 315 برقم 807. (¬5) جزء من حديث ص: 433 - 434 برقم 2311.

ومسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا» (¬1). الثالث عشر: تطهير البيت من الصلبان والتماثيل وصور ذوات الأرواح والكلاب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةُ» (¬2)، وفي رواية: «تَمَاثِيلَ» (¬3). وتطهيره من آلات اللهو والمعازف فإن الغناء مزمار الشيطان. قال ابن القيم رحمه الله: ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بها أي الفاتحة آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مرارًا ثم أشربه، فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غاية الانتفاع (¬4). اهـ. ومن السور التي يُرقى بها: الفاتحة والمعوذتان وسورة الكرسي، ومن الأدعية المأثورة قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أذْهِبِ الْبَاسِ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» (¬5). ¬

(¬1) ص: 63 برقم 2304، وصحيح مسلم ص: 835 برقم 2012. (¬2) ص: 620 برقم 3227، وصحيح مسلم ص: 872 برقم 2106 واللفظ له. (¬3) صحيح مسلم ص: 873 برقم 2106. (¬4) الطب النبوي ص: 301. (¬5) صحيح البخاري ص: 1125 برقم 5743، وصحيح مسلم ص: 902 برقم 2191.

ومنها قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمريض: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 905 برقم 2202. (¬2) انظر رسالة لطيفة لأخينا الشيخ/ فهد القاضي «السحر والمس والعين»، ورسالة د. عبد المحسن القاسم بعنوان «بائع دينه».

الكلمة الخامسة والعشرون: الأمن من مكر الله

الكلمة الخامسة والعشرون: الأمن من مكر الله الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الذنوب العظيمة عند اللَّه: الأمن من مكر اللَّه والقنوط من رحمة اللَّه، قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُون (97)} [الأعراف]. أي: عذابنا ونكالنا ليلاً وهم نائمون، {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون (98)} [الأعراف]. أي: في نهارهم وهم في شغلهم وغفلتهم، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَامَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99)} [الأعراف]. أي: بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم؛ وذلك أن هؤلاء القوم المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود أغدق اللَّه عليهم النعم والخيرات مع عصيانهم للَّه، فاستبعدوا أن يكون مكرًا واستدراجًا من اللَّه أو أن يأتيهم العذاب في أي لحظة؛ قال قتادة رحمه الله: بغت القوم أمر اللَّه، وما أخذ اللَّه قومًا إلا عند سلوتهم وغرتهم ونقمتهم، فلا تغتروا باللَّه (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله - في تعليقه على قوله ¬

(¬1) فتح المجيد ص: 415.

تعالى -: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ}: هذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنًا على ما معه من الإيمان، بل لا يزال خائفًا وجلاً أن يُبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيًا بقوله: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وأن يعمل ويسعى في كل سبب يخلصه من الشر عند وقوع الفتن، فإن العبد ولو بلغت به الحال ما بلغت فليس على يقين من السلامة (¬1). اهـ. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: في قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} دليل على أن للَّه مكرًا والمكر هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ومنه جاء في الحديث: «الحَربُ خُدعَةٌ» (¬2)؛ فإن قيل: كيف يوصف اللَّه بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم؟ ! قيل: إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر، وأنه غالب على خصمه ولذلك لا يوصف اللَّه به على الإطلاق، فلا يجوز أن نقول: إن اللَّه ماكر، وإنما نذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحًا مثل قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} [الأنفال: 30]. ومثل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون (50)} [النمل]. ومثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} [الأعراف]. ولا تنفى عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق، بل إنها في المقام التي تكون مدحًا يوصف بها، وفي المقام التي لا تكون مدحًا لا يوصف بها، وكذلك لا يسمى اللَّه بها فلا يقال: إن ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 276. (¬2) صحيح البخاري ص: 579 برقم 3030، وصحيح مسلم ص: 723 برقم 1739.

من أسماء اللَّه الماكر (¬1). اهـ. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» (¬2)؛ ثم تلا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام]. وقال إسماعيل بن رافع: الأمن من مكر اللَّه إقامة العبد على الذنب يتمنى على اللَّه المغفرة؛ وقد فسر بعض السلف المكر بأن اللَّه يستدرجهم بالنعم إذا عصوه: من صحة الأبدان ورغد العيش وغيرها، ويملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر (¬3). قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد (102)} [هود]. أما القنوط من رحمة اللَّه: فهو استبعاد العبد الفرج واليأس منه وأن اللَّه يغفر له ويرحمه، وهو يقابل الأمن من مكر اللَّه، وكلاهما ذنب عظيم، قال تعالى: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّون (56)} [الحجر]. وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (53)} [الزمر]. ¬

(¬1) القول المفيد شرح كتاب التوحيد (2/ 248). (¬2) مسند الإمام أحمد (28/ 547) برقم 17311، وقال محققوه: حديث حسن. (¬3) فتح المجيد ص: 416.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه فتح المجيد: قوله: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّون (56)}، مع قوله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَامَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99)}: دليل على أنه لا يجوز لمن خاف اللَّه أن يقنط من رحمته، بل يكون خائفًا راجيًا يخاف ذنوبه ويعمل بطاعة اللَّه ويرجو رحمته، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] (¬1). قال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق خائف وجل، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن (¬2). وقال تعالى حاكيًا عن خليله إبراهيم عليه السَّلام - لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق -: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون (54)} [الحجر]. لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته، استبعد أن يولد له منها، واللَّه على كل شيء قدير؛ فقالت الملائكة: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الذي لا ريب فيه، فإن اللَّه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِين}: أي من الآيسين، وقال تعالى حاكيًا عنه: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّون (56)} [الحجر]. فإنه يعلم من قدرته وحكمته: ما هو أبلغ من ذلك وأعظم. روى عبد الرزاق في مصنفه من حديث ابن مسعود موقوفًا عليه: ¬

(¬1) فتح المجيد ص: 416. (¬2) تفسير ابن كثير (6/ 355).

أنه سئل عن أكبر الكبائر؟ فقال: الشرك باللَّه، واليأس من روح اللَّه، والأمن من مكر اللَّه، والقنوط من رحمة اللَّه (¬1). والشرك باللَّه أعظم الذنوب عند اللَّه، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116]. واليأس من روح اللَّه أي: قطع الرجاء والأمل من اللَّه فيما يخافه ويرجوه، فإذا كان في كربة أو شدة يستبعد زوالها، وذلك إساءة ظن باللَّه، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته. قال تعالى عن نبيه يعقوب عليه السَّلام: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون (87)} [يوسف]. روى الترمذي في سننه من حديث أنس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على شاب وهو في الموت فقال: «كَيفَ تَجِدُكَ؟ » قال: واللَّه يا رسول اللَّه إني أرجو اللَّه وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ» (¬2). وفي هذا الحديث الجمع بين الخوف والرجاء، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة اللَّه، وكان السلف يستحبون أن يُقوي في الصحة الخوف وفي المرض الرجاء. قال أبو سليمان الداراني: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فسد القلب (¬3). روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: سمعت ¬

(¬1) (10/ 459 - 460). (¬2) ص: 177 برقم 983، صحّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 289) برقم 785. (¬3) فتح المجيد ص: 417 - 419.

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث عائشة زوج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1153 برقم 2877. (¬2) ص: 504 برقم 3175، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (3/ 79 - 80) برقم 3401.

الكلمة السادسة والعشرون: شرح حديث: «حسب ابن آدم لقيمات»

الكلمة السادسة والعشرون: شرح حديث: «حسب ابن آدم لقيمات» الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى الترمذي في سننه من حديث المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي اللهُ عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «مَا مَلَأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ: فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (¬1). قال ابن رجب: هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت دكاكين الصيادلة (¬2). اهـ. وذلك لأن أصل كل داء التخمة، وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب: الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء؛ قال الغزالي: ذُكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة، فقال: ما سمعت كلامًا في قلة الأكل ¬

(¬1) ص: 390 برقم 2380، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وحسنه الحافظ في الفتح (9/ 528). (¬2) جامع العلوم والحكم ص: 503.

أحكم من هذا (¬1). هذا الحديث الشريف اشتمل على فوائد كثيرة: أولاً: أن في تقليل الطعام منافع كثيرة للجسم، فمن ذلك: رقة القلب، وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، وكثرة الأكل توجب ضد ذلك. قال المروذي: جعل أبو عبد اللَّه - يعني الإمام أحمد بن حنبل - يعظم الجوع والفقر، فقلت له: يؤجر الرجل في ترك الشهوات؟ فقال: وكيف لا يؤجر وابن عمر يقول: ما شبعت منذ أربعة أشهر؛ قلت لأبي عبد اللَّه: يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع؟ قال: ما أرى؛ قال الشافعي: الشبع يثقل البدن ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة (¬2). ثانيًا: أن كثرة الأكل تسبب أمراضًا للبدن، قال ابن القيم رحمه الله: الأمراض نوعان: أمراض مادية تكون عن زيادة مادة، أفرطت في البدن حتى أضرَّت بأفعاله الطبيعية وهي أكثر الأمراض، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن، وتناول الأغذية القليلة النفع، البطيئة الهضم، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة؛ فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية واعتاد ذلك: أورثته أمراضًا متنوعة، منها بطيء الزوال أو ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم ص: 503؛ وفتح الباري (9/ 528). (¬2) جامع العلوم والحكم ص: 504 - 506.

سريعه، فإذا توسط في الغذاء، وتناول منه قدر الحاجة، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته: كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير. قال ابن الرومي: فَإِنَ الداءَ أكثرُ ما تَراهُ يَكونُ مِنَ الطعامِ أو الشرابِ وقال الشافعي: ثَلاثٌ هن مُهلِكَةُ الأنامِ وَدَاعِيَةُ الصحيحِ إلى السِّقامِ دَوَامُ مَدامَةٍ ودَوَامُ وَطءِ وإدخَالُ الطعامِ على الطعامِ ثالثًا: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكر أن اللقيمات تكفي لحاجة الجسم فلا تسقط قوته ولا تضعف معها، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء، والثالث للنفس وهذا أنفع ما للبدن وللقلب، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس، وعرض له الكرب والتعب، بمنزلة حامل الحمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكسل الجوارح عن الطاعات، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع (¬1). ويلاحظ هذا جيدًا في رمضان، فإن من يكثر من تناول الطعام في فطوره، فإن صلاة العشاء والتراويح تصبح ثقيلة عليه. رابعًا: الحث على التقليل من الأكل؛ ففي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الْمُؤْمِنُ يَاكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، ¬

(¬1) انظر: الطب النبوي ص: 105.

وَالْكَافِرُ يَاكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» (¬1)، والمراد أن المؤمن يأكل بأدب الشرع فيأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشَّرَه والنهم فيأكل في سبعة أمعاء؛ وندب صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه، روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ» (¬2). خامسًا: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما حثَّ على التقليل من الطعام فإنه كان يفعل ذلك هو وأصحابه وهذا في الغالب، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام فإن اللَّه لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها؛ روى الترمذي من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما قَالَ: تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: «كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُم جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬3). سادسًا: أن هذا الحديث فيه الحث على الاقتصاد وعدم الإسراف، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف]. سابعًا: أن هذا الحديث فيه تعويد على الصبر والتحمل والانتصار على النفس الشهوانية، ولذلك يسمى رمضان شهر الصبر. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 854 برقم 2062، وصحيح البخاري ص: 1067 برقم 5393. (¬2) ص: 853 برقم 2059، وصحيح البخاري ص: 1067 برقم 5392 واللفظ لمسلم. (¬3) ص: 404 برقم (2478)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

الكلمة السابعة والعشرون: النصيحة

الكلمة السابعة والعشرون: النصيحة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن شعائر الإسلام العظيمة، ومن مقامات الدين العالية الرفيعة: النصيحة، قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين (20)} [القصص]. روى مسلم في صحيحه من حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ يا رسول اللَّه؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (¬1). قال النووي: هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام، وأما ما قاله جماعات من العلماء: إنه أحد أرباع الإسلام - أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام -، فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده (¬2). قال ابن حجر: قوله: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي: معظم الدين النصيحة، كما قيل: «الحَجُّ عَرَفَةُ»؛ ¬

(¬1) ص: 54 برقم 55. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 37).

ويحتمل أن يحمل على ظاهره، لأن كل عمل لم يرد به عامله إلاخلاص، فليس من الدين. قوله: النصيحة للَّه: هي وصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، والرغبة في محابه: بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه: بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه. والنصيحة لكتاب اللَّه: تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه. والنصيحة لرسوله: تعظيمه ونصره حيًّا وميتًا، وإحياء سنته بتعلُّمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله ومحبته ومحبة اتباعه. والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم؛ ومن أعظم نصيحتهم: وقفهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين: أئمة الاجتهاد؛ وتقع النصيحة لهم ببث علومهم وتعليمهم ما ينفعهم، وكشف وجوه الأذى عنهم، وأنه يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه (¬1). والنصيحة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: النصيحة للمسلمين عمومًا وفيها أحاديث كثيرة؛ روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنه قال: «بايعت ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 138).

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» (¬1). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» (¬2). القسم الثاني: النصيحة لولاة الأمر. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، وَرَضِيَ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ رَضِيَ لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَنْصَحُوا لِوُلَاةِ الأَمْرِ» الحديث (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيِّ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ» (¬4). وأما نصح الولاة لرعاياهم؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ استَرعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصحِهِ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» (¬5). ¬

(¬1) ص: 35 برقم 57، وصحيح مسلم ص: 54 برقم 56. (¬2) ص: 893 برقم 2162. (¬3) (14/ 78 - 79) برقم 8334؛ وأصله في صحيح مسلم دون قوله: «وأن تنصحوا لولاة الأمر» ص: 712 برقم 1715. وقال محققوه: إسناده على شرط مسلم. (¬4) (27/ 301) برقم 16738، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره. (¬5) ص: 1364 برقم 7150، وصحيح مسلم ص: 81 برقم 142.

وقد ذكر اللَّه في كتابه عن الرسل السابقين: أنهم كانوا ينصحون لأقوامهم، فذكر اللَّه عن نبي اللَّه نوح عليه السَّلام أنه قال لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62]. وقال تعالى عن نبي اللَّه هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين (68)} [الأعراف]. ونبينا محمد بن عبد اللَّه إمام الناصحين: بلَّغ الرسالة ونصح الأمَّة؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنهما قال: إن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ - وذكر صفة حجه - وفيه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأصحابه: «وَأَنْتُمْ تُسأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ » قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ (¬1). وقد عذر اللَّه من تخلَّف عن الجهاد لعذر إذا كان ناصحًا للَّه ورسوله، قال تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيم (91)} [التوبة]. وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًّا، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه، والنصيحة سرًّا تشمل ولاة الأمر، والعلماء، وعامة الناس. قال الشافعي رحمه الله: تَعَمدني بنُصحِكَ في انفرادِي ... وَجَنِّبِني النَّصيِحَةَ في الجَماعَه ¬

(¬1) جزء من حديث ص: 483 - 485.

فإنَّ النُّصْحَ بين الناسِ نَوعٌ ... من التَوبِيخِ لا أرْضَى اسْتِماعَه وإنْ خَاَلفْتَني وَعَصيْت قَولِي ... فلا تجْزَعْ إذا لم تُعْطَ طَاَعهْ ومن فوائد النصيحة: أولاً: أنها من أعظم أسباب الثبات على الدين: لأن الذي ينصح يريد أن يطبِّق ما نصح به، ولا يخالف فعله قوله، قال تعالى عن نبي اللَّه شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]. ثانيًا: دليل حب الآخرين وبغض الشر لهم، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (¬1). ثالثًا: صلاح المجتمع، إذ تشاع فيه الفضيلة وتستر فيه الرذيلة. رابعًا: القضاء على كثير من المنكرات، فكم من منكر زال بسبب نصيحة صادقة. خامسًا: تنفيذ أمر اللَّه ورسوله الذي هو غاية سعادة العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب]. سادسًا: أنها من أعظم أسباب الهداية، فكم من كافر أسلم بسبب نصيحة! وكم من عاص مرتكب لكبائر الذنوب تاب واستقام ¬

(¬1) ص: 26 برقم 13 وصحيح مسلم ص: 50 برقم 45.

حاله بسبب نصيحة! روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لعلي: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬1). سابعًا: براءة الذمة، فقد تكون الذمة مشغولة، فإذا نصح العبد فقد أدى ما عليه، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى: 48]. وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين (18)} [العنكبوت]. وذكر ابن حزم أمرين يتعلقان بالنصيحة: الأول: النصيحة مرتبتان: الأولى: فرض وديانة، والثانية تنبيه وتذكير؛ فواجب على المرء ترداد النصح رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ. الثاني: لا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه فأنت ظالم لا ناصح (¬2)؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «عُرِضَت عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» (¬3). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 980 برقم 2406. (¬2) الأخلاق والسير ص: 51 - 52. (¬3) ص: 117 برقم 220.

الكلمة الثامنة والعشرون: الميزان

الكلمة الثامنة والعشرون: الميزان الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالميزان، والمقصود به: الميزان الذي يُوزن به أعمال العباد من خير أو شر، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون (103)} [المؤمنون]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» (¬1). قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، ¬

(¬1) ص: 1444 برقم 7563، وصحيح مسلم ص: 1081 برقم 2694.

والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَستَخلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا (¬1)، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ [لَهُ]: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ أو حَسَنَةٌ؟ فيُبهَتُ الرَّجُلُ (¬2)، فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ (¬3)، فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتُ؟ ! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ (¬4)، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، وَلاَ يَثْقُلُ شَيْءٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» (¬5). وقال أصحاب الأهواء: «الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام». والجواب عن هذا أن يقال: إن اللَّه سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجسامًا، وليس هذا بغريب على قدرة اللَّه عزَّ وجلَّ، وله نظير وهو الموت ¬

(¬1) هو الكتاب الكبير. (¬2) فيبهت الرجل: البهت: الانقطاع والحيرة. (¬3) البطاقة: رقعة صغيرة. (¬4) فطاشت السجلات: أي خفت. (¬5) (11/ 571) برقم 6994، وقال محققوه: إسناده قوي.

فإنه يجعل على صورة كبش ويذبح بين الجنة والنار، مع أن الموت معنى وليس بجسم؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ (زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: «فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ»، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ) فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ! هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ! خُلُودٌ فَلا مَوْتَ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون (39)} [مريم]، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا (¬1). قد يقول قائل: ما فائدة الميزان؟ ! واللَّه عزَّ وجلَّ يعلم أعمال العباد من خير أو شر. قال ابن أبي العز الحنفي: ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه وتعالى لجميع عباده، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من اللَّه، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطِّلاع لنا عليه؟ ! (¬2) قال القرطبي: إن الحوض قبل الميزان، والصراط بعد الميزان (¬3) اهـ. ¬

(¬1) ص: 1144 برقم 2849، وصحيح البخاري ص: 914 برقم 4730. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص: 475. (¬3) المصدر السابق.

هكذا ترتيب مشاهد يوم القيامة، ومن آثار الإيمان بميزان الأعمال: أولاً: الاجتهاد في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات، فإن من زادت حسناته على سيئاته أفلح ونجح، قال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة (11)} [القارعة]. ثانيًا: أن هناك أعمالاً صالحة ثقيلة في ميزان رب العالمين، كما تقدم في الحديث: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ» (¬2). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ»، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» (¬3). ثالثًا: قال بعض أهل العلم: إن العامل يوزن مع عمله، روى ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) ص: 119 برقم 223. (¬3) ص: 258 برقم 1325، وصحيح مسلم ص: 367 برقم 946.

البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّهُ لَيَاتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» وَقَالَ: اقْرَؤُوا إن شئتم {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} [الكهف] (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه: أنه كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ » قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» (¬2). رابعًا: المحافظة على الحسنات مما يبطلها أو ينقصها؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ » قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ؛ فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، يَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَاتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» (¬3). وروى ابن ماجه في سننه من حديث ثوبان رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَاتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ ¬

(¬1) ص: 913 برقم 4729. (¬2) (7/ 99) برقم 3991، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬3) ص: 1040 برقم 2581.

جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؛ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَاخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَاخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (¬1). خامسًا: بيان عدله سبحانه وتعالى، وأنه يضع الموازين العادلة التي يبيِّن فيها مثاقيل الذر التي توزن بها الحسنات والسيئات، كما في الآية {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء]؛ {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ}: التي هي أصغر الأشياء وأحقرها، كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} [الزلزلة]. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 458 برقم 4245، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 33) برقم 505.

الكلمة التاسعة والعشرون: مخالفات في لباس المرأة

الكلمة التاسعة والعشرون: مخالفات في لباس المرأة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. قال ابن كثير رحمه الله: أي الرجل قيِّم على المرأة، وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت (¬1)، قال ابن عباس {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}: يعني: أمراء، عليها أن تطيعه فيما أمرها اللَّه به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنة لأهله، حافظة لماله (¬2). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (6)} [التحريم]. وللأسف أن البعض من الرجال تساهل مع زوجته وبناته ومَن تحت يده وسلَّم لهن القوامة، وترك لهن الحبل على الغارب، ولذلك نرى الكثير من ألبسة النساء التي تحتوي على مخالفات شرعية كثيرة، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 20). (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 21).

وهي على قسمين: القسم الأول: ما تلبسه المرأة عند النساء، وعند محارمها من الرجال، وفيه عدة محاذير: أولاً: الملابس الشفافة وهذا كثيرًا ما يشاهد في حفلات الزواج والمناسبات العامة، بل وصل شرها إلى داخل البيوت، فصارت المرأة تلبسه عند النساء ومحارمها من الرجال. ثانيًا: الملابس الضيِّقة التي تبيِّن جسم المرأة وتفاصيل خِلقتها. ثالثًا: الملابس المفتوحة، أو الشبه عارية، أو القصيرة التي لا تستر بعض أعضائها. رابعًا: البنطال والذي كثر لبسه في هذه الأيام بين النساء وخاصة داخل البيوت، وبعضهن تلبسه إذا خرجت وتضع العباءة فوق الكتف، مع أنه لباس الرجل. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ» (¬1). وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة برقم (21302) وجاء فيها: نظرًا لكثرة الاستفتاءات الواردة إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول حدود نظر المرأة إلى المرأة وما يلزمها من ¬

(¬1) ص: 447 برقم 4098، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 907) برقم 5095.

اللباس، فإن اللجنة تبيِّن لعموم نساء المسلمين: أنه يجب على المرأة أن تتخلق بخلق الحياء الذي جعله النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الإيمان وشعبة من شعبه، وقد دل ظاهر القرآن على أن المرأة لا تبدي للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها مما جرت العادة بكشفه في البيت وحال المهنة، كما قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (31)} [النور]. وإذا كان هذا هو نص القرآن وهو ما دلَّت عليه السنَّة، فإنه هو الذي جرى عليه عمل نساء الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونساء الصحابة ومن اتبعهنَّ بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا؛ وما جرت العادة بكشفه للمذكورين في الآية الكريمة: هو ما يظهر من المرأة غالبًا في البيت وحال المهنة، ويشق عليها التحرز منه: كانكشاف الرأس واليدين والعنق؛ وأما التوسع في التكشف: فعلاوة على أنه لم يدل على جوازه دليل من كتاب أو سنة، هو أيضًا طريق لفتنة المرأة والافتتان بها من بنات جنسها، وهذا موجود بينهن؛ وفيه أيضًا قدوة سيئة لغيرهن من النساء، كما أن في ذلك تشبهًا بالكافرات والبغايا الماجنات في لباسهن؛ فقد روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬1) وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى عليه ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا» (¬2). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (¬3). ومعنى «كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ»: وهي أن تكتسي المرأة ما لا يسترها، فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تلبس الثوب الرقيق الذي يشف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع جسمها، أو الثوب القصير الذي لا يستر بعض أعضائها؛ فالواجب على المسلمة الحرص على التستر والاحتشام، والتزام الهدي الذي عليه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة، والحذر من الوقوع فيماحرمه اللَّه ورسوله من الألبسة التي فيها تشبه بالكافرات والعاهرات؛ كما يجب على كل مسلم أن يتقي اللَّه فيمن تحت ولايته من النساء، فلا يتركهن يلبسن ما حرمه اللَّه ورسوله من الألبسة الخالعة والفاتنة، وليعلم أنه راع ومسؤول عن رعيته يوم القيامة (¬4) اهـ. ¬

(¬1) ص: 441 برقم 4031، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (6/ 98). (¬2) ص: 862 برقم 2077. (¬3) ص: 881 برقم 2128. (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (17/ 290 - 294) باختصار.

سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقيل له: يوجد ظاهرة عند بعض النساء وهي لبس الملابس القصيرة والضيقة التي تبدي المفاتن وبدون أكمام ومبدية للصدر والظهر وتكون شبه عارية تماماً، وعندما نقوم بنصحهن يقلن: إنهن لا يلبسن هذه الملابس إلا عند النساء وإن عورة المرأة مع المرأة من السرة إلى الركبة، فما حكم ذلك؟ وما حكم لبس هذه الملابس عند المحارم؟ فأجاب رحمه الله بقوله: الجواب عن هذا أن يقال: إنه صح عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا ... » (¬1) الحديث. وفسر أهل العلم الكاسيات العاريات بأنهن اللاتي يلبسن ألبسة ضيقة أو ألبسة خفيفة لا تستر ما تحتها أو ألبسة قصيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن لباس النساء في بيوتهن في عهد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما بين كعب القدم وكف اليد كل هذا مستور وهن في البيوت، أما إذا خرجن إلى السوق فقد علم أن نساء الصحابة كن يلبسن ثياباً ضافيات يسحبن على الأرض، ورخص لهن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يرخينه إلى ذراع (¬2) ولا يزدن على ذلك. وأما ما اشتبه على بعض النساء من قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «لَا تَنظُرِ المَرأَةُ إِلَى عَورَةِ المَرأَةِ وَلَا الرَّجُلُ إِلَى عَورَةِ الرَّجُلِ» (¬3). وأن عورة المرأة بالنسبة للمرأة ما بين السرة والركبة من أنه يدل على تقصير المرأة لباسها فإن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يقل: لبس المرأة ما بين السرة والركبة حتى ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 881 برقم 2128. (¬2) مسند الإمام أحمد (9/ 158) برقم 5173، وقال محققوه: صحيح على شرط الشيخين. (¬3) صحيح مسلم ص: 153 برقم 338.

يكون في ذلك حجة ولكنه قال: «لَا تَنظُرِ المَرأَةُ إِلَى عَورَةِ المَرأَةِ»، فنهى الناظرة لأن اللابسة عليها لباس ضافي لكن أحياناً تكشف عورتها لقضاء الحاجة أو غيره من الأسباب فنهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة، وهل يعقل الآن أن امرأة تخرج إلى النساء ليس عليها من اللباس إلا ما يستر ما بين السرة والركبة؟ هذا لا يقوله أحد، ولم يكن هذا إلا عند نساء الكفار، فهذا الذي فهمه بعض النساء من هذا الحديث لا صحة له، والحديث معناه ظاهر. فعلى النساء أن يتقين اللَّه، وأن يتحلين بالحياء الذي هو من خلق المرأة والذي هو من الإيمان كما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الحَيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» (¬1)، وكما تكون المرأة مضرب المثل فيقال: «أحيا من العذراء في خدرها» ولم نعلم ولا عن نساء الجاهلية أنهن كن يسترن ما بين السرة والركبة فقط، لا عند النساء ولا عند الرجال، فهل يردن هؤلاء النساء أن تكون نساء المسلمين أبشع صورة من نساء الجاهلية؟ ! ! وأما محارمهن في النظر فكنظر المرأة إلى المرأة بمعنى أنه يجوز للمرأة أن تكشف عند محرمها ما تكشفه عند النساء، تكشف الرأس والرقبة والقدم والكف والذراع والساق وما أشبه ذلك لكن لا تجعل اللباس قصيراً (¬2). القسم الثاني: ما تلبسه المرأة في السوق والأماكن العامة: 1 - لبس ما يسمى بالكاب أو العباءة المزركشة. ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 25 - 26 برقم 9، وصحيح مسلم ص: 48 برقم 35. (¬2) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (12/ 274 - 277).

2 - وضع العباءة على الكتف. 3 - لبس ما يسمى بالبرقع أو اللثام وتُخرج شيئًا من أنفها أو خدها أو شيئاً من محاسن الوجه، وقد سُئلت اللجنة الدائمة برقم (21352) عن العباءة المفصلة على الجسم، وتكون ضيقة، وتتكون من طبقتين خفيفتين من قماش الكريب، ولها كُمٌّ واسع وبها فصوص وتطريز، وهي توضع على الكتف؟ فأجابت اللجنة بأن العباءة الشرعية للمرأة وهي الجلباب وهي مما تحقق فيها قصد الشارع من كمال الستر والبعد عن الفتنة، ولا بد أن تتوفر فيها المواصفات التالية: 1 - أن تكون سميكة لا تُظهر ما تحتها، ولا يكون لها خاصية الالتصاق. 2 - أن تكون ساترة لجميع الجسم، واسعة لا تبدي تقاطيعه وتفاصيله. 3 - أن تكون مفتوحة من الأمام فقط، وتكون فتحة الأكمام ضيقة. 4 - ألا يكون فيها زينة تلفت إليها الأنظار، وعليه فلا بد من أن تخلو من الرسوم والزخارف، والكتابات والعلامات. 5 - ألا تكون مشابهة للباس الكافرات أو الرجال. 6 - أن توضع العباءة على هامة الرأس ابتداء. وبناء على ما تقدم: فإن العباءة المذكورة ليست عباءة شرعية، فلا يجوز لبسها لعدم توافر الشروط فيها، ولا يجوز بيعها واستيرادها،

لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان (¬1) اهـ. أما البرقع أو النقاب فقد سئل بعض أهل العلم المعاصرين عنه «فقال: البرقع أو النقاب الأصل فيها الجواز لقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا تَنتَقِبُ المُحرِمَةُ»، لكن لا يجوز للمحرمة توسعة النقاب بحيث يظهر بعض الوجه كالأنف والحاجبين وبعض الخدين، فإنها قد تفتن بذلك الناظرين؛ وينبغي أن تلبس فوق البرقع خمارًا خفيفًا: لا يمنع النظر، يستر محاسن الوجه التي تظهر مع النقاب». الخلاصة: أنه ينبغي للمسلم أن يتقي اللَّه فيمن تحت ولايته، فلا يتركهن يلبسن ما حرم اللَّه ورسوله من الألبسة المحرمة، وأن يأخذ على أيديهن فإنه مسؤول عنهن يوم القيامة، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (¬2) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الفتوى بتاريخ 9/ 3 / 1421 هـ: نقلاً عن كتاب «العباءة لك أو عليك؟ »، لأخينا الشيخ محمد الهبدان ص: 24 - 26. (¬2) ص: 179 برقم 893، وصحيح مسلم ص: 763 برقم 1829.

الكلمة الثلاثون: الإيمان بالكرام الكاتبين

الكلمة الثلاثون: الإيمان بالكرام الكاتبين الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فقد ذكر الطحاوي رحمه الله أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار]. وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» (¬1). قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد: 11]. قال ابن كثير: أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ¬

(¬1) ص: 124 برقم 555، وصحيح مسلم ص: 249 برقم 632.

ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحدًا من ورائه وآخر من قُدَّامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ»، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلا يَامُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» غير أن في حديث سفيان: «وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وقَرِينُهُ مِنَ المَلَائِكَةِ» (¬2). وقد اختلف في معنى «أَسلَمَ»؟ فقيل: المعنى استسلم وانقاد وذل، وقيل: المعنى أسلم من الإسلام، قال النووي: وهذا هو الظاهر، قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه اهـ (¬3) فإن الجن فيهن المؤمن والكافر، والشياطين هم كفارهم، فمن آمن منهم لم يُسَمَّ شيطانًا. والذي ثبت بالنصوص: أن الملائكة تكتب القول والفعل والنية لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار]. قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (8/ 114 - 115). (¬2) ص: 1132 برقم 2814. (¬3) شرح صحيح مسلم (6/ 158).

كُنتُمْ تَعْمَلُون (29)} [الجاثية]. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ! ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً (وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ)، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ. فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» (¬1). وروى الطبراني في المعجم الكبير من حديث أبي أمامة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لَيَرْفَعُ القَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ العَبدِ المُسلِمِ المُخطِئِ، فَإِن نَدِمَ وَاستَغفَرَ اللَّهَ مِنهَا وَإِلَّا كُتِبَت وَاحِدَةٌ» (¬2). قال الشاعر: واذْكرْ مُناقَشَةَ الحِسَابِ فإنَّهُ لَابُدَّ يُحْصِي مَا جَنَيْتَ ويُكْتَبُ لم يَنْسَهُ الملَكَانِ حِينَ نَسِيتَهُ بَلْ أَثْبتَاهُ وأَنْتَ لاهٍ تلعبُ من آثار الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين: أولاً: مراقبة اللَّه في السر والعلن، وأن يحاسب المرء نفسه ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 77 برقم 129، وقد خرج البخاري الشطر الأول منه ص: 31 برقم 42. (¬2) (8/ 217 - 218) برقم 7765، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 422) برقم 2097.

على كل فعل أو قول: صغيرًا كان أو كبيرًا؛ قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق]. وقال تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِين (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار]. ثانيًا: الحياء من هؤلاء الملائكة الكاتبين: أن يروا المؤمن على معصية اللَّه، ولذلك قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في فضل عثمان رضي اللهُ عنه -: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ ! » (¬1). ثالثًا: الاجتهاد في الأعمال الصالحة، فإن الملائكة يرفعون إلى اللَّه أعمال بني آدم، قال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. روى البخاري في صحيحه من حديث رِفاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا رَفَعَ رَاسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَالَ: رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ » قَالَ: أَنَا، قَالَ: «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ؟ ! » (¬2). رابعًا: حب هؤلاء الملائكة المكلفين بأعمال العباد، قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون (27)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (6)} [التحريم]. ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 977 برقم 2401. (¬2) ص: 798 برقم 799.

خامسًا: عدم إيذاء هؤلاء الملائكة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ البَقْلَةِ، الثُّومِ (وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ)، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 224 برقم 564 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 174 برقم 855.

الكلمة الحادية والثلاثون: رضوان الله

الكلمة الحادية والثلاثون: رضوان الله الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أعظم نعيم أهل الجنة أن اللَّه يرضى عنهم فلا يسخط عليهم أبدًا، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (72)} [التوبة]. قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ} أي: رضوان اللَّه عليهم أكبر مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضاه عنهم؛ فَرِضَا اللَّه رب السماوات أكبر من نعيم الجنات، وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد (15)} [آل عمران]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (8)} [البينة]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ ! فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ ! فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (¬1). من أسباب رضا اللَّه عن العبد في الدنيا والآخرة: أولاً: الإيمان باللَّه والعمل الصالح، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (8)} [البينة]. ثانيًا: بذل النفس للَّه تعالى ولرسوله، والذَّب عن دينه، والجهاد في سبيله، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} [الفتح]. ثالثًا: البراءة من الشرك والمشركين وإظهار عداوتهم، قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ ¬

(¬1) ص: 1254 برقم 6549، وصحيح مسلم ص: 1137 برقم 2829.

الْمُفْلِحُون (22)} [المجادلة]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - عن الذين اتصفوا بالصفات السابقة في الآية -: لهم أكبر النعيم وأفضله وهو أن اللَّه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ووافر المثوبات وجزيل الهبات ورفيع الدرجات، بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية (¬1). رابعًا: الكلمة الطيبة: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بلال بن الحارث رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (¬2). خامسًا: الإحسان والصدقة، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (100)} [التوبة]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا» الحديث، وفي آخره: قال الملك للأعمى: «أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 811. (¬2) (25/ 180) برقم 15852، وقال محققوه: إسناده صحيح لغيره.

رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» (¬1). سادسًا: حمد اللَّه وشكره على النعم؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَاكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» (¬2). سابعاً: رضا الوالدين، روى الترمذي في سننه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «رِضَى الرَّبِّ فِي رَضِى الوَالِدِ وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الوَالِدِ» (¬3). ثامناً: الرضا بقضاء اللَّه وقدره، روى الترمذي في سننه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» (¬4). تاسعاً: استعمال السواك، روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن السواك: «مَطْهَرَةٌ للفَمِ، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ» (¬5). ¬

(¬1) ص: 667 برقم 3464، وصحيح مسلم ص: 1189 برقم 2964. (¬2) ص: 1094 برقم 2734. (¬3) ص: 321 برقم 1899، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 45) برقم 515. (¬4) ص: 393 برقم 2396، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 220) برقم 1220. (¬5) ص: 367 باب السواك الرطب واليابس للصائم.

ولو تتبعنا النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لوجدنا الكثير فيها. وينبغي للعبد أن يسعى إلى رضا اللَّه، ولو كان ذلك بسخط الناس؛ روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 395 برقم 2414، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 392) برقم 2311.

الكلمة الثانية والثلاثون: تفسير سورة القارعة

الكلمة الثانية والثلاثون: تفسير سورة القارعة الحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى تأمل وتدبر: سورة القارعة؛ قال تعالى: {الْقَارِعَة (1) مَا الْقَارِعَة (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة (11)} [القارعة]. قوله تعالى: {الْقَارِعَة (1)}: المراد التي تفزع القلوب وتقرعها وذلك عند النفخ في الصور، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِين (87)} [النمل]. فهي تفزع القلوب بعد قرع الأسماع، وهذه القارعة قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة؛ كما تسمى الغاشية، والحاقة، والطامة الكبرى، والصاخة، وغيرها. قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَة (2)}: استفهام بمعنى التعظيم

والتفخيم، يعني: ما هي القارعة التي ينوه عنها؟ ! قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة (3)}: هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل، يعني: أي شيء أعلمك عن هذه القارعة؟ أي ما أعظمها! وما أشدها! ثم بيَّن متى تكون؟ قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث (4)} أي: أنها تكون في ذلك الوقت يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم، قال العلماء: يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هي الحشرات الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل، وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدى وتتراكم، وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري؛ فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى؛ {الْمَبْثُوث} يعني: المنتشر، فهو كقوله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر (7)} [القمر]. يعني: لو تصوَّرتَ هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه، لتصوَّرتَ أمراً عظيمًا لا نظير له. هؤلاء العالم من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة: كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير القبور كالذي أُلقي في لجة البحر، أو أكلته الحيتان، أو في فلوات الأرض وأكلته السباع أو احترق جسده، أو ما أشبه ذلك: كلهم سيخرجون مرة واحدة إلى أرض الحشر. قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش (5)}، فهذه الجبال العظيمة الراسية تكون كالعهن أي الصوف، وقيل: القطن

المنفوش أي المبعثر سواء نفشته بيدك أو بالمنداف، فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريح، كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا (6)} [الواقعة]. وكما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)} [طه]. قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7)}. {مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه}: فهو الذي رجحت حسناته على سيئاته {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7)} أي حياة طيبة ليس فيها نكد ولا صخب، بل هي كاملة من جميع الوجوه، قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب (35)} [فاطر]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (8)} [البينة]. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه (8)}: وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو الذي ليست له حسنات أصلاً كالكافر، لأنه يجازى على حسناته في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له عند اللَّه نصيب؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ؛ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا

أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬1). قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9)}: أي أن مآله إلى نار جهنم والهاوية من أسماء النار، وقيل: المراد بالأم هنا أم الدماغ، والمعنى أنه يلقى في النار على أم رأسه؛ ولا مانع من اجتماع الأمرين، فيقال: يرمى في النار على أم رأسه، وليس له مأوى ولا مقصد إلا النار. قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة (11)}، هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهاوية: يسأل ما هي؟ ثم يجيب: إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحرارة، وقد قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: «إنها فُضِّلَتْ عَلَى نَارِ الدُّنيَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» (¬2)؛ وإذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب أو الورق أو الفرن أو أشد من ذلك، فإن نار جهنم مفضَّلة عليها بتسعة وستين جزءًا، نسأل اللَّه السلامة والعافية. ومن فوائد السورة الكريمة: أولاً: أنه ينبغي للمؤمن أن يقي نفسه من عذاب اللَّه، وهذه الوقاية تكون بفعل الخير ولو بأقل القليل؛ روى مسلم في صحيحه من حديث عدي بن حاتم رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ¬

(¬1) ص: 1129 برقم 2808. (¬2) ص: 625 - 626 برقم 3265، وصحيح مسلم ص: 1141 برقم 2843.

إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (¬1). ثانيًا: أن السورة الكريمة سكتت عمن تساوت حسناته وسيئاته، ولكن بيَّن اللَّه تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار، وإنما يحبسون في مكان يقال له: الأعراف؛ وذكر اللَّه تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين، قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين (47)} [الأعراف]. ثالثًا: عظم ما أعد اللَّه لأعدائه من العذاب والنكال، ففي هذه السورة أخبر عن شدة حرارتها، وفي آية أخرى عن هولها وشدة عذابها، فقال: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} [المعارج]. وأخبر في آية أخرى أن حطب النار التي توقد بها جثث بني آدم هي حجارة من الكبريت الأسود، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (6)} [التحريم]. وقال سبحانه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد (30)} [ق]. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: أن ¬

(¬1) ص: 392 برقم 1016.

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1141 برقم 2842. (¬2) انظر: تفسير الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص: 300 - 304.

الكلمة الثالثة والثلاثون: خطر الرافضة

الكلمة الثالثة والثلاثون: خطر الرافضة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون (79)} [المائدة]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1). وإن من أعظم المنكرات خطرًا، وأفسدها للإيمان، وأضرها على الدين: فتنة الشيعة الروافض التي قام أبناؤها يدعون إليها في كل مكان، ويظهرون للناس أن باطلهم هذا هو الإسلام بعينه، بل وصل الأمر ببعض المغَفَّلِين إلى الدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة، وأن الخلاف بيننا وبينهم في أمور فرعية، مع أن الخلاف كبير يشمل أمهات العقائد؛ فإن الروافض عندهم من الشركيات ¬

(¬1) ص: 51 برقم 49.

والكفريات ما يُخْرِجُ من دائرة الإسلام، وللأسف إن كثيرًا من عوام السنة لا علم له بهذه الكفريات، لأن علماء الشيعة لا ينشرون كتبهم الأساسية التي عليها اعتماد مذهبهم بين عامة الناس (¬1). وأوَدُّ أن أبيِّن بعضًا من معتقداتهم الباطلة إجمالاً، من خلال كتبهم ومراجعهم التي تُعتَمَد عندهم: أولاً: عقيدتهم في الأئمة الاثني عشر: ذكر الكليني في كتابه «أصول الكافي» - وهذا عندهم من أوثق الكتب، مثل «صحيح البخاري» عند أهل السنة -: أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا، وأنهم يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم (¬2)؛ بل وصل الأمر إلى ادِّعاء الألوهية لهم، قال هاشم البحراني في كتابه «ينابيع المعاجز وأصول الدلائل» - وهو يتحدث عن الأئمة الاثني عشر -: «إن عندهم علم ما في السماء، وعلم ما في الأرض، وعلم ما كان، وعلم ما يكون، وما يحدث بالليل والنهار، وساعة وساعة، وعندهم علم النبيين وزيادة» (¬3). وقال شيخهم المعاصر - عبد الحسين الأميني النجفي - في كتابه «الغدير»: «إن الأئمة أولاد اللَّه ومن صلب علي» (¬4)، وسمعت أحد مشايخهم في شريط مسجَّل وهو يقول: «إن المهدي المنتظر دخل ¬

(¬1) بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية للعلامة محمد التونسوي ص: 5 - 6. (¬2) (1/ 258 - 260). (¬3) الباب الخامس ص: 35 - 42. (¬4) (1/ 214 - 216).

السرداب وهو صغير عمره خمس سنوات، وهو يعرف ماذا يحدث في ذرات الكون؟ ! ». ثانيًا: عقيدتهم في القرآن الكريم: الرافضة يقولون: إن القرآن الذي عندنا ليس هو الذي أُنزل على محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل قد غُيِّروبُدِّل وزيد فيه ونقص منه، وجمهور مشايخهم يعتقدون التحريف في القرآن، كما ذكر ذلك النوري الطبرسي في كتابه «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب» (¬1). وذكر الكليني في كتابه «أصول الكافي»: أن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سبعة عشر ألف آية، معنى هذا أن القرآن الذي تدَّعِيه الرافضة أكثر من القرآن الموجود بين أيدينا (¬2)، لأن الذي بين أيدينا يزيد عن ستة آلاف قليلاً، وهو الذي تعهد اللَّه بحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون (9)} [الحجر]. وما يعترفون به من القرآن يفسرونه بأهوائهم؛ فقد ذكر الصافي في تفسيره في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} يعني: أنه لا يغفر لمن يكفر بولاية علي عليه السَّلام، وأما قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] يعني: لمن والى عليًّا (¬3). ومن أمثلة تأويلهم للآيات بأهوائهم: ما جاء في قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ¬

(¬1) ت 1320 هـ. (¬2) (2/ 134 - 242). (¬3) (1/ 156 - 361).

الْخَاسِرِين (65)} [الزمر]. قال: «لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي عليه السَّلام، ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين» (¬1)، وفي قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]، قالوا: «أبو بكر وعمر» (¬2). ثالثًا: عقيدتهم في أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وزوجاته؛ تقوم عقيدة الرفض على سب وشتم وتكفير الصحابة رضوان اللَّه عليهم، فهم يعتقدون كفر جميع الصحابة باستثناء ثلاثة منهم، ذكر ذلك الكليني في كتابه «الكافي» المعتمد عندهم، فقال: الناس أهل ردة بعد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلا ثلاثة! فقلت: من الثلاثة؟ قال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي (¬3)؛ وفي كتاب «مفتاح الجنان» لعباس القمي: دعاء شيوخ الشيعة المشهور على أبي بكر وعمر وابنتيهما عائشة وحفصة - رضي اللَّه عنهن -، والذي هو من أذكار الصباح والمساء عندهم: اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، والعن صنَمَي قريش وجِبتَيْها وطاغوتَيْها وإفكَيْها وابنتَيْهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك ... إلخ (¬4). ويسمونهما رضي اللهُ عنهما بفرعون، وهامان (¬5)، وبالْوَثنيين (¬6)، وباللات والعُزَّى (¬7)؛ وصرح شيوخ الشيعة بأن مهديهم ¬

(¬1) تفسير الصافي (1/ 156 - 361)، وتفسير نور الثقلين (1/ 151 - 488). (¬2) فروع الكافي الذي بهامش مرآة العقول (4/ 416). (¬3) رجال الكشي ص: 6، الكافي كتاب الروضة (12/ 312 - 322) مع شرح جامع للمازندراني. (¬4) ص: 114. (¬5) قرة العيون للكاشاني ص: 432 - 433. (¬6) تفسير العياشي (2/ 116)، بحار الأنوار ص: 27 - 58. (¬7) إكمال الدين لابن بابويه القمي ص: 246، مقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص: 294.

المنتظر يُحيي أبا بكر وعمر رضي اللهُ عنهما، ثم يصلبهما على جذع نخلة، ويقتلهما كل يوم ألف قتلة (¬1)؛ وسمعت أحد مشايخهم في شريط مسجل وهو يقول: أبو بكر، عمر، عثمان، أصحاب العقبة الأولى، أصحاب العقبة الثانية، التسعة من العشرة كلهم في النار. قال عبد اللَّه بن محمد الأندلسي: إن الروافِضَ شرُّ من وَطِئَ الحَصَى مِنْ كُلِّ إِنسٍ ناطقٍ أو جانِ قدحُوا النبي وَخَوَّنُوا أصْحَابَهُ وَرَمَوهُم بالظُّلْمِ والعُدْوَانِ حَبُّوا قَرَابَتَهُ وَسَبُّوا صَحْبَهُ جَدَلانِ عِنْدَ اللَّهِ مُنتَقِضانِ وقال آخر: وَدَعْ عَنْكَ دَاعِيَ الرَّفْضِ والبِدَعِ التِي ... يقوُدُكَ دَاعِيهَا إِلى النَّارِ والعَارِ وسِر خَلْفَ أَصْحَابِ الرسُولِ فَإِنَّهُم ... نُجومُ هُدًى في ضَوْئِها يَهْتدِي السارِي ... وَعُج عَنْ طريِقِ الرفْضِ فَهُوَ مُؤسس على الكُفرِ تأسيساً على جُرُفِ هارِ ... هُمَا خطَّتان إما هُدًى وسعادةً وإما شَقاءُ معَ ضلَالةِ كُفَّار ... فأيُّ فَرِيقينا أَحَقُّ بأَمْنِهِ وأَهْدَى سَبِيلاً عِنْدَما يَحْكُمُ البَارِي ... أَمَنْ سَبَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ وَخَا لَفَ الكِتَابَ ولَمْ يَعْبَأ بثابِتِ الأخْبَارِ ... أم المُقْتدِي بالوَحْي يَسْلُكُ مَنْهَجَ الصحَا ... بَةِ مَعَ حُبِّ القَرَابَةِ الأَطْهَارِ رابعًا: عقيدتهم في أهل السنَّة: تقوم عقيدة الرافضة في استباحة أموال ودماء أهل السنة، جاء في كتاب «الأنوار النعمانية»: أنهم كفار أنجاس بإجماع شيوخ الشيعة الإمامية، وأنهم شر من ¬

(¬1) إيقاظ من الهجعة بتفسير البرهان على الرجعة للحر العاملي ص: 287.

اليهود والنصارى (¬1). وفي الكتاب أيضًا: أن النَّاصِبِي حلال الدم ويقصدون به السُّنِّي، ويرشدون إلى قتل أهل السنَّة: إما بتغريقهم في ماء، أو هدم الحائط عليهم، أو غير ذلك من الطرق السِّرِّيَّة حتى لا يشهد عليهم بذلك، ويرون أن أموالهم وأعراضهم حلال (¬2). وأخيرًا: هل شيوخ الشيعة يجتمعون معنا نحن أهل السنة على رب واحد، ونبي واحد، وإمام واحد؟ أجاب إمامهم نعمة اللَّه الجزائري في كتابه «الأنوار النعمانية» بقوله: «إنا لم نجتمع معهم على إله (¬3)، ولا على نبي، ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمدًا نبيه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب، ولا بذلك النبي؛ بل نقول: إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا، ولا ذلك النبي نبينا» (¬4) (¬5). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الأنوار النعمانية للجزائري (2/ 206 - 207). (¬2) رجال الكشي ص: 529، تهذيب الأحكام (1/ 384)، وسائل الشيعة (6/ 340). (¬3) أي مع أهل السنة. (¬4) (2/ 278 - 279). (¬5) الإحالات التي في الكلمة: نقلاً عن كتاب أخينا الشيخ عبد الرحمن بن سعد الشثري حفظه اللَّه.

الكلمة الرابعة والثلاثون: شرح اسم الله تعالى اللطيف

الكلمة الرابعة والثلاثون: شرح اسم الله تعالى اللطيف الحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في الكتاب العظيم: اللطيف، قال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير (103)} [الأنعام]. وقال يوسف عليه السَّلام: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم (100)} [يوسف]. وقال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير (14)} [الملك]. قال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم من مصالحهم من حيث لا يحتسبون، كقوله سبحانه: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز (19)} [الشورى]. وقال الشوكاني في قوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ}: «إن اللَّه لطيف لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي» (¬1). وجمع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بين التعريفين فقال: ¬

(¬1) فتح القدير (4/ 239).

«اللطيف الذي لطف علمه وخبره حتى أدرك السرائر والضمائر، الخبايا [والخفايا] [والغيوب]، وهو الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]. ومن معاني اللطيف: أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة والمقامات النبيلة» (¬1). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: إن اللَّه سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء، وإن دقَّ وصغر أو خفي، وكان في مكان سحيق، قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} (59) [الأنعام]. وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان]. فاللَّه لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة: وهي الحبة الصغيرة التي لا وزن لها، فإنها - ولو كانت في صخرة في باطن الأرض أو في السماوات -، فإن اللَّه يأتي بها وهو اللطيف الخبير. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن ص: 838.

فهذا علمه سبحانه في الجمادات وحركاتها وسكناتها، أما علمه سبحانه في الطيور والحيوانات وسائر الخلائق، فإن اللَّه تعالى قال: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون (38)} [الأنعام]. وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (6)} [هود]. فإذا كان هذا علمه بالجمادات والطيور والحيوانات، فكيف بالمكلَّفين من الجن والإنس الذين لم يخلقوا إلا للعبادة؟ قال تعالى عنهم: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور (19)} [غافر]. وقال سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (61)} [يونس]. وقال تعالى لنبيه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (220)} [الشعراء]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديث جبريل: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). ثانيًا: أن العبد إذا علم أن ربه متصف بدقَّة العلم وإحاطته بكل ¬

(¬1) ص: 33 برقم 50، وصحيح مسلم ص: 37 برقم 9.

صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، واللَّه تعالى يجازي العباد على أعمالهم؛ فالمحسن لا يضيع من إحسانه مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} [الزلزلة]. وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا (112)} [طه]. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء]. ثالثًا: إن اللَّه تعالى من لطفه بعباده يضاعف أجور المؤمنين، ويعفو ويتجاوز عن ذنوب من شاء من عباده، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ؛ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ

أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (18)} [هود]» (¬1). رابعًا: إن اللَّه لطيف بعباده يريد لهم الخير واليُسر، ويقيِّض لهم أسباب الصلاح والبر؛ ومن لطفه بعباده: أنه يسوق إليهم أرزاقهم، وما يحتاجونه في معاشهم، قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]. وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق]. ومن لطفه سبحانه بخلقه: خلق الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة؛ وهو في بطن أمه يتقلب في هذه الأطوار: نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم تكسى العظام لحمًا، قال تعالى: {ثُمَّ أَنشَانَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون]. ومن لطفه بخلقه: لطفه بأنبيائه المرسلين؛ فمن ذلك: لطفه بيوسف عليه السَّلام، حين أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، وجمع بينه وبين أبويه، بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته. ومن ذلك: لطفه بنبيه موسى عليه السَّلام، حين أرسله إلى فرعون، وألقته أمه في البحر، ووصل إلى قصر فرعون، وقذف اللَّه في قلب زوجة فرعون الرحمة لهذا الطفل، وطلبت من فرعون استبقاءه؛ فنجا من القتل، ثم منع من الرضاعة، ليرجع إلى أمه فيحصل على حنانها، ¬

(¬1) ص: 460 برقم 2441، وصحيح مسلم ص: 1108 برقم 2768.

قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون (12)} [القصص]. ثم تربَّى في قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره. ومن لطفه بعبده: أن قيَّض له كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها، مما يتنافس فيه أهل الدنيا، تقطع عبده عن طاعته، أو تحمله على الغفلة عنه أو على معصيته، صرفها عنه، وقدَر عليه رزقه، ولهذا قال هنا: {يَرْزُقُ مَن يَشَاء} [الشورى: 19] بحسب اقتضاء حكمته ولطفه {وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز (19)} [الشورى]. ومن لطفه بعباده المؤمنين: أنه أمرهم بالعبادات الاجتماعية التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي ص: 723. (¬2) النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى للنجدي (1/ 259 - 265).

الكلمة الخامسة والثلاثون: إن من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

الكلمة الخامسة والثلاثون: إن من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} [هود]. قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}: أي من كان يقصد بعمل الآخرة عرض الدنيا وزينتها من مال، وولد، ومنصب، وغيرها، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أي نعطه من الدنيا ما أراد إذا شئنا استدراجًا ومعاملة له بما قصد، كما في قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18]. قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون}: أي لا ينقصون. قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ}: بيان لعاقبتهم حيث ذكر أنهم يعطون في الدنيا ما أرادوا وما طلبوا، وأما في الآخرة فإنهم يحرمون من الثواب لأنهم لم يريدوا الآخرة، وهي إنما تحصل لمن أرادها كما قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)} [الإسراء].

قوله تعالى: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} أي: في الآخرة حبط ما صنعوه في الدنيا؛ {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} أي: أعمالهم في الدنيا باطلة، لأنهم لا يريدون وجه اللَّه. قال قتادة رحمه الله: من كانت الدنيا همه وطلبه ونيته، جازاه اللَّه بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يُعطَى بها جزاء؛ وأما المؤمن فيُجازى بحسناته في الدنيا، ويُثاب عليها في الآخرة (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ، لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ، لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ ¬

(¬1) المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص: 632.

جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (¬1)، ولما بلغ هذا الحديث معاوية بكى بكاءً شديدًا، فلما أفاق قال: صدق اللَّه ورسوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} [هود] (¬2). فهؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فإن قال قائل: ما الفرق بين إرادة الإنسان بعمله الدنيا والرياء؟ فالجواب: أنهما يجتمعان في العمل لغير وجه اللَّه وفي أنهما شرك خفي، ويفترقان أن الرياء يراد به الجاه والشهرة، وأما طلب الدنيا فيراد به الطمع والعَرَض العاجل، كمن يجاهد من أجل المال فقط؛ والذي يعمل من أجل الطمع والعَرَض العاجل، أعقل من الذي يعمل للرياء، لأن الذي يعمل للرياء لا يحصل له شيء، وأما الذي يعمل من أجل الدنيا، فقد يحصل له طمع في الدنيا ومنفعة. ولما سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب «عن قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون (15)}، ذكر أنها تشمل أنواعًا: النوع الأول: المشرك والكافر الذي يعمل أعمالاً صالحة في هذه الدنيا: من إطعام الطعام، وإكرام الجار، وبر الوالدين، والصدقات ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 791 برقم (1905) .. (¬2) صحيح ابن حبان (2/ 138) برقم 408.

والتبرعات، ووجوه الإحسان، ولا يؤجر عليها في الآخرة، لأنها لم تُبنَ على التوحيد، فهو داخل في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون (15)}؛ فالكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يجازَى بها في الدنيا، وأما في الآخرة فليس له جزاء عليها عند اللَّه، لأنها لم تُبنَ على التوحيد والإخلاص للَّه عزَّ وجلَّ. النوع الثاني: المؤمن الذي يعمل أعمالاً من أعمال الآخرة، لكنه لا يريد بها وجه اللَّه، وإنما يريد بها طمع الدنيا: كالذي يحج ويعتمر عن غيره، يريد أخذ العوض والمال؛ وكالذي يتعلَّم ويطلب العلم الشرعي، من أجل أن يحصل على وظيفة، فهذا عمله باطل في الدنيا، وحابط في الآخرة: وهو شرك أصغر. النوع الثالث: مؤمن عمل العمل الصالح مخلصًا للَّه عزَّ وجلَّ، لا يريد به مالاً أو متاعًا من متاع الدنيا ولا وظيفة، لكن يريد أن يجازيه اللَّه به، بأن يشفيه اللَّه من المرض، ويدفع عنه العين ويدفع عنه الأعداء؛ فإذا كان هذا قصده، فهذا قصد سيِّاء، ويكون عمله هذا داخلاً في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون (15)}. والمفروض في المسلم: أن يرجو ثواب الآخرة، يرجو أعلى مما في الدنيا، وتكون همته عالية، وإذا أراد الآخرة أعانه اللَّه على أمور الدنيا، ويسَّرها له {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق]. النوع الرابع: وهو أكبر من الذي قبله، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية: أنها نزلت فيه؛ وهو أن يعمل أعمالاً صالحة، ونيته رياء

الناس! لا طلب ثواب الآخرة. ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس، والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه اللَّه، طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصدًا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه للَّه، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما؛ وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلَّص وأهل النار الخلَّص، ويسكت عن صاحب الشائبتين: وهو هذا وأمثاله» (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - وهو يتحدث عن النوع الثاني الذي سبق ذكره -: وهو الذي يعمل أعمالاً صالحة لا يريد إلا الدنيا: كالذي يتعلم من أجل الوظيفة، أو يعتمر لغيره من أجل المال فقط؛ وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها: فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا القصد، ولم يكن له إرادة لوجه اللَّه والدار الآخرة، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن، فإن المؤمن - وإن كان ضعيف الإيمان - لا بد أن يريد اللَّه والدار الآخرة؛ وأما من عمل العمل لوجه اللَّه ولأجل الدنيا، والقصدان متساويان أو متقاربان، فهذا - وإن كان مؤمنًا -: فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص، وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص. وأما من عمل للَّه وحده وأخلص في عمله إخلاصًا تامًّا، لكنه ¬

(¬1) كتاب الاستنباط/ للشيخ محمد عبد الوهاب ص: 120 - 123، نقلاً عن كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد/ للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ص: 437 - 441 بتصرف.

يأخذ على عمله جُعلاً معلومًا يستعين على العمل والدين: كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير، وكالمجاهد الذي يرتب على جهاده غنيمة أو رزقًا، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد، والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها؛ فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده: لكونه لم يرد بعمله الدنيا، وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له مُعينًا على قيام الدين، ولهذا جعل اللَّه في الأموال الشرعية - كالزكوات وأموال الفيء وغيرها - جزءًا كبيرًا: لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة (¬1). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) القول السديد ص: 187 - 189.

الكلمة السادسة والثلاثون: كفارات الذنوب

الكلمة السادسة والثلاثون: كفارات الذنوب رقم (2) الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فقد ذكر شارح الطحاوية: أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم، بنحو عشرة أسباب، عُرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: أولاً: التوبة الصادقة، قال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)} [الفرقان]. وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (53)} [الزمر]. وهذا لمن تاب؛ ولهذا قال: {لاَ تَقْنَطُوا}، وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]. ثانيًا: الاستغفار، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون (33)} [الأنفال]. روى الإمام أبو داود في سننه من حديث زيد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ

إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» (¬1). ثالثًا: الحسنات، فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين (114)} [هود]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» (¬2). رابعًا: المصائب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» (¬3). خامسًا: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (10)} [الحشر]. وقال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]. سادسًا: ما يُهدَى الميت بعد الموت من ثواب صدقة، أو حج، ¬

(¬1) ص: 180 برقم 1517، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 283) برقم 1343. (¬2) ص: 332 برقم 1987، وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) ص: 1039 برقم 2574.

أو نحو ذلك؛ روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» (¬1). وفي صحيح البخاري أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي اللهُ عنه - أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّيَ تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَل يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا (¬2). سابعًا: عذاب القبر. ثامنًا: أهوال يوم القيامة وشدائده. تاسعًا: ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ، مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا» (¬3). عاشرًا: شفاعة الشافعين؛ كشفاعة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنبيين، وشفاعة الملائكة، وشفاعة المؤمنين. ¬

(¬1) ص: 388 برقم 1004، وصحيح البخاري ص: 270 برقم 1388. (¬2) ص: 532 برقم 2762. (¬3) ص: 1252 برقم 6535.

الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين، كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116]. قال شارح الطحاوية: فإن كان ممن لم يشأ اللَّه أن يغفر له لعظم جرمه، فلا بد من دخوله إلى الكير أي: (النار)، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه؛ فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى، أدنى، أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا اللَّه، كما تقدم من حديث أنس رضي اللهُ عنه في الصحيحين. وإذا كان الأمر كذلك، امتنع القطع لأحد معيَّن من الأمَّة، غير من شهد له الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنة. ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم - أي من مكر اللَّه -، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم - أي من رحمة اللَّه - (¬1). اهـ. وعلى ذلك، فقول بعض الناس: فلان لا يغفر اللَّه له، أو فلان من أفجر الناس: هو من أهل النار، أو فلان طيِّب، ورجل صالح: هو من أهل الجنة؛ كل هذه الألفاظ لا تجوز، لمخالفتها للنصوص الشرعية، ولعقيدة أهل السنة والجماعة. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ ¬

(¬1) (2/ 448 - 456).

يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ؛ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؛ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ: أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 532 برقم 4901، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 926) برقم 4097. (¬2) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص: 367 - 371.

الكلمة السابعة والثلاثون: حكم الأسهم المختلطة

الكلمة السابعة والثلاثون: حكم الأسهم المختلطة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا» فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يَاتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَانُكَ تُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَلا يُكَلِّمُكَ؟ قَالَ: وَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ! فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ (¬1)، وَقَالَ: «أَينَ هَذَا السَّائِلُ؟ » - وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ - فَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَاتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ (¬2)، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ (¬3)، فَإِنَّهَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا (¬4)، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ (¬5)، وَبَالَتْ، ¬

(¬1) أي العرق الكثير. (¬2) إذا قاربه ودنا منه. (¬3) ضروب من النبات وليس من أحرار البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول. (¬4) وهما جانبا البطن. (¬5) إذا ألقى البعير رجيعه سهلاً رقيقًا.

ثُمَّ رَتَعَتْ؛ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ: لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ، وَالْيَتِيمَ، وَابْنَ السَّبِيلِ (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)؛ وَإِنَّهُ مَنْ يَاخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ كَالَّذِي يَاكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). قال الحافظ ابن رجب: فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بِشَرَهٍ وجوع نفس من حيث لاحَتْ له، لا بقليل يقنع ولا بكثير يشبع، ولا يحلل ولا يحرم، بل الحلال عنده: ما حل بيده وقدر عليه، والحرام عنده: ما منع منه وعجز عنه، فهذا هو المتخوض في مال اللَّه ورسوله فيما شاءت نفسه، وليس له إلا النار يوم القيامة؛ وفي هذا تنبيه على أن من تخوَّض من الدنيا في الأموال المحرَّم أكلها: كمال الربا، ومال الأيتام، والمال المغصوب، والسرقة، والغش في البيوع، وغير ذلك، فكل هذه الأموال وما أشبهها: يتوسع بها أهلها في الدنيا، ويتلذذون بها، ويتوصلون بها إلى لذات الدنيا وشهواتها؛ ثم ينقلب ذلك بعد موتهم، فتصير جمرًا من جمر جهنم في بطونهم، فما تفي لذتها بتبعتها، قال الشاعر: تَفْنَى اللَّذاذَةُ ممَّن نَالَ لَذَّتَهَا ... مِنَ الحَرامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ والعَارُ تَبقَى عَواقِبُ سُوءٍ من مَغَبَّتِها ... لاَ خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِن بَعْدِها النارُ فلهذا شبَّه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من يأخذ الدنيا بغير حقها ويضعها في غير حقها: بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله، ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 403 برقم 1052، وصحيح البخاري ص: 1234 برقم 6427.

فإما أن يقتلها وإما أن يقارب قتلها، فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها ووضعها في غير وجهها، فقد يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه، ومن مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاح حاله، فيستحق النار بعمله (¬1). اهـ. ومما يلاحظ في هذه الأيام: انكباب كثير من الناس على المساهمات المشبوهة والمحرمة، وهذا مصداق قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث - الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه -: «لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ: أَمِن حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟ ! » (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث كعب بن عياض رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» (¬3)؛ وهذه الشركات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولاً: الشركات ذات الأعمال المباحة، وليس من أنشطتها الاستثمار المحرَّم، بل تعمل بالصناعة والتجارة: سواء تجارة العقار أو الزراعة أو النقل، ولا تتعامل بمحرَّم؛ فلا تقتَرِض ولا تُقرِض بالربا، ولا تُودِع أرباحها في بنوك تُعطي لها فوائد ربوية، ولا تستثمر أرباحها في محرَّم، فهذه الأصل فيها الجواز. ثانيًا: الشركات ذات الأعمال المحرَّمة: كالبنوك الربوية، أو ¬

(¬1) لطائف المعارف ص: 531. (¬2) ص: 393 برقم 2083. (¬3) ص: 385 برقم 2336، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

صناعة الخمور، أو آلات الطرب، أو التجارة بالخنزير، بحيث يكون أصل إنشائِها محرَّمًا، فهذا النوع لا يتنازع مسلم في حرمته؛ جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي: بأنه لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات، غرضها الأساسي محرَّم: كالتعامل بالربا، أو إنتاج محرَّمات، أو متاجرة بها (¬1). الثالث: الشركات ذات الأعمال المشروعة، وأنشئت من أجل الاستثمار في الأشياء المباحة: كصناعة الحديد والورق والزيت، والنقل وتجارة الأراضي وغيرها، إلا أنها تتعامل بالحرام أحيانًا: كالإيداع في البنوك وأخذ الفائدة منها، أو أن تجعل من ضمن رأس مالها الاقتراض بالربا أو الإقراض، فتضم هذه الأرباح إلى أرباح مساهميها، وهذه الشركات هي التي اشتهرت بين الناس بالأسهم المختلطة، أي اختلط فيها الحلال والحرام، وفيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول بالجواز وفق ضوابط معينة، ومنهم من يقول بالتحريم: وهو قول غالب العلماء. فقد سئلت اللجنة الدائمة عن أسهم الشركات المختلطة، والتي أساس عملها الصناعة أو الخدمات أو التجارة أو غيرها، ولكنها تقع في مخالفات شرعية: كأن تضع فوائض أموالها في البنوك، أو تقترض من البنوك، أو غير ذلك من المخالفات؛ فأجابت اللجنة بالتحريم: لعموم الأدلة من الكتاب والسنة بتحريم الربا، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ ¬

(¬1) في دورته الرابعة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت في 20/ 8 / 1415 هـ.

الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وغير ذلك من الأدلة (¬1). وعلى المسلم أن يتورع وأن يبتعد عن الشبهات؛ روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ: كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث كعب بن عجرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه أن عبدًا يقال له مدعم، كان مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واستشهد في غزوة خيبر، أصابه سهم طائش، فقال الصحابة: هنيئًا له الشهادة! فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» (¬4). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (13/ 408) رقم (8715). (¬2) ص: 388 برقم 2051، وصحيح مسلم ص: 651 برقم 1599 - واللفظ له -. (¬3) قطعة من حديث ص: 121 برقم 614، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (1/ 189) برقم 501. (¬4) قطعة من حديث ص: 1279 برقم 6707.

وهذه الشملة عباءة قيمتها دراهم معدودة، ومع ذلك لم يسلم صاحبها من عقوبة أكل المال الحرام (¬1). اللَّهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. وسبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. ¬

(¬1) انظر: الأسهم المختلطة/ للشيخ صالح التميمي حفظه اللَّه.

الكلمة الثامنة والثلاثون: الرفقة الصالحة

الكلمة الثامنة والثلاثون: الرفقة الصالحة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الإنسان جُبِل على حب مخالطة الآخرين، وأن يتخذ له جليسًا يعينه على مصالحه في دنياه وأُخراه، والناس متفاوتون في دينهم وأخلاقهم؛ فمنهم الخيِّر الفاضل الذي يُنتفع بصحبته وصداقته، ومنهم السيِّاء الذي يتضرَّر بصداقته ومعاشرته. ومصاحبة الصالحين خير وبركة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِين (67)} [الزخرف]. ومصاحبة جلساء السوء حسرة وندامة يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)} [الفرقان]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ: كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً؛ وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا

أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» (¬2). قوله: «عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ»: أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته فلينظر أي: يتأمل ويتدبر من يخالل، فمن رضي دينه وخلقه خَالَلَهُ ومن لا تجنَّبَهُ فإن الطباع سراقة (¬3). قال الشاعر: عَنِ المرْءِ لاَ تْسأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بالمُقَارَنِ يَقْتَدِي والإنسان مجبول على التأثر بصاحبه وجليسه، والأرواح جنود مجندة؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» (¬4). وتألفها هو ما خلقها اللَّه عليه من السعادة أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، ¬

(¬1) ص: 1091 برقم 5534، وصحيح مسلم ص: 1055 برقم 2628. (¬2) ص: 390 برقم 2378، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 633) برقم 927. (¬3) عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 123). (¬4) ص: 636 برقم 3336 تعليقًا، وصحيح مسلم ص: 1057 برقم 2638 عن أبي هريرة.

والأشرار إلى الأشرار (¬1). ومن ثمرات مجالسة الصالحين: أولاً: الإعانة على الطاعات والبعد عن المعاصي والذنوب، قال تعالى: {وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} [العصر]. ثانيًا: المسارعة إلى الخيرات والتنافس في الطاعات، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران]. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم (71)} [التوبة]. وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون (26)} [المطففين]. ثالثًا: بركة المجالسة، فإن من جالسهم تشمله بركة مجالستهم، ويعمه الخير الحاصل لهم، وإن لم يكن عمله بالغًا مبلغهم، كما دل على ذلك: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ للَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ» ¬

(¬1) عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 124).

وفي آخر الحديث: «فَيَقُولُ اللَّهُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (¬1). يقول عمر: «لولا ثلاث، ما أحببت العيش في هذه الحياة الدنيا: ظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات من الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام، كما ينتقى أطايب التمر». وكم من شخص اهتدى، وأصبح من المحافظين على الصلاة، وترك مجالسة السوء، وتوجَّه إلى الدعوة؟ ! كل ذلك: بفضل اللَّه، ثم الرفقة الصالحة. روى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَاكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» (¬2). قال الخطابي: إنما جاء هذا في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك أن اللَّه سبحانه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان] ومعلوم أن أسراءهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء، وإنما حذر عليه السَّلام من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب (¬3). ومن الآثار المترتبة على مجالسة أهل السوء، وهي كثيرة: ¬

(¬1) ص: 1230 برقم 6408، وصحيح مسلم ص: 1230 برقم 2689. (¬2) ص: 392 - 393، برقم 2395. (¬3) عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 123).

أولاً: أنه يصرف صاحبه وجليسه من الطاعة إلى المعصية، ويزيِّن له عمل السوء؛ روى البخاري ومسلم من حديث سعيد ابن المسيب عن أبيه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَا عَمِّ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم (113)} [التوبة]، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين (56)} [القصص] (¬1). ثانيًا: أن غالب مجالس أهل الفسق لا يذكر اللَّه تعالى فيها، بل يُعصى جلَّ وعلا، فتكون حسرة وندامة على أصحابها يوم القيامة. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا ¬

(¬1) صحيح البخاري (3/ 62، 63) برقم (3884)، وصحيح مسلم (1/ 54) برقم (24) - واللفظ له -.

كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً (¬1)؛ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (¬2). قال الشافعي: إذا لَمْ أَجِدْ خِلًّا تَقِيًّا فَوِحْدتي ... ألذُّ وأشهى من غَوِيٍّ أُعَاشِرهُ وَأَجْلِسُ وَحْدِي للعِبَادَةِ آمِناً ... أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ جَلِيسٍ أُحَاذِرُه ثالثًا: أن الجليس السوء يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرَّمات، ويخفِّف وقع المعصية في قلبه، ويهوِّن عليه التقصير في الطاعة، قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللهُ عنه: «ودَّت الزانية لو زنى النساء كلهن». وجليس السوء ينصرف عن صاحبه عند أدنى خلاف أو فوات مصلحة، بل وتحصل البغضاء بعد ذلك، قال عبداللَّه بن المعتز: إخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة. لذا أنصح إخواني بإلحاق أبنائهم بحلقات تحفيظ القرآن الكريم، فهي رفقة صالحة، وعندهم برامج مفيدة: يقضي فيها الشاب وقته، وتُبعده عن جلساء السوء. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) أي حسرة وندامة. (¬2) ص: 535 برقم 3380، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة التاسعة والثلاثون: نعمة العقل

الكلمة التاسعة والثلاثون: نعمة العقل الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من أفضل نعم اللَّه على عباده: نعمة العقل، فلولا العقل لما عرف الإنسان دين الإسلام، والنبوة، والخير والشر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70)} [الإسراء]. فاللَّه تعالى فضَّل بني آدم على غيرهم من الجمادات، والحيوانات، والنباتات بهذا العقل. قال تعالى - مادحًا عباده أصحاب العقول السليمة -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب (190)} [آل عمران]. قال ابن كثير: أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال اللَّه فيهم: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون (106)} [يوسف] (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 295).

وقد ذم اللَّه تعالى أصحاب العقول الغافلة عن دينه، فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون (22)} [الأنفال]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون (179)} [الأعراف]. فإذا فَقَدَ الإنسان العقل السليم الذي يقوده إلى الخير ويبعده عن الشر، فقد أصبح كالبهيمة التي تأكل وتشرب ولا تعقل شيئًا، بل إنها خير منه: كما في الآية الكريمة السابقة، روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخلَاقِ، وَيَكرَهُ سِفسَافَهَا» (¬1) أي: دنيئها وخسيسها. قال ابن حبان: وإن محبة المرء المكارم من الأخلاق وكراهته سفسافها هو نفس العقل، فالعقل به يكون الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ولا مال أفضل منه، ولا يتم دين أحد حتى يتم عقله، وهو من أفضل مواهب اللَّه لعباده، وهو دواء القلوب، ومطيَّة المجتهدين، وبذر حراثة الآخرة، وتاج المؤمن في الدنيا، وعدته في وقوع النوائب؛ ومن عُدِمَ العقلَ لم يزده السلطان عزًّا، ولا المال يرفعه قدرًا، ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه (¬2). اهـ. ¬

(¬1) (1/ 64)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع الصغير» (1/ 384) برقم 1889. (¬2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء/ ص: 16 - 19، باختصار.

قال الشاعر: وَأَفْضَلُ قَسم اللَّه للمَرْءِ عَقْلُهُ ... فليسَ مِنَ الخَيْراتِ شيءٌ يُقاربُهُ إِذا أَكْمَلَ الرحْمَنُ للمرءِ عَقْلَهُ ... فقدْ كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ ومآربُهُ وقال الشاعر: لَيْسَ الجمالُ بأثوابٍ تُزَينُنَا ... إِنَ الجَمَالَ جَمَالُ العَقْلِ والأَدَبِ قد يقول قائل: ما هو العقل؟ ومن هو العاقل؟ العقل: اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء في أول درجاته يسمى أديبًا ثم أريبًا، ثم لبيبًا ثم عاقلًا (¬1)؛ قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] أي: تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه، ويقال: إنه لا يتغير غالبًا عما يكون عليه ابن الأربعين (¬2). قال ابن حزم: وحد العقل: ينطوي فيه فعل الطاعات والفضائل واجتناب المعاصي والرذائل، وقد نصَّ اللَّه تعالى في كتابه أن من عصاه لا يعقل، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِير (11)} [الملك]. وحد الحمق: استعمال المعاصي والرذائل، وهو ضد العقل، ولا واسطة بين الحمق والعقل إلا السخف (¬3) اهـ. ¬

(¬1) روضة العقلاء/ لابن حبان ص: 16. (¬2) تفسير ابن كثير (13/ 15). (¬3) الأخلاق والسير في مداواة النفوس ص: 65 - 66 بتصرف.

قيل لابن المبارك: ما خير ما أُعطي الرجل؟ قال: غريزة عقل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن؛ قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل (¬1). والناس يحبون الرجل الذي جمع بين الصلاح ورجحان العقل، ونبينا محمد بن عبد اللَّه أرجح الناس عقلاً، ففي الجاهلية لم يسجد لصنم قط، مع كثرتها وتعلق الناس بها: لعلمه أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع؛ وكانت قريش تُودِع أموالها عنده، ويستشيرونه في أمورهم: لرجحان عقله وسداد رأيه، وكان يعتزل الناس، ويتعبد في غار حراء يسأل ربه الهداية. وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر قال لزيد بن ثابت: إنك رجل شاب عاقل لا نتَّهِمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَتَبَّعِ القرآن فاجمعه، قال زيد: فواللَّه لو كَلَّفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن (¬2). وحُكي أن جماعة من النصارى تحدثوا فيما بينهم، فقال قائل منهم: ما أقل عقول المسلمين، يزعمون أن نبيهم كان راعياً للغنم، فكيف يصلح راعي الغنم للنبوة؟ ! فقال له آخر من بينهم: أما هم فواللَّه أعقل منا، فإن اللَّه بحكمته يسترعي النبي الحيوان البهيم فإذا أحسن رعايته والقيام عليه نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق، حكمة ¬

(¬1) روضة العقلاء/ ص: 17. (¬2) قطعة من حديث ص: 992 برقم 4986.

من اللَّه وتدريجاً لعبده، ولكن نحن جئنا إلى مولود خرج من امرأة يأكل ويشرب ويبول ويبكي فقلنا: هذا إلهنا الذي خلق السماوات والأرض فامسك القوم عنه (¬1). هناك بعض التنبيهات: أولاً: إن محل العقل القلب وهو صريح قول اللَّه تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور (46)} [الحج]. قال الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله: ومن الخطأ قول الفلاسفة: إن محل العقل الدماغ، وقد تبعهم في ذلك قليل من المسلمين، وعامة علماء المسلمين أن محل العقل القلب، فمن ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]. فعابهم اللَّه بأنهم لا يفقهون، والفقه - الذي هو الفهم - لا يكون إلا بالعقل، فدلَّ ذلك على أن محل العقل القلب، وقال تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي اللهُ عنهما: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ: أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ» (¬2). فإذا آمن القلب، آمنت الجوارح: بفعل المأمورات وترك المنهيات، لأن القلب أمير البدن؛ وذلك يدل دلالة واضحة: على أن القلب ما كان كذلك، إلا لأنه محل العقل الذي به ¬

(¬1) جامع الآداب لابن القيم (1/ 218) من كلام ابن القيم تحقيق اليسري السيد محمد. (¬2) ص: 34 برقم 52، وصحيح مسلم ص: 651 برقم 1599.

الإدراك والفهم (¬1). ثانيًا: ليس كل من ادَّعى العقل يعتبر عاقلاً، فقد يدَّعيه من هو سفيه أو أحمق، فالعاقل - كما تقدَّم -: من ترفَّع عن السفاهات والمعاصي وخوارم المروءة كلها، وسَما بنفسه إلى الطاعات ومكارم الأخلاق. قال ابن حبان - بعد ما ذكر أقوال العلماء في تعريف المروءة -: والمروءة عندي خصلتان: اجتناب ما يكره اللَّه والمسلمون من الفعال، واستعمال ما يحب اللَّه والمسلمون من الخصال، واستعمالهما هو العقل نفسه، وقد ورد في الأثر: إن مروءة المرء عقله (¬2). ثالثًا: قد يكون الإنسان ذكيًّا، ولكنه ليس بعاقل؛ فالذكاء: هو سرعة البديهة والفهم، والعقل: ما حجز الإنسان عن فعل ما لا ينبغي. رابعًا: العقل نوعان؛ قال الشيخ ابن عثيمين: العقل هو مناط التكليف، وهو إدراك الأشياء وفهمها، وهو الذي تكلَّم عليه الفقهاء في العبادات والمعاملات وغيرها، وعقل الرشد: وهو أن يحسن الإنسان التصرف، وسمَّى إحسان التصرف عقلاً؛ لأن الإنسان عقل تصرفه بما ينفعه (¬3). قال تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (73)} [البقرة]. وقال تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ¬

(¬1) الرحلة إلى أفريقيا / ص: 25 - 29 باختصار. (¬2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء/ ص: 232. (¬3) تفسير سورة البقرة (1/ 158) للشيخ ابن عثيمين.

وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون (44)} [البقرة]. أفلا يكون لكم عقول تدركون بها خطأكم وضلالكم؟ ! خامسًا: قد يُعطَى الإنسان القوة والذكاء والعقل، ولكن لا يوفَّق للَّهداية، وأمثلة هذا كثيرة، فأصحاب المخترعات العظيمة: كالكهرباء، والطائرات، والقنابل النووية، وغيرها كثيرمنهم من غير المسلمين: كاليهود والنصارى والملاحدة، بل ذكر اللَّه عن قوم عاد: أنهم كانوا أصحاب قوة وذكاء، بَنَوْا حضارة من أحسن الحضارات، قال تعالى عنها: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَد (8)} [الفجر]. لكنهم لما جحدوا بآيات اللَّه، ما نفعتهم عقولهم ولا قوَّتهم، بل صارت وبالاً عليهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (26)} [الأحقاف]. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الأربعون: تفسير سورة الضحى

الكلمة الأربعون: تفسير سورة الضحى الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبُّره والعمل به، فقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص: ]. ومن سور القرآن العظيم التي تتكرَّر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمُّل وتدبُّر: سورة الضحى. روى البخاري ومسلم من حديث جندب رضي اللهُ عنه قال: اشْتَكَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أو ثلاثًا، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي لأرجُو أن يكونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لم أرَهُ قربَكَ منذُ ليلتَينِ أو ثلاثةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى]. وجاء في بعض الروايات: أنها أم جميل زوجة أبي لهب. قوله تعالى {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ}: هذا قسم منه تعالى بزمن الضحى وما جعل فيه من الضياء والنور، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} أي: سكن فأظلم وادلهم وهذا دليل على قدرة خالق هذا، وهذا كما قال سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل]. وقال: {فَالِقُ

الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم (96)} [الأنعام]. قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أي: ما تركك، {وَمَا قَلَى (3)}: أي وما أبغضك، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4)} أي: وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار، ولهذا كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها اطراحًا كما هو معلوم من سيرته، ولما خيِّر عليه السَّلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين لقاء ربه عزَّ وجلَّ، اختار ما عند اللَّه على هذه الدنيا الفانية. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مويهبة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عزَّ وجلَّ وَالْجَنَّةِ»، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ! قَالَ: «لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ» ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ (¬1). قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}، أي: في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته وفيما أعدَّه له من الكرامة، ومن جملته: نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، وطينه مسك أذفر. ¬

(¬1) (25/ 376) برقم 15997؛ وقال محققوه: إسناده ضعيف، لكن الحديث صحيح في استغفاره لأهل البقيع واختياره لقاء ربه.

روى ابن جرير في تفسيره من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: عُرِض على رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما هو مفتوح على أمَّته من بعده كنزًا كنزًا، فسُرَّ بذلك، فأنزل اللَّه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)}؛ فأعطاه في الجنة ألف قصر، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم (¬1). قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف (¬2)؛ ثم قال تعالى - يعدد نعمته على عبده ورسوله محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)}: وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل: بعد أن ولد عليه السَّلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين. ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه، بعد أن بعثه اللَّه على رأس أربعين سنة من عمره هذا، وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدره وحسن تدبيره، إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل؛ فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار اللَّه له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى اللَّه سنته على الوجه الأتم الأكمل، فلما وصل إليهم آوَوه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه، وكل هذا من حفظ اللَّه له، وكلاءته وعنايته به (¬3). ¬

(¬1) (12/ 624) برقم 37513. (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 383). (¬3) تفسير ابن كثير (14/ 384).

قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7)}، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (52)} [الشورى]. قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)}، أي: كنت فقيرًا ذا عيال فأغناك اللَّه عمن سواه، فجمع له بين مقامَي الفقير الصابر والغني الشاكر - صلوات اللَّه وسلامه عليه -. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (¬1)؛ وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثرَةِ الْعَرَضِ، إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (¬2). قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَر (9)}، أي: كما كنت يتيمًا فآواك اللَّه، فلا تقهر اليتيم: أي لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به. قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَر (10)}، أي: كما كنت ضالًّا فهداك اللَّه، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث (11)}، أي: كما كنت عائلًا فقيرًا فأغناك اللَّه فحدث بنعمة اللَّه عليك. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ¬

(¬1) ص: 404 برقم 1054. (¬2) ص: 1238 برقم 6446، وصحيح مسلم ص: 403 برقم 1051.

قال: «لَا يَشكُرُ اللَّهَ، مَن لَا يَشكُرُ النَّاسَ» (¬1)؛ وروى أبو داود في سننه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أُبْلِيَ بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ» (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 524 برقم 4811، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 913) برقم 4026. (¬2) ص: 524 برقم 4814، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 914) برقم 4029.

الكلمة الحادية والأربعون: فضل الصحابة

الكلمة الحادية والأربعون: فضل الصحابة الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة: حب أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال الطحاوي رحمه الله: «ونحبُّ أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا نفرط في حب واحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان» (¬1). فأهل السنة والجماعة يحبون أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويفضلونهم على جميع الخلق بعد الأنبياء، لأن محبتهم من محبة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومحبة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من محبة اللَّه؛ وهم يثنون على الصحابة، ويترضَّون عنهم، ويستغفرون لهم، وذلك للأمور التالية: أولاً: أنهم خير القرون في جميع الأمم؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «خَيْرُ ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية (2/ 689).

النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (¬1). ثانيًا: هم الواسطة بين رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبين أمَّته، فمنهم تَلَقَّتِ الأمَّة عنه الشريعة. ثالثًا: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة. رابعًا: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة: من الصدق والنصح والأخلاق والآداب، التي لا توجد عند غيرهم (¬2). قال تعالى مُثنيًا عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (100)} [التوبة]. وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح]. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه قال: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (¬3). قالت عائشة رضي الله عنها - عندما قيل لها: إن ناسًا ينالون من أصحاب ¬

(¬1) ص: 502 برقم 2652، وصحيح مسلم ص: 1023 برقم 2533. (¬2) شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين (2/ 248 - 249). (¬3) ص: 701 برقم 3673، وصحيح مسلم ص: 1017 برقم 2541.

رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى أبا بكر وعمر - فقالت: وما تعجبون من هذا؟ ! انقطع عنهم العمل، فأحَبَّ اللَّه أن لا ينقَطِعَ عنهم الأجر. وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن ابن عمر أنه قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً، خَيْرٌ مِنْ عبادة أَحَدِكُمْ أَربَعِينَ سَنَةً» (¬1) (¬2). قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: إن اللَّه نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته؛ ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه (¬3). وقال أيضاً مخاطباً أصحابه: أنتم أكثر صلاة وأكثر صياماً وأكثر جهاداً من أصحاب محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهم كانوا خيراً منكم، قالوا: فيم ذاك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة (¬4). وقال الحسن البصري رحمه الله: إن أصحاب محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا أكياساً ¬

(¬1) هو الإمام عبيد اللَّه بن محمد الحنبلي: أبو عبد اللَّه ابن بطة، صاحب كتاب الإبانة الكبرى. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة رقم (20)، (1/ 60 - 61) وقال محققه: إسناده صحيح. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 84) برقم 3600، والبغوي في شرح السنة (1/ 214) برقم (105). وقال محققو المسند: إسناده حسن. (¬4) الجامع لشعب الإيمان للبيهقي (15/ 145) برقم 10152، وقال محققه: إسناده صحيح.

عملوا صالحاً، وأكلوا طيباً، وقدموا فضلاً لم ينافسوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يجزعوا من ذلها، أخذوا صفوها، وتركوا كدرها، واللَّه ما تعاظمت في أنفسهم حسنة عملوها، ولا تصاغرت في أنفسهم سيئة أمرهم الشيطان بها (¬1). قوله: ولا نفرط في حب واحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، وحبهم دين وإيمان وإحسان. يقصد بذلك الرد على الروافض والنواصب: فإن الرافضة يكفِّرون أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويعتقدون أنهم كفروا إلا ثلاثة منهم، بل يعتقدون أنه لا ولاء إلا ببراء: أي لا يتولَّى أهل البيت حتى يتبرَّأ من أبي بكر وعمر؛ وأهل السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، والرافضة يغلون في علي ويرفعونه فوق منزلته، أما النواصب: فإنهم يسبون عليًّا، ويبغضون آل بيت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬2). قال ابن أبي العز الحنفي: «فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين، وسادات أولياء اللَّه بعد النبيين؟ ! بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى؛ وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: ¬

(¬1) الجامع لشعب الإيمان للبيهقي (15/ 144) برقم 10149، وقال محققه: إسناده لا بأس به. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية ص: 532.

أصحاب عيسى؛ وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! لم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة» (¬1). قوله: وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث البراء رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في الأنصار: «لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ؛ مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» (¬2). قال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندنا حق، والقرآن حق؛ وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن: أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا: ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة (¬3). وقال يحيى بن معين في - تليد بن سليمان المحاربي الكوفي -: «كذاب، كان يشتم عثمان، وكل من شتم عثمان، أو طلحة، أو أحدًا من أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دجَّال، لا يُكتَب عنه، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬4). وللَّه دَرُّ القائل: ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية ص: 532. (¬2) ص: 720 برقم 3783، وصحيح مسلم ص: 59 - 60 برقم 75. (¬3) الكفاية في علم الرواية ص: 49، وانظر: الإصابة لابن حجر (1/ 11). (¬4) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (7/ 138)، وانظر: تهذيب التهذيب (1/ 509).

لا تَرْكَنَنَّ إلى الروافض إِنهُمْ ... شَتَموا الصَّحَابَةَ دُونَ ما بُرْهَانِ لَعَنُوا كَمَا بَغَضُوا صَحَابَة أحمدِ ... ودادهم فرض على الإنسان حُبُّ الصحابةِ والقرابة سنةٌ ... أَلقَى بِهَا رَبِّي إذا أَحْيَانِي احْذَرْ عِقَاب اللَّهِ وارْجُ ثوابَهُ ... حتَى تكونَ كَمْن لَهُ قَلْبانِ والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية والأربعون: خطر الاختلاط

الكلمة الثانية والأربعون: خطر الاختلاط الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمن البلايا العظيمة التي ابتُلِيت بها الأمَّة في هذه الأيام: الاختلاط بين الرجال والنساء على أشكال وصور متعددة، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بجلب المصالح ودفع المفاسد. ولا شك أن الاختلاط باب شر ومفتاح فتن على الأمَّة، وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة بمنعه. قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]. قال ابن كثير: أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية: الصلاة في المسجد بشرطه (¬1)؛ كما قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ (¬2)» (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 150). (¬2) أي غير متزيِّنات. (¬3) مسند الإمام أحمد (8/ 281) برقم 4655، وقال محققوه: إسناده صحيح.

وفي رواية: «وَبُيُوتُهُنَّ خَيرٌ لَهُنَّ» (¬1)؛ وقال مجاهد: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ (¬2). روى البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» (¬3)؛ والحمو: هو قريب الزوج، شبَّهه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالموت: لخطورته وتساهل الناس فيه. وإذا كان الرجال ممنوعين من الدخول على النساء، وممنوعين من الخلوة بهن بطريق الأَولى، كما ثبت بأحاديث أُخَر، صار سؤالهنَّ متاعًا لا يكون إلا من وراء حجاب، ومن دخل عليهنَّ فقد خرق الحجاب (¬4). قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: وكان النساء في عهد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يختلطن بالرجال لا في المساجد ولا في الأسواق الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم، ويرشد القرآن والسنة وعلماء الأمة إلى التحذير منه حذرًا من فتنته، بل كان النساء في مسجده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلين خلف الرجال في صفوف متأخرة عن الرجال، وكان يقول: «خَيرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» (¬5)، حذرًا من افتتان آخر صفوف الرجال ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (9/ 340) برقم 5471، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2) تفسير ابن كثير (11/ 151). (¬3) ص: 1035 برقم 5232، وصحيح مسلم ص: 896 برقم 2172. (¬4) حراسة الفضيلة/ للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، ص: 63. (¬5) ص: 186 برقم 440.

بأول صفوف النساء، وكان الرجال في عهده عليه الصلاة والسلام يؤمرون بالتريُّث في الانصراف، حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد، لئلا يختلط بهن الرجال في أبواب المسجد، مع ما هم عليه جميعًا رجالاً ونساء من الإيمان والتقوى، فكيف بحال من بعدهم؟ ! وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهاهن أن يمشين في وسط الطريق، ويؤمرن بلزوم حافات الطريق: حذرًا من الاحتكاك بالرجال، والفتنة بمماسة بعضهم بعضًا عند السير في الطريق (¬1) اهـ. بل إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يخصص للنساء بابًا يخرجن منه (¬2)؛ قال ابن القيِّم رحمه الله - ما خلاصته -: «ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء: في الأسواق والفرج ومجامع الرجال، فالإمام مسؤول عن ذلك، والفتنة به عظيمة. روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬3)، وفي حديث آخر: «عَلَيكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ» (¬4). ويجب عليه أن يمنع النساء من الخروج متزيِّنات متجمِّلات، ومنعهنَّ من الثياب التي يكنَّ بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة الرقاق، ومنعهنَّ من حديث ¬

(¬1) الموسوعة البازية في المسائل النسائية (2/ 1055). (¬2) سنن أبي داود ص: 74 برقم 462، من حديث ابن عمر، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 92) برقم 439. (¬3) ص: 1010 برقم 5096، وصحيح مسلم ص: 1095 برقم 2740. (¬4) سنن أبي داود برقم (5272)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع الصغير» برقم (929).

الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك. وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، ولا سيَّما إذا خرجت متجمِّلة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهنَّ على الإثم والمعصية، واللَّه سائل ولي الأمر عن ذلك، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهن في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك. ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء: سبب لكثرة الفواحش والزنا (¬1)». وبناء على ما تقدم؛ فإن ما حصل من اختلاط بين الرجال والنساء، سواء كان في اجتماع أو ندوة أو حفل أو تصوير بين الرجال والنساء، أو غير ذلك من صور الاختلاط، ونشره في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية: أمر محرم لا يجوز، بل يجب إنكاره؛ فإنه بوابة شر، ومفتاح فتن وتعرض لعقوبة اللَّه تعالى وسخطه، وإذا نزلت العقوبة عمت الجميع، نسأل اللَّه اللطف والعافية في الدنيا والآخرة. ويجب على العلماء وطلبة العلم والدعاة: أن يبينوا للناس أمور دينهم، ولا يتركوهم حتى لا يلتبس الحق بالباطل، والمعروف بالمنكر. قال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ ¬

(¬1) الطرق الحكمية ص: 280 - 281.

لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون (159)} [البقرة]. وكتمان العلم إخفاؤه عندما يجب بيانه: إما جوابًا لسؤال، أو لمقتضى الحال. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1). ولذلك أوصي بالآتي: أولاً: على من ولاه اللَّه أمر المسلمين: أن يمنع الاختلاط بشتى صوره وأشكاله، حماية للأعراض، وقطعًا لدابر الشر، ونصرة للعفة والفضيلة. ثانيًا: على كل من ولاه اللَّه أمر امرأة من الآباء والأزواج: أن يتقوا اللَّه فيما ولوا من أمر النساء، وأن يعملوا الأسباب لحفظهن من التبرج والاختلاط، وليعلموا أن فساد النساء سببه تساهل الرجال. ثالثًا: ننصح هؤلاء الكتاب الصحفيين الذين يمجدون الاختلاط والسفور ويستهزئون بالحجاب الشرعي: أن يتقوا اللَّه ويحذروا من سخطه وعقابه، وألا يكونوا باب سوء على أهليهم وأمتهم، ومن ¬

(¬1) ص: 51 برقم 49.

استمر في غيه وضلاله فعلى من ولاه اللَّه أمر المسلمين أن يُحِيله إلى المحاكم الشرعية، ليلقى جزاءَه الرادع وفق شرع اللَّه المطهَّر. رابعًا: على كل مسلم الحذر من إشاعة الفاحشة ونشرها، وليعلم أن محبتها - كما بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى - لا تكون بالقول والفعل فقط، بل تكون بذلك وبالتحدث بها، وبالقلب والميل إليها، وبالسكوت عنها، فإن هذه المحبة تمكِّن من انتشارها وتمكِّن من الدفع في وجه من ينكرها من المؤمنين، فليتق اللَّه امرؤ مسلم من محبة إشاعة الفاحشة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون (19)} [النور]. قال الحافظ ابن رجب: «وقد رُوي عن الإمام أحمد أنه قيل له: إن عبدالوهاب الورَّاق ينكِر كذا وكذا، فقال: لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر؛ ومن هذا الباب: قول عمر - لمن قال له: اتق اللَّه يا امير المؤمنين - فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم» (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الحكم الجديرة بالإذاعة ص: 43. (¬2) انظر: رسالة الشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد رحمه الله «حراسة الفضيلة» ص: 149 - 151.

الكلمة الثالثة والأربعون: قصة نبي الله يونس عليه السلام

الكلمة الثالثة والأربعون: قصة نبي الله يونس عليه السَّلام الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فلقد قص اللَّه علينا في كتابه العزيز، قصص الأنبياء والمرسلين لنأخذ منها الدروس والعبر، ولتثبيت فؤاد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتقوية إيمان المؤمنين، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وغير ذلك من الدروس والحكم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون (111)} [يوسف]. وقال أيضًا: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين (120)} [هود]. ومن هؤلاء الرسل: نبي اللَّه يونس عليه السَّلام، وقد ذكر اللَّه قصته في عدد من الآيات، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين (98)} [يونس]. وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين (88)} [الأنبياء].

وقال سبحانه: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُون (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِين (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم (142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِين (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيم (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين (148)} [الصافات]. ذكر أهل التفسير أن اللَّه بعث يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى اللَّه عزَّ وجلَّ فكذبوه، وأصروا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم فركب سفينة في البحر، فلجَّت واضطربت وماجت بهم، وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون؛ فتشاوروا فيما بينهم على أن يقترعوا فمن وقعت عليه القرعة القوه من السفينة ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي اللَّه يونس فلم يسمحوا به، فلما عادوها ثانية فوقعت عليه أيضًا، فشمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه فأبوا عليه ذلك، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضًا لما يريده اللَّه به من الأمر العظيم، وبعث اللَّه عزَّ وجلَّ حوتًا عظيمًا من البحر فالتقمه، وأمره اللَّه تعالى أن لا يأكل له لحمًا ولا يهشم له عظمًا فليس له برزق، فأخذه فطاف به البحر، ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت، فإذا هو حي فخر للَّه ساجدًا وقال: يا رب اتخذت لك مسجدًا، لم يعبدك أحد في مثله، فأمر اللَّه الحوت فقذفه في أرض خالية من كل أحد ومن الأشجار والظلال، وهو مريض بسبب حبسه في بطن الحوت، حتى صار مثل الفرخ الممعوط

من البيضة؛ وأنبت اللَّه عليه شجرة تظله بظلالها الظليل وهي باردة، ثم لطف به فأرسله إلى مئة ألف من الناس أو يزيدون، فدعاهم إلى اللَّه فآمنوا، فصاروا في موازين أعماله، فمنعهم اللَّه بأن صرف عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه. من الدروس والعبر المستفادة من هذه القصة العظيمة: أولاً: أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين (88)} [الأنبياء]. قال المفسرون: الظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح]. قال الشاعر: ولَرُبَّ نَازِلةٍ يضيقُ بها الفتى ذرعًا ... وعندَ اللَّه مِنْهَا المخرجُ ضاقتْ فَلَمَّا استَحْكَمَت حَلَقَاتُها ... فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لا تُفْرَجُ ثانيًا: أن تقوى اللَّه نجاة للعبد في الدنيا والآخرة {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِين (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (144)} [الصافات]. وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق].

وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم]. ثالثًا: استجابة اللَّه لدعاء المؤمن؛ فإن يونس لما دعا ربه والتجأ إليه، كشف اللَّه عنه هذه الغمة، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين (88)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. روى الترمذي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ، إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» (¬1). رابعًا: لطف اللَّه تعالى بعبده؛ فإن يونس - لما قذفه الحوت على الشاطئ وهو مريض - أنبت اللَّه له شجرة اليقطين، قال بعضهم: هي القرع ورقها في غاية النعومة وكثير وظليل، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيئًا ومطبوخًا وبقشره وبزره أيضًا. خامسًا: قدرة اللَّه تعالى المطلقة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس]. وهو سبحانه الذي أمر الحوت أن لا يأكل له لحمًا، ولا يهشم له عظمًا. سادسًا: أن المؤمن قد يعاقب على ذنبه في الدنيا، قال تعالى: ¬

(¬1) ص: 552 برقم 3505، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (3/ 168) برقم 2785.

{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]. وقال أيضًا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير (30)} [الشورى]. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة والأربعون: سيرة طلحة بن عبيد الله

الكلمة الرابعة والأربعون: سيرة طلحة بن عبيد الله الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها: صحابي من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عدا غزوة بدر، فقد غاب عنها لعارض ما، فضرب له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه؛ وكان من السابقين إلى الإسلام، فهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وقد اشتهر بالفروسية والشجاعة، وأبلى في معركة أحد بلاء عظيمًا، حتى إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَوجَبَ» - يعني وجبت له الجنة -، وكان أبو بكر رضي اللهُ عنه إذا ذكر يوم أحد يقول: هذا اليوم كله لفلان - يعني طلحة -؛ ولما قدم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينة، آخى بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين توفي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عنهم راض. إنه فارس الإسلام: طلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان القرشي التيمِي، ويكنى أبا محمد، ويعرف بطلحة الخير، وطلحة الفياض، لكرمه وجوده؛ وصفه ابنه موسى فقال: كان أبي أبيض يضرب إلى الحمرة،

مربوعًا إلى القصر هو أقرب، رحب الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم القدمين وقد لقي في بداية إسلامه أذًى شديدًا، فقد أخذه نوفل ابن خويلد هو وأبو بكر الصديق فشدهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تميم، وكان يعذبهما تعذيبًا شديدًا، فلم يجيباه إلى ما أراد من الرجوع عن الإسلام إلى الكفر. وكانت لهذا الصحابي مواقف بطولية رائعة تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدين، فمن أعظم تلك المواقف: ما بذله يوم أحد من دفاع عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقد تكاثر المشركون على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان يحميه بجسده عن النبال والسيوف أن تصيبه، حتى إنه جرح يوم أحد أربعٌ وعشرون جراحةً، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، وشلت أصابعه. روى البخاري في صحيحه من حديث قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة بن عبيد اللَّه شلاء (¬1)، وقى بها النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬2) وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كسرت رباعيته (¬3)، وجرحت شفته، وسال الدم على وجهه، فجعل طلحة يكر على المشركين حتى يدفعهم عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم ينقلب إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليرقى به إلى الجبل. روى الترمذي في سننه من حديث الزبير رضي اللهُ عنه قال: «كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَانِ، فَنَهَضَ إِلَى صَخرَةٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ (من الثقل والإعياء)، فَأَقْعَدَ تَحْتَهُ طَلْحَةَ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى اسْتَوَى عَلَى ¬

(¬1) ص: 711 برقم 3724. (¬2) شلاء أي مشلولة. (¬3) الرباعية: هي السنة التي بين الناب والثنية.

الصَّخْرَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ» أي وجبت له الجنة» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي عثمان قال: «لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ - عَنْ حَدِيثِهِمَا -» (¬2). ومن فضائله العظيمة: ما رواه الترمذي في سننه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث موسى بن طلحة قال: دخلتُ على معاوية فقال: ألا أبشِّرك؟ سمعتُ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» (¬4). قال شراح الحديث: أي بذل نفسه في سبيل اللَّه، حتى لم يبق بينه وبين الهلاك شيء، فهو كمن قتل وإن كان حيًّا. وقد اشتهر رضي اللهُ عنه بالكرم والإنفاق والبذل، لذلك: سمي طلحة الخير، وطلحة الفياض. يقول قبيصة بن جابر رضي اللهُ عنه: صحبت طلحة فما رأيت أعطى لجزيل مال منه من غير مسألة، وذكر الحافظ في الإصابة: «أن قتله ¬

(¬1) ص: 583 برقم 3738، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. (¬2) ص: 711 برقم 3722. (¬3) ص: 584 برقم 3739، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 216) برقم 2940. (¬4) ص: 584 برقم 3740، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 216) برقم 2942.

كان على يد مروان بن الحكم في معركة الجمل»، روى يعقوب بن سفيان في كتابه «المعرفة والتاريخ» عن قيس بن أبي حازم: أن مروان ابن الحكم رأى طلحة، وقال: هذا ممن أعان على قتل عثمان، فرماه بسهم فأثبته في ركبته، فجعل الدم ينزف منه حتى مات (¬1). قال الذهبي: نشهد اللَّه على بغض قتلة الصحابة أمثال طلحة والزبير وعلي، ونبرأ إلى اللَّه من فعلهم، ونكل أمرهم إلى اللَّه (¬2). اهـ. ودخل عمران بن طلحة بعد معركة الجمل على علي بن أبي طالب فرحَّب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني اللَّه وأباك والزبير بن العوام ممن قال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر]. وكان قتله سنة ست وثلاثين من الهجرة في جمادى الآخرة، وله أربع وستون سنة. رضي اللَّه عن طلحة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته. وسبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. ¬

(¬1) الإصابة (3/ 292)، وقال ابن حجر: إسناده صحيح. (¬2) تاريخ الإسلام ص: 654، عهد الخلفاء الراشدين بتصرف.

الكلمة الخامسة والأربعون: الخوف من الله

الكلمة الخامسة والأربعون: الخوف من الله الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن الخوف من اللَّه من أفضل مقامات الدين وأجملها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها للَّه تعالى، قال تعالى عن أهل الجنة: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِين (¬1) (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم (27)} [الطور]. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان (46)} [الرحمن]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى (41)} [النازعات]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه» ذكر منهم: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: الخوف على أقسام: ¬

(¬1) أي خائفين. (¬2) ص: 277 برقم 1423، وصحيح مسلم ص: 397 برقم 1031.

الأول: خوف السر وهو أن يخاف من غير اللَّه من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره، قال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُون (55)} [هود]. وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر: 36]. وهذا الواقع من عبَّاد القبور ونحوها من الأوثان، يخافونها ويخوِّفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها، وأمروا بإخلاص العبادة للَّه، وهذا ينافي التوحيد. الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفًا من بعض الناس، فهذا محرَّم؛ قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]. وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَامَ خَطِيبًا فَكَانَ فِيمَا قَالَ: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ: أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ» قَالَ: فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا (¬1). الثالث: الخوف الطبيعي: وهو الخوف من عدو أو سَبُع أو غير ذلك، وهذا لا يذم؛ قال تعالى عن نبيه موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]. ومعنى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ} أي: يخوفكم أولياءه {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (175)} [آل عمران]. وهذا نهيٌ من اللَّه تعالى للمؤمنين ¬

(¬1) ص: 431 برقم 4007، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 368) برقم 3237.

أن يخافوا غيره، وأمرٌ لهم أن يقصروا خوفهم على اللَّه تعالى، فلا يخافون إلا إياه، وهذا هو الإخلاص الذي أمر اللَّه به عباده، ورضيه منهم؛ فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة، أعطاهم ما يرجون، وأمَّنهم من مخاوف الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد (36)} [الزمر]. قال العلامة ابن القيِّم: ومن كيد عدو اللَّه أن يخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائهم، لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافه. قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، فكلما قوي إيمان العبد، زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء]. وكلما ضعف إيمانه، قوي خوفه منهم. فدلَّت هذه الآية على أن إخلاص الخوف: من شروط كمال الإيمان (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوف ما حجزك عن محارم اللَّه (¬2)؛ قال ابن رجب الحنبلي: القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، ¬

(¬1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص: 396 - 397. (¬2) مدارج السالكين (1/ 551).

والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا (¬1). روى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (¬2). وقال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت؛ وقال الفضيل بن عياض: الخوف أفضل من الرجاء ما كان الرجل صحيحًا، فإذا نزل الموت فإن الرجاء أفضل (¬3). ويشهد لذلك: ما رواه الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟ » قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا ¬

(¬1) التخويف من النار/ لابن رجب، ص: 21. (¬2) ص: 504 برقم 3175، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 79) برقم 2537. (¬3) التخويف من النار/ لابن رجب، ص: 16.

الْمَوْطِنِ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ» (¬1). وقال عمر: لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلًا واحدًا، لخفت أن أكون أنا هو. وخرج عمر يومًا إلى السوق ومعه الجارود، فإذا امرأة عجوز فسلَّم عليها عمر فردَّت عليه، وقالت: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرًا في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام حتى سمعت عمر ثم قليل فسمعت أمير المؤمنين، فاتق اللَّه في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فبكى عمر، فقال الجارود: لقد أجترأت على أمير المؤمنين وأبكيته، فأشار إليه عمر أن دعها، فلما فرغ قال: أما تعرف هذه؟ قال: لا. قال: هذه خولة ابنة حكيم التي سمع اللَّه قولها، فعمر أحرى أن يسمع كلامها - أشار إلى قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير (1)} [المجادلة]-. وقال عمر رضي اللهُ عنه لما طعن: لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا، لافتديت به من عذاب اللَّه عزَّ وجلَّ قبل أن أراه (¬2)؛ وقال عمر بن عبد العزيز: من خاف اللَّه أخاف اللَّه منه كل شيء، ومن لم يخف اللَّه خاف من كل شيء. وبكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني غدًا ¬

(¬1) ص: 177 برقم 983، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (1/ 289) برقم 785. (¬2) صحيح البخاري ص: 705 رقم 3692.

في النار ولا يبالي؛ وقال يحيى بن معاذ الرازي: على قدر حبك للَّه يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من اللَّه يهابك الخلق؛ وقال الإمام أحمد بن حنبل: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، فلا أشتهيه. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السادسة والأربعون: دروس وعبر من قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد}

الكلمة السادسة والأربعون: دروس وعبر من قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد} [آل عمران] الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبُّره والعمل به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص: ]. وعملاً بالآية الكريمة: لنستمع إلى آية من كتاب اللَّه، ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار (198)} [آل عمران]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وهذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها، وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب والملذات، وأنواع العز والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع قليل ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتَّعون به قليلاً، ويُعَذَّبُون عليه طويلاً، وهذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه، أما المتقون لربهم المؤمنون

به: فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا ونعيمها، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فلو قُدِّر أنهم في دار الدنيا قد حصل لهم كل بؤس وشقاء، لكان هذا - بالنسبة إلى النعيم المقيم والعيش السليم -: نزرًا يسيرًا ومنحة في صورة محنة، ولهذا قال: {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَار (198)}: الذين برت أقوالهم وأفعالهم فأثابهم البر الرحيم من بره أجراً عظيماً وعطاءً جسيماً وفوزاً دائماً. اهـ (¬1). ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: ألاَّ يغترَّ المؤمن بحال هؤلاء الكفار وما هم فيه من النعمة والغبطة والسرور، فهو متاع زائل يعقبه عذاب أبدي سرمدي، قال تعالى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِين (61)} [القصص]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون (70)} [يونس]. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ! هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللَّهِ! يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ! ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 144.

هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ! يَا رَبِّ! مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» (¬1). ثانيًا: أن كثرة النعم والخيرات التي يعطيها اللَّه لعبده، ليست دليلاً على محبته، قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ»؛ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام] (¬2). ثالثًا: أن إمهال اللَّه لهؤلاء الكفار وتتابع النعم والخيرات لهم، إنما هو زيادة لهم في عذاب الآخرة، قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين (178)} [آل عمران]. وقال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة]. رابعًا: أن ما يعطيه اللَّه للكفار من نعم الدنيا، إنما ذلك لهوان الدنيا عنده وحقارتها، وابتلاء لهم وفتنة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُون (20)} [الأحقاف]. ¬

(¬1) ص: 1129 برقم 2807. (¬2) (28/ 547) برقم 17311، وقال محققوه: حديث حسن.

روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬1). وفي الصحيحين أن عمر رضي اللهُ عنه صعد إلى مشربة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا آلى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من نسائه، فرآه متكئًا على رَمْل حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ بجَنْبِهِ، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول اللَّه هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة اللَّه من خلقه؟ ! وكان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم متكئًا فجلس، وقال: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! » ثم قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» وفي رواية: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ؟ ! » (¬2). خامسًا: الترغيب في الآخرة والزهد في الدنيا؛ قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه]. وقال تعالى: {وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين (35)} [الزخرف]. سادسًا: بيان حقارة الدنيا وهوانها على اللَّه؛ روى الترمذي في سننه من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (¬3). ¬

(¬1) ص: 1129 برقم 2808. (¬2) جزء من حديث ص: 968 برقم 4913، وصحيح مسلم ص: 595 برقم 1479. (¬3) ص: 383 برقم 2320، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 269) برقم 1889.

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مر بالسوق والناس عن جانبيه، فمر بجدي أسك - أي صغير الأذن - فقال: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ » فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ » قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ ! فَقَالَ: «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ، مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث مُسْتَوْرِدٍ أَخَي بَنِي فِهْرٍ رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟ ! » (¬2). قال أبو العتاهية وهو يصف الدنيا: إَذَا أَبْقَتِ الدُنْيَا عَلَى المرءِ دِينَهُ ... فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ إِذَا كُنْتَ بالدُّنْيَا بَصِيراً فإِنَّمَا ... بلاغُك مِنْهَا مِثْلُ زَادِ المُسَافِرِ وإِنَّ امرَءاً يَبْتَاعُ دُنْيَا بدِينِهِ ... لَمُنْقَلِبٌ مِنْهَا بِصَفْقَةِ خَاسِرِ أَلَمْ تَرَهَا تُرْقِيِه حَتَّى إِذَا سَمَا ... فَرَت حَلْقَهُ مِنهَا بُمدية (¬3) جازِرِ ولاَ تَعْدِلُ الدَّنِيا جنَاحَ بَعُوضَةٍ ... لَدَى اللَّهِ أو مِعْشَارَ زَغْبَة (¬4) طَائِرِ والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1187 برقم 2956. (¬2) ص: 1146 برقم 2858. (¬3) المُدْية: السكين. (¬4) زغبة طائر: الزغب صغار الريش، الواحدة زغبة، المعجم الوسيط ص: 394.

الكلمة السابعة والأربعون: أمراض القلوب

الكلمة السابعة والأربعون: أمراض القلوب الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإنه ينبغي للمؤمن أن يعتني بسلامة قلبه وصحته من الأمراض، فإن القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، وهذا القلب هو محل نظر اللَّه عزَّ وجلَّ لعبده، والجوارح تبع لصلاح القلب وفساده. قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]. وقال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50]. وقال سبحانه: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (¬1). وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ: أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» (¬2). ¬

(¬1) ص: 1035 برقم 2564. (¬2) ص: 651 برقم 1599، وصحيح البخاري ص: 34 برقم 52.

فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة اللَّه ومحبة ما يحبه اللَّه وخشية اللَّه وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه اللَّه، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب؛ ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره يتابعونه في كل شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحًا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند اللَّه إلا القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء]. وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول في دعائه: «أَسأَلُكَ قَلبًا سَلِيمًا» (¬1). فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة اللَّه وما يحبه اللَّه، وخشية اللَّه وخشية ما يباعد منه (¬2). والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قلب سليم، وقلب ميت، وقلب مريض. ¬

(¬1) جزء من حديث في مسند الإمام أحمد (28/ 338) برقم 17114، وقال محققوه: حديث حسن بطرقه. (¬2) جامع العلوم والحكم/ لابن رجب، ص: 94 - 95.

فالقلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء]. قال ابن القيم رحمه الله: «هو الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، ومن كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن اللَّه» (¬1). القلب الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، وهذا هو قلب الكافر، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون (179)} [الأعراف]. القلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، فله مادتان تمده: هذه مرة وتمده هذه مرة أخرى، وهو لما غلبه عليه: وهو قلب المنافق وصاحب الهوى، قال تعالى عن الأصناف التالية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا ¬

(¬1) بدائع التفسير (3/ 327).

بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (54)} [الحج]. ومن علامات مرض القلوب: إيثار الدنيا على الآخرة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (¬1). ومنها: القلق والخوف، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151]. ومنها: هوان القبائح عليه والرغبة في المعاصي، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد (205)} [البقرة]. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُون (23)} [الجاثية]. ومنها: الشعور بقسوة القلب. قال بعض السلف: ما ضرب اللَّه عبدًا بعقوبة، أعظم من قسوة القلب، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين (22)} [الزمر]. وقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ ¬

(¬1) ص: 116 برقم 118.

قَسْوَةً} [البقرة: 74]. وعلاج هذه الأمراض - أعني أمراض القلوب -: التوبة الصادقة والتمسك بكتاب اللَّه وسنة رسوله، ففيهما الشفاء والنور؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون (24)} [الأنفال]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين (57)} [يونس]. وهذه القلوب بيد اللَّه يقلبها كيف يشاء، فينبغي للمؤمن أن يسأل ربه أن يثبته على الإيمان والطاعة. فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة رضي الله عنها: تحدِّث أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قالت: قلت يا رسول اللَّه، أوَ إن القلوب لتتقلب؟ ! قال: «نَعَمْ، مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً، إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (44/ 201) برقم 26576، وقال محققوه: بعضه صحيح بشواهده.

الكلمة الثامنة والأربعون: العشرة الزوجية

الكلمة الثامنة والأربعون: العشرة الزوجية الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فإن من الأمور التي اهتم بها الإسلام: أمر الأسرة داخل البيت وخارجه، ونظرًا لأن أساس الأسرة الزوج والزوجة، فقد شرع لهما شرائع وحد لهما حدوداً وأوجب عليهما أموراً متى ما قام بها الزوجان صلحت الأسرة وسعدت، ومن ثم صلح المجتمع كله، وأشير هنا إلى بعض المعالم التي يهتدي بها الزوجان لإقامة الحياة الزوجية وإصلاحها. فمن ذلك أن اللَّه سبحانه وتعالى خلق المرأة من الرجل ليناسبها فيسكن إليها وتتم بذلك النعمة ويحصل بذلك السرور، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]. قال ابن كثير: «وخلق منها زوجها وهي حواء عليها السلام خُلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 333).

«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ» (¬1) ... الحديث. ومن ذلك أن اللَّه سبحانه وتعالى جعل المرأة سكناً للرجل، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]؛ فكما أن الإنسان يتخذ المسكن ليستتر به ويتقي به الحر والبرد وغير ذلك، فإن الزوجة تكون سكناً لزوجها ليطمئن إليها ويجد في قربها الأنس والراحة. ومن ذلك أن الزوجين ستر لبعضهما ووقاية وجمال، وقد عبر عن ذلك ربنا سبحانه وتعالى بهذا التعبير البليغ الجميل فقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]. ومن ذلك إكرام المرأة وعدم إهانتها أو تحقيرها، وقد أمر اللَّه عزَّ وجلَّ أن يسكنها حيث يسكن وأن يطعمها مما يطعم ويكسوها إذا اكتسى، قال اللَّه تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندما سأله معاوية بن حيدة ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أَن تُطعِمَهَا إِذَا طَعِمتَ، وَتَكسُوَهَا إِذَا اكتَسَيتَ - أَو: اكتَسَبتَ - وَلَا تَضرِبِ الوَجهَ، وَلَا تُقَبِّح، وَلَا تَهجُر إِلَّا فِي البَيتِ» (¬2). ومن ذلك المودة والرحمة بينهما، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ¬

(¬1) ص: 635 برقم 3331، صحيح مسلم ص: 586 برقم 1468. (¬2) سنن أبي داود ص: 243 برقم 2142، قال أبو داود: ولا تقبح: أن تقول قبَّحكِ اللَّه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 402) برقم 1875.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (21)} [الروم]. قال أبو الأسود الدؤلي: خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلاَ تَنْطِقي في سَوْرَتِي حِينَ أَغْضبُ فإَنِيِّ وَجَدْتُ الحُبَّ في الصَّدْرِ والأَذَى ... إِذا اجْتَمَعَا لَمْ يَلْبَثِ الحُبُّ يَذْهبُ ومن المعالم التي يُهتدى بها في إصلاح الحياة الزوجية أن ما بينهما من حقوق وما يلزمهما من واجبات كل ذلك مبني على ما تعارف عليه الناس من كرائم الأخلاق وجميل الصفات حسب ما جرى به العرف في كل زمان ومكان، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهند بنت عتبة: «خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلدُكِ بِالمَعرُوفِ» (¬1)، وقد نص تعالى على أن للمرأة حقوقاً لزوجها وأن لها مثل الذي عليها مع اختصاص الرجل بالدرجة دونها، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. وقد بين تعالى هذه الدرجة في آية أخرى فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، ومع أن هذه الحقوق والواجبات مبنية على ما جرت به عادات الناس الكريمة كما سبق بيانه فإن النصوص الشرعية قد نصت على أمور يجب التنبه لها وعدم الغفلة عنها، فمن ذلك: أولاً: أن على الزوجة طاعة زوجها في غير معصية اللَّه، قال ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 1062 برقم 5364، وصحيح مسلم ص: 712 برقم 1714.

تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} [النساء: 34]، وقال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34]، وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» (¬1)، وفي رواية: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا مِن رَجُلٍ يَدعُو امرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأبَى عَلَيهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطاً عَلَيهَا، حَتَّى يَرضَى عَنهَا» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا كُلَّهُ حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا عَلَيْهَا كُلَّهُ، حَتَّى لَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ قَتَبٍ لَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ» (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده أن عبدالرحمن بن عوف قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» (¬4). ثانياً: التحبب والتودد إليه، وتفقد حاجاته وخدمته في بيته ¬

(¬1) ص: 621 برقم 3237، وصحيح مسلم ص: 570 برقم 1436. (¬2) صحيح مسلم ص: 570 برقم 1436. (¬3) (32/ 145) برقم 19403، وقال محققوه: حديث جيد. (¬4) (3/ 199) برقم 1661، وقال محققوه: حسن لغيره.

وتربية أولاده، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬1). وقد وصفت المرأة الصالحة في حديث آخر رواه النسائي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قيل لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَاذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (¬3). قال النووي رحمه الله: وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع، ولا بواجب على التراخي (¬4). وقد ضربت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أروع الأمثلة في ذلك عندما كانت تتأخر بقضاء الصيام من شهر رمضان حتى يأتي شهر شعبان، وقد عللت ذلك بقولها: أنشغل من رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو برسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬5). ¬

(¬1) ص: 585 برقم 1467. (¬2) ص: 342 برقم 3231، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في مشكاة المصابيح (2/ 976) برقم 3272. (¬3) ص: 1029 برقم 5195، وصحيح مسلم ص: 395 - 396 برقم 1026. (¬4) شرح صحيح مسلم (3/ 115). (¬5) صحيح البخاري ص: 370 برقم 1950، وصحيح مسلم ص: 442 برقم 1146.

ثالثاً: حفظها نفسها والابتعاد عن كل ما يدخل الشكوك عليه، روى الترمذي في سننه من حديث عمرو بن الأحوص رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في خطبته في حجة الوداع: «فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ: فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَاذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ» (¬1). رابعاً: عدم الخروج إلا بإذنه حتى لو كان ذلك إلى المسجد، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا اسْتَاذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَاذَنُوا لَهُنَّ» (¬2). نقل ابن حجر عن النووي قوله: استُدِل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن، وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه إن أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب وهو ضعيف لكن يتقوى بأن يقال: إن منع الرجال نساءهم أمر مقرر، وإنما علق الحكم بالمساجد لبيان محل الجواز فيبقى ما عداه على المنع، وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب لأنه لو كان واجباً لانتفى صفة الاستئذان لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة أو الرد (¬3) اهـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند شرحه حديث: «اسْتَوْصُوا ¬

(¬1) ص: 207 برقم 1163، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) ص: 175 برقم 865، وصحيح مسلم ص: 187 - 188 برقم 442. (¬3) فتح الباري (2/ 347 - 348).

بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» (¬1). فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة (¬2). كما أن على الزوج مع ما سبق ذكره التنبه لهذه الأمور التالية: 1 - إيفائها مهرها الذي استحل به فرجها، قال تعالى: {وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. 2 - الإنفاق عليها بطيب قلب وسخاء نفس، قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لسعد رضي اللهُ عنه: «وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» (¬3). 3 - ترك مضارتها وعدم إهانتها بقول أو فعل، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]. 4 - إكرامها والثناء عليها فيما تقوم به من خدمة وتربية وغيرها، والتجاوز عن هفواتها، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» (¬4). ¬

(¬1) جزء من حديث في سنن الترمذي ص: 207 برقم 1163، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ومعنى قوله: (عوان عندكم) يعني: أسرى في أيديكم. (¬2) الفتاوى (32/ 263). (¬3) صحيح البخاري ص: 113 برقم 5668؛ وصحيح مسلم ص: 667 - 668 برقم 1628 واللفظ له. (¬4) سنن الترمذي ص: 601 برقم 3895، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في آداب الزفاف ص: 269.

قال الشاعر يمدح امرأة: وَلَوْ كَانَ النساءُ كَمِثْلِ هَذِي ... لَفُضِّلَتِ النِّساءُ على الرجالِ فَما التَانِيثُ لاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ ... ولا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ للهِلالِ وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (¬1). 5 - إعانتها على دينها وحثها على الخير وتعليمها ما ينفعها، فعلى سبيل المثال لا يدخل عليها شيء من آلات الطرب والأجهزة الإعلامية التي تبث الفساد وتنشر الرذيلة، وتهدم الأخلاق الفاضلة، وأن يتعاهدها بالحجاب، ويأمرها بأداء الصلاة في أوقاتها وسائر العبادات الأخرى ويعلمها الأخلاق الكريمة والآداب الإسلامية وغيرها من الأمور الشرعية، قال تعالى لنبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} [مريم]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، قال علي بن أبي طالب رضي اللهُ عنه: أدبوهم وعلموهم الخير، والحقوق والواجبات بين الزوجين كثيرة جداً، منها الواجب ومنها المستحب وما بين ذلك إلا أنه مما ينبغي التنبيه عليه في ختام هذه الكلمة أن على الزوجين أن يلتزم كل واحد منهما بالقيام ¬

(¬1) ص: 586 برقم 1469.

بما فرض اللَّه عليه من الواجبات والحقوق تجاه الآخر، فلا تطلب الزوجة مثلاً أن تُساوي الرجل في جميع حقوقه، ولا يستغل الرجل ما فضله اللَّه تعالى به عليها من السيادة والرياسة فيظلمها ويضربها بدون حق، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) [البقرة: 228]. قال شريح القاضي: رَأَيْتُ رِجالاً يضربونَ نِسَاءُهم ... فَشُلَّتْ يَمِينِي حِينَ أضْرِبُ زَيْنَبَ أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدلُ مِنِّي ضَرْبُ من لَيْسَ مُذْنباً وزينبُ شَمْسٌ والنساءُ كواكبُ ... إذا طَلَعَتْ لم يبقَ مِنْهُنَّ كَوْكبَا والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: آداب الزفاف للشيخ الألباني رحمه الله ص: 269.

الكلمة التاسعة والأربعون: أضرار المخدرات والمسكرات

الكلمة التاسعة والأربعون: أضرار المخدرات والمسكرات الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (90)} [المائدة]. في هذه الآية الكريمة يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة ويخبر أنها من عمل الشيطان وأنها رجس والخمر كل ما خامر العقل أي غطاه بسكره. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ميسرة عن عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه أنه قال لما نزل تحريم الخمر قال: اللَّهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] قال: فدُعي عمر فقُرئت عليه فقال: اللَّهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء فنزلت الآية التي في النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فكان منادي رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أقام الصلاة نادى: «أَن لَا يَقرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكرَانُ»، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللَّهم بين لنا في الخمر بياناً شفاء، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ

{فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون (91)} [المائدة] قال: فقال عمر: انتهينا، انتهينا (¬1). ولا شك أن الجميع يعرف أن الخمر وجميع المخدرات والمسكرات حرام ولكني انطلق في الكلام عن هذا الموضوع لحديث وجدته عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول فيه فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي اللهُ عنه: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ (¬2) وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» (¬3). فقوله: يستحلون تشير إلى أنه سيأتي أقوام لا يبالون بما حرم اللَّه عليهم بل يتخذونه حلالاً كحل الطيبات. ومما جاء في الوعيد الشديد لمن شرب الخمر ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ - وَجَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ - فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ؟ » قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» (¬4). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ ¬

(¬1) (1/ 443) برقم 378 وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬2) أي الزنا. (¬3) ص: 1101 برقم 5590. (¬4) ص: 831 برقم 2003.

يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» (¬1)، وروى النسائي في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ» (¬2). وشارب الخمر ملعون على لسان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ: وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ» (¬3). والخمر أم الخبائث، ومفتاح كل شر وفساد، ويلحق بالخمر جميع أنواع المخدرات من الحشيش والكوكايين، والأفيون، والهروين، وكذلك الحبوب التي دمرت كثيراً من شباب المسلمين اليوم يدسها الأعداء لإضعاف قوة المسلمين، وإبعادهم عن دينهم، مع أن هذه الحبوب حتى عند المجتمعات الكافرة ممنوعة ومتعاطيها إن استمر عليها فلا بد أن يصيبه الجنون وهذا مشاهد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الحشيشة حرام يحد متناولها كما يحد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد، وقال في موضع آخر: هذه الحشيشة الملعونة هي ¬

(¬1) ص: 54 برقم 57 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 467 برقم 2475. (¬2) (10/ 265) برقم 6113 وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) ص: 406 برقم 3674.

وآكلوها ومستحلوها موجبة لسخط اللَّه وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرضة صاحبها لعقوبة اللَّه، تشمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه تفسد الأمزجة حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك، ما لا تورث الخمر ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر فهي بالتحريم أولى، وقد أجمع المسلمون على أن المسكر منها حرام، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتل مرتداً لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وأن القليل منها حرام أيضاً بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر» (¬1) اهـ. قال الشاعر: قُلْ لِمَنْ يَاكُلُ الحَشِيشَةَ جَهْلاً ... عِشْتَ فِي أَكْلِهَا بِأَقْبَحِ عِيشَةٍ قِيمَةُ المَرْءِ جَوْهَرٌ فَلِمَاذَا ... يَا أَخَا الجهلِ بِعْتَهُ بِحشيشةٍ وقال قيس بن عاصم المنقري: رَأَيْتُ الخَمْرَ صَالِحَةً وفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الحَلِيمَا فَلاَ واللَّهِ أَشْرَبُها صَحِيحًا ... وَلَا أَسْقِي بِهَا أَبداً سَقِيمًا ولا أُعْطِي بِهَا ثَمنًا حَيَاتِي ... ولَا أدْعُو لَهَا أبدًا نَدِيمًا فإنَّ الخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيها ... وتَجْنِيهِم بِهَا الأَمْرَ العَظِيمَا أما الأضرار والمآسي والقصص المحزنة التي حدثت بسبب المخدرات والمسكرات فهي معروفة لدى الجميع، بل إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ¬

(¬1) الفتاوى (34/ 213) بتصرف.

حرم التداوي بالخمر وما شابهها من المخدرات والمسكرات لأن اللَّه تعالى لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا. روى مسلم في صحيحه من حديث طارق بن سويد: سَأَلَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الْخَمْرِ؟ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» (¬1). قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً وهو يحتضر، فجعل يلقن الشهادتين، فيأبى ويقول: هو كافر بها، قال: فسالت عنه فإذا هو مدمن خمر. وأختم بالتذكير بعظم الأمانة والمسؤولية الملقاة على الآباء والمسؤولين فإن هذه الفتنة قد كثرت وانتشرت حتى في بلاد المسلمين واضطرت الحكومات والدول أن تنشئ لها المصحات والمستشفيات. وقد تبين أن من أعظم أسباب الوقوع فيها إهمال أولياء الأمور من الآباء والأمهات مراقبة الأولاد وضعف التربية وترك المجال لهم لمصاحبة رفقاء السوء، ودعاة الرذيلة، فليُحذر من ذلك وليؤخذ بأسباب النجاة. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 823 برقم 1984.

الكلمة الخمسون: دروس وعبر من قصة استشهاد الخليفة عمر

الكلمة الخمسون: دروس وعبر من قصة استشهاد الخليفة عمر الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، وهو يقول: لئن سلمني اللَّه، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد اللَّه بن عباس غداة أُصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب. حين طعنه فطار العِلْج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرنُساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان اللَّه سبحان اللَّه، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس، انظر من

قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله اللَّه، لقد أمرت به معروفاً، الحمد للَّه الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقاً فقال: إن شئت فعلتُ، أي: إن شئت قتلنا قال: كذبت بعدما تكلّموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجّوا حجّكم. فاحتُمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أُتي بلبن فشربه، فخرج من جُرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببُشرى اللَّه لك، من صُحبة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي، فلمّا أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك، فإنّه أبقى لثوبك، وأتقى لربّك، يا عبد اللَّه بن عمر، انظر ما عليّ من الدين، فحسبوه فوجدوه ستّة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال. انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإنّي لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلّم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها

قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يُدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأُوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد اللَّه بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، قال الحمد للَّه، ما كان من شيء أهمَّ إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فادخلوني، وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين (¬1). أولاً: رحمته رضي اللهُ عنه بالأمة وشفقته عليها القريب منهم والبعيد وها هو رضي اللهُ عنه يريد أن يرتب أموراً يستغني بها الضعفاء كالنساء اللاتي لا يستطعن إيصال حوائجهن إليه، ويُكفون بها عن الاحتياج إلى غيره. ثانياً: حرص عمر أن يكون قاتله على غير الإسلام، وهذا من رحمته خوفاً أن يقتله مسلم فيهلك، فلما كان قاتله غير مسلم فرح بذلك وحمد اللَّه. روى البخاري في صحيحه أن عمر كان يقول: «اللَّهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك» (¬2). وجاء في رواية أخرى أن كعب الأحبار قال: يا أمير المؤمنين إني أراك تقتل في التوراة شهيداً في جزيرة العرب فقال له: «يا كعب وأنى لي الشهادة في جزيرة العرب» (¬3). ¬

(¬1) ص: 707 برقم 3700. (¬2) ص: 359 برقم 1890. (¬3) ذكره ابن الجوزي في مناقب عمر ص: 212.

ثالثاً: فضل عمر وكرامته على اللَّه حيث استجاب اللَّه دعاءه ورزقه الشهادة في المدينة مع أنه لا يخطر على البال أن يكون شهيداً لأنها دار الإسلام وليست بدار حرب. رابعاً: شده ورعه وخوفه من اللَّه فمع ثناء الناس عليه وعلمه بما قدم في الإسلام إلا أنه لم يغتر بذلك وتمنى أن ذلك كفافاً لا له ولا عليه بل إنه قال: لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب اللَّه قبل أن أراه (¬1). خامساً: حرصه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمع أنه في سكرات الموت إلا أن ذلك لم يثنه عن النصيحة فإنه لما دخل عليه الشاب المسبل إزاره وأثنى عليه قال له: يا ابن أخي ارفع إزارك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك. سادساً: زهد عمر وعزوفه عن الدنيا، فمع أنه أمير المؤمنين إلا أنه فارق الحياة وهو مثقل بالدين يوصي بقضائه. سابعاً: تواضع عمر فعندما أرسل ابنه عبد اللَّه إلى عائشة لم يقل: أمير المؤمنين وإنما قال: يقرأ عليك عمر السلام. ثامناً: اهتمامه بالصلاة وإتقانها فمع أنه في سكرات الموت إلا أنه قدم عبد الرحمن بن عوف ليتم الصلاة بالمسلمين. تاسعاً: اهتمامه بتسوية الصفوف في الصلاة، وهذه سنة ينبغي على أئمة المساجد أن يحرصوا عليها. ¬

(¬1) صحيح البخاري: ص: 705 برقم 3692.

عاشراً: حرصه على تطبيق السنة في إطالة القراءة في صلاة الفجر فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقرأ في الفجر بطوال المفصل. الحادي عشر: حرصه على قضاء دينه ووصيته بذلك فإن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما في صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 785 برقم 1886.

الكلمة الواحدة والخمسون: القتل

الكلمة الواحدة والخمسون: القتل الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فإن من أعظم الذنوب عند اللَّه وأشدها جرماً في الدنيا والآخرة بعد الشرك باللَّه القتل. قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} [الفرقان]. وقد جعل سبحانه جزاء قتل النفس المؤمنة عمداً الخلود في النار وغضب الجبار، ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء]. روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ»، أَوْ قَالَ: «وَشَهَادَةُ الزُّورِ» (¬1). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن حال المؤمن بخير ما لم يصب دماً حراماً، ¬

(¬1) ص: 1310 برقم 6871، ومسلم ص: 63 برقم 88 بدون قوله: «أكبر الكبائر».

فروى البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» (¬1). والدماء هي أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة؛ روى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» (¬2). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ: - وَذَكَرَ مِنهَا -: وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» (¬4). والمعاهد من له عهد مع المسلمين سواء أكان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان مسلم. قال ابن القيم: هذه عقوبة قاتل عدو اللَّه إذا كان معاهداً في عهد وأمان فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن، وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً وعطشاً فرآها النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها، فكيف عقوبة من حبس مؤمناً حتى مات بغير جرم؟ ! وفي سنن النسائي من حديث عبد اللَّه ¬

(¬1) ص: 1309 برقم 6862. (¬2) ص: 1309 برقم 6864 وصحيح مسلم ص: 695 برقم 1678. (¬3) ص: 1308 برقم 6857 وصحيح مسلم ص: 63 برقم 89. (¬4) ص: 1318 برقم 6914.

ابن عمرو رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» (¬1) (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللهُ عنهما أنه قال: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ» (¬3). وقد كثرت حوادث القتل في وقتنا المعاصر وللأسف، وقد حذر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمته من ذلك غاية التحذير؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» (¬4). وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» (¬5). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن القتل من علامات الساعة؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ (¬6). ¬

(¬1) ص: 421 برقم 3987، صحّحه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 839) برقم 3722. (¬2) الجواب الكافي ص: 104. (¬3) ص: 1309 برقم 6863. (¬4) ص: 30 برقم 32، وصحيح مسلم ص: 1157 برقم 2888. (¬5) قطعة من حديث ص: 331 برقم 1739، وصحيح مسلم ص: 695 برقم 1679. (¬6) ص: 83 برقم 85، وصحيح مسلم ص: 1071 برقم 2672.

ولعل من أسباب القتل الذي كثر كما تقدم: المشاجرة والخصام التي تحدث بين الطرفين، وتؤدي في النهاية إلى القتل، والشيطان يؤجج ذلك، قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53)} [الإسراء]. وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (¬2). ومنها الرغبة في الحصول على المال بأي طريقة كانت، فكم من حوادث قتل واختطاف واقتحام لبيوت المسلمين كل ذلك من أجل المال. روى الترمذي في سننه من حديث عياض بن حمار أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» (¬3). ومنها استعمال الخمور والمخدرات فكم من أعراض قد انتهكت، وكم من دماء قد سفكت، وكم من أرحام قد قطعت بسببها، ¬

(¬1) ص: 1131 برقم 2812. (¬2) ص: 57 برقم 64، وصحيح مسلم ص: 57 برقم 64. (¬3) ص: 385 برقم 2336.

وصدق اللَّه إذ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (90)} [المائدة]. ومنها قلة الخوف من اللَّه، فإن تقوى اللَّه تبعث على فعل الطاعات وترك المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة، فكيف بالقتل؟ ! وهو من أعظم الذنوب عند اللَّه، قال تعالى: {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم (15)} [الأنعام]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» وذكر منها: «وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» (¬1). ومنها اعتناق الأفكار الضالة التي تسوغ له الإقدام على قتل أخيه المسلم واستحلال دمه، قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21]. والأسباب كثيرة لمن أراد التتبع والتقصي في ذلك. وليعلم المؤمن أن القتل من أعظم الظلم عند اللَّه، ولن يفلت القاتل من عقوبة اللَّه تعالى إما في الدنيا وإما في الآخرة، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء]. قال ابن كثير: أي إن الولي منصور على القاتل شرعاً، وغالباً قدراً (¬2). اهـ. ¬

(¬1) ص: 1308 برقم 6875، وصحيح مسلم ص: 63 برقم 89. (¬2) تفسير ابن كثير (9/ 8).

روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَاسُهُ بِيَدِهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ؛ هَذَا قَتَلَنِي حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 482 برقم 3029، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 40) برقم 2425.

الكلمة الثانية والخمسون: شرح اسم الله الرزاق

الكلمة الثانية والخمسون: شرح اسم الله الرزاق الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: روى الإمامان البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في القرآن الكريم: الرَّزاق، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين (58)} [الذاريات]. وقال تعالى: {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِين (114)} [المائدة]. قال الخطابي: الرزاق هو المتكفل بالرزق والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها وسع الخلق كلهم رزقه ورحمته، فلم يختص بذلك مؤمناً دون كافر، ولا ولياً دون عدوٍ يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيل له ولا مُكتسب فيه كما يسوق إلى الجلد القوي ذي المرة السوي، قال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60] (¬2). وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ ¬

(¬1) ص: 526 برقم 2736. (¬2) شأن الدعاء ص: 54.

عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: ورزقه لعباده نوعان: الأول: رزق عام شمل البر والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان. ثانياً: رزق خاص: وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم منه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته (¬1). وهذا أعظم رزق يمن اللَّه به على العبد، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق]. قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنهما: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ ... » الحديث (¬2). فإذا رزق اللَّه العبد العلم النافع والإيمان الصحيح والرزق الحلال والقناعة بما أعطاه اللَّه منه فقد تمت أموره واستقامت أحواله الدينية والبدنية، وهذا النوع من الرزق هو الذي مدحته النصوص النبوية (¬3). اهـ. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (5/ 302). (¬2) البخاري في الأدب المفرد ص: 275، وقال الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد 209: صحيح موقوف في حكم المرفوع. (¬3) المجموعة الكاملة للشيخ السعدي (3/ 388).

ولذلك روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو ابن العاص رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (¬1). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: أن المتفرد بالرزق هو اللَّه وحده لا شريك له كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون (3)} [فاطر]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21]. أي أمن هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك ربكم رزقه الذي يرزقكم. وفي الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول في دبر كل صلاة إذا سلم: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» (¬2). ثانياً: أنه ينبغي للعبد أن يعلق رجاءه باللَّه وحده وأن اللَّه إذا قدر له سبباً من أسباب الرزق أن يحمده على ذلك ويسأله أن يبارك له فيه، فإذا انقطع أو تعذر ذلك السبب فلا يتشوش قلبه فإن هذا السبب لا يتوقف رزق العبد عليه بل يفتح له سبباً غيره وأحسن منه ¬

(¬1) ص: 404 برقم 1054. (¬2) ص: 1218 برقم 6330، وصحيح مسلم ص: 236 برقم 593.

وأنفع، وربما فتح له عدة أسباب، فعليه في أحواله كلها أن يجعل فضل ربه، والطمع في بره نصب عينيه وقبله قلبه ويكثر من الدعاء المقرون بالرجاء، قال تعالى: {إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب (37)} [آل عمران] (¬1). وعليه أن يفرغ خاطره لِلهَمِّ بما أُمر به ولا يشغله بما ضُمن له فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا تأمل العاقل اللبيب حال الناس في هذا الزمان تراهم يهتمون بما ضمنه اللَّه لهم ولا يهتمون بما أمرهم به، ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدرهم والدينار» (¬3). اهـ. قال الشافعي رحمه الله: تَوكلْتُ فِي رِزْقِي عَلى اللَّهِ خَالِقي ... وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللَّهَ لا شكَّ رَازِقِي وما يَكُ مِنْ رِزْقِي فَلَيْسَ يَفُوتُنِي ... ولَوْ كَانَ فِي قَاعِ البِحَارِ الغَوَامِقِ فَفِي أيِّ شيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حسرةً ... وقَدْ قَسَّم الرَّحْمَنُ رِزْقَ الخلائقِ وقال آخر: ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن ص: 151. (¬2) فوائد الفوائد ص: 82. (¬3) الفوائد ص: 228.

فَلَو كانتِ الدُّنيا تُنالُ بفطنةٍ ... وفَضْلٍ وعقلٍ نِلْتُ أَعْلَى المراتبِ ولَكِنَّمَا الأرْزَاقُ حظٌّ وقِسْمَةٌ ... بِفَضْلِ مَلِيكٍ لا بِحِيلَةِ طالبِ ثالثاً: أن اللَّه سبحانه متحكم في أرزاق عبادة فيجعل من يشاء غنياً كثير الرزق، ويقتر على آخرين وله في ذلك حكم بالغة، قال تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} [النحل: 71]، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)} [الإسراء]. قال ابن كثير: «أي: خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر، وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً والفقر عقوبة عياذاً باللَّه من هذا وهذا» (¬1). اهـ. وإن من العباد من لا يصلح حاله إلا بالغنى فإن أصابه الفقر فسد حاله ومنهم العكس. رابعاً: كثرة الرزق في الدنيا لا تدل على محبة اللَّه تعالى ولكن الكفار بجهلهم ظنوا ذلك، قال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين (35)} [سبأ]. فظن هؤلاء الكفار أن كثرة الأموال والأولاد دليل على محبة اللَّه لهم فرد اللَّه ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. خامساً: أن أسباب الرزق إنما تنال بطاعة اللَّه، فبعض الناس يتعامل بالربا أو بأكل أموال الناس بالباطل، أو الغش أو التحايل ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (8/ 479).

أو يتعامل بطرق محرمة أو مشبوهة، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]. روى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفسًا لَن تَمُوتَ حَتَّى تَستَكمِلَ أَجَلَهَا وَتَستَوعِبَ رِزقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحمِلَنَّكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَن يَطلُبَهُ بِمَعصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِندَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» (¬1). سادساً: أن من أعظم أسباب الرزق التوكل على اللَّه روى الترمذي في سننه عن عمر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (¬2). قال ابن رجب: «فقد دل هذا الحديث على أن الناس إنما يُؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فكذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم فلو حققوا التوكل على اللَّه بقلوبهم لساق اللَّه إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها» (¬3) بمجرد الغدو والرواح وهو نوع ¬

(¬1) حليه الأولياء (10/ 27)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 420) برقم 2085. (¬2) سنن الترمذي ص: 386 برقم 2343، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 1111) برقم 6516. (¬3) جامع العلوم والحكم (2/ 502).

من الطلب ولكنه سعي يسير (¬1). اهـ. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: الأسماء الحسنى والصفات العلى، لأخينا الشيخ عبد الهادي بن حسن وهبي، ص: 52 - 60.

الكلمة الثالثة والخمسون: ما ينتفع به الميت

الكلمة الثالثة والخمسون: ما ينتفع به الميت الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين (12)} [يس]. قال سعيد بن جبير: «ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم فإن كانت خيراً فلهم مثل أجورهم لا ينقص من أجر من عمل به شيئاً» (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬2). فتبين من الآية الكريمة والحديث الشريف أن الميت ينتفع من عمل غيره بأمور. أولاً: دعاء المسلم له لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (10)} [الحشر]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 348). (¬2) ص: 670 برقم 1631.

روى مسلم في صحيحه من حديث صفوان بن عبد اللَّه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَاسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ» (¬1). وهذا يشمل دعاء المسلم لأخيه الغائب حياً أو ميتاً. ثانياً: قضاء ولي الميت الصوم عنه وفيه أحاديث: منها ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتِ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا فَنَجَّاهَا اللَّهُ فَلَمْ تَصُمْ حَتَّى مَاتَتْ فَجَاءَتِ ابْنَتُهَا أَوْ أُخْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَأَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا» (¬3). فهذه الأحاديث صريحة الدلالة في مشروعية صيام الولي عن الميت صوم النذر وقد اتفق العلماء على ذلك واختلفوا فيما سواه. ثالثاً: قضاء الدين عنه من أي شخص وليًّا كان أو غيره. روى الحاكم في المستدرك من حديث جابر بن عبد اللَّه قال: مات رجل فغسلناه وكفنّاه وحنطناه، ووضعناه لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيث ¬

(¬1) ص: 1094 برقم 2733. (¬2) ص: 370 برقم 1952، وصحيح مسلم ص: 442 برقم 1147. (¬3) ص: 372 برقم 3308، صحّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 635) برقم 2829.

توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصلاة عليه فجاء معنا خطى ثم قال: «لَعَلَّ عَلَى صَاحِبِكُم دَينًا» قالوا: نعم ديناران، فتخلف وقال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم»، فقال له رجل منا يقال له: أبو قتادة: يا رسول اللَّه هما عليّ، فجعل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «هُمَا عَلَيكَ وَفِي مَالِكَ وَالمَيتُ مِنهُمَا بَرِيءٌ» فقال: نعم، فصلى عليه فجعل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا لقي أبو قتادة يقول: «مَا صَنَعَتِ الدِّينَارَانِ؟ » حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول اللَّه، فقال: «الآنَ حِينَ بَرَّدتَ عَلَيهِ جِلدَهُ» (¬1) أي بسبب رفع العذاب عنه بعد وفاته. فأفاد هذا الحديث أن الميت ينتفع بقضاء الدين عنه ولو كان من غير ولده، وأن القضاء يرفع العذاب عنه فهي من جملة المخصصات لعموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39)} [النجم] (¬2). رابعاً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء، لأن الولد من سعيهما وكسبهما واللَّه عزَّ وجلَّ يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39)} [النجم]. روى أحمد في مسنده من حديث عائشة أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» (¬3). ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (2/ 370) برقم 2393، ومسند الإمام أحمد (22/ 406). وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) أحكام الجنائز للألباني ص: 28. (¬3) (40/ 34) برقم 24032 وقال محققوه: حديث حسن لغيره.

قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: ويؤيد ما دلت عليه الآية والحديث أحاديث خاصة وردت في انتفاع الميت بعمل ولده الصالح: كالصدقة والصيام والعتق والحج ونحوه (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» (¬2). وفي رواية: فَلِي أَجْرٌ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» (¬3). خامساً: ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية لقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]. ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ... » (¬4). ولقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» (¬5). ¬

(¬1) أحكام الجنائز ص: 217. (¬2) ص: 270 برقم 1388، وصحيح مسلم ص: 388 برقم 1004. (¬3) صحيح مسلم ص: 669 برقم 1400. (¬4) صحيح مسلم ص: 670 برقم 1631. (¬5) ص: 41 برقم 242، وصححه الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (6/ 28)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 128): إسناده صحيح.

روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد اللَّه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 393 برقم 1017. (¬2) انظر أحكام الجنائز للألباني رحمه الله ص: 213 - 226.

الكلمة الرابعة والخمسون: قضاء الدين

الكلمة الرابعة والخمسون: قضاء الدَّين الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: روى الحاكم في المستدرك من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصلاة عليه فجاء معنا خطى ثم قال: «لَعَلَّ عَلَى صَاحِبِكُم دَينًا» قالوا: نعم ديناران، فتخلف فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول اللَّه هما عليّ، فجعل رسول اللَّه يقول: «هُمَا عَلَيكَ وَفِي مَالِكَ وَالمَيتُ مِنهُمَا بَرِيءٌ» فقال: نعم فصلى عليه فجعل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا لقي أبا قتادة يقول: «مَا صَنَعَتِ الدِّينَارَانِ؟ » حتى كان آخر ذلك قال: قد قضيتهما يا رسول اللَّه، قال: «الآنَ حِينَ بَرَّدتَ عَلَيهِ جِلدَهُ» (¬1). هذا الحديث وغيره من الأحاديث تدل على عظم شأن الدين وأنه لا يتساهل فيه وأنه خطير جداً فمع أن الدين كما في الحديث السابق لا يتجاوز درهمين إلا أن الميت لحقه كرب وشدة في قبره حتى قُضي دينه. ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (2/ 370) برقم 2393، ومسند الإمام أحمد (22/ 406). وقال محققوه: إسناده حسن.

وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمتنع عن الصلاة على الميت المدين في بداية الإسلام لعظم شأن الدين، فلما فتح اللَّه عليه الفتوح وكثرت الأموال صلى على من مات مديوناً وقضى عنه دينه. والمؤمن نفسه معلقه بدينه حتى يُقضى عنه. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» (¬1). قال الشوكاني: فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يُقضى عنه وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازماً على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن اللَّه يقضي عنه (¬2). والمؤمن قد يحبس عن الجنة بدينه: روى أبو داود في سننه من حديث سمرة قال: خطبنا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ». فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ: «هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ». فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ قَالَ: «هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِى فُلاَنٍ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي فِى الْمَرَّتَيْنِ الأُولَيَيْنِ أَمَا إِنِّي لَمْ أُنَوِّهْ بِكُمْ إِلاَّ خَيْرًا إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَاسُورٌ بِدَيْنِهِ». فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَدَّى عَنْهُ حَتَّى مَا بَقِىَ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ بِشَيْءٍ (¬3). وفي رواية: «إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي ¬

(¬1) ص: 191 برقم 1078، 1079، وقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 6779. (¬2) نيل الأوطار (2/ 53). (¬3) ص: 375 برقم 3341، وصححه الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز ص: 26.

مَاتَ فِيكُمْ قَدِ احْتَبَسَ عَنِ الْجَنَّةِ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ» (¬1). والشهيد تكفر عنه ذنوبه كلها إلا الدين. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمد بن عبد اللَّه بن جحش: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا لِي إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ»، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: «إِلَّا الدَّيْنَ سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا» (¬3)، لأن دين الآدمي لابد من إيفائه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وحقوق العباد لا تسقط إلا بتنازلهم. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والدَّين خطير جداً وهو هم بالليل وذل بالنهار فالإنسان مهما أمكنه يجب أن يتحرز من الدين وأن لا يسرف في الإنفاق، لأن كثيراً من الناس تجده فقيراً ثم يريد أن ينفق نفقة الأغنياء فيقترض من هذا ويقترض من هذا، ولو لم يكن لك إلا وجبة واحدة بالليل والنهار فلا تقترض واصبر وقل: اللَّهم أغنني، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28] (¬4). ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (2/ 323) برقم 2261، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. قلت: ويشهد له ما قبله. (¬2) ص: 785 برقم 1886. (¬3) (28/ 491 - 492) برقم 17253. وقال محققوه: حديث صحيح لغيره. (¬4) شرح رياض الصالحين (5/ 366).

ومن الأمثلة على التساهل بالدَّين أن بعض الناس يقترض عشرات الآلاف من الريالات وليته لأمر ضروري إما للتجارة أو للتعامل بالأسهم، ثم يخسر هذا المسكين، وقد يدخل السجن من أجل هذا وتتراكم هذه الديون الضخمة على رقبته، فيعيش مهموماً حزيناً طول عمره وذمته مشغولة بهذا الدين، وما حوادث الأسهم الماضية عنا ببعيد فقد حصل فيها من المآسي ما يندى له الجبين ويتفطر منه القلب، كل ذلك بسبب ضعف الدين، وقلة المبالاة، لأن الدين لا تكفره حتى الشهادة في سبيل اللَّه. وينبغي للدائن عند إقراضه للآخرين أن يراعي الأمور التالية: 1 - أن يُقرض من طيب ماله لا من رديئه، قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ} [البقرة: 267]. 2 - أن يحتسب الأجر بهذا الدين وألا يمن به فإن المن سبب لإحباط أجره، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: 264]، فإن أجر الدين كالصدقة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ السَّلَفَ يَجْرِي مَجْرَى شَطْرِ الصَّدَقَةِ» (¬1). 3 - أن يُنظر المدين ويخفف عنه الدين إذا رأى منه العسر والرغبة في السداد، قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. ¬

(¬1) (7/ 26) برقم 3911، وقال محققوه: إسناده حسن.

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» (¬1). 4 - أن يقيد هذا الدين بالكتابة ويشهد عليه حتى لا يحصل الخلاف، قال تعالى: {وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282]. أما المدين فإن عليه أن يراعي الأمور التالية: 1 - أن ينوي السداد عند أخذه الدين. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ اَلنَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اَللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اَللَّهُ» (¬2). 2 - أن يسارع في قضاء الدين ويحذر المماطلة وأن يحسن القضاء، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي رافع: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ (¬4) فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا ¬

(¬1) ص: 392 برقم 2078، وصحيح مسلم ص: 639 برقم 1562. (¬2) ص: 447 برقم 2387. (¬3) ص: 427 برقم 2288، وصحيح مسلم ص: 639 برقم 1564. (¬4) البكر هو الفتي من الإبل.

إِلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًّا فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» (¬1). قال الشاعر، وهو يتوعد دائنه بالمماطلة وعدم السداد: أُمَاطِلُكَ العَصْرَيْنِ حَتْىَ تَمَلَّنِي ... وَتَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ والأَنْفُ رَاغِمُ 3 - أن يتعوذ باللَّه من الدين، روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ (¬3) دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ ! قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» (¬4). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 653 برقم 2288، وصحيح مسلم ص: 639 برقم 1564. (¬2) ص: 556 برقم 2893. (¬3) معجم البلدان (5/ 214). قال ياقوت الحموي: صِيْرٌ بكسر أوله وسكون ثانيه وآخره راء، جبل بأجإ في ديار طيء فيه كهوف شبه البيوت، والصير جبل على الساحل بين سيراف وعُمان. (¬4) ص: 559 - 560 برقم 3563 وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 512) برقم 2625.

الكلمة الخامسة والخمسون: الإعراض عن الدين

الكلمة الخامسة والخمسون: الإعراض عن الدين الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57]. قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية: لا أظلم أي لا أحد أكثر ظلماً لنفسه ممن ذكر أي: وعظ بآيات ربه وهي هذا القرآن العظيم فاعرض عنها أي: تولى وصد عنها ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والكفر؛ فالإعراض عن التذكرة بآيات اللَّه من أعظم الظلم، وله نتائج سيئة، وعواقب وخيمة. فمن ذلك الأكنة على القلوب حتى لا تفقهه الحق وعدم الاهتداء أبداً كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} [الكهف]. ومنها انتقام اللَّه عزَّ وجلَّ من المعرض عن التذكرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة]. ومنها كون المُعْرِض كالحمار كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ

مُعْرِضِين (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَة (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة (51)} [المدثر]. أي: كأنهم الحمر الوحشية التي تفر من أسد يريد صيدها. ومنها الأنذار عن الصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود (13)} [فصلت]. ومنها المعيشة الضنك والعمى، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه]. ومنها إدخاله العذاب الشديد، قال تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} [الجن]. ومنها تقييض القرناء من الشياطين، قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين (36)} [الزخرف]. إلى غير من النتائج السيئة والعواقب الوخيمة الناشئة للإعراض عن التذكير بآيات اللَّه (¬1). اهـ. وهذا الإعراض الذي ذمه اللَّه هو إعراض الكفار والمنافقين عن سماع القرآن والسنة. وذكر أهل العلم أن من نواقص الإسلام العشرة التي تخرج العبد من دائرة الإسلام: الإعراض عن دين اللَّه لا يتعلمه ولا يعمل به، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة]. والمراد بالإعراض هو الإعراض عن تعلم ¬

(¬1) أضواء البيان (4/ 181 - 183)، بتصرف.

أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً. قال ابن القيم رحمه الله: وأما الكفر فخمسة أنواع فذكرها ثم قال: وأما كفر الإعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة (¬1). اهـ. وأما الأقسام الأخرى التي سأذكرها فإنها لا تصل إلى درجة الكفر ولكنه يخشى على صاحبها العقوبة والمشابهة للكفار والمنافقين في الإعراض عن سماع الذكر. القسم الأول: إعراض بعض الناس عن سماع الكلمات أو المحاضرات أو الخطب أو غيرها بزعم أنه لا تقوم عليه الحجة إذا لم يسمع، وهذا وقع في أمر أعظم من الذي فر منه، وهذا جهل مركب فالإعراض أخطر من الاستماع والتساهل في العمل، روى البخاري ومسلم من حديث أبي واقد الحارث بن عوف أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينما هو جالس في المسجد والناس معه: إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَأَوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ» (¬2). ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 366 - 367). (¬2) ص: 38 برقم 64، وصحيح مسلم ص: 897 برقم 2176.

القسم الثاني: الإعراض عن الذكر بسبب الاستغناء بما عنده، وفي الحقيقة أن هذا المسكين ليس عنده شيء من العلم وهذا من الغرور، وعلماء السلف رحمهم اللَّه مع ما تلقوا من العلم الغزير إلا أن الواحد منهم كان إلى آخر لحظة من حياته يتمنى أن يسمع حديثاً يلقى اللَّه تعالى وقد علمه وعمل به. القسم الثالث: الإعراض لعدم معرفة أهمية ما يُلقى إليه مع أن العلم الشرعي هو غذاء القلوب، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب: روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر قال: خَرَجَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوِ الْعَقِيقِ (¬1) فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (¬2) فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعَلَمَ، أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِثْلِ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ» (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ ¬

(¬1) بطحان والعقيق: واديان قرب المدينة. (¬2) ناقةٌ كوماء: أي عظيمة السنام، وهي من أفضلِ أموال العرب. (¬3) ص: 314 برقم 803.

لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يَرِثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (36/ 46) برقم 21714، وقال محققوه: حسن لغيره.

الكلمة السادسة والخمسون: شرح حديث أسرعوا بالجنازة

الكلمة السادسة والخمسون: شرح حديث أسرعوا بالجنازة الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» (¬1). فحث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحديث على الإسراع بالجنازة في تجهيزها وتشييعها ودفنها وذلك أن الميت إما أن يكون صالحاً، وإما أن يكون سوى ذلك، فإن كان صالحاً فإن حبسه حيلولة بينه وبين ما أعد اللَّه له من النعيم في قبره لأنه ينتقل من هذه الدنيا إلى دار خير منها وأفضل لأنه حين احتضاره ومنازعته للموت يبشر فيقال لروحه: «أَبشِرِي بِرَوحٍ وَرَيحَانٍ وَرَبٍّ غَيرِ غَضبَانَ»، قال تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِين (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيم (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِين (90) فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِين (91)} [الواقعة]. وإما إن كانت الجنازة غير صالحة فإنه ينبغي الإسراع بها كذلك لأنها شر يضعه المسلمون عن رقابهم وهي كذلك تبشر عند الاحتضار بغضب اللَّه وسخطه فُيعجل ¬

(¬1) ص: 256 برقم 1315، وصحيح مسلم ص: 366 برقم 944.

بها إلى العذاب، وفي الحديث: «أَيَّتُهَا النَّفسُ الخَبِيثَةُ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ اخرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ» (¬1) (¬2). ومن فوائد الحديث: أولاً: الإسراع بالجنازة وألا تؤخر وما يفعله بعض الناس من نقل الجنازة إلى أماكن بعيدة، أو تأخير الدفن لأيام، هذا كله خلاف السنة وجناية على الميت؛ أما إذا كان التأخير يسيراً لاجتماع الناس للصلاة عليه أو غير ذلك من المصالح فلا بأس. ثانياً: إن الرجل الصالح ينتقل إلى دارٍ أفضل من داره وأهلٍ خيرٍ من أهله: روى البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة بن ربعي الأنصاري أنه كان يحدث: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ ! يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين (4/ 547). (¬2) (14/ 377 - 378) برقم 8769. وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) ص: 1248 برقم 6512، وصحيح مسلم ص: 368 برقم 950.

وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ» (¬1). ثالثاً: إن العبد الفاجر ينتقل من شهوات الدنيا ولذاتها إلى العذاب والجحيم فيضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويُفتح له بابٌ إلى النار كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة ولذلك يقول: يا ويلها أين يذهبون بها. رابعاً: إن من رحمة اللَّه بالعباد إخفاء العذاب عن الميت ولو سمعه الإنسان لصعق وما يهنأ بطعام ولا شراب ولا نكاح. ولذلك النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ» (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 256 برقم 1316. (¬2) ص: 1150 برقم 2867.

الكلمة السابعة والخمسون: المفهوم الخاطئ للدين

الكلمة السابعة والخمسون: المفهوم الخاطئ للدِّين الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الدين الإسلامي دين عام وشامل يشمل جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها من أمور الدنيا وأمور الآخرة وهذا المفهوم لا يأخذ به ولا يمتثل له إلا المؤمنون الذين خاطبهم اللَّه تعالى بذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين (208)} [البقرة]. قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك» (¬1). اهـ. ولهذا فإن أهل الكتابين اليهود والنصارى لما أخذوا بكتابهم ودينهم وشرعهم في بعض الجوانب ولم يأخذوا بذلك في جميع نواحي الحياة لم يكونوا مؤمنين وسماهم اللَّه كفاراً وحكم عليهم بذلك فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 273).

الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (85)} [البقرة]. ولنضرب أمثلة ثلاثة توضح لنا المفهوم الصحيح للدين الإسلامي والأخذ به ومن يستحق أن ينتسب ويؤجر عليه ومن لا يستحق. المثال الأول: كفار قريش الذين بُعث فيهم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمر بقتالهم وخاطبهم بقوله: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ... » (¬1) كانوا يراهنون على أن ما عندهم من الدين هو الحق ويكفي لقربهم من ربهم فقد كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وأن اللَّه هو الخالق الرزاق قال تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون (87)} [الزخرف]. وكانوا يستغفرون، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون (33)} [الأنفال: 33]. وكانوا يصلون، قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: الحُمْس هم الذين أنزل اللَّه فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 119] قالت: كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحُمس (¬2) يفيضون من مزدلفة ويقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ¬

(¬1) قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (11/ 610 - 611) برقم 7036، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) نعت قريش وكنانه وجذيلة ومن تابعهم في الجاهلية.

النَّاسُ} [البقرة: 119]، رجعوا (¬1) إلى عرفات. وكانوا يقيمون الحج للناس يفعلون كل ذلك للَّه بل إن الورع بلغ بهم أن يطوفوا بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا اللَّه فيها حتى إن تلبيتهم كانت لبيك اللَّهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ثم يزيدون إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. روى البخاري ومسلم من حديث عروة قال: كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلا الحُمس، (والحمس قريش وما ولدت)، وكانت الحُمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها، فمن لم يعطه الحُمس طاف بالبيت عرياناً (¬2)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمر أن لا يطوف بالبيت عريان» (¬3). حتى دعائهم كانوا يخلصون للَّه أحياناً فيه، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون (65)} [العنكبوت: 65]. فهل نفعهم ذلك؟ أو عصم دمائهم وأموالهم، كلا. لأنهم إن أخلصوا للَّه أحياناً، أشركوا به أحياناً، وإن أطاعوا أحياناً عصوه أخرى، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُون (106)} [يوسف]. قال عمر رضي اللهُ عنه: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية؛ فإذا كان الإنسان يجهل أمور الجاهلية ¬

(¬1) ص: 486 برقم 1219، وصحيح البخاري ص: 855 برقم 4520. (¬2) ص: 320 رقم 1665، وصحيح مسلم ص: 486 برقم 1219. (¬3) ص: 533 برقم 1347.

فإنه حري أن يقع فيها لأن الشيطان ما نسيها ولا نام عنها بل يدعو إليها، قال الشاعر: عَرَفَتُ الشَّرَّ لاَ للشرِّ ولَكِنْ لِتَوقِّيهِ وَمَنْ لاَ يَعْرِفُ الشَّرَّ مِنَ الخَيرِ يَقَعُ فِيهِ وقال آخر: الضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشياءُ المثال الثاني: إبليس لعنه اللَّه فقد كان يقر بثلاث كلها من أصول عقيدة أهل الإسلام: الإقرار بالرب، والإيمان بالبعث، ودعاء اللَّه من غير واسطة وذلك بقوله سبحانه عنه: {قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (14)} [الأعراف]. فهل نفعه ذلك. الجواب معلوم لأن الإسلام هو الاستسلام للَّه بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. ليس الإسلام هوى متبعاً، أو رأياً ضعيفاً بل هو طريق مستقيم لا اعوجاج فيه فالدين الذي يقبله اللَّه والإيمان الذي ينفع صاحبه، هو الذي لا يخالطه شرك ولا يناقضه كفر وأن يستمر عليه صاحبه حتى يلقى اللَّه، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ولم يقل: كما أردت ثم أمر بالوقوف عند حدوده ورسومه. فقال: {وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (112)} [هود]. المثال الثالث: طائفة من الناس يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه يصلون ويصومون ويزكون ويحجون مع المسلمين ويجاهدون معهم، ومع كل هذا فقد حكم اللَّه عليهم بالخلود في نار

جهنم بل في أسفل السافلين، فمن هؤلاء الذين هم أشد عذاباً من الكفار؟ ! بل الكفار المخلدون في النار أحسن حالاً منهم. إنهم المنافقون الذين أظهروا صورة الإسلام والإيمان وأبطنوا حقيقة الكفر، قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون (1)} [المنافقون]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَأَىؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا (142)} [النساء: 142]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 139]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء]. فمما تقدم يتبين لنا الأمور التالية: أولاً: إن الدين الحق الذي لا يقبل اللَّه تعالى من العباد غيره هو دين الإسلام، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]. ثانياً: إن الشرك لا تنفع معه طاعة ولا يقبل اللَّه من صاحبه صرفاً ولا عدلاً ولا فرضاً ولا نفلاً بل هو محبط لجميع الأعمال الصالحة كبيرها وصغيرها هذا حكم اللَّه في كتابه وعلى لسان رسوله، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ

عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)} [الفرقان]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65)} [الزمر]. ثالثاً: إن صورة الإيمان الظاهرة لا تكفي لنجاة العبد من عذاب ربه بل لا بد من صلاح القلوب، قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء]. روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» (¬1). رابعاً: إن الإسلام هو الاستسلام للَّه بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. خامساً: إن الملة الحنيفية ملة إبراهيم عليه السَّلام هي ملة نبينا وملتنا وقدوته وقدوتنا وهي مبنية على أصلين: إخلاص العبادة للَّه تعالى، والبراءة من الشرك وأهله. سادساً: إن موالاة المؤمنين ونصرتهم، وبغض الكافرين ومعاداتهم، أصل من أصول الملة الحنيفية. سابعاً: إن من أخذ بعض هذا الدين وترك بعضه كان كاليهود والنصارى الذين قال اللَّه فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. ¬

(¬1) ص: 34 رقم 52، وصحيح مسلم ص: 651 برقم 1599.

ومن هذا يتبين أن من يأخذون الدين بالتشهي فيأخذون منه ما يوافق أهواءهم ويدعون ما يخالفها ليسوا مؤمنين وهم كالمنافقين الذين تقدم ذكرهم، ولهم في هذا العصر أسماء متنوعة كالعلمانيين والاشتراكيين والبعثيين والقوميين وغيرهم. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثامنة والخمسون: فوائد من قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله}

الكلمة الثامنة والخمسون: فوائد من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 36] الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]. وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آية من كتاب اللَّه ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا (36)} [الأحزاب]. قال ابن كثير: «هذه الآية عامة في جميع الأمور وذلك أنه إذا حكم اللَّه ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء]». ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا (36)} [الأحزاب]، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ

عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (63)} (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث أبي برزة الأسلمي: أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ يَمُرُّ بِهِنَّ وَيُلَاعِبُهُنَّ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ، فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: «زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ»، فَقَالَ: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنُعْمَ عَيْنِي. فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي» قَالَ فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِجُلَيْبِيبٍ» قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُشَاوِرُ أُمَّهَا. فَأَتَى أُمَّهَا، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخْطُبُ ابْنَتَكِ. فَقَالَتْ: نِعِمَّ وَنُعْمَةُ عَيْنِي. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ، إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ، فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟ أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟ أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟ لَا لَعَمْرُ اللَّهِ، لَا تُزَوَّجُهُ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَاتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِيُخْبِرَهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا، قَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا. فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَمْرَهُ، ادْفَعُونِي، فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي. فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: شَانُكَ بِهَا. فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي غَزْوَةٍ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ » قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا، وَنَفْقِدُ فُلَانًا. قَالَ: «انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ » قَالُوا: لَا. قَالَ: «لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا» قَالَ: «فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى». قَالَ: فَطَلَبُوهُ، فَوَجَدُوهُ إِلَى ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 170).

جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَامَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى سَاعِدَيْهِ، وَحُفِرَ لَهُ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ. قَالَ ثَابِتٌ: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا. وَحَدَّثَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ثَابِتًا، قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ مَا دَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا». قَالَ: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا (¬1). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أنه يجب على المؤمن الانقياد التام لأمر اللَّه ورسوله والمبادرة إلى ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون (52)} [النور]. ثانياً: أن الصحابة رضي اللهُ عنهم ضربوا المثل في الاستجابة السريعة والامتثال لأمر اللَّه ورسوله، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: «ما كانت لنا خمر غير فضيخكم (¬2) هذا الذي تسمّونه الفضيخ، إني لقائم أسقيها أبا طلحة وأبا أيوب ورجالاً من أصحاب ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (33/ 29) برقم 19784، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم ص: 1001 برقم 2472. (¬2) هو بسر وتمر.

رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتنا إذا جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ قلنا: لا. قال: فإن الخمر قد حرمت. فقال: يا أنس، أرق هذه القلال قال: فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل» (¬1). وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيم (172)} [آل عمران: 172]. جاء في تفسير الآية الكريمة ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ} أنها قالت لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا قال: «مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا»، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير (¬2). ثالثاً: أن معصية اللَّه ورسوله سبب لضلال العبد في الدنيا والآخرة لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا (36)} [الأحزاب]. رابعاً: أن المؤمن والمؤمنة إذا جاءهما الأمر من اللَّه ورسوله فليس لهما الخيار بالفعل أو تركه بل عليهما أن يعلما أن الرسول أولى بهما من أنفسهما، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. ¬

(¬1) ص: 878 برقم 4617، وصحيح مسلم ص: 822 برقم 1980 واللفظ له. (¬2) ص: 774 برقم 4077.

خامساً: في الآية الكريمة دليل بل نص على أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان وذلك أن الموالي من الصحابة تزوجوا من أشراف قريش، فقد تزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وتزوج بلال بن رباح أخت عبدالرحمن بن عوف. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والخمسون: اليقين

الكلمة التاسعة والخمسون: اليقين الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن منازل الإيمان كثيرة، منها منزلة عظيمة هي من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد بها تفاضل العارفون، وتنافس المتنافسون، وإليها شمر العاملون بل قال بعض أهل العلم عن هذه المنزلة: إنها الإيمان كله إنها منزلة اليقين. قال الكفوي: اليقين هو أن تعلم الشيء ولا تتخيل خلافه (¬1). قال تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين (7)} [التكاثر]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِين (95)} [الواقعة]. روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْعُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ ¬

(¬1) الكليات ص: 67.

النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُهُ فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» (¬1). واليقين على ثلاث درجات: الأول: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق، فالذي ظهر من الحق هو أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي أظهره على السنة رسله، وقبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب كالجنة والنار والصراط والحساب وما قبل ذلك مثل تشقق السماء وانتشار الكواكب وما قبل ذلك من أمور البرزخ، أما الوقوف على ما قام بالحق أي من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد. الثاني: عين اليقين وهو ما استغنى به صاحبه عن طلب الدليل لأن الدليل إنما يطلب للعلم بالمدلول فإذا كان المدلول ¬

(¬1) ص: 460 رقم 4268، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 224) برقم (3443).

مشاهداً له فلا حاجة حينئذ للاستدلال، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين (7)} [التكاثر]. الثالث: حق اليقين وهي منزلة الرسل عليهم الصلاة والسلام فقد رأى نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعينيه الجنة والنار وكلم اللَّه موسى بلا واسطة أما بالنسبة لنا فإن حق اليقين يتأخر إلى وقت اللقاء. ومما يوضح ذلك أن يخبرك شخص أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه فهذا علم اليقين، فإذا أراك إياه فازددت يقيناً فهذا عين اليقين، فإذا ذقت منه فهذا حق اليقين، فعلمنا الآن بالجنة والنار علم اليقين، فإذا أُزلفت الجنة للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك عين اليقين، فإذا أُدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك حينئذ حق اليقين (¬1)، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (44)} [الأعراف]. قال ابن القيم رحمه الله: إذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون (24)} [السجدة]. وقد خص سبحانه وتعالى أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين (20)} [الذاريات]. وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 297 - 299) بتصرف.

فقال: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (5)} [البقرة: 4 - 5]. وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أصحاب اليقين فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين (32)} [الجاثية]. فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره (¬1). وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته، وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقةٍ إليها، فلما عاين سوق الشهادة قامت، ألقى قوته من يده، وقال: «إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات»، وألقاها من يده وقاتل حتى قتل، وكذلك أحوال الصحابة رضي اللهُ عنهم (¬2). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن اليقين سبب لدخول الجنة روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَامَ بِلَالٌ يُنَادِي فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬3). واليقين سبب لنجاة الأمة وصلاحها في الدنيا والآخرة، روى البيهقي في شعب الإيمان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صَلَحَ أَمْرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 293 - 299) بتصرف. (¬2) هو عمير بن الحمام رضي اللهُ عنه يوم أحد. (¬3) (14/ 272) برقم 8624 وقال محققوه: حديث صحيح.

وَهَلَكَ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (¬2). قال الفيروزآبادي: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة، ترك المدح لهم في العطية، التنزه عن ذمهم عند المنع (¬3). قال سفيان الثوري: «لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحاً وحزناً وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار» (¬4). ومن المعاني التي يُطلق عليها اليقين: الموت: قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِين (99)} [الحجر]. وقال تعالى عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين (45) وَكُنَّا ¬

(¬1) (15/ 69) برقم 10046 وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 3845. (¬2) ص: 1213 برقم 6306. (¬3) مدارج السالكين (2/ 294). (¬4) المصدر السابق.

نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين (47)} [المدثر]. ومنها أنه يُطلق ويراد به الظن وأن الظن قد يعبر عنه باليقين. وقد ذكر المحققون ضوابط لتحديد المراد بالظن: أحدها: أنه حيث وجد الظن محموداً مثاباً عليه فهو يقين وحيث وُجد مذموماً متوعداً عليه بالعذاب فهو الشك (وهذا من جهة المعنى). الثاني: أن كل ظن يتصل به أن (المخفَّفة من الثقيلة) فهو شك وكل ظن يتصل به أنَّ المشدَّدة فهو يقين (¬1). قال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله (¬2). وقال عامر بن عبد القيس: لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً (¬3). والخلاصة: أن اليقين منزلة عظيمة من منازل الإيمان يزيد المسلم به من ربه قرباً وحباً ورضى، وهو لب الدين ومقصوده الأعظم، ويزيد العبد خضوعاً واستكانة لمولاه ويكسب صاحبه العزة والرفعة، ويباعده عن مواطن الذلة والضعة. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الكليات (588) ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (8/ 3717 - 3718). (¬2) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب الإيمان ص: 25. (¬3) مدارج السالكين (2/ 296).

الكلمة الستون: التحذير من الكسل

الكلمة الستون: التحذير من الكسل الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن الصفات المذمومة التي ذمها اللَّه ورسوله صفة الكسل، قال الراغب: الكسل التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه ولذلك صار مذموماً (¬1). اهـ، كالتثاقل عن الصلاة أو الجهاد أو الصيام أو غيرها من الطاعات. والكسل من صفات المنافقين، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَاتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُون (54)} [التوبة]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَأَىؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا (142)} [النساء]. وقال تعالى محذراً عباده المؤمنين من الكسل والركون إلى الدنيا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل (38)} [التوبة]. وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوذ باللَّه من الكسل، روى ¬

(¬1) المفردات ص: 431.

مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ومِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: المقصود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استعاذ من الهم والحزن وهما قرينان، ومن العجز والكسل وهما قرينان، فإن تخلف كمال العبد وصلاحه عنه، إما أن يكون لعدم قدرته عليه فهو عجز، أو يكون قادراً عليه لكن لا يريد فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير وحصول كل شر، ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن وعن النفع بماله وهو البخل، ثم ينشأ له بذلك غلبتان غلبة بحق، وهي غلبة الدين، وغلبة بباطل وهي غلبة الرجال، وكل هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل (¬2) اهـ. وقال في موضع آخر: أصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها فيقع في المعاصي. فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره (¬3). قال الشاعر: وَاحَسْرَتَاه تَقَضَّى العُمُرُ وَانْصَرَمَتْ ... سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ العَجْزِ والكسلِ ¬

(¬1) ص: 1085 برقم 2706. (¬2) زاد المعاد (2/ 364 - 362). (¬3) زاد المعاد (2/ 358).

والقومُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ وقَدْ ... سَارُوا إِلَى المطلَبِ الأَعْلَى عَلَى مَهْلِ وقد حث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمته على العمل والمسارعة إلى الخيرات والبعد عن العجز والتكاسل، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (¬1). قال النووي رحمه الله: والمراد بالقوة عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك واحتمال المشاق في ذات اللَّه تعالى وأرغب في الصلاة والصوم، والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ومحافظة عليها ونحو ذلك. وقوله: «احرص على ما ينفعك واستعن باللَّه ولا تعجز» معناه: احرص على طاعة اللَّه تعالى والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من اللَّه تعالى ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة (¬2) اهـ. قال الراغب الأصفهاني: وتأمل حال مريم عليها السلام وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤونة الطلب، وفيه أعظم معجزة فإنه لم يخلها من أن يأمرها بهزها، فقال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ ¬

(¬1) ص: 1069 برقم 2664. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 215).

النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم] (¬1). قال يزيد بن المهلب: ما يسرني أن كُفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز (¬2). والكسل على قسمين: الأول: كسل العقل بعدم أعماله في التفكر والتدبر والنظر إلى آلاء اللَّه ونعمه العظيمة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191]. وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين (11)} [الأنعام]. ومن كسل العقل عدم أعماله بما يصلحه من شؤون الدنيا كالزراعة والتجارة والصناعة وغيرها من الحرف وما تأخرت الأمم إلا بكسل أصحاب العقول فيها وقلة اكتراثهم بالقوة الإبداعية المفكرة التي أودعها اللَّه فيهم. الثاني: كسل البدن: بما يشتمل عليه من الجوارح وينتج عن هذا الكسل تقصير بعض الأفراد في العبادات كأداء الصلوات في بيوت اللَّه والدعوة إلى اللَّه وطلب العلم الشرعي وغير ذلك من الطاعات (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه قال: ذكر عند النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: رجل نام ليلة حتى أصبح قال: «ذَاكَ ¬

(¬1) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص: 383. (¬2) المصدر السابق. (¬3) انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة ص: 382 - 384 بتصرف. واختصار، نقلاً عن كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (11/ 5438 - 5439).

رَجُلٌ بَالَ الشَّيطَانُ فِي أُذُنَيهِ»، أو قال: «فِي أُذُنِهِ» (¬1). وكذلك تأخر الأمم في مجال التقدم العلمي في الصناعة والتجارة وغيرها من الحرف التي تستغني بها عن الأمم الأخرى. من أسباب طرد الكسل: أولاً: الاستعانة باللَّه عزَّ وجلَّ فإنه المعين جلا وعلا كما ورد بذلك الحديث السابق: «استَعِن بِاللَّهِ وَلَا تَعجَز». ثانياً: الاستعاذة منه كما كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوذ باللَّه منه. ثالثاً: الوضوء والذكر والصلاة فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَاسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ» (¬2). رابعاً: أن يتذكر العبد أن اللَّه تعالى حث على الجد والمسارعة إلى الخيرات، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران]. وقال تعالى عن نبيه موسى عليه السَّلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه]. وقال سبحانه لنبيه يحيى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: ¬

(¬1) ص: 627 برقم 3270، وصحيح مسلم ص: 3060 برقم 774. (¬2) ص: 225 برقم 1142، وصحيح مسلم ص: 306 برقم 776.

12]، أي: التوراة بجد واجتهاد. خامساً: أن يعلم العبد أن الكسل صفة ذميمة من صفات المنافقين ذمها اللَّه ورسوله. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الواحدة والستون: معجزاته عليه الصلاة والسلام

الكلمة الواحدة والستون: معجزاته عليه الصلاة والسلام الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فإن اللَّه أجرى على يد أنبيائه ورسله من المعجزات والدلائل القاطعات ما يدل على صدق دعواهم أنهم رسل اللَّه ولكي تقوم الحجة فلا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]. والمعجزة على قسمين: الأول: ضرب هو من نوع قدرة البشر فعجزوا عنه فتعجيزهم عنه فعل للَّه دل على صدق نبيه كتحدي اليهود أن يتمنوا الموت، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (6)} [الجمعة]. الثاني: ضرب خارج عن قدرتهم لا يقدرون على الإتيان بمثله كانشقاق القمر مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا اللَّه تعالى، فيكون ذلك على يد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من فعل اللَّه تعالى وتحدي من يكذبه أن يأتي بمثله تعجيزاً له. ومعجزات الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي ظهرت على يديه تشمل النوعين:

فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكثر الرسل معجزات وأبهرهم آية، فله من المعجزات ما لا يعد ولا يحصى وقد أُلفت في معجزاته المؤلفات الكثيرة. وقد أعطى اللَّه عزَّ وجلَّ كل نبي من الأنبياء عليهم السَّلام معجزة خاصة لم يعطها بعينها لنبي غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، فلما كان الغالب على زمان موسى عليه السَّلام السحر وتعظيم السحرة بعثه اللَّه بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل ساحر، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِين (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِين (108)} [الأعراف]. وقال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه]. فلما استيقن السحرة أن هذا من عند اللَّه انقادوا وأسلموا. وأما عيسى عليه السَّلام فقد بعثه اللَّه في زمن الأطباء فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة، قال تعالى: {وَأُبْرِاءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران: 49]. وكذلك نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعث في زمن الفصحاء والبلغاء فأتاهم بكتاب من عند اللَّه فاتهمه أكثرهم أنه اختلقه وافتراه من عنده فتحداهم ودعاهم أن يعارضوا ويأتوا بمثله وليستعينوا بمن شاءوا من ذلك فعجزوا، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء].

ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور ثم بسورة واحدة ثم أخبر أنهم لا يستطيعون ذلك لا في الحال ولا في المآل، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين (24)} [البقرة]. ومن معجزاته العظيمة: الإسراء والمعراج فقد أُسريَ به إلى المسجد الأقصى على دابة يقال لها: البراق وهو أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل وصلى ركعتين في المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء والتقى بالأنبياء آدم وموسى وعيسى وهارون وغيرهم، حتى وصل إلى سدرة المنتهى وسمع صريف الأقلام وكلمه ربه وفرضت عليه الصلوات الخمس ثم هبط إلى المسجد الأقصى وهبط الأنبياء معه (¬1). قال ابن كثير: «والذي يظهر أنه صلى بهم صلاة الصبح وهنا ظهر شرفه وفضله على جميع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ثم أخبر قريش بالخبر فكذبوه وقالوا: إن كنت صادقاً فصف لنا بيت المقدس وكانوا يذهبون إليه ويعرفونه» (¬2)، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير بتصرف (8/ 431). (¬2) تفسير ابن كثير بتصرف (8/ 431).

أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَاتُهُمْ بِهِ» (¬1). ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام: انشقاق القمر، روى البخاري ومسلم من حديث أنس: أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما (¬2). قال الخطابي: فكان هذا الانشقاق آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر (¬3) اهـ. وقد ذكر اللَّه هذه المعجزة على أن انشقاق القمر وقع في زمن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات وأن الأحاديث قد وردت بذلك متواترة. ومن معجزاته كذلك: تكثير الماء ونبعه من بين أصابعه ولحمه ودمه. قال القرطبي: قضية نبع الماء من بين أصابعه تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة تفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يُسمع بمثل هذه المعجزة من غير نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيث نبع الماء ما بين عظمه ¬

(¬1) ص: 96 برقم 172. (¬2) ص: 734 برقم 3868، وصحيح مسلم ص: 1127 برقم 2802. (¬3) فتح الباري (7/ 185).

وعصبه ولحمه ودمه (¬1). ومن هذه المواطن ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد اللَّه قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين يديه ركوة (¬2). فتوضأ فجهش (¬3) الناس نحوه فقال: «مَا لَكُم؟ » قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة (¬4). ومن معجزاته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنواع الجمادات: حنين الجذع شوقاً إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفقاً من فراقه، وقد ورد ذلك كما قال الحافظ ابن كثير؛ من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة الشأن وفرسان هذا الميدان (¬5). فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول اللَّه ألا نجعل لك منبراً؟ قال «إِن شِئتُم» فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي ثم نزل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: «كَانَت تَبكِي عَلَى مَا كَانَت تَسمَعُ ¬

(¬1) فتح الباري (6/ 585). (¬2) إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. (¬3) أن يفزع الإنسان إلى الإنسان. (¬4) ص: 684 برقم 3576، وصحيح مسلم ص: 776 برقم 1856 مختصراً. (¬5) البداية والنهاية (8/ 679).

مِنَ الذِّكرِ عِندَهَا» (¬1). وفي رواية أخرى عن جابر قال: كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار (¬2)، حتى جاء النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضع يده عليها فَسَكَنَتْ (¬3). وفي رواية من حديث ابن عباس: «وَلَو لَم أَحتَضِنهُ لَحَنَّ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ» (¬4). قال الشافعي: ما أعطى اللَّه نبياً ما أُعطي محمداً صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقيل له: أُعطي عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطي محمد حنين الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك (¬5) اهـ. وذلك لأن هذا إحياء ما ليس من نوعه الحياة مع ما فيه من الاشتياق والبكاء عليه، بخلاف ما أُعطي لعيسى، قال ابن حجر: في الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللَّه لها إدراكاً كالحيوان بل كأشرف الحيوان (¬6)، وكان الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث يقول: «يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شوقاً إلى لقائه، وأنتم أحق أن تشتاقوا إليه» (¬7). ¬

(¬1) ص: 686 برقم 3584. (¬2) العشار: جمع عشراء وهي الناقة التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها؛ جامع الأصول (11/ 333). (¬3) ص: 686 برقم 3585. (¬4) رواه أحمد في مسنده (4/ 107) برقم 2236، قال ابن كثير: هذا الإسناد على شرط مسلم؛ البداية والنهاية (8/ 681). (¬5) فتح الباري (6/ 603). (¬6) فتح الباري (6/ 603). (¬7) فتح الباري (6/ 602 - 603).

ومن معجزاته: انقياد الشجر بين يديه في مرات عدة: فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِبَ بِالدِّمَاءِ، ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «وَمَا لَكَ؟ » قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «فَعَلَ بِي هَؤُلَاءِ وَفَعَلُوا»، قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، فَقَالَ: ادْعُ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، فَأَمَرَهَا فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حَسْبِي» (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (19/ 165) برقم 12112، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم. (¬2) انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 520 - 554).

الكلمة الثانية والستون: فضل الأعمال الصالحة في رمضان

الكلمة الثانية والستون: فضل الأعمال الصالحة في رمضان الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فإن من فضل اللَّه ورحمته بعباده: أن يسر لهم مواسم خير يستكثرون فيها من الطاعات والقربات، تضاعف فيها الأجور، وتكفر فيها السيئات، وتقال فيها العثرات ويعتق اللَّه فيها من شاء من عباده من النيران، ومن هذه المواسم شهر رمضان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (183)} [البقرة]. وقال تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون (184)} [البقرة]. وينبغي للمؤمن أن يستقبل أيامه ولياليه بالأعمال الصالحة فما هي إلا ليال معدودة ثم تنقضي، قال تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]. ومن هذه الأعمال الصالحة قراءة القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. قال بعض أهل العلم: إن اللَّه عقب بالفاء السببية التي تفيد التعليل ليبين أن سبب اختيار رمضان ليكون شهر الصوم هو إنزال

القرآن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر (1)} [القدر]. ومن المعلوم أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجود بالخير من الريح المرسلة (¬1). وكان الإمام مالك إذا أقبل رمضان توقف عن التأليف والدروس وقال: إنما هو إطعام طعام، وقراءة قرآن. كان بعض السلف يختم القرآن في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، فعلى أقل تقدير أن يختم الصائم القرآن ولو مرة واحدة في رمضان. ومنها: الصدقة وهي باب عظيم من أبواب الخير، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (274)} [البقرة]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه قال: انتهيت إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَأَىنِي قَالَ: «هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ»، قال: فجئت فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ فَقُلْتُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الأَكْثَرُونَ أَموَالًا إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» (¬2). ¬

(¬1) ص: 22 برقم 6. (¬2) ص: 1268 برقم 6638، وصحيح مسلم ص: 384 برقم 990 واللفظ له.

قال ابن القيم رحمه الله: وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمر بالصدقة ويحث عليها ويدعو إليها بحاله وقوله، ولذلك كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشرح الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر (¬1). روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ» (¬2). وللصدقة في رمضان فضيلة ومزية على غيره ويدخل في ذلك إطعام الطعام، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا (9)} [الإنسان]. روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» (¬3). ومنها إفطار الصائم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ ¬

(¬1) زاد المعاد (2/ 22 - 23) بتصرف. (¬2) ص: 1237 برقم 6444، وصحيح مسلم ص: 384 برقم 991. (¬3) صحيح ابن حبان ص: 139 برقم (509).

أَجْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» (¬1). ومنها قيام الليل، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون (17)} [السجدة]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلْإِثْمِ» (¬2). وروى الطبراني في المعجم الأوسط من حديث سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَم أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬3). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَن قَامَ رَمَضَان إِيمَاناً وَاحتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ» (¬4). وقيام رمضان شامل للصلاة من أول الليل وآخره وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان فينبغي الحرص عليها والاعتناء ¬

(¬1) (28/ 261) برقم 17033. وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬2) ص: 558 برقم (3549)، قال أبو عيسى الترمذي: وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 178) برقم (3801). (¬3) (4/ 306) برقم: 4278، وقال المندري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 485): إسناده حسن. (¬4) ص: 380 برقم 2009، وصحيح مسلم ص: 299 برقم 759.

بها واحتساب الأجر والثواب من اللَّه عليها، وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها، وعلى المسلم أن يحرص على القيام مع الإمام حتى ينصرف» (¬1). روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مجالس شهر رمضان ص: 18. (¬2) جزء من حديث رواه الترمذي في سننه ص: 151 برقم 806، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة الثالثة والستون: شرح اسم الله الكافي

الكلمة الثالثة والستون: شرح اسم الله الكافي الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لِلَّهِ تِسعَةٌ وَتِسعُونَ اسمًا، مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، لَا يَحفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ وَهُوَ وِترٌ يُحِبُّ الوِترَ» (¬1). وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬2). ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في كتابه: الكافي ومعناه الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه رزقاً ومعاشاً وقوتاً، الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه» (¬3). قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد (36)} [الزمر]. وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (137)} [البقرة]. وقال ¬

(¬1) ص: 1231 برقم 6410، وصحيح مسلم ص: 1075 برقم 2677. (¬2) صحيح البخاري ص: 1409 برقم 7392. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (5/ 304 - 305).

تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (95)} [الحجر]. قال ابن القيم رحمه الله: وَهُوَ الحَسِيبُ كِفَايةً وحمايةً ... والحَسْبُ كَافِي العَبْدِ كُلَّ أَوَانِ (¬1) والتوكل على اللَّه سبب كفاية اللَّه لعبده، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. أي كافية كل أموره الدينية والدنيوية، والتوكل هو اعتماد القلب على اللَّه في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها شرعاً (¬2)، قال بعض السلف: جعل اللَّه تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه (¬3)، فلو توكل العبد على ربه حق التوكل بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتماداً قوياً كاملاً في تحصيل مصالحه ودفع مضاره وقويت نفسه وحسن باطنه بربه حصلت له الكفاية، وأتم اللَّه له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله وكفاه همه وجلا غمه (¬4)، فهناك لا تسأل عن كل أمر تيسر وصعب يتسهل وخطوب تهون وكروب تزول وأحوال وحوائج تقضى وبركات تنزل ونقم تدفع وشرور ترفع (¬5). ¬

(¬1) النونية (2/ 233). (¬2) القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 228). (¬3) بدائع الفوائد (2/ 766 - 767). (¬4) فتح الرحيم الملك العلام (ص: 53 - 54). (¬5) تيسير الكريم الرحمن ص: 920.

ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: إذا علم العبد أن اللَّه هو الكافي عباده رزقاً ومعاشاً وحفظاً وكلاءة ونصراً وعزاً اكتفى بمعونته عمن سواه وإذا كان كذلك وجب ألا يكون الرجاء إلا فيه والرغبة إلا إليه: روى النسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَمَنِ استَكفَى كَفَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ» (¬1) «فمن وقع في شدة وضيق فليطلب من اللَّه الكفاية فإن اللَّه يكفيه، وفي صحيح مسلم في قصة الغلام المؤمن لما أبى أن يرجع عن دينه دفعه الملك إلى نفر من أصحابه أي (جماعة من الناس) وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا جبل معروف عندهم شاهق رفيع وقال لهم: إذا بلغوا ذروته فاطرحوه يعني على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تعرضوا عليه أن يرجع عن دينه فإن رجع وإلا فاطرحوه. فلما بلغوا قمة الجبل فطلبوا منه أن يرجع عن دينه أبى، لأن الإيمان قد وقر في قلبه ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما هموا أن يطرحوه قال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت - دعوة مضطر مؤمن - أي: بالذي تشاء ولم يعين، فرجف اللَّه بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم اللَّه، ثم دفعه إلى جماعة آخرين وأمرهم أن يركبوا البحر في قُرقُور (سفينة). فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا ¬

(¬1) جزء من حديث ص: 279 برقم 2595، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي (2/ 227).

عليه أن يرجع عن دينه فإن لم يفعل رموه في البحر، فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه - وهو الإيمان باللَّه - فقال: لا! فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت: فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه اللَّه» (¬1) (¬2). ثانياً: من كان عليه دين فليتضرع إلى اللَّه تعالى ليكفيه هم الدين روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» (¬3). ثالثاً: أنه يشرع للعبد أن يسأل اللَّه الكافي أن يكفيه شر الأعداء قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (137)} [البقرة]. فيقول: يا كافي اكفني شر فلان الذي ظلمه أو أذاه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا خاف من رجل أو من قوم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» (¬4). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قالها إبراهيم عليه السَّلام حين أُلقي في ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين (1/ 219 - 220). (¬2) انظر قصة الغلام في صحيح مسلم ص: 1202 برقم 3005. (¬3) ص: 559 - 560 برقم 3563، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 464). (¬4) (32/ 493) برقم 19719 وقال محققوه: حديث حسن.

النار، وقالها محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} [آل عمران] (¬1). رابعاً: إن اللَّه تعالى كفى المؤمنين شر أعدائهم في مواطن كثيرة فعلى سبيل المثال في غزوة بدر مع قلة عددهم ونقص عدتهم وضعفهم نصرهم اللَّه وكفاهم الأعداء، قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِين (124)} [آل عمران]. وكذلك في غزوة الخندق أو الأحزاب كفاهم اللَّه شر الأحزاب التي تجمعت عليهم، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب]. الخلاصة: أن الكافي اسم من أسماء اللَّه تعالى وهو بمعنى الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه رزقاً ومعاشاً وقوتاً الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه. ويشرع للمسلم أن يسأل ربه بهذا الاسم أن يكفيه شر من ظلمه وأذاه (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 865 برقم 4563. (¬2) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الأسماء الحسنى والصفات العلى ص: 217 - 221.

الكلمة الرابعة والستون: خطورة المجاهرة بالمعصية

الكلمة الرابعة والستون: خطورة المجاهرة بالمعصية الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد. فإن الذنوب والمعاصي عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة قال تعالى مبيناً أضرارها على العباد: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (40)} [العنكبوت]. وأعظم هذه الذنوب المجاهرة بها ومعناها أن يرتكب الشخص الإثم علانية أو يرتكبه سراً فيستره اللَّه عزَّ وجلَّ ولكنه يخبر به بعد ذلك مستهيناً بستر اللَّه له، قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)} [النساء]. جاء في تفسيرها: لا يحب اللَّه أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به (¬1). روى البخاري ومسلم من حديث سالم بن عبد اللَّه قال: سمعت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ ¬

(¬1) تفسير القرطبي (7/ 199).

مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ: عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» (¬1). قال ابن حجر: والمجاهر هو الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر اللَّه عليه فيحدث بها، أما المجاهرون في الحديث الشريف فيحتمل أن يكون بمعنى من جهر بالمعصية وأظهرها ويحتمل أن يكون المراد الذين يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي وبقية الحديث تؤكد المعنى الأول (¬2). ومما سبق يتضح أن المجاهرة على أنواع ثلاثة. 1 - المجاهرة بمعنى إظهار المعصية وذلك كما يفعل المُجَّان والمستهترون بحدود اللَّه، والذي يفعل المعصية جهاراً يرتكب محذورين. الأول: إظهار المعصية. الثاني: تلبسه بفعل المُجَّان أي: (أهل المُجُون) وهو مذموم شرعاً وعرفاً. 2 - المجاهرة بمعنى إظهار ما ستر اللَّه على العبد من فعله المعصية كأن يحدث بها تفاخراً أو استهتاراً بستر اللَّه تعالى وهؤلاء هم الذين لا يتمتعون بمعافاة اللَّه عزَّ وجلَّ كحال الشباب الذين يسافرون ¬

(¬1) ص: 1173 برقم 6069، وصحيح مسلم ص: 1197 - 1198 برقم 2990. (¬2) فتح الباري (10/ 487) بتصرف.

إلى خارج البلاد، ويرتكب الواحد منهم الفواحش وشرب الخمور ثم يخبر بهذا أصدقاء السوء تفاخراً واستهتاراً بستر اللَّه له. 3 - المجاهرة بمعنى أن يجاهر بعض الفساق بعضاً بالتحدث بالمعاصي (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المظهر للمنكر يجب الانكار عليه علانية ولا تبقى له غيبة ويجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتاً إذا كان فيه ردع لأمثاله فيتركون تشييع جنازته (¬2). وقال النووي رحمه الله: «إن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به» (¬3)، وقال ابن حجر: من قصد إظهار المعصية والمجاهرة أغضب ربه فلم يستره ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من اللَّه عليه بستره إياه (¬4) اهـ. قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق اللَّه ورسوله وبصالحي المؤمنين وفيه ضرب من العناد لهم وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف (¬5). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن المجاهرة بالمعاصي لها عقوبات في الدنيا قبل الآخرة. روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر قال: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 487). (¬2) غذاء الألباب (1/ 260 - 261). (¬3) فتح الباري (10/ 487). (¬4) فتح الباري (10/ 488). (¬5) فتح الباري (10/ 487).

بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَاسَهُمْ بَيْنَهُمْ» (¬1) الحديث. روى الترمذي في سننه من حديث عمران بن حصين أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسفٌ وَمَسخٌ وَقَذفٌ» فقال رجل من المسلمين: يا رسول اللَّه! متى ذاك؟ قال: «إِذَا ظَهَرَتِ القَينَاتُ، وَالمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الخُمُورُ» (¬2). ومن الأمثلة على الجهر بالمعاصي في وقتنا المعاصر، انتشار الصحون الفضائية أو ما يسمى بالدش على السطوح في بيوت كثير من الناس. ومنها انتشار البنوك الربويية في كثير من بلاد المسلمين بل والإعلان عبر الصحف ووسائل الإعلام الأخرى أن القروض منها أو المساهمة فيها ميسر وسهل. ¬

(¬1) ص: 432 برقم 4019، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 1321) برقم (7978). (¬2) ص: 367 برقم 2212، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 786) برقم 4273.

ومنها تبرج النساء بشكل سافر في الأسواق والأماكن العامة. ومنها بيع الحرمات كالمجلات الهابطة، والدخان، وأشرطة الفيديو، والأقراص التي تحتوي على أفلام هابطة، ومحلات بيع أشرطة الغناء. ومنها انتشار النوادي التي تعرض فيها السينما والألعاب الرياضية المختلطة، والمسرحيات، ومحلات عرض الإنترنت. ومنها خروج المغنيات والممثلات سافرات على شاشات القنوات الفضائية ليُهَيِّجنَ الغرائز ويَفتِنَّ الناس. لذا ينبغي الإنكار على هؤلاء المجاهرين وإخبارهم بعظيم جرمهم، وأنهم يعرضون أنفسهم لعقوبة اللَّه تعالى في الدنيا والآخرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19]. فإذا كان مجرد الحب صاحبه مهدد بالعذاب فكيف بمن يجهر وينشر ويساعد على هذه الفواحش والمنكرات؟ ! ولذلك ينبغي على المسلم إذا ابتلِيَ بالمعصية أن يستتر بستر اللَّه وأن يبادر بالتوبة النصوح. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخامسة والستون: استقبال العام الجديد

الكلمة الخامسة والستون: استقبال العام الجديد الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد. ففي هذه الأيام نودع عاماً مضى من أعمارنا، ونستقبل عاماً جديداً. فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي، وبماذا نستقبل عامنا الجديد؟ ! قال الحافظ ابن كثير: تَمُرُّ بِنَا الأيامُ تَترَى وإِنَّما ... نُسَاقُ إلى الآجالِ والعَيْنُ تنظرُ فَلا عائدٌ ذَاك الشبابُ الذي مَضَى ... ولا زَائِلٌ هَذا الشَّيبُ المُكَدِّرُ وعلى المؤمن أن يحاسب نفسه ويتداركها فإن كان مستقيماً على طاعة اللَّه فليحمد اللَّه وليسأل ربه الثبات. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي اللهُ عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي ¬

(¬1) ص: 1065 برقم 2654.

عَلَى دِينِكَ» (¬1). ومن كان منا مقصراً في طاعة اللَّه فليتدارك نفسه قبل فوات الأوان وليبادر إلى التوبة والإقلاع عن المعاصي والذنوب، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (31)} [النور]. قال عمر رضي اللهُ عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر على اللَّه». وعمر الإنسان الذي لا يتجاوز عشرات معدودة من السنين سيسأل المرء عن كل جزئية من جزئياته، بل إن هذا من أصول الأسئلة التي توجه له يوم القيامة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ » (¬2). فيسأل عن عمره على وجه العموم وعن شبابه على وجه الخصوص، لأن الشباب هو محور القوة والنشاط وعليه الاعتماد في العمل أكثر من غيره من مراحل العمر. وهذا الزمن من أفضل نعم اللَّه على عباده، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «نِعْمَتَانِ ¬

(¬1) (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم كما تقدم. (¬2) ص: 396 برقم 2417، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (¬1). والغبن أن يشتري الإنسان السلعة بأضعاف الثمن فمن صح بدنه وتفرغ من الأشغال العالقة به ولم يسع لإصلاح آخرته يقال عنه: إنه رجل مغبون. وفي الحديث إشارة إلى أن الزمن نعمة كبرى لا يستفيد منها إلا الموفقون الأفذاذ وأن المستفيد قليل والكثير مفرط ومغبون. روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ» ذكر منها: «فَرَاغَكَ قَبْلَ شُغلِكَ، شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ» (¬2). قال محمد الطليطلي: خُذْ مِنْ شَبَابِكَ قَبْلَ المَوتِ والهَرَمِ وبادِرِ التوبَ قَبْلَ الفوتِ والندمِ واعْلَمْ بأَنَّكَ مَجْزِيٌّ ومُرتَهَنٌ ورَاقِبِ اللَّهَ واحْذَر زَلَّةَ القدمِ قال ابن القيم رحمه الله: «إن الواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك فإنه عائد عليك لا محالة، ولهذا يقال للسعداء: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة (24)} [الحاقة]، ويقال للأشقياء: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي ¬

(¬1) ص: 1232 برقم 6412. (¬2) (5/ 435) برقم 7916، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 244) برقم 1077.

الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون (75)} [غافر]» (¬1). وقال الشافعي رحمه الله: «صحبت الصوفية، فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون: الوقت سيف، فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل» (¬2). ومن تأمل أحوال السلف ومن سار على نهجهم وجدهم أحرص الناس على كسب الوقت وملئه بالخير، قال عبد اللَّه بن مسعود: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي. وقال الحسن البصري رحمه الله: يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك، وقال: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم على دراهمكم ودنانيركم. وقد ذكر اللَّه موقفين للمرء يندم فيهما على إضاعة الوقت. الأول: عند ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة يتمنى لو منح مهلة من الزمن وأُخر إلى أجل قريب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَاءِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (100)} [المؤمنون: 100 - 99]. ¬

(¬1) مدارج السالكين (3/ 50) نقلاً عن كتاب جامع الآداب لابن القيم من كلام ابن القيم، تحقيق/ يسري السيد محمد (1/ 384). (¬2) مدارج السالكين (3/ 97).

الثاني: في الآخرة حيث تُوَفَّى كل نفس ما عملت ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون (12)} [السجدة]. وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 55 - 56]. قال ابن كثير رحمه الله: أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للَّه عزَّ وجلَّ (¬1). وفي الصحيحين في قصة الكبش الذي يذبح بين الجنة والنار ويقال: يَا أَهلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوتَ، وَيَا أَهلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوتَ، ثم قرأ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون (39)} [مريم]، وأشار بيده إلى الدنيا (¬2). فعلى العاقل أن يغتنم أيام حياته فما يدريه لعله لم يبق له منها إلا يسير. قال القاضي ابن أبي عصرون: أُؤملُ أَنْ أَحْيَا وفِي كلِّ ساعةٍ تَمرُّ بِيَ المَوْتَى تَهُزُّ نُعُوشُها ومَا أَنَا إلا مِنْهُم غَيْرَ أَنْ لِيَ بَقايَا ليالٍ فِي الزمانِ أعيشُها قال ابن القيم رحمه الله: «ما مضى من الدنيا أحلام وما بقي منها ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (12/ 145). (¬2) ص: 914 برقم 4730، وصحيح مسلم ص: 1144 برقم 2849.

أماني والوقت ضائع بينهما» (¬1)، روى البخاري في صحيحه من حديث علي رضي اللهُ عنه أنه قال: «ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل» (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الفوائد ص: 48. (¬2) ص: 1233 برقم 6416.

الكلمة السادسة والستون: الإيمان بالبعث بعد الموت

الكلمة السادسة والستون: الإيمان بالبعث بعد الموت الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالبعث بعد الموت، قال الطحاوي رحمه الله: الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة فأخبر اللَّه سبحانه عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه، ورد على منكرية في غالب سور القرآن. قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (7)} [التغابن]. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور (7)} [الحج]. وقال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51)} [الإسراء] (¬1). ففي الآية الكريمة الأخيرة يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين المعاد القائلين على وجه الإنكار: إذا كنا عظاماً ¬

(¬1) العقيدة الطحاوية ص: 456.

ورفاتاً أي تراباً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً، ثم أمر اللَّه رسوله أن يُجيبهم فيقول: {قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات {أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني السماء والأرض والجبال {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر شديداً؟ {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)} [الإنسان]. ثم صرتم بشراً تنتشرون فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] (¬1). روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ» (¬2). وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُون (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (9/ 27 - 25). (¬2) ص: 357 برقم 2145، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 227) برقم 1744.

الْعَلِيم (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون (83)} [يس]. قال بعضهم: لو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيحاز ووضع الأدلة وصحة البرهان ما قدر (¬1). قال الطحاوي رحمه الله: والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: إن الأجسام تتقلب من حال إلى حال فتسحيل تراباً ثم ينشئها اللَّه نشأة أخرى كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة ثم صار عظاماً ولحماً ثم أنشأه خلقاً سويًّا كذلك الإعادة يُعيده اللَّه بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب وهو عظم لطيف في أصل الصلب وهو رأس العصعص (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَاكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ» (¬3). قد يقول قائل: ربما يُؤكل الإنسان من قبل السباع أو الحيتان في البحر أو يحترق تماماً فلا يبقى من جسده شيء فما الجواب عن ذلك؟ فيقال: إن الأمر هين على اللَّه يقول: كن فيكون ¬

(¬1) العقيدة الطحاوية ص: 460. (¬2) العقيدة الطحاوية ص: 463. (¬3) صحيح مسلم ص: 1186 برقم 2955 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 976 برقم 4935.

وقدرة اللَّه فوق ما نتصوره واللَّه على كل شيء قدير، روى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا، وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي، وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا، ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ» (¬1). قال عبد اللَّه الأندلسي: والبعثُ بعدَ الموتِ وَعْدٌ صادقٌ ... بإعادةِ الأرواحِ فِي الأبدانِ وقال أبو تمام: فَيَا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي وَمَبْعَثِي ... أَكوُن رُفاتاً لا عَلَيَّ وَلاَ لِيَا فإذا آمن المؤمن وصدق بالبعث بعد الموت وهو ركن من أركان الإيمان الستة وأن اللَّه على كل شيء قدير، كما قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير (28)} [لقمان]. حاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة واستعد للقاء اللَّه، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون (93)} [الحجر]. وقال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون (24)} [الصافات]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزه الأسلمي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ ¬

(¬1) ص: 665 رقم 3452.

فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ » (¬1). قال عمر رضي اللهُ عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن تُوزنوا وتهيؤوا للعرض الأكبر على اللَّه». قال الشاعر: وَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا ... لَكَاَن الموتُ راحةَ كُلِّ حَيِّ وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا ... ونُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيءٍ والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 396 برقم 2417، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة السابعة والستون: تفسير سورة المسد

الكلمة السابعة والستون: تفسير سورة المسد الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا وتحتاج منا إلى تأمل وتدبر سورة المسد، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد (5)} [المسد]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: صَعِدَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «يَا صَبَاحَاهْ» فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ » قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب (1)} [المسد] (¬1). وفي رواية أن أبا لهب قال: «تبًّا لك سائر اليوم» (¬2). قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب (1)} الأول: دعاء ¬

(¬1) ص: 938 برقم 4801، وصحيح مسلم ص: 114 برقم 208. (¬2) صحيح البخاري ص: 271 برقم 1394.

عليه، والثانية: خبر عنه وأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وكنيته أبو عتبة وإنما سمي أبا لهب لإشراق وجهه وكان كثير الأذية لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والبغض له والازدراء به والتنقص له ولدينه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ربيعة بن عباد الديلي وكان جاهلياً أسلم: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا» وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا، وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا، وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا» إِلَّا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (¬1). قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب (1)}، التباب هو الخسار كما قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَاب (37)} [غافر]. أي: خسار وبدأ بيديه قبل ذاته لأن اليدين هما آلتا العمل والحركة والأخذ والعطاء وما أشبه ذلك. قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب (2)} أي: ماله وما كسب لن يغني عنه شيئاً من عذاب اللَّه والآية تشمل الأولاد وتشمل المال المكتسب الذي ليس في يده الآن وتشمل ما كسبه من شرف وجاه، ¬

(¬1) (25/ 404 - 405) برقم 16023، وقال محققوه: صحيح لغيره.

وكل ما كسبه مما يزيده شرفاً وعزاً فإنه لا يغني عنه شيئاً كما قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه (29)} [الحاقة]. وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار (10)} [آل عمران]. قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب (3)} أي: ذات شرر ولهب وإحراق شديد والمعنى أن اللَّه توعده بأنه سيصلى ناراً ذات لهب عن قريب لأن متاع الدنيا والبقاء فيها مهما طال فإن الآخرة قريبة حتى الناس في البرزخ وإن مرت عليهم السنون الطوال فكأنها ساعة، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35]. وشيء مقدر بساعة من نهار فإنه قريب. قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب (4)} يعني كذلك امرأته معه وهي أم جميل أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان من أشراف قريش لكن لم يغن عنها شرفها لكونها شاركت زوجها في العداء والإثم والبقاء على الكفر، وحمالة الحطب ذكروا أنها تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أجل أذى الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال بعض المفسرين: كما كانت عوناً على زوجها في كفره فإنها تحمل الحطب فتلقيه على زوجها في نار جهنم فتكون عوناً عليه في العذاب (¬1). قوله تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد (5)} الجيد هو العنق ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 497).

والحبل معروف، والمسد هو الليف يعني أنها متقلدة حبلاً من الليف تخرج به إلى الصحراء لتربط به الحطب الذي تأتي به لتضعه في طريق النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬1). قال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة فقالت: لأنُفقنها في عداوة محمد فأعقبها اللَّه بها حبلاً في جيدها من مسد النار (¬2). روى البزار في مسنده من حديث ابن عباس قال: لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب ورسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالس ومعه أبو بكر، فقال له أبو بكر: لو تنحيت لا تؤذيك بشيء فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّهُ سَيُحَالُ بَينِي وَبَينَهَا» فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت: يا أبا بكر هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية، ما نطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمصدق؟ ! فلما ولت قال أبوبكر رضي اللهُ عنه: ما رأتك؟ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا مَا زَالَ مَلَكٌ يَستُرُنِي حَتَّى وَلَّت» (¬3). قال العلماء: في هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة فإنه منذ نزل قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَب (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد (5)}. فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ولم يقيض لهما أن يؤمنا ولا واحد منهما لا ¬

(¬1) تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص: 351. (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 497). (¬3) (1/ 68) برقم 15، وقال البزار: هذا الحديث حسن الإسناد، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/ 738).

ظاهراً ولا باطناً لا سراً ولا علناً فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة (¬1). أما أبو لهب فقد مات شر ميتة وانتقم اللَّه لنبيه منه. قال ابن إسحاق: بعد غزوة بدر بعدة ليال أُصيب بمرض العدسة (¬2). فمات وخاف أولاده أن يقتربوا منه ليدفنوه فيصابوا بالمرض فتركوه ثلاثاً حتى أنتن فقال رجل من قريش: ويحكم ألا تستحيان ادفنوا أباكم فقالوا: نخشى من هذه القرحة فقال: أنا أُعينكم فأخرجوه إلى الصحراء فو اللَّه ما غسلوه إلا قذفاً بالماء من بعيد ما يدنون منه ثم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رموه بالحجارة (¬3)، وإلى جهنم وبئس المصير (¬4). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 499). (¬2) بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد تقتل صاحبها غالباً وهي من البثور المعدية شبهها بعض المعاصرين بمرض الجدري. (¬3) عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 410). (¬4) انظر تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص: 349 - 352.

الكلمة الثامنة والستون: سيرة أبي عبيدة بن الجراح

الكلمة الثامنة والستون: سيرة أبي عبيدة بن الجراح الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها صحابي جليل من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فشهد بدراً وأُحداً والخندق وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، وكان من السابقين إلى الإسلام، فقد هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة، وقد أبلى في معركة أحد بلاء عظيماً، فقد نزع الحلقتين اللتين دخلتا من المغفر في وجه رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأسنانه حتى انتزعت ثنيتاه، وهو أمين هذه الأمة، وهو أحد الرجلين اللذين عينهما أبو بكر للخلافة يوم السقيفة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فقد بشره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنة وهو على قيد الحياة. إنه فارس الإسلام أبو عبيدة عامر بن عبد اللَّه بن الجراح القرشي الفهري المكي وصفه أهل السير بأنه كان رجلاً طويلاً نحيفاً معروق الوجه، خفيف اللحية، أثرم الثنيتين، وقد اشتهر بحسن خلقه وتواضعه وحلمه.

وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على فضله ومكانته منها، ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» (¬1). وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن أهل اليمن قدموا على رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام قال فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ» (¬2). وكان أول مشهد شهده أبو عبيدة بن الجراح مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معركة بدر وقاتل في هذه المعركة قتالاً شديداً. وقال عمر يوماً لجلسائه: تمنوا فتمنوا فقال عمر: ولكني أتمنى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح (¬3). ولما طُعن عمر وأشرف على الموت قيل له: أوص يا أمير المؤمنين قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته (¬4). ومن مواقفه العظيمة التي تدل على شجاعته ونصرته لهذا الدين ما حصل منه من دفاع عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في معركة أحد فقد كان من النفر القلة الذين ثبتوا مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه المعركة، ولما دخلت حلقات المغفر في وجه رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نزعها بأسنانه فسقطت ثنيتاه فما رُئِيَ هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة. ¬

(¬1) ص: 714 برقم 3744، وصحيح مسلم ص: 985 برقم 2419. (¬2) ص: 985 برقم 2418 (¬3) حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 102). (¬4) مسند الإمام احمد (1/ 263) برقم (108)، وقال محققوه: حسن لغيره.

وقد عينه عمر بن الخطاب أخيراً على الجند في الشام. وذكر ابن المبارك في الزهد أن عمر قدم الشام، فتلقاه الأمراء والعظماء فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ قالوا: يأتيك الآن قال: فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا ثم قال لأبي عبيدة: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي، قال: فدخل فلم ير شيئاً قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لبداً (¬1) وصحفة (¬2) وشناً (¬3) وأنت أمير، أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت: إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين يكفيك ما يبلغك المقيل، قال عمر: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة (¬4). قال الذهبي: هذا واللَّه هو الزهد الخالص، لا زهد من كان فقيراً معدماً (¬5). ولما حصل طاعون عمواس بالشام مات منه الآلاف من المسلمين، وكان أبو عبيدة معه ستة وثلاثون ألف فلم يبق معه إلا ستة آلاف رجل، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك أن ¬

(¬1) اللبد هي: الخرق. (¬2) الصحفة: هي إناء مبسوط مثل القصعة. (¬3) الشن: هي قربة خرقة وهي التي تستخدم في السقايا. (¬4) أبو داود في الزهد ص: 126 برقم 123، والبيهقي في شعب الإيمان (15/ 140 - 141)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 101)، وقال محقق كتاب الزهد لأبي داود: أخرجها عبد الرزاق في مصنفه (11/ 311) بإسناد صحيح. (¬5) سير أعلام النبلاء (1/ 17).

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسلِمٍ» (¬1). روى الحاكم من طريق طارق بن شهاب أن عمر كتب إلى أبي عبيدة لما انتشر الطاعون: إنه قد عرضت لي حاجة، ولا غنى بي عنك فيها، فعجل إلي فلما قرأ الكتاب، قال: عرفت حاجة المؤمنين أنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، فكتب: إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزيمتك، فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد (¬2). وقد حصلت لأبي عبيدة كرامة له ولجيشه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر أنه قال: بعث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعثاً قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاث مئة وأنا فيهم فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فَنُصبا ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما فلم تصبهما (¬3). وكانت وفاته سنة ثماني عشرة من الهجرة وله ثمان وخمسون ¬

(¬1) ص: 546 برقم (2830)، وصحيح مسلم ص: 794 برقم 1916. (¬2) (3/ 294) برقم 5146، قال الذهبي: هو على شرط البخاري ومسلم. (¬3) ص: 470 برقم 2483، صحيح مسلم ص: 802 برقم 1935.

سنة. رضي اللَّه عن أبي عبيدة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والستون: شرح اسم الله الغني

الكلمة التاسعة والستون: شرح اسم الله الغني الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في كتاب اللَّه تعالى: «الغني». قال بعضهم ذكر «الغني» في كتاب اللَّه في ثماني عشرة آية. قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 68]. وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيد (8)} [إبراهيم]. والغني في كلام العرب الذي ليس بمحتاج إلى غيره، قال الخطابي: هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لملكة فليست به حاجة إليهم وهم إليه فقراء محتاجون كما وصف نفسه (¬2) فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (15)} [فاطر]. ¬

(¬1) ص: 1409 برقم 7392، وصحيح مسلم ص: 1076 برقم 2677. (¬2) شأن الدعاء ص: 92 - 93.

ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: إن اللَّه تعالى شأنه هو الغني بذاته الذي له الغنى التام من جميع الوجوه لكماله وكمال صفاته فبيده خزائن السماوات والأرض وخزائن الدنيا والآخرة فالرب غني لذاته والعبد فقير لذاته محتاج إلى ربه لا غنى له عنه طرفة عين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والفَقْرُ لي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزمٍ أبداً ... كَمَا أَنَّ الغِنَى أَبداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي (¬1) روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ، ثُمَّ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: ابْنَ آدَمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ (¬2)، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (¬3)، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ» (¬4). فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ولهذا كان من دعائه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَصْلِحْ لِي شَانِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» (¬5). ¬

(¬1) طريق الهجرتين لابن القيم ص: 7. (¬2) الوئيد صوت شدة الوطء على الأرض، أي مشيت متكبراً وتركت النظر في أصلك وفي أمر خالقك. (¬3) التراقي عظام بين ثغرة النحر والعاتق. (¬4) (29/ 385) برقم 17842، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬5) جزء من حديث أخرجه أبو داود ص: 549 برقم 5090، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 3388.

وكان يدعو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (¬1). يعلم عليه الصلاة والسلام أن قلبه بيد الرحمن لا يملك منه شيئاً وأن اللَّه يصرفه كيف يشاء. ثانياً: أن اللَّه تعالى الغني له ملك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (64)} [الحج]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» (¬2) فجميع الخلق مفتقرون إلى اللَّه الغني الواسع في طلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم والعباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كله، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (2)} [فاطر] .. فاللَّه عزَّ وجلَّ هو الغني الذي يطعم ويسقي ويحيي ويميت ويُغني ويفقر، قال تعالى عن إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُون (75) أَنتُمْ ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم. (¬2) ص: 1039 برقم 2577.

وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُون (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين (78)} [الشعراء]. وبالجملة: فإن جميع المخلوقات مفتقرة إليه تعالى في وجودها، فلا وجود لها إلا به، فهي مفتقرة إليه قي قيامها، فلا قوام لها إلا به، فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه، فهو الحي القيوم القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء، القيم لغيره فلا قوام لشيء إلا به، فالخالق له مطلق الغنى وكماله، وللمخلوق مطلق الفقر إلى اللَّه وكماله، قال الشاعر: وَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِه سُبْحَانَهُ ... جَلَّ ثَنَاؤه تعالى شَانُهُ وكُلَّ شَيءٍ رِزْقُهُ عَلَيِهِ ... وَكُلُّنَا مُفْتَقِرٌ إِليْهِ (¬1) ثالثاً: أن اللَّه تعالى غني عن عباده لا يريد منهم طعاماً ولا شراباً لم يخلقهم ليستكثر بهم من قلة، أو يستقوي بهم من ضعف، أو ليستأنس بهم من وحشة بل هم المحتاجون إليه في طعامهم وشرابهم وسائر شؤونهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون (57)} [الذاريات]. رابعاً: أن يتعفف المؤمن عن أموال الناس وحاجاتهم وأن يسأل الغني الكريم من فضله، قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32]. روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ ¬

(¬1)

عَمَّنْ سِوَاكَ» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» (¬3)، فمن اجتهد واستعان باللَّه وألح عليه في السؤال لم يخيبه اللَّه فإنه أمر بالدعاء ووعد عليه الإجابة في جميع الأدعية (¬4). خامساً: أن اللَّه تعالى لكمال غناه واستغنائه عن خلقه قادر على أن يذهب الناس ويأت بخلق جديد وهذا ليس بعزيز على اللَّه، قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِين (133)} [الأنعام]. وقال تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)} [محمد]. سادساً: أن اللَّه جل وعلا قرن غناه بالحمد، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (15)} [فاطر]، لأنه ليس كل غني نافعاً بغناه ¬

(¬1) معارج القبول (1/ 168). (¬2) ص: 559 برقم 3563 وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬3) ص: 287 برقم 1469، صحيح مسلم ص: 404 برقم 1053. (¬4) ص: 1090 برقم 2721.

إلا إذا كان الغني جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم، واستحق عليهم الحمد، وليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 215). (¬2) انظر الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبدالهادي وهبي ص: 62 - 80.

الكلمة السبعون: المسارعة إلى الخيرات

الكلمة السبعون: المسارعة إلى الخيرات الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإنه ينبغي للمؤمن أن يسارع في الخيرات فالعمر قصير والأجل قريب، وابن آدم لا يدري متى يأتيه الموت وأعني بالمسارعة إلى الخيرات أي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها والاستعجال في أدائها وعدم تأخيرها، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين (114)} [آل عمران]. وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران]. وقال تعالى عن نبي اللَّه موسى عليه السَّلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه]. وقال تعالى عن نبي اللَّه زكريا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (90)} [الأنبياء]. وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحث أمته على المسارعة إلى الأعمال الصالحة فإن المؤمن لا يدري ما يعرض له من مرض، أو فتنة، أو أجل. روى مسلم في صحيحه

من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (¬1). وروى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرجل من أصحابه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث مصعب بن سعد عن أبيه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ» (¬3). وقد كان الصحابة رضي اللهُ عنهم يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم فيتسابقون إلى الأعمال الصالحة ويتنافسون في أعمال الآخرة كما أرشد إلى ذلك ربنا سبحانه وتعالى فقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون (26)} [المطففين]. روى أبو داود في سننه من حديث عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ، إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ » قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رضي اللهُ عنه بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ » قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ ¬

(¬1) ص: 72 برقم 118. (¬2) (4/ 341) برقم 7844 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 244) برقم 1077. (¬3) ص: 524 برقم (4810)، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 578) برقم 3009.

اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا (¬1). قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: إن للقلوب شهوة وإدباراً فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها، قال الإمام أحمد بن حنبل: كل شيء من الخير يبادر به. وقال الشاعر: إذَاَ هَبَّت رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سكونُ ولا تَغْفَلْ عَنِ الإحْسَانِ فِيها ... فَما تَدْرِي السكونُ مَتَى يكونُ وإن دَرَّت (¬2) نِيَاقُكَ فَاحْتَلِبْهَا ... فَمَا تَدْرِي الفصيلُ (¬3) لمن يكونُ ومن فوائد المسارعة إلى الخيرات: أولاً: الفوز بجنات النعيم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون (11)} [الواقعة]. والسابقون هم المبادرون إلى فعل الخيرات في الدنيا، وهم في الآخرة سبقوا إلى الجنات فإن السبق هناك على قدر السبق في الدنيا، والجزاء من حسن العمل، قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان (60)} [الرحمن]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير (32)} [فاطر]. ¬

(¬1) ص: 197 برقم 1678، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 315) برقم 1472. (¬2) در الضرع: امتلأ لبناً. (¬3) الفصيل: ولد الناقة، المعجم الوسيط (279 - 691).

قال ابن كثير: «ومنهم سابق بالخيرات هو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات»، وقال ابن عباس: «السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة اللَّه، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد عليه الصلاة والسلام» (¬1). ثانياً: المسارعة بقضاء الفرائض والواجبات فيه إبراء للذمة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الفضل بن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ وَيَمْرَضُ الْمَرِيضُ وَتَكُونُ الْحَاجَةُ» (¬2). ثالثاً: المبادرة بالأعمال الصالحة في أول أوقاتها أفضل من تأخيرها إلا لمن استثناه الدليل. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سئل: أي العمل أفضل؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 322 - 323). (¬2) (3/ 332) برقم 1833، وقال محققوه: حديث حسن. (¬3) ص: 121 برقم 527، وصحيح مسلم ص: 62 برقم 85. (¬4) ص: 134 برقم 615، وصحيح مسلم ص: 186 برقم 437.

«لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ» (¬1). رابعاً: أن المبادرة إلى الأعمال الصالحة فيها استجابة لأمر اللَّه ورسوله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ». قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟ ! » قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَاكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ (¬2). وأختم هذه الكلمة بما ذكره اللَّه في كتابه عن فضل أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذين أسلموا قبل الفتح على الذين أسلموا بعد قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي ¬

(¬1) ص: 186 برقم 438. (¬2) ص: 789 برقم (1901).

مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الواحدة والسبعون: شرح حديث «احفظ الله يحفظك»

الكلمة الواحدة والسبعون: شرح حديث «احفظ الله يحفظك» الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، روى الترمذي في سننه من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللهُ عنهما قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (¬1). هذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم شرحاً عظيماً، ومما جاء في كلامه رحمه الله: «هذا الحديث تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفاً من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه». قوله: «احفَظِ اللَّهَ»: يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ¬

(¬1) ص: 409 برقم 2516، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ونواهيه وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود اللَّه الذين مدحهم اللَّه في كتابه. فقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظ (32)} [ق]. وفسر الحفيظ ها هنا بالحافظ لأوامر اللَّه وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها، ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر اللَّه الصلاة وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة، وحفظ الإيمان وحفظ الرأس ويدخل فيه السمع والبصر واللسان وحفظ البطن ويدخل فيه عدم إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب. قوله: «يَحفَظكَ»: يعني أن من حفظ حدود اللَّه وراعى حقوقه حفظه اللَّه فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وحفظ اللَّه لعبده يدخل فيه نوعان: الأول: حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد: 11]. قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر اللَّه فإذا جاء القدر خلوا عنه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ

الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (¬1). كان بعض العلماء قد جاوز المئة عام وهو متمتع بقوته وعقله فوثب يوماً وثبة شديدة فعُوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها اللَّه علينا في الكبر، وقد يحفظ اللَّه العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، كما قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]، فإنهما حفظا بصلاح أبيهما. النوع الثاني: من الحفظ وهو أشرف النوعين: حفظ اللَّه للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَاخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ»، ثم قال في آخر الحديث: «وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي، بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» (¬2). قوله: «احفَظِ اللَّهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ» وفي رواية: «أَمَامَكَ». معناه: أن من حفظ حدود اللَّه وراعى حقوقه وجد اللَّه معه في كل أحواله ¬

(¬1) ص: 547، برقم 5074، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 248). (¬2) ص: 1216، برقم 6320، وصحيح مسلم ص: 1088 برقم 2714.

حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون (128)} [النحل: 128]. قال قتادة: «من يتق اللَّه يكن معه ومن يكن اللَّه معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا مضل له». قوله: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»: هذا منتزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين (5)} [الفاتحة]. فإن السؤال للَّه هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة (¬1). فتضمن هذا الكلام أن يسأل اللَّه عزَّ وجلَّ ولا يسأل غيره وأن يستعان باللَّه دون غيره، فأما السؤال فقد أمر اللَّه بمسألته، قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32]. وفي النهي عن سؤال المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة، وقد بايع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه. قوله: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ¬

(¬1) حديث في سنن أبي داود ص: 177 برقم 1479، وانظر صحيح الجامع الصغير برقم 3407.

ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (22)} [الحديد]. وفي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث جابر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» (¬2). قال عبيد اللَّه بن عتبة: واصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَحْتُومِ وارْضَ به ... وإِنْ أَتَاكَ بِمَا لا تَشتهِي القَدَرُ فَمَا صَفَا لامْرِئٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ ... إلا سَيَتْبَعُ يَوْماً صَفْوَهُ كَدَرُ ومدار جميع هذه الوصايا على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب اللَّه له من خير وشر ونفع وضر وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذٍ أن اللَّه وحده هو الضار النافع المعطي المانع فأوجب ذلك العبد توحيد ربه عزَّ وجلَّ وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير اللَّه أوجب ذلك أفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً وأنه يتقي ¬

(¬1) ص: 1065 برقم 2653. (¬2) ص: 357 برقم 2144 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 226).

سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً وإفراده بالاستعانة والسؤال له وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان عليه المشركون من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون (38)} [الزمر]. وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (2)} [فاطر]. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية والسبعون: تأملات في قوله تعالى: {متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا}

الكلمة الثانية والسبعون: تأملات في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]. وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آيات من كتاب اللَّه ونتدبر ما فيها من العظات والعبر. قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَاسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)} [الإنسان]. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا (13)} الاتكاء هو التمكن من الجلوس في حال الرفاهية والطمأنينة،

والأرائك هي السرر التي عليها اللباس، ولا يرون فيها شمساً أي ليس يضرهم حر ولا زمهرير أي برد شديد بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل بحيث تلتذ به الأجساد ولا تتألم من حر ولا برد فهو مزاج واحد دائم سرمدي {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً (108)} [الكهف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قَالَتِ النَّارُ: رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَاذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ» (¬1). قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14)}: قريبة إليهم أغصانها {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14)} أي: متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع كما في قوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَان (54)} [الرحمن]. وكما في قوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَة (23)} [الحاقة]. قال مجاهد: إن قام ارتفعت معه بقدر وإن قعد تذللت له. قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)} أي: يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهي من فضة وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم. قوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ}: قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج والقوارير لا تكون إلا من زجاج. ¬

(¬1) ص: 245 برقم 617 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 122 برقم 537.

فهذه الأكواب هي من فضة وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها وهذا مما لا نظير له في الدنيا. قوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} أي: على قدر ريّهم لا تزيد عنه ولا تنقص بل هي معدة لذلك وهو قول جمع من المفسرين وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة (¬1). قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَاسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17)}، أي: ويسقون الأبرار فيها في هذه الأكواب {كَاسًا} أي: خمراً {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (17)} فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج من هذا تارة ومن هذا تارة، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفاً كما قال قتادة وغير واحد. قوله تعالى: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)}، قال قتادة: اسم للعين التي يشربون بها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة، وقال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جَريها، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق، واختار هو أنها تعم ذلك كله، قال ابن كثير: وهو كما قال (¬2). قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19)}، أي: يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان صغارمن ولدان الجنة مخلدون أي على حالة واحدة لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 213). (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 214) وتفسير القرطبي (21/ 477).

تلك السن. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19)}، أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤاً منثوراً. ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ولا في النظر أحسن من الؤلؤ المنثور على المكان الحسن. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}، أي: إذا رأيت يا محمد هناك في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبْرة والسرور رأيت نعيماً وملكاً كثيراً أي مملكة للَّه هناك عظيمة وسلطاناً باهراً، قال سفيان الثوري: بلغنا أن الملك الكبير تسليم الملائكة عليهم، دليله، قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار (24)} [الرعد]. روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ؟ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبِّ! فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ! قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ

عَزَّ وَجَلَّ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]» (¬1). قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}، أي: لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر كما هو المعهود في اللباس {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} الذكور والإناث، هذه صفة الأبرار، أما المقربون فإنهم كما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير (33)} [فاطر]. قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}: أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الخلائق الرّديَّة كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر]. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم بنضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبداً ثم يشربون من الأخرى فتخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين (73)} [الزمر]. وقال النخعي وأبو قلابة: إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك وضمرت بطونهم (¬2). ¬

(¬1) ص: 105 برقم 189. (¬2) تفسير القرطبي (21/ 484 - 485).

قال الشاعر: وجَنَّاتُ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ ... لِقَومٍ على التَّقوَى دَوَامَاً تبتَّلُ بها كلُّ ما تَهْوَى النفوسُ وتَشْتَهِي ... وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرْحَلُ ملابِسُهُم فِيها حريرٌ وسندسٌ ... وإستبرقٌ لا يعتريه التَّحلُّلُ وأزواجُهُم حورٌ حِسانٌ كواعبٌ ... عَلَى مِثْل شَكْلِ الشمسِ بَلْ هُوَ أَشْكَلُ يُطَافُ عَلَيْهِم بالِّذِي يَشْتَهونَهُ ... إذَا أَكَلُوا نَوْعاً بِآخرَ بَدَّلوا وقال آخر: فَاعْمَلْ لِدَارٍ غداً رِضْوَانُ خَازِنُها ... الجَارُ أَحْمَدُ والرَّحمنُ بانِيهَا قُصورُها ذَهَبٌ والمِسْكُ طِينَتُها ... والزَّعفَرَانُ حَشيشٌ نَابِتٌ فِيهَا قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)}. أي: يقال لهم ذلك تكريماً لهم وإحساناً إليهم كما قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة (24)} [الحاقة]. وكما قال تعالى: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (43)} [الأعراف]. قوله تعالى: {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)}، أي: جزاكم اللَّه على القليل بالكثير كما قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)} [الإسراء]. والحمد للَّه رب العالمين صلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثالثة والسبعون: الوفاء

الكلمة الثالثة والسبعون: الوفاء الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من الأخلاق الجميلة والصفات الحميدة التي حث عليها الشرع ورغَّب فيها: الوفاء، قال الراغب: الوفاء بالعهد إتمامه وعدم نقض حفظه (¬1)، وللوفاء أنواع عديدة باعتبار المُوفى به فهي قد تكون وفاء بالعهد وقد تكون وفاء بالعقد أو الميثاق، وقد تكون وفاء بالوعد. فالوفاء بالعهد كما ذكر الراغب إتمامه وعدم نقض حفظه، قال ابن عباس: العهود ما أحل اللَّه وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله (¬2). قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا (34)} [الإسراء]. وأما الوفاء بالعقد فالمراد به إما العهد وبذلك يتطابق مع التعريف الأول وقيل: العقود هي أوكد العهود، وقيل: هي عهود الإيمان والقرآن وقيل: هي ما يتعاقده الناس فيما بينهم (¬3)، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. أما الوفاء ¬

(¬1) المفردات ص: 528. (¬2) عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (4/ 62 - 63). (¬3) مختصر تفسير البغوي (1/ 210).

بالوعد فالمراد به أن يصبر الإنسان على أداء ما يعد به الغير ويبذله من تلقاء نفسه ويرهنه به لسانه حتى وإن أضربه ذلك. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللهُ عنهما قال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه «أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال: وهذه صفة نبي» (¬1). وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح. روى البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» (¬2). وأداء الدين من الوفاء، روى البخاري في صحيحه من حديث وهب بن كيسان عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنه أنه أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليشفع له إليه، فجاء رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النخل فمشى فيها، ثم قال لجابر: «جُدَّ لَهُ فَأَوفِ لَهُ الَّذِي لَهُ»، فجده بعد ما رجع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬3). وأداء حقوق اللَّه تعالى من الوفاء بالعهد. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ ¬

(¬1) ص: 510 برقم 2681 وصحيح مسلم ص: 736 - 737 برقم 1773. (¬2) ص: 520 برقم 2721 وصحيح مسلم ص: 558 برقم 1418. (¬3) ص: 449 برقم 2396.

إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» (¬1). والوفاء بالعهد من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54)} [مريم]. قال ابن كثير: فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خُلْفه من الصفات الذميمة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون (3)} [الصف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬2). ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ولهذا أثنى اللَّه على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد وكذلك كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به. وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: «حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي» (¬3) (¬4). اهـ. روى البخاري ومسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: لما مات ¬

(¬1) ص: 353 برقم 1852. (¬2) ص: 30 برقم 33، وصحيح مسلم ص: 56 برقم 59. (¬3) ص: 595 برقم 3110، وصحيح مسلم ص: 994 برقم 2449. (¬4) تفسير ابن كثير (9/ 258 - 259).

النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دين، أو كانت له قبله عدة، فليأتنا. قال جابر: فقلت وعدني رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، قال جابر: فعد في يدي خمسمئة ثم خمسمئة ثم خمسمئة (¬1). وبين النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن الوفاء بالوعد جزاؤه الجنة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» (¬2). قال الشاعر: فَإِن تُجمَعِ الآفاتُ فالبُخْلُ شَرُّهَا ... وَشَرٌّ مِنَ البخلِ المواعيدُ والمَطلُ ولا خَيْرَ فِي وعدٍ إذا كانَ كاذباً ... ولا خيرَ في قولٍ إذا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ ومما تقدم يتبين لنا فضل الوفاء وأنه من أوجب الواجبات. وإن من مظاهر عدم الوفاء التي انتشرت في بني آدم وهي كثيرة: عدم الوفاء بعهد اللَّه وميثاقه، فإن اللَّه قد أخذ على بني آدم وذريته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين (172)} [الأعراف]. ¬

(¬1) ص: 510 برقم 2683، وصحيح مسلم ص: 947 برقم 2314. (¬2) (37/ 417) برقم 22757، وقال محققوه: حسن لغيره.

روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِى صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ - أَحْسَبُهُ قَالَ -: وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ» (¬1). ومنها عدم الوفاء مع الوالدين فإنهما السبب بعد اللَّه في وجود الإنسان، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23)} [الإسراء]. ونسمع قصصاً عجيبة للتنكر لجميل الوالدين يندى لها الجبين، ويتفطر منها القلب. ومنها عدم الوفاء بين الزوجين، فالمرأة ينبغي أن تكون وفيةً لزوجها، وكذلك الزوج يكون وفيًّا لزوجته فإن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مدح أم المؤمنين خديجة وكان وفيًّا لها؛ فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغِرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك اللَّه عزَّ وجلَّ بها خيراً منها، قال: «مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» (¬2). ¬

(¬1) ص: 1255 برقم 6557، وصحيح مسلم ص: 1128 برقم 2805. (¬2) (41/ 356) برقم 24864 وقال محققوه: حديث صحيح.

ومن وفائه أنه كان يذبح الشاة ويقطع اللحم ويوزعه على أصدقاء خديجة وعندما دخلت أخت خديجة هاله رحب بها وأكرمها (¬1)، وقال: «حُسنُ العَهدِ مِنَ الإِيمَانِ» (¬2). وإن مما أشاع التفكك الأسري في مجتمعات المسلمين وأثار المشكلات بين الأزواج هو الإخلال بهذه الخلة. ومنها عدم الوفاء بين الأصدقاء، فإن بعض الناس يكون له صديق إما في تجاره أو دراسة أو في عمل أو غير ذلك، فإذا ارتفع في دنياه إما بحصوله على منصب عال أو أصبح من أصحاب الأموال الطائلة أو غير ذلك، ترفع عن أصدقائه ولم يظهر لهم الود السابق وكأنه لا يعرفهم قبل ذلك وهذا ليس من الوفاء بل من التنكر للجميل، وليس من شيم الرجال ولا من أخلاقهم. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 725 رقم 3816، وصحيح مسلم ص: 988 برقم 2435. (¬2) مستدرك الحاكم (1/ 165) رقم 41 وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقال محقق المستدرك: وهو حديث حسن بشواهده إن شاء اللَّه.

الكلمة الرابعة والسبعون: سيرة جعفر بن أبي طالب

الكلمة الرابعة والسبعون: سيرة جعفر بن أبي طالب الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها صحابي جليل من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبَر هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام، وممن هاجر الهجرتين الأولى للحبشة والثانية للمدينة، وكان أحد قادة المسلمين في معركة مؤتة الشهيرة، وله قرابة من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو ابن عم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال عنه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: «أَشبَهتَ خَلقِي وَخُلُقِي» (¬1)، قال الذهبي: وقد سر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقدومه من الحبشة، واللَّه حزن كثيراً عند استشهاده (¬2). إنه الشهيد البطل علم المجاهدين جعفر بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب القرشيّ الهاشمي أبو عبد اللَّه ويلقب بأبي المساكين شقيق علي بن أبي طالب وأكبر منه بعشر سنين، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة موقوفاً عليه أنه قال: ما احتذى النعال، ولا ¬

(¬1) ص: 515 برقم 2699. (¬2) سير أعلام النبلاء (1/ 206).

انتعل، ولا ركب المطايا، ولا ركب الكُور (¬1) بعد رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضل من جعفر بن أبي طالب (¬2)، يعني في الجود والكرم. وقد كانت لهذا الصحابي مواقف بطولية تدل على شجاعته العظيمة ونصرته لهذا الدين، فمن تلك المواقف العظيمة أنه بعد رجوعه من هجرته من الحبشة التي دامت عشر سنين بعيداً عن أهله ووطنه، كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِتَوِّهِ قد انتهى من فتح خبير ففرح بقدومه كثيراً، لكن هذه الفرحة لم تستمر طويلاً فالأعمال كثيرة، والوقت قصير، فقد أرسله النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع جيش المسلمين المتجه إلى الشام لقتال الروم، وكان عددهم ثلاثة آلاف مقاتل وأمر عليهم زيد بن حارثه، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة وبدأت المعركة، ونظراً لعدم التكافؤ بين جيش المسلمين وعدوهم، فقد أظهر المسلمون بطولات وتضحيات عظيمة، ففي بداية المعركة وبعد قتال شديد قتل زيد بن حارثة فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فعقر جواده، وكان فارساً من فرسان العرب، قال ابن اسحاق: هو أول من عقر في الإسلام (¬3) فجعل ينشد هذه الأبيات. يا حبّذا الجنّةُ واقترابُها ... طَيِّبةٌ وباردٌ شرابُها والرومُ رومٌ قَد دَنا عذابُها ... عَلَيَّ إذ لاقيتُها ضِرَابُها وكان يمسك الراية بيده اليمنى فقطعوا يده اليمنى، فأمسك الراية ¬

(¬1) والكور الرحل الذي في الناقة. (¬2) ص: 586 برقم 3764 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬3) السيرة النبوية (3/ 332).

بيده اليسرى فقطعوا يده اليسرى، فضم الراية إلى صدره فتكاثروا عليه فقتلوه (¬1)، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (170)} [آل عمران]. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود عن هذه الآية {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا} الآية. قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أَروَاحُهُم فِي جَوفِ طَيرٍ خُضرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرشِ، تَسرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ شَاءَت، ثُمَّ تَأوِي إِلَى تِلكَ القَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ عَلَيهِم رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَل تَشتَهُونَ شَيئاً؟ قَالُوا: أَيَّ شَيءٍ نَشتَهِي، وَنَحنُ نَسرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ شِئنَا؟ ! » (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللهُ عنه أنه قال: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين، من طعنة ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام (3/ 333). (¬2) ص: 785 برقم 1887. (¬3) ص: 716 برقم 3757.

ورمية (¬1). وفي رواية: ليس منها شيء في دبره (¬2). وصدق اللَّه إذ يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} [الأحزاب]. روى الحاكم في المستدرك والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَرَّ بِي جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ فِي مَلَأٍ مِنَ المَلَائِكَةِ وَهُوَ مُخَضَّبُ الجَنَاحَينِ بِالدَّمِ، أَبيَضُ الفُؤَادِ» (¬3). وفي رواية أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ يَطِيرُ مَعَ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ» (¬4). فقد عوضه اللَّه عن يديه المقطوعتين في المعركة بأن جعله يطير في الجنة مع الملائكة، وهذه منقبة عظيمة له رضي اللهُ عنه وأرضاه. وفي صحيح البخاري أن ابن عمر كان إذا سلم على عبد اللَّه بن جعفر يقول: السلام عليك يا ابن الجناحين (¬5). قال أبو عبد اللَّه: الجناحان: «كل ناحيتين». ومن مناقبه العظيمة: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث ¬

(¬1) ص: 806 برقم 4261. (¬2) ص: 806 برقم 4260. (¬3) مستدرك الحاكم (4/ 222)، وقال: هذا حديث صحيح على شرح مسلم ولم يخرجاه وحسنه الحافظ في الفتح (7/ 76). (¬4) مستدرك الحاكم (4/ 218) برقم 4988، وسنن الترمذي ص: 586 برقم 3763 وصححه الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 226) برقم 1226. (¬5) ص: 710 برقم 3709.

البراء أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» (¬1). وبعد استشهاد جعفر ورجوع الجيش إلى المدينة دخل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أسماء بنت عميس زوجة جعفر ودعا بأبناء جعفر فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه من الدموع حزناً على أخيه جعفر فقالت أسماء: يا رسول اللَّه هل بلغك عن جعفر شيء؟ قال: «نَعَم، قُتِلَ» فقامت تبكي فقال: «لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ». ثم قال: «ادْعُوا لِي ابْنَيْ أَخِي» قال عبد اللَّه بن جعفر: فجيء بنا كأنا أُفْرُخ، فقال: «ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ» فجيء بالحلاق، فحلق رؤوسنا، ثم قال: أما محمد، فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد اللَّه، فشبيه خَلْقي وخُلُقي، ثم أخذ بيدي، فأشالها (¬2). فقال: «اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَراً فِي أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ» قالها ثلاث مرار، قال: فجاءت أُمُّنا، فذكرَتْ لَهُ يُتمَنَا وجعلَتْ تُفْرِحُ له (¬3)، فقال: «الْعَيْلَةُ (¬4) تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ! » (¬5). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اصنَعُوا لِآلِ جَعفَرَ ¬

(¬1) ص: 515 برقم 2699. (¬2) أي: رفعها. (¬3) قال ابن الأثير في النهاية (3/ 424): إن كانت بالحاء فهو من أفرحه إذا غمه وأزال عنه الفرح وأفرحه الدين إذا أثقله، وإن كانت بالجيم فهو من المفرج الذي لا عشيرة له فكأنها أرادت أن أباهم توفي ولا عشيرة له. (¬4) العيلة: الفقر والفاقة والحاجة. (¬5) (3/ 280) برقم 1750 وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم من قوله: لا تبكوا على أخي.

طَعَاماً، فَقَد أَتَاهُم أَمرٌ يَشغَلُهُم أَو أَتَاهُم مَا يَشغَلُهُم» (¬1). ومن أخلاقه العظيمة: الكرم والبذل والسخاء ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: كنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي، كي ينقلب بي فيطمعني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العُكَّة (¬2) التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها (¬3). وكان قتله رضي اللهُ عنه سنة ثمان من الهجرة، وهو في ريعان شبابه، قال بعض المؤرخين: قتل وعمره بضع وثلاثون سنة، رضي اللَّه عن جعفر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (3/ 280) برقم 1751 وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) العكة: وعاء من الجلد مستدير يوضع فيه السمن والعسل. (¬3) ص: 710 برقم 3708.

الكلمة الخامسة والسبعون: خطورة السحر وتحريم الذهاب إلى السحرة

الكلمة الخامسة والسبعون: خطورة السحر وتحريم الذهاب إلى السحرة الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون (102)} [البقرة]. فقد أخبر سبحانه بكذب الشياطين فيما تلته على ملك سليمان ونفى عنه ما نسبوه إليه من السحر بنفي الكفر عنه مما يدل على كون السحر كفراً، وأكد كفر الشياطين وذكر صورة من ذلك وهي تعليم الناس السحر، ومما يؤكد كفر متعلم السحر: قوله تعالى عن الملكين اللذين يعلمان الناس السحر ابتلاءً لمن جاء متعلماً: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} أي: لا تكفر بتعلم السحر، ثم أخبر سبحانه أن تعلم السحر ضرر لا نفع فيه فقال: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} وما لا نفع فيه وضرره محقق لا يجوز تعلمه.

ثم قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أي: لقد علم اليهود فيما عهد إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة، قال ابن عباس: ليس له نصيب، وقال الحسن: ليس له دين فدلت الآية على تحريم السحر وعلى كفر الساحر وعلى ضرر السحر على الخلق، قال سبحانه: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه]. ففي هذه الآية الكريمة نفى الفلاح نفياً عن الساحر عاماً في أي مكان وهذا دليل على كفره. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ» قالوا: يا رسول اللَّه ما هي: قال: «الشِّركُ بِاللَّهِ، وَالسِّحرُ» ثم ذكر البقية الأخرى (¬1). وهذا يدل على عظم جريمة السحر لأنه قرنه بالشرك وعده من السبع الموبقات التي نهى عنها لكونها تهلك فاعلها في الدنيا، لما يترتب عليها من الأضرار الحسية والمعنوية وتهلكه في الآخرة بما يناله بسببها من العذاب الأليم. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (¬3)، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناس ¬

(¬1) ص: 533 رقم 2766، وصحيح مسلم ص: 63 برقم 89. (¬2) (15/ 331) برقم 9536 وقال محققوه: حديث حسن. (¬3) ص: 917 برقم 2230.

رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الكهان فقال: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» قالوا: يا رسول اللَّه فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ كَذْبَةٍ» (¬1). ففي هذه الأحاديث النهي عن إتيان العرافين والكهنة والسحرة وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك، وفيها دليل على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون اللَّه وذلك كفر باللَّه وشرك به سبحانه. والساحر لا يتمكن من سحره إلا بالخروج من هذا الدين إما بالذبح للجن أو الاستغاثة بهم أو إهانة كلام اللَّه أو غير ذلك من الموبقات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يكتبون كلام اللَّه بالنجاسة وقد يقلبون حروف كلام اللَّه، إما حروف الفاتحة، وإما حروف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} [الإخلاص]، وإما غيرهما، إما بدم وإما غيره، وإما بغير نجاسة، أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان أو يتكلمون بذلك» (¬2). «ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة للَّه ولرسوله ¬

(¬1) ص: 1196 برقم 6213، وصحيح مسلم ص: 916 - 917 برقم 2228. (¬2) الفتاوى (19/ 35).

ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ، ولهذا كان سحر عُباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام وهم الذين سحروا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» (¬1). والنصوص السابقة من الكتاب والسنة تدل على كفر الساحر كما تقدم مما يدل على أنه يُستتاب فإن تاب وإلا قتل، وذهب بعض العلماء إلى قتله بدون استتابة، روى الترمذي في سننه من حديث جندب رضي اللهُ عنه موقوفاً عليه أنه قال: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ» (¬2) وورد عن طائفة من صحابة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قتل الساحر والأمر بذلك ولم يوجد بينهم خلاف في ذلك. والسحر داء يؤثر فيمرض الأبدان، ويقتل ويفرق بين المرء وزوجة وشرع للمرء الذي أُصيب به ويسعى في علاجه الأخذ بالأسباب المباحة المؤدية إلى الشفاء لأن اللَّه تعالى جعل لكل داء دواء. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» (¬3). ويعالج السحر بالقرآن والأدعية المشروعة والأدوية المباحة. قال ابن القيم رحمه الله: «وقد رُوي عنه فيه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي في علاج السحر نوعان: أحدهما وهو أبلغها استخراجه وإبطاله كما صح عنه أنه سأل ربه سبحانه في ذلك فدُل عليه. والنوع الثاني: الاستفراغ ¬

(¬1) بدائع الفوائد (2/ 758). (¬2) ص: 257 برقم 1460. (¬3) ص: 1116 برقم 5678.

في المحل الذي يصل إليه أذى السحر» (¬1). وقال أيضاً: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر، والدعاء، والقراءة، فالقلب إذا كان ممتلئاً من اللَّه معموراً بذكره وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال ومن ضعف حظه من الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات والتعوذات النبوية، لأن الأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها (¬2). اهـ. قال ابن حجر: وجواز السحر على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع عظيم مقامه وصدق توجهه، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره - يعني ابن القيم - محمول على الغالب، وأن ما وقع به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبيان تجويز ذلك واللَّه أعلم (¬3). وأما علاج السحر بالسحر فهذا حرام لعموم النصوص الواردة في تحريم السحر لأنه من عمل الشيطان، ولا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين، واستعمال ما يقولون لأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبِّسون على الناس. ¬

(¬1) زاد المعاد (4/ 114). (¬2) الطب النبوي ص: 252 بتصرف. (¬3) فتح الباري (10/ 235) يشير إلى الأحاديث الصحيحة التي تثبت أنه سُحر عليه الصلاة والسلام.

روى الإمام أبو داود، من حديث جابر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سئل عن النشرة فقال: «هِيَ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ» (¬1)، والنشرة هي حل السحر عن المسحور والمراد بالنشرة الواردة في الحديث النشرة التي يتعاطاها أهل الجاهلية وهي سؤال الساحر لحل السحر بسحر مثله. فإذا علم ما تقدم ذكره تبين أن ما يفعله بعض الناس من الاتصال ببعض القنوات الفضائية للسحرة وسؤالهم عما يحدث له من مشاكل، أو هموم، أو قضايا اجتماعية، أمر محرم بل هو في غاية الخطورة ويقدح بالعقيدة وكيف يقدم مسلم على ذلك، وهو يعلم الآيات والأحاديث الواردة في ذم السحرة والنهي عن إتيانهم وتصديقهم، ومن فعل ذلك فإنه يخشى على إيمانه وتوحيده. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (3868)، وقال الحافظ في الفتح (10/ 233): إسناده حسن.

الكلمة السادسة والسبعون: تفسير سورة الهمزة

الكلمة السادسة والسبعون: تفسير سورة الهمزة الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن سور القرآن العظيم الذي تتكرر على أسماعنا وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة الهمزة، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَه (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه (3) كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَة (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة (9)} [الهمزة]. قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة (1)} ويل كلمة تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات، قال أهل العلم: الهمز بالفعل كأن يلوي وجهه أو يشير بيده ونحو ذلك لعيب شخص أو تنقصه، واللمز باللسان وهو من الغيبة المحرمة، قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِين (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيم (11)} [القلم]. وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون (58)} [التوبة]. قوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَه (2)} هذه أيضاً من

أوصافه القبيحة جماع مناع. أي يجمع المال ويمنع العطاء فهو بخيل لا يعطي شيئاً. قال بعض المفسرين: أي إن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس هو جمعه المال وتعديده أي عده مرة بعد أخرى شغفاً به وتلذذاً بإحصائه لأنه لا يرى عزاً ولا شرفاً ولا مجداً في سواه، قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ» (¬1). قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه (3)} أي: أيظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه مخلده في الدنيا فمزيل عنه الموت كلا، قال تعالى لنبيه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون (34)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]. قوله تعالى: {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَة (4)}، {كَلاَّ}: أي: فليرتدع عن هذا الحسبان فإن الأمر ليس كما يظن بل لا بد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال، و {لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَة (4)} أي: ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تكسر كل ما يُلقى فيها وتحطمه ¬

(¬1) ص: 555 برقم 2887.

والنبذ تفيد التحقير والتصغير. قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة (5)}. استفهام عنها لتهويل أمرها كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول ثم فسرها بقوله سبحانه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة (6)} أي: هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه، قال أبوالسعود: وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد أي المشتعلة من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه (¬1). قوله تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة (7)}، قال ابن جرير: أي التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب (¬2)، وقال الزمخشري: يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم وهي أوساط القلوب ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه؟ ! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة (¬3). قال بعض المفسرين: وخص الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه أي أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون (¬4) كما قال تعالى: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى (13)} [الأعلى]. وقال تعالى: {وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ ¬

(¬1) تفسير أبي السعود (9/ 199). (¬2) تفسير الطبري (12/ 689). (¬3) الكشاف (4/ 223). (¬4) زاد المسير في علم التفسير (9/ 229 - 230).

مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَأَىئِهِ عَذَابٌ غَلِيظ (17)} [إبراهيم]. وقال تعالى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور (36)} [فاطر]. قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة (8)}، أي: مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها. قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة (9)}، قال الزمخشري: «المعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على العمد استيثاقاً في استيثاق» (¬1) وصدق اللَّه إذ يقول: {نَبِّاءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم (50)} [الحجر]. قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِين (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُوم (44)} [الحجر]. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: تأمل الآن لو أن إنساناً كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مهرب الأبواب مغلقة ماذا يكون؟ سيصبح في حسرة عظيمة لا تماثلها حسرة وهكذا في النار {عَلَيْهِم مُّؤْصَدَة (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة (9)}، أي: إن النار مؤصدة وعليها أعمدة ممددة أي ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها. وينبغي للمؤمن أن يحذر من هذه الصفات الذميمة، عيب الناس ¬

(¬1) الكشاف (4/ 223).

بالقول أو الفعل، والحرص على المال، وجمعه كأن الإنسان خلق للمال ليخلد له، وأن من كانت هذه صفاته فإن جزاءه هذه النار (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر تفسير الشيخ ابن عثيمين لجزء عم ص: 318 - 322.

الكلمة السابعة والسبعون: شرح اسم الله الشهيد

الكلمة السابعة والسبعون: شرح اسم الله الشهيد الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة: الشهيد، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]. وقال سبحانه: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)} [الإسراء]. قال الزجاج: الشهيد الحاضر (¬2)، وقال الزجاجي: الشهيد في اللغة بمعنى الشاهد كما أن العليم بمعنى العالم والشاهد خلاف الغائب كقول العرب: فلان كان شاهداً لهذا الأمر أي لم يغب عنه (¬3). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: ¬

(¬1) ص: 526 برقم 2736، وصحيح مسلم ص: 1076 برقم 2677. (¬2) تفسير الأسماء للزجاج ص: 53. (¬3) اشتقاق الأسماء للزجاجي ص: 132 نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (1/ 439) بتصرف.

أولاً: أن اللَّه عزَّ وجلَّ هو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء وإن دق وصغر، فهو سبحانه شهيد على العباد وأفعالهم ليس بغائب عنهم، كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِين (7)} [الأعراف]. فينبغي لكل عامل أراد عملاً صغر العمل أو كبر أن يقف وقفة عند دخوله فيه فيعلم أن اللَّه شهيد عليه فيحاسب نفسه فإن كان دخوله فيه للَّه مضى فيه، وإلا رد نفسه عن الدخول فيه وتركه (¬1). وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (61)} [يونس]. روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: خطب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثم قال: {كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين (104)} [الأنبياء]. ثم قال: «أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلَائِقِ يُكسَى يَومَ القِيَامَةِ إِبرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِن أُمَّتِي فَيُؤخَذُ بِهِم ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدرِي مَا أَحدَثُوا بَعدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبدُ الصَّالِحُ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد (117)} ¬

(¬1) النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (1/ 443): نقلاً عن كتاب الحجة في بيان المحجة للأصبهاني.

[المائدة] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَم يَزَالُوا مُرتَدِّينَ عَلَى أَعقَابِهِم مُنذُ فَارَقتَهُم» (¬1). ثانياً: أن اللَّه سبحانه وتعالى أعظم شيء شهادة كما قال سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون (19)} [الأنعام]. قال ابن جرير: يقول اللَّه تعالى ذكره لنبيه محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويجحدون بنبوتك من قومك: أي شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة هو اللَّه الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في شهادة غيره من خلقه من السهو والخطأ والغلط والكذب (¬2). ثالثاً: شهد اللَّه سبحانه وتعالى لنفسه بأنه واحد أحد، فرد صمد لا شريك له ولا وزير ولا ند ولا نظير، وشهدت ملائكته وأولو العلم بذلك كما في قوله جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (18)} [آل عمران]. فتضمنت الآية أعظم شهادة من أعظم شهيد. رابعاً: أن اللَّه تعالى هو الشهيد على أفعال العباد وأقوالهم ويتجلى ذلك يوم القيامة عند محاسبتهم وتقرير أحوالهم. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: كنا عند رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضحك فقال: «هَل تَدرُونَ مِمَّ أَضحَكُ؟ » قال: قلنا: اللَّه ورسوله ¬

(¬1) ص: 880 برقم 4625، وصحيح مسلم ص: 1147 برقم 2860. (¬2) تفسير ابن جرير (5/ 161).

أعلم، قال: «مِن مُخَاطَبَةِ العَبدِ رَبَّهُ»، يقول: «يَا رَبِّ! أَلَم تُجِرنِي مِنَ الظُّلمِ؟ » قال: «يَقُولُ: بَلَى»، قال: «فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفسِي إِلَّا شَاهِداً مِنِّي»، قال: «فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ شَهِيداً، وَبِالكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُوداً»، قال: «فَيُختَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَركَانِهِ: انطِقِي»، قال: «فَتَنطِقُ بِأَعمَالِهِ»، قال: «ثُمَّ يُخَلَّى بَينَهُ وَبَينَ الكَلَامِ» قال: «فَيَقُولُ: بُعداً لَكُنَّ وَسُحقاً، فَعَنكُنَّ كُنتُ أُنَاضِلُ» (¬1). قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (65)} [يس]. خامساً: أن من أعظم ثمرات الإيمان بهذا الاسم أن يستحضر العبد شهود اللَّه له عند كل عمل يعمله أو كلاماً يقوله أو نية يعقدها، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (7)} [المجادلة] (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1191 برقم 2969. (¬2) انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى للنجدي (1/ 439 - 451).

الكلمة الثامنة والسبعون: أحداث الدانمارك

الكلمة الثامنة والسبعون: أحداث الدانمارك الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن عداوة الكفار للمسلمين أزلية، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10]. وقال سبحانه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. وفي هذه الأيام تطاول هؤلاء النصارى بدعم من اليهود عليهم لعائن اللَّه المتتابعة إلى يوم القيامة على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونشرت الصحف الدنماركية الصور والمقالات السيئة التي تتضمن السخرية والاستهزاء بهذا النبي الكريم كل هذا بحجة الديمقراطية والحرية. ولا شك أن الاستهزاء بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استهزاء بالإسلام وبالرب تعالى الذي أرسله إلينا، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون (158)} [الأعراف].

ونحن نتساءل لماذا لا تكون الحرية في مهاجمة اليهود أو غيرهم ممن يخشونهم ويخافون منهم؟ وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل. وأمام هذا الحدث العظيم الذي حل بالأمة نقف هذه الوقفات: أولاً: التأكيد على عقيدة الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين وإظهار عداوتهم، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُون (56)} [المائدة]. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. ثانياً: استغلال هذا الحدث ودعوة الناس إلى التمسك بكتاب اللَّه وسنة رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والاستجابة لأوامرهما والانتهاء عما نهى اللَّه ورسوله عنه فإن ذلك من أعظم أسباب نصرته، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين (32)} [آل عمران]. روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنِّي قَد تَرَكتُ فِيكُم شَيئَينِ لَن تَضِلُّوا بَعدَهُمَا: كِتَاب اللَّهِ وَسُنَّتِي» (¬1) ثالثاً: يجب على جميع المسلمين حكومات وشعوباً الدفاع عنه عليه الصلاة والسلام والذب عن عرضه وأن يستخدموا ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (1/ 284) برقم 324، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في مشكاة المصابيح (1/ 66).

جميع الوسائل والإمكانات في ذلك، قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (157)} [الأعراف]. وقال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة: 40]. رابعاً: على تجار المسلمين أن يستبدلوا البضائع التي تأتينا من الدانمارك والنرويج التي تتبعها في هذا الأمر ببضائع من دول أخرى حتى لا يستغل أعداء الإسلام هذه الأموال في حملتهم الشرسة ضد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَمَن تَرَكَ شَيئاً لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيراً مِنهُ» (¬1). خامساً: على المسلمين أن يكثروا من الدعاء أن اللَّه ينصر دينه ويذل أعدائه وينتقم لرسوله ممن آذوه وسبوه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين (60)} [غافر]. وروى أبو داود في سننه من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» (¬2). سادساً: أبشروا وَأَمِّلوا فإن النصر قريب بإذن اللَّه، وسنة اللَّه في خلقه أن من آذى رسوله، أو سبه، ولم يجاز في الدنيا بيد المسلمين فإن اللَّه سبحانه ينتقم لنبيه منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 363) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 296): رواه أحمد بأسانيد ورجالها رجال الصحيح، وقال الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (1/ 19): وسنده صحيح على شرط مسلم. (¬2) ص: 177 برقم 1479، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 3407.

هذا في السيرة النبوية وبعهد النبوة كثيرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وقال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (95)} [الحجر]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «إنا كفيناك المستهزئين بك وبما جئت به وهذا وعد من اللَّه لرسوله أن لا يضره المستهزؤون وأن يكفيه اللَّه إياهم بما شاء من العقوبة» (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر (3)} [الكوثر]. فكل من شنأه أو أبغضه وعاداه فإن اللَّه يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقيل: إنها نزلت في العاص بن وائل، أو عقبة بن أبي معيط، أو في كعب ابن الأشرف، وجميعهم أُخذوا أخذ عزيز مقتدر وقتلوا شر قتلة» (¬2). روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال: كان رجل نصرانياً فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته اللَّه فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً: وهذا أمر خارج عن ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 410. (¬2) تفسير ابن كثير 14/ 482 - 483. (¬3) ص: 691 برقم 3617، وصحيح مسلم ص: 1120 برقم 2781.

العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد، إذ كان عامة المرتدين يموتون لا يصيبهم مثل هذا، وأن اللَّه منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حدثناه أعدادٌ من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، وتكون ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه، وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة اللَّه أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين (¬1) اهـ. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الصارم المسلول على شاتم الرسول ص: 116 - 117.

الكلمة التاسعة والسبعون: سيرة عثمان بن عفان

الكلمة التاسعة والسبعون: سيرة عثمان بن عفان الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فهذه مقتطفات من سيره علم من أعلام هذه الأمة، وخليفة من خلفائها الأماجد، صحابي جليل من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، ولد هذا الصحابي قبل عام الفيل بست سنين على الصحيح وأسلم على يد أبي بكر الصديق، وكان من السابقين إلى الإسلام، زوجه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابنته رقية، فلما ماتت زوجه أختها أم كلثوم، وكان يلقب بذي النورين قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، قال فيه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» (¬1). وقال فيه أيضاً: «بَشِّرهُ بِالجَنَّةِ عَلَى بَلوَى تُصِيبُهُ» (¬2) وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين توفي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عنهم راض. إنه الخليفة الراشد أمير المؤمنين عثمان بن عفان أبو العاص القرشي الأموي وصفه أهل السير بأنه كان ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الوجه، أبيض اللون، مشرباً بالحمرة، كثير اللحية بعيد ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 977 برقم 2401. (¬2) صحيح البخاري ص: 705 برقم 3693، وصحيح مسلم ص: 978 برقم 2403.

ما بين المنكبين، أحسن الناس ثغراً. وقد كانت لهذا الصحابي مواقف عظيمة تدل على فضله ونصرته لهذا الدين فمن ذلك أنه هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة، وجهز جيش العسرة، وحفر بئر رومة وتصدق بها على المسلمين، كما قام بتوسعة المسجد النبوي، وفي عهد جمع القرآن الكريم، وتوسعت فتوحات المسلمين، ووصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها. روى الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي اللهُ عنه إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألف دينار قال الحسن بن واقع: وكان في موضع آخر من كتابي في كُمه حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره، قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقلبها في حجره ويقول: «مَا ضَرَّ عُثمَانُ مَا عَمِلَ بَعدَ اليَومِ» مرتين (¬1). قال الزهري: جهز عثمان بن عفان جيش المسلمين في غزوة تبوك بتسعمائة وأربعين بعيراً وستين فرساً. وروى الترمذي في سننه من حديث ثمامة بن حزن القُشيري قال: شهدت الدار، حين أشرف عليهم عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألّباكم عليّ. قال: فجيء بهما فكأنهما جملان، أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشُدكم باللَّه والإسلام، هل تعلمون أن ¬

(¬1) ص: 579 برقم (3701) وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 208).

رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدم المدينة وليس بها ماء يُستعذب غير بئر رُومة، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ»، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، حتى أشرب من ماء البحر قالوا: اللَّهم نعم. قال: أنشدكم باللَّه والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؟ فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ» فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أُصلي فيها ركعتين، قالوا: اللَّهم نعم. قال: أنشدكم باللَّه وبالإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العُسرة من مالي؟ قالوا: اللَّهم نعم. ثم قال: أنشدكم باللَّه والإسلام، هل تعلمون أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان على ثَبِير مكة ومعه أبو بكر، وعمر، وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، قال: فركضه برجله، فقال: «اسكُن ثَبِيرُ فَإِنَّمَا عَلَيكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ؟ ». قالوا: اللَّهم نعم، قال: اللَّه أكبر، شهدوا لي ورب الكعبة: أني شهيد ثلاثاً (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوماً جلوساً، فقال: من ¬

(¬1) ص: 579 برقم 3703 قال الترمذي: هذا حديث حسن.

هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد اللَّه بن عمر، قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أُحد؟ قال: نعم قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها، قال: نعم، قال: اللَّه أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأَشهَد أن اللَّه عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكانت مريضة فقال له رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ لَكَ أَجرَ رَجُلٍ مِمَّن شَهِدَ بَدراً وَسَهمَهُ»، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيده اليمنى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» فضرب بها على يده، فقال: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ»، فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك (¬1). وفي صحيح البخاري من حديث قتادة أن أنساً رضي اللهُ عنه حدثهم قال: صعد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، وقال: «اسْكُنْ أُحُدُ، - أَظُنُّهُ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ - فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ» (¬2). وقد كانت لهذا الصحابي من الخصال الحميدة، والشمائل العظيمة الشيء الكثير فقد كان شديد الحياء. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة قال: كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مضطجعاً في بيتي، كاشفاً ¬

(¬1) ص: 706 برقم 3699. (¬2) ص: 706 برقم 3697.

عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له، وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسوى ثيابه (قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد) فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك! فقال: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ ! » (¬1). وقد اشتهر رضي اللهُ عنه بالكرم والإنفاق في سبيل اللَّه وقد تقدم ذكر شيء من ذلك. أما عبادته فقد كان صواماً قواماً، قال ابن عمر في قول اللَّه تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]: ذاك عثمان، قال حسان بن ثابت رضي اللهُ عنه: ضَحَّوا بِأشْمَطَ عُنْوانُ السجودِ به يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبِيحاً وقُرْآناً ومن أقواله العظيمة التي تدل على ورعه وتقواه أنه كان يقول: ما زنيت ولا سرقت لا في جاهلية ولا في إسلام. وقد قُتل رضي اللهُ عنه سنة خمس وثلاثين من الهجرة محصوراً في داره في الفتنة المشهورة وقد جاوز الثمانين من عمره. وقد ضحى بنفسه وقتل شهيداً مظلوماً، وكان باستطاعته أن يستعين بالصحابة للدفاع عنه، ولكنه لم يرغب أن تراق قطرة دم من ¬

(¬1) ص: 977 برقم 2401.

أجله، وقد أخبره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقتله ظلماً في حياته، وكانت هذه علامة من علامات النبوة، فروى الترمذي في سننه من حديث ابن عمر قال: ذكر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتنة، فقال: «يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا مَظْلُومًا» لِعُثْمَانَ (¬1)، وروى الترمذي في سننه من حديث عائشة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ» (¬2). رضي اللَّه عن عثمان وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 580 برقم 3708، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 210) برقم 2925. (¬2) ص: 579 برقم 3705، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 210) برقم 2923.

الكلمة الثمانون: تأملات في قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين}

الكلمة الثمانون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين} الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فإن اللَّه أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به فقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]، وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آية من كتاب اللَّه ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (95)} [الحجر]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: أي بك وبما جئت به وهذا وعد من اللَّه لرسوله أن لا يضره المستهزئون وأن يكفيه اللَّه إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل تعالى فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبما جاء به إلا أهلكه اللَّه وقتله شر قتلة (¬1). اهـ. قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (137)} [البقرة]. والأمثلة على ذلك من السنة كثيرة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 95.

يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا (¬1) وَدَمِهَا وَسَلاَهَا (¬2)، فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ (¬3)، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ رضي الله عنها وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلَاةَ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ»، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ ابْنِ الْوَلِيدِ»، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً» (¬4) (¬5). وفي رواية: فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة (¬6)، وكان من أشد الكفار عداوة لرسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلان أحدهما يقال له: عقبة بن أبي معيط، والآخر يقال له: النضر بن الحارث. ¬

(¬1) هو بقايا الطعام في الكرش. (¬2) السلا: هو الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه ويسمى المشيمة. (¬3) جاء في رواية أخرى: أنه عقبة بن أبي معيط .. (¬4) ص: 119 برقم 520، وصحيح مسلم ص: 746 برقم 1794. (¬5) قليب بدر: بئر مهجور والمسافة الآن بين بدر والمدينة 153 كيلو متر «غزوة بدر الكبرى» للأستاذ محمد باشميل. (¬6) صحيح البخاري ص: 69 برقم 240.

قال ابن كثير رحمه الله: هذان الرجلان من شر عباد اللَّه وأكثرهم كفراً وعناداً وبغياً وحسداً وهجاء للإسلام وأهله لعنهما اللَّه وقد فعل (¬1). وأذكر بعضاً من مواقف هذين الرجلين، التي تدل على حقدهما وبغضهما للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وللإسلام وأهله. روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير قال: سألت عبد اللَّه بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: «أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه وقد جاءكم بالبينات من ربكم» (¬2). وتقدم أن عقبة بن أبي معيط هو الذي وضع سلا الجزور على رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو ساجد. أما النضر بن الحارث فقد قال عنه ابن إسحاق: كان من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مجلساً، فذكر فيه باللَّه، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم، من نقمة اللَّه، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا واللَّه يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلمَّ إليَّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار (¬3)، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟ قال ¬

(¬1) البداية والنهاية (5/ 189). (¬2) ص: 702 برقم 3678. (¬3) هما حكيمان من حكماء الفرس.

ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل اللَّه، قال ابن اسحاق: وكان ابن عباس يقول فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين (15)} [القلم] وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن (¬1). وكان هذا الرجل حامل لواء المشركين في غزوة بدر، وقد أُسر هذان الرجلان عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث في غزوة بدر وجيء بهما مع الأسرى وفي مكان يقال له: الأثيل (¬2)، أمر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بضرب عنق النضر بن الحارث فقتله علي بن أبي طالب ضرباً بالسيف، وأرغم اللَّه أنف هذا الكافر وأذله، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. وأما عقبة بن أبي معيط فقد أمر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بضرب عنقة في مكان يقال له: عرق الظبية (¬3). وكان الذي أسره من المسلمين عبد اللَّه بن سلمة، فقال عقبة حين أمر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ يستعطف النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال عليه الصلاة والسلام: «النَّارُ»، وكان الذي قتله عاصم بن ثابت (¬4). ¬

(¬1) السيرة النبوية (1/ 326). (¬2) الأثيل: موضع بين بدر والصفراء وفاء الوفا (2/ 242). قال الواقدي: الأثيل واد طوله ثلاثة أميال، بينه وبين بدر ميلان، مغازي الواقدي (1/ 113). (¬3) مكان دون الروحاء بميلين، وفاء الوفا (4/ 1009 / 1259). (¬4) السيرة النبوية (2/ 236) وأخرجه ابن جرير (2/ 38)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 323). وأخرجه أبو داود ص: 303 حديث رقم 2686، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود برقم 2336.

وفي رواية الواقدي: أنه لما أقبل إليه عاصم بن ثابت ليقتله قال: يا معشر قريش، علام أُقتل من بين من هاهنا؟ قال: لعداوتك للَّه ولرسوله، فأمر به فضربت عنقه، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «بِئسَ الرَّجُلُ كُنتَ وَاللَّهِ مَا عَلِمتُ كَافِراً بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ مُؤذِياً لِنَبِيِّهِ، فَأَحمَدُ اللَّهَ الَّذِي هُوَ قَتَلَكَ، وَأَقَرَّ عَينَيَّ مِنكَ» (¬1). والأمثلة كثيرة فيمن عاداه وآذاه عليه الصلاة والسلام وكيف كانت نهايته في الدنيا قبل الآخرة؟ ! قال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر (3)} [الكوثر]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57)} [الأحزاب]. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مغازي الواقدي (1/ 114).

الكلمة الحادية والثمانون: تأملات في قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين}

الكلمة الحادية والثمانون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين} رقم (2) الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده، وبعد: قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين (95)} [الحجر]. وقد تقدم الكلام على هذه الآية في كلمة سابقة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: استقبل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البيت فدعا على ستة نفر من قريش، فيهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، فأقسم باللَّه لقد رأيتهم صرعى على بدر قد غيرتهم الشمس وكان يوماً حاراً (¬1). ولنأخذ قصة مقتل اثنين من هؤلاء الكفرة الذين كانا يستهزئان به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودعا عليهما وهما: أبو جهل رأس الكفر وفرعون هذه الأمة، وأمية بن خلف الذي عذب بلالاً رضي اللهُ عنه، وكيف انتقم اللَّه لنبيه منهما؟ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ¬

(¬1) ص: 746 برقم 1794، وصحيح البخاري ص: 119 برقم 520.

عبد الرحمن بن عوف قال: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ » قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ » قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ»، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم بدر: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ » فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ (¬2). ¬

(¬1) ص: 601 برقم 3141، وصحيح مسلم ص: 727 برقم 1752. (¬2) ص: 753 برقم 3962، وصحيح مسلم ص: 727 برقم 1752.

وقال أيضاً لابن مسعود: فلو غير أكار (¬1) قتلني (¬2). وفي رواية أخرى للبخاري: وهل أعمد (¬3) من رجل قتلتموه (¬4)؟ وقال أيضاً لابن مسعود: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم، وسأل قائلاً: لمن الدائرة اليوم؟ قال ابن مسعود: للَّه ولرسوله. أما أمية بن خلف فقد روى البخاري في صحيحه قصة قتله من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ (¬5) حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا، ¬

(¬1) الأكار الزراع وعني بذلك أن الأنصار أصحاب زرع فأشار إلى تنقيص من قتله منهم بذلك. (¬2) ص: 762 برقم 4020. (¬3) أعمد يريد أكبر من رجل قتلتموه على سبيل التحقير منه لفعلهم به. قال الحافظ أبو ذر الخشني: وعميد القوم سيدهم شرح السنة النبوية ص: 160. (¬4) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 227). (¬5) أحرزت الشيء إذا حفظته وضممته إليك.

وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ (¬1). وفي رواية لابن إسحاق وهي تتمه لهذه القصة: قال أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل قال عبد الرحمن: فواللَّه إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء (¬2) مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال: أحد أحد قال: فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، قال: قلت: أي بلال أَبِأَسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا قال: ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار اللَّه رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا قال: فأحاطوا بنا، حتى جعلونا في مثل المسكة (¬3) أي جعلونا في حلقة كالسوار وأنا أذب عنه قال: فأخلف رجل السيف فضرب ¬

(¬1) ص: 43 برقم 2301. (¬2) الرمضاء: الرمل الحار من الشمس. (¬3) المسكة: السواد من الذيل، الذيل جلدة السلحفاة البرية.

رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط قال: فقلت: انج بنفسك ولا نجاء بك، فو اللَّه ما أغني عنك شيئاً قال: فهبروهما (¬1) بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم اللَّه بلالاً ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فهبروهما: معناه: قطعوا لحمهما يقال: هبرت اللحم إذا قطعته قطعاً كباراً. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 223).

الكلمة الثانية والثمانون: شرح اسم الله البصير

الكلمة الثانية والثمانون: شرح اسم الله البصير الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: روى الإمامان البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تَسعَةً وَتِسعِينَ اسماً مِئَةً إِلَّا وَاحِداً مَن أَحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬1)، قال بعضهم: ورد ذكر البصير في كتاب اللَّه تعالى اثنتين وأربعين مرة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (233)} [البقرة]. وقال تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِير (19)} [الملك]. قال ابن كثير: واللَّه بصير بالعباد: أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وما ذاك إلا لحكمته ورحمته (¬2). وإن سألت عن بصره فهو البصير جل جلاله الذي قد كمل في بصره أحاط بصره بجميع المُبْصرات في أقطار الأرض والسماوات حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار ¬

(¬1) ص: 526 برقم 2736، وصحيح مسلم 1076 برقم 2677. (¬2) تفسير ابن كثير (3/ 37).

وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من دون ذلك ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان ويرى ما تحت الأراضين السبع كما يرى ما فوق السماوات السبع (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: وَهُوَ البصيرُ يَرى دبيبَ النملةِ ... السوداءِ تحتَ الصخرِ والصوانِ ويَرَى مجارِي القوتِ في أعضائِها ... ويَرَى عروقَ بياضِها بِعَيَانِ ويَرَى خياناتِ العيونِ بَلحْظِهَا ... ويَرَى كذَاكَ تَقَلُّبَ الأجفان (¬2) وقال المؤيد في الدين: يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البعوضِ جَناحَهَا ... في ظلمةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ ويَرَى نِيَاطَ (¬3) عروقِهَا فِي نَحْرِهَا ... والمُخَّ مِن تِلْكَ العظامِ النُحَّلِ امْنُنْ عَليَّ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا ... مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمانِ الأولِ ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: إثبات صفة البصر للَّه لأنه وصف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه، وصفة البصر من صفات الكمال كصفة السمع فالمتصف بهما أكمل ممن لا يتصف بذلك، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُون (50)} [الأنعام]. ¬

(¬1) موارد الأمان ص: 27. (¬2) النونية (2/ 215) لابن القيم بشرح ابن عيسى. (¬3) قال في اللسان: النياط: الفؤاد، والنياط عرق علق به القلب من الوتين (7/ 418).

وقال تعالى موبخاً للكفار ومسفهاً عقولهم لعبادتهم الأصنام التي هي من الحجارة الجامدة: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]. أي أنتم أكمل من هذه الأصنام لأنكم تسمعون وتبصرون فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها؟ ! ثانياً: أن اللَّه تبارك وتعالى بصير بأحوال عباده خبير بصير بمن يستحق الهداية منهم، ممن لا يستحقها بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال وبمن يفسد حاله بذلك، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير (27)} [الشورى]. وهو بصير بالعباد شهيد عليهم الصالح منهم والفاسق قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (2)} [التغابن]. بصير خبير بأعمالهم وذنوبهم، قال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} [الإسراء]. وسيجزيهم عليها أتم الجزاء (¬1). ثالثاً: إذا علمنا أن اللَّه بصير حملنا ذلك على حفظ الجوارح وخطرات القلوب عن كل ما لا يرضي اللَّه، وحملنا أيضاً على خشيته في السرو العلانية في الغيب والشهادة لأنه يرانا على كل حال، فكيف نعصيه مع علمنا باطلاعه علينا؟ ! قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219)} [الشعراء]. ومن علم أنه ¬

(¬1) النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (1/ 237).

يراه أحسن عمله وعبادته. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬1). قال النووي رحمه الله: هذا من جوامع الكلم التي أُوتيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه وعلى الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 36 برقم 8. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 157 - 158).

الكلمة الثالثة والثمانون: شرح حديث

الكلمة الثالثة والثمانون: شرح حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد. فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ: فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ»، قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِئَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي

وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا»، قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَاجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» (¬1). وفي هذا الحديث فوائد وعبر كثيرة. أولاً: فضيلة بر الوالدين وأنه من الأعمال الصالحة التي تُفرج بها الكربات، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. وفي الصحيحين من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: سألت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي العمل أحب إلى اللَّه؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقتِهَا» قال: ثم أي؟ قال: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَينِ» قال: ثم أي؟ قال: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (¬2). ¬

(¬1) 423 - 424 برقم 2272، وصحيح مسلم ص: 1096 رقم 2743. (¬2) ص: 121 برقم 527، وصحيح مسلم 62 برقم 85.

ثانياً: فضيلة العفة عن الزنا وأن الإنسان إذا عف عن الزنا مع قدرته عليه فإن ذلك من أفضل الأعمال، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» (¬1). ثالثاً: في الحديث دليل على فضل الأمانة وإصلاح العمل للغير فإن هذا الرجل كان بإمكانه لما جاءه الأجير أن يعطيه أجره ويبقي هذا المال له ولكن لأمانته وإخلاصه لأخيه ونصحه له أعطاه كل ما أثمر أجرة له، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون (8)} [المؤمنون: 8]. رابعاً: أن من أعظم الأسباب التي تُدفع بها المكاره الدعاء فإن اللَّه سمع دعاء هؤلاء واستجاب لهم، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون (186)} [البقرة]. خامساً: أن الإخلاص من أسباب تفريج الكربات لأن كل واحد منهم يقول: اللَّهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه. سادساً: مشروعية التوسل إلى اللَّه بالعمل الصالح فإن كل واحد منهم توسل إلى اللَّه بعمله الصالح أن اللَّه يزيل عنهم ما بهم من الضر والشدة. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 277 برقم 1423، وصحيح مسلم ص: 397 برقم 1031.

الكلمة الرابعة والثمانون: قصة قارون

الكلمة الرابعة والثمانون: قصة قارون الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فلقد قص اللَّه علينا قصص الأمم الماضية لنأخذ منها الدروس والعبر، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين (3)} [يوسف]. قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِين (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُون (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِين (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللَّهُ

عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُون (82) تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين (83)} [القصص]. يخبر تعالى عن حال قارون وما فعل وما فُعل به وأنه كان من بني إسرائيل الذين فُضِّلوا على العالمين ولكنه بغى على قومه وطغى بما أُوتيه من الأموال العظيمة المطغية، وأعطاه اللَّه من كنوز الأموال شيئاً كثيراً ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة والعصبة من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ونحو ذلك أي حتى إن مفاتح خزائن أمواله لتثقل الجماعة القوية عن حملها أي هذه المفاتيح فما ظنك بالخزائن؟ وقال له قومه: لا تفرح بهذه الدنيا العظيمة وتفتخر بها، فإن اللَّه لا يحب الفرحين بها، {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فلا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعاً، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك وأحسن إلى عباد اللَّه {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} بالتكبر والعمل بمعاصي اللَّه ورد قارون على قومه قائلاً: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} أي: إنما أدركت هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب «وخرج ذات يوم على قومه بأحسن هيئة» جمعت زينة الدنيا وبهجتها وغضارتها {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الذين عرفوا حقائق الأشياء ونظروا إلى باطن الدنيا {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ} العاجل من لذة العبادة ومحبته والإنابة والإقبال عليه والآجل من الجنة وما فيها خير مما تمنيتم ورغبتم فيه ولا يوفق لذلك إلا الصابرون. فلما انتهت بقارون حالة البغي والفخر وازينت الدنيا عنده

بغته العذاب فخسف اللَّه به وبداره الأرض، فما كان له من جماعة أو عصبة أو جنود ينصرونه فما نصر ولا انتصر، ثم عرف الذين تمنوا مكانه بالأمس من الذين يريدون الحياة الدنيا أن اللَّه يضيق الرزق على من يشاء ويبسطه لمن يشاء، وعلموا أن بسطه لقارون ليس دليلاً على محبته وأن اللَّه مَنَّ عليهم فلم يعاقبهم على قولهم وإلا أصبح حالهم الهلاك كقارون لعنه اللَّه. ولما ذكر اللَّه تعالى حال قارون وما صارت إليه عاقبة أمره رغّب في الدار الآخرة، وأخبر أنها دار الذين لا يريدون علوًّا أي رفعة وتكبراً على عباد اللَّه ولا فساداً وهذا شامل لجميع المعاصي، وهؤلاء هم المتقون الذين لهم العاقبة الحميدة كما قال تعالى: {وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين (35)} [الزخرف] (¬1). ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: إن المال يكون وبالاً وحسرة على صاحبه إذا لم يستخدمه في طاعة اللَّه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون (36)} [الأنفال]. وقال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة]. ثانياً: إن كثرة المال ليست دليلاً على محبة اللَّه ورضاه عن العبد، ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 594 - 595.

قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيتَ اللَّهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنهُ استِدرَاجٌ» ثم تلا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام] (¬1). ثالثاً: أن المعاصي قد تعجل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة فقارون عاجله اللَّه بالعذاب بالخسف فجعله عبرة للآخرين، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40]. رابعاً: إن اللَّه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء لحكمة بالغة منه، قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت: 62]. خامساً: إن هذا المال عرض زائل ومتاع مفارق، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (20)} [الحديد]. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (28/ 547) برقم 17311 وقال محققوه: حديث حسن.

روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1248 برقم 6514، وصحيح مسلم ص: 1188 برقم 2960.

الكلمة الخامسة والثمانون: نزول المطر

الكلمة الخامسة والثمانون: نزول المطر الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من فضل اللَّه ورحمته بعباده: نزول هذه الأمطار المباركة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيد (9)} [ق]. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (39)} [فصلت: 39]. قال ابن القيم رحمه الله: «ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه - وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها - أقلع عنها وأعقبه بالصحو فهما - أعني الصحو والتغييم - يعتقبان على العالم لما فيه صلاحه، ولو دام أحدهما كان فيه فساده، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار، وعفنت الزروع والخضروات وأَرْخَت الأبدان وخثَّرت الهواء، فحدثت ضروب من الأمراض، وفسد أكثر المآكل وتقطعت المسالك والسبل، ولو دام الصحو لجفت الأبدان وغيض الماء، وانقطع معين العيون والآبار والأنهار والأودية وعظم الضرر، واحتدم الهواء، فيبس ما على الأرض، وجفت الأبدان،

وغلب اليُبْسُ، وأحدث ذلك ضروباً من الأمراض عسرة الزوال، فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم، فاعتدل الأمر، وصح الهواء، ودفع كل واحد منهما عادية الآخر، واستقام أمر العالم وصلح» (¬1). ومن الأذكار التي تقال عند نزول المطر ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث زيد بن خالد الجهني قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ » قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا رأى المطر قال: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَطَرٌ قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» (¬4) (¬5). وميكائيل موكل بنزول المطر ففي الحديث الذي رواه ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (2/ 99). (¬2) ص: 172 برقم 846، وصحيح مسلم ص: 59 برقم 71. (¬3) ص: 205 برقم 1032. (¬4) ص: 347 برقم 898. (¬5) معناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق اللَّه تعالى لها فيتبرك بها.

الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن، عرفنا أنك نبي واتبعناك؛ وفي آخر الحديث قالوا: إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: «جِبرِيلُ عليه السَّلام» قالوا: جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عَدُونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] (¬1). ويشرع للمسلم أن يكثر من الدعاء عند نزول المطر، لما رواه الشافعي في الأم من حديث مكحول مرسلاً أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اطلُبُوا استِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِندَ التِقَاءِ الجُيُوشِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَنُزُولِ الغَيثِ» (¬2). ويشرع للمسلم الذكر عند سماع الرعد لما رواه مالك في الموطأ من حديث عامر بن عبد اللَّه بن الزبير موقوفاً عليه: أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا لَوَعيد لأهل الأرض شديد (¬3). روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الرَّعدُ مَلَكٌ مِن مَلَائِكَةِ اللَّهِ، مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مَخَارِيقُ مِن ¬

(¬1) (4/ 284 - 285) برقم 2483 وقال محققوه: إسناده حسن دون قصة الرعد. (¬2) (1/ 253) وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (3/ 453) برقم 1469. (¬3) ص: 655 برقم 3055 وقال محققوه: صحيح مقطوع أو موقوف.

نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيثُ شَاءَ اللَّهُ» (¬1)، وقد يسقي هذا الملك بأمر اللَّه بلاداً دون بلاد، أو قرية دون أخرى، وقد يؤمر بأن يسقي زرع رجل واحد دون سواه، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ» (¬2). وإذا نزل المطر وكان غزيراً وخيف منه الضرر فإنه يشرع للمسلم أن يدعو اللَّه بتخفيفه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعْتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، ¬

(¬1) ص: 496 برقم 3117، وصححه الألباني رحمه الله في سنن الترمذي (3/ 64) برقم 2492. (¬2) ص: 1196 برقم 2984.

اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»، قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللَّهِ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلَا قَزَعَةً (¬1)، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ (¬2) مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَاءِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ (¬3)، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا (¬4). ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ - يعني اليوم الثاني - وَرَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ (¬5) وَالظِّرَابِ (¬6) وَبُطُونِ الأوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ (¬7). قال النووي: وفي هذا الحديث الإخبار عن معجزة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعظيم كرامته على ربه سبحانه وتعالى بإنزال المطر سبعة أيام متواصلة بسؤاله من غير تقدم سحاب ولا قزع ولا سبب آخر ظاهر ولا باطن (¬8) (¬9). والحمد للَّه وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) القطعة من السحاب. (¬2) جبل بقرب المدينة. (¬3) وهو ما يبقى له السيف. (¬4) أي أسبوعاً. (¬5) وهي دون الجبل وأعلى من الرابية. (¬6) وهي الجبل المنبسط ليس بالعالي .. (¬7) ص: 202 برقم 1014، وصحيح مسلم ص: 346 برقم 897. (¬8) شرح صحيح مسلم (2/ 192). (¬9) انظر: عالم الملائكة الأبرار للدكتور عمر الأشقر ص: 80 - 81.

الكلمة السادسة والثمانون: تواضع السلف وخوفهم من ربهم

الكلمة السادسة والثمانون: تواضع السلف وخوفهم من ربهم الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُون (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون (61)} [المؤمنون]. روى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تعليقه على الآيات المتقدمة: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون (57)} أي: وجلون مشفقة قلوبهم كل ذلك من خشية ربهم خوفاً أن يضع عليهم عدله فلا يُبقي ¬

(¬1) ص: 504 برقم 3175، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 79 - 80) برقم 2537.

لهم حسنة وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق اللَّه وخوفاً على إيمانهم من الزوال، ومعرفة منهم بربهم وما يستحقه من الإجلال والإكرام، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب والتقصير في الواجبات (¬1). ولقد كان أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة يخشون أن تحبط أعمالهم وألا تقبل منهم لرسوخ علمهم وعميق إيمانهم، قال أبوالدرداء: لئن أعلم أن اللَّه تقبل مني ركعتين أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن اللَّه يقول: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين (27)} [المائدة]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري قال: قال عبد اللَّه بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قال: فقلت: لا، قال: قال أبي لأبيك: يا أبا موسى هل يسرك إسلامنا مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد لنا وأن كل عمل عملناه بعد نجونا منه كفافًا رأساً براس؟ فقال أبي: لا واللَّه قد جاهدنا مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك، فقال أبي: لكني أنا والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا وأن كل شيء عملناه بعد نجونا منه كفافاً رأساً برأس فقلت: إن أباك واللَّه خير من أبي (¬2). قال ابن حجر: والقائل هو أبو بردة وخاطب بذلك ابن عمر فأراد ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 526. (¬2) ص: 745 برقم 3915.

أن عمر خير من أبي موسى، فعمر أفضل من أبي موسى لأن مقام الخوف أفضل من مقام الرجاء، فالعلم محيط بالآدمي لا يخلو عن تقصير ما في كل ما يريد من الخير وإنما قال ذلك عمر هضماً لنفسه وإلا فمقامه في الفضائل والكمالات أشهر من أن تذكر (¬1). اهـ. قال ابن القيم رحمه الله: والمراد أن المؤمن يخفي أحواله عن الخلق جهده كخشوعه وذله وانكساره لئلا يراها الناس فيعجبه اطلاعهم عليها، ورؤيتهم لها، فيفسد عليه وقته وقلبه وحاله مع اللَّه، وكم قد اقتطع في هذه المفازة من سالك؟ والمعصوم من عصمه اللَّه فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل؟ وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره وكان يقول كثيراً: ما لي شيء ولا مني شيء ولا في شيء وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت: أنا المُكَدِّي وابنُ المُكَدِّي وهَكَذا كانَ أَبِي وجَدِّي وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: إني إلى الآن أُجدد إسلامي في كل وقت وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً (¬2). ومن الناس إذا نصحته في أمر ما قال: نحن أحسن من غيرنا بكثير غيرنا لا يصلي، ويفعل الموبقات، ونحن نصلي ونصوم ونؤدي ¬

(¬1) فتح الباري (7/ 255). (¬2) مدارج السالكين (1/ 391).

فرائض الإسلام فيقول هذا معجباً بعمله، ومثل هذا يذكر بقول اللَّه تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (17)} [الحجرات]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» (¬1). قال ابن بطال: هذا الحديث جامع لمعاني الخير لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها إلا وجد من هو فوقه ممن طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله فيكون أبداً في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخس حالاً منه، فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة اللَّه وصلت إليه دون كثير ممن فُضل عليه بذلك من غير أمر أوجبه فيلزم نفسه الشكر فيعظم اغتباطه بذلك في معاده (¬2). اهـ. ونبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان المثل الأعلى في التواضع، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا خير البرية! فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ذَاكَ إِبرَاهِيمُ عليه السَّلام» (¬3). وعمر رضي اللهُ عنه كما في الأثر السابق الخليفة الثاني، ومن العشرة المبشرين بالجنة، يقول عنه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَو كَانَ بَعدِي نَبِيٌّ لَكَانَ ¬

(¬1) ص: 1244 برقم 6490، وصحيح مسلم ص: 1189 برقم 2963 واللفظ له. (¬2) فتح الباري (11/ 323). (¬3) ص: 963 برقم 2369.

عُمَرُ» (¬1)، ومع ذلك يقول: وددت أن أعمالي كفافاً لا لي ولا علي (¬2). وفي صحيح البخاري من حديث محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث العلاء بن المسيب عن أبيه قال: «لقيت البراء بن عازب رضي اللهُ عنهما فقلت: طوبى لك صَحِبتَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده» (¬4). يقول ابن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرهاً (¬5). وهذا من تواضعه وإلا فهو العلامة الزاهد الورع؛ قال المروذي: سمعت أبا عبد اللَّه الإمام أحمد بن حنبل ذكر أخلاق الورعين فقال: أسأل اللَّه أن لا يمقتنا أين نحن من هؤلاء؟ وقال صالح بن أحمد: كان أبي إذ دعا له رجل يقول: الأعمال بخواتيمها، وقال مرة: وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي، وقال المروذي: أدخلت إبراهيم الحُصري على أبي ¬

(¬1) سنن الترمذي ص: 577 برقم 3686 وقال: حديث حسن غريب، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 204) برقم 2909. (¬2) صحيح البخاري ص: 707 برقم 3700. (¬3) ص: 701 برقم 3671. (¬4) ص: 792 برقم 4170. (¬5) مختصر منهاج القاصدين ص: 473.

عبد اللَّه وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناماً هو كذا وكذا وذكرت الجنة فقال: يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء وقال: الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره، وقال له المروذي يوماً: كيف أصبحت يا أحمد؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة (¬1). وصدق الفرزدق عندما قال: أُولَئك آبائِي فَجِئْنِي بِمِثلهم ... إذا جَمَعَتْنَا يَا جَريرُ المَجَامعُ ولا شك أن ما تقدم من أقوال عن السلف فإنما مردها إلى أنهم كانوا يهضمون أنفسهم، ويتواضعون ويحتقر أحدهم نفسه ويمقتها في ذات اللَّه وهذا هو حال المؤمن التقي حتى يلقى اللَّه. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 226 - 227).

الكلمة السابعة والثمانون: سيرة الزبير بن العوام

الكلمة السابعة والثمانون: سيرة الزبير بن العوام الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد. قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)} [الأحزاب]. فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وبطل من أبطالها صحابي جليل من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر ونقتدي به في جهاده وتضحيته لهذا الدين، هذا الصحابي شهد المشاهد كلها مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شهد بدراً وأحداً والخندق وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، وقد اشتهر بالفروسية والشجاعة، يقول عنه المؤرخون: إنه يعد بألف فارس، أسلم هذا الصحابي وهو في ريعان شبابه لم يتجاوز السادسة عشر عاماً، قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَبعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَومَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ - ذكر منهم - شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ» (¬1) وهو أول من سل سيفه في الإسلام، وكان من السابقين إلى الإسلام أسلم على يد أبي بكر الصديق، وقد هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، آخى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينه وبين عبد اللَّه بن مسعود، وهو حواري (¬2) ¬

(¬1) ص: 277 رقم 1423، وصحيح مسلم ص: 397 برقم 1031. (¬2) الحواري هو خالصة الإنسان وصفيه المختص به.

رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال عنه عمر بن الخطاب: إنه ركن من أركان هذا الدين، وعند وفاته لم يبق موضع في جسده إلا وبه جرح مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى انتهى منه ذلك إلى الفرج، بل إن صدره الذي يقابل به الأعداء أصبح كأمثال العيون من الضربات والطعنات وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة بشره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنة وهو على قيد الحياة. إنه فارس الإسلام الزبير ابن العوام بن خويلد القرشي الأسدي ويكنى أبا عبد اللَّه، وله قرابة من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جهتين فأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأيضاً هو ابن أخي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد زوج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصفه أهل السير بأنه كان رجلاً طويلاً، فارع الطول إذا ركب الفرس تخط رجلاه بالأرض، خفيف اللحية والعارضين، يميل إلى السمرة، وهذا الصحابي نموذج فريد للتضحية والبذل والنصرة لهذا الدين. فمن مواقفه العظيمة ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال يوم الأحزاب: «مَن يَأتِينَا بِخَبَرِ القَومِ؟ » فقال الزبير: أنا ثم قال: «مَن يَأتِينَا بِخَبَرِ القَومِ؟ » فقال الزبير: أنا، ثم قال: «مَن يَأتِينَا بِخَبَرِ القَومِ» فقال الزبير: أنا، ثم قال: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيرُ» (¬1). وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: إن الزبير قال: لقد جمع لي رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومئذ أبويه، فقال: «فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» (¬2). ومن مواقفه العظيمة كذلك ما حدث في فتح مصر عندما استعصت على جيش المسلمين ودام الحصار سبعة أشهر فتقدم وقال: ¬

(¬1) ص: 781 برقم 4113، وصحيح مسلم ص: 984 برقم 2415. (¬2) ص: 711 برقم 3720، وصحيح مسلم ص: 984 برقم 2416.

أهب نفسي للَّه وللمسلمين فوضع سلماً وأسنده إلى جانب الحصن ثم صعد عليه وأمر بقية الجنود إذا سمعوا تكبيراته أن يجيبوه جميعاً، ثم رمى بنفسه في الحصن فلم يشعر الأعداء إلا والزبير داخل الحصن فبدأ يضرب بسيفه حتى وصل إلى الباب وفتحه وكبَّر المسلمون ودخلوا الحصن وكان الفتح الكبير. وكان له موقف بطولي رائع في معركة اليرموك الشهيرة وكان عدد جيش الروم مائتي ألف مقاتل كما يذكر المؤرخون. روى البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن أصحاب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا للزبير يوم اليرموك: «أَلَا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ » فقال: إني إن شددت كذبتم، فقالوا: لا تفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً، فأخذوا بلجامه، فضربوه ضربتين على عاتقه، بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير، قال عروة: وكان معه عبد اللَّه بن الزبير يومئذ، وهو ابن عشر سنين، فحمله على فرس، ووكل به رجلاً (¬1). ولما حدثت معركة الجمل قال لابنه عبد اللَّه كما في سنن الترمذي من حديث هشام بن عروة: ما مني عضو إلا وقد جُرح مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى انتهى ذاك إلى فرجه (¬2). قال علي بن زيد: أخبرني ¬

(¬1) ص: 755 برقم 3975. (¬2) ص: 584 برقم 3746 وقال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث حماد بن زيد، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 217) برقم 2945.

من رأى الزبير أن في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي (¬1). وكان يوم بدر معتجراً بعمامة صفراء فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر (¬2). وهذه منقبة عظيمة له رضي اللهُ عنه وأرضاه. ومن مواقفه العظيمة التي تدل على شجاعته وقوته ما رواه البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: قال الزبير: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجج لا يُرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبو ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة (¬3) فطعنته في عينه فمات، قال هشام: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطأت، فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها، قال عروة: فسأله إياها رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأعطاه، فلما قُبض رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه، فلما قُبض أبو بكر سألها إياه عمر فأعطاه إياها فلما قُبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد اللَّه بن الزبير فكانت عنده حتى قُتل (¬4). ومن مواقفه أن الزبير ضرب يوم الخندق عثمان بن المغيرة ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 52). (¬2) الحاكم في المستدرك (4/ 438) برقم 5608 وقال محققه: إسناده صحيح. (¬3) العنزة: أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زج كزج الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير (القاموس ص: 631). (¬4) ص: 759 برقم 3998.

بالسيف على مغفره (¬1)، فقطعه إلى القربوس (¬2) فقالوا: ما أجود سيفك! فغضب الزبير يريد أن العمل ليده لا للسيف (¬3) وكان رضي اللهُ عنه رجلاً غنياً كريماً ينفق ولا يبالي له من المماليك ألف مملوك كلهم يؤدي إليه الخراج، فكان لا يدخل بيته منها شيئاً يتصدق به كله. في صحيح البخاري أنه قال لابنه عبد اللَّه يوم الجمل: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أُراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لديني. قال عبد اللَّه: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بُني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه مولاي قال: فواللَّه ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبتِ من مولاك؟ قال: اللَّه، قال: فواللَّه ما وقعت في كُربة من دَينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقضِ عنه دينه فيقضيه (¬4). وكان قتله بعد معركة الجمل. ذكر أهل السير أنه انسحب من المعركة في مكان يقال له: وادي السباع (¬5). وأنشد يقول: وَلَقْد عَلِمْتُ لَوْ أَنْ عِلْمِي نَافِعِي ... أن الحياةَ مِنَ المَمَاتِ قريبُ فأدركه في الوادي رجل يقال له: عمرو بن جرموز وهو نائم في ¬

(¬1) المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، فتح الباري (4/ 60). (¬2) القربوس: مقدم السرج ومؤخره. (¬3) سير أعلام النبلاء (1/ 51). (¬4) جزء من حديث في صحيح البخاري ص: 598 - 599 برقم 3129. (¬5) موضع قريب من البصرة على بعد سبعة فراسخ منها.

القائلة فهجم عليه فقتله، وقيل: إنه قتله وهو يصلي غيلة (¬1)، ثم أخد سيفه وذهب إلى علي لينال منزلة عنده فرفض علي أن يأذن له وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار، سمعت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًا وَإِنَّ الزُّبَيرَ بنَ العَوَّامِ حَوَارِيَّ» (¬2)، ولما رأى علي سيف الزبير قال: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال ابن المديني: سمعت سفيان يقول: جاء ابن جرموز إلى مصعب بن الزبير يعني لما ولي إمرة العراق لأخيه الخليفة عبد اللَّه بن الزبير، فقال: أقدني بالزبير، فكتب في ذلك يشاور ابن الزبير فجاءه الخبر: أنا أقتل ابن جرموز بالزبير؟ ولا بشسع نعله. قال الذهبي رحمه الله: أكل المعثَّر يديه ندماً على قتله واستغفر لا كقاتل طلحة، وقاتل عثمان، وقاتل علي (¬3). قالت زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو في رثائه: غَدَرَ ابنُ جُرموزٍ بفارس بُهْمَةٍ (¬4) ... يَومَ اللقاءِ (¬5) وكَانَ غَيْرَ مُعَرِّدِ (¬6) يا عَمْرو لو نبَّهته لَوَجَدْته ... لا طائشاً (¬7) رَعِش (¬8) البنان ولا اليَدِ ¬

(¬1) أي غدراً. (¬2) مسند الإمام أحمد (2/ 181) برقم 799 وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) سير أعلام النبلاء (1/ 64). (¬4) البُهْمة: بضم الموحدة وسكون الهاء الشجاع، وقيل: هو الفارس الذي لا يُدرى من أين يؤتى له من شدة بأسه. (¬5) اللقاء: الحرب لأنه تتلاقى فيه الأبطال. (¬6) المعرد: اسم فاعل من عرد تعريداً بمهملات إذا فر وهرب. (¬7) طاش يطيش إذا خف عقله من دهشة وخوف. (¬8) رعش: بكسر العين المهملة وصف من رعش كفرح ومنع - رعشاً ورعشاناً: أخذته الرعدة.

ثكلتك أمُّك إن ظَفِرتَ بِمِثْلِهِ ... فِيما مضَىَ ممّا ترُوحُ وتَغْتَدي كم غمرةٍ (¬1) قَدْ خَاضَهَا لم يثنهِ ... عنها طِرادُك يا ابن فَقْع (¬2) الفَدْفدِ (¬3) واللَّه ربِّك إن قتلت لَمُسِلماً ... حَلَّتْ عَلَيْكَ عقوبةُ المُتَعَمِّد ولبعضهم: إن الرَّزِية من تَضمَّن قَبْرَهُ ... وادِي السباعِ لِكُلِّ جَنب مَصْرعُ لَمَّا أَتى خَبُر الزبيرِ تواضعَتْ ... سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء]. وكان قتله كما قال البخاري وغيره: في رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة وله أربع وستون سنة (¬4). رضي اللَّه عن الزبير، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رقيقاً. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) غمرة: بالفتح، الشدة. (¬2) الفقع: بفتح الفاء وكسرها وسكون القاف، نوع أبيض من رديء الكمأة. (¬3) الفدفد: الأرض المستوية وفقع الفدفد مثل للذليل. (¬4) سير أعلام النبلاء (1/ 68).

الكلمة الثامنة والثمانون: شرح اسم الله السميع

الكلمة الثامنة والثمانون: شرح اسم الله السميع الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في كتابه: السميع، قال بعضهم: ورد ذكر اسم اللَّه السميع خمساً وأربعين مرة، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (127)} [البقرة]. وقال تعالى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير (1)} [المجادلة]. وسمعه تعالى نوعان: الأول: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية وإحاطته التامة بها. الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39)} [إبراهيم]. ¬

(¬1) ص: 526 برقم 2736، وصحيح مسلم ص: 1075 برقم 2677.

أي: مجيب الدعاء ومنه قول المصلي: سمع اللَّه لمن حمده، أي: أجاب اللَّه حمد من حمده ودعاء من دعاه كما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمدُ» (¬1) وفي رواية: «يَسمَعِ اللَّهُ لَكُم» (¬2) أي: يُجِبكُم، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول، وفي الحديث الذي رواه الترمذي في سننه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن دُعَاءٍ لَا يُسمَع» (¬3). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: إثبات صفة السمع له سبحانه كما وصف اللَّه نفسه بذلك قال تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار (10)} [الرعد]. وقال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير (1)} [الإسراء]. وإن سألت عن سمعه فهو السميع الذي قد كمل في سمعه فاستوى في سمعه سر القول وجهره وسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تُغَلِّطُه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين على الدوام، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات بل هي عنده كلها كصوت واحد كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: ¬

(¬1) ص: 163 برقم 796، وصحيح مسلم ص: 175 برقم 409. (¬2) صحيح مسلم ص: 174 برقم 404. (¬3) جزء من حديث رواه الترمذي في سننه ص: 549 برقم 3482، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث عبد اللَّه بن عمرو. (¬4) طريق الهجرتين ص: 76 نقلاً عن كتاب الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبدالهادي وهبي ص: 144.

وضَجِيجُ أصواتِ العبادِ يسمَعُهُ ... وَلَدَيْهِ لا يَتَشَابَهُ الصوتانِ قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَان (29)} [الرحمن]. ثانياً: أن سمع اللَّه ليس كسمع أحد من خلقه فإن الخلق وإن وصُفوا بالسمع والبصر كما في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان]. إلا أن سمعهم وبصرهم ليس كخالقهم، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير (11)} [الشورى]. روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه تعليقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد للَّه الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَيُّهَا النَّاسُ اربَعُوا عَلَى أَنفُسِكُم فَإِنَّكُم لَا تَدعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِباً وَلَكِن تَدعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً» (¬2). ¬

(¬1) كتاب التوحيد باب قول اللَّه تعالى: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} ص: 1408، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (40/ 228) برقم 24195 وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) ص: 1226 برقم 6384، وصحيح مسلم ص: 1083 - 1084 برقم 2704.

ثالثاً: أن اللَّه قد أنكر على المشركين الذين ظنوا أن اللَّه لا يسمع السر والنجوى. روى البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن اللَّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22] الآية (¬1). وكذا قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} [الزخرف: 80]. رابعاً: إذا علم العبد أن ربه يسمع كل شيء لا تخفى عليه خافية فيسمع حركاته وسكناته حمله ذلك الاعتقاد على المراقبة للَّه سبحانه في جميع الأحوال وفي جميع الأمكنة والأزمنة، فيمسك عن كل قول لا يُرضي ربه، ويحفظ لسانه فلا يتكلم إلا بخير، قال تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]. خامساً: أن اللَّه هو السميع الذي يسمع المناجاة ويجيب الدعاء عند الاضطرار ويكشف السوء ويقبل الطاعة، وقد دعا الأنبياء والصالحون بهذا الاسم ليقبل منهم طاعتهم ويستجيب لدعائهم فإبراهيم وإسماعيل قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (127)} [البقرة]. ودعا زكريا أن يرزقه اللَّه ذرية صالحة: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38)} [آل عمران]. فاستجاب اللَّه ¬

(¬1) صحيح ألبخاري برقم 4817، وصحيح مسلم برقم 5772.

دعاءه ودعا يوسف عليه السَّلام أن يصرف عنه كيد السوء {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (34)} [يوسف]. سادساً: أن العبد إذا دعا ربه فسمع دعاءه سماع إجابة وأعطاه ما سأله وعلى حسب مراده ومطلبه أو أعطاه خيراً منه حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد فإن للعطاء والإجابة سروراً وأنساً وحلاوة، وللمنع وحشة ومرارة، فإذا تكرر منه الدعاء، وتكرر من ربه سماع وإجابة لدعائه، محا عنه آثار الوحشة، وأبدله بها أنساً وحلاوة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تهذيب المدارج ص: 901. (¬2) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الأسماء الحسنى والصفات العلى ص: 144 - 146.

الكلمة التاسعة والثمانون: تفسير سورة الزلزلة

الكلمة التاسعة والثمانون: تفسير سورة الزلزلة الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُم (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} [الزلزلة]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنه قال: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ لَهُ: «اقْرَا ثَلَاثًا مِنْ ذَاتِ (الر)» فَقَالَ الرَّجُلُ: كَبِرَتْ سِنِّي، وَاشْتَدَّ قَلْبِي، وَغَلُظَ لِسَانِي، قَالَ: «فَاقْرَا مِنْ ذَاتِ (حم)» فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَقَالَ: «اقْرَا ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ»، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ،

أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ» (¬1). قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}، قال ابن عباس: أي: تحركت من أسفلها. قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)}، يعني: ألقت ما فيها من الموتى، قاله غير واحد من السلف وهذا كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم (1)} [الحج]. وكقوله تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّت (4)} [الانشقاق]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «تَقِيءُ الأَرضُ أَفلَاذَ كَبِدِهَا، أَمثَالَ الأُسطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَيَجِيءُ القَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلتُ، وَيَجِيءُ القَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَت يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأخُذُونَ مِنهُ شَيئاً» (¬2). قوله تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا (3)} أي: استنكر أمرها بعد ما كانت ساكنة ثابتة وهو مستقر على ظهرها أي تقلبت الحال وصارت متحركة مضطربة قد جاءها من أمر اللَّه تعالى ما قد أعده لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه، ثم ألقت ما فيها من الأموات من الأولين والآخرين وحينئذ استنكر الناس أمرها، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار (48)} [إبراهيم]. ¬

(¬1) (11/ 139) برقم 6575 وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) ص: 391 رقم 1013.

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}: أي: تحدث بما عمل العاملون على ظهرها، قوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)}: قال ابن عباس: أوحى لها أي أوحى إليها، قال ابن كثير: والظاهر أن هذا مضمن لمعنى أذن لها، وقال ابن عباس: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} قال: قال ربها: قولي، أي تكلمي بما حصل عليك من خير أو شر (¬1). قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا}: أي يخرجون إلى موقف الحساب أشتاتاً: أي أنواعاً وأصنافاً ما بين شقي وسعيد، قال تعالى: {لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُم (6)}: أي ليجازوا بما عملوا في الدنيا من خير أو شر، ولهذا قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)}. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الخَيلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجرٌ، وَلِرَجُلٍ سِترٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزرٌ» ثم سئل في آخر الحديث عن الحُمُر قال: «مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الآيَةَ الفَاذَّةَ الجَامِعَةَ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)}» (¬2). والذرة هي أصغر النمل، فالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين في هذا الحديث أن هذه السورة جامعة ومبينة للخير والشر فمن عمل خيراً أراد به وجه اللَّه أُثيب عليه، ومن عمل شراً عوقب عليه يوم القيامة، وفي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 428 - 429). (¬2) ص: 1401 برقم 7356، وصحيح مسلم برقم 987.

الصحيحين من حديث عدي مرفوعاً: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ فَمَن لَم يَجِد فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث صعصعة بن معاوية أنه أتى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقرأ عليه {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} قال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها (¬2). ومن فوائد السورة الكريمة: أولاً: أن الأرض تخبر يوم القيامة بما فعل الناس عليها، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)}. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا يَسمَعُ صَوتَ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنسٌ وَلَا شَيءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ» (¬3). ثانياً: أن الناس يوم القيامة يصدرون أشتاتاً، أي: جماعات متفرقين بحسب أعمالهم كل يتجه إلى مأواه؛ فأهل الجنة - جعلنا اللَّه منهم - يتجهون إليها، وأهل النار والعياذ باللَّه يساقون إليها، قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم]. ثالثاً: أن اللَّه تعالى يُري العباد أعمالهم يوم القيامة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]. وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعمَالُكُم ¬

(¬1) ص: 1252 برقم 6540 وصحيح مسلم ص: 392 برقم 1016. (¬2) (34/ 20) برقم 20593 وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬3) ص: 134 رقم الحديث 609.

أُحصِيهَا لَكُم ثُمَّ أُوَفِّيكُم إِيَّاهَا، فَمَن وَجَدَ خَيراً فَليَحمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفسَهُ» (¬1). رابعاً: أن فيها الحث على الأعمال الصالحة ولو كانت قليلة والبعد عن المعاصي وإن كانت صغيرة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا» (¬2) (¬3). وكذلك الخير لا يحقر المسلم منه شيئاً. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» (¬4). قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء]. وكانت عائشة رضي الله عنها تتصدق بعنبة وتقول كم فيها من مثقال ذرة (¬5). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جزء من حديث ص: 1039 برقم 2577. (¬2) (40/ 478) برقم 24415 وقال محققوه: إسناده قوي. (¬3) قال السندي: قوله: فإن لها من اللَّه طالباً، أي: فإن لها ملكاً يسألك يجيء من اللَّه تعالى، كالمنكر والنكير في القبر مثلاً. (¬4) ص: 1054 برقم 2626. (¬5) تفسير ابن كثير (14/ 431).

الكلمة التسعون: شرح حديث: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك»

الكلمة التسعون: شرح حديث: «اللَّهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك» الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، روى الإمام الترمذي في سننه من حديث ابن عمر قال: قلما كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللَّهُمَّ اقسِم لَنَا مِن خَشيَتِكَ مَا يَحُولُ بَينَنَا وَبَينَ مَعَاصِيكَ، وَمِن طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَينَا مُصِيبَاتِ الدُّنيَا، وَمَتِّعنَا بِأَسمَاعِنَا وَأَبصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحيَيتَنَا، وَاجعَلهُ الوَارِثَ مِنَّا وَاجعَل ثَأرَنَا عَلَى مَن ظَلَمَنَا، وَانصُرنَا عَلَى مَن عَادَانَا وَلَا تَجعَل مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلَا تَجعَلِ الدُّنيَا أَكبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبلَغَ عِلمِنَا وَلَا تُسَلِّط عَلَينَا مَن لَا يَرحَمُنَا» (¬1). قوله: «اقسِم لَنَا مِن خَشيَتِكَ مَا يَحُولُ بَينَنَا وَبَينَ مَعَاصِيكَ» اقسِم: بمعنى قَدِّر، والخشية هي الخوف المقرون بالعلم، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]، والإنسان كلما خشي اللَّه عزَّ وجلَّ ¬

(¬1) ص: 551 برقم 3502، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 168) برقم 2783.

منعته خشيته من اللَّه أن ينتهك محارم اللَّه، ولهذا قال: «مَا يَحُولُ بَينَنَا وَبَينَ مَعَاصِيكَ». قوله: «وَمِن طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ»: يعني واقسم لنا من طاعتك ما تبلغنا به جنتك فإن الجنة طريقها طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ، فإذا وُفق العبد بخشية اللَّه واجتناب محارمه والقيام بطاعته نجا من النار ودخل الجنة بطاعته. قوله: «وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَينَا مُصِيبَاتِ الدُّنيَا»، اليقين هو أعلى درجات الإيمان لأنه إيمان لا شك معه ولا تردد، تتيقن ما غاب عنك كما تشاهد من حضر بين يديك، قال ابن مسعود: اليقين هو الإيمان كله؛ فإذا كان عند الإنسان يقين تام بما أخبر اللَّه تعالى من أمور الغيب فيما يتعلق باللَّه عزَّ وجلَّ أو بأسمائه أو صفاته أو اليوم الآخر وغير ذلك وصار ما أخبر اللَّه به من الغيب عنده بمنزلة الشاهد فهذا هو كمال اليقين، والدنيا فيها مصائب كثيرة، لكن هذه المصائب إذا كان عند الإنسان يقين تام أنه يكفر بها من سيئاته ويُرفع بها من درجاته إذا صبر واحتسب الأجر من اللَّه، هانت عليه المصائب وسهلت عليه المحن مهما عظمت سواء كانت في بدنه أو في أهله أو في ماله. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكبَةِ يُنكَبُهَا أَوِ الشَّوكَةِ يُشَاكُهَا» (¬1). ¬

(¬1) ص: 1039 برقم 2574.

قوله: «مَتِّعنَا بِأَسمَاعِنَا وَأَبصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحيَيتَنَا»: أي اجعلنا متمتعين ومنتفعين بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أي بأن نستعملها في طاعتك. قال ابن الملك: التمتع بالسمع والبصر إبقاؤهما صحيحين إلى الموت وإنما خص السمع والبصر بالتمتيع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة اللَّه وتوحيده إنما تحصل من طريقها لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات القرآنية وذلك بطريق السمع أو من الآيات الكونية في الآفاق والأنفس بطريق البصر، والإنسان إذا تمتع بهذه الحواس حصل على خير كثير وإذا افتقدها فاته خير كثير، قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون (23)} [الملك]. كان بعض العلماء قد جاوز المئة سنة وهو متمتع بقوته وعقله فوثب يوماً وثبة شديدة فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها اللَّه علينا في الكبر (¬1). قوله: «وَاجعَلهُ الوَارِثَ مِنَّا»: واجعله أي المذكور من الأسماع والأبصار والقوة، (الوارث) أي الباقي بأن يبقى إلى الموت. قوله: «وَاجعَل ثَأرَنَا عَلَى مَن ظَلَمَنَا». أي اجعلنا نستأثر وتكون لنا الأثرة على من ظلمنا بحيث تقتص لنا منه إما بأشياء تصيبه في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)} [النساء]. وفي الصحيحين ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم ص: 225.

من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَاتَّقِ دَعوَةَ المَظلُومِ، فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَهَا وَبَينَ اللَّهِ حِجَابٌ» (¬1). قوله: «وَانصُرنَا عَلَى مَن عَادَانَا»: من الأعداء وهم كثر من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين وغيرهم ومن أكبر أعدائنا وأشدهم ضرراً علينا الشيطان الذي حذرنا اللَّه منه فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير (6)} [فاطر]. وقال تعالى عن الكفار: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1]. وقال تعالى عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون (4)} [المنافقون]. واللَّه تعالى ناصرنا عليهم جميعاً، قال تعالى: {بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين (150)} [آل عمران]. قوله: «وَلَا تَجعَل مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا»: المصائب تكون في مال الإنسان أو بدنه أو مسكنه أو أهله فيمرضون أو يموتون أو غير ذلك وأعظم مصيبة هي مصيبة الدين وهي على قسمين إما أن يبتَلَى بالمعاصي كأكل الحرام واعتقاد السوء أو يبتَلَى بما هو أعظم من ذلك كالشرك والكفر والنفاق وما أشبه فهذه مهلكة مثل الموت للبدن. قوله: «وَلَا تَجعَلِ الدُّنيَا أَكبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبلَغَ عِلمِنَا»: أي لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا وهمنا، بل اجعل أكبر قصدنا مصروفاً ¬

(¬1) جزء من حديث ص: 821 برقم 4347، وصحيح مسلم ص: 42 برقم 19 واللفظ لمسلم.

في عمل الآخرة. «وَلَا مَبلَغَ عِلمِنَا»: أي لا تجعلنا حيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا بل اجعلنا متفكرين في أحوال الآخرة، والمبلغ: أي الغاية التي يبلغها الماشي والمحاسب فيقف عنده. روى الترمذي في سننه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» (¬1). قوله: «وَلَا تُسَلِّط عَلَينَا مَن لَا يَرحَمُنَا»: أي لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة أو لا تجعل الظالمين علينا حاكمين، فإن الظالم لا يرحم الرعية (¬2) (¬3). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 403 برقم 2465. (¬2) تحفة الأحوذي (9/ 442) برقم 3502. (¬3) انظر شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (4/ 361 - 366).

الكلمة الواحدة والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا}

الكلمة الواحدة والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21] الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاء وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30)} [النبأ]. يذكر اللَّه في هذه الآيات الكريمات أحوال الأشقياء وما يحصل لهم من النكال والعذاب السرمدي في نار جهنم فيقول: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)}: أي: مرصدة ومعدة للطاغين، وجهنم اسم من أسماء النار التي لها أسماء كثيرة وسميت بهذا الاسم لأنها ذات جهمة وظلمة بسوادها ومقرها أعاذنا اللَّه منها. وقد أعدها اللَّه عزَّ وجلَّ من الآن فهي موجودة كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين (131)} [آل عمران]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: كنا مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ سمع وجبة فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ » قال: قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ

حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» (¬1). وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأها - أي النار - حين عُرضت عليه في صلاة الكسوف، ورأى النار فيها امرأة تعذب في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (¬2). قوله تعالى: {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22)}: الطاغون جمع طاغ والطغيان تجاوز الحد كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة (11)} [الحاقة]. والمراد بالطاغين الذين تجاوزا حدود اللَّه استكباراً على ربهم، ومآباً: أي مرجعاً يرجعون إليه ومسكناً يصيرون إليه. قوله تعالى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} أي: باقين فيها أحقاباً أي مدداً طويلة وقد وردت آيات كثيرة تدل على أنها مدد أبديه كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (169)} [النساء]. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (65)} [الأحزاب]. قوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (24)}: نفى اللَّه سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تكون به برودة ظاهر الجسد، والشراب الذي تكون به برودة داخل الجسد فإنهم إذا عطشوا واستغاثوا يغاثون بماء كالمهل، قال تعالى: ¬

(¬1) ص: 1142 برقم 2844. (¬2) ص: 352 برقم 904.

{وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف]. وقال تعالى: {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُم (15)} [محمد]. وقال تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود (20)} [الحج]. فمن كان حاله كذلك فإنهم لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً يطفئ حرارة بطونهم، قال بعض السلف: عَجِبْتُ للنارِ كَيْفَ نَامَ هَارِبُهَا وَعَجِبْتُ للجنَّةِ كيفَ نامَ طالِبُها قوله تعالى: {إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)}: الحميم هو الماء الحار الذي انتهى حره وحموه. وغساقاً: هو شراب منتن الرائحة شديدة البرودة، قال جمع من المفسرين: هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه فهم يذوقون العذاب من ناحيتين الحرارة، والثاني البرودة فإذا اجتمعت الحرارة والبرودة كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب عليهم، قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاج (58)} [ص: ]. أي ولهم أصناف وألوان من العذاب نسأل اللَّه العافية. قوله تعالى: {جَزَاء وِفَاقًا (26)}، يقول تعالى: هذا العقاب الذي عوقب به الكفار في الآخرة فعله بهم ربهم جزاء لهم على أفعالهم وأقوالهم السيئة التي كانوا يعملونها في الدنيا، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم]. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا (27)}: أي لا يؤملون أن

يحاسبوا بل كانوا ينكرون الحساب، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (7)} [التغابن]. قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)}: كانوا يكذبون بحجج اللَّه ودلائله التي أنزلها على رسله فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب (4)} [ص: ]. وقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)} [الفرقان]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَاتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا (93)} [الإسراء]. قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}: يشمل ما يفعله اللَّه عزَّ وجلَّ من الخلق والتدبير في الكون وما يعمله العباد من أقوال وأفعال ويشمل كل صغير وكبير، قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَر (53)} [القمر]. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء].

روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»، قَالَ: «وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (¬1). قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30)}: هذا الأمر للإهانة والتوبيخ يقال لهم: ذوقوا عذاب النار فلن نخففه عنكم بل لا نزيدكم إلا عذاباً في قوته، قال تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (16)} [الطور]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور (36)} [فاطر]. قال العلماء: إن هذه الآية أعظم آية في الترهيب. قال عبد اللَّه بن المبارك يصف هذه النار: وَطَارَتِ الصُّحُفُ فِي الأيْدِي مُنَشَّرَةً ... فِيها السرائرُ والأخبارُ تطلعُ فكيفَ سَهْوك والأنباء واقعةٌ ... عَمَّا قَليلٍ ولا تَدْرِي بِمَا يقعُ أفِي الجنانِ وفوزٍ لا انقطاعَ لهُ ... أمِ الجحيمِ فما تُبقي ولا تدعُ تَهْوِي بساكِنِها طَوْراً وترفَعُهم ... إذا رَجَوا مَخرَجاً من غَمِّهَا قُمِعُوا طَاَل البكاءُ فلمْ ينفعْ تضرعُهُمْ ... هيهاتَ لا رِقةٌ تُغنِي ولا جَزَعُ لينفع العلمُ قبل الموتِ عالِمَهُ ... قَدْ سأَلَ قومٌ بها الرُّجْعَى فما رَجَعُوا والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 1065 برقم 2652.

الكلمة الثانية والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {إن للمتقين مفازا}

الكلمة الثانية والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَاسًا دِهَاقًا (34) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ]. بعد أن ذكر تعالى حال الأشقياء ذكر حال المتقين السعداء ليكون المرء على بصيرة من أمره وبيّنة في دينه، فإن استقامة العبد في عبادته لربه لا تتم حتى يكون راجياً لرحمة ربه خائفاً من عذابه. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء. قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} قال ابن عباس والضحاك متنزهاً، وقال مجاهد وقتادة: فازوا فنجوا من النار (¬1). والمتقون ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 234).

هم الذين اتقوا عقاب اللَّه وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وقد أخبر اللَّه عزَّ وجلَّ عن هذا الفوز بأنه عظيم، فقال تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)} [الفتح]. وأخبر سبحانه أن هذا الفوز كبير فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير (11)} [البروج]. قوله تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)}: حدائق جمع حديقة، أي: بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة، وأعناباً: جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصصها بالذكر لشرفها. قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)}: جمع (¬1) كاعب وهي الناهد، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: كواعب أي: أن [ثُدُيَّهن نواهد] ليست متدلية إلى أسفل لأنهن أبكار عُرُب أتراب (¬2). و{أَتْرَابًا (33)} أي: في سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كما في نساء الدنيا. كما في قوله تعالى «في سورة الواقعة»: {إِنَّا أَنشَانَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة]. قوله تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا (34)}: أي: كأساً ممتلئة والمراد هنا الخمر. قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ ¬

(¬1) تفسير ابن عثيمين لجزء عم ص: 34. (¬2) تفسير ابن كثير (4/ 234).

مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15]. وخمر الآخرة ليست كخمر الدنيا يصيب الإنسان الصداع والقيء منها، فقد نفى اللَّه تعالى عنها ذلك، قال تعالى: {لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُون (19)} [الواقعة]. قوله تعالى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا (35)} [النبأ]: أي لا يسمعون لغواً أي كلاماً باطلاً لا خير فيه ولا كذابًا: أي ولا كذباً فلا يكذبون ولا يُكذب بعضهم بعضاً، قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَاثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا (26)} [الواقعة]. وقال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر]. قوله تعالى: {جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36)}: أي أنهم يُجزون بهذا جزاء من اللَّه سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم]. وحساباً: أي كافياً وافراً شاملاً، تقول العرب: أعطاني فأحسبني أي كفاني ومنه حسبي اللَّه أي أن اللَّه كافيني. قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)}. يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنه رب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وأنه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} أي: لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه كقوله: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وكقوله: {يَوْمَ يَأْتِ

لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105]. قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} أي: لا أحد يتكلم لا الملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا (108)} [طه]. وقد اختلف المفسرون بالمراد بالروح فقيل: إنهم بنو آدم، وقيل: جبريل كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين (194)} [الشعراء]. وقيل: القرآن وقيل: ملك من الملائكة يقدر بجميع المخلوقات، وقيل غير ذلك ورجح جمع من المفسّرين أنه جبريل عليه السَّلام. {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ}: أي بالكلام وقال قولاً صواباً وذلك بالشفاعة إذا أذن اللَّه لأحد أن يشفع شفع فيما أُذن له فيه على حسب ما أذن له. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ» (¬1). قوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)}. أي الكائن المتحقق لا محالة، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً. قال القرطبي: أي مرجعاً بالعمل الصالح كأنه إذا عمل خيراً رده إلى اللَّه عزَّ وجلَّ وإذا عمل شراً عده منه وننظر إلى هذا المعنى في قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ ¬

(¬1) ص: 1417 رقم 7437، وصحيح مسلم ص: 99 رقم 182.

فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» تأدباً مع اللَّه (¬1) (¬2). قوله تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ]. أي تعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها قديمها وحديثها كقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. وكقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّر (13)} [القيامة]. وجاء في وصف هذا العذاب بأنه قريب فكل ما هو آت فهو قريب، قال بعض المفسّرين: إنه يشمل عذاب الآخرة والموت والقيامة لأن من مات فقد قامت قيامته فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة وإن كان من أهل النار رأى مقعده من النار (¬3). قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)}: أي: يود الكافر يومئذ أنه كان في الدنيا تراباً ولم يكن خُلق ولا خرج إلى الوجود وذلك حين عاين عذاب اللَّه ونظر إلى أعماله الفاسدة. قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة، وقيل: إنما يود ذلك حين يحكم اللَّه بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العادل الذي لا يجور حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني تراباً فتصير تراباً فعند ذلك يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} (¬4)، وذكر ابن جرير في تفسيره آثاراً عن الصحابة ¬

(¬1) تفسير القرطبي (22/ 33). (¬2) صحيح مسلم ص: 305 برقم 771. (¬3) تفسير القرطبي (22/ 33). (¬4) تفسير ابن كثير (14/ 237).

منهم عبد اللَّه بن عمر وأبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن اللَّه تعالى يقتص بين هذه البهائم يوم القيامة ثم يقول لها بعد ذلك: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر تفسير ابن جرير (12/ 418 - 419).

الكلمة الثالثة والتسعون: وقفات مع الأزمة المالية العالمية

الكلمة الثالثة والتسعون: وقفات مع الأزمة المالية العالمية الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فإن من الذنوب العظيمة والجرائم الشنيعة التي حرمها اللَّه ورسوله ولعن فاعلها: الربا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: لعن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: «هُم سَوَاءٌ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه حديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنه في رؤيا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجاء فيه: «أَتَانِي اللَّيلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انطَلِق، وَإِنِّي انطَلَقتُ مَعَهُمَا، فَأَتَينَا عَلَى نَهرٍ - حسبت أنه كان يقول: - أَحمَرَ مِثلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهرِ رَجُلٍ سَابِحٌ يَسبَحُ، وِإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهرِ رَجُلٌ قَد جَمَعَ عِندَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسبَحُ مَا يَسبَحُ، ثُمَّ يَأتِي ذَلِكَ الَّذِي قَد جَمَعَ الحِجَارَةَ، فَيَفغَرُ لَهُ فَاهُ، فَيُلقِمُهُ ¬

(¬1) ص: 651 برقم 1598.

حَجَراً، فَيَنطَلِقُ يَسبَحُ، ثُمَّ يَرجِعُ إِلَيهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلقَمَهُ حَجَراً، قَالَ: قُلتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَا: أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيتَ عَلَيهِ يَسبَحُ فِي النَّهرِ وَيُلقَمُ الحِجَارَةَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا» (¬1). ومن صور الربا المحرم، شراء الأسهم الربوبية، أو إيداع الأموال في البنوك، وأخذ الزيادة الربويّة التي يسمونها فوائد، أو الاقتراض من البنوك، ورد المبالغ إليها مع الزيادة الربوية، أو البطاقات الائتمانية التي تعطى للعميل لشراء الأغراض مقابل رسوم سنوية، وتسدّد قيمتها خلال فترة محدودة فإن تأخر حاملها عن السداد تحسب عليه فائدة عن كل يوم تأخير أو غير ذلك من الصور. وبناء على ما تقدم فإن ما حدث من الأزمة المالية العالمية وما نتج عنه من إفلاس شركات، وبنوك عالمية، في الدول الكافرة وأمام هذا الحدث العظيم فإنا نحتاج إلى وقفات: الوقفة الأولى: أن ما حصل من انهيارات اقتصادية، وأزمات مالية في تلك الدول إنما هو بسبب الربا الذي حرمه اللَّه ورسوله ولعن فاعله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279]. وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. والمحق بمعنى الإزالة أي يزيل الربا والإزالة يحتمل أن تكون إزالة حسية أو إزالة معنوية فالإزالة الحسية أن يسلط اللَّه على المرابين ما ¬

(¬1) جزء من حديث ص: 1347 برقم 7047.

يتلف به أموالهم والمعنوية أن ينزع منه البركة فلا يستفاد منه (¬1). روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الرِّبَا وَإِن كَثُر فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى قُلٍّ» (¬2). قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله. وبذلك يعلم كل من له أدنى بصيرة أن البنوك الربوية ضد الاقتصاد السليم، وضد المصالح العامة، ومن أعظم أسباب الانهيار والبطالة ومحق البركات وتسليط الأعداء وحلول العقوبات المتنوعة والعواقب الوخيمة، فنسأل اللَّه أن يعافي المسلمين من ذلك وأن يمنحهم البصيرة والاستقامة على الحق (¬3). الوقفة الثانية: أن ما أصاب هؤلاء الكفار إنما هو عقاب إلهي لما فعلوه من ظلم وجرائم ضد المسلمين كما حصل في أفغانستان، والعراق، وفلسطين والصومال، وغيرها من الدول، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون (36)} [الأنفال]. وقال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَاد (31)} [الرعد]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ¬

(¬1) كأن يبتلي هذا المرابي بمرض فيستهلك من العلاج ما كسبه من أموال الربا أو يُسرق ماله أو يُصاب بحادث أو غير ذلك. (¬2) (2/ 339) برقم 2309 وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في الفتح (4/ 315). (¬3) فتاوى ابن باز (19/ 221).

ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد (102)} [هود] (¬1). وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِير (48)} [الحج]. وكم من المسلمين من يرفع يديه بالدعاء على هؤلاء الكفرة الظلمة؟ ! وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «دَعوَةُ المَظلُومِ تُحمَلُ عَلَى الغَمَامِ، وَتُفتَحُ لَهَا أَبوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنصُرَنَّكِ وَلَو بَعدَ حِينٍ» (¬2). قال الشاعر: لا تَظْلِمَنَّ إِذَا ما كُنْتَ مقتدراً ... فالظلمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إِلى الندمِ تنامُ عينُكَ والمظلومُ منتبهٌ ... يَدْعُو عليكَ وعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ الوقفة الثالثة: إن المعاصي والذنوب سبب لهلاك الأمم والشعوب، قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (40)} [العنكبوت]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ ¬

(¬1) ص: 1040 برقم 2083، وصحيح البخاري ص: 897 برقم 4686. (¬2) قطعة من حديث (13/ 410) برقم 8043 وقال محققو المسند: حديث صحيح بطرقه وشواهده.

السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (96)} [الأعراف]. روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَريَةٍ فَقَد أَحَلُّوا بِأَنفُسِهِم عَذَابَ اللَّهِ» (¬1). الوقفة الرابعة: أن على الدول الإسلامية أن تأخذ الدروس والعبر مما حصل لهذه الدول الكافرة، وأن تمنع الربا بشتى صوره وأشكاله عن البنوك والمؤسسات ومحلات التجارة وغيرها، وأن تشجع على إقامة المصارف الإسلامية فهي الحل الشرعي لكثير من المشاكل الاقتصادية ولذلك الآن في الغرب ينادون بتطبيق الأنظمة الإسلامية في البنوك لعلها أن تنقذهم مما هم فيه. يقول أحد عقلائهم وهو رئيس تحرير مجلة في الغرب: «أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة المالية إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حلت بنا الكوارث والأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري». الوقفة الخامسة: أن الأيام دول، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ» (¬2) قال أبو البقاء الرندي: ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (2/ 339)، برقم 2308 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (1/ 178) برقم 679. (¬2) ص: 553 برقم 2872.

لكلِ شيءٍ إذَا مَا تَمَّ نُقْصانُ ... فَلا يُغَرُّ بطيب العَيْشِ إِنسانُ هِيَ الأمُورُ كما شاهَدْتُها دُولُ ... من سَرَّهُ زمنٌ ساءَتْهُ أزْمَانُ الوقفة السادسة: إن هؤلاء الكفار كانوا يتبجحون بقوة اقتصادهم وحرية التصرف لكل فرد منهم فأتاهم اللَّه من حيث لم يحتسبوا، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَد (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَاد (197)} [آل عمران]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب والملذات، وأنواع العز والغلية في بعض الأوقات فإن هذا كله متاع قليل ليس له ثبوت ولا بقاء بل يتمتعون به قليلاً ويعذبون عليه طويلاً وهذه أعلى حالة تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه (¬1). اهـ. الوقفة السابعة: أن على المؤمن أن يكون على يقين تام وعقيدة راسخة أن اللَّه يمحق الربا، وينصر دعوة المظلومين، وأن اللَّه ينصر دينه ويذل الكفر وأهله كما أخبر بذلك، سواء رأينا ذلك في حياتنا أم لم نره فقد يتأخر لحكمة إلاهية. لأن البعض من الناس يشكك ويقول: عشرات السنين وهؤلاء الكفار يرابون ولم نر إلا مزيداً من القوة الاقتصادية، وعشرات السنين وهم يذبحون المسلمين بل ويتفننون في تعذيبهم ولم ينتقم اللَّه منهم، فأين دعوات المظلومين؟ ! فالجواب عن ذلك في قوله تعالى: ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي ص: 144.

{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب (38)} [الرعد]. وكما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ أنه قال: «وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (¬1) وكما قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابه عندما شكوا إليه ما يجدون من تعذيب المشركين: «وَلَكِنَّكُم قَومٌ تَستَعجِلُونَ» (¬2). ونحن نرى العقوبات بأعيننا وقد تتبعها البشائر إن شاء اللَّه ويشفي اللَّه صدور قوم مؤمنين، واللَّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ص: 1325 برقم 6943.

الكلمة الرابعة والتسعون: وقفات مع أحداث غزة

الكلمة الرابعة والتسعون: وقفات مع أحداث غزة الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فلا يزال إخواننا في غزة يخوضون معارك عنيفة مع اليهود عليهم لعائن اللَّه المتتابعة إلى يوم القيامة، وهم يسطرون ملحمة من أعظم الملاحم في التاريخ، أحفاد خالد وسعد وطلحة والزبير وصلاح الدين الأيوبي. وقد رأينا وسمعنا وقرأنا عن المآسي والقصص التي حدثت في غزة، ورأينا صور الجرحى والأشلاء الممزقة والإعاقات المستديمة، ورأينا البيوت وقد سويت بالأرض على أصحابها، والمساجد وقد هدمت على المصلين فيها، ورأينا الفساد والدمار والخراب الذي أحدثه اليهود في هذه المدينة، وصدق اللَّه حيث قال: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين (64)} [المائدة]. مناظر يندى لها الجبين، وتتفطر منها القلوب، وتدمع لها العيون، مصائب عظيمة لو نزلت على الجبال لدكتها من هولها وعظمها، قال أبو البقاء الرندي: فجائِعُ الدهرِ أنواعٌ مُنَوَّعَةٌ ... وللزمانِ مَسَرَّاتٌ وأحزانُ

وللحوادثِ سُلوانٌ يُسهِّلُها ... ومَا لِمَا حلَّ بالإسلامِ سُلوانُ وقال أيضاً: لِمثْلِ هَذَا يَذُوبُ القَلْبُ مِنْ كَمَدٍ ... إِنْ كَانَ فِي القَلْبِ إِسلامٌ وإيمانُ ومن الدروس والعبر المستفادة من هذا الحدث العظيم الذي حل بأمة الإسلام: أولاً: أن حربنا مع اليهود حرب عقيدة ليست حرباً من أجل الوطن أو الحزب أو الحركة أو الأرض، أو غيرها، وإنما هي حرب بين الإسلام والكفر، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]. ثانياً: أن ما نراه في هذه الأزمان من تكالب أمم الكفر من كل مكان واتحادهم ضد المسلمين، فبالأمس العراق وقبلها أفغانستان والشيشان والآن غزة إنما هو مصداق قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فقال قائل: أَوِ من قلة نحن يومئذ؟ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، فقال قائل: يا رسول اللَّه وما الوهن؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» (¬1). ¬

(¬1) «سنن أبي داود» ص: 469 برقم 4297، صحّحه الألباني في سنن أبي داود (3/ 810) برقم 3610.

قال ابن رجب الحنبلي: «ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ترك ما كان عليه من جهاد أعداء اللَّه، فمن سلك سبيل الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجهاد عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل» (¬1). روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ: سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬2). قال أبو عبيدة الهروي: وقد تبتلى أمة الإسلام بتكالب الكفار واعتدائهم عليها، إما عقوبة لها على تقصيرها في طاعة ربها، أو ابتلاءً واختباراً لها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. ثالثاً: يجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها حكومات وشعوباً أن يناصروا إخوانهم المسلمين في غزة مادياً ومعنوياً، كُلٌّ بما يستطيع وأن يقفوا معهم في محنتهم، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ¬

(¬1) شرح حديث «يتبع الميت ثلاثة» لابن رجب الحنبلي. (¬2) ص: 386 برقم 3462، صحّحه الألباني في سنن أبي داود (2/ 663) برقم 2956.

قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» (¬1)، فكيف وهم مظلومون؟ ! ومن وسائل نصرتهم: الدعاء لهم بظهر الغيب أن اللَّه يثبتهم ويربط على قلوبهم، ويسدد سهامهم، ويذل اليهود ومن ناصرهم. قال الشاعر: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قَتْلَى وأَسْرَى فَمَا يَهْتَزُّ إِنسانُ ماذا التقاطُعُ في الإسلام بينكُمُ وأَنْتُم يا عبادَ اللَّهِ إخوانُ ألَا نُفُوسٌ أَبِيَّاتٌ لها هِمَمٌ أَمَا على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ رابعاً: على المسلمين الأخذ بأسباب القوة والإعداد لذلك امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه أنه سمع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على المنبر يقول: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَن يُغْلَبَ اثنَا عَشَرَ أَلفاً مِن قِلَّةٍ» (¬3). ومن أعظم أسباب الخذلان: المعاصي والذنوب فإنها تخون العبد وهو أحوج ما يكون إلى نصر ربه، قال تعالى مبيناً سبب انهزام ¬

(¬1) ص: 461 برقم 2443. (¬2) ص: 795 برقم 1917. (¬3) جزء من حديث ص: 273 برقم 1555، وصححه ابن القطان كما نقل ذلك ابن حجر في كتابه: إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة (7/ 386) برقم 8031.

بعض المسلمين في إحدى الغزوات: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيم (155)} [آل عمران: 155]. خامساً: أن الدعاء من أعظم أسباب النصر، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين (9)} [الأنفال: 9]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون (186)} [البقرة: 186]. وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو ربه ويستغيث به كلما نزل به كرب أو شدة كما في معركة بدر وغيرها. وكان من دعائه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» (¬1). سادساً: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وهو من أفضل الأعمال وذروة سنام الدين لما يترتب عليه من إعلاء كلمة اللَّه، ونصر دينه، وقمع الكافرين والمنافقين والظالمين الذين يصدون الناس عن سبيله، ويقفون في طريقه، ولما يترتب عليه من إخراج العباد من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ ¬

(¬1) صحيح مسلم ص: 723 برقم 1742.

يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ: بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (¬2). سابعاً: أن اليهود لن ينعموا بسلام وأمان، بل سيظلون في رعب وخوف إلى قيام الساعة مهما امتلكوا من الأسلحة النووية، وحمتهم دول الكفر، فالوعد الإلهي متحقق فيهم، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]. قال ابن كثير: «ويقال: إن موسى عليه السَّلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكُلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم، وأخذهم منهم الجِزَى والخراج، ثم جاء الإسلام ومحمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكانوا تحت صغاره وذمته يؤدون الخراج والجِزَى. وقال جمع من المفسرين في الآية السابقة: يبعث اللَّه عليهم هذا الحي من العرب فيقاتلون من لم يسلم منهم ولم يعط الجزية، ومن أعطى منهم الجزية كان ذلك ذلة وصغاراً له، ثم يكون آخر أمرهم أنصار الدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم عليه السَّلام في آخر الزمان» (¬3). ¬

(¬1) ص: 792 برقم 1910. (¬2) ص: 792 برقم 1909. (¬3) تفسير ابن كثير (6/ 428 - 429)، وتفسير ابن جرير (6/ 102).

روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقتُلَهُمُ المُسلِمُونَ، حَتَّى يَختَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولَ الحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسلِمُ يَا عَبدَ اللَّهِ: هَذَا يَهُودِيٌّ خَلفِي فَتَعَالَ فَاقتُلهُ، إِلَّا الغَرقَدَ فَإِنَّهُ مِن شَجَرِ اليَهُودِ» (¬1)، وهم الآن يزرعون الغرقد بشوارعهم بكثرة انتظاراً لمصيرهم المحتوم. ثامناً: أنه لا بد من الابتلاء والتمحيص، قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين (3)} [العنكبوت]. وقال تعالى: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. روى البخاري في صحيحه من حديث خباب، قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَاسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (¬2). ¬

(¬1) ص: 1171 برقم 2922 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 561 - 562 برقم 2926. (¬2) ص: 690 برقم 3612.

وسأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: «يا أبا عبد اللَّه أيهما أفضل للرجل أن يُمكنَ فيشكر اللَّه عزَّ وجلَّ، أو يُبتلى فيصبر؟ فقال الشافعي: لا يُمكن حتى يُبتلى، فإن اللَّه ابتلى نوحاً وإبراهيم ومحمداً صلوات اللَّه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم اللَّه، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. تاسعاً: أن اليهود قد أصابهم القتل والجراح والرعب والخوف رغم تفوقهم في القوة العسكرية وذلك مصداق قول اللَّه تعالى: {إِن تَكُونُوا تَالَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَالَمُونَ كَمَا تَالَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ (104)} [النساء: 104]. وقال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140]. قال ابن كثير: أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقُتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من هذا من قتل وجراح، وتلك الأيام نداولها بين الناس، أي نديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة (¬1). اهـ. ولا يستوي الفريقان، قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، واللَّه مولانا ولا مولى لهم. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 408).

عاشراً: أنه على الرغم من ضعف الإمكانيات العسكرية لإخواننا في غزة مقابل ترسانة اليهود العسكرية الضخمة واستخدامهم لجميع الأسلحة الممنوعة في أنظمة الدول الكافرة كالقنابل الفسفورية والعنقودية وغيرها، ودعم الدول الكبرى لهم في حربهم ضد المسلمين، وبالرغم من الحصار والبرد والجوع الذي يعاني منه إخواننا هناك، إلا أنهم منصورون بإذن اللَّه. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخامسة والتسعون: موقف الحساب

الكلمة الخامسة والتسعون: موقف الحساب الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، فإن من أعظم مواقف يوم القيامة التي يجب على المؤمن الإيمان بها والاستعداد لها: موقف الحساب، قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين (4)} [الفاتحة]. أي: الجزاء والحساب، والمقصود بالحساب أن يُوقف العباد بين يدي رب العالمين ويعرفهم بأعمالهم وأقوالهم التي عملوها في الدنيا وما كانوا عليه من إيمان وكفر واستقامة وانحراف، ويُعطى العباد كتبهم بأيمانهم إن كانوا صالحين، وبشمائلهم إن كانوا غير ذلك. قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)} [الغاشية: 25 - 26]. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 7 - 12]. وروى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ»، فقلت: يا رسول اللَّه أليس قد قال اللَّه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا

يَسِيرًا (8)}؟ ! فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ» (¬1). قال النووي في شرحه للحديث: «معنى نوقش الحساب: استقصي عليه، قال القاضي: وقوله: «عُذِّب» له معنيان، أحدهما أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ، والثاني أنه مفض إلى العذاب بالنار، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: «هَلَكَ» مكان «عُذِّبَ» هذا كلام القاضي وهذا الثاني هو الصحيح ومعناه: أن التقصير غالب في العباد، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك ودخل النار، ولكن اللَّه تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء» (¬2). ونقل ابن حجر عن القرطبي في معنى قوله: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ»، قال: إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منة اللَّه عليه في سترها عليه في الدنيا وفي عفوه عنها في الآخرة (¬3). اهـ. واللَّه تعالى يحاسب كل إنسان بمفرده، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون (24)} [الصافات]. روى مسلم في صحيحه من حديث عدي بن حاتم رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا ¬

(¬1) ص: 1252 برقم 6537، وصحيح مسلم ص: 1153 برقم 2876. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 208 - 209). (¬3) فتح الباري (11/ 402).

النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (¬1). ومن المؤمنين من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى أمته ومعهم سَبعُونَ أَلفاً يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، وَهُم الَّذِينَ لَا يَستَرقُونَ وَلَا يَكتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّروُنَ وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ (¬2). والحساب على مواقف منها: عرض الأعمال على العباد، قال تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّر (13)} [القيامة]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]. ومنها أن يُعطى العبد كتابه ويُقال له: حاسب نفسك، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَا كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء]. المقصود من الآية أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلاً ونهاراً، وصباحاً ومساءً، ثم يجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيداً، أو بشماله إن كان شقياً، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره، ثم يُقال له: اقرأ كتابك بنفسك لكي تعلم أنك لم تُظلم ولم يُكتب عليك إلا ما ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 623 برقم 3247، وصحيح مسلم ص: 116 برقم 218. (¬2) صحيح البخاري برقم 5705، وصحيح مسلم برقم 220.

عملت لأنك ذكرت جميع ما كان منك ولا ينسى أحد شيئاً مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي. ومنها إحضار الشهود على العبد كالرسل والملائكة وأمة محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأعضاء، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)} [النساء]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار]. قال نابغة بني شيبان: إنَّ مَنْ يَرْكَبُ الفَوَاحِشَ سِرًّا ... حِينَ يَخْلُو بِسِرِّهِ غيرُ خالِ كَيْفَ يَخْلُو وَعِنْدَه كَاتِبَاهُ ... شاهدَاهُ وَرَبُّهُ ذُو الجلالِ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَلقَى اللَّهَ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيتُ وَصُمتُ وَتَصَدَّقتُ وَيُثنِي بِخَيرِ مَا استطَاعَ، فَيَقُولُ: هَا هُنَا إِذًا، قَالَ: ثُم يُقَالُ لَهُ: الآنَ نَبعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفسِهِ: مَن ذَا الَّذِي يَشهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُختَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحمِهِ وَعِظَامِهِ: انطِقِي فَتَنطِقُ فَخِذُهُ وَلَحمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ لِيُعذَرَ مِن نَفسِهِ، وَذَلِكَ المُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسخَطُ اللَّهُ عَلَيهِ» (¬1)، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا ¬

(¬1) ص: 1191 برقم 2968.

أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (65)} [يس]. ومنها وزن الأعمال الحسنات والسيئات، فأما المؤمن فتوزن حسناته وسيئاته ليتبين مقدار ما عمله، قال تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون (9)} [الأعراف]. وأما الكافر فتوزن أعماله لإقامة الحجة عليه وتوبيخه وتقريعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يراد بالحساب عرض أعمال الكفار عليهم وتوبيخهم عليها، ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات؛ فإن أُريد بالحساب المعنى الأول فلا ريب أنهم محاسبون، وإن أُريد به المعنى الثاني فإن قصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة فهذا خطأ ظاهر» (¬1). اهـ، وقال في موضع آخر: والنار دركات فإذا كان بعض الكفار أشد عذاباً من بعض لكثرة سيئاته وقلة حسناته كان الحساب لبيان مراتب العذاب لا لأجل دخولهم الجنة (¬2) اهـ. قال ابن كثير: وأما الكفار فتوزن أعمالهم وإن لم تكن لهم حسنات تنفعهم يقابل بها كفرهم لإظهار شقائهم وفضيحتهم على رؤوس الخلائق (¬3). اهـ. روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 305). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 305). (¬3) النهاية لابن كثير (2/ 35).

«إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِق، فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (18)} [هود]» (¬1). ومن آثار الإيمان بهذا الحدث الغيبي العظيم: أولاً: أن المؤمن إذا علم أنه سيقف بين يدي اللَّه ويحاسب حساباً دقيقاً استعد للقاء اللَّه وحاسب نفسه في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون (1)} [الأنبياء]. قال عمر رضي اللهُ عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا وتهيؤوا للعرض الأكبر على اللَّه». ثانياً: قدرة اللَّه العظيمة فهو يحاسب الخلائق جميعاً الجن والإنس مليارات البشر كل يحاسبه بنفسه، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْن (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون (93)} [الحجر]. ثالثاً: إن هذا الحساب دقيق، فيسأل العبد عن شركه وكفره، وعن الأنداد والشركاء الذين اتخذهم من دون اللَّه أولياء، قال تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُون (92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُون (93)} [الشعراء]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ ¬

(¬1) ص: 460 برقم 2441، وصحيح مسلم ص: 1108 برقم 2768.

الْمُرْسَلِين (65)} [القصص]. ويسأل عن صلاته، روى الطبراني في الأوسط من حديث عبد اللَّه بن قرط أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ الصَّلَاةُ فَإِن صَلَحَت صَلَحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِن فَسَدَت فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ» (¬1). ويُسأل عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُسأل عن سمعه وبصره وفؤاده، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا (36)} [الإسراء]. ويُسأل عن النعيم، ومن النعيم الشبع من الطعام والماء البارد والمركب الحسن وصحة الأبدان والزوجة والأولاد ورئاسة القوم، وغير ذلك من النعيم، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم (8)} [التكاثر]. روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبدُ يَومَ القِيَامَةِ أَن يُقَالَ لَهُ: أَلَم أُصِحَّ لَكَ جِسمَكَ؟ وَأَروِكَ مِنَ المَاءِ البَارِدِ؟ » (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلعَبدِ يَومَ القِيَامَةِ: أَلَم أُكرِمكَ، وَأُسَوِّدكَ (¬3)، وَأُزَوِّجكَ، وَأُسَخِّر لَكَ الخَيلَ وَالِإبِلَ وَأَذَركَ تَرأَسُ ¬

(¬1) (2/ 240) برقم 1859، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 1358. (¬2) (4/ 154) برقم 7203، وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 76) برقم 539. (¬3) أي أجعلك سيداً على غيرك.

وَتَربَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» (¬1). ويُسأل عن العهود التي بينه وبين الناس، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا (34)} [الإسراء]. قال الشاعر: أَمَا واللَّهِ لَوْ عَلِمَ الأنامُ ... لِمَا خُلقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا لَقَدْ خُلقُوا لأَمْرٍ لَوْ رَأَتْهُ ... عُيونُ قُلوُبِهم تَاهُوا وهَامُوا مَمَاتٌ ثُمَّ قبرٌ ثم حشرٌ ... وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظَامُ لِيَومِ الحشرِ قَدْ عَمِلَتْ رِجَالٌ ... فَصَلَّوا مِنْ مَخَافتِهِ وَصَامُوا وأختم بهذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللَّه تبارك وتعالى أنه قال: «يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» (¬2) (¬3). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه (4/ 2279) برقم 2968. (¬2) ص: 1039 برقم 2577. (¬3) القيامة الكبرى للدكتور عمر الأشقر ص: 193 - 231.

الكلمة السادسة والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى: الوارث

الكلمة السادسة والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى: الوارث الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد، قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)} [الأعراف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في الكتاب العزيز: «الوارث» قال الزجاج: الوارث كل باق بعد ذاهب فهو وارث (¬2)، وقال الحُليمي: الوارث معناه الباقي بعد ذهاب غيره (¬3). قال تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون (23)} [الحجر]. وقال تعالى عن نبي اللَّه زكريا: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِين (89)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين (58)} ¬

(¬1) ص: 526 برقم 2736، وصحيح مسلم ص: 1075 برقم 2677. (¬2) تفسير الأسماء ص: 65. (¬3) المنهاج (1/ 189)، نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى للنجدي (2/ 289).

[القصص]. قال ابن جرير رحمه الله: ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم فلا يبقى حي سوانا إذا جاء ذلك الأجل (¬1)، وقال الزجاجي: اللَّه عزَّ وجلَّ وارث الخلق أجمعين لأنه الباقي بعدهم وهم الفانون، كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون (40)} [مريم]. ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم (¬2): أولاً: اللَّه جل شأنه هو الباقي بعد فناء خلقه، الحي الذي لا يموت، الدائم الذي لا ينقطع، وإليه مرجع كل شيء ومصيره فإذا مات جميع الخلائق وزال عنهم ملكهم، كان اللَّه تعالى هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده، وهو القائل: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، فيجيب سبحانه نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار (16)} [غافر]. وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام (27)} [الرحمن]. وقال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]. ثانياً: بين اللَّه تعالى لعباده أنه هو الوارث لما أهلك من القرى الظالمة التي كانت تعيش في أمن ودعة ورغد العيش حتى أصابهم الأشر والبطر فلم يقوموا بحق النعمة ولم يشكروا ربهم الذي وهبهم، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين (58)} [القصص]. ¬

(¬1) جامع البيان (7/ 507). (¬2) اشتقاق الأسماء ص: 173 نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (2/ 288).

فقوله تعالى: {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً}، أي إلا زماناً قليلاً إذ لا يسكنها إلا المارة يوماً أو بعض يوم، وبقيت شاهدة على مصرع أهلها وفنائهم وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين (58)} أي: منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وأموالهم بل كان اللَّه وحده الوارث لديارهم وأموالهم، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون (40)} [مريم]. قال أبو البقاء الرندي: أَيْنَ الملوكُ ذوو التيجانِ مِنْ يَمَنٍ ... وأين منهم أكاليلُ وتيجانُ؟ وأين ما شادَه شدادُ في إرمٍ؟ ... وأين ما سَاسَهُ في الفرسِ ساسانُ؟ وأَيْنَ ما حَازَه قارونُ من ذهبٍ ... وأَيْنَ عادٌ وشدادٌ وقحطانُ؟ أتى على الكلِّ أمرٌ لا مردَّ لهُ ... حتى قَضَوا فكأن القومَ ما كانُوا وصارَ ما كانَ مِن مُلكٍ ومِنْ مَلِكٍ ... كَمَا حَكَى عَنْ خَيالِ الطَّيفِ وَسنَانُ ثالثاً: حث اللَّه عباده المؤمنين على النفقة في سبيله وذكرهم أنهم مستخلفون فيما عندهم من الأموال لا يملكونها حقيقة وإنما المال مال اللَّه، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِير (7)} [الحديد]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى،

أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ» (¬1). رابعاً: دعوة زكريا عليه السَّلام ربه أن يهبه ولداً يكون من بعده نبياً وقد بلغ من الكبر عتيًّا وامرأته عاقر، وقد حكى اللَّه ذلك في كتابه قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِين (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (90)} [الأنبياء]. أي: ارزقني وارثاً من آل يعقوب يرثني. خامساً: أن اللَّه تعالى هو الوارث فهو الذي يُورث الأرض من يشاء من عباده، قال تعالى عن نبي اللَّه موسى وهو يخاطب قومه: {اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين (128)} [الأعراف]. وقال تعالى عن فرعون وقومه لما عصوا اللَّه وخالفوا أمره: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُون (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِين (28)} [الدخان]. وقال سبحانه عن بني إسرائيل: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين (5)} [القصص]. سادساً: أن اللَّه تعالى جعل الجنة ثواباً للمتقين وهو يورثهم إياها، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا ¬

(¬1) ص: 1187 برقم 2959.

بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (43)} [الأعراف]. وقال سبحانه: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم]. وقال تعالى عن المؤمنين بعدما ذكر بعضاً من صفاتهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُون (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (11)} [المؤمنون] (¬1). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (2/ 287 - 291).

الكلمة السابعة والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}

الكلمة السابعة والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك لا وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. قال ابن كثير رحمه الله: «هذه أكبر نعم اللَّه تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات اللَّه وسلامه عليه، ولهذا جعله اللَّه تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115]. أي: صدقاً في الأخبار وعدلًا في الأوامر والنواهي فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}، أي: فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه اللَّه ورضيه وبعث به

أفضل الرسل الكرام وأنزل به أشرف كتبه» (¬1). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو الإسلام أخبر اللَّه نبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه اللَّه فلا ينقصه أبداً، وقد رضيَه فلا يسخطه أبداً، وقال ابن جريج وغير واحد: مات رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد يوم عرفة بواحد وثمانين يوماً. روى البخاري ومسلم من حديث طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}. قال عمر: «قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو قائم بعرفة يوم جمعة» (¬2). وروى ابن جرير بسنده أن ابن عباس قرأ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيداً، فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد ويوم جمعة (¬3). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أن الدين قد كمل فلا يحتاج إلى زيادة أبداً فما يفعله ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (5/ 246). (¬2) ص: 32 برقم 45، وصحيح مسلم ص: 1207 برقم 3017. (¬3) تفسير ابن جرير (4/ 419).

أهل الضلالة من البدع إنما هو ابتداع في دين اللَّه واتهام لهذا الدين بالنقص، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَن أَحدَثَ فِي أَمرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ» (¬1) فما من خير إلا والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دل أمته عليه وما من شر إلا حذر أمته منه، قال أبو ذر: «لقد تركنا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً» (¬2). ثانياً: أن اللَّه أتم على المؤمنين نعمه الظاهرة والباطنة، ومن أعظم هذه النعم بعث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين (164)} [آل عمران]. ثالثاً: أن اللَّه تعالى رضي للمؤمنين هذا الدين العظيم دين الإسلام بل إن اللَّه لا يقبل من الناس غيره، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران]. وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَاب (19)} [آل عمران]. فوجب على المؤمنين أن يرضوا بهذا الدين الذي رضيه اللَّه لهم، روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ¬

(¬1) ص: 514 برقم 2697، وصحيح مسلم ص: 714 رقم 1718. (¬2) تفسير ابن جرير (5/ 188).

قال: «مَن قَالَ حِينَ يَسمَعُ المُؤَذِّنَ: أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالإِسلَامِ دِيناً، غُفِرَ لَهُ ذَنبُهُ» (¬1). رابعاً: أن أحكام هذا الدين وشرائعه قد كملت فلا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة، فعلى سبيل المثال ذكر اللَّه في كتابه اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار ونهانا عن موالاتهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. فلا يأتي أحد فيقول: إن الزمن قد تغير وأن اليهود والنصارى أصدقاء وبيننا وبينهم مصالح فلا بد من صداقتهم وأن هؤلاء ليسوا كأسلافهم من قبل، قال تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير (73)} [الأنفال]. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 166 برقم 386.

الكلمة الثامنة والتسعون: النفخ في الصور

الكلمة الثامنة والتسعون: النفخ في الصور الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من أهوال الآخرة العظيمة التي يجب على المؤمن الإيمان بها والاستعداد لها: النفخ في الصور، قال تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)} [الكهف]. روى الترمذي في سننه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنهما، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ما الصور؟ قال: «قَرنٌ يُنفَخُ فِيهِ» (¬1)، والنفخ في الصور أمر غيبي يكون عند نهاية الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة فينفخ الملك إسرافيل في القرن بأمر اللَّه، فلا يبقى أحد من الخلق إلا مات إلا من استثناه اللَّه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون (68)} [الزمر]. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكر ما يحدث في آخر الزمان فقال: «ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا ¬

(¬1) ص: 398 برقم 2430، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ» قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قَالَ: «فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَامُرُنَا؟ فَيَامُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا»، قَالَ: «وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ» قَالَ: «فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ»، أَوْ قَالَ: «يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ»، أَو «الظِّلُّ» نُعْمَانُ الشَّاكُّ «فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون} [الصافات]» (¬1)، الحديث. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا بَينَ النَّفخَتَينِ أَربَعُونَ»: قال: أربعون يوماً؟ قال: «أَبَيتُ» قال: أربعون شهراً؟ قال: «أَبَيتُ»، قال: أربعون سنة؟ قال: «أَبَيتُ». قال: «ثُمَّ يُنزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَيَنبُتُونَ كَمَا يَنبُتُ البَقلُ، لَيسَ مِنَ الإِنسَانِ شَيءٌ إِلَّا يَبلَى، إِلَّا عَظماً وَاحِداً وَهُوَ عَجبُ الذَّنَبِ، وَمِنهُ يُرَكَّبُ الخَلقُ يَومَ القِيَامَةِ» (¬2). قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ ¬

(¬1) ص: 1180 رقم 2940. (¬2) ص: 976 برقم 4935، وصحيح مسلم ص: 1186 برقم 2955.

يَنسِلُون (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُون (52) إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُون (53) فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (54)} [يس]. ففي هذه الآيات والأحاديث المتقدمة يخبر اللَّه تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة فالنفخة الأولى تحدث وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء اللَّه كما هو مصرح به في الآية السابقة، ثم يقبض اللَّه سبحانه أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء ويقول: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثلاث مرات ثم يجيب نفسه بنفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} [غافر: 16] الذي قهر كل شيء وحكم بالفناء على كل شيء. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون (40)} [مريم]. ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ويأمره أن ينفخ في الصور مرة أخرى وهي النفخة الثانية نفخة البعث، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُون (68)} [الزمر]. قال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوج (42)} [ق]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: بينما يهودي يعرض سلعته أُعطي بها شيئاً كرهه فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه، وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين أظهرنا؟

فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهداً، فما بال فلان لطم وجهي؟ ! فقال: «لِمَ لَطَمتَ وَجهَهُ؟ » فذكره: فغضب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى رئي في وجهه ثم قال: «لَا تُفَضِّلُوا بَينَ أَنبِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَيُصعَقُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُنفَخُ فِيهِ أُخرَى، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَن بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرشِ، فَلَا أَدرِي أَحُوسِبَ بِصَعقَتِهِ يَومَ الطُّورِ أَم بُعِثَ قَبلِي؟ ! » (¬1). ومن آثار الإيمان بهذا الحدث الغيبي العظيم: أولاً: إن المؤمن ينبغي له أن يكون على استعداد للقاء ربه وألا يكون في غفلة فإن أمامه أهوالاً وأموراً عظيمة فهناك الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والنفخ في الصور، والبعث بعد الموت، وعرصات يوم القيامة، والصراط، والميزان وغير ذلك من الأهوال، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون (1) مَا يَاتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون (2)} [الأنبياء]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخَ؟ » فقال أصحاب محمد: كيف نقول؟ قال: «قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» (¬2). قال الشافعي: ¬

(¬1) ص: 656 - 657 برقم 3414، وصحيح مسلم ص: 966 برقم 2373. (¬2) (5/ 145) برقم 3008 وقال محققوه: حسن لغيره.

يومُ القيامةِ لا مالٌ ولا ولدٌ ... وضَمَّةُ القبرِ تُنْسِي لَيْلَةَ العُرسِ ثانياً: أنه عند نفخة الصعق يذهل الناس عن كل شيء، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (48) مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَاخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُون (49) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُون (50)} [يس]. قال ابن كثير: أي على ما يملكونه فالأمر أهم من ذلك ولا إلى أهلهم يرجعون، فلا رجعة إلى الدنيا (¬1). ثالثاً: قدرة اللَّه العظيمة على إماتة الخلق جميعاً بلحظة واحدة ثم إحيائهم، قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر (50)} [القمر]. رابعاً: إن اللَّه وصف حال الناس عند خروجهم من الأجداث بأنهم مسرعين إجابة لدعوة الداعي، قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون (43)} [المعارج]. وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُون (51)} [يس]. والنسل هو الشيء السريع. خامساً: العارفون باللَّه، المؤمنون بما سيكون من الأهوال العظيمة في الآخرة لا يغفلون عنها وهم منها مشفقون، قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 367).

قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ» (¬1). سادساً: أن أهوال الآخرة من الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والنفخ في الصور، وعرصات يوم القيامة، والصراط، والميزان، مع شدتها وعظمتها، إِلَّا أن اللَّه بمنه وكرمه ولطفه يهونها على المؤمن التقي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون (101) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُون (102) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُون (103)} [الأنبياء]. قال بعض المفسرين: الفزع الأكبر النفخ في الصور، وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (61)} [الزمر]. وقال تعالى: {يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون (68)} [الزخرف]. وقال تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم]. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 382 برقم 2312، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 268) برقم 1882.

الكلمة التاسعة والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى}

الكلمة التاسعة والتسعون: تأملات في قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى} الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير (120)} [البقرة]. قال ابن جرير: «ليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا اللَّه في دعائهم إلى ما بعثك اللَّه به من الحق فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتِّباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية والنصرانية ضد اليهودية ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة، وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل فالزم هدى اللَّه الذي لجميع الخلق إلى الألفة عليه سبيل» (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن جرير مختصراً (1/ 565).

قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى}، أي قل: يا محمد إن هدى اللَّه الذي بعثني به هو الهدى يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل. قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير (120)} فيه تهديد ووعيد للأمة من اتِّباع طرائق اليهود والنصارى والتشبه بهم بعد أن علموا القرآن والسنة عياذاً باللَّه من ذلك فإن الخطاب للرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأمر لأمته. وذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسيره فوائد للآية الكريمة. أولاً: بيان عناد اليهود والنصارى فإنهم لن يرضوا عن أحد مهما تألفهم وبالغ في ذلك حتى يتبع ملتهم. ثانيا: الحذر من اليهود والنصارى فإن من تألفهم وقدم لهم تنازلات فإنهم سيطلبون المزيد ولن يرضوا عنه إلا باتِّباع ملتهم. ثالثاً: أن الكفار من اليهود والنصارى يتمنون أن المسلمين يكونون مثلهم في الكفر، حسداً لهم، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة: 109]. قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89]. رابعاً: استدل كثير من الفقهاء بقوله: {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] حيث أفرد الملة على أن الكفر ملة واحدة كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (6)} [الكافرون]. فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار وكل منهم

يرث قريبه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة. خامساً: أن ما عليه اليهود والنصارى ليس ديناً بل هو هوى لقوله تعالى: {أَهْوَاءهُم} ولم يقل: ملتهم كما في أول الآية ففي الأول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} لأنهم يعتقدون أنهم على ملة ودين ولكن بين اللَّه تعالى أن هذا ليس بدين ولا ملة بل هوى وليسوا على هدى، إذ لو كانوا على هدى لوجب على اليهود أن يؤمنوا بالمسيح عيسى ابن مريم ولوجب عليهم جميعاً أن يؤمنوا بمحمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. سادساً: أن العقوبات إنما تقع على العبد بعد أن يأتيه العلم وأما الجاهل فلا عقوبة عليه لقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}، وهذا الأصل يشهد له آيات متعددة منها قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286]. وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. سابعاً: إن من اتبع الهوى بعد العلم فهو أشد ضلالة لقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}. ثامناً: الرد على أهل الكفر بهذه الكلمة {هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} والمعنى: إن كان معكم هدى اللَّه فأنتم مهتدون وإلا فأنتم ضالون. تاسعاً: أن البدع ضلالة لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى}، ولقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين (24)} [سبأ]. فليس بعد الهدى إلا الضلال ولقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:

«كُلُّ بِدعَةٍ ضَلَالَةٌ». (¬1) عاشراً: إن ما جاء إلى الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سواء كان القرآن أوالسنة فهو علم فالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أميًّا، لا يقرأ ولا يكتب كما قال اللَّه لنبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنبكوت: 48]. ولكن اللَّه تعالى أنزل عليه هذا الكتاب حتى صار بذلك نبيًّا جاء بالعلم النافع والعمل الصالح. قال تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113]. الحادي عشر: أنه لا أحد يمنع ما أراد اللَّه من خير أو شر لقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير (120)}. روى البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» (¬2). أي: لا ينفع ذا الجد أي الحظ والغنى حظه وغناه من اللَّه، فاللَّه محيط بكل شيء وقادر على كل شيء، ولا ينفع العبد إلا عمله الصالح. الثاني عشر: إن هذا التحذير في قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير (120)} موجهاً إلى ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح مسلم ص: 335 برقم 867. (¬2) ص: 172 برقم 844، وصحيح مسلم ص: 236 برقم 593.

رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكيف بمن دونه؟ ! فإن هذا التحذير يشمله وأولى، قال تعالى لنبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 74 - 75]. الثالث عشر: أن ما عليه اليهود والنصارى من دين باطل منسوخ بشريعة الإسلام لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} وهو الإسلام قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. ولقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (¬1). حتى عيسى عليه السَّلام عندما ينزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد بل يحكم بشريعة الإسلام. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَن يَنزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَريَمَ حَكَماً مُقسِطاً فَيَكسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقتُلَ الخِنزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزيَةَ وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لَا يَقبَلَهُ أَحَدٌ، وَحَتَّى تَكُونَ السَّجدَةُ الوَاحِدَةُ خَيرًا مِنَ الدُّنيَا وَمَا فِيهَا»، ثم يقول أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ ¬

(¬1) ص: 85 برقم 153.

مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء]» (¬1) (¬2). والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) ص: 414 برقم 2222، وصحيح مسلم ص: 86 برقم 155 واللفظ له. (¬2) تفسير سورة البقرة للشيخ ابن عثيمين (2/ 29 - 34).

الكلمة المئة: صفات اليهود

الكلمة المئة: صفات اليهود الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]. فأخبر جل وعلا أن اليهود من أشد الناس عداوة وحرباً على المسلمين كما أخبر أنهم يشعلون الفتن والحروب ضد المسلمين، قال تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين (64)} [المائدة: 64]. واليهود لم يسلم من شرهم أحد بل إنهم تطاولوا على رب العالمين سبحانه فقالوا: بأن للَّه الولد، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون (30)} [التوبة]. ومنها قولهم: بأن اللَّه فقير ونحن أغنياء، قال تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق (181)} [آل عمران]. وبهذه الأقوال الكفرية الشنيعة وغيرها من الأعمال كالكذب

على اللَّه والصد عن سبيله استحقوا غضب اللَّه ولعنته إلى يوم القيامة وجعل اللَّه منهم القردة والخنازير عقوبة لهم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60]. وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]. وقد اشتهر اليهود بصفات ذميمة ذكرها اللَّه في كتابه عنهم وهذه الصفات متأصلة في جميع اليهود إلى يوم القيامة وعلى المسلم أن يكون على حذر منها. فمنها: الغدر والخيانة ونقض العهود والمواثيق، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [المائدة: 31]، والتاريخ يشهد بنقضهم العهود والمواثيق فقد نقضوا العهد مع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحاولوا قتله أكثر من مرة، وفي آخرها وضعوا له السم في الشاة وقدموها هدية فمضغ منها مضغة ثم مكث يعاني سنوات عديدة من هذا السم (¬1). وما يحصل لإخواننا في فلسطين أكبر شاهد على نقض العهود، واليهود لا تنفع معهم العهود والمواثيق والاتفاقيات، وإنما يعرفون لغة الشدة والقوة، ولذلك لما نقضوا العهد مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاصرهم عليه الصلاة والسلام ونزلوا على حكم سعد فأمر أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم الأموال، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَقَد حَكَمتَ فِيهِم بِحُكمِ المَلِكِ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 1131 برقم 5777. (¬2) صحيح البخاري ص: 723 برقم 38، وصحيح مسلم ص: 734 برقم 1768.

ومن صفاتهم الذميمة: أنهم قتلة الأنبياء عليهم السَّلام فقد قتلوا يحيى وزكريا وغيرهما من الأنبياء والمرسلين. قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون (112)} [آل عمران]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ أَو قَتَلَ نَبِيًّا» (¬1). ومن صفاتهم الذميمة: عصيانهم للَّه واعتدائهم على الخلق وأنهم لا يتناهون عن المنكرات فيما بينهم، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُون (79)} [المائدة]. ومنها: أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُون (63)} [المائدة]. ولذلك يحرص اليهود على السيطرة على البنوك والاقتصاد العالمي ليتحكموا في مصير الأمم والشعوب. ومنها: كتمان العلم الذي أمرهم اللَّه بتبليغه، قال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون (187)} [آل عمران]. فأخبر جل ¬

(¬1) (6/ 413) برقم 3868 وقال محققو المسند: إسناده حسن.

وعلا أنهم يكتمون العلم اغتياظاً من إظهاره بعرض الدنيا الزائل. ومنها: الحسد، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. ومنها: الجبن الشديد من مقاتلة المسلمين في ساحات المعارك قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَاسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون (14)} [الحشر: 14]. وقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُون (111)} [آل عمران]. قال ابن كثير: وهكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم اللَّه وأرغم آنافهم وكذلك من قبلهم يهود المدينة، بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة كلهم أذلهم اللَّه (¬1). اهـ وأكبر شاهد على ذلك من الواقع أنك تشاهد الطفل الفلسطيني ومعه الحجر يقابل الجندي اليهودي المدجج بالسلاح وهو يفر هارباً منه خوفاً على حياته. ومن صفاتهم الذميمة: نشر الفساد في الأرض ينشرون المخدرات والمسكرات ويُشيعون الفواحش والرذائل في أوساط الشعوب فهم تجار الرذيلة وسماسرة البغاء، ويسيطرون على الإعلام بقنواته الفضائية المتعددة التي تنشر الأفلام الإباحية الخليعة، وتنشر كذلك الكفر والإلحاد وتشكك المسلمين في عقيدتهم ودينهم فهم يسعون إلى الإفساد في الأرض بكل وسيلة يملكونها، وصدق اللَّه إذ يقول: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 159).

{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين (64)} [المائدة]. ومنها: أنهم من أحرص الناس على الحياة، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمين (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون (96)} [البقرة]. ومعنى الآيات: أي: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء للَّه من دون الناس وأنكم أبناء اللَّه وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونعته كما يعرفون أبناءهم، وسميت هذه المباهلة تمنياً لأن كل محق يود لو أهلك اللَّه المبطل المناظر له، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء ما لهم بعد الموت وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم». عليهم لعائن اللَّه المتتابعة إلى يوم القيامة (¬1). قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وقال أيضاً: لو تمنى اليهود الموت لماتوا» (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 497) بتصرف. (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 494)، وقال: هذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.

ومنها: البخل، فهم قاتلهم اللَّه اتهموا اللَّه بالبخل، فعندما نزل قول اللَّه تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. قالوا: يا محمد افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فعاقبهم اللَّه بنفس الصفة الذميمة التي اتهموه بها، قال تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة: 64]. لذلك اليهود من أشد الناس بخلاً وأقلهم إنفاقاً وبذلاً. ومنها: صفة الذل، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. قال ابن جرير الطبري: «أُلزِمَ اليهود المكذبون لمحمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها من بلاد المسلمين والمشركين، {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} أي: بعهد من اللَّه وعهد من الناس لهم والمراد بالحبل: السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان، تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام» (¬1). وهم الآن تحت حماية النصارى الأمريكان وهم في ذلة وإن ملكوا الأسلحة النووية، والطائرات، والدبابات المتطورة، وتفوقوا على المسلمين في القوة العسكرية، {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (21)} [يوسف]. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (3/ 394).

مقدمات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين: أما بعد: فقد اطّلعت على الكتاب الموسوم بـ «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة: دروس يومية» إعداد الشيخ الدكتور أمين ابن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. والشيخ أمين معروف لديّ وهو من الدعاة المعروفين بالعلم والبصيرة، وقد سمعتُ عدداً من كلماته التي يلقيها في المساجد. ولما تصفّحتُ الكتاب وجدتُه منوعاً يشمل موضوعات متعددة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه، وفي العلم، والوصايا، والأدعية والأذكار، وآداب الطعام، والمحرمات، وصيانة الأعراض واللباس، والمواعظ والرقائق والفضائل والأخلاق، وقضايا اجتماعية كقضية المرأة وغيرها وتوجيهات عامة وغيرها. ولا شكّ أن هذه الموضوعات شاملة لقضايا متعددة من أمور الدين، الناس بحاجة إليها، فهذه الكلمات مفيدة لعامة الناس، وهي مفيدة للدعاة والخطباء وأئمة المساجد يقرؤونها على الناس دروساً يومية.

وإنني أوصي عموم المسلمين بقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وأوصي أيضاً أئمة المساجد والخطباء والدعاة بالاستفادة من هذا الكتاب على شكل دروس يومية تقرأ على المصلين. والمؤلف - وفقه اللَّه - بذل جهده في اختيار الموضوعات المهمة، ودعمها بالأدلة من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وأهل العلم المعتبرين، ورجع إلى كتب التفسير وكتب الفقه وكتب الحديث وكتب التاريخ والسِّير، فجاء هذا الكتاب - بحمد اللَّه - وافياً بالغرض نافعاً يجد فيه الباحث بغيته. وأسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب وبكلمات الشيخ أمين التي يلقيها في المساجد، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين، وأن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه جواد كريم. وصلى اللَّه وبارك على عبد اللَّه ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين. كتبه عبد العزيز بن عبد الله الراجحي 12/ 4 / 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ ناصر بن سليمان العمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المكرم الأخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي - وفقه اللَّه -: سلام اللَّه عليكم ورحمته وبركاته. وبعد: أشكركم على هديتكم كتاب (الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة) وقد تصفحت سفركم الجميل وألفيته من الكتب النافعة في بابه ومناسباً في وقتنا هذا لما اشتمل عليه من موضوعات تهم العامة والخاصة، وتقرب كثيراً من المعاني إلى الأفهام وتصلح حال كثير من الناس بأسلوب لطيف وتأصيل شرعي مستمد من الكتاب والسنة وأقوال السلف. وفقكم اللَّه وجعلكم مباركين أينما كنتم. ونفع بعلمكم ورزقنا وإياكم حسن القصد والعمل. كتبه ناصر بن سليمان العمر الاثنين 12 ربيع الأول 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ سعد بن عبد الله الحميد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد اطلعت على كتاب «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» الذي ألفه أخونا الشيخ أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية - وفقه اللَّه -، فوجدته كتاباً نافعاً مناسباً لعموم المسلمين، وبخاصة الدعاة والخطباء وأئمة المساجد، فقد ضمَّنه مؤلفه عشرة ومئة درس في موضوعات متعددة في العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والقضايا الاجتماعية والأسرية، وما يخص المرأة، وبعض القضايا المعاصرة، كما حرص المؤلف على تجنب الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما أمكن، فنسأل اللَّه تعالى أن يجزل له المثوبة، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد. كتبه سعد بن عبد الله الحميد 7 ربيع الأول 1427 هـ

تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد استمعت إلى بعض الكلمات والدروس التي كان يلقيها الشيخ: أمين بن عبد اللَّه الشقاوي، وكانت هذه الدروس والكلمات مفيدة وقيِّمة، فهي جامعة ومختصرة مع الاعتناء بالأدلة من الكتاب والسنة، والنقل عن أهل العلم. وقد قام - وفقه اللَّه - بجمع هذه الكلمات والدروس في كتاب أسماه: (الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة)، وهي شاملة لكثير من قضايا الشريعة من: التوحيد، والعقيدة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتفسير، والحديث، وغير ذلك من القضايا والمسائل. فبارك اللَّه فيه ونفع به الإسلام والمسلمين. كتبه عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد صلى اللهُ عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فهذا هو المجلد الثالث من كتاب الدرر المنتقاة يشتمل

على الجزأين السادس والسابع، حيث يحتوي كل جزء على خمسة وخمسين كلمة وهو كسابقيه قد التزمت ألا أورد فيه من الأحاديث إلا ما صحح فليطمئن قراء كتابي الأفاضل إلى ذلك، مع أني قد يسرت للقارئ الكريم الوصول إلى مصادر الكتب إذا أحب الرجوع إليها. وقد ضبطت الأحاديث، وبعض الكلمات بالشكل ليتمكن القراء من القراءة الصحيحة، تلبية لطلبات قراء الكتاب. وإنني أشكر المشايخ الذين ساعدوني في هذا الكتاب ومنهم: شيخنا حمد بن عبد الله الجمعة، والشيخ غالب المطيري .. وغيرهم ممن لم يرغب بذكر اسمه. وأسأل اللَّه تعالى أن ينفع بهذا الكتاب جامعه وقارئه وناشره وسامعه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يقبله إنه جواد كريم. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف الرياض 18/ 11 / 1433 هـ

الكلمة الأولى: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فضائلها، وفوائدها

الكلمة الأولى: الصلاة على النبي - صلى اللهُ عليه وسلم - فضائلها، وفوائدها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمداً صلى اللهُ عليه وسلم رحمة للعالمين، ونجاة لمن آمن به من الموحدين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، وشفيعاً في المحشر، أرسله الله على فترة من الرسل، فهدى به لأقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته وتوقيره ورعايته والقيام بحقوقه والصلاة عليه والتسليم، قال بعض العلماء: ومن خواصه صلى اللهُ عليه وسلم أنه ليس في القرآن ولا غيره صلاة من الله على غيره، فهي خصيصة اختصه الله بها دون سائر الأنبياء (¬1). اهـ. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي العالية قال: «صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء»، وقال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: ¬

(¬1) انظر: خطبة السخاوي في كتابه القول البديع ص: 5 بتصرف، ومرشد المحتار إلى خصائص المختار لمحمد بن طولون ص: 397. نقلًا عن كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام صلى اللهُ عليه وسلم ص: 5.

«يُصَلُّونَ: يُبَرَّكُونَ» هكذا علقه البخاري عنهما (¬1). قال ابن كثير: «المقصود من الآية: أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً» (¬2). وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وسلم منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ» (¬3). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» (¬4). وروى الترمذي في سننه من حديث أُبي بن كعب رضي اللهُ عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي، فَقَالَ: «مَا شِئْتَ»، قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، ¬

(¬1) صحيح البخاري ص: 937 باب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. (¬2) تفسير ابن كثير (11/ 210). (¬3) (19/ 57) برقم 11998 وقال محققوه: حديث صحيح. (¬4) برقم 2042 وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 383) برقم 1796.

قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: سُئل شيخنا رحمه الله (¬2) عن تفسير هذا الحديث فقال: كان لأُبي بن كعب دعاء يدعو به لنفسه، فسأل النبي صلى اللهُ عليه وسلم هل يجعل له منه ربعه صلاة عليه صلى اللهُ عليه وسلم، فقال: إن زدت فهو خير لك، فقال له: النصف، فقال: إن زدت فهو خير لك، إلى أن قال: إن زدت فهو خير لك، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها، أي أجعل دعائي كله صلاة عليك، قال: إذاً تُكفى همك ويُغفر لك ذنبك، لأن من صلى على النبي صلى اللهُ عليه وسلم صلاة، صلى الله عليه بها عشراً، ومن صلى الله عليه كفاه همه وغفر له ذنبه، هذا معنى كلامه رحمه الله (¬3). اهـ. ومن فوائد الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وسلم: أولاً: امتثال أمر الله سبحانه وتعالى. ثانياً: موافقته سبحانه وتعالى في الصلاة عليه، وإن اختلفت الصلاتان، فصلاتنا عليه دعاء وسؤال وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف. ثالثاً: أنها ترفع الدرجات وتكفر السيئات كما وردت بذلك الأحاديث السابقة. رابعاً: أنه يرجى إجابة دعاء السائل إذا ختم بها، فبها يصعد الدعاء ¬

(¬1) برقم 2457 وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬3) جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام ص: 76.

إلى رب العالمين. روى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس، أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «كُلُّ دُعَاءٍ مَحجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1). خامساً: أنها سبب لكفاية العبد ما أهمه، ففي حديث أُبي السابق لما قال للنبي صلى اللهُ عليه وسلم أجعل لك صلاتي كلها، قال له إذاً تُكفى همك، ويُغفر ذنبك، ومن القصص في هذا الباب وهي كثيرة أن أحد الإخوان كان يعاني من مشكلات كثيرة مع زملائه، وفي بيته حمل هموماً وغموماً، فدُل على الإكثار من الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وسلم فلازم ذلك، فتبدلت حاله إلى أفراح ومسرات في وقت قليل. سادساً: أن الصلاة عليه صلى اللهُ عليه وسلم من حقوقه على أمته مقابل الخير العظيم الذي حصل لهم بسببه. وأما صيغ الصلاة عليه، فهي كثيرة، أكتفي باثنتين منها: أولًا: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي اللهُ عنه فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، فَقُلْتُ: بَلَى فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم فَقُلْنَا يَا رَسُولَ الله: كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى ¬

(¬1) مسند الفردوس (4754) وحسنه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (5/ 57) برقم 2035، وورد موقوفاً عن علي وضعفه آخرون، وقال الألباني الموقوف أصحّ.

آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (¬1). ثانياً: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي رضي اللهُ عنه أنهم قالوا: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (¬2). أما المواطن التي يُصلى فيها على النبي صلى اللهُ عليه وسلم فهي كثيرة أذكر منها: 1 - بعد التشهد في جميع الصلوات، وهو ركن بعد التشهد الأخير عند جمع من أهل العلم. 2 - في التشهد الأول وآخر القنوت. 3 - في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية. 4 - عند دخول المسجد، وعند الخروج منه. 5 - عند اجتماع القوم، وقبل تفرقهم للحديث: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً (¬3)، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (¬4). ¬

(¬1) برقم 3370 وصحيح مسلم برقم 406. (¬2) برقم 3369 وصحيح مسلم برقم 407. (¬3) ترة: يعني حسرة وندامة. (¬4) سنن الترمذي برقم 3380 وقال: حديث حسن صحيح.

6 - عند الهم والشدائد وطلب المغفرة في الدعاء. 7 - عند استفتاح الخطب للدروس وغيرها مقروناً بالثناء على الله تعالى وعند ختمها. 8 - في أول النهار وآخره مع أذكار الصباح والمساء. 9 - بعد الأذان وذلك من وسائل الشفاعة. 10 - عند ذكره صلى اللهُ عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: «الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» (¬1). وغير ذلك من المواضع. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم 3546 وقال: حديث حسن صحيح غريب.

الكلمة الثانية: تأملات في قوله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا}

الكلمة الثانية: تأملات في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21] الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وعملاً بالآية الكريمة لنستمع إلى آية من كتاب الله ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد (25) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد (25) يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة (26) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [لفجر: 21 - 30]. قوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)} يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فيقول: {كَلاَّ} أي: حقاً {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا} أي: وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)} [طه: 105]. وقوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} أي وقام الخلائق من قبورهم لربهم وجاء ربك يعني لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى اللهُ عليه وسلم بعد ما يسألون أولي العزم

من الرسل واحداً بعد واحد، فكلهم يقول: لست بصاحب ذلك حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى اللهُ عليه وسلم فيقول: أنا لها، فيذهب فيشفع عند الله ثم يجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً (¬1)، فيا له من موقف عظيم كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 25 - 26]. قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (¬2). وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ} أي: عمله وما كان أسلفه في قديم الدهر وحديثه، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}: أي: وكيف تنفعه الذكرى، يقول نادماً: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}: أي: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصياً، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)} [الفرقان: 27 - 29]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ: 40]. أما إذا كان طائعاً فإنه يود لو ازداد من الطاعات، روى الإمام ¬

(¬1) الحديث مخرج في الصحيحين أخرجه البخاري برقم 3340؛ ومسلم في صحيحه برقم 194. (¬2) برقم 2842.

أحمد في مسنده من حديث محمد بن أبي عميرة رضي اللهُ عنه وكان من أصحاب النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَو أَنَّ عَبداً خَرَّ عَلَى وَجهِهِ مِن يَومِ وُلِدَ إِلَى أَن يَمُوتَ هَرِماً فِي طَاعَةِ اللهِ لَحَقِرَهُ ذَلِكَ اليَومَ، وَلَوَدَّ أَنَّهُ رُدَّ إِلَى الدُّنيَا كَيمَا يَزدَادَ مِنَ الأَجرِ وَالثّوَابِ» (¬1). قوله تعالى: {لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد} أي ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه، قال تعالى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيم (50)} [الحجر: 50]. {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد} أي: ليس أحد أشد قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربهم عزَّ وجلَّ، هذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين فإنهم يُقَرَّنُون بسلاسل من نار ويسحبون على وجوههم في الحميم، ثم في النار يسجرون، قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَاد (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّار (50)} [إبراهيم: 49 - 50]. وقال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوه (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه (32) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم (33)} [الحاقة: 30 - 33]. قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي: النفس الزكية والمطمئنة هي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق، فيقال لها: ارجعي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته، {رَاضِيَةً}: أي: في نفسها مرضية، أي قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها، كما قال تعالى: {أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]. ¬

(¬1) برقم 17650 وقال محققوه: إسناده صحيح.

قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}: أي في جملة عبادي {وَادْخُلِي جَنَّتِي}، وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ». قَالَ: «فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ .. » ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الحَدِيثِ: «ثُمَّ يَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي القَبْرِ فَيُقَالُ لَهُ مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ» (¬1). وروى الطبراني في المعجم الكبير بسنده إلى سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم يُر على خلقه، فدخل نعشه ثم لم يُر خارجاً منه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفير القبر ما يُدرى من تلاها: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30] (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (14/ 378) برقم 8769 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) (10/ 236) برقم 10581 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 285) ورجاله رجال الصحيح.

الكلمة الثالثة: من مشاهد القيامة (الحشر وأهواله)

الكلمة الثالثة: من مشاهد القيامة (الحشر وأهواله) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن أعظم أهوال يوم القيامة التي يجب على المؤمن الإيمان بها والاستعداد لها موقف الحشر. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِين (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُوم (50)} [الواقعة: 49 - 50]. وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيم (25) [الحجر: 25]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُود (103)} [هود: 103]. والله عزَّ وجلَّ يحشر الناس ويجمعهم ليوم القيامة سواء من كان منهم في قبره، أو أكلته السباع، أو احترق، أو غرق في البحار، أو مات بأي ميتة كانت، قال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا (148)} [البقرة: 148]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس: 82]. والله عزَّ وجلَّ يحشر الخلائق جميعاً لا ينسى منهم أحداً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]. وقال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ

نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف: 47]. وقال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} [مريم: 93 - 94]. وهذه النصوص تدل على حشر الخلائق جميعاً الجن والانس والبهائم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون (38)} [الأنعام: 38]. وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَت (5)} [التكوير: 5]. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير (29)} [الشورى: 29]. وحرف إذا إنما يكون لما يأتي لا محالة (¬1). ويحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً أي غير مختونين كما ولدتهم أمهاتهم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: سمعت النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ! الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» (¬2). وكل إنسان يُبعث على الحال التي مات عليها من التقوى والإيمان والكفر والعصيان، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 248). (¬2) برقم 6527 وصحيح مسلم برقم 2859 واللفظ له.

النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (¬1). وفي الحديث: «الَّذِي يَمُوتُ وَهُوَ مُحرِمٌ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّياً» (¬2)، وَ «الشَّهِيدُ يُبعَثُ يَومَ القِيَامَةِ وَجَرحُهُ يَثعَبُ، اللَّونُ لَونُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسكِ» (¬3). والحشر مواقف: فمن ذلك أن الكفار يحشرون على وجوههم، قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّاوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: 97]. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ! » (¬4). ومن ذلك أن الناس يُحشرون على طرائق. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنفٌ مُشَاةٌ، وَصِنفٌ رُكبَانٌ، وَصِنفٌ عَلَى وُجُوهِهِم»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِم؟ وَقَالَ عَفَّانُ: يَمْشُونَ - قَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُم عَلَى أَرْجُلِهِم قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُم عَلَى وُجُوهِهِم، أَمَا إِنَّهُم ¬

(¬1) برقم 2878. (¬2) رواه البخاري في صحيحه برقم 1851 وصحيح مسلم برقم 1206. (¬3) رواه البخاري في صحيحه برقم 5533 وصحيح مسلم برقم 1876. (¬4) برقم 4760 وصحيح مسلم برقم 2806.

يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِم كُلَّ حَدَبٍ وَشَوكٍ» (¬1). ومنها أن المتقين يُحشرون على أحسن مركب. قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: 85 - 86]. أي عطاشاً، وقال جمع من المفسرين: إنهم يُحشرون - أي المتقين - على الإبل النجائب تكريماً لهم، ويُحشر الناس يوم القيامة على أرض غير هذه الأرض. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار (48)} [إبراهيم: 48]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل ابن سعد رضي اللهُ عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ (¬2)، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ» قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: «لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَدٍ» (¬3). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الوقت الذي تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات هو وقت مرور الناس على الصراط. روى مسلم في صحيحه ¬

(¬1) (14/ 289) برقم 8647 وقال محققوه حسن لغيره، قوله: صنف مشاة، وصنف ركبان، قال السندي: هم أهل الإيمان عوامه وخواصهم. يتقون بوجوههم كل حدبٍ، الحدب بفتحتين الغليظ المرتفع من الارض، أي يجعلون وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقي عن مؤذيات الطرق، وقد غلت أيديهم وأرجلهم، وذلك لما لم يجعلوها ساجدة لخالقها. (¬2) عفراء: قال الخطابي العفر بياض ليس بناصع، وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض، والنقي: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، والمعلم: هو العلامة التي يهتدي بها إلى الطريق كالجبل والصخرة، فتح الباري (11/ 375). (¬3) برقم 6521 وصحيح مسلم برقم 2790.

من حديث ثوبان رضي اللهُ عنه أن حبراً من أحبار اليهود سأل الرسول صلى اللهُ عليه وسلم فقال: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ» (¬1). ومن آثار الإيمان بهذا الحدث الغيبي العظيم: أولاً: أن الله أخبر عباده بأهوال هذا اليوم - وهم في الدنيا - ليعلموا ما هم صائرون إليه، وليكونوا على بينة من أمرهم، وليستعدوا لذلك ويحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، قال أحدهم: وَلَو أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ المَوتُ غَايَةَ كُلِّ حَيٍّ وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَنُسأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيءٍ وصدق الله إذ يقول: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد (30)} [آل عمران: 30]. أما المجرمون فيقولون: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا (49)} [الكهف: 49]. ثانياً: أن الناس يذهلون من هول المحشر عن كل شيء. قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيه (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيه (37)} [عبس: 34 - 37]. وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: 17]. ثالثاً: قدرة الله العظيمة على جمعهم وحشرهم في صعيد واحد ¬

(¬1) برقم 315.

ومحاسبتهم. قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِير (29)} [الشورى: 29]. وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر} [القمر: 50]. رابعاً: في يوم الحشر تظهر حقيقة الدنيا لأهلها وحقارتها. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين (45)} [يونس: 45]. وقال عن المجرمين: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا (103)} [طه: 102 - 103]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة: من أسماء الله الحسنى (الحليم)

الكلمة الرابعة: من أسماء الله الحسنى (الحليم) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (180)} [الأعراف: 180].روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1) ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة الحليم، قال بعضهم ذكر هذا الاسم في كتاب الله إحدى عشرة مرة، قال تعال: {أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيم (235)} [البقرة: 235]. وقال تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيم (263)} [البقرة: 263]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم كان يقول عند الكرب: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ ¬

(¬1) برقم 2736 وصحيح مسلم برقم 2677.

وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» (¬1). قال ابن جرير: حليم ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم (¬2)، وقال الخطابي: هو ذو الصفح، والأناة الذي لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص. ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحلم، إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة والمتأني الذي لا يعاجل بالعقوبة، قال الشاعر: لَا يُدْرِكُ المَجدَ أقوامٌ وإن كَرُمُوا حتى يَذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوامِ ويُشتَموا فترى الألوان مسفرةً لا صفح ذُلٍّ ولكن صفحَ أحلاِ (¬3) قال ابن كثير: «حَلِيمٌ غَفُورٌ» أن يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر ويُنْظِر ويؤجِّل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر (¬4). ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: إثبات صفة الحلم لله عز وجل وهي الصفح عن العصاة من العباد وتأجيل عقوبتهم لعلهم يتوبوا ويرجعوا. ثانياً: سؤال المؤمن ربه بهذه الصفة العظيمة الحلم فيقول: يا حليم اعف عني، واصفح واستر. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6345 وصحيح مسلم برقم 2730 واللفظ له. (¬2) جامع البيان (2/ 1358). (¬3) شأن الدعاء ص: 63 - 64. (¬4) تفسير ابن كثير (11/ 338).

ثالثاً: حلم الله سبحانه على عباده وتركه المعاجلة لهم بالعقوبة (¬1). قال الشاعر: مَا أَحلمَ اللَّهَ عَنِّي حَيْثُ أَمْهَلَني ... وقَدْ تَمَادَيتُ في ذَنْبِي ويَسْتُرُنِي «وإن سألت عن حلمه، فهو الحليم الذي قد كمل في حلمه، فله الحلم الكامل الذي وسع السماوات والأرض. وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، بل يعافيهم ويمهلهم ليتوبوا فيتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم. وهو يتحبب إليهم بالنعم مع كمال غناه، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم. قال جل جلاله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (45)} [فاطر: 45]» (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: وهو الحَلِيمُ فلا يُعَاجِلُ عَبدَهُ بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِن عِصيَانِ (¬3) ولولا حلمه ومغفرته، لزلزلت السماوات والأرض من معاصي العباد. فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. ¬

(¬1) النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للنجدي (1/ 276). (¬2) الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبد الهادي وهبي (ص: 222). (¬3) الكافية الشافية (ص: 209).

فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما (الحليم والغفور) كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجُناة ومغفرته للعصاة، لما استقرت السماوات والأرض؟ (¬1). وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد، فيمسكهما بحلمه ومغفرته (¬2). رابعاً: حلم الله عظيم يتجلى في صبره سبحانه على خلقه، والصبر داخل تحت الحلم فكل حليم صابر، وقد جاء في السنة وصف الله تعالى بالصبر. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَيْسَ أَحَدٌ، أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» (¬3). وهو سبحانه أعظم العظماء، وملك الملوك، وأكرم الأكرمين وإحسانه فوق كل إحسان مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويُعَافيه ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات، ويتلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله إليه ويأمرهم بأن يُلَيِّنُوا له القول ويرفُقُوا به، فأيُّ حلم أعظمُ من هذا؟ ! (¬4). ¬

(¬1) الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبد الهادي وهبي (ص: 222 - 223). (¬2) عدة الصابرين (ص: 237). (¬3) صحيح البخاري برقم 6099، وصحيح مسلم برقم 2804. (¬4) شفاء العليل (2/ 654).

وقد أخبر سبحانه عن تأخيره لعقاب من أذنب من عباده في الدنيا، وأنه لو كان يؤاخذهم بذنوبهم لما بقي على ظهر الأرض أحد، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون (61)} [النحل: 61]. قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعاً لإهلاك بني آدم، ولكن الرب يحلم، ويستر وينظر، إلى أجل مسمى، ولا يعاجلهم بالعقوبة، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً (¬1). وقد تحصل هذه العقوبة في الدنيا كما يحدث في بعض الدول الكافرة أو التي تماثلها في الفساد والانحلال من الفيضانات والأعاصير المدمرة والزلازل المهلكة، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَاد (31)} [الرعد: 31]. خامساً: يجوز إطلاق صفة الحلم على الخلق، فقد وصف الله أنبياءه بذلك، فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب (75)} [هود: 75]. وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب: {نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيد (87)} [هود: 87]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (8/ 320).

عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: كَأَنِّي أَنظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم يَحكِي نَبِيّاً مِنَ الأَنبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَومُهُ فَأَدمَوهُ، فَهُوَ يَمسَحُ الدَّمَ عَن وَجهِهِ، وَيَقُولُ: «رَبِّ اغفِر لِقَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعلَمُونَ» (¬1). والحلم من الصفات العظيمة التي يريد الله من عباده أن يتحلوا بها. روى مسلم في صحيحه من حديث الأشج بن عبد القيس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ» (¬2). وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم من أكثر الناس حلماً. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أنه قال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ (¬3). وصدق الله إذ يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم (4)} [القلم: 4]. والصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق تكون في الخالق سبحانه على قدر عظمته وجلاله وفي المخلوق بحسبه والله سبحانه وتعالى يحب من اتصف بهذه الصفات فهو حليم يحب الحلماء، وكريم يحب الكرماء، وصبور يحب الصابرين. ¬

(¬1) برقم 6929؛ وصحيح مسلم برقم 1792. (¬2) برقم 18. (¬3) صحيح البخاري برقم 3149؛ وصحيح مسلم برقم 1057.

قال القرطبي: فمن الواجب على من عرف أن ربه حليم على من عصاه، أن يحلم هو على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليماً فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سورة غضبه ويرفع الانتقام عن من أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعود الحلم له سجية، وكما تحب أن يحلم عنك مالِكُكَ، فاحلُم أنت عمَّن تملك لأنك متعبد بالحلم مثاب عليه (¬1). قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين (40)} وقال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيل (43). روى الخطيب في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوَقَّهُ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ص: 96 - 97. (¬2) (9/ 127) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 342.

الكلمة الخامسة: تأملات في قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح}

الكلمة الخامسة: تأملات في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، فقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيم (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (175)} [آل عمران: 172 - 175]. قال أهل السير: بعدما انتهت معركة أُحد وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص وقتل سبعون من أصحاب النبي صلى اللهُ عليه وسلم وكسرت رباعيته، وشُج رأسه، وسال الدم على وجهه، رجع المشركون من أُحد، قال أبو سفيان: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم ارجعوا، فسمع رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة

ليريهم أن بهم قوة وجلداً على ما بهم من جراح وآلام طاعة لله ورسوله، فأنزل الله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيم (172)} [آل عمران: 172] (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيم (172)} قَالَت لِعُروَةَ: يَا ابنَ أُختِي كَانَ أَبَوَاكَ مِنهُم: الزُّبَيرُ وَأَبُو بَكرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَا أَصَابَ يَومَ أُحُدٍ، وَانصَرَفَ عَنهُ المُشرِكُونَ خَافَ أَن يَرجِعُوا، قَالَ: مَن يَذهَبُ فِي أَثَرِهِم، فَانتَدَبَ مِنهُم سَبعُونَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِم أَبُو بَكرٍ وَالزُّبَيرُ (¬2). قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} وذلك أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه لما سمعوا أن أبا سفيان قد جمع الجموع لقتالهم زادهم إيماناً وتصديقاً، وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي أن الله كافينا نعم المولى ونعم النصير. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار وقالها محمد صلى اللهُ عليه وسلم حين قالوا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ¬

(¬1) الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري ص: 253 - 254. (¬2) برقم 4077 وصحيح مسلم برقم 2418 مختصراً.

فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} (¬1). قوله تعالى: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم (174)} قال ابن كثير رحمه الله: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم لم يمسسهم سوء ما أضمر لهم عدوهم. قال المفسرون: أعطاهم الله من الجزاء أربعة معان: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتِّباع رضوان الله، فرضي عنهم ورضوا عنه. قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (175)}: أي يخوف أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، فلا تخافوهم إن كنتم مؤمنين، أي إذا سول لكم وأوهمكم، فتوكلوا عليَّ والجؤوا إليَّ فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ (36)} [الزمر: 36]. وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76]. ومن فوائد الآيات الكريمات: 1 - أن المؤمن إذا كان في كرب وشدة فتوكل على الله وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإن الله يكفيه ما أهمه ويصرف عنه كيد عدوه، وهذا ما حدث لإبراهيم عليه السلام فإنه عندما أُلقي في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكانت عاقبة ذلك ما ذكره الله بقوله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا ¬

(¬1) برقم 4563.

وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم (69)} [الأنبياء: 69]. قال أبو العالية: لو لم يقل سلاماً لكان بردها أشد عليه من حرها (¬1)، وقال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: لَو لَم يُتْبِع بَردُهَا سَلَاماً لَمَاتَ إِبرَاهِيمُ مِن شِدَّةِ بَردِهَا (¬2). وهذا يشبه ما حدث لإخواننا في غزة عندما حاصرهم اليهود بَرّاً وبحراً وجوّاً، وساعدهم النصارى والمنافقون وضيقوا عليهم الخناق، فقالوا: لن نركع ولا نستسلم إلا لله، حسبنا الله ونعم الوكيل، فكانت العاقبة للمؤمنين، ورد الله كيد اليهود في نحورهم ورجعوا خائبين لم يحققوا شيئاً مما أرادوا. 2 - أن الله تعالى قذف في قلوب المشركين الرعب، حين سمعوا أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه خرجوا لملاحقتهم، فانهزموا وعادوا خائبين. والرعب من أقوى أسباب النصر، قال صلى اللهُ عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» (¬3). وقد اختلف أهل العلم هل هو خاص بالرسول صلى اللهُ عليه وسلم أو يشمل ما يحصل لأعداء أتباعه إلى يوم القيامة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وإذا كان الرعب يُلقى في قلوب الذين كفروا لإشراكهم، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَاوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِين (151)} [آل عمران: 151]. فإن الأمن يُلقى في قلوب الذين آمنوا لتوحيدهم، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (7/ 5713). (¬2) المصدر السابق. (¬3) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم 335 وصحيح مسلم برقم 521.

أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون (82)} [الأنعام: 82]. وكلما كان الإنسان أشد إيماناً وتوحيداً كان أشد أمناً واستقراراً، وهذا شيء مجرب لأن من كان أشد إيماناً وتوحيداً كان أقوى توكلاً. ومن أقوى أسباب الأمن ومصابرة الأعداء التوكل على الله، وبعض الناس يكون عنده قوة توكل على الله ويشفى بدون علاج بسبب قوة توكله، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حينما ذكر أن الدواء المحرم ليس ضروريّاً حتى يُقال: إن الدواء بالمحرم جائز للضرورة، قال: هذا ليس للضرورة لأن المريض قد يُشفى بدواء آخر، وقد يشفى بالقراءة، قال: وقد يشفى بقوة التوكل على الله (¬1). اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم للشيخ ابن عثيمين بتصرف (2/ 300 - 301).

الكلمة السادسة: صيام يوم عاشوراء

الكلمة السادسة: صيام يوم عاشوراء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من فضل الله ورحمته بعباده أن يسر لهم مواسم خير يستكثرون فيها من الأعمال الصالحة، وخصها بمزيد من الفضل، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ » فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي اللهُ عنها قالت: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى ¬

(¬1) برقم 2004 وصحيح مسلم برقم 1130 واللفظ لمسلم.

يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما افترض رمضان قال صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» (¬2). فهذه الأحاديث الشريفة تدل على أن يوم عاشوراء كان معظَّماً عند أهل الجاهلية، وكذلك اليهود والنصارى كما جاء ذلك في الأحاديث الأخرى، وقد دل حديث ابن عمر السابق أن صيامه كان واجباً أول الإسلام، فلما فُرض رمضان صار صومه مستحباً، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون على صيامه تنفيذاً لأمر النبي صلى اللهُ عليه وسلم وكانوا يُصوِّمون أبناءهم الصغار تعويداً لهم على أداء العبادات منذ الصغر. كما قال الشاعر: وَيَنشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا ... عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ وقوله صلى اللهُ عليه وسلم لليهود: «نَحنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنكُم»؛ لأن النبي صلى اللهُ عليه وسلم والذين معه أولى الناس بالأنبياء السابقين، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين (68)} [آل عمران: 68]. فرسول الله صلى اللهُ عليه وسلم أحق بموسى من اليهود، لأن اليهود كفروا به وكفروا بعيسى وكفروا بمحمد صلى اللهُ عليه وسلم (¬3). ¬

(¬1) برقم 1960 وصحيح مسلم برقم 1136. (¬2) برقم 1893 وصحيح مسلم برقم 1126. (¬3) رياض الصالحين بشرح الشيخ ابن عثيمين (5/ 305).

روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ»، قَالَ: فَلَمْ يَأتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ (¬1). وقد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم نقل صوم عاشوراء من العاشر إلى التاسع، وأن فضائل صيام عاشوراء صارت لتاسوعاء، كما استدل به جماهير العلماء على استحباب صوم التاسع مع العاشر لتحصل المخالفة لليهود والنصارى بذلك. ومما ورد في فضل صيامه، ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أنه سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي رَمَضَانَ (¬3). وينبغي التنبه لأمرين: الأول: أنه يُسن الإكثار من صيام شهر الله المحرم؛ لأن النبي صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) برقم 1134. (¬2) برقم 1162. (¬3) برقم 1132.

قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ» (¬1). الثاني: أنَّ فضل عاشوراء يكون بصيامه للنصوص الواردة في ذلك، وأما ما ذكره بعضهم من فضل التوسعة على الأهل في يوم عاشوراء، واحتجوا على ذلك بحديث «مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَومَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ سَائِرَ السَّنَةِ». فهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم. سُئل الإمام أحمد بن حنبل عنه فلم يره شيئاً، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَرَوَوا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى اللهُ عليه وسلم «أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَومَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِ سَائِرَ السَّنَةِ». ورواية هذا كله عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم كذب. ولم يسن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئاً من شعائر السرور والفرح أو الحزن والترح، فأهل البدع يوسعون النفقات على العيال ويطبخون الأطعمة الخارجة عن العادة ويتخذونه عيداً، والرافضة يتخذونه مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأتراح، وكلا الطائفتين جانبت الصواب، وكذلك لا يُستحب تخصيصه بأي عبادة غير الصيام (¬2). اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 1163. (¬2) الفتاوى (25/ 300 - 301) بتصرف.

الكلمة السابعة: مكائد الشيطان

الكلمة السابعة: مكائد الشيطان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: «فإن الله سبحانه وتعالى ابتلى الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين، وصاحب لا ينام ولا يغفل عنه، يراه هو وقبيله من حيث لا يراه، يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمراً يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله إليه، ذلكم الشيطان الذي أخبرنا الله بعداوته لنا، وأكثر في كتابه من ذكر خدعه ومكائده وخطواته التي يستدرج بها الناس للخروج عن الصراط المستقيم وكرر قصته مع أبينا آدم عليه السلام لتكون نصب أعيننا دائماً» (¬1). قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير (6)} [فاطر: 6]. وقال تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين (17)} [الأعراف: 17]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين (208)} [البقرة: 208]. قال البغوي رحمه الله: «أي: لا تسلكوا الطُّرُقَ التي يدعوكم إليها ¬

(¬1) الداء والدواء لابن القيم (148 - 149) بتصرف.

الشيطان، فإنه يُورِدُكُم موارِدَ العَطَبِ» (¬1). ومن شره أنه يوسوس للعبد، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (2) إِلَهِ النَّاس (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس (5)} [الناس: 1 - 5]. فذكر وسوسته أولاً ثم ذكر محلها ثانياً وأنها في صدور الناس. والوسوسة أظهر صفات الشيطان، وأشدها شراً، وأقواها تأثيراً، وهي أصل كل معصية وبلاء، روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً (¬2) أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» (¬3). ولهذا يعرض للناس في صلاتهم ليفسد عليهم عبادتهم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّاذِينَ فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا اذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ » (¬4). ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي رحمه الله (14/ 404). (¬2) حُممه: أي فحماً. (¬3) برقم 5112 وصححه الألباني في سنن أبي داود (3/ 962) برقم 4264. (¬4) برقم 608 وصحيح مسلم برقم 389.

ومن شرِّهِ الإفساد بين المؤمنين بكل طريقة وحيلة، فقد نزغ بين يوسف عليه السلام وإخوته، قال تعالى ذاكراً اعتراف نبي الله يوسف بما مَنَّ الله عليه: {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَاوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100)} [يوسف: 100]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (¬1). قال النووي: وهذا الحديث من معجزات النبوة، ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتنة ونحوها (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» (¬3). والتحصن من الشيطان له طرق منها: أولاً: الإخلاص: لما علم إبليس أنه لا سبيل على أهل الإخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال تعالى: {قَالَ ¬

(¬1) برقم 2812. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (60/ 156). (¬3) برقم 2813.

فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين (83)} [ص: 82 - 83]. وقال تعالى في حق الصِّدِّيق يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين} [يوسف: 24]. فالإخلاص هو سبيل الخلاص من الشيطان، وأهل الإخلاص أعمالهم كلها لله وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالله تعالى يبتلي عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب، ومن رحمته بعبده المخلص أن يصرف عنه ما يغار عليه منه، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين} (¬1). «فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا» (¬2)، «فلما أخلص يوسف عليه السلام لربه، صرف عنه دواعي السوء والفحشاء، فالإخلاص هو سبيل الخلاص» (¬3). ثانياً: قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، روى أبو داود في سننه من حديث أبي قتادة رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم مَرَّ عَلى أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وَهُمَا يُصَلِّيَانِ اللَّيلَ .. وجاء في آخر الحديث: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ النَّبِيُ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ سَبَبِ رَفعِ صَوتِهِ بِالقُرْآنِ، فَقَالَ: أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ (¬4). ثالثاً: قراءة سورة البقرة: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ ¬

(¬1) الاستقانة لابن تيمية ج 2 ص: 59. (¬2) إغاثة اللهفان ج 2 ص: 141. (¬3) مفتاح دار السعادة (1/ 75). (¬4) برقم 1329 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 246 - 247) برقم 1180.

يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (¬1). رابعاً: قراءة آية الكرسي عند النوم: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قصة قبضه على الشيطان .. وفي آخر الحديث علَّمه أن يقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فلما أخبر أبو هريرة النبي صلى اللهُ عليه وسلم بذلك قال: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ» (¬2). خامساً: قراءة المعوذتين: روى أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمره بقراءة المعوذتين وقال له: «يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» (¬3). ومن المواضع التي ثبت في السنة أنها تُقرأ فيها: حين يصبح المؤمن، وحين يُمسي، وعند النوم، وأدبار الصلوات، والرقية بهما على المسحورين، والمرضى وغير ذلك. سادساً: التهليل مائة مرة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ ¬

(¬1) برقم 780. (¬2) برقم 2311. (¬3) برقم 1463 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 275) برقم 1299.

مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ» (¬1). سابعاً: التسمية عند الخروج من البيت، وعند الجماع، وعند الدخول إلى الخلاء، وعند الطعام: روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (¬2) (¬3). ثامناً: وهو من أهمها معرفة تفاصيل عداوته وطرق خداعه التي جاء بيانها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم والاستعانة في ذلك بكتب أهل العلم الشارحة لهذه الأمور، ومنها: كتاب ابن القيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وكتاب ابن الجوزي المسمى تلبيس ابليس .. وغيرها. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 3293 وصحيح مسلم برقم 2691. (¬2) برقم 2018. (¬3) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الحصن الحصين من الشيطان الرجيم.

الكلمة الثامنة: تأملات في قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا}

الكلمة الثامنة: تأملات في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آيتين من كتاب الله ونتدبر ما فيهما من العظات والعبر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلا (57)} [النساء: 56 - 57]. يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصدَّ عن سبيله فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}؛ أي نُدخِلُهم فيها دخولاً يحيط بجميع أجرامهم كما قال تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُون (16)} [الزمر: 16]. قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}: أي احترقت احتراقاً تاماً

بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. أي ليدوم لهم، قال بعضهم: الحكمة من ذلك أن الجلد موضع الإحساس بالألم فإذا احترق لم يعد هناك ألم فيبدل لهم جلوداً غيرها، قال بعض المفسرين: إنهم يبدلون في اليوم أو الساعة مرات عديدة حتى يذوقوا العذاب (¬1)، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ضِرْسُ الْكَافِرِ أَوْ نَابُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ، مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ للرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ» (¬3)، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ضِرْسُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وَعَرْضُ جِلْدِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرِقَانَ (¬4)، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ مِثْلُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الرَّبَذَةِ» (¬5). قال النووي: «هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدورٌ لله تعالى يجب الإيمان به لإخبار الصادق به» (¬6). قوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}: أي لا يمتنع عليه ما ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/ 121 - 122). (¬2) برقم 2851. (¬3) برقم 2852. (¬4) ورقان جبل عظيم من جبال تهامة بين مكة والمدينة، والربذة قرية من قرى المدينة بها مات الصحابي الجليل أبو ذر رضي اللهُ عنه. (¬5) (14/ 87) برقم 8345 وقال محققوه إسناده حسن. (¬6) شرح صحيح مسلم (6/ 186).

يريد، حكيماً فيما يقضيه، ثم لما ذكر تعالى حال الأشقياء ذكر حال السعداء، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: أي الذين آمنوا بمحمد صلى اللهُ عليه وسلم، والقرآن، وجملة الكتب المرسلة، وبالقدر خيره وشره، وأطاعوا ربهم سندخلهم جنات، وهي البساتين الجامعة للأشجار تجري من تحتها الأنهار، أنهار الخمر واللبن والماء والعسل، {خَالِدِينَ}: أي مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير} [البروج: 11]. وقوله: {لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}: قال جمع من المفسرين: المطهَّرَة من طهرت من الحيض، والبول، والنفاس، والغائط، والمخاط، والبصاق، وكل قذر وأذى مما يكون في نساء الدنيا (¬1). وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ولَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا - يعني الخمار - عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 63). (¬2) برقم 2796.

لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ (¬1)، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» (¬2). وروى الدارمي في سننه من حديث زيد بن أرقم رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ» (¬3). قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلا}: وصف سبحانه في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم، قال تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا (35)} [الرعد: 35]. ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود. قال تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُود (30)} [الواقعة: 30]. وبيَّن في مواضع أخرى أنها ظلال متعددة. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُون (41)}} [المرسلات: 41]. وبيَّن في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك. قال تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِؤُون (56)} [يس: 56]. والأرائك جمع أريكة وهي السرير في الحجلة، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة. وبيَّن تعالى أن ظل أهل النار ليس كذلك. قال تعالى: {انطَلِقُوا ¬

(¬1) أي زوجات. (¬2) صحيح البخاري برقم 3243؛ وصحيح مسلم برقم 2838 واللفظ له. (¬3) (2/ 431) برقم 2825 وقال الألباني رحمه الله في المشكاة (3/ 1567): إسناده صحيح.

إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب (30) لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَب (31)} [المرسلات: 29 - 31]. وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَال (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيم (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم (43) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيم (44)} [الواقعة: 41 - 44]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه يبلغ به النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَّمْدُود}» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 4881؛ وصحيح مسلم برقم 2827.

الكلمة التاسعة: الابتلاء بالمرض

الكلمة التاسعة: الابتلاء بالمرض الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من حكمة الله تعالى أن يبتلي عبده المؤمن بأنواع البلاء، ومن هذا الابتلاء الذي يُبتلى به المرض، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاب (42) وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَاب (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب (44)} [ص: 41 - 44]. قال ابن كثير رحمه الله: «هذه تذكرة لمن ابتلي في جسده، أو ماله، أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب، حتى فرج الله عنه» (¬1). اهـ. وقد يبتلى المؤمن بالمرض لتقصيره ببعض ما أمر الله به فيكون المرض تكفيراً لسيئاته، قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ ¬

(¬1) البداية والنهاية (1/ 513).

وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123)} [النساء: 123]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث زهير قال: أُخبرت أن أبا بكر رضي اللهُ عنه قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123)} [النساء: 123] فكل سُوءٍ عملنا جُزِيْنَا به؟ فقال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكرٍ، أَلَستَ تَمرَضُ؟ أَلَستَ تَنصَبُ؟ أَلَستَ تَحزَنُ؟ أَلَستَ تُصِيبُكَ اللَّاوَاءُ (¬1)؟ » قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَهُوَ مَا تُجزَونَ بِهِ» (¬2). وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير (30)} [الشورى: 30]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬4). قال بعض السلف: لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس، ¬

(¬1) اللَّأواء: الشدة وضيق المعيشة. (¬2) (1/ 230) برقم 68 وقال محققوه حديث صحيح بطرقه وشواهده. (¬3) برقم 5642 وصحيح مسلم برقم 2573. (¬4) برقم 2396 وقال الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (2/ 285) برقم 1953 حديث حسن صحيح.

وكان السلف يفرح أحدهم بالبلاء، كما يفرح أحدنا بالرخاء. ومنها أن يكونَ المرض سبباً لرفع منزلة المريض في الآخرة، روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّّ الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ المَنزِلَةُ عِندَ اللهِ فَمَا يَبلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَلَا يَزَالُ يَبتَلِيهِ بِمَا يَكرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ ذَلِكَ» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» (¬2). ونبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، والمغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ابتلي بالمرض رِفعَةً لدرجاته، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسَسْتُهُ بيَديِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ»، فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَجَلْ» (¬3). بل إن النبي صلى اللهُ عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أُغمي عليه ثلاث مرات، ¬

(¬1) صحيح ابن حبان برقم 2897 والحاكم (1/ 664) برقم 1314 وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1599. (¬2) برقم 2402 وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2/ 287) برقم 1960. (¬3) برقم 5667 وصحيح مسلم برقم 2571 واللفظ له.

قالت عائشة رضي اللهُ عنها كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1). وقد يُجمَعُ للمريض الأمران، فيكون المرض تكفيراً لسيئاته، ورفعة لدرجاته، وينبغي للمريض أن يتنبه لأمرين إذا تأملهما هانت عليه مصيبته وخفَّ همه وغمه: 1 - أن هذه المصيبة لم تكن في دينه؛ لأن المصيبة في الدين يجني صاحبها الآثام والعقوبات. 2 - أن مصيبته أخفُّ وأهون من مصيبة غيره، فلو سأل أو نظر إلى من حوله من المرضى لرأى من هو أشد منه ألماً. قال شريح: ما أصابتني مصيبة إلا حمدت الله تعالى عليها لأربع: 1 - أن الله رزقني الصبر عليها. 2 - أن الله رزقني الاسترجاع عندها. 3 - أن الله لم يجعلها أكبر منها. 4 - أن الله لم يجعلها في ديني. روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ¬

(¬1) برقم 5646 وصحيح مسلم برقم 2570.

ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم (¬1). ومن الوصايا التي يُوصى بها المريض: أولاً: إحسان الظن بالله تعالى: وأن من أحسن ظنه بالله رزقه الله الراحة النفسية، وطمأنينة القلب، روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ خَيْراً فَلَهُ، وَإِنْ شَرًّا فَلَهُ» (¬2). ثانياً: الإكثار من ذكر الله ودعائه والإلحاح عليه في الدعاء، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون (186)} [البقرة: 186]. وقال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون (62)} [النمل: 62]. قال ابن حجر: إن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العقاقير الطبية، وأن تأثير ذلك وانفصال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجح بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل (¬3). اهـ. ¬

(¬1) برقم 918. (¬2) صحيح ابن حبان برقم 638 وأصله في الصحيحين. (¬3) فتح الباري (10/ 115).

ثالثاً: أن على المريض ألا يتعلق بالأسباب كالمستشفيات والأطباء، والواجب أن يكون تعلق القلب بالذي أنزل الداء ولا يرفعه إلا هو، فإنه سبحانه هو الشافي لا شفاء إلا شفاؤه، ولا يرفع المرض إلا هو، سواء كان مرضاً بدنياً أو نفسياً، قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير (17)} [الأنعام: 17]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين (80)} [الشعراء: 80]. وقال تعالى عن نبي الله أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين (84)} [الأنبياء: 83 - 84]. رابعاً: الصبر والاحتساب، وعدم الجزع والسخط، فإنه على قدر إيمان المؤمن يكون ابتلاؤه، روى الترمذي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللهُ عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» (¬1). خامساً: على المريض أن يرقي نفسه بالرقية الشرعية، كالفاتحة والمعوذتين وآية الكرسي، ومن الأدعية المأثورة قوله صلى اللهُ عليه وسلم: «اللَّهُمَّ ¬

(¬1) برقم 2398 وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» (¬1). ومنها قوله صلى اللهُ عليه وسلم للمريض: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» (¬2). سادساً: على المريض ألا ييأس من الشفاء، فالله على كل شيء قدير، قال تعالى: {اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون (87)} [يوسف: 87]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس: 82]. وأيوب عليه السلام مكث في البلاء ثماني عشرة سنة ثم كشف الله عنه وشفاه (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 5743 وصحيح مسلم برقم 2191. (¬2) صحيح مسلم برقم 2202. (¬3) انظر كتاب لا بأس طهور إن شاء الله للشيخ عبد العزيز السدحان.

الكلمة العاشرة: الشفاعة

الكلمة العاشرة: الشفاعة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالشفاعة. وتنقسم إلى قسمين: 1 - شفاعة باطلة. 2 - شفاعة صحيحة. الشفاعة الباطلة: هي ما يتعلق به المشركون في أصنامهم، حيث يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ (18)} [يونس: 18]. وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (3)} [الزمر: 3]. لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع كما قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين (48)} [المدثر: 48]. الشفاعة الصحيحة: وهي التي جمعت شروطاً ثلاثة: الأول: رضا الله عن الشافع، الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف، عامة لجميع الناس من رضي عنهم ومن لم يرض عنهم، الثالث: إذنه في الشفاعة، والإذن لا

يكون إلا بعد الرضا عن الشافع والمشفوع له. قال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَاذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى (26)} [النجم: 26]. ولم يقل عن الشافع ولا المشفوع له ليكون أشمل. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)} [طه: 109]. وقال سبحانه: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى (28)} [الأنبياء: 28]. والآية الأولى تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شرطاً واحداً. وللنبي صلى اللهُ عليه وسلم شفاعات كثيرة: الشفاعة الأولى: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم لأهل الموقف حتى يُقضى بينهم بعد أن يعتذر عنها الأنبياء (آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، عليهم الصلاة والسلام) حتى تنتهي إليه، وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبداً إلا للرسول صلى اللهُ عليه وسلم وهي أعظم الشفاعات لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم. الشفاعة الثانية: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوها وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط ووقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، ولكنهم إذا أتوا الجنة لا يجدونها مفتوحة حتى يشفع النبي صلى اللهُ عليه وسلم لهم أن يدخلوها. روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما قالا: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَاتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ». وفي آخر الحديث:

«فَيَاتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ» (¬1). الشفاعة الثالثة: وهي خاصة به صلى اللهُ عليه وسلم وهي لعمه أبي طالب فيشفع له في تخفيف العذاب. فقد ورد في الصحيحين من حديث العباس بن عبد المطلب رضي اللهُ عنه أنه قال للنبي صلى اللهُ عليه وسلم: مَا أغْنَيتَ عَن عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ، وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ (¬2) مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (¬3). الشفاعة الرابعة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم فيمن استحق النار أن لا يدخلها وهي له ولسائر النبيين، والصديقين والمؤمنين، قال بعض أهل العلم: وهذه تُستفاد من دعاء الرسول صلى اللهُ عليه وسلم للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم، فإن من لازم ذلك أن لا يدخل النار كما قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» (¬4). الشفاعة الخامسة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم لأناس قد دخلوا النار أن يخرجوا منها وهي له ولسائر النبيين، والصِّدِّيقين وغيرهم، والأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة. روى الترمذي في سننه من حديث عوف بن مالك رضي اللهُ عنه قال: قال صلى اللهُ عليه وسلم: «أَتَانِي آتٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، ¬

(¬1) برقم 195. (¬2) الضحضاح من الماء ما يبلغ الكعب. (¬3) صحيح البخاري برقم 3883 وصحيح مسلم برقم 209. (¬4) صحيح مسلم برقم 920.

فَخَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ، فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ، وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا» (¬1) (¬2). وقد ذكر ابن أبي العز رحمه الله في شرح العقيدة الطحاوية أنواعاً أخرى، فمن ذلك: الشفاعة السادسة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة. الشفاعة السابعة: شفاعته صلى اللهُ عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. الشفاعة الثامنة: الشفاعة في أقوام ليدخلوا الجنة بغير حساب، ولا عذاب وهم السبعون ألفاً. ويُخرج الله أقواماً بغير شفاعة بل بفضله ورحمته، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أصحاب النار. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ ¬

(¬1) برقم 2441 وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 295) برقم 1986. (¬2) شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/ 168 - 179).

كَمَا تَخْرُجُ الحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَا تَرَونَهَا تَكُونُ إِلَى الحَجَرِ أَو إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيفِرُ وَأُخَيضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِ يَكُونُ أَبْيَضَ»، فَقَالوا: يَا رَسُول اللهِ كَأَنَكَ كُنْت تَرْعَى بالبَادِيَةِ؟ قَالَ: «فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 4581 وصحيح مسلم برقم 183 واللفظ له. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي (1/ 283 - 294).

الكلمة الحادية عشرة: تأملات في قوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه}

الكلمة الحادية عشرة: تأملات في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَة (22) قُطُوفُهَا دَانِيَة (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه (29) خُذُوهُ فَغُلُّوه (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه (32) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم (33) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم (35) وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36) لاَ يَاكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون (37)} [الحاقة: 19 - 37]. قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه (19)} يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه {اقْرَؤُوا كِتَابِيه}؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة راجحة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنه أنه سُئل عن النجوى، فقال:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (18)} [هود: 18]» (¬1). قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه (20)} أي قد كنت موقناً في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} [البقرة: 46]. قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (21)} أي مرضية، قد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها. قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَة (22)} أي رفيعة قصورها، حسان حورها، ناعمة دورها، دائم حبورها، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ»، أُرَاهُ قَالَ: «وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» (¬2). ¬

(¬1) برقم 2441 وصحيح مسلم برقم 2768. (¬2) برقم 2790.

قوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَة (23)} قال البراء بن عازب رضي اللهُ عنه: أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره. قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة (24)} أي يُقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً وإحساناً، وإلا فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» (¬1). قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه (25)} هذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أُعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول: يا ليتني لم أوت كتابيه لأنه يُبشر بالنار. قوله تعالى: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه (26)} أي يا ليتني كنت نسياً منسياً كما قال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ: 40]. قوله تعالى: {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة (27)} قال الضحاك: يعني موتة لا حياة بعدها، وقال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء أكره إليه منه. قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28)} أي لم يدفع عني مالي ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6467 وصحيح مسلم برقم 2818.

عذاب الله وبأسه، بل خلص الأمر إليَّ وحدي فلا معين لي ولا مجير. قال تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه (29)} أي ذهب واضمَحَلَّ فلم تنفع الجنود الكثيرة ولا العدد ولا الجاه العريض، بل ذهب كله أدراج الحياة، وفاتته بسببه المتاجر والأرباح، وحضر بدله الهموم والأحزان. قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوه (30)} أي يأمر الله الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي تغمره فيها، قال تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُون (71) {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُون (72)} [غافر: 71 - 72]. قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه (32)} قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد النار، وقال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: بذراع الملك، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: فاسلكوه أي انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه ويُعلق فيها، فلا يزال يُعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ جُمْجُمَةٍ (¬1) - أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الَارْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ ¬

(¬1) المراد بالجمجمة: جمجمة الرأس.

رَاسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا أَوْ قَعْرَهَا» (¬1). قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم (33)} أي كافراً معانداً لرسله رادًّا ما جاؤوا به. قوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين (34)} ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين، فلا يطعمهم من ماله ولا يحض غيره على إطعامهم. قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم (35)} أي قريب أو صديق يشفع له لينجو من عذاب الله أو يفوز بثواب الله كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاع (18)}. قوله تعالى: {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36)} الغسلين: صديد أهل النار، وهو غاية في الحرارة، ونتن الريح، وقبح الطعم ومرارته. قوله تعالى: {لاَ يَاكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون (37)} أي: الذين أخطؤوا الصراط المستقيم وسلكوا سبل الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (11/ 444) برقم 6856 وقال محققوه إسناده حسن، وأخرجه الحاكم من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن يزيد، وصححه ووافقه الذهبي.

الكلمة الثانية عشرة: الكبر

الكلمة الثانية عشرة: الكبر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله صفة الكبر، قال الغزالي رحمه الله: «هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير» (¬1)، وقال بعضهم: «الكبر: هو استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له» (¬2). والتعريفان يصبان في معنى واحد. «قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور (18)} [لقمان: 18]. {وَلاَ تُصَعِّرْ}: أي تميله وتُعرض به عن الناس تكبراً عليهم، والمرح: التبختر، وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَاب (27)} [غافر: 27]». روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (3/ 345). (¬2) تهذيب الأخلاق للجاحظ ص: 32.

أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ (¬1) وَغَمْطُ النَّاسِ (¬2)» (¬3). ففي هذا الحديث بيان أن الكبر على نوعين: الأول: الاستكبار على الله وعلى دينه وعلى رسوله صلى اللهُ عليه وسلم، كاستكبار فرعون وأمثاله ممن استنكف أن يكون عبدًا لله، قال تعالى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَاب (27)} [غافر: 27].فإن نبي الله موسى دعاه إلى الهدى فاستكبر، وقال لقومه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25)} [النازعات 24 - 25]. وجعله لمن بعده عبرة وآية، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون (92)} [يونس: 92]. وهذا المصير هو مصير كل جبار ومعاند قبل فرعون وبعده، يشتركون كلهم في ذلك المصير المخزي كما اشتركوا في التكبر على الله وعلى رسوله، قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِين (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون (35)} [الصافات: 33 - 35]. والكبرياء من خصائص الجبار سبحانه كما جاء في الحديث ¬

(¬1) بطر الحق: دفعه ورده على قائله. (¬2) غمط الناس: احتقارهم. (¬3) برقم 91.

المخرج في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» (¬1). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الكبر من صفات أهل النار، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف قال: الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْمَرْوَةِ، فَتَحَدَّثَا، ثُمَّ مَضَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ هَذَا: يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ» (¬3). والمتكبرون شر خلق الله، ويُحشرون يوم القيامة وعلى وجوههم الذل والصغار، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ ¬

(¬1) برقم 2620 وسنن أبي داود برقم 4090 واللفظ له. (¬2) برقم 7449 وصحيح مسلم برقم 2846. (¬3) (11/ 590) برقم 7015 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط البخاري.

كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِين (60)} [الزمر: 60]. وقال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ (45)} [الشورى: 45]. وروى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ» (¬1). وجاء في تفسيرها بأنها صديد أهل النار. ومن هذا النوع أن يبلغ الإنسان الحق من كتاب الله أو سنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم فلا ينقاد له، بل يعرض عنه أنفةً واستكباراً، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (63)} [النور: 63]. وفي مثل هذا نزل قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وفي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع رضي اللهُ عنه: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ»، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ (¬2). ¬

(¬1) برقم 2492 وقال هذا حديث حسن صحيح. (¬2) برقم 2021.

النوع الثاني: التكبر على الخلق وقد مر بيانه بأنه غمط الناس: أي احتقارهم وازدراؤهم، وهذا إنما ينشأ عند أهل النقص والدناءة، فيريدون تعويض ذلك بإظهار ما ليسوا بأهله، وحينئذ ينشأ الكبر عندهم، ولهذا جاء التوجيه النبوي الكريم بالأمر بالتواضع قال صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» (¬1). قال الغزالي رحمه الله: «فالكبر آفة عظيمة هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء، فضلاً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى اللهُ عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، وإنما صار حجاباً دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، فما من خُلُقٍ ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ كبره، وما من خُلُقٍ محمودٍ إِلَّا وهو عاجز عنه خوفاً من أن يفوته عزه، فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه، والأخلاق الذميمة متلازمة، والبعض منها داع إلى البعض، وشر أنواع الكبر ما يمنع من الاستفادة من العلم، وقبول الحق، والانقياد له» (¬2). اهـ. ومما ينبغي التنبيه عليه أن الكبر يشمل تزكية النفس والإعجاب ¬

(¬1) برقم 2865. (¬2) إحياء علوم الدين (3/ 345).

بها عند الآخرين، والتكبر بالنسب، والمال، والجاه، والقوة، والجمال. فصاحب النسب الشريف يتكبر على من ليس كذلك، وإن كان أرفع منه عملاً، والغني يتكبر بما له على الفقير، وصاحب المنصب يتكبر على من ليس كذلك، والمرأة الجميلة تتكبر على المرأة التي ليست كذلك، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13)} [الحجرات: 13]. وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أوَ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 3955 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 254) برقم 3100.

الكلمة الثالثة عشرة: الجنة والنار كأنها رأي العين

الكلمة الثالثة عشرة: الجنة والنار كأنها رأي العين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فقد خلق الله الجن والإنس ليعبدوه ويوحدوه ويطيعوه، ووعد من أطاعه بالجنة فضلاً منه، وتوعد من عصاه بالنار عدلاً منه. والجنة والنار مخلوقتان، قال تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران: 133]. وقال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين (24)} [البقرة: 24]. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» (¬1). فالجنة ثواب أولياء الله المطيعين له ولرسله، والنار عقاب أعداء الله العاصين له ولرسله، ولا يظلم ربك أحداً، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها أو يعفو الله عنها. وقد أخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم عن شدة حر هذه النار فقال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ» (¬2) متفق عليه. ¬

(¬1) برقم 2662. (¬2) برقم 3265 وصحيح مسلم برقم 2843.

وجهنم عظيمة مخيفة، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (¬1). قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 23]. وجهنم قعرها بعيد، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ » قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» (¬2). والعصاة في النار على دركات، روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال عن النار: «مِنْهُمْ مَنْ تَاخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَاخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَاخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ (¬3)، وَمِنْهُمْ مَنْ تَاخُذُهُ إِلَى تُرْقُوَتِهِ» (¬4) (¬5). والحجزة مقعد الإزار. روى البزار وأبو يعلى في مسنديهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَو كَانَ فِي هَذَا المَسجِدِ مِئَةُ (أَلفٍ) أَو يَزِيدُونَ، وَفِيهِ رَجُلٌ ¬

(¬1) برقم 2842. (¬2) برقم 2844. (¬3) الحجزة: مقعد الإزار. (¬4) التروقة: العظم الذي عند ثغرة النحر وللإنسان ترقوتان جانبي النحر. (¬5) برقم 2845.

مِن (أَهلِ) النَّارِ فَتَنَفَّسَ فَأَصَابَ نَفَسُهُ، لَاحتَرَقَ المَسجِدُ وَمَن فِيهِ» (¬1). وَ «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ يَلْبَسُ نَعْلَينِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ». روى مسلم في صحيحه من حديث العباس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» (¬2). وطعام أهل النار الضريع، قال تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيع (6)} [الغاشية: 6]. والضريع شجر ذو شوك عظيم قد بلغ غاية الحرارة والمرارة وقبح الرائحة، وكذلك الزَّقُّوم، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّوم (43) طَعَامُ الأَثِيم (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُون (45) كَغَلْيِ الْحَمِيم (46)} [الدخان: 43 - 46]. والزقوم: شجرة خبيثة المنظر، كريهة الرائحة، مرة الطعم. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث مجاهد: أَن الناسَ كانوا يطوفونَ وابنُ عباس جالس معه محجن، فقال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون (102)}، وَلَو أَنَّ قَطرَةً مِنَ الزَّقُومِ قَطَرَت لَأَمَرَّت عَلَى أَهلِ الأَرضِ عَيشَهُم، فَكَيفَ مَن لَيسَ لَهُم طَعَامٌ إِلَّا الزَّقُومُ؟ ! » (¬3). وكذلك طعامهم الغسلين: وهو صديد أهل النار، والقيح، والدم، والعرق. ¬

(¬1) (البزار) البحر الزخّار برقم 9623، وأبو يعلى برقم 6670 واللفظ له، وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 2509. (¬2) برقم 3883 وصحيح مسلم برقم 209. (¬3) (4/ 467) برقم 2735، وقال محققوه إسناده صحيح على شرط الشيخين.

قال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم (35) وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36) لاَ يَاكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون (37)} [الحاقة: 35 - 37]. وشراب أهل النار الحميم الذي بلغ غاية الحرارة إذا قُرِّبَ من وجوههم شواها حتى يتساقط اللحم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29]. والماء المهل كالزيت المحروق أسود غليظ منتن، قال تعالى: {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُم (15)} [محمد: 15]. وكذلك الغَسَّاق، قال تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 24 - 25]. والغَسَّاق: قال ابنُ الأثير: الغساق: بالتخفيف والتشديد، ما يسيل من صديد أهل النار وغسالتهم، وقيل: ما يسيل من دموعهم، وقيل: هو الزمهرير (¬1)، فهو باردٌ لا يُستطاعُ مِن برده، ولا يُواجَه مِن نتنه (¬2)، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَو أَنَّ دَلوًا مِن غَسَّاقٍ يُهرَاقُ فِي الدُّنيَا، لَأَنتَنَ أَهلَ الدُّنيَا» (¬3) فجهنم لها ألوان من العذاب، قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاق (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاج (58)} [ص: 57 - 58]. وأما الجنة فإن نعيمها يفوق الوصف، ويقصر دونه الخيال ليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا، كما قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث (3/ 366). (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 233). (¬3) (17/ 231) برقم 11230، وقال محققوه حديث حسن لغيره.

لَيْسَ في الجَنَّةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إِلَّا الأَسْمَاءُ، هِيَ وَاللَّهِ نُورٌ يَتَلَالَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهَرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ. وَلَمَّا سُئِلَ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ صِفَةِ بِنَائِهَا، قَالَ: «لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، ومِلَاطُهَا (¬1) الْمِسْكُ الأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلْهَا يَنْعَمْ لَا يَبْؤُسُ، ويَخْلُدُ لَا يَمُوتُ، وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ» (¬2). قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} [الإنسان: 20]. وما أخفاه الله عَنَّا من نعيم الجنة عظيم لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]» (¬3). وأول من يدخل هذه الجنة نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» (¬4). ¬

(¬1) الملاط: المادة التي توضع بين اللبنتين. (¬2) مسند الإمام أحمد (13/ 410) برقم 8043 وقال محققوه حديث صحيح بطرقه وشواهده. (¬3) برقم 3244 وصحيح مسلم برقم 2824. (¬4) برقم 197.

وأول زمرة يدخلون الجنة جاء وصفهم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتْفِلُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا (¬2) مُرْدًا بِيضًا جِعَادًا مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى خَلْقِ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا» (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: «وفي هذا الطول والسن من الحكمة ما لا يخفى فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذات لأنه أكمل سن القوة مع عظم آلات اللذة وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها، بحيث يصل في اليوم الواحد إلى مائة عذراء» (¬4). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي ¬

(¬1) برقم 3245 وصحيح مسلم برقم 2834. (¬2) جرداً مرداً: قال السندي: الأول جمع أجرد وهو من لا شعر على جسده، والثاني جمع أمرد وهو من لا شعر على ذقنه، والجعد في صفات الرجال يكون مدحاً وذماً، فالمدح معناه أن يكون شديد الأسر والخلق، أو يكون جعد الشعر وهو ضد السبيط لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم، وأما الذم فهو القصير المتردد الخلق. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 256 - 257). (¬3) (13/ 315) برقم 7933 وقال محققوه حديث حسن بطرقه وشواهده. (¬4) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص: 104 بتصرف.

وقاص رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ (¬1) ظُفُرٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ بَدَا، لَتَزَخْرَفَتْ (¬2) لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ (¬3) السَّمَاوَاتِ وَالَأرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَ فَبَدَا أَسَاوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ، كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ» (¬4). ومكان هذه الجنة كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين (18)} [المطففين: 18]. قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: الجنة، وقيل: عليون في السماء السابعة تحت العرش، وذكر بعض السلف آثاراً تدل على أن الجنة فوق السماء السابعة كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» (¬5). والجنة لا موت فيها، ولا هَمٌّ، ولا حزن، بل قال بعض أهل العلم: أهل الجنة لا ينامون لأن النوم أخو الموت، ولا يكون إلا من تعب، والجنة لا تعب فيها ولا نصب، قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب (35)} [فاطر: 35 - 34]. ¬

(¬1) يُقِلُّ: أي يحمل. (¬2) تزخرفت: تزينت. (¬3) خوافق: جمع خافق وهو الأفق. (¬4) (3/ 57) برقم 1449 وقال محققوه حسن. (¬5) برقم 7423.

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما أن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (43) [الأعراف: 43]}» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش» (¬2). والجنة درجات بعضها فوق بعض وأهلها متفاضلون بحسب منازلهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَاتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21)} [الإسراء: 21]. روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ فَقَالَ ¬

(¬1) برقم 2837. (¬2) الفتاوى (4/ 312).

فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ (¬1)، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}» [السجدة: 17]. أما حورها فإن الله تعالى قال عنهن: {وَحُورٌ عِين (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُون (23)} [الواقعة 22 - 23]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنشَانَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة 35 - 37]. وقال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]. قال جمع من المفسرين: مطهرة من الحيض والبول، والنفاس، والغائط، والمخاط، وغير ذلك من الأقذار والأذى (¬2). روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا - يعني الخمار - عَلَى رَاسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (¬3). أما رؤية المؤمنين لربهم في الجنة ورضاه عنهم، فإن ذلك من أفضل النعم التي يكرم الله بها أهل الجنة، روى مسلم في ¬

(¬1) برقم 189. (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 63). (¬3) برقم 2796.

صحيحه من حديث صهيب الرومي رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه قال: قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ! فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (¬2). وبعد ما عرف المؤمن ما أعد الله للكفرة والعصاة من العذاب والنكال، وما أعده كذلك للمؤمنين المتقين من الكرامة والنعيم، فإنه يجب عليه أن يسعى لفكاك نفسه من النار، قال صلى اللهُ عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (¬3). والمسارعة بالطاعات والقربات لينال الدرجات العلى، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى ¬

(¬1) برقم 181. (¬2) برقم 7518 وصحيح مسلم برقم 2859. (¬3) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم 1016.

مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران: 133]. قال تعالى: {وَمَنْ يَاتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة عشرة: فوائد من قوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار}

الكلمة الرابعة عشرة: فوائد من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آية من كتاب الله ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِين (62)} [الأنعام: 60 - 62]. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ}: قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه يتوفى عباده المؤمنين في منامهم بالليل وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. قال جمع من المفسرين: المراد وفاة النوم، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ

الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (42)} [الزمر: 42]. فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم كان إذا قام من النوم قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (¬1). قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أي: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه بخلقه في ليلهم ونهارهم، وفي حال سكونهم وحال حركتهم كما قال تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار (10)} [الرعد: 10]. وكما قال تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (72)} [القصص: 42]. قوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} أي: في النهار، و {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} أي: أجل كل واحد من الناس، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: يوم القيامة، فيجازيكم على ذلك؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أي: وهو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء، ¬

(¬1) برقم 7395.

{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} أي: من الملائكة يحفظون بدن الإنسان كقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ (11)} [الرعد: 11]. وحفظة يحفظون عمله ويحصونه عليه كقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار: 11 - 12]. وكقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق: 17 - 18]. قوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: أي: احتضر وحان أجله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: الملائكة الموكلون بذلك، قال ابن عباس وغير واحد: لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم. قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون}: أي: في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عزَّ وجلَّ إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سِجِّين، عياذاً بالله من ذلك. قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ}، قيل: الملائكة، وقيل الخلائق كلهم يردون إلى الله يوم القيامة فيحكم فيهم بعدله كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِين (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُوم (50)} [الواقعة: 49 - 50]. ولهذا قال: {مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِين}. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ

اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُستفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، فَيَقُولُونَ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، قَالَ: فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَلَا تَزَالُ تَخْرُجُ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُستفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهُ لَا يُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَيُقَالُ لَهُ مِثْلُ مَا قِيلَ لَهُ في الحَدِيثِ الأَوَّل، وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ، فَيُقَالُ لَهُ مِثْلُ مَا قِيلَ لَهُ فِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ» (¬1). ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: أن الله تعالى هو المحيي المميت سبحانه، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ} [البقرة: 259]. ¬

(¬1) (14/ 377 - 378) برقم 8769 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وقال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم (79)} [يس: 78 - 79]. ثانياً: أن المحتضر إما أن يبشر بالنعيم أو بالعذاب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون (30)} [فصلت: 30]. قال بعض المفسرين: تبشرهم الملائكة ألا تخافوا مما تقدمون عليه في الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتموه من أهل ومال وولد، فنحن نخلفكم فيه. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق (50 [الأنفال: 50]. ثالثاً: الإيمان بالملائكة وهم على أصناف، منهم الموكلون بقبض الأرواح، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون (11)} [السجدة: 11]. وما يظنه بعض الناس من أن ملك الموت اسمه (عزرائيل) فليس بصحيح ولم يثبت بالكتاب والسنة. رابعاً: أن القهار على الحقيقة هو الله وحده هو الذي قهر وغلب عباده أجمعين، حتى إن أعتى الخلق يتضاءل ويتلاشى أمام قهر الله وجبروته، فهذا الموت الذي كتبه على عباده لا يستطيع الخلق رده أو دفعه عن أنفسهم ولو أُوتوا من القوة

والجبروت ما أُوتوا، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. وقال سبحانه للمنافقين: {قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [آل عمران: 168]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخامسة عشرة: قوة الإرادة

الكلمة الخامسة عشرة: قوة الإرادة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن الصفات المحمودة التي حث عليها الشرع «قوة الإرادة» وهي تهيؤ القلب والعقل بشدة وعزم لإحداث الفعل أو تركه (¬1). وهي قوة العزيمة التي تحمل صاحبها على استسهال الصعاب واقتحام الشدائد لنيل الغرض المطلوب، قال الشاعر: لَأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَو أُدْرِكَ المُنَى ... فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرٍ ولا تكون هذه الصفة إلا في الكُمَّلِ من الرجال أهل القوة والعزم، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى اللهُ عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. وأصحاب العزائم القوية يتحقق لهم ما يشبه المستحيل من غيرهم، قال المتنبي: عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَاتِي العَزَائِمُ ... وتَاتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ ويَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا ... وَيَصغُرُ فِي عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ أما أصحاب الإرادات الضعيفة والعزائم الرخوة فإنه لا يكاد ¬

(¬1) موسوعة نضرة النعيم (8/ 3196).

يتحقق لهم مراد، فكلما هموا بأمر ورأوا ما دونه من الصعاب والشدائد ارتخت عزائمهم وضعفت إرادتهم، وحال إيثارهم للراحة والدعة دون تحقيقه، قال الشاعر: ومَنْ رَامَ العُلَا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ ... أَضَاعَ العُمرَ فِي طَلَبِ المُحَالِ تَرُومُ العِزَّ ثُمَّ تَنَامُ لَيلًا ... يَغُوصُ البَحرَ مَنْ طَلَبَ الَّلآلِي وقد أثنى الله تعالى في كتابه في غيرما موضع على أصحاب الإرادة القوية والعزيمة النافذة، فقال تعالى لنبيه صلى اللهُ عليه وسلم منبهاً له في الاقتداء بهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار (45)} [ص: 45]. وبها أمر ربنا تعالى نبي الله يحيى عليه السلام فقال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]. وَمِنْ قَبْلُ أَمَرَ نبيه موسى عليه السلام حين أنزل عليه التوراة فقال: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. وفي العموم يقول تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171]. وقد أخبرنا جل وعلا في قصة أبينا آدم أنه أدخله الجنة وأذن له في التمتع بما فيها من النعيم إلا شجرة واحدة نهاه عن الأكل منها، فوسوس له إبليس وخادعه حتى أضعف إرادته، وحل من عزيمته، فأكل منها، فكان جزاؤه أن أُخْرِجَ من دار النعيم والحبور والسرور، وأُهْبِطَ إلى دار الأحزان والنكد والهموم والغموم، وفي ذلك يقول ربنا عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه: 115]. ولقد ضرب نبينا صلى اللهُ عليه وسلم أروع الأمثلة في قوة الإرادة ونفاذ العزيمة، فقد أتت قريش إلى أبي طالب عم النبي صلى اللهُ عليه وسلم فقالت: يا

أبا طالب؛ أرأيت محمد يؤذينا في نادينا، وفي مسجدنا، فانهه عن أذانا، فقال: يا عقيل ائتني بمحمد، فذهبت فأتيته به، فقال: يا ابن أخي! إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم، فانته عن ذلك، قال: فلحظ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ببصره (وفي رواية: فعلق رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ببصره) إلى السماء، فقال: «مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَرُدَّ ذَلِكَ مِنكُم عَلَى أَن تُشعِلُوا مِنهَا شُعلَةً - يعني: الشمس -» قال: فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط، فارجعوا (¬1). وروى البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال في صلح الحديبية: «يَا وَيحَ قُرَيشٍ، لَقَد أَكَلَتهُمُ الحَربُ، مَاذَا عَلَيهِم لَو خَلَّوْا بَينِي وَبَينَ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظهَرَنِي اللهُ عَلَيهِم، دَخَلُوا فِي الإِسلَامِ وَهُم وَافِرُونَ، وَإِنْ لَم يَفعَلُوا (¬2)، قَاتَلُوا وَبِهِم قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيشٌ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُم عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللهُ لَهُ حَتَّى يُظهِرَهُ اللهُ لَهُ، أَو تَنفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ (¬3)» (¬4). ومن مواقف أصحاب الإرادات القوية التي تُذكر وتُشكر، موقف ¬

(¬1) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 51) برقم (230) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 92. (¬2) أي ما دخلوا في الإسلام عند غلبتي على سائر العرب، بل اختاروا القتال على دخول الإسلام. (¬3) السالفة: صفحة العنق، والمراد أو أموت. (¬4) صحيح البخاري برقم 2731 - 2732) ومسند الإمام أحمد (31/ 212) برقم 18910 وقال محققوه إسناده حسن واللفظ له.

الصديق رضي اللهُ عنه بعد وفاة النبي صلى اللهُ عليه وسلم عندما ارتدت قبائل العرب ومنعوا الزكاة وأشرأَبَّ النفاق، قالت عائشة: فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهَاضَهَا - أي: لَكَسَرَهَا بَعدَ جَبرِهَا -، وقال كلمته المشهورة: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عَقَالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى اللهُ عليه وسلم لقاتلتهم على منعه (¬1). ومن المشهور أيضاً موقف الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله في فتنة القول بخلق القرآن، وللعلماء والأخيار مواقف جليلة تطلب في مظانِّها من كتب التواريخ والتراجم. تنبيهات: الأول: الإرادة القوية؛ منها المحمود والمذموم، فالمذموم أن تكون في الإقدام على أمور لم يتحقق فيها رضا الله سبحانه وتعالى أو أغراض شرعية، والممدوح عكس ذلك وركناه الذي لا يقوم إلا بهما: التقوى والصبر، قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} [آل عمران: 186]. والتقوى لا بد أن تكون عن بصيرة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار (45)} [ص: 45]. فالأبصار البصيرة في الدين الناتجة عن العلم والتقوى، والأيدي هي القوة. الثاني: على من آتاه الله قوة الإرادة أن يعلم أن ذلك فضل من الله، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1400 وصحيح مسلم برقم 20.

المِنَّةُ له فيها وحده، فليشكر الله على ذلك وليعتمد عليه، بهذا جاء التوجيه الكريم للنبي صلى اللهُ عليه وسلم فقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين [آل عمران: 159]. الثالث: الحذر من التردد وغالباً ما يكون سببه نقص البصيرة، فإذا تحقق من الأمر الذي يريده فليعزم ولا يتردد، قال الشاعر: إِذَا كُنتَ ذَا رَأيٍ فَكُن ذَا عَزِيمَةٍ ... فَإِنَّ فَسَادَ الرَّأيِ أَن تَتَرَدَّدَا وفي غزوة أُحد كان رأي النبي صلى اللهُ عليه وسلم البقاء في المدينة ومنازلة المشركين فيها، فلما أكثر عليه شباب الصحابة وعزم الخروج ولبس لامته للحرب، أُشير عليه بترك ذلك فأبى لما في التردد من فساد الأمور وضياع الرأي، فقال: «إِنَّهُ لَيسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأمَتَهُ (¬1) أَن يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) واللامة: الدرع، وقيل السلاح. (¬2) مسند الإمام أحمد (23/ 100) برقم 14787 وقال محققوه صحيح لغيره وهذا إسناد على شرط مسلم.

الكلمة السادسة عشرة: فضائل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

الكلمة السادسة عشرة: فضائل أم المؤمنين خديجة رضي اللهُ عنها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، ولدت قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة، وكانت من أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، حتى إذا بلغت عُرفت بالطاهرة لتركها ما كانت تفعله نساء الجاهلية، وكانت تاجرة ذات شرف ومال، وقد تزوجها النبي صلى اللهُ عليه وسلم وعمرها أربعون سنة، وسنه خمس وعشرون سنة، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت لفضلها ومكانتها عنده فإنها كانت نعم القرين، وقد ولدت له القاسم وبه كان يُكنى ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله، وكان يُلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فأدركن الإسلام فأسلمن، وهاجرن، إلا أن الوفاة أدركتهن في حياته سوى فاطمة، فقد ماتت بعده بأشهر، وهي أول من آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبَّتت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة، وقد أمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. إنها أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد القرشية الأسدية، وهي من أفضل نساء الأمة، قال الذهبي رحمه الله: «كانت عاقلة جليلة

دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يُثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، حتى إن عائشة كانت تقول: «ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي صلى اللهُ عليه وسلم لها» (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: أَتَى جِبرِيلُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «يَا رَسُول الله: هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَا عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا، وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» (¬2). والقصب: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب: اختلاط الأصوات، والنصب: التعب. قال السهيلي: «وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب؛ لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى اللهُ عليه وسلم ولم تتعبه يوماً من الدهر، فلم تصخب عليه يوماً ولا آذته أبداً» (¬3). قال ابن إسحاق: «تتابعت على رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم المصائب بهلاك أبي طالب وخديجة، وكانت خديجة وزيرة صدق، أبوها يجتمع مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم في جده الرابع قُصي بن كلاب، وأمها تجتمع مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم في جده الثامن لؤي بن غالب، وكانت ذات مال، فعرضت على النبي صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (2/ 110). (¬2) برقم 3820 وصحيح مسلم برقم 2432. (¬3) البداية والنهاية لابن كثير (4/ 317).

أن يخرج في مالها إلى الشام، فخرج مع مولاها ميسرة، فلما قدم باعت خديجة ما جاء به فأضعف، فرغبت فيه، فعرضت نفسها عليه، فتزوجها وأصدقها عشرين بكرة» (¬1) (¬2). ومن مواقفها العظيمة رضي اللهُ عنها: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، .... ثم قال في آخر الحديث: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» فَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ »، قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأتِ ¬

(¬1) الفتي من الإبل، والأنثى يطلق عليها بكرة. (¬2) سيرة ابن هشام (1/ 236)، (2/ 26) بتصرف.

رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ (¬1). ومن مواقفها العظيمة أنها شاركت النبي صلى اللهُ عليه وسلم في السراء والضراء، ودخلت معه في حصار الشِّعب الذين اشتد عليهم فيه الجوع والعطش حتى ذكر بعض أهل العلم أنهم أكلوا أوراق الشجر، وفي السنة التي خرجوا فيها من الشِّعب توفيت خديجة. وكانت رضي اللهُ عنها من أفضل نساء الأمة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن جعفر رضي اللهُ عنه قال: سمعت علياً بالكوفة وهو يقول: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» (¬2). ومن حب النبي صلى اللهُ عليه وسلم لخديجة ووفائه لها، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» (¬3). وفي رواية في الصحيح: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» (¬4). ¬

(¬1) برقم 3 وصحيح مسلم برقم 160. (¬2) برقم 3432 وصحيح مسلم برقم 2430. (¬3) برقم 3818 وصحيح مسلم برقم 2434 بقطعة ليست هنا. (¬4) صحيح مسلم برقم 2435.

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: اسْتَاذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاعَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ»، فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءَ الشِّدْقَيْنِ (¬1)، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، فأَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا (¬2). وفي رواية: «مَا أَبدَلَنِي اللهُ خَيراً مِنهَا، قَد آمَنَت بِي إِذ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتنِي إِذ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتنِي بِمَالِهَا إِذ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ وَلَدَهَا إِذ حَرَمَنِي أَولَادُ النِّسَاءِ» (¬3). وكانت وفاتها بعد بعثة النبي صلى اللهُ عليه وسلم بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع، فأقامت معه خمساً وعشرين سنة، ودُفنت بالحجون (¬4)، ويُذكر بالسير عام الحزن، لشدة حزن النبي صلى اللهُ عليه وسلم على فراق زوجته الوفية خديجة، رضي الله عن أم المؤمنين خديجة، وجزاها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) حمراء الشدقين: قال السندي: حمراء الشدق: أي سقطت أسنانها لكبر سنها حتى ظهرت الحمرة في شدقها، وهذا كناية عن كونها عجوزة نقلًا عن مسند الإمام أحمد (41/ 358). (¬2) صحيح البخاري برقم 3821 وصحيح مسلم برقم 2437. (¬3) مسند الإمام أحمد (41/ 356) برقم 24864 وقال محققوه حديث صحيح. (¬4) الحجون: جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها. معجم البلدان (5/ 123).

الكلمة السابعة عشرة: تأملات في قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا}

الكلمة السابعة عشرة: تأملات في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، فقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص: 29]. وعملاً بهذه الآية الكريمة لنستمع إلى آية من كتاب الله ونتدبر ما فيها من العظات والعبر، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (122)} [الأنعام: 122]. قال ابن كثير رحمه الله: «هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً فأحياه الله، أي: أحيا قلبه بالإيمان، وهداه ووفقه لاتباع رسله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، أي: يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به، والنور هو القرآن وقيل الإسلام، وكلاهما صحيح». قوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}: أي الجهالات، والأهواء، والضلالات المتفرقة {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}: أي: لا يهتدي إلى منقذ

ولا مخلص مما هو فيه، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ ذَلِكَ النُّورُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ» (¬1). كما قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].وكما قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِير (19) وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّور (20) وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُور (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور (22)} [فاطر: 19 - 22]. قيل: المراد بهذا المثل: رجلان معنيَّان؛ عمر بن الخطاب، وهو الذي كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وقيل: عمار بن ياسر، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل عمرو بن هشام لعنه الله، والصحيح: أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر (¬2). اهـ. ومن فوائد الآية الكريمة: 1 - إن هذا النور الذي يحصل عليه المؤمن إنما هو نور الإيمان والطاعة، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ¬

(¬1) (11/ 220) برقم 6644 وقال محققوه إسناده صحيح. (¬2) تفسير ابن كثير (6/ 159 - 160).

وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28]. 2 - إن هذا النور يُحرَم منه المنافق والكافر لكفرهم وإجرامهم، قال تعالى: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122]. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور} [النور: 40]. وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]. 3 - إن هذا النور الذي يعطيه الله للمؤمن ليس خاصًّا بالدنيا، بل هو في الدنيا، وفي قبره، ويوم القيامة، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُنَوِّرُهَا بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» (¬1). قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (12)} [الحديد: 12]. روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عبد الله ابن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم عندما ذكر حال المؤمنين يوم القيامة قال: «فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى ¬

(¬1) (15/ 14) برقم 9037 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط الشيخين.

نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيَفِيءُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ فَمَشَى، وَإِذَا طَفِئَ قَامَ، قَالَ: وَالرَّبُّ عزَّ وجلَّ أَمَامَهُمْ حَتَّى يَمُرَّ فِي النَّارِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ كَحَدِّ السَّيْفِ دَحْضُ مَزِلَّةٍ، قَالَ: وَيَقُولُ: مُرُّوا، فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ نُورِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الفَرَسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، حَتَّى يَمُرَّ الَّذِي أُعْطِيَ نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمَيْهِ يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، تَخِرُّ رِجْلٌ، وَتَعْلَقُ رِجْلٌ، وَيُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَخْلُصَ ... » الحديث (¬1). 4 - أن القرآن نور، والسنة نور، والصلاة نور، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)} [النساء: 174]. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الأعراف: 157]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ ¬

(¬1) جزء من حديث (9/ 357 - 358) برقم 9763 ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (4/ 365 - 367) بطوله وعزاه لإسحاق بن راهويه في مسنده وقال هذا إسناد صحيح متصل رجاله ثقات، وحسنه شيخنا د. سعد الحميد في مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك الحاكم (7/ 3543 - 3549) برقم 1174.

عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» (¬1). 5 - إن الله تعالى هو نور السماوات والأرض وما فيها، ويهب نوره لمن يشاء، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35]. وقال تعالى: {نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} [النور: 35]. وقال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. فإذا جاء تبارك وتعالى يوم القيامة للفصل بين عباده أشرقت بنوره الأرض، وليس إشراقها يومئذ بشمس ولا قمر، فإن الشمس تُكَوَّرُ، والقمر يُخسَفُ، ويذهب نورهما (¬2). قال ابن القيم رحمه الله: «وهذه الظلمات ضد الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن، فإن نور الإيمان في قلبه، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، ومشيته في الناس نور، وكلامه نور، ومصيره إلى نور، والكافر بالضد، ولما كان النور من أسمائه الحسنى وصفاته كان دينه نوراً، ورسوله نوراً، وكلامه نوراً، وداره نوراً يتلألأ، والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين ويجري على ألسنتهم، ويظهر على وجوههم، وكذلك لما كان الإيمان واسمه المؤمن لم يعطه إلا أحب خلقه إليه، وكذلك الإحسان صفته وهو يحب المحسنين وهو الذي جعل من يحبه من خلقه كذلك، وأعطاه من هذه الصفات ما شاء وأمسكها عمن يبغضه وجعله على أضدادها، فهذا عدله وذلك فضله والله ذو الفضل العظيم» (¬3). ¬

(¬1) برقم 223. (¬2) الوابل الصيب لابن القيم ص: 117. (¬3) شفاء العليل لابن القيم (1/ 105).

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم: إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (¬1). 6 - أن المؤمن كلما ازداد من الأعمال الصالحة والطاعات والقربات كان نوره أعظم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم كان يدعو في صلاته بالليل فيقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا» (¬2). وفي رواية لمسلم: «وأَعْطِنِي نُورًا» (¬3). 7 - أن النور صفة من صفات الله تعالى، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «حِجَابُهُ النُّورُ» (¬4). «وهذا النور لا يمكن التعبير عنه إلا بمثل هذه العبارة النبوية المؤدية للمعنى العظيم، وأنه لا تُطيقُ المخلوقات كلها الثبوت لنور وجهه لو تَبَدَّى لها، ولولا أن أهل دار القرار يعطيهم الرب حياة كاملة ويعينهم على ذلك لما تمكنوا من رؤية الرب العظيم، وجميع الأنوار في السماوات العلوية كلها من نوره، بل نور جنات النعيم - التي ¬

(¬1) برقم 6317 وصحيح مسلم برقم 769. (¬2) برقم 6316 وصحيح مسلم برقم 763. (¬3) برقم 763. (¬4) برقم 179.

عرضها السماوات والأرض وسعتها لا يعلمه إلا الله - من نوره، فنور العرش، والكرسي، والجنات من نوره، فضلاً عن نور الشمس، والقمر، والكواكب» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فتح الرحيم الملك العلّام للشيخ عبد الرحمن السِّعدي (ص: 66 - 67).

الكلمة الثامنة عشرة: من أسماء الله الحسنى (الحفيظ والحافظ)

الكلمة الثامنة عشرة: من أسماء الله الحسنى (الحفيظ والحافظ) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1) ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب العزيز (الحفيظ والحافظ)، قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ} [هود: 57]. وقال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظ} [سبأ: 21]. وأما الحافظ فقد ورد في قوله تعالى: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [يوسف: 64]. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون (9)} [الحجر: 9]. قال الخطابي: هو الحافظ يحفظ السماوات والأرض وما فيهما لتبقى مدة بقائها فلا تزول ولا تَندَثِرُ، كقوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} [البقرة: 255]. وقال تعالى: {وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ ¬

(¬1) برقم 2736؛ وصحيح مسلم برقم 2677.

مَّارِد} [الصافات: 7]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (9)} [فاطر: 41]. وهو سبحانه يحفظ عبده من المهالك ومن مصارع السوء كقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد: 11]. أي بأمره، ويحفظ على الخلق أعمارهم ويُحصي عليهم أقوالهم ويحفظ أولياءه فيعصمهم عن مُواقَعَةِ الذنوب ويحرسهم من مكائد الشيطان ليسلموا من فتنته وشرِّه (¬1). ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين: أولًا: أن الحافظ لهذه السماوات السبع والأرضين وما فيها هو الله وحده لا شريك له، وهو سبحانه يحفظ السماء أن تقع على الأرض، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون} [الأنبياء: 32]. وقال سبحانه: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]. ثانياً: أن الله سبحانه يحفظ أعمال عباده فلا يضيع منها شيئاً ويوافيهم بها يوم الحساب، وفي الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا» (¬2). وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29]. وقد وَكَّلَ بهذه الأعمال حَفَظَةً كِراماً من الملائكة، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11) ¬

(¬1) شأن الدعاء ص: 67 - 68. (¬2) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم 2577.

يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار: 10 - 12]. ولا يسقط من الصحف شيئاً ولو صغر، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]. ثالثاً: أن الله تعالى هو الذي يحفظ العبد من الشرور والآفات ويحفظه من عقابه وعذابه إن هو حفظ حدود الله واجتنب محارمه، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} [النساء: 34]. فبحفظهن لدين الله، ولحفظهن بالغيب حقوق أزواجهن من عرض، أو مال، أو ولد، أو غير ذلك حفظهن الله، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» (¬1). رابعاً: مدح الله سبحانه الذين يحفظون حقوقه وحدوده، فقال بعدما ذكر بعضاً من صفاتهم: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين} [التوبة: 112]. وقال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيب (33)} [ق: 32 - 33]. ومما يلزم المؤمن حفظه رأسه، وبطنه، وحفظ الرأس يدخل فيه حفظ السمع، والبصر، واللسان، من المحرمات، وحفظ البطن يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على مُحَرَّمٍ، قال الله تعالى: {أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]. وقد جمع الله ذلك كله في قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} ¬

(¬1) برقم 2516، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

[الإسراء: 36]. ويدخل في حفظ البطن حفظه من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات. ومما يجب حفظه من المَنهِيَّاتِ حفظ اللسان والفرج، قال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فَقْمَيهِ وَفَرْجَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1). خامساً: أن من أعظم ما يجب على المسلم حفظه من حقوق الله (التوحيد) فإن من حفظ هذا الحق حفظه الله يوم القيامة وأَمَّنَهُ من عذابه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون (82)} [الأنعام: 82]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاذ رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال لمعاذ: «هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ »، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا» (¬2). وبالجملة فإن المؤمن مأمور بحفظ دينه أجمع، وكلما كان المؤمن لدينه أحفظ كان حفظ الله له أعظم، قال تعالى: {وَأَوْفُوا ¬

(¬1) (32/ 330) برقم 19559 وقال محققوا المسند صحيح لغيره. (¬2) برقم 2856؛ وصحيح مسلم برقم 30.

بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. سادساً: أن المحفوظ هو ما حفظه الله سبحانه وتعالى وشاء له أن يُحفظ، وأما من شاء الله أن يضيع أو يتغير فإنه ضائع لا محالة، وقد تَكَفَّلَ الله بحفظ كتابه العزيز من التغيير، والتبديل إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون (9)} [الحجر: 9] (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر المنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للنجدي (1/ 339 - 354).

الكلمة التاسعة عشرة: مقتطفات من سيرة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

الكلمة التاسعة عشرة: مقتطفات من سيرة عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى اللهُ عليه وسلم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، ولازم النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وكان صاحب نعليه وطهوره، وسواكه، ووساده (¬1)، وسره، وحدث عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم بالكثير، وبعد الهجرة آخى النبي صلى اللهُ عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، وقال عن نفسه: لقد رأيتني سادس ستة، وما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وقال أيضاً: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لأتيته (¬2)، وقال أيضاً: والله لقد أخذت مِنْ فِيْ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب ¬

(¬1) أي فراشه. (¬2) صحيح البخاري برقم 5002 وصحيح مسلم برقم 2463.

النبي صلى اللهُ عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم (¬1). إنه الإمام الحبر فقيه الأمة عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي المكي المهاجري أبو عبد الرحمن، حليف بني زهرة، كان رضي اللهُ عنه رجلاً نحيفاً قصيراً، شديد الأدمة (¬2)، قال عنه الذهبي: كان معدوداً في أذكياء العلماء، وقد روى عبد الله الكثير من الأحاديث عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم. وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم تبين فضله ومكانته العظيمة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه قال: «قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ فَمَكَثْنَا حِينًا ومَا نَرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن ابن يزيد رضي اللهُ عنه قال: سَأَلْنَا حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ قَرِيبِ السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مِنَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم حَتَّى نَاخُذَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَقْرَبَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِالنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الأحوص رضي اللهُ عنه قال: «شَهِدْتُ أَبَا مُوسَى وَأَبَا مَسْعُودٍ حِينَ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَتُرَاهُ تَرَكَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؟ فَقَالَ: إِنْ قُلْتَ ذَاكَ، إِنْ كَانَ لَيُؤْذَنُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 5000 وصحيح مسلم برقم 2462. (¬2) أي السواد. (¬3) برقم 3763 وصحيح مسلم برقم 2460. (¬4) برقم 3762.

لَهُ إِذَا حُجِبْنَا وَيَشْهَدُ إِذَا غِبْنَا» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علقمة قال: دَخَلْتُ الشَّامَ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا، فَرَأَيْتُ شَيْخًا مُقْبِلًا فَلَمَّا دَنَا قُلْتُ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اسْتَجَابَ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَفَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ، وَالْوِسَادِ، وَالْمِطْهَرَةِ، أَوَ لَمْ يَكُنْ فِيكُمُ الَّذِي أُجِيرَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَوَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، كَيْفَ قَرَأَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}؟ فَقَرَاتُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فَاهُ إِلَى فِيَّ، فَمَا زَالَ هَؤُلَاءِ حَتَّى كَادُوا يَرُدُّونِي (¬2). وكان رضي اللهُ عنه من فقهاء الصحابة وقرائهم، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، - فَبَدَأَ بِهِ - وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ» (¬3). وقد حَصَّلَ رضي اللهُ عنه علماً كثيراً بملازمة النبي صلى اللهُ عليه وسلم، فروى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ، وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاكَ» (¬4). ¬

(¬1) برقم 2461. (¬2) برقم 3761 وصحيح مسلم برقم 824 مختصراً. (¬3) برقم 3760 وصحيح مسلم برقم 2464 واللفظ له. (¬4) برقم 2169.

ومما يدل على علمه وأمانته ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه قال: كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟ » قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟ » فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: «اقْلِصْ»، فَقَلَصَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ: فَمَسَحَ رَاسِي وَقَالَ: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ» (¬1). وقال عمر رضي اللهُ عنه: كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْماً (¬2). وكان الصحابة رضي الله عنهم يتعجبون من دقة ساقيه، فأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم بمنزلته عند ربه، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه: أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ » قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» (¬3). وكان مستجاب الدعوة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله رضي اللهُ عنه: أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَدْعُو، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وَهُوَ يَدْعُو، فَقَالَ: «سَلْ تُعْطَهْ»، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا ¬

(¬1) (6/ 82) برقم 3598 وقال محققوه إسناده حسن. (¬2) الكنيف: الوعاء، وقال هذا نظراً لصغر سنه مع أنه من أعلم الصحابة. (¬3) (7/ 99) برقم 3991 وقال محققوه صحيح لغيره.

لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ، جَنَّةِ الْخُلْدِ (¬1). ومن أقواله العظيمة: أنه كان يقول: «حَبَّذَا المَكرُوهَانِ: المَوتُ وَالفَقرُ، إِن كَانَ الفَقرُ إِن فِيهِ الصَّبرُ، وَإِن كَانَ الغِنَى إِن فِيهِ لَلعَطفُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا وَاجِبٌ» (¬2). ومنها أنه كان يقول إذا قعد: «إنكم في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، من زرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مِثلُ ما زرع، لا يَسبقُ بطيء بحظه، ولا يُدرِكُ حريص ما لم يُقدَّر له، فمن أُعطي خيراً، فالله أعطاه، ومن وُقي شراً، فالله وقاه، المُتَّقُون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة» (¬3). وكان يقول: «من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضرَّ بالآخرة، يا قوم فأَضروا بالفاني للباقي». وكان يقول: «إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً، ليس في عمل آخرة ولا دنيا». ولما مرض عبد الله عاده عثمان فقال: «مما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء، قال: لا حاجة لي فيه» (¬4). ¬

(¬1) (6/ 346) برقم 3797 وقال محققوه صحيح لغيره. (¬2) أبو نعيم في الحلية (1/ 132). (¬3) سير أعلام النبلاء (1/ 496 - 497). (¬4) سير أعلام النبلاء (1/ 498).

قال ابن حجر، وعند البخاري في تاريخه بسند صحيح من حديث ابن ظهير، قال: «جاء نعي عبد الله بن مسعود إلى أبي الدرداء، فقال: ما ترك بعده مثله» (¬1). قال عبيد الله بن عبد الله: مات بالمدينة ودفن بالبقيع سنة اثنين وثلاثين من الهجرة (¬2). رضي الله عن عبد الله بن مسعود، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تاريخ البخاري الصغير (1/ 85). (¬2) سير أعلام النبلاء (1/ 499).

الكلمة العشرون: فوائد من قوله تعالى {وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون}

الكلمة العشرون: فوائد من قوله تعالى {وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُون} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُون (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (82)} [التوبة: 81 - 82]. قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى ذامّاً للمنافقين المتخلِّفين عن صحابة رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، وكرهوا أن يجاهدوا معه بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا: أي بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار، فلهذا قالوا: {تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ}، فقال تعالى: قل لهم نار جهنم التي تصيرون إليها لمخالفتكم أشد حراً مما فررتم منه من الحر، بل أشد حراً من النار في الدنيا لو كانوا يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول صلى اللهُ عليه وسلم في سبيل الله في الحر ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا، ولكنهم كما قال الآخر: كالمستجير

من الرمضاء بالنار» (¬1). ثم قال سبحانه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإذا انقطعت الدنيا، وصاروا إلى الله عزَّ وجلَّ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً» (¬2). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أن المنافقين في كل عصر وزمان دَيدَنُهُم تثبيط المؤمنين عن الجهاد، وأداء الطاعات مهما كانت يسيرة، كما قال تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 167]. وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [آل عمران: 168]. ثانياً: أن الله ذم المنافقين ليس بقعودهم عن الجهاد فقط، ولكن بفرحهم أيضاً بهذا التخلف، فإن الفرح بالمعصية أعظم من المعصية. ثالثاً: أن الله قَدَّمَ الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في هذه الآية، وفي آيات أخرى، كما في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [التوبة: 41]. قال العلماء: وذلك لأهمية المال في دعم الجهاد، ولا يمكن أن يقوم الجهاد بدون مال. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (7/ 252). (¬2) المصدر السابق (7/ 255).

رابعاً: دلَّت الآية الكريمة أن الفقيه هو الذي يتقي البلاء الأكبر بالأصغر، والمنافقون لما كانوا لا يفقهون عكسوا ذلك بفرارهم من حر الرمضاء إلى حر جهنم، وفي هذا المعنى يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. فنار جهنم أشد وحرها أعظم من حر الدنيا، بل هي أضعاف نار الدنيا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ، جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا» (¬1). خامساً: أن من الكفار والعصاة من يرتكبون المعاصي والذنوب، وهم يضحكون، ويلعبون، ولكن هذا الضحك ينقلب يوم القيامة بكاء وحسرات، روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن قيس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَهلَ النَّارِ لَيَبكُونَ، حَتَّى لَو أُجرِيَتِ السُّفُنُ فِي دُمُوعِهِم لَجَرَت، وَإِنَّهُم لَيَبكُونَ الدَّمَ - يعني مكان الدمع -» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 3265 وصحيح مسلم برقم 2843. (¬2) (5/ 831) برقم 8827 وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 1679.

الكلمة الحادية والعشرون: من أحكام السفر وآدابه

الكلمة الحادية والعشرون: من أحكام السفر وآدابه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن الإنسان بطبعه يحتاج إلى السفر في أرض الله لقضاء مصالحه الدينية والدنيوية، والسياحة في الأرض والتأمل في عجائب المخلوقات مما يزيد العبد إيماناً ويقيناً بربه، قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]. وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور (15)} [الملك: 15] (¬1). قال الشافعي مادحاً للسفر وحاثًّا عليه: سافر تَجد عِوضاً عَمنْ تُفارقهُ وانْصَبْ فَإنَّ لَذِيد العيش في النصبِ إني رَأيتُ وقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ إنْ سَالَ طَابَ وإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِب والشمسُ لو بَقِيَت في الفُلكِ دَائِمَةً لمَلَّها الناسُ مِنْ عُجم ومِنْ عَرَبِ وقد وردت السنة النبوية ببعض الآداب الشرعية التي ينبغي للمسافر أن يلتزم بها، فمن ذلك: أولاً: الاستخارة الشرعية قبل السفر، فيستخير في موعد السفر ووجهته، روى البخاري في صحيحه والترمذي والنسائي ¬

(¬1) المنهاج للحاج والمعتمر للشيخ سعود الشريم ص: 11 - 12.

في سننهما من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، ويَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ، ثُمَّ يُسَمِيهِ بِاسْمِهِ، خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»، أَوْ قَالَ: «عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ، ويَذْكُرُ الأَمْرَ ويُسَمِّيهِ، شَرٌّ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»، أَوْ قَالَ: «فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» (¬1). ثانياً: أن يحرص على دعاء السفر عند خروجه وعودته، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ، فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ»، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6382 وسنن الترمذي برقم 480 والنسائي برقم 3253.

عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» (¬1). وفي رواية لمسلم: «كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الحَوْرِ بَعدَ الكَوْرِ - وَهُوَ الرُّجُوعُ مِنَ الِاستِقَامَةِ أَوِ الزِّيَادَةِ إِلَى النَّقصِ -، وَدَعوَةِ المَظلُومِ» (¬2). ثالثًا: أن يحرص أيضاً على الذكر عند الركوب فقد روى الترمذي في سننه من حديث علي بن ربيعة قال: شهدنا علياً أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: «بِاسمِ اللهِ» ثَلَاثًا، فلما استوى على ظهرها قال: «الحَمدُ للهِ» ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «الحَمْدُ للهِ» ثَلَاثًا، و «اللهُ أكْبَرُ» ثَلَاثًا، «سُبحَانَكَ إِنِّي قَد ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنتَ» ثم ضحك، قلت: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم صنع كما صنعت ثم ضحك، فقلت من أي شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: «إِنَّ رَبَّكَ لَيَعجَبُ مِن عَبدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغفِر لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغفِرُ الذُّنُوبَ غَيرُكَ» (¬3). رابعاً: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم إذا ودَّعَ أصحابه في السفر يقول لأحدهم: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» (¬4). والسنة أن يرد ¬

(¬1) برقم 1342. (¬2) برقم 1343. (¬3) برقم 3446 وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. (¬4) سنن الترمذي برقم 3443 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 155) برقم 2738.

عليه المسافر فيقول: «أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ» (¬1). خامساً: استحباب الخروج يوم الخميس، روى البخاري في صحيحه من حديث كعب بن مالك رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ (¬2). ويُستحب أن يكون أول النهار أو بالليل لما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث صخر الغامدي رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» (¬3)، ولما رواه أبو داود في سننه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ» (¬4). سادساً: استحباب طلب الرفقة الصالحة وتأميرهم على أنفسهم واحداً يطيعونه، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ» (¬5). وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الرَّاكِبُ ¬

(¬1) سنن ابن ماجه برقم 2825 وحسنه العراقي كما نقل ذلك الألباني رحمه الله في الكلم الطيب ص: 59. (¬2) برقم 2950. (¬3) (3/ 416) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 278) برقم 1300. (¬4) برقم 2571 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 488) برقم 2241. (¬5) برقم 2998.

شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» (¬1). قال الألباني رحمه الله: «ولعل الحديث أراد السفر في الصحاري والفلوات التي قلما يرى المسافر فيها أحداً من الناس، فلا يدخل فيه السفر اليوم في الطرق المعبدة الكثيرة المواصلات. والله أعلم» (¬2). اهـ. وروى أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» (¬3). سابعاً: استحباب تكبير المسافر إذا صعد الثنايا وشبهها وتسبيحه إذا هبط الأودية ونحوها، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: «كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلنَا سَبَّحْنَا» (¬4). ثامناً: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم ينهى المرأة أن تسافر لوحدها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أنه سمع النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: ¬

(¬1) برقم 2607 والترمذي برقم 1674 وقال حديث حسن. (¬2) السلسلة الصحيحة حديث رقم 62. (¬3) برقم 2608 وقال الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود حسن صحيح (2/ 494) برقم 2272. (¬4) برقم 2994.

«انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» (¬1). تاسعاً: من السنة أن يصلي المسافر التطوع على دابته، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً، صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ» (¬2). عاشراً: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يحذر من السفر إلى بلاد الكفار، فروى الترمذي في سننه من حديث جرير رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَلِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» (¬3). وقد استثنى العلماء من ذلك: المجاهد في سبيل الله، أو السفر للدعوة إلى الله، أو لعلاج مرض، لا يتوفر إلا ببلادهم، أو السفر لدراسة لا يمكن الحصول عليها في بلاد المسلمين، أو للتجارة، وكل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادراً على إقامة شعائره مع أمن الفتنة، وللضرورة أحكامها. الحادي عشر: إذا ذهب المسافر إلى المتنزهات أو البراري عليه أن يُلزِمَ زوجته وبناته بالحجاب، وعليه أن يبتعد عن الأماكن المختلطة، أو التي تحتوي على مخالفات شرعية، وأن يحافظ على ¬

(¬1) برقم 1862 وصحيح مسلم 1341 واللفظ له. (¬2) برقم 1000 وصحيح مسلم برقم 700. (¬3) برقم 1604 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 119) برقم 1307.

الصلاة في أوقاتها، ويأمر أهله بذلك، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. الثاني عشر: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يَحُثُّ أُمَّتَهُ إذا نزل أحدهم منزلاً في سفره، أو غيره أن يقول: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» (¬1). الثالث عشر: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يأمر المسافر إذا قضى حاجته أن يعجل بالرجوع إلى أهله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» (¬2). الرابع عشر: كان صلى اللهُ عليه وسلم ينهى أن يَطرُقَ الرجل أهله ليلاً إذا رجع من سفر، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي اللهُ عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَكْرَهُ أَنْ يَاتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا» (¬4). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 2708. (¬2) برقم 1804 وصحيح مسلم برقم 1927. (¬3) برقم 5244. (¬4) برقم 5243.

وينبغي للمسافر أن يحرص على الدعاء، فإن دعوته مستجابة، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، ودَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 1536 وقال الترمذي حديث حسن.

الكلمة الثانية والعشرون: من أهوال يوم القيامة

الكلمة الثانية والعشرون: من أهوال يوم القيامة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن أعظم أهوال يوم القيامة اجتماع الناس في المحشر وانتظارهم فصل القضاء بينهم، وموقفهم فيه طويل، وشديد ومفزع، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين (6)} [المطففين: 6]. قال ابن كثير رحمه الله: يقومون حفاة عراة غرلاً (¬1) (¬2) في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم ويغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى والحواس عنه (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين (6)} قال: «يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» (¬4). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، ¬

(¬1) أي كما ولدتهم أمهاتهم غير مختونين. (¬2) ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللهُ عنها. (¬3) تفسير ابن كثير (14/ 281). (¬4) برقم 6531 وصحيح مسلم برقم 2862.

وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» (¬1). ويكون عرق الناس في ذلك اليوم على قدر أعمالهم. روى مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود رضي اللهُ عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ»، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ، قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ (¬2). قال ابن أبي جمرة: فأشدهم في العرق الكفار ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار (¬3). قال ابن حجر: ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف، وتدنى الشمس من الرؤوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعاً مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه، إن هذا مما يبهر العقول ويدل على عظيم القدرة، ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة أن ليس ¬

(¬1) برقم 6532؛ وصحيح مسلم برقم 2863. (¬2) صحيح مسلم برقم 2863. (¬3) فتح الباري (11/ 394 - 395) بتصرف.

للعقل فيها مجال، ولا يُعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يُؤخذ بالقبول ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه، وحرمانه، وفائدة الإخبار بذلك أن ينتبه السامع فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنه وكرمه (¬1). وهذا الموقف مع شدته وكرب الناس فيه فهو أيضاً موقف طويل جدًّا مقداره خمسين ألف سنة. قال ابن كثير: وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون، وقيل: يقومون ثلاث مئة سنة، وقيل: يقومون أربعين ألف سنة، ويُقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)} [النبأ: 38 - 39]. روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث عبد الله ابن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَجْمَعُ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَومٍ مَعْلُومٍ قِيَامًا أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُم إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ القَضَاءِ ... » الحديث (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري (11/ 394 - 395). (¬2) جزء من حديث (9/ 357) برقم 9763 وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (4/ 365 - 367) بطوله وعزاه لإسحاق بن راهويه في مسنده، وقال هذا إسناد صحيح متصل رجال ثقات، وقال ابن القيم في كتابه حادي الأرواح ص: 215، هذا حديث كبير حسن، وصححه الشيخ الألباني في الترغيب والترهيب (3/ 418) برقم 3591.

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (¬1). وساق ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: يوم القيامة، قال ابن كثير: وهذا إسناده صحيح (¬2). وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يتعوذ من ضيق هذا اليوم وكربته. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ربيعة الجرشي رضي اللهُ عنه قال: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلتُ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ وَبِمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ؟ قَالَتْ: كَانَ يُكَبِّرُ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا، وَيُهَلِّلُ عَشْرًا، وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي» عَشْرًا، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّيقِ يَوْمَ الحِسَابِ» عَشْرًا» (¬3). ومن ثمرات الإيمان بهذا الموقف العظيم: أولاً: أن المؤمن ينبغي أن يكون على استعداد للقاء ربه، وألَّا يكون في غفلة، فإن أمامه أهوالاً وأموراً عظيمة، فهناك ¬

(¬1) برقم 987. (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 128). (¬3) (42/ 37 - 38) برقم 25102 وقال محققوه حديث حسن.

الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والنفخ في الصور، والبعث بعد الموت، وعرصات يوم القيامة، والميزان، والصراط والنار، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون (1)} [الأنبياء: 1]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفخِ»، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ لَهُم: «قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» (¬2). ثانياً: أن الكفار وأصحاب المعاصي يُشَدَّدُ عليهم في ذلك اليوم. قال تعالى: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26]. وتقدم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن مانعي الزكاة يُعَذَّبُونَ، وأن هذه البهائم تَطَؤُهُم بِأَخفَافِهَا وَأَظلَافِهَا وتنطحهم بقرونها. ثالثاً: ومن البشائر أن أهوال الآخرة مع شدتها وكرباتها من القبر وظلماته، والنفخ في الصور، وعرصات يوم القيامة، والصراط وغيرها، أن الله بِمَنِّهِ وكرمه يخفِّفها على المؤمن. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ¬

(¬1) برقم 2312 وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 268) برقم 1882. (¬2) برقم 2431 وقال الترمذي هذا حديث حسن.

لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون (101) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُون (102) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُون (103)} [الأنبياء: 101 - 103]. قال بعض المفسرين: الفزع الأكبر: النفخ في الصور. وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفِ يَومٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، يُهَوِّنُ ذَلِكَ عَلَى المُؤمِنِينَ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ لِلغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ» (¬1). ومن البشائر أيضًا قول الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)} [الفرقان: 24]، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما ترجمان القرآن: إنما هي ضحوة، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين، وكذا قال ابن مسعود رضي اللهُ عنه في قراءة له: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيم (68)}، وقال سعيد بن جبير رحمه الله: يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم قرأ الآية: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)} [الفرقان: 24] (¬2). رابعاً: إنه في ذلك الموقف العظيم والناس في حر شديد، وبلاء عظيم لا يطاق، يُظِلُّ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَومَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّه سَبعَةً: «إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، ¬

(¬1) برقم 7289 وصححه الألباني في الترغيب والترهيب (3/ 417) برقم 3589. (¬2) تفسير ابن كثير (10/ 298)، وتفسير القرطبي (15/ 398).

وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (¬1). خامساً: إنه ينبغي للمؤمن أن يكثر من الأعمال الصالحة ويخفيها عن الناس، كان عبد الله بن المبارك يأتي إلى ماء زمزم ويقول: سمعت النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (¬2) وأنا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شرب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 660 وصحيح مسلم برقم 1031. (¬2) سنن ابن ماجه برقم 3062 وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (4/ 320) برقم 1123.

الكلمة الثالثة والعشرون: تأملات في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ... }

الكلمة الثالثة والعشرون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } الآيات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم (4)} [الأنفال: 2 - 4]. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } أي خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية الله تعالى انكفافاً عن المحارم، فإن خوف الله أكبر علاماته أن يَحجِزَ صاحبه عن الذنوب. قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع، ويُحضِرُونَ قلوبهم لتدبره، فعند ذلك يزيد إيمانهم؛ لأن التدبر من أعمال القلوب؛ ولأنه لا بد أن يبين لهم معنًى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يُحدِثُ في قلوبهم رغبةً في الخير واشتياقاً إلى كرامة ربهم، أو وجلاً من العقوبات وازدجاراً من المعاصي، وكل هذا مما يزيد به الإيمان.

قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} أي يعتمدون في قلوبهم على ربهم وحده لا شريك له في جلب مصالحهم، ودفع مضارِّهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن الله سيفعل ذلك، والتَّوَكُّل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} أي من فرائض ونوافل بأعمالها الظاهرة، والباطنة، كحضور القلب فيها الذي هو روح الصلاة ولبها. قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات، والنفقة على الزوجات، والأقارب، وما ملكت أيمانهم، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير. قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أي الذين اتصفوا بتلك الصفات هم المؤمنون حقًّا؛ لأنهم جمعوا بين الإسلام، والإيمان، بين الأعمال الظاهرة، والأعمال الباطنة، وبين العلم، والعمل. قوله تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم} أي: درجاتٌ عاليةٌ في الجنة بحسب أعمالهم، ومغفرةٌ لذنوبهم، ورزقٌ كريمٌ وهو ما أعدَّ الله لهم في دار كرامته مما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: أن البكاء من خشية الله هو شعار المؤمنين المتقين، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا

عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين (83)} [المائدة: 83]. روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬1). وقد كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم كثير البكاء من خشية الله، وكذلك الصالحون من قبل ومن بعد، وقد توعد الله أصحاب القلوب القاسية بأشد الوعيد، فقال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين (22)} [الزمر: 22]. ثانياً: في قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} فيها التصريح بزيادة الإيمان، وقد صرح تعالى بذلك في مواضع أخرى، كقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124]. وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4]. وقال تعالى: {كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]. وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضاً؛ لأن كل ما يزيد ينقص، فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وجاء مصرحاً بنقصه كما في أحاديث الشفاعة في الصحيحين كقوله صلى اللهُ عليه وسلم: «يَخرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَفِي قَلبِهِ مِثقَالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن إِيمَانٍ» (¬2). ¬

(¬1) برقم 1639 وقال حديث ابن عباس حديث حسن غريب وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 4113. (¬2) صحيح البخاري رقم 7510 وصحيح مسلم برقم 192.

ثالثاً: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فالإيمان ثلاثة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، وقد جمعت هاتان الآيتان ذلك كله، فعمل القلب: مما تقدم من التوكل وزيادة الإيمان وغيره، وعمل اللسان: ذكر الله وتلاوة القرآن، وعمل الجوارح: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (3)} [الأنعام: 3]. رابعاً: الآيات تدل على أن من لم يزده سماع القرآن إيماناً زاده بعداً، لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون (125)} [التوبة: 125]. خامساً: التوكل من خصال الإيمان العظام لقوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} [النحل: 42]. سادساً: لطف الله بعباده، حيث ذكرهم بأن ما ينفقونه إنما هو من رزقه الذي أعطاهم، فكيف يبخلون بعد هذا؟ سابعاً: قد يكون من الناس من يدعي الإيمان، ولكن المؤمنين حقاً هم الذين اجتمعت فيهم تلك الصفات لقوله تعالى بعد ما ذكر صفاتهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}. ثامناً: منازل المؤمنين درجات بعضها فوق بعض، ومنازل الكافرين دركات بعضها تحت بعض، لقوله تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ}، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد

الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» (¬1). تاسعاً: من فضل ثواب المؤمنين: قربهم من الله لقوله تعالى: {عِندَ رَبِّهِمْ}. عاشراً: أن المؤمنين قبل دخول الجنة يطهرون من النقائص والذنوب، لقوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ}. الحادي عشر: رزق المؤمنين في الجنة لا تبعة فيه مع سعته، وحسنه، ودوامه، لقوله تعالى: {وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال: 4]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) رقم 3256 وصحيح مسلم 2831.

الكلمة الرابعة والعشرون: فضائل الأعمال الصالحة

الكلمة الرابعة والعشرون: فضائل الأعمال الصالحة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإنه ينبغي للمؤمن أن يكثر من الأعمال الصالحة، فإن العمر قصير والأجل قريب، وابن آدم لا يدري متى يُفَاجِئُهُ الأجل، قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (8)} [الأعراف: 8]. وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]. وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. ومن فضائل الأعمال الصالحة: الحياة الطيبة في الدنيا والفوز بالآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (97)} [النحل: 97]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير (11)} [البروج: 11]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا

أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون (17)} (¬1) [السجدة: 17]. ومنها ذهاب الخوف والحزن عنهم: ولو علم كثير من الناس ممن يعانون من الهمِّ، والقلق، والاكتئاب، والمشكلات الأسرية، ما للأعمال الصالحة من انشراح الصدر، ونعيم القلب لاستغنوا عن المستشفيات والعيادات النفسية، ولصلح حالهم واستقام أمرهم. ومنها محبة الله تعالى لهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. أي محبةً ومودةً في قلوب عباده، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» (¬2). ومنها الدرجات والمنازل العالية في الجنة، قال تعالى: {وَمَنْ يَاتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ ¬

(¬1) برقم 3244 وصحيح مسلم برقم 2824. (¬2) برقم 3208 وصحيح مسلم برقم 2637.

الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» (¬1). ومنها رضوان الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (8)} [البينة: 7 - 8]. وقال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 72]. ومنها سعة الرزق في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم (50)} [الحج: 50]. وقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} [الطلاق: 11]. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» (¬2). ومنها تكفير السيئات، وإصلاح البال، قال تعالى: {وَالَّذِينَ ¬

(¬1) برقم 3256 وصحيح مسلم برقم 2831. (¬2) برقم 2808.

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُم (2)} [محمد: 2]. أي يصلح شأنهم وحالهم مع أولادهم، وزوجاتهم، وفي أرزاقهم، وفي شئونهم كلها. ومنها إعطائهم الأجر تاماً ومضاعفته، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173]. وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا (112)} [طه: 112].وقال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام: 160]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا» (¬1). ومنها الدخول في رحمة الله، والفوز بذلك، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِين (30)} [الجاثية: 30]. ومنها الخروج من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (11)} [الطلاق: 11]. ومنها الاستخلاف والتمكين في الأرض، قال تعالى: {وَعَدَ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 129 وقد خرج البخاري الجزء الأول منه برقم 42.

اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]. ومنها الأجر الكبير والحسن غير المنقطع، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9]. وقال تعالى: {قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)} [الكهف: 2]. وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون (6)} [التين: 6]. ومنها زيادة الله تعالى لهم من فضله، وهدايته لهم، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين (45)} [الروم: 45]. وقال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد (26)} [الشورى: 26]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم (9)} [يونس: 9]. أي يزيدهم هداية، وتوفيقاً وأجراً في الدنيا والآخرة بما أعد لهم من الكرامة والنعيم (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: رسالة صغيرة لأخينا د. صالح الصياح بعنوان المبشرات لمن يعمل الصالحات.

الكلمة الخامسة والعشرون: خطورة دور السينما

الكلمة الخامسة والعشرون: خطورة دور السينما الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فالحديث في هذا اليوم عن فتنة عظيمة، ومعصية كبيرة، يدعو إليها أصحاب الشهوات والملذات، ألا وهي افتتاح دور السينما، وسيكون الكلام فيها في العناصر التالية: المخالفات الشرعية، أقوال العلماء، شبهة والجواب عنها. فمن تلك المخالفات: أولاً: ما يتعلق بالعقيدة، وهو أخطر ما يكون، فهي تعرض صور الكفار وحضارتهم، وأحوال معيشتهم بطريقة تدعو إلى الإعجاب والميل لهم مع أن حياتهم حياة البهائم، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون (7)} [الروم: 7]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُم (12)} [محمد: 12]. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]. وبالمقابل تزهِّد في أخلاق المسلمين، ولباسهم، وطرق معيشتهم، والاحتقار لعلماء الإسلام، وأبطال المسلمين، وتمثيلهم بالصور المنفرة، والمسلم مأمور بموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (22)} [المجادلة: 22].

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوثَقَ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وتُبْغِضَ فِي اللَّهِ» (¬1). ثانياً: تصوير الاختلاط على أنه أمر عادي لا حرمة فيه، والإكثار من قصص الحب، والغرام والعشق بين الجنسين، ودعوة المرأة إلى خلع حجابها والتمرد على دينها وأهلها، ومعاشرة الرجال الأجانب دون حياء أو خجل، وهذا يؤدي إلى نشر الفاحشة والرذيلة في مجتمعات المسلمين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون (19)} [النور: 19]. ثالثاً: الغناء: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين (6)} [لقمان: 6]. وأكثر المفسرين كابن عباس وابن مسعود فسروه بالغناء، وكان ابن مسعود يحلف بالله أن لهو الحديث هو الغناء (¬2). وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]. رابعاً: المعازف: وهي حرام بجميع أنواعها، وأشكالها. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: ¬

(¬1) (30/ 488) برقم 18524 وقال محققوه حديث حسن بشواهده. (¬2) تفسير ابن كثير (11/ 46).

«لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، والْخَمرَ والمَعَازِفَ» (¬1). فإخبار النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنهم يستحِلُّونها معنى ذلك أنها في الأصل حرام. خامساً: أن عرض السينما في مكان عام مع ما فيها من المنكرات والمخالفات الشرعية السابق ذكرها يعتبر مجاهرة بالمعصية، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ» (¬2). سادساً: آثارها السيئة على مرتاديها، ومنها تعليمهم طرق المكر والخداع، والسرقة وحياكة المؤامرات والقتل، وقد ذكرت الإحصائيات العالمية أن كثيراً من حالات القتل، والاغتصاب والطلاق، والخيانات الزوجية كانت بسبب أفلام العنف والجنس، السينمائية والتلفزيونية. أقوال العلماء فيها: قال الشيخ عبد الله بن حميد: «ومن أهم ما يجب المبادرة إلى رفعه وإزالته، أو دفعه وعدم إقراره هو وجود هذه السينما التي انتشرت في أكثر الأماكن، وما يُعرض فيها من صور خليعة، وأمراض أخلاقية فتاكة تقتل ما في الإنسان من رجولية، أو مروءة، أو ديانة، وإنها والله فخ نصبه لنا أعداؤنا ليُذهِبُوا ما فينا من حماسة أخلاقية امتاز المسلمون فيها على غيرهم، وقد أدركوا ما يريدون من كثير من أبناء المسلمين بسببها، فلا حول ولا قوة إلا بالله» (¬3). ¬

(¬1) برقم 5590. (¬2) برقم 6069 وصحيح مسلم برقم 2990. (¬3) الرسالة الثالثة من الشيخ عبد الله بن حميد إلى الملك فيصل رحمهما الله، نُشرت في كتاب الدرر السنية المجلد الخامس عشر.

وسُئلت اللجنة الدائمة: هل يجوز للمسلم أن يبني سينما ويدير أعماله بيده؟ فأجابت: «لا يجوز لمسلم أن يبني سينما، ولا أن يدير أعمال سينما له، أو لغيره لما فيها من اللهو المحرم؛ ولأن السينماءات المعروف عنها في العالم اليوم أنها تعرض صوراً خليعة، ومناظر فتانة، تثير الغرائز الجنسية، وتدعو للمجون، وفساد الأخلاق، وكثيراً ما تجمع بين نساء، ورجال غير محارم لهن» (¬1). وجاء في خطاب الملك فيصل رحمه الله إلى وزير الإعلام: «وأما السينماء فلا يسمح لذويها بعرضها في أماكن عامة مطلقاً، ومَن يُقبَضْ عليه يُجَازَ بمصادرة الآلة، والأفلام، والسجن، والجلد (¬2)» (¬3). العنصر الثالث: شبهة والجواب عنها. قد يقول قائل: إن السينما التي تُعرض الآن ليس فيها إثارة جنسية ولا اختلاط واضح بين الرجال، والنساء، ومن الممكن أن تكون تحت ضوابط إسلامية. فالجواب عن ذلك: أن أهل الشر يتدرجون شيئاً فشيئاً، قد يتنازلون عن بعض الأمور حتى يحصلون بعد ذلك على ما يريدون، وهذا دَيْدَنَهُم دائماً، شيئاً فشيئاً حتى تصبح السينما عندنا كبقية الدول ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (26/ 277) برقم 3501. (¬2) الدرر السنية المجلد السادس عشر. (¬3) انظر: ما كتبه أخونا د. سليمان الجربوع في كتابه عندما يكون الترفيه مصيدة - السينما أنموذجاً فقد أجاد وأفاد.

الأخرى تُعرَضُ بكل ما فيها من اختلاط بين الرجال، والنساء، وفسق، وإضاعة للصلوات، ومشاهد فاضحة .. وغير ذلك من الشرور والمفاسد مما ينكره كل مسلم عاقل يرجو الله والدار الآخرة، قال تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا (27)} [النساء: 27]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السادسة والعشرون: فوائد من قوله تعالى: {كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ... }

الكلمة السادسة والعشرون: فوائد من قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } الآية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (185)} [آل عمران: 185]. قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تعالى إخباراً عامًّا يعمُّ جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام (27)} [الرحمن: 26 - 27]. فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، ويتفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخراً كما كان أولاً، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة، وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم، وانتهت البَرِيَّةُ، أقام الله القيامة، وجازى الخلائق بأعمالها، جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها،

كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة؛ ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... }» (¬1). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أن الإنسان مهما طال عمره في هذه الحياة، فإن الموت نهاية كل حي ومصيره، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُون} [الزمر: 30]. قال الشاعر: كُلُّ ابنِ أُنْثَى وإنْ طَالَت سلامَتُهُ يَوْماً على آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ وقال آخر: الموتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ فَلَيْتَ شِعْرِي بعد المَوْتِ مَا الدَّارُ روى الطبراني في معجمه الأوسط من حديث سهل بن سعد رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «جَاءَ جِبرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحبِبْ مَنْ شِئْتَ، فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَم أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيلِ، وَعِزَّهُ استِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬2). ثانياً: إن اللهَ لا يظلم الناس شيئاً، بل يُوَفِّيهم أجورَهم ويزيدُهم من فضله، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/ 284 - 285). (¬2) معجم الطبراني في الأوسط (4/ 306) برقم 4278 وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 485) برقم 918 إسناده حسن، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 831.

[الأنبياء: 47]. وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا (112)} [طه: 112]. ثالثاً: أن الفوز الذي يحصل بالنجاة من النار، ودخول الجنة له من الأعمال سببٌ يُوصل إليه، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيَدُخَلَ الْجَنَّةَ، فَلتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَليَأتِ إِلَى النَّاسِ، الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» (¬1). رابعاً: دلت الآية الكريمة على حقارة الدنيا وأنها متاعٌ زائلٌ فانٍ، وما يؤثرها على الآخرة الباقية إلا مبخوس الحظ، ضعيف العقل، قال الله تعالى عن هؤلاء: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16 - 17]. وقال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُون (60)} [القصص: 60]. روى مسلم في صحيحه من حديث مستورد أخي بني فهر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ (وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ» (¬2). وقال قتادة في قوله تعالى: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} قال: هي متاعُ متروكةٍ أوشكت، والله الذي لا إله إلا هو، أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. ¬

(¬1) جزء من حديث برقم 1844. (¬2) برقم 2858.

خامساً: أن الفوز الحقيقي هو دخول الجنة، والنجاة من النار، قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون (20)} [الحشر: 20]. وقال تعالى: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِين (16)} [الأنعام: 16]. وقال تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)} [الفتح: 5]. سادساً: في الآية الكريمة إخباره تعالى - وهو حقٌّ وصدقٌ - أن الموت حقٌّ على كل نفس، فاليقين بذلك والإكثار من ذكره دأب الأكياس من المؤمنين؛ لأن ذلك يحملهم على الاستعداد له، وعدم الاغترار بالدنيا، والتخلص من الذنوب والسيئات، فروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ» (¬1). وروى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أنه قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ» (¬2). سابعاً: في قوله تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. ¬

(¬1) برقم 2307 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 266) برقم 1877. (¬2) برقم 4259 وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1384.

تسلية للمؤمنين فيما يصيبهم في الدنيا، وما يصبرون عليه من فعل الخير، ومجاهدة النفس، والصبر على الأذى، والرضى بالقضاء، فإن الوفاء الأعظم إنما يكون يوم القيامة، وفيها أيضاً تحذير الكفار والظالمين والعاصين من عاقبة الإمهال، فإن الوفاء الأعظم إنما يكون يوم القيامة، قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون (3)} [الحجر: 3]. وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَار (43)} [إبراهيم: 42]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السابعة والعشرون: البكاء من خشية الله

الكلمة السابعة والعشرون: البكاء من خشية الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن البكاء من خشية الله دليلٌ على إيمان العبد وخوفه من الله، قال تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107 - 109]. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58]. وقد أثنى الله على المؤمنين أصحاب القلوب الرقيقة، الذين لا يملكون أنفسهم من الدمع عند سماعِ آياتِ الرَّحمنِ، أو خوفِ فواتِ عملٍ صالحٍ يُحِبُّونَهُ، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين (83)} [المائدة: 83].وقال تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُون (92)} [التوبة: 92].

والبكاء من خشية الله سببٌ للاستظلال بعرش الرحمن، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ - ذَكَرَ منْهُم: - وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (¬1). والبكاء من خشية الله من أحب الأعمال إلى الله، روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ، قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» (¬2). والبكاء من خشية الله سببٌ للنجاة، روى الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر رضي اللهُ عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» (¬3). والبكاء من خشية الله من أسباب التحريم على النار، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» (¬4). فقوله: «لاَ يَلِجُ»: أي ¬

(¬1) برقم 1423 وصحيح مسلم برقم 1031 وقال الحافظ في الفتح (2/ 144) وعند سعيد بن منصور بإسناد حسن عن سلمان رضي اللهُ عنه سبعة يظلهم الله في ظل عرشه. (¬2) برقم 1669 وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 133) برقم 1363. (¬3) برقم 2406 وقال الترمذي هذا حديث حسن. (¬4) برقم 1633 وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

لا يدخل، «حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ»: كناية عن استحالة ذلك. من أسباب البكاء من خشية الله: 1 - ذكر الموت: روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ - يعني الْمَوْتَ -» (¬1). فإذا ذكر المؤمن الموت رقَّ قلبه، ودمعت عينه، وزهد في دنياه. 2 - قراءة القرآن بتدبر، والاستماع إليه بخشوع: روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن الشِّخِّير رضي اللهُ عنه قال: «رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ البُكَاءِ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «اقْرَا عَلَيَّ القُرآنَ»، قَالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»، فَقَرَاتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)} [النساء: 41]، رَفَعْتُ رَاسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَاسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ (¬3). 3 - زيارة القبور، وتذكر الآخرة: روى الحاكم في المستدرك من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، فَإِنَّهُ يَرِقُّ القَلْبُ، وتَدّْمَعُ ¬

(¬1) برقم 2307 قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬2) برقم 904 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 170) برقم 799. (¬3) برقم 4582 وصحيح مسلم برقم 800 واللفظ له.

العَينُ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا» (¬1). وروى ابن ماجه في سننه من حديث البراء رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» (¬2). فإذا كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يبكي حتى تبل دموعه الثرى وهو سيد الأولين والآخرين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين؟ نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه ولطفه. وروى الترمذي في سننه من حديث هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ»، قَالَ: وسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» (¬3). 4 - التباكي: وهو منزلة دون البكاء وهو مجاهدة النفس في البكاء، قال ابن القيم رحمه الله بعد ذكره أنواع البكاء: «وما كان منه مستدعًى متكلفاً وهو التباكي، وهو نوعان: محمود ومذموم، ¬

(¬1) (1/ 711) برقم 1433 وقال محقق المستدرك حديث حسن صحيح وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 4584. (¬2) برقم 4195 وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم 3383. (¬3) برقم 2308 وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 267) برقم 1878.

فالمحمود يُستجلَبُ لرقة القلب وخشية الله لا للرياء والسمعة، والمذموم: أن يجتلب لأجل الخلق، وقد قال عمر بن الخطاب للنبي صلى اللهُ عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر: «أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا»، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيهِ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1)» (¬2). ولعل من أعظم أسباب جفاف العين، وعدم البكاء من خشية الله قسوة القلب، وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، بل ما خُلِقَتِ النار إلا لإذابة القلوب القاسية، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين (22)} [الزمر: 22]. فعلى العبد أن يُذيب هذه القسوة بذكر الله، وزيارة القبور، وتذكر الموت والآخرة وأهوالها (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 1763. (¬2) زاد المعاد (1/ 178). (¬3) انظر رسالة أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي «البكاء من خشية الله»، فقد أجاد وأفاد.

الكلمة الثامنة والعشرون: الأخوة الإسلامية

الكلمة الثامنة والعشرون: الأخوَّة الإسلامية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أقوى الروابط بين الناس الأخوَّة الإسلامية، فإنها تجمع بين المسلمين، وإن كانوا من أماكن متفرقة، وبلاد بعيدة، وجنسيات مختلفة، وقبائل شتى، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... } [الحجرات: 10]. وقال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «أَلَا لَا فَضلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسوَدَ، وَلَا أَسوَدَ عَلَى أَحمَرَ إِلَّا بِالتَّقوَى» (¬1). والأخوة الإسلامية لها حقوق وواجبات، منها: أولاً: أن يكون المسلم نصيراً، ومعيناً لأخيه المسلم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم (71)} [التوبة: 71]. وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]. ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (38/ 474) برقم 23489 وقال محققوه إسناده صحيح.

روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» (¬1). ثانياً: أن لا يظلم المسلم أخاه بأيِّ نوعٍ من أنواع الظلم وإن قَلَّ، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «أَلَا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ (¬3) وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» (¬4). ثالثاً: من لوازم الأخوَّة الإسلامية أن يرحم بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً، وقد ضرب النبي صلى اللهُ عليه وسلم لذلك مثلاً في غاية البيان على أن الأخوة الإسلامية لا نظير لها في جميع العلاقات التي تربط الناس بعضهم ببعض. ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، ¬

(¬1) برقم 2443. (¬2) برقم 4403 وصحيح مسلم برقم 66 مختصراً. (¬3) أي يترك نصرته. (¬4) برقم 2564.

إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» (¬2). رابعاً: النصح: فينصح المسلم أخاه المسلم في أمر دينه ودنياه، ومن ذلك: تعليم الجاهل والمشورة عليه بالخير، والنصح له في ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم أبوابه الدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جرير رضي اللهُ عنه قال: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (¬3). وهذه النصيحة هي التواصي بالحق الذي جاء في سورة العصر إذ يقول تعالى: {وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} [العصر: 1 - 3]. خامساً: رد السلام عليه، وإجابة دعوته، وتشميته إذا عطس، وزيارته عند المرض، واتباع جنازته، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ»، قِيلَ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا ¬

(¬1) برقم 6011 وصحيح مسلم برقم 2586 واللفظ له. (¬2) برقم 481 وصحيح مسلم برقم 2585 واللفظ له. (¬3) برقم 57 وصحيح مسلم برقم 56.

دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» (¬1). سادساً: أن يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (¬2). وقد جاء في الكتاب والسنة الحث على الأمور التي تقوي الروابط بين المسلمين، وتجلب المودة، وتزيل الأحقاد، وتذهب سخائم النفوس، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث المقدام بن معدي كرب رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث صفوان بن عبد الله أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَاسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ» (¬5). ¬

(¬1) برقم 2162. (¬2) برقم 13 وصحيح مسلم برقم 45. (¬3) برقم 54. (¬4) برقم 2392 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬5) برقم 2733.

وفي التنزيل المبارك: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ... } [الحشر: 10]. وإخواننا في فلسطين، وأفغانستان، والعراق، والشيشان، وكشمير، وغيرها من بلاد المسلمين يعانون من القتل، والتشريد، والتعذيب، وسلب الممتلكات، فندعو الله أن يكشف ما بهم من ضر، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: «المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء، والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت، وكان رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فَلأَتبَاعِهِ من المواساة بحسب اتِّبَاعِهِم لَهُ» (¬2). والحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام، وملة نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم مبناها على أمرين: أولهما: الإخلاص لله وثانيهما: الموالاة، والمعاداة فيه، ¬

(¬1) جزء من حديث صحيح البخاري برقم 2442 وصحيح مسلم برقم 2580. (¬2) الفوائد (246 - 247).

فالمسلم أخو المسلم، وإن كان من أقصى الأرض، والكافر عدو، وإن كان من أمه وأبيه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. ووصف الله نبيه محمداً صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وقد خالف هذا النهج القويم بعض المنتسبين للإسلام فأبعدوا المسلم وأقصوه، وقربوا الكافر وأدنوه، ومن ذلك ما يحدث في بعض الشركات والمؤسسات، فتكون المرتبة والراتب الأعظم للكافر، وإن كان المسلم أحسن أداءً، وأفضل عملاً، بل ربما جُعل الكافر رئيساً للمسلم .. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد بين تعالى أن هذا الفعل سبب لنشر الفساد في الأرض، قال تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير (73)} [الأنفال: 73]. وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والعشرون: فوائد من قوله تعالى {إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر}

الكلمة التاسعة والعشرون: فوائد من قوله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر (55)} [القمر: 54 - 55]. قال ابن كثير رحمه الله: «قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر (54)}: أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال، والسعر، والسحب على النار على وجوههم مع التوبيخ والتقريع والتهديد» (¬1). اهـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «التقوى هي فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه» (¬2). قوله: {جَنَّاتٍ وَنَهَر} أي بساتين جامعة للأشجار، وسميت جنة لأنها تُجِنُّ من فيها أي تستره لكثرة أشجارها، وأغصانها، والأنهار التي تجري من تحتها أي من أسفلها وتحت القصور والأشجار على أربعة أصناف، ذكرها الله بقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (13/ 310). (¬2) الفتاوى (10/ 667).

آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُم (15)} [محمد: 15] (¬1). قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر (55)} [القمر: 55] أي في دار كرامة الله ورضوانه عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» (¬2). ومن فوائد الآيتين الكريمتين: أولاً: أن التقوى سبب للفوز بالجنة والنجاة من النار، قال تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم: 71 - 72]. وقال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم: 63]. ثانياً: أن كلمة جنات، جاءت بصيغة الجمع، وهذا يدل على أنها أكثر من جنة، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أم حارثة رضي اللهُ عنها أنها جاءت إلى النبي صلى اللهُ عليه وسلم فقالت: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ ¬

(¬1) من أحكام القرآن للشيخ ابن عثيمين ص: 128. (¬2) برقم 1827.

كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى» (¬1). ثالثاً: أن في الجنة أنهاراً، ولكنها تختلف عما في الدنيا اختلافاً عظيماً لا يمكن أن يدركه الإنسان، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «لا يشبه شيء في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء» (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]» (¬3). رابعاً: أن الله تعالى وصف حال المتقين بأنهم في مقعد صدق، قال القرطبي: «{مَقْعَدِ صِدْقٍ}: أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة كما قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَاثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا (26)} [الواقعة: 25 - 26]». خامساً: إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 259]. روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود في قصة الرجل الذي هو ¬

(¬1) برقم 2809. (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 322). (¬3) برقم 3244 وصحيح مسلم برقم 2824.

آخر من يدخل الجنة، وجاء فيه أن الله تعالى يقول له: «أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا .. » وفي رواية البخاري: «وعَشْرَةُ أَمْثَالِهَا، قَالَ يَا رَبِّ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6571 وصحيح مسلم برقم 186.

الكلمة الثلاثون: قبول العمل

الكلمة الثلاثون: قبول العمل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُون (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون (61)} [المؤمنون: 57 - 61]. روى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ} [المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتٍ» (¬1). ولقد كان أصحاب رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة يخشون أن تحبط أعمالهم، وأَلَّا تُقبَل منهم لرسوخ علمهم وعميق إيمانهم، قال عبد الله بن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من ¬

(¬1) برقم 3175 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (3/ 79) برقم 2537.

أصحاب النبي صلى اللهُ عليه وسلم كلهم يخشى النفاق على نفسه ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل (¬1)، قال أبو الدرداء: لئن أستيقن أن الله تَقَبَّلَ مني صلاةً واحدةً أَحَبُّ إِلَيَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة: 27]» (¬2). قال علي رضي اللهُ عنه: «كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: ». قال ابن عطية: «المراد بالتقوى: اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة». وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول، والختم بالرحمة عُلم ذلك بأخبار الله تعالى (¬3). قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]. قال الفضيل بن عياض: «{أَحْسَنُ عَمَلاً}: أخلصه وأصوبه، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة» (¬4). قال أهل العلم: إن العمل لا يُقبل إلا بشرطين: الأول: أن يكون العمل موافقاً لما شرعه الله في كتابه، أو بَيَّنَهُ رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح البخاري باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. (¬2) تفسير ابن كثير (5/ 166) وقال محققوه ورواه ابن أبي حاتم وإسناده حسن. (¬3) تفسير القرطبي (7/ 411). (¬4) مدارج السالكين (2/ 69).

قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (¬1). أي مردود غير مقبول، وروى أبو داود والترمذي في سننهما من حديث العرباض ابن سارية رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ» (¬2). ثانياً: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، لقوله صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (¬3). ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: «وعند أهل السُّنة والجماعة يُتقَبَّل العمل مِمَّن اتقى الله فيه، فَعَمِلَه خالصًا لله موافقًا لأمرِ الله، فمن اتقاه في عمل تَقَبَّلَهُ منه، وإن كان عاصيًا في غيره، ومَن لم يتقه فيه لم يُتَقَبَّله منه وإن كان مُطِيعًا في غيره» (¬4)، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فلو كانت الحسنة لا تُقبل من صاحب السيِّئة لم تَمحُها. ¬

(¬1) برقم 2697 وصحيح مسلم برقم 1718 واللفظ له. (¬2) برقم 4607 والترمذي برقم 2676 وقال حديث حسن صحيح. (¬3) رقم 1 وصحيح مسلم برقم 1907. (¬4) مجموع الفتاوى 10/ 322.

ولا ينبغي للمؤمن أن يحتقر العمل وإن كان قليلاً، فقد حَذَّرَ النبي صلى اللهُ عليه وسلم من ذلك فقال: «لَا تُحَقِّرَنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئًا» (¬1)، فقد يُقبل هذا العمل ويكون سبباً لدخوله الجنة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» (¬3). قال ابن حجر: «ينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها» (¬4). وقد لا يُقْبَلُ العمل وإن كان كثيراً في نظر صاحبه، إما لِعُجبٍ، أو رياءٍ، أو غرورٍ، أو منةٍ صاحبت ذلك العمل، فكانت سبباً لِرَدِّهِ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: 264]. وأعظم موانع قبول العمل: الشرك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 2626. (¬2) برقم 3467 وصحيح مسلم برقم 2245. (¬3) برقم 1914 وأخرجه البخاري برقم 2472 بنحوه. (¬4) فتح الباري (11/ 321).

وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين (91)} [آل عمران: 91]. فمن تَعَبَّدَ لله بدين غير دين الإسلام فلن تقبل منه أعماله ولو كثرت، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]. ومن أسباب قبول العمل: الدعاء، قال تعالى عن نبي الله إبراهيم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (127)} [البقرة: 127]. ومنها الاستغفار، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم (199)} [البقرة: 199]. وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم إذا فرغ من صلاته قال: «اسْتَغْفَرَ اللَّهَ» ثَلَاثًا، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» (¬1). ومن علامات قبول العمل أن يتبع الحسنة بحسنة مثلها، كما قال بعض السلف: «الحسنة تقول أختي أختي، والمعصية تقول أختي أختي». ومصداق هذا في قوله صلى اللهُ عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: «عَليْكُم بِالصِّدقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ» (¬2). ومنها استشعار المؤمن لتقصيره في عمله ومنة الله عليه، وتوفيقه لهذا العمل، وأنه لولاه لما حصل، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 591. (¬2) برقم 6094 وصحيح مسلم برقم 2607 واللفظ له.

قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (17)} [الحجرات: 17]. ومنها أن يَحِسَّ العبد بلذة العبادة فتكون أنسه وراحته، كما قال صلى اللهُ عليه وسلم: «قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ» (¬1). وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ ذلك فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين} [البقرة: 45]. قال بعض أهل العلم: خفة الطاعة من آثار محبة المطاع وإجلاله، فإن قرة عين المحب في طاعة المحبوب، ففي الحديث: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (¬2). لما فيها من المؤانسة، ولذة القرب وأنس المناجاة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 4986 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 941) برقم 4171. (¬2) سنن النسائي برقم 3939 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي برقم (3/ 827) برقم 3680.

الكلمة الحادية والثلاثون: بر الوالدين

الكلمة الحادية والثلاثون: بِرُّ الوالدين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن بِرَّ الوالدين من أعظم الفرائض والواجبات، ولذلك قَرَنَهُ الله بعبادته وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23 - 24]. وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن بِرَّ الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن مسعود رضي اللهُ عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قُلتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن ¬

(¬1) برقم 527 وصحيح مسلم برقم 85.

عمرو رضي اللهُ عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَاسْتَاذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ » قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» (¬1). وفي رواية لأبي داود عنه قال: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: «ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» (¬2). قال جمهور العلماء: «يحرم الجهاد إذا امتنع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن» (¬3). اهـ. والوالد أوسط أبواب الجنة، روى الترمذي في سننه من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ» (¬4). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم بخسارة من أدرك أبويه عند الكبر فلم يدخلاه الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» (¬5). وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ عن أنبيائه أنهم كانوا بررة بوالديهم، قال ¬

(¬1) برقم 3004 وصحيح مسلم برقم 2549. (¬2) برقم 2528 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 480 - 481) برقم 2205. (¬3) فتح الباري (6/ 140 - 141). (¬4) برقم 1900 وقال الترمذي هذا حديث صحيح. (¬5) برقم 2551.

تعالى عن نبي الله يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم: 14]، وقال تعالى عن نبي الله عيسى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)} [مريم: 32]. والأم لها أعظم الحقوق بعد حق الله ورسوله، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} وبيَّن العلة في ذلك حثًّا للأولاد على الاعتناء بهذه الوصية، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة في الحمل، وعند الولادة، ثم حضنه في حجرها وإرضاعه قبل فطامه، فقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} [لقمان: 14] (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللهُ عليه وسلم فقال: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» (¬2). وروى النسائي وابن ماجه في سننهما من حديث معاوية ابن جاهمة رضي اللهُ عنه: «أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنتُ أَرَدْتُ الجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ ! »، قلت: نعم، قال: «ارْجِعْ فَبِرَّهَا .. » وفي آخر الحديث قال: «وَيْحَكَ الزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الجَنَّةُ» (¬3). ¬

(¬1) خطب الشيخ ابن عثيمين (5/ 294). (¬2) برقم 5971 وصحيح مسلم برقم 2548. (¬3) برقم 3104 وسنن ابن ماجه برقم 2781 واللفظ له وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي (2/ 651) برقم 2908.

ولقد أوصى الله تعالى بصحبة الوالدين بالمعروف، وإن كانا كافرين، فقال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (15)} [لقمان: 15]، وفي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي اللهُ عنهما قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ» (¬1). ومهما قدم الولد من إحسان فلا يستطيع رد جميل الوالدين، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» (¬2). ورضا الله في رضا الوالدين، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» (¬3). وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر لما فيه من عدم الوفاء ونكران الجميل، ويكفي أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قرنه بالشرك، وهو أعظم الذنوب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ثَلَاثًا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» (¬4). ¬

(¬1) برقم 2620 وصحيح مسلم برقم 1003. (¬2) برقم 1510. (¬3) برقم 1899 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 44) برقم 516. (¬4) برقم 2654 وصحيح مسلم برقم 87.

وعقوق الوالدين سبب لدخول العبد النار، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أُبَيِّ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِن بَعدِ ذَلِكَ، فَأَبعَدَهُ اللهُ وَأَسحَقَهُ» (¬1). «وبر الوالدين يكون ببذل المعروف، والإحسان إليهما بالقول، والفعل، والمال، أما الإحسان إليهما بالقول: بأن يخاطبا باللين واللطف مستصحباً كل لفظ يدل على اللين والتكريم، وأما الإحسان بالفعل، بأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج، والمساعدة على شؤونهما، وتيسير أمورهما، وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك، ثم الإحسان بالمال بأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك، منشرحاً به صدرك، غير متبع له بمنة، بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في قبوله والانتفاع به» (¬2). ومن بر الوالدين بعد موتهما: الدعاء لهما، قال تعالى عن نبي الله نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬3). ومنها الصدقة عنهما، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما ¬

(¬1) (31/ 373) برقم 19027 وقال محققوه إسناده صحيح. (¬2) خطب الشيخ ابن عثيمين (5/ 296 - 297). (¬3) برقم 1631.

من حديث عائشة رضي اللهُ عنها: أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» (¬1). ومنها صلة أصدقائهما، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي اللهُ عنهما: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَاسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّهُمُ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ: صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 1388 وصحيح مسلم برقم 1004. (¬2) برقم 2552.

الكلمة الثانية والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم ... }

الكلمة الثانية والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ... } الآية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين (24)} [التوبة: 24]. يقول تعالى آمراً رسوله أن يتوعد من آثر أهله، وقرابته، وعشيرته على الله ورسوله، وجهاد في سبيله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} ثم قال: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}: أي اكتسبتموها وحصلتموها، {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}: أي فسادها، ونقصها، وهذا يشمل جميع أنواع التجارات، والمكاسب، والأنعام، وغيرها، {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}: أي تحبونها لطيبها وحسنها، أي إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}، {فَتَرَبَّصُوا}: أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله، ولهذا قال: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} أي الخارجين عن

طاعته، المُقَدِّمِينَ على محبة الله شيئاً من المذكورات، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله» (¬1). روى البخاري في صحيحه من حديث زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام رضي اللهُ عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْآنَ يَا عُمَرُ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس ابن مالك رضي اللهُ عنه، قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬3). ومن فوائد الآية الكريمة: أولاً: أن محبة الله ورسوله دليل على كمال الإيمان، وحسن الإسلام، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي ص: 309 بتصرف. (¬2) صحيح البخاري برقم 6632. (¬3) برقم 15 وصحيح مسلم برقم 44.

الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (¬1). ثانياً: أن طاعة الله ورسوله مقدمة على الأهل، والمال، والولد، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا (36)} [الأحزاب: 36]. ثالثاً: أن ترك الجهاد في سبيل الله والخلود إلى الأرض سبب لغضب الله ووقوع الذل على المسلمين، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل (38)} [التوبة: 38]. روى الإمام أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (¬2). رابعاً: أن التكاسل عن الجهاد من صفات المنافقين، قال تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ ¬

(¬1) برقم 16 وصحيح مسلم برقم 43. (¬2) برقم 3462 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 42) برقم 11.

بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون (167)} [آل عمران: 167]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» (¬1). خامساً: أن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله سبب لنجاة العبد من عذاب الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون (11)} [الصف: 10 - 11]. روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن ابن جبر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» (¬2). سادساً: أن الجهاد من أفضل الأعمال؛ ولذلك قرنه الله بمحبة الله ورسوله كما في الآية السابقة: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين (24)} [التوبة: 24]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ - كَمَثَلِ ¬

(¬1) برقم 1910. (¬2) برقم 2811.

الصَّائِمِ الْقَائِمِ» (¬1). سابعاً: أن فيها الترغيب في الجهاد والزهد في الدنيا، فإن الأهل والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن، إنما هي متاع الدنيا الزائل، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب (14)} [آل عمران: 14]. وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (170)} [آل عمران: 169 - 170]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 2787 وصحيح مسلم 1876 مختصراً آخره.

الكلمة الثالثة والثلاثون: تواضعه عليه الصلاة والسلام

الكلمة الثالثة والثلاثون: تواضعه عليه الصلاة والسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من الأخلاق الجميلة والخصال الحميدة التي حث عليها الشرع ورغب فيها التواضع، قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان: 18]، وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين} [الحجر: 88]. والتواضع: هو خفض الجناح، ولين الجانب، ولا يكون فاعله محموداً إلا إذا فعله ابتغاء وجه الله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعاً، فإنه يكون مقصوده الرفعة، وذلك ينافي التواضع» (¬1).روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ» تنبيه على حسن القصد والإخلاص لله في تواضعه؛ لأن كثيراً من الناس قد ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (6/ 279). (¬2) برقم 2588.

يُظهر التواضع للأغنياء ليصيب من دنياهم، أو للرؤساء لينال بسببهم مطلوبه، وقد يُظهر التواضع رياء وسمعة، وكل هذه أغراض فاسدة، لا ينفع العبد إلا التواضع لله تقرباً إليه، وطلباً لثوابه وإحسانه إلى الخلق، فكمال الإحسان، وروحه الإخلاص لله» (¬1) (¬2). ونبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم إمام المتواضعين، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ»: فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا» (¬3). وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: «كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَتَاخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ» (¬4). وروى البغوي في شرح السنة من حديث عائشة رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «آكُلُ كَمَا يَاكُلُ العَبْدُ، وَأَجلِسُ كَمَا يَجلِسُ العَبْدُ» (¬5). وروى البغوي في شرح السنة من حديث عائشة رضي اللهُ عنها، قال صلى اللهُ عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ لَوْ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِيَ جِبَالُ الذَّهَبِ، جَاءَنِي مَلَكٌ إِنَّ ¬

(¬1) بهجة قلوب الأبرار وقرّة عيون الأخبار (ص: 92). (¬2) الإخلاص طريق الخلاص لأخينا الشيخ عبد الهادي وهبي ص: 66 - 67. (¬3) برقم 2326. (¬4) برقم 6072. (¬5) (13/ 248) وحسنه الألباني في الصحيحة برقم 544.

حُجْزَتَهُ (¬1) لَتُسَاوِي الكَعْبَةَ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ: إِن شِئْتَ نَبِيًّا عَبدًا، وَإِن شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إِلَى جِبرِيلَ عليه السلام فَأَشَارَ إِلَيَّ أَن ضَعْ نَفْسَكَ، فَقُلتُ: نَبِيًّا عَبدًا ... » الحديث (¬2). ولما سُئلت عائشة رضي اللهُ عنها: «هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَت: نَعَم، كَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُم فِي بَيْتِهِ» (¬3). وكان يقول: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬4). ولما جاءه رجل فقال: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ: «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام» (¬5). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» (¬6). وهذا من تواضعه، وإلا فقد ابتلي النبي صلى اللهُ عليه وسلم بما لم يُبتَلَ به أحد غيره. ¬

(¬1) الحجزة: موضع شد الإزار، ثم قيل للإزار حجزة للمجاورة، يقال: احتجز الرجل بالإزار إذا شده على وسطه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 344). (¬2) (13/ 348) برقم 3683 وقال محققوه حديث صحيح. (¬3) شرح السنة للبغوي (13/ 242) برقم 3675 وقال محققوه إسناده صحيح. (¬4) سنن الترمذي 2352 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 275) برقم 1917. (¬5) صحيح مسلم برقم 2369. (¬6) برقم 3372 وصحيح مسلم برقم 151.

وفي الصحيحين من حديث أبي بردة قال: «أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَارًا غَلِيظًا، فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي هَذَيْنِ» (¬1). والتواضع من صفات أنبياء الله، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» (¬2). وحث النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمته على التواضع وخفض الجناح، روى مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» (¬3). قال أبو بكر الصديق رضي اللهُ عنه: «وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع»، وقالت عائشة رضي اللهُ عنها: «تُغْفِلُونَ أفضل العبادة التواضع». ومن فوائد التواضع: 1 - أنه طريق موصل إلى الجنة. 2 - إن الله يرفع قدر المتواضع في قلوب الناس، ويطيب ذكره في الأفواه، ويرفع درجته في الآخرة. ¬

(¬1) برقم 5818 وصحيح مسلم 2080. (¬2) برقم 2262. (¬3) برقم 2865.

3 - أن التواضع المحمود يكون للمؤمنين، أما أهل الدنيا والظلمة فإن التواضع لهم ذل. 4 - أن التواضع دليل على حسن الخلق وطيب المعشر. 5 - أن التواضع صفة الأنبياء والمرسلين (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى اللهُ عليه وسلم (4/ 1268).

الكلمة الرابعة والثلاثون: النسيان آفته، وفوائده

الكلمة الرابعة والثلاثون: النسيان آفته، وفوائده الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] قال المفسرون: إنه الترك، والمعنى: ترك ما أُمر به، وقيل: من النسيان الذي يخالف الذكر. روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ عليه السلام، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ (¬1) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ (¬2)، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَمْ عُمْرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا، قَالَ: رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ، قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمْرِكَ، وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ، وَأَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَهُ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ ¬

(¬1) والذاري: من صفات الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي ذرأ الخلق، أي خلقهم. (¬2) أي يضيء وجهه حسناً.

مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا، فَقِيلَ: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ، وَأَبْرَزَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ» (¬1)، وفي رواية الترمذي: «وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ» (¬2). وفي رواية: «فَمِنْ يَوْمِئِذٍ أُمِرَ بِالكِتَابِ وَالشُّهُودِ» (¬3). قال بعض أهل اللغة: «النسيان ضد الذكر، والحفظ، وهو ترك الشيء على ذهول وغفلة» (¬4). والنسيان أيضاً يُطلق على الترك، قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي لا تتركوا، وقال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)} [طه: 126]. قال ابن كثير: «أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها، كذلك اليوم نعاملك معاملة من نسيك، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]. فالجزاء من جنس العمل» (¬5). قال ابن جرير وغيره: «{وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}، فكذلك اليوم ننساك، فنتركك في النار» (¬6). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (4/ 128) برقم 2270 وقال محققوه حسن لغيره. (¬2) برقم 3076 وقال حديث حسن صحيح. (¬3) صحيح ابن حبان برقم 6134. (¬4) مختار الصحاح للرازي ص: 658 والمعجم الوسيط ص: 920. (¬5) تفسير ابن كثير (9/ 379). (¬6) تفسير ابن جرير الطبري (7/ 5656).

قال: «إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» (¬1). والنسيان صفة نقص، ولذلك نزه الله عزَّ وجلَّ عنها نفسه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. وقد رفع الله الحرج عن أمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم فيما حصل لهم فيه نسيان، فعلمنا أن ندعو فنقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286] قال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» (¬2). وروى ابن ماجه في سننه من حديث أبي ذر الغفاري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» (¬4). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: ¬

(¬1) برقم 2968. (¬2) صحيح مسلم برقم 125. (¬3) برقم 2043 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 347) برقم 1662. (¬4) صحيح البخاري برقم 597 وصحيح مسلم 684 ..

«مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» (¬1). وآفة العلم النسيان، قال عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه: «إن لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان»، وقال الزهري: «آفة العلم النسيان وترك المذاكرة». روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه قال: «قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» (¬2). وينبغي للمؤمن أن يكون على استعداد دائمٍ للقاء ربه، وألا يكون في غفلة ونسيان، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. والشيطان يُنسي المؤمن الخير والطاعة، قال نبي الله موسى فيما حكاه الله عنه: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]. وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19]. وقال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين} [يوسف: 42]. وقال تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} [الأنعام: 68]. من الفوائد: أولاً: رحمة الله بعباده عامة، وبأمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم خاصة، حيث عُفي لها عن النسيان. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6669 وصحيح مسلم 1155 .. (¬2) برقم 3192.

ثانياً: من ترك شيئاً من الواجبات نسياناً، رُفع عنه الإثم، وعليه أداؤه إذا ذكر. ثالثاً: النسيان من صفات النقص، والله تعالى مُنَزَّهٌ عنه. رابعاً: النسيان سبب لضياع الحقوق، وذهاب العلم، من أجل ذلك أمر الله بكتابة الحقوق، والإشهاد عليها، وأمر الرسول صلى اللهُ عليه وسلم بكتابة العلم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ»، قُلْتُ: وَمَا تَقْييدُهُ؟ قَالَ: «كِتَابَتُهُ» (¬1). خامساً: من صفات المؤمن أنه يذكر ذنوبه، ويتوب منها، ويذكر الحقوق فيؤديها، ومن صفات الظالم أنه ينسى الذنوب، ويضيع الحقوق، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57]. وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام: 44]. سادساً: الخوف على العلم أن يُنسى من صفات الأنبياء والصالحين، ولما خاف النبي صلى اللهُ عليه وسلم من نسيان القرآن طمأنه ربه ¬

(¬1) (1/ 303) برقم 369 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 41) برقم 2026.

فقال: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6]. وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه} [القيامة: 17]. سابعاً: نسيان القرآن ونحوه مذمة؛ ولذلك أرشد النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «أَنْ لَا يَقُولَ المُؤْمِنُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: نُسِّيتُ» (¬1). ثامناً: النسيان من وسائل الشيطان، ومن فضائل الرحمن، والفرق بينهما: أن الذي من الشيطان؛ نسيان الذكر والقرآن والخير، وما إلى ذلك من الحقوق، والذي يحبه الرحمن؛ نسيان الأحقاد وإساءة الأقارب، والأصدقاء، وسائر المؤمنين. تاسعاً: إن النسيان يأتي بمعنى الترك، قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون (67)} [التوبة: 67]. قال ابن جرير وغيره: «تركوا الله أن يطيعوه، ويتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته» (¬2). اللهم ذكرنا ما نُسِّينَا، وعلمنا ما جهلنا، وانفعنا بما علمتنا يا كريم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 5032 وصحيح مسلم برقم 790. (¬2) تفسير ابن جرير (5/ 4040).

الكلمة الخامسة والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ... }

الكلمة الخامسة والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ... } الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21)} [الإسراء: 18 - 21]. «يبين تعالى حال الفريقين، ومصير الطائفيتن، فأما الذين يريدون العاجلة وهي الدنيا، فإن الله تعالى يعطيهم فيها ما يشاء، ثم مصيرهم في الآخرة إلى جهنم ذليلين، خائبين؛ لأنهم لم يرجوا ثواب الله تعالى، ولم يخافوا عقابه، وأما الذين يريدون الآخرة، ويسعون لها سعيها، وذلك بالأعمال الصالحة وهم مع ذلك مؤمنين بالآخرة، وحسن ثواب الله لمن آمن به، وعمل صالحاً، فهؤلاء يشكر الله سعيهم، فيعطيهم ما سألوا، ويُؤَمِّنُهُم مما خافوا، ويدخلهم الجنة برحمته وفضله، ثم أخبر تعالى أنه فضل بعض العباد على بعض في

الدنيا بسعة الأرزاق، وقلتها، واليسر، والعسر، والعلم، والجهل، والعقل، والسفه، وغير ذلك من الأمور، ثم بين سبحانه أن الآخرة أكبر درجات، وأكبر تفضيلاً فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الآخرة بوجه من الوجوه، فكم بين من هو في الغرف العاليات واللذات المتنوعات، والسرور، والخيرات، ممن هو يتقلب في الجحيم، ويعذب العذاب الأليم، وقد حَلَّ عليه سخط الرب العظيم، وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحداً عَدُّهُ» (¬1). ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: أن من أراد الدنيا وسعى لها، وترك الآخرة فلم يعمل لها، فإنه قد يُعطى سُؤْلَهُ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له عند الله نصيب، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيب (20)} [الشورى: 20]. وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} [هود: 15 - 16]. روى الإمام الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ ¬

(¬1) تفسير الشيخ السعدي ص: 430 بتصرف.

يَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» (¬1). ثانياً: أن التفاضل الحقيقي في الآخرة وليس في الدنيا، قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [الإسراء: 21]. وقال تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَاتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75]. روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّ أَعْلَاهَا الْفِرْدَوْسُ، وَإِنَّ أَوْسَطَهَا الْفِرْدَوْسُ، وَإِنَّ الْعَرْشَ عَلَى الْفِرْدَوْسِ، مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فَإِذَا مَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» (¬2). ورواه أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَينَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِئَةِ عَامٍ»، وَقَالَ عَفَّانُ: «كَمَا بَينَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرضِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الْأُفُقِ ¬

(¬1) برقم 2465 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 300) برقم 2005. (¬2) برقم 4331 وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 436) برقم 3496 وفي الصحيحة برقم 922. (¬3) (37/ 369) برقم 22695 وقال محققوه حديث صحيح.

مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» (¬1). ثالثاً: أن النار دركات، كما أن الجنة درجات، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]. رابعاً: أن من أراد الآخرة وسعى لها سعيها، فإن الله يثيبه على ذلك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل: 97]. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 3256 وصحيح مسلم برقم 2831. (¬2) برقم 2808.

الكلمة السادسة والثلاثون: عيادة المريض

الكلمة السادسة والثلاثون: عيادة المريض الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من الأعمال الصالحة التي أمر الشارع بها، ورتب على ذلك الثواب العظيم عيادة المريض، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب رضي اللهُ عنه قال: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِسَبْعٍ: «أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظلُومِ، وَإِبْرَارِ القَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِي (¬2)» (¬3). وعيادة المريض من حقوق المسلم على أخيه المسلم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ»: قِيلَ: مَا هُنَّ يَا ¬

(¬1) صحيح البخاري رقم 1239 وصحيح مسلم برقم 2066. (¬2) العاني: يعني الأسير. (¬3) برقم 5373.

رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» (¬1). وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن عيادة المسلم لأخيه المريض طريق إلى الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «جَنَاهَا» (¬2). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «أي أنه يجني من ثمار الجنة مدة دوامه جالساً عند هذا المريض» (¬3). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن عيادة المسلم لأخيه المريض سبب لصلاة الملائكة عليه، روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه قال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً، إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً، إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّة» (¬4). والغدوة ما بين الفجر وطلوع الشمس، والمراد أول النهار، والعشية من زوال الشمس إلى الغروب، والخريف أي بستان، وهو ¬

(¬1) برقم 1240 وصحيح مسلم برقم 2162 واللفظ له. (¬2) برقم 2568. (¬3) شرح رياض الصالحين (4/ 470). (¬4) برقم 969 قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وقد رُوي عن علي هذا الحديث من غير وجه منهم من وقفه ولم يرفعه وصححه ابن حبان في صحيحه برقم 2947 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 286) برقم 775.

في الأصل الثمر المخروف، أي: المجتنى. قال القاضي عياض: وعيادة المريض من الطاعات المرغب فيها، العظيمة الأجر، وقد جاء فيها هذا الحديث وغيره، وقد يكون من فروض الكفاية لا سيما المريض من الغرباء، ومن لا قائم عليهم ولا كافل لهم، فلو تُرِكَت عيادتهم لهلكوا، وماتوا ضراً، وعطشاً وجوعاً، فعيادتهم تطلع على أحوالهم ويتذرع بها إلى معونتهم وإعانتهم، وهي كإغاثة الملهوف، وإنجاء الهالك، وتخليص الغريق، ومن حضرها لزمته، فمتى لم يُعَادُوا لم يعلم حالهم في ذلك (¬1). اهـ. ويُستحب للعائد أن يدعو للمريض بالرحمة والمغفرة، والتطهير من الذنوب، والسلامة والعافية. وللنبي صلى اللهُ عليه وسلم دعوات ينبغي على العائد أن يدعو بها لأنها صدرت من المعصوم صلى اللهُ عليه وسلم وقد أوتي مجامع الكلم (¬2). فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: «لَا بَاسَ، طَهُورٌ (¬3) إِنْ شَاءَ اللَّهُ» (¬4). ومن دعواته أيضاً: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ¬

(¬1) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 35). (¬2) كنوز رياض الصالحين (11/ 561). (¬3) طَهور: بفتح أوله أي مرضك مطهِّر لذنبك إن شاء الله. (¬4) برقم 3616.

من حديث عائشة رضي اللهُ عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ، أَوْ جُرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا، وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَهَا: «بِاسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» (¬1). ومنها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم إذَا أَتَى الْمَرِيضَ يَدْعُو لَهُ قَالَ: «أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» (¬2). ومنها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللهُ عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم دَعَا لَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا، اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا - ثَلَاثَ مِرَارٍ -» (¬3). وعلَّم النبي صلى اللهُ عليه وسلم عثمان بن أبي العاص عندما شكا إليه وجعاً، يجده في جسده منذ أسلم، فقال له: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ: سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» (¬4). ومن الأدعية التي أوصى بها النبي صلى اللهُ عليه وسلم عند عيادة المريض، ما روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: ¬

(¬1) برقم 5745 وصحيح مسلم برقم 2194 واللفظ له. (¬2) برقم 5675 وصحيح مسلم برقم 2191. (¬3) قطعة من حديث أخرجه البخاري برقم 5659 وصحيح مسلم برقم 1628. (¬4) برقم 2202.

«مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ، فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ، رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَنْ يَشْفِيَكَ، إِلَّا عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» (¬1). ومنها ما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله ابن عمرو رضي اللهُ عنهما، قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى صَلَاةٍ» (¬2). ولعيادة المريض فوائد، فمن ذلك: أولاً: الأجر العظيم من الله كما تقدَّم ذلك في الأحاديث السابقة. ثانياً: تنشيط قوى المريض بزيارة من يحبه. ثالثاً: الدعاء له وتفقُّد أحواله التي لا تتحقَّق بغير العيادة. رابعاً: تُذَكِّرُ العَائدَ نعمةَ الله عليه بالعافية التي حُرِمَ غيرهُ منها. خامساً: دعوته إلى الإسلام إذا كان من غير المسلمين، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَاسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ¬

(¬1) برقم 3106 وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 2964 والألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 600) برقم 2663. (¬2) برقم 3107 وصححه ابن حبان في صحيحه برقم 2963 والألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 600) برقم 2664.

أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1). سادساً: في بعض الأحيان يحصل وصف لبعض الأدوية التي يحتاجها المريض، فيكون في ذلك نفع وفائدة له. سابعاً: إدخال السرور إلى قلب المريض بذكر بعض البشائر والأخبار السارة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمد ابن خالد عن أبيه عن جده وكان لجده صحبة، أنه خرج زائراً لرجل من إخوانه فبلغه شكاته، قال: فدخل عليه، فقال: أتيتك زائراً، عائداً، ومبشراً، قال: كيف جمعت هذا كله؟ قال: خرجت وأنا أريد زيارتك، فبلغتني شكاتُك، فكانت عيادة، وأُبشرك بشيء سمعته من رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللهِ مَنْزِلَةٌ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلَاهُ اللهُ فِي جَسَدِهِ، أَو فِي مَالِهِ، أَو فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ المَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ» (¬2). ثامناً: بث روح المودة، والمحبة والتآلف بين المجتمع، وذلك بمواساة المريض، وأهله وإشعارهم بأن المجتمع معهم يواسيهم، ويشاركهم ما هم فيه من تعب ومحنة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 1356. (¬2) (37/ 29) برقم 22338 وقال محققوه حسن لغيره.

الكلمة السابعة والثلاثون: الرياء

الكلمة السابعة والثلاثون: الرياء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أعظم الذنوب عند الله الشرك به سبحانه، قال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق (31)} [الحج: 31]. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون (7)} [الماعون: 4 - 7]. قال ابن القيم رحمه الله: «وهذا الشرك بحر لا ساحل له، وقَلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير التقرب إلى الله تعالى فقد أشرك في إرادته، ونيته، والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله، وأفعاله، ونيته، وإرادته، فإن هذه هي الملة الحنيفية، ملة إبراهيم عليه السلام التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحدٍ غيرها، وهي حقيقة الإسلام، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]. وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء» (¬1). اهـ. ¬

(¬1) الداء والدواء لابن القيم ص: 194.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جندب ابن عبد الله رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» (¬1). والرياء من الرؤية، وهو أن يحب الإنسان أن يراه الناس وهو يعمل العمل الصالح من أجل أن يمدحوه، والفرق بينه وبين السمعة، أن الرياء فيما يُرى من الأعمال التي ظاهرها لله وباطنها لغيره كالصلاة والصدقة، أما السمعة فهي لما يسمع من الأقوال التي ظاهرها لله والقصد منها لغير الله، كالقراءة، والذكر، والوعظ، وغير ذلك من الأقوال، وقصد المتكلم أن يسمع الناس كلامه فيثنوا عليه ويقولوا: هو جيد في الكلام والمحاورة، حسن الصوت في القرآن، إذ كان يُحسن صوته بالقرآن لأجل ذلك، أو بليغ في خطبته إذا كان يُحسن خطبته لأجل ذلك .. وهكذا (¬2). ومعنى راءى الله به، وسمَّع، قال بعض أهل العلم: إن الله يفضحه يوم القيامة، كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هند الداري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، رَاءَى اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ» (¬3). والرياء يحصل إما من أجل مدح الناس وثنائهم، أو فراراً من ذمهم، كأن يُحسن صلاته حتى لا يُقال: مُسرعٌ في صلاته، أو طمعاً مما ¬

(¬1) برقم 6499 وصحيح مسلم برقم 2987. (¬2) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح الفوزان (2/ 90). (¬3) (37/ 7) برقم 22322 وقال محققوه صحيح لغيره.

في أيديهم، ويشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (¬1). «فقوله: (شَجَاعَةً): أي ليُذكر ويشتهر بالشجاعة، ويُقاتل حمية: أي من أجل الأهل، والعشيرة، والصاحب، ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، ويقاتل رياء: أي ليرى مكانه، فمرجع الذي قبله إلى السمعة، ومرجع هذا إلى الرياء، وكلاهما مذموم» (¬2). والرياء هو الشرك الخفي، روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث محمود بن لبيد رضي اللهُ عنه قال: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُم وَشِركَ السَّرَائِرِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: «يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ» (¬3). «وَإِنَّمَا سُمِّيَ الرِّيَاءُ شِركًا خَفِيًّا؛ لأن صاحبه يظهر عمله لله، وقد قصد به غيره أو شركه فيه، وزيَّن صلاته لأجله، والنيات والمقاصد وأعمال القلوب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى» (¬4). ¬

(¬1) برقم 2810 وصحيح مسلم برقم 1904. (¬2) فتح الباري (6/ 28). (¬3) صحيح ابن خزيمة (2/ 67) برقم 937 وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) برقم 31. (¬4) الدين الخالص (2/ 385).

والرياء شرك أصغر، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمُ الشِّرْكُ الأَصغَرُ»، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَومَ القِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعمَالِهِم: اذهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنتُم تُرَاؤُونَ فِي الدُّنيَا فَانظُرُوا هَل تَجِدُونَ عِندَهُم جَزَاءً؟ ! » (¬1). يعني أنه يبطل أعمال المرائين، وأنه يحيلهم على الذين رَاءَوهُم في الدنيا فيقال: انظروا هل يثيبونكم، أي أولئك الذين تزينتم عندهم ورَاءَيتُمُوهُم في الدنيا، هل تجدون عندهم ثواباً؟ ! قال الشاعر: وكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيعْرِفُ سَعْيَهُ إِذَا حُصِّلَتْ عِنْدَ الإِلَهِ الحَصَائِلُ والرياء سبب لدخول النار، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ؛ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ ¬

(¬1) (39/ 39) برقم 23630 وقال محققوه حديث حسن.

أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (¬1). قال ابن رجب: «أول من تُسعر به النار من الموحدين العباد المراؤون بأعمالهم، وأولهم العالم، والمجاهد، والمتصدِّق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق» (¬2). وينبغي التنبه لأمرين: الأول: أن سرور العبد عند ثناء الناس عليه وهو لا يقصد ذلك، لا يقدح في إخلاصه، ما دام بدأه بإخلاص، وخرج منه مخلصاً، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» (¬3). قال ابن رجب: «إذا عمل العمل لله خالصاً ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 1905. (¬2) كلمة الإخلاص ص: 39. (¬3) برقم 2642.

بذلك لم يضيره ذلك» (¬1). الثاني: أن لا يترك المؤمن العمل من أجل الناس: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعل سراً لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومفسدات الإخلاص» (¬2). الخلاصة: أن الرياء مُحبط للأعمال، وسبب لمقت الله، ولعنته، وطرده، وأنه من كبائر المهلكات، ومن الشرك الأصغر الذي لا يُغفر لصاحبه إذا مات عليه، بل يعذب بقدره، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. فجدير بالمسلم أن يُشَمِّرَ عَن سَاعِدِ الجِدِّ، وأن يجاهد نفسه بإزالته، وإخلاص العمل لله في أقواله، وأفعاله، وإرادته، وأموره كلها، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (163)} [الأنعام: 162 - 163] (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (1/ 83). (¬2) الفتاوى (2/ 263). (¬3) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي: الإخلاص طريق الخلاص ص: 73 - 90.

الكلمة الثامنة والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر}

الكلمة الثامنة والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (72)} [التوبة: 71 - 72]. قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ}. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله: «أي: ذكورهم، وإناثهم بعضهم أولياء بعض في المحبة، والموالاة، والانتماء والنصرة، {يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، وهو اسم جامع لكل ما عرف حسنه من العقائد الحسنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، وأول من يدخل في أمرهم أنفسهم، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، وهو كل ما خالف المعروف وناقضه من العقائد الباطلة،

والأعمال الخبيثة، والأخلاق الرذيلة. قوله: {وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} أي: لا يزالون ملازمين لطاعة الله، ورسوله على الدوام. قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} أي: يدخلهم في رحمته ويشملهم بإحسانه {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيم (71)} أي: قوي قاهر مع قوته، فهو حكيم، يضع كل شيء موضعه اللائق به، الذي يُحمد على ما خلقه وأمر به، ثم ذكر ما أعد الله لهم من الثواب. فقال: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وهذه الجنة جامعة لكل نعيم وفرح، خالية من كل أذى وترح، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة، المروية للبساتين الأنيقة التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا الله تعالى، {خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} قد زخرفت، وحسنت، وأعدت لعباد الله المتقين، قد طاب مرآها، وطاب منزلها ومقيلها، وجمعت من آلات المساكن العالية، ما لا يتمنى فوقه المتمنون، حتى إن الله تعالى قد أعد لهم غرفاً في غاية الصفاء والحُسن يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فهذه المساكن الأنيقة التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس، وتنزع إليها القلوب، وتشتاق لها الأرواح لأنها في جنات عدن، أي إقامة لا يظعنون عنها ولا يتحولون منها، ورضوان من الله يُحِلُّهُ على أهل الجنة أكبر مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم، وهذا هو الفوز العظيم حيث حصلوا على كل مطلوب، وانتفى عنهم

كل محذور - جعلنا الله معهم -» (¬1). ومن فوائد الآيتين الكريمتين: أولاً: أن من صفات المؤمنين أنهم متناصرون، ومتعاضدون فيما بينهم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث النعمان بن بشير رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (¬2). ثانياً: أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (¬3). ثالثاً: عظم شأن الصلاة، والزكاة ومكانتهما العظيمة في الإسلام، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (¬4). رابعاً: أن طاعة الله ورسوله سبب لرحمة الله عزَّ وجلَّ، والفوز ¬

(¬1) تفسير الشيخ السعدي ص: 343 - 344 بتصرف. (¬2) برقم 6011 وصحيح مسلم برقم 2586 واللفظ له. (¬3) برقم 49. (¬4) برقم 8 وصحيح مسلم برقم 16.

والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون (52)} [النور: 52]. خامساً: أن هذه المساكن الطيبة في جنات عدن حسنة البناء، طيبة القرار، وهي درجات، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَينَ القَوْمِ وَبَينَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» (¬1). وروى ابن ماجه في سننه وأصله في الصحيح من حديث معاذ بن جبل رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّ أَعْلَاهَا الْفِرْدَوْسُ، وَإِنَّ أَوْسَطَهَا الْفِرْدَوْسُ، وَإِنَّ الْعَرْشَ عَلَى الْفِرْدَوْسِ، مِنْهَا تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فَإِذَا مَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ» (¬2). ورواه أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ مَسِيرَةُ مِائَةُ عَامٍ» (¬3). سادساً: أن رضا الله عزَّ وجلَّ عنهم أكبر، وأجلُّ وأعظم مما هم فيه من النعيم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ ¬

(¬1) برقم 7444 وصحيح مسلم برقم 180. (¬2) برقم 4331 وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 436) برقم 3496 وفي الصحيحة برقم 922. (¬3) (37/ 369) برقم 22695 وقال محققوه حديث صحيح.

لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ! فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (¬1). سابعاً: أن دخول المؤمنين الجنة، وخلودهم فيها، ورضا الله عزَّ وجلَّ عنهم هو الفوز العظيم، لا ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا، فإنه سرعان ما يزول، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِير (11)} [البروج: 11]. روى البخاري في صحيحه من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه يَقُولُ: «لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ، وَكَانَ خَالَهُ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا: فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَاسِهِ، ثُمَّ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» (¬2)، وفي رواية في الصحيحين قال أنس رضي اللهُ عنه: «أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا قَرَانَاهُ حَتَّى نُسِخَ بَعْدُ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا، أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 6549 وصحيح مسلم برقم 2829. (¬2) برقم 4092. (¬3) صحيح البخاري برقم 4091 وصحيح مسلم برقم 677.

الكلمة التاسعة والثلاثون: التناقضات في حياة بعض الناس

الكلمة التاسعة والثلاثون: التناقضات في حياة بعض الناس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن النصوص الشرعية تحث المسلم على الاستقامة، والثبات على المنهج الصحيح، وتحذره من التناقض سواء كان ذلك في أقواله، أو أفعاله، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]. قال بعض المفسرين: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وقال مجاهد وقتادة: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده (¬1)، قال تعالى: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]. وهذا التناقض ليس من صفات المؤمن التقي، قال تعالى عن نبي الله شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون (3)} [الصف: 2 - 3]. وقال تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون (44)} [البقرة: 44]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (8/ 349).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة ابن زيد رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةَ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ (¬1) فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَانُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَامُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنتُ آمُرُكُم بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنهَاكُم عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُم بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَامُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟ ! » (¬3). قال الشاعر: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَاتِي مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ وَابْدَا بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ... بِالْعِلمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ ومن صور هذا التناقض ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث ثوبان رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَاتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ ¬

(¬1) أي أمعاؤه. (¬2) برقم 3267 وصحيح مسلم برقم 2989. (¬3) (19/ 244) برقم 12211 وقال محققوه حديث صحيح.

هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُم لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُم وَنَحْنُ لَا نَعلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُم إِخْوَانُكُم وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَاخُذُونَ مِنَ اللَّيلِ كَمَا تَاخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقوَامٌ: إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (¬1). وهذه صورة من صور التناقض، يصلُّون آخر الليل ولكنهم ينقضون هذه الأعمال بانتهاك حرمات المسلمين. ومن صوره كذلك النفاق، والمنافق ظاهرُ حالِهِ الصَّلَاحُ فهو يصلي، ويحج، ويجاهد، ويتصدق، ومع ذلك يبطن الكفر والحرب على الإسلام والمسلمين، قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون (1)} [المنافقون: 1]. وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (119)} [آل عمران: 119]. ومن صوره ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ، والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر الحرام وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ والاحتراز من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل في النار بالكلمة الواحدة أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم ¬

(¬1) برقم 4245 قال البوصيري هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 33) برقم 505.

ترى من رجل متورع عن الفواحش، والظلم، ولسانه يقطع، ويذبح في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول» (¬1). اهـ. وأسباب التناقض كثيرة، أذكر من ذلك: 1 - النفاق: فحتى لا ينكشف أمر المنافق ويفتضح يلجأ إلى النفاق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا (142)} [النساء: 142]. وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119]. 2 - الرياء: روى البخاري في صحيحه من حديث زيد ابن عبد الله بن عمر عن أبيه: قَالَ أُنَاسٌ لِابنِ عُمَرَ: «إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُم خِلَافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا» (¬2). وروى ابن خزيمة في صحيحه من حديث محمود بن لبيد رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِيَّاكُم وَشِرْكَ السَّرَائِرِ»، قَالُوا: وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: «يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ» (¬3). وَإِنَّمَا سُمِّيَ الرِّيَاءُ شِركًا خَفِيًّا؛ لأن صاحبه يظهر عمله لله، وقد ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص: 140. (¬2) برقم 7178. (¬3) صحيح ابن خزيمة (2/ 67) برقم 937 وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 199) برقم 31.

قصد به غيره أو شركه فيه، وزيَّن صلاته لأجله، والنيَّات والمقاصد وأعمال القلوب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى (¬1). 3 - ضعف الإرادة: فإذا كان الإنسان إرادته ضعيفة فإنه يتناقض، فنجده يعمل العمل، ثم بعد مدة يتراجع عنه، فعلى سبيل المثال: إذا كان يشرب الدخان، ثم نُصِحَ، وعلم بحرمته فيتركه زمناً طويلاً، ثم تجده يضعف شيئاً فشيئاً، حتى يرجع إليه. 4 - الكبر: فترى أن بعض الناس يعمل أعمالاً كثيرة ولكن يأتي إلى عملٍ مُعَيَّن أمر به الشارع، فلا يفعله ويرى أن هذا يُنْقص من قدره، فعلى سبيل المثال: إذا نصح في إعفاء اللحية، أو تقصير الثياب قال: هذا صعب وكيف يكون حالي أمام الناس؟ مع أن سيد الأولين والآخرين كانت لحيته إلى صدره، وإزاره إلى نصف ساقه. 5 - المجاملة للآخرين: تجد أن بعض الناس يجامل ولو على حساب الشرع، فقد يُطلَب منه أمر فيه مخالفة للشرع فيتنازل حياء، أو إرضاء للآخرين، قال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِين (62)} [التوبة: 62]. 6 - حب الشهرة والظهور: نجد أن بعض الناس يسأل عن الحكم الشرعي في مسألة معينة، فيهون من الأمر خشية سقوطه من أعين الناس، فالجماهير لا تريد الفتاوى المتشددة، وإنما تريد الفتاوى المتساهلة. قال عبد الله بن المبارك: قال لي سفيان: «إياك والشهرة، فما أتيت أحداً ¬

(¬1) الدين الخالص (2/ 385).

إلا وقد نهاني عن الشهرة» (¬1). أما العلاج لهذا التناقض فيتلخص بالآتي: 1 - أن يعلم المرء أن التناقض ليس من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى لنبيه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ولم يقل: كما أردت، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة: 208]. قال ابن كثير: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد الله رضي اللهُ عنه قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسلَامِ قَولًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ» (¬3). والاستقامة: لزوم طاعة الله. 2 - الصدق والإخلاص لله في الأعمال كلها، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين (119)} [التوبة: 119]. وفي الحديث: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ» (¬4). 3 - مجاهدة النفس والصبر على المشاق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ ¬

(¬1) حلية الأولياء لأبي نعيم (7/ 23). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 273). (¬3) برقم 38. (¬4) قطعة من حديث في سنن النسائي برقم 1953 وصححه في صحيح سنن النسائي برقم 1845.

جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200]. 4 - أن يعلم المؤمن أن السعي إلى رضا الله سيؤدي إلى رضا الناس، روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنِ التَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 2414 وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 2311.

الكلمة الأربعون: مجالس الصحابة

الكلمة الأربعون: مجالس الصحابة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فحديثنا في هذا اليوم عن مجالس الصحابة، وكيف حالهم إذا التقى بعضهم ببعض، فقد كانوا يتذاكرون الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغيرها من الأعمال الصالحات. ولننظر إلى أحوالنا وأحوالهم، فإذا التقى بعضنا ببعض فإن الحديث يكون عن أمور الدنيا، أما أولئك القوم فإن قلوبهم كانت متعلقة بالآخرة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. قال الله تعالى: {وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} [العصر: 1 - 3]. روى الطبراني في الأوسط من طريق عبيد الله بن حصن قال: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ سُورَةَ الْعَصرِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ (¬1)، ¬

(¬1) (5/ 215) برقم 5124، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 217) برقم 8639 وقال محققه سنده صحيح، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 2648.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ (¬1). وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتمثلون لهذا التوجيه الرباني في هذه السورة الكريمة، فيذكر بعضهم بعضاً ويتواصون بالحق والشواهد في هذا كثيرة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بردة قال: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بنَ جَبَلٍ إِلَى اليَمَنِ، قَالَ: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ (¬2)، قَالَ: وَاليَمَنُ مِخْلَافَانِ، ثُمَّ قَالَ: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا»، فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا إِلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمَا إِذَا سَارَ فِي أَرضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِن صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا فَسَلَّمَ عَلَيهِ، فَسَارَ مُعَاذٌ فِي أَرضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِي مُوسَى، فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انتَهَى إِلَيهِ النَّاسُ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَد جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ أَيَّمَ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسلَامِهِ، قَالَ: لَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَالَ: إِنَّمَا جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ، قَالَ: مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَأَمَر بِهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ، كَيفَ تَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قَالَ: أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. وَفِي رِوَايَةٍ: قَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَعَلَى رَاحِلَتِي (¬3). قَالَ: فَكَيفَ تَقْرَأُ أَنتَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيلِ، فَأَقُومُ وَقَد قَضَيْتُ جُزْئِي مِنَ النَّوْمِ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 451). (¬2) أي إقليم. (¬3) صحيح البخاري برقم 4345.

فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي (¬1). فهذا الأثر يدل على هدي الصحابة حين يلقى بعضهم بعضاً فيتذاكرون الإيمان والأعمال وينتفع بعضهم من بعض. روى مسلم في صحيحه والترمذي في سننه من حديث حَنْظَلَةَ الأُسَيْدِيِّ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا أَبَا بَكْرٍ، نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ كَأَنَّا رَايُ عَيْنٍ، فَإِذَا رَجَعْنَا عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالضَّيْعَةَ وَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّا كَذَلِكَ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَانْطَلَقْنَا، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا لَكَ يَا حَنْظَلَةُ؟ »، قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَايُ عَيْنٍ، فَإِذَا رَجَعْنَا عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالضَّيْعَةَ وَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الحَالِ الَّذِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ فِي مَجَالِسِكُم وَفِي طُرُقِكُمْ وَعَلَى فُرُشِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ» (¬2). والشاهد في هذا الحديث مراقبة الصحابة لأنفسهم، وتفقدهم لإيمانهم واستشارة بعضهم لبعض لاستصلاح النفوس، وتربيتها، ومداواة ما يجدونه من ضعف الإيمان، والتقصير في العمل ونحو ذلك. ومن الأمثلة كذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث ¬

(¬1) برقم 4342 وصحيح مسلم برقم 1733. (¬2) صحيح مسلم برقم 2750 وسنن الترمذي برقم 2514 واللفظ له.

عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَانُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَاكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «صَدَقَ سَلْمَانُ» (¬1). وإن للعالم الرباني من التأثير والنفع لطلابه ومريديه أثراً بالغاً في تربية النفوس، وحثها على الخير، وإن مجلساً واحداً من هذه المجالس يبقى أَثَرُهُ وَنَفْعُهُ سِنِينَ، وقد ذكر ابن القيم حاله حينما أُدخل السجن مع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، فقال: ومع ما كان فيه من ضيق السجن إلا أنه كان من أشرح الناس صدراً وأطيبهم عيشاً، وأنعمهم قلباً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا ضاقت بنا الأرض، واشتد بنا الكرب أتيناه فما هو إلا أن نسمع كلامه ونراه، حتى ينقلب ذلك قوة وثباتاً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من طيبها، وريحها ما استفرغ قواهم بطلبها والمسابقة إليها (¬2). اهـ. ¬

(¬1) برقم 1968. (¬2) الوابل الصيب من الكلم الطيب ص: 82.

فالعاقل الْكَيِّسُ هو الذي يحسب أرباحه وخسائره في هذه المجالس، فما وجد نفعه حرص عليه، وما سوى ذلك أعرض عنه، روى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ تَعَالَى فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمَ تِرَةً (¬1)، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) أي نقصاً. (¬2) برقم 3380 وقال هذا حديث حسن صحيح.

الكلمة الحادية والأربعون: تفسير أواخر سورة البقرة

الكلمة الحادية والأربعون: تفسير أواخر سورة البقرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير (285) لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين (286)} [البقرة: 285 - 286]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ قَرَأَ بالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» (¬1). قيل: كفتاه أي دفعتا عنه الشر، والمكروه، وقيل: كفتاه من كل شيطان، فلا يقربه ليلته، وقيل: حسبه بها فضلاً وأجراً، ويحتمل من الجميع (¬2). ¬

(¬1) برقم 5009 وصحيح مسلم برقم 808. (¬2) فتح الباري (9/ 56).

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ البَقَرةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه قال: «لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 16]، قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم ثَلَاثًا، أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، الْمُقْحِمَاتُ (¬2)» (¬3). قال النووي: «أُرِيدَ بالمغفرة أنه لا يخلد صاحبها في النار لا أنه لا يعذب أصلاً، وإلا فقد جاء عذاب العصاة، أو المراد أنه يغفر لبعض الأمة الكبائر، وهو مخصوص بهذه الأمة» (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: «بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَاسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ ¬

(¬1) (35/ 446) برقم 21564 وقال محققوه صحيح لغيره. (¬2) أي الكبائر. (¬3) برقم 173. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 3) بتصرف.

مَلَكٌ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ» (¬1). قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال ابن كثير رحمه الله: «قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على {الرَّسُولُ} ثم أخبر عن الجميع فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}، فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء، والرسل، والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون، بَارُّونَ راشدون، مهديون هادون إلى سبل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى اللهُ عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين» (¬2). قوله: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}، سؤال للمغفرة والرحمة، واللطف، {وَإِلَيْكَ الْمَصِير}: أي: المرجع والمآب يوم الحساب. قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} روى مسلم في صحيحه ¬

(¬1) برقم 806. (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 525 - 526).

من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: «لَمَّا نَزَلَتْ {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ... } إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ: كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْجِهَادَ، وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير (2852)} [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ: «نَعَمْ» {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين (286)} [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» (¬1). قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، وإحسانه إليهم. ¬

(¬1) برقم 125.

وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي من خير و {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» (¬1). قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} أي إن تركنا فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، {أَخْطَانَا}: أي الصواب، جهلاً منا بوجهه الشرعي، روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬2). وقوله: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} أي: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية من قبلنا من الأغلال، والآصار التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمداً صلى اللهُ عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيف السهل السمح. قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: من التكليف، والمصائب والبلاء، لا تَبتَلِنَا بما لا قِبَلَ لنا به. قوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ} أي: فيما بيننا وبينك، مما تعلمه من تقصيرنا، وزللنا، {وَاغْفِرْ لَنَا} أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا ¬

(¬1) برقم 5269 وصحيح مسلم برقم 127. (¬2) برقم 2043 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 347) برقم 1662.

تظهرهم على مساوئنا وأعمالنا القبيحة، {وَارْحَمْنَآ} أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر. قوله: {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} أي: أنت وَلِيُّنَا، وَنَاصِرُنَا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 521 - 528).

الكلمة الثانية والأربعون: فضائل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

الكلمة الثانية والأربعون: فضائل أم المؤمنين عائشة رضي اللهُ عنها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، تزوجها النبي صلى اللهُ عليه وسلم وهي بنت سبع سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، أخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنها من أحب نسائه إليه، بل من أحب الناس إليه، ولم يتزوج بكراً غيرها، أنزل الله في براءتها قرآناً يُتلَى إلى يوم القيامة، ولم ينزل عليه الوحي في فراش امرأة سواها، وكان لها شرف خدمة النبي صلى اللهُ عليه وسلم وتمريضه في أيام حياته الأخيرة، فما أن نزل به المرض حتى كان يسأل عن ليلتها، وتوفي ورأسه في حجرها وبين سحرها ونحرها، وقُبض النبي صلى اللهُ عليه وسلم وهو راض عنها، ودُفن في بيتها. إنها الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، الطاهرة العفيفة عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة القرشي التيمي وأمها أم رومان الكنانية، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث هشام عن أبيه قال: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ: وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ، فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَنْ يَامُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا

إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ، أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَتْ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا» (¬1). قال الذهبي رحمه الله: هاجر بعائشة أبواها، وتزوجها نبي الله قبل مهاجره بعد وفاة الصديقة خديجة بنت خويلد، وذلك قبل الهجرة ببضعة عشر شهراً، وقيل: بعامين، ودخل بها في شوال سنة اثنين منصرفه عليه الصلاة والسلام من غزوة بدر، وهي بنت تسع سنين، ولا أعلم في أمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها، وهي زوجة نبينا في الدنيا والآخرة، فهل فوق ذلك مفخر (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ، فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي (¬3) فَوَفَى (¬4) جُمَيْمَةً، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ (¬5) وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا، لَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ ¬

(¬1) برقم 3775 وصحيح مسلم برقم 2441. (¬2) سير أعلام النبلاء (2/ 135 - 140) بتصرف. (¬3) أي تقطع. (¬4) أي كثر والجميمة بالجيم مصغر الجمة بالضم، وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، إذا كان إلى شحمة الأذنين وفرة. (¬5) أرجوحة: بضم أوله معروفة وهي التي تلعب بها الصبيان.

بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لَأُنْهِجُ (¬1) حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَاسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ، وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ (¬2)، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَانِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ» (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ» (¬4).وفي رواية الترمذي: «إِنَّ هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (¬5). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمرو ابن العاص رضي اللهُ عنه وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة أنه سأل النبي صلى اللهُ عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ»، فَقُلتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: «أَبُوهَا» (¬6). قال الذهبي رحمه الله: وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، ¬

(¬1) أنهج: أي أتنفس تنفساً عالياً. (¬2) على خير طائر: أي على خير حظ ونصيب، فتح الباري (7/ 224). (¬3) برقم 3894 ومسلم في صحيحه برقم 1422. (¬4) برقم 5125 وصحيح مسلم برقم 2438. (¬5) برقم 3880. (¬6) برقم 3662 وصحيح مسلم برقم 2384.

وما كان عليه السلام ليحب إلا طيباً، وقال: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ» (¬1). فَأَحَبَّ أفضل رجل من أمَّته، وأفضل امرأة من أمَّته، فمن أبغض حَبِيبَي رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله، وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً، ألا تراهم يتحرون بهداياهم يومها تقرباً إلى مرضاته (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: «مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِيَّاهَا» (¬4). قال الذهبي: «وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي اللهُ عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلى اللهُ عليه وسلم بعائشة بمُديدة، ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلى اللهُ عليه وسلم، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى اللهُ عليه وسلم، لئلا يتكدر عيشهما، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 466 وصحيح مسلم برقم 2382. (¬2) سير أعلام النبلاء (2/ 142). (¬3) برقم 3769 وصحيح مسلم برقم 2431. (¬4) برقم 3817 وصحيح مسلم برقم 2435 مختصراً.

لها وميله إليها، فرضي الله عنها وأرضاها» (¬1). وقد أنزل الله براءتها بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله - بعد ما ذكر حديث الإفك -: «عُلِمَ من حديث الإفك المُشَارُ إليه أن من نَسَبَ عائشة إلى الزنا كان كافراً، وقد صرح بذلك أئمتنا وغيرهم، لأن في ذلك تكذيبًا للنصوص القرآنية، ومكذبها كافر بإجماع المسلمين، وبه يعلم القطع بكفر كثيرين من غلاة الروافض لأنهم ينسبونها إلى ذلك، قَاتَلَهُمُ اللهُ أنى يؤفكون» (¬2). وقال الشيخ محمد بن سليمان التميمي نقلاً عن بعض أهل البيت: وأما قذفها الآن فهو كفر، وارتداد، ولا يكفي فيه الجلد؛ لأنه تكذيب لسبع عشرة آية في كتاب الله - كما مر - فيُقتل ردة، ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين في الدنيا والآخرة كما صح ذلك عنه، فهو من ضرب عبد الله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين (¬3). اهـ. وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يحب عائشة كثيراً ولا يحب إلا طيباً، قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]. وقد نالت رضي اللهُ عنها شرف خدمته صلى اللهُ عليه وسلم وتمريضه في آخر أيامه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: «مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي بَيتِي ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (2/ 165). (¬2) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي (1/ 193). (¬3) رسالة في الرد على الرافضة للشيخ محمد التميمي ص: 24 - 25 نقلاً عن كتاب أوجز الخطاب في بيان موقف الشيعة من الأصحاب.

وَيَوْمِي، بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ رَطْبٌ، فَنَظَرَ إِلَيهِ، فَظَنَنتُ أَنَّ لَهُ فِيهِ حَاجَةً، قَالَت: فَأَخَذْتُهُ فَمَضَغتُهُ، وَنَفَضْتُهُ، وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَيهِ، فَاسْتَنَّ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُهُ مُسْتَنًّا قَطُّ، ثُمَّ ذَهَبَ يَرْفَعُهُ إِلَيَّ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذْتُ أَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدُعَاءٍ كَانَ يَدْعُو لَهُ بِهِ جِبْرِيلُ عليه السلام وَكَانَ هُوَ يَدْعُو بِهِ إِذَا مَرِضَ، فَلَمْ يَدْعُ بِهِ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ، فرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ وقَالَ: «الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، الرَّفِيقِ الْأَعْلَى»، يَعْنِي وَفَاضَتْ نَفْسُهُ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا» (¬1). قال حسان بن ثابت رضي اللهُ عنه في مدح عائشة: حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبةٍ ... وتُصبح غَرثَى من لُحُوم الغَوافِل (¬2) عَقِيلة (¬3) حَيِّ مِن لُؤَيِّ بن غَالِبٍ ... كِرَام المَسَاعِي مَجْدُهُم غَيرُ زَائِل مُهَذَّبَةٌ (¬4) قَدْ طَيَّب اللَّهُ خَيمها ... وطَهَّرَها مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلٍ فَإنْ كُنْتُ قَدْ قُلْتُ الذي قَدْ زَعمتُمُ ... فَلا رفَعَتُ سَوْطِي إلى أَنَامِلي (¬5) وَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ ونُصْرَتي ... لآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنُ المَحَافِلِ (¬6) ¬

(¬1) (40/ 261 - 262) برقم 24216 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) الحصان هنا: العفيفة، والرزان: اللازمة موضعها التي لا تتصرف كثيراً، ما تزن: أي ما تُتهم، وغرثى: أي جائعة، والغوافل: جمع غافلة. ومعنى هذا الكلام أنها كافة عن أعراض الناس. (¬3) العقيلة: الكريمة، والمساعي: جمع مسعاة، وهو ما يسعى فيه من طلب المجد والمكارم. (¬4) مهذبة: أي صافية مخلصة، والخيم: الطبع والأصل. (¬5) الأنامل: أطراف الأصابع، وقد يعبر بها عن الأصابع كلها. (¬6) المحافل: جمع محفل وهو المكان الذي يجتمع فيه الناس.

وكانت رضي اللهُ عنها عالمة بأنساب العرب، وأشعارها، فقيهة، يرجع إليها كبار الصحابة ويستفتونها، قال الزهري: لو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علماً، وكانت عالمة بالطب، قال هشام بن عروة: ما رأيت أحداً أعلم بالطب من عائشة، فقلت: يا خالة: ممن تعلمت الطب، قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. وكانت من أكرم أهل زمانها، ولها في السخاء أخبار كثيرة، أرسل لها معاوية رضي اللهُ عنه مئة ألف درهم فما غربت شمس ذلك اليوم وعندها منه شيء (¬1). وكانت شديدة التواضع، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن أبي مليكة: «أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَاذَنَ عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ مَوْتِهَا وَهِيَ مَغْلُوبَةٌ قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُثْنِيَ عَلَيَّ، فَقِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، وَمِنْ وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: ائْذَنُوا لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدِينَكِ، قَالَتْ: بِخَيْرٍ إِنِ اتَّقَيْتُ، قَالَ: فَأَنْتِ بِخَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَلَمْ يَنْكِحْ بِكْرًا غَيْرَكِ، وَنَزَلَ عُذْرُكِ مِنَ السَّمَاءِ، وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ خِلَافَهُ، فَقَالَتْ: دَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَثْنَى عَلَيَّ، وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا» (¬2). وقد دُفنت بالبقيع بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة وذلك في الليلة السابعة عشر من شهر رمضان بعد الوتر، فأمرت ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (2/ 185 - 187). (¬2) برقم 4753.

أن تُدفن من ليلتها، وقد أوصت عبد الله بن الزبير ابن أختها أسماء أن يدفنها مع صواحبها في البقيع، ونزل معها إلى القبر ولدا أختها أسماء، عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد، وعبد الله ابن أخيها عبد الرحمن، وصلى عليها أبو هريرة وكان أميراً على المدينة لمروان بن الحكم، وكان عمرها آنذاك ثلاثة وستون عاماً وبضعة أشهر. رضي الله عن أم المؤمنين عائشة، وجزاها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثالثة والأربعون: دروس وعبر من سيرة معاذ بن جبل - رضي الله عنه -

الكلمة الثالثة والأربعون: دروس وعبر من سيرة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فهذه مقتطفات من سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبطلٍ من أبطالها، وعالمٍ من علمائها، الصحابي الجليل معاذ بن جبل ابن عمرو الأنصاري الخزرجي المدني البدري أبو عبد الرحمن، شهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان من أفضل شباب الأنصار حلماً، وحياءً، وسخاءً، قال عبد الصمد بن سعيد: كان طويلاً، حسناً، جميلاً، قال المدائني: كان طوالاً حسن الشعر، عظيم العينين، أبيض، جعد قطط، وقد أسلم وعمره ثماني عشرة سنة، وشهد بدراً، وله عشرون أو إحدى وعشرون سنة (¬1)، روى معاذ أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعثه أميراً على اليمن، ومات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (1/ 444 - 445).

رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ" (¬1). وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل معاذ ومكانته العظيمة، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ" (¬2). وروى الإِمام أحمد في مسنده من حديث راشد بن سعد وغيرهما قالوا: لَمَّا بَلَغَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ سَرْغَ (¬3) حُدِّثَ أَنَّ بِالشَّامِ وَبَاءً شَدِيدًا قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ شِدَّةَ الوَبَاءِ في الشَّامِ، فَقُلْتُ: إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَإِنْ سَألنِي رَبِّي - عز وجل -: لِمَ اسْتَخْلَفْتَهُ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّه يُحشَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ العُلَمَاءَ نَبْذةً" (¬4). وفي رواية الطبراني: "بِرَتْوَةٍ (¬5) " (¬6). وروى الحاكم في المستدرك من حديث مسروق قال: قرأت عند عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} ¬

_ (¬1) برقم 1458 وصحيح مسلم برقم 19. (¬2) صحيح البخاري برقم 3758 وصحيح مسلم برقم 2464 واللفظ له. (¬3) سرغ: بفتح أوله وسكون ثانيه، وهو أول الحجاز وآخر الشام، بين المغيثة وتبوك، من منازل حاج الشام، وانظر معجم البلدان للحموي (5/ 39). (¬4) قطعة من حديث (1/ 263) برقم 108 وقال محققوه حسن لغيره. (¬5) رتوة: أي رمية بسهم، وقيل: مد البصر. (¬6) معجم الطبراني الكبير (20/ 30) برقم 41 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1091.

[النحل: 120]، قَالَ: فَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مُعَاذاً كَانَ أُمَّةً قَانِتاً، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيهِ، فَأَعَادَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الأُمَّةُ؟ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ، وَالقَانِتُ: الَّذِي يُطِيعُ اللهَ وَرَسُولَهُ" (¬1). وعن سهل بن أبي حتمة قال: كَانَ الَّذِينَ يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ، وَزَيْدٌ (¬2). وكان - رضي الله عنه - من فقهاء الصحابة، روى الحاكم في المستدرك من حديث علي بن رباح، قال: خَطَبَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْحَلَالِ وَالحَرَامِ فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ (¬3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب معاذ كثيراً، فروى أبو داود في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: "يَا مُعَاذُ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (¬4). ومرت الأيام، والسنون، ودنت ساعة الفراق بين الأحبة، وما أصعبها. روى الإِمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن خرج معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ ¬

_ (¬1) (3/ 104) برقم 3418 وقال محققه إسناده جيد. (¬2) سير أعلام النبلاء (1/ 451 - 452). (¬3) (4/ 308) برقم 5236؛ وقال الحافظ في الفتح (7/ 126) صح عن عمر فذكره. (¬4) برقم 1522 وقال النووي إسناده صحيح.

قال: "يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي"، فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعاً (¬1) لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ المَدِينَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيثُ كَانُوا" (¬2)، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، إِنَّ البُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬3). ولما حضرت معاذ الوفاة قال: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبَّ البَقَاءَ في الدُّنْيَا لِكَرْيِ الأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الأَشْجَارِ، وَلَكِنْ كُنْتُ أُحِبُّ البَقَاءَ لِمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَلِظَمَإِ الهَوَاجِرِ في الحَرِّ الشَّدِيدِ، وَلِمُزَاحَمَةِ العُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ. وقد توفي - رضي الله عنه - بمرض الطاعون في بلاد الشام، فروى الإِمام أحمد في مسنده من حديث أَبِي مُنِيبٍ الأَحْدَبِ قَالَ: خَطَبَ مُعَاذٌ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ الطَّاعُونَ فَقَالَ: إِنَّهَا رَحْمَةُ رَبِّكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَقَبْضُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ. اللهُمَّ أَدْخِلْ عَلَى آلِ مُعَاذٍ نَصيبَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّحْمَةِ. ثُمَّ نَزَلَ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، فَقَالَ مُعَاذ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] (¬4). ¬

_ (¬1) جشعاً: قال ابن الأثير في النهاية (1/ 274) الجشع: الفزع لفراق الإلف. (¬2) (36/ 376) برقم 22052 وقال محققوه إسناده صحيح. (¬3) (36/ 378) برقم 22054 وقال محققوه إسناده صحيح. (¬4) (36/ 404) برقم 22085 وقال محققوه حسن.

ومن الدروس والعبر المستفادة من سيرة هذا البطل، وأكتفي باثنتين منها: 1 - علو همته، وحرصه الشديد على تحصيل العلم، فما بين إسلامه ووفاته لا يتجاوز ست عشرة سنة، قال ابن حجر: عاش معاذ ثلاثاً وثلاثين سنة على الصحيح (¬1)، وقد بلغ فيها مبلغاً عظيماً حتى عُدَّ من كبار المُفتين من الصحابة - رضي الله عنهم -، وهذا يدل على أنَّ الأعمار لا تقاس بالسنين وإنما بالإنجازات، وقد أنجز معاذ في سنوات ما لم ينجزه غيره في عشرات السنين. 2 - شدته في الحق وفي تنفيذ أحكام الله على الكفرة، والمعاندين. روى الإِمام أحمد في مسنده من حديث أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، بِالْيَمَنِ، فَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، وَنَحْنُ نُرِيدُهُ عَلَى الإِسْلَامِ مُنْذُ، قَالَ: أَحْسَبُهُ، شَهْرَيْنِ. فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تَضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَقَالَ: قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ: أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِيْنِهِ فَاقْتُلُوهُ أَوْ قَالَ: مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ (¬2). رضي الله عن معاذ، وجزاه عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) فتح الباري (7/ 126). (¬2) (36/ 343 - 334) برقم 22015 وقال محققوه إسناده صحيح وأصله في الصحيحين.

الكلمة الرابعة والأربعون: فضائل غزوة بدر

الكلمة الرابعة والأربعون: فضائل غزوة بدر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فقد كانت غزوة بدر المعركة الأولى الفاصلة في التاريخ الإسلامي، فيها فرق الله بين الحق والباطل، وخذل الكفر وأهله، وقُتل فيها صناديد قريش ومجرميها، وهي الحدث الذي غير مجرى التاريخ، وكانت البوابة الأولى لغزوات متتابعة أدت في النهاية للفتح الكبير - فتح مكة - واندحار الكفر ورفعة الإسلام وأهله، قال تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]. وقد وردت نصوص كثيرة تبين فضل غزوة بدر وأهل بدر من القرآن والسنة، فمن ذلك: أولاً: تسمية الله لها بيوم الفرقان، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)} [الأنفال: 41]. قال ابن كثير: ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فرق به بين الحق والباطل ببدر، ويُسمى الفرقان لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على

كلمة الباطل وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه (¬1). ثانياً: نصر الله تعالى لهم بالرعب، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان (12)} [الأنفال: 12]. والنصر بالرعب من خصائص نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» (¬2). ثالثاً: إمداد الله تعالى لهم بالملائكة، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِين (124) بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِين (125)} [آل عمران: 123 - 125]. روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ (¬3)؛ فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 313). (¬2) برقم 235 وصحيح مسلم برقم 521. (¬3) في النهاية لغريب الحديث لابن الأثير حديث بدر أقدم حيزوم، جاء في التفسير أنه اسم فرس جبريل عليه السلام أراد أقدم يا حيزوم (1/ 467).

فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ (¬1). رابعاً: فضل من شهد بدراً من الصحابة، والملائكة على غيرهم، روى البخاري في صحيحه من حديث معاذ بن رفاعة ابن رافع عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ » قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ (¬2). خامساً: أن من قُتل منهم نال الفردوس الأعلى، روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى» (¬3). قال ابن كثير: «وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا لم يكن في بحبحة (¬4) القتال، ولا في حومة الوغى (¬5)، ¬

(¬1) برقم 1763. (¬2) برقم 3992. (¬3) برقم 2809. (¬4) البحبوحة من كل شيء وسطه، النهاية في غريب الحديث (1/ 98). (¬5) حومة الوغى: أشد موضع في الحرب أو القتال، المعجم الوسيط (1/ 210).

بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التي هي أعلى الجنان، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا، فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عدداً وعُدداً» (¬1). اهـ. سادساً: أن أهلها مغفور لهم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه وأصله في الصحيحين أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» (¬2). قال ابن حجر: «وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم» (¬3). سابعاً: رجاء النبي صلى اللهُ عليه وسلم لأهل بدر ألا يدخلوا النار، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه: أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» (¬4). ثامناً: إخباره صلى اللهُ عليه وسلم بأنه لولا أهل بدر لم يصلنا الإسلام، ولقضي عليه معهم، روى مسلم في صحيحه من حديث عمر ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير (5/ 258). (¬2) (3/ 322 - 323) برقم 7940 قلت وإسناده حسن. (¬3) فتح الباري (7/ 305). (¬4) برقم 2495.

ابن الخطاب رضي اللهُ عنه قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» (¬1). تاسعاً: أن الله أحل الغنائم لهذه الأمة في هذه الغزوة، قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم (69)} [الأنفال: 69]. روى الطيالسي في مسنده من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَعَجَّلَ النَّاسُ إِلَى الغَنَائِمِ فَأَصَابُوهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ الغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدِ سُودِ (¬2) الرُّؤُوسِ غَيْرَكُمْ»، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ (¬3) إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً جَمَعُوهَا، وَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْهَا، فأنزل الله هذه الآية: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ} إلى آخر الآيتين» (¬4). عاشراً: إخباره تعالى عن نتيجة المعركة قبل بدئها، وذلك بالنصر للمؤمنين على الكافرين، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ¬

(¬1) برقم 1763 ورواه البخاري من حديث ابن عباس بنحوه برقم 3953. (¬2) سود الرؤوس: المراد بها بنو آدم لأن رؤوسهم سود. (¬3) أي الأنبياء السابقين. (¬4) (2/ 19) وأخرجه الترمذي برقم 3085 وقال حديث حسن صحيح غريب.

وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون (8)} [الأنفال: 7 - 8]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ الْعِيرَ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ. قَالَ: فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ، قَالَ: «وَلِمَ؟ » قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِنَّمَا وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (3/ 466) برقم 2022 والحديث من رواية سماك عن عكرمة، وفيها اضطراب ومع ذلك فقد قال الترمذي حديث رقم 3080 حديث حسن صحيح وجود إسناده الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 288). (¬2) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 39 - 49.

الكلمة الخامسة والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ... }

الكلمة الخامسة والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون ... } الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فقد تقدَّم الحديث عن فضل غزوة بدر، وأهلها الذين شاركوا فيها، وسيكون الكلام في هذه الكلمة عن الآيات التي تحدثت عن خروج النبي صلى اللهُ عليه وسلم ومن معه إلى هذه الغزوة المباركة. قال تعالى {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون (8)} [الأنفال: 5 - 8]. يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} يا محمد إلى لقاء المشركين في بدر {بِالْحَقِّ} الذي يحبه، وقدره وقضاه، وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين

عدوهم قتال، فحين تبين لهم أن ذلك واقع جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى اللهُ عليه وسلم في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون} والحال أن هذا لا ينبغي منهم خصوصاً بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق ومما أمر الله به، ورضيه، فبهذه الحال ليس للجدل محل فيها؛ لأن الجدل محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر، فأما إذا وضح وبان فليس إلا الانقياد والإذعان، هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم، وكذلك الذين عاتبهم الله انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم الله وَقَيَّضَ لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم. وكان أصل خروجهم أنهم يتعرضون لِعِيرٍ خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريشٍ إلى الشام، قافلة كبيرة، فلما سمع برجوعها من الشام ندب النبي صلى اللهُ عليه وسلم الناس، فخرج معه ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً، معهم سبعون بعيراً يعتقبون عليها ويحملون عليها متاعهم، فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عِيرِهِم في عدد كثير، وعدة وافرة من السلاح، والخيل، والرجال، بلغ عددهم قريباً من الألف. فوعد الله المؤمنين إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير أي الجيش، فأحبوا العير لِقِلَّةِ ذاتِ يدِ المسلمين؛ ولأنها غير ذات الشوكة، ولكن الله تعالى أحَبَّ لهم وأراد أمراً أعلى مما أحبوا، أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم، {وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} فينصر أهله، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين}

أي يستأصل أهل الباطل، ويُري عباده من نَصْرِهِ للحق أمراً لم يكن يخطر ببالهم. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أبما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه، {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أبما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون} فلا يبالي الله بهم (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن كعب رضي اللهُ عنه قال: سمعت كعب بن مالك رضي اللهُ عنه يقول: «لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ» (¬2). ومن فوائد الآيات الكريمات: أولاً: خروج النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه من المدينة كان بالحق، وخروج المشركين من مكة كان بالباطل، ففي الأولين قال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5]. وفي الآخرين قال: {خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ} [الأنفال: 47]. فَشَتَّانَ ما بين الفريقين. ثانياً: مع علمه صلى اللهُ عليه وسلم بأن خروجه كان بأمر ربه، إلا أنه كان يستشير أصحابه مراعاة منه صلى اللهُ عليه وسلم - للطبيعة البشرية - فلينتبه دعاة الإسلام لهذا، وليقدموه للناس ليناً سهلاً. ¬

(¬1) تفسير الشيخ ابن سعدي ص: 316. (¬2) برقم 3951 وصحيح مسلم برقم 2769.

ثالثاً: في المؤمنين من هو كامل الإيمان يقدم الأوامر الشرعية ولا يبالي بما يخالفها، ومنهم من هو دون ذلك، له نظرة للأسباب المادية، وهذا الفريق لا ينبغي أن يُضْرب بالأوامر الشرعية بل يؤخذ بالمجادلة الحسنة حتى ينقاد إلى الحق بطيب نفس، ورغبة، يؤخذ هذا من قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون (5)} [الأنفال: 5]. رابعاً: أن اللفظ قد يطلق، ويراد به بعض معانيه، فالذين كرهوا لقاء العدو في قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون (5)}، لم يكن ذلك جبناً، ولا كراهية للموت، ولكنهم لم يكونوا يرون الدخول في معركة لم يستعدوا لها، ولم يحسبوا حسابها، وربما كانت النتائج أسوأ مما لو عادوا في هذه الحال، فلما تبين لهم الحق بعد المجادلة انساقوا إليه مسرعين. خامساً: فضل أصحاب بدر، وكمال إيمانهم، حيث انقادوا للنبي صلى اللهُ عليه وسلم لخوض المعركة مع قريش مع أن ذلك بالحسابات المادية والخطط العسكرية هو الإقدام على الموت، قال تعالى وهو يصوِّر ذلك أحسن وأبلغ تصوير: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون (6)} [الأنفال: 6]. سادساً: الوعد بالخير ممن طبيعته الوفاء من أخلاق القرآن لما في ذلك من راحة القلب واطمئنانه، لقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ} [الأنفال: 7]. سابعاً: وعد الله أصحاب بدر إحدى الطائفتين، ولم يعين مع

علمه بما سيكون ليكشف خفايا النفس البشرية، وذلك من مقتضيات حكمته جل وعلا. ثامناً: بذل جهد أكبر لتحصيل مقصود أعظم أولى من ضده، قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]. تاسعاً: المقارنة بين المصالح والمفاسد، والموازنة بين الأمور مع بُعد النظر يتبين بها حقيقة الأشياء، وهذا ما جعل النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وأصحابه يقررون اللقاء مع العدو {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}، وهي مصلحة، غير أن هذه المصلحة تتلاشى عند النظر إلى ما في اللقاء من المصالح، وإن كلف جهداً إذ إن إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإذلال الكفر؛ مصالح عظيمة لا يعدلها شيء، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون (8)} [الأنفال: 7 - 8]. عاشراً: يجب على المؤمنين أن يُقَدِّمُوا ما يريده الله على ما يريدون، فإنهم متى فعلوا ذلك أعطاهم ما يتمنون، وَبَلَّغَهُمْ ما لم يكونوا يحتسبون، وهذا ما وقع لأهل بدر، لَمَّا قَدَّمُوا ما يريده الله على ما يريدون. الحادي عشر: من الجرائم العظيمة أن يكره الإنسان ظهور الحق، أو سقوط الباطل، قال تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون}.

الثاني عشر: عظمة البارئ وقدرته، إذ إن ما يريده يقع منه بكلمة، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}. وهذه الكلمة هي ما ذكره الله بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس: 82] (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 338 - 340.

الكلمة السادسة والأربعون: فوائد من قوله تعالى: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ... }

الكلمة السادسة والأربعون: فوائد من قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ... } الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فقد كان الكلام في الكلمة السابقة عن الآيات التي تتحدث عن خروج النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه إلى بدر، ولا زال الحديث موصولاً في ذلك، قال تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُمُور (44)} [الأنفال: 42 - 44]. من فوائد الآيات السابقة: الفائدة الأولى: قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ

الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} العدوة هي: طرف الوادي، والركب المراد به عير أبي سفيان، وهذا التصوير البليغ له من الفوائد: أ - بيان الحال لمن بعد، ولم يستطع الوقوف على موقع المعركة، فهذا الوصف العجيب يجعله كأنه يرى ويُشاهد. ب - قوله تعالى: {الدُّنْيَا} أي الأقرب إلى المدينة، و {الْقُصْوَى} أي الأبعد بالنسبة للمدينة، وبالتالي فهي الأقرب إلى مكة، والمعنى أن كل فريق يستطيع العودة إلى بلده، ليس بينه وبينها حائل يمنعه، ومع ذلك نفذت مشيئة الله بالتقاء الفريقين: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون}. الفائدة الثانية: قوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ}، قال الرازي: «لا شك أن عسكر الرسول صلى اللهُ عليه وسلم في أول الأمر كانوا في غاية الخوف، والضعف؛ بسبب القلة، وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضاً رملية تغوص فيها أرجلهم، وأما الكفار فكانوا في غاية القوة؛ بسبب الكثرة في العدد؛ وبسبب حصول الآلات، والأدوات؛ لأنهم كانوا قريبين من الماء؛ ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي، ولأن العير كانت خلف ظهورهم، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة. ثم إنه تعالى قلب القصة، وعكس القضية، وجعل الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين، فصار ذلك من أعظم المعجزات، وأقوى البيانات على صدق محمد صلى اللهُ عليه وسلم فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر.

الفائدة الثالثة: قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البينة هذه المعجزة» (¬1). الفائدة الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} يحتمل أن المراد بذلك الزمان، والمكان، ويحتمل أن المراد الزمان فقط، والثاني أرجح. الفائدة الخامسة: قوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} فيه من الفوائد أن الله تعالى قدَّر الأشياء قبل وقوعها، وهو صريح قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} [الحديد: 22]. وهذه إحدى مراتب القدر التي يجب الإيمان بها. الفائدة السادسة: أن الأخذ بالأسباب المشروعة أمر مشروع، كل بحسبه، فإن الرب جل وعلا مع علمه بما سيقع، لم يمنعهم من أخذ الأسباب التي يرونها. الفائدة السابعة: قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}، أراد كأن يظهر بوقوع هذه المعركة على هذا النحو، أن محمداً وأصحابه على الحق، وأن عدوهم على الباطل؛ إقامةً للحجة، وقطعاً للأعذار. الفائدة الثامنة: قوله تعالى: {وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم} فيها: ¬

(¬1) التفسير الكبير للرازي (15/ 168).

أ - إثبات اسمين لله تعالى من أسمائه الحسنى التي يُدعى بها. ب - أن هذين الاسمين الكريمين تضمنا صفتين عظيمتين، الأولى: السمع، الثانية: العلم. الفائدة التاسعة: قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} فيها من الفوائد: أ - إن الرؤيا الصالحة من الله. ب - رؤيا الأنبياء وحي من الله. ج - إن رؤية النبي صلى اللهُ عليه وسلم لهم كانت في المنام لا في اليقظة (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 347 - 349.

الكلمة السابعة والأربعون: المعجزات والكرامات في غزوة بدر

الكلمة السابعة والأربعون: المعجزات والكرامات في غزوة بدر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فلقد كانت غزوة بدر من معارك الإسلام الفاصلة، وقد تجلَّت فيها الكثير من المعجزات والكرامات العظيمة، فمن ذلك: أولاً: سماع المشركين كلام النبي صلى اللهُ عليه وسلم وخطابه وهم أموات في القليب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي طلحة رضي اللهُ عنه: «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ (¬1) مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ، خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ (¬2)، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، يَا فُلاَنُ ابْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ: «أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ » ¬

(¬1) الأطواء: جمع طوي وهو البئر التي طويت وبُنيت بالحجارة، لتثبت ولا تنهار، فتح الباري (7/ 302). (¬2) أي طرف البئر، الفتح (7/ 302).

قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا» (¬1). ثانياً: تحديد مصارع القوم: روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال: كان عمر يحدثنا عن أهل بدر فقال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ، يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَؤُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ: فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ» (¬2). ثالثاً: نزول المطر عليهم بالقدر الذي يحتاجونه من غير زيادة ولا نقصان: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللهُ عنه وهو يحدث عن ليلة بدر: «أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ - أي الترس - نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَدْعُو رَبَّهُ» (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: «أنزل الله عزَّ وجلَّ في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على ¬

(¬1) برقم 3979 وصحيح مسلم برقم 2875. (¬2) برقم 2873. (¬3) (2/ 260) برقم 948 وقال محققوه إسناده صحيح.

المسلمين طلاً طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل» (¬1). قال الشيخ محمد رشيد رضا: «لولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال؛ لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد - كما تقدَّم - وكانت الأرض دهاساً تسيخ فيها الأقدام أو لا تثبت عليها» (¬2). رابعاً: استجابة الله لدعاء نبيه على من كان يؤذيه بمكة من كفار قريش حتى قتلوا مع إخوانهم الكفرة ببدر: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله رضي اللهُ عنه قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي، أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا (¬3) وَدَمِهَا وَسَلَاهَا (¬4) فَيَجِيءُ بِهِ ثُمَّ يُمْهِلُهُ، حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ رضي اللهُ عنها وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) زاد المعاد (3/ 175). (¬2) تفسير المنار (9/ 509 - 510). (¬3) الفرث: بقايا الطعام في الكرش، انظر المعجم الوسيط (2/ 678). (¬4) السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه، وقيل هو في الماشية السلى، وفي الناس المشيمة. النهاية في غريب الحديث (2/ 396).

الصَّلَاةَ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ»، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ ابْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً» (¬1). خامساً: إعانة بعض المسلمين بالملائكة على أسر العدو: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللهُ عنه وفيه: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ (¬2) مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ (¬3) مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: فَأَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسَ وعَقِيلًا وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ» (¬4). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال يوم بدر: «هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَاسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ ¬

(¬1) برقم 520 وصحيح مسلم برقم 1794. (¬2) قال في النهاية (1/ 284) الأجلح من الناس: الذي انحشر الشعر عن جانبي رأسه. (¬3) أبلق: وهو ما كان فيه سواد وبياض. المعجم الوسيط (1/ 70). (¬4) (2/ 260 - 261) برقم 948، وقال محققوه إسناده صحيح، وقال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه للمسند (2/ 194) إسناده صحيح.

الْحَرْبِ» (¬1). وفي رواية: «عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ» (¬2) (¬3). سادساً: إنزال النعاس عليهم: قال تعالى {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11]. روى أبو يعلى في مسنده من حديث أبي طلحة رضي اللهُ عنه قال: «لَقَدْ سَقَطَ السَّيْفُ مِنِّي يَوْمَ بَدْرٍ لِمَا غَشِيَنَا مِنَ النُّعَاسِ. يقول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11]» (¬4). قال ابن كثير: «يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمَّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم، وقلة عددهم ... إلخ» (¬5). سابعاً: أن الله تعالى أراهم العدو أقل مما هم عليه: لتقوى قلوبهم على حربهم، ويشجعهم على مواجهتهم، قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُمُور (44)} [الأنفال: 44]. قال ابن جرير: «إذ يُري الله نبيه في منامه المشركين قليلاً، وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلاً، وهم كثير عددهم، ¬

(¬1) برقم 3995. (¬2) الثنايا: إحدى الأسنان الأربع التي في مقدمة الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت. المعجم الوسيط (1/ 102). (¬3) النقع: الغبار. النهاية في غريب الحديث (5/ 109). (¬4) (3/ 19) برقم 428 وقال محققه حسين سليم أسد إسناده صحيح. (¬5) تفسير ابن كثير (2/ 291).

ويقلل المؤمنين في أعينهم ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم» (¬1). ثامناً: اختصاص أبي بكر وعلي بكرامة من الله، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي اللهُ عنه قال: «قِيلَ لِعَلِيٍّ وَلِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ: مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ، وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ الْقِتَالَ، أَوْ قَالَ: يَشْهَدُ الصَّفَّ» (¬2) (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن جرير (6/ 259). (¬2) (2/ 411) برقم 1257 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 57 - 64.

الكلمة الثامنة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة

الكلمة الثامنة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة (1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة يوم بدر الأغر، اليوم الذي دارت فيه رحى الحرب بين حزب الله وحزب الشيطان، فحين أصبح النبي صلى اللهُ عليه وسلم وطلع الفجر نادى في أصحابه: «الصَّلَاةُ عِبَادَ اللَّهِ»، فصلى بهم صلاة الصبح، ثم حرَّضهم على القتال، وصف أصحابه صفوفاً، وألقى إليهم التوجيهات التي يلقيها القائد عادة إلى الجيش قبل اللقاء، بعد ذلك انصرف صلى اللهُ عليه وسلم إلى مقر القيادة، وهو العريش الذي بُني له، والذي يعتبر بمثابة غرفة العمليات اليوم، ينتظر إقبال جيش العدو، تاركاً له فرصة التفكير في مصير هذا اللقاء أو البدء بالقتال والبغي والاعتداء، حيث علم صلى اللهُ عليه وسلم أن البادي بالظلم مغلوب، وأن الباغي مهزوم، وأن المظلوم مُعان ومنصور (¬1). وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم قبل ذلك أمر بالآبار التي حول بدر فدفنت، ثم ¬

(¬1) قال أحد الصالحين لابنه يوصيه: لا تدعو أحداً للبراز، فإن الداعي باغ، والباغي مهزوم، وإذا دُعيت فأجب.

بنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه ومُليء ماءً، وكانت بدر مقراً لاجتماع الناس، وبها سوق من أسواق الجاهلية، وتقع على مفترق طرق، حيث يتوارد لها العرب من كل ناحية، وتبعد عن المدينة في وقتنا المعاصر مائة وثلاثة وخمسين كيلو متر تقريباً. بداية المعركة: خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلاً شرساً، سيئ الخلق، فقال: أُعَاهِدُ اللهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَو لَأُهَدِّمَنَّهُ، أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ؛ خَرَجَ إِلَيهِ حَمزَةُ بْنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَلَمَّا التَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ (¬1) قَدَمَهُ بِنِصفِ سَاقِهِ وَهُوَ دُونَ الحَوضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخُبُ (¬2) رِجْلُهُ دَماً نَحوَ أَصحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الحَوْضِ حَتَّى اقتَحَمَ فِيهِ، يُرِيدُ - زعم - أَنْ يَبِرَّ يَمِينَهُ، وَأَتْبَعَهُ حَمْزَةَ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الحَوْضِ (¬3). ثم أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «دَعُوهُم»، فَمَا شَرِبَ مِنهُ رَجُلٌ يَومَئِذٍ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامْ فَإِنَّهُ لَم يُقتَل، ثُمَّ أَسلَمَ بَعدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إِسلَامَهُ، فَكَانَ إِذَا اجتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ (¬4). ¬

(¬1) فأطن قدمه: أي أطارها. شرح السيرة النبوية ص: 157. (¬2) تشخب: معناه تسيل بصوت. المصدر السابق ص: 157. (¬3) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 214). (¬4) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 212).

وكانت المبارزة أول شيء بدئ فيه من القتال يوم بدر، وجرت العادة أنه لا يخرج للمبارزة إلا الشجعان من الرجال، وهذا ما حصل في بدر. قال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم (19)} [الحج: 19]. روى البخاري في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي اللهُ عنه أنه قال: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). وروى البخاري بسنده عن علي رضي اللهُ عنه أنه قال: «فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فِيهَا: إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ، يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ» (¬3). وروى البخاري بسنده إلى أبي إسحاق، سَأَلَ رَجُلٌ البَرَاءَ وَأَنَا أَسمَعُ، قَالَ: أَشَهِدَ عَلِيٌّ بَدْراً؟ قَالَ: بَارَزَ وَظَاهَرَ (¬4) (¬5). وروى أبو داود من حديث علي رضي اللهُ عنه قال: «تَقَدَّمَ عُتْبَةَ ابْنَ رَبِيعَةَ وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ، فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ، إِنَّمَا ¬

(¬1) برقم 4744. (¬2) برقم 3967. (¬3) برقم 4743 وصحيح مسلم برقم 3033. (¬4) برقم 3970. (¬5) ظاهر يعني لبس درعاً على درع، فتح الباري (7/ 198) وانظر: المعجم الوسيط (2/ 578).

أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ»، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ» (¬1). من مشاهد وأحداث المعركة: مقتل أبي جهل لعنه الله: وأبو جهل عمرو بن هشام ما هو إلا حلقة من حلقات الظلم والطغيان ضد الحق، فمثله كثير. إن فرعون موسى انتهى بالغرق، وقوم هود، وصالح، ولوط هلكوا، وكل ظالم متكبر لا بد أن ينتهي تلك النهاية المؤلمة. قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (40)} [العنكبوت: 40]. وانتهى أبو جهل، ورمي بالقليب بعد تلك الكبرياء التي أرادها للباطل على الحق، ولكن التاريخ البشري يشهد أن الحق هو الذي يبقى، وقديماً قيل: «دَوْلَةُ البَاطِلِ سَاعَةٌ، وَدَوْلَةُ الْحَقِّ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ» (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي اللهُ عنه قال: «بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ ¬

(¬1) برقم 2665 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 507) برقم 2321. (¬2) انظر: مرويات غزوة بدر للعليمي ص: 222.

بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ»، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ»، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو ابْنِ الجَمُوحِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه قال: قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم يوم بدر: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ » فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبَو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أو رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ» (¬2). قَالَ: وَقَالَ أَبُو مِجْلِزٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَوْ غَيْرَ أَكَارٍ قَتَلَنِي (¬3)، ¬

(¬1) برقم 3141 ومسلم برقم 1752. (¬2) برقم 4020 وصحيح مسلم برقم 1800. (¬3) برقم 4020، وأكار: زراع، قال الحافظ في الفتح (7/ 295): وعنى بذلك أن الأنصار أصحاب زرع، فأشار إلى تنقيص من قتله منهم بذلك.

وفي رواية أخرى للبخاري: وَهَلْ أَعْمَدُ (¬1) مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (¬2). وقال أيضاً لابنِ مَسعُودٍ: لَقَدِ ارتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْباً يَا رُوَيْعِيَّ الغَنَمِ، وَسَأَلَ قَائِلاً: لِمَنِ الدَّائِرَةُ اليَومَ؟ قَالَ ابنُ مَسعُودٍ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (¬3). ومن المشاهد والأحداث: قتل رأس الكفر أمية بن خلف: قُتل أمية بن خلف السيد المطاع على يد بلال الحبشي الذي طالما عذبه بمكة، تلك الأنات التي يطلقها بلال: أَحَدٌ، أَحَد، لم تذهب سدًى، إنها سياط في وجه الظلم الكالح في كل زمان ومكان، ويثأر بلال، ولكن الثأر لم يكن لنفسه، وإنما هو للحق الذي يحمله بين جنبيه، وينتهي العدوان، ويرى أهله مصيرهم، والعاقبة للمتقين. رحم الله بلالاً، فقد أعطى القدوة مرتين: الأولى: لتحمله العذاب والقهر في دين الله، فكان أقوى من الحديد، وأشد من الفولاذ. الثانية: إذاقته لأعداء الله كأس المَنِيَّةِ من يده، ليثبت للدنيا كلها، وللتاريخ البشري انتصار الحق والإيمان على الكفر والعدوان (¬4). قال الشاعر: هَنِيئاً زَادَكَ الرَّحمَنُ خَيْراً ... لَقَدْ أَدْرَكْتَ ثَارَكَ يَا بِلَالُ ¬

(¬1) أعمد: يريد أكبر من رجل قتلتموه، على سبيل التحقير منه لفعلهم به، قال الحافظ أبو ذر الخشني: وعميد القوم سيدهم. شرح السيرة النبوية ص: 160. (¬2) برقم 3961. (¬3) سيرة ابن هشام (2/ 227). (¬4) مرويات غزوة بدر ص: 226.

ولقد أخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أصحابه بقتل أمية بن خلف، فكان كما قال، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي اللهُ عنه قال: «كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا، بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ، وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ، قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ: عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ (¬1) حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ، فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ» (¬2) (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) حرز: يقال أحرزت الشيء أحرزه إحرازاً إذا حفظته وضممته إليك، وصنته عن الأخذ. النهاية في غريب الحديث (1/ 366). (¬2) برقم 2301. (¬3) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 238 - 246.

الكلمة التاسعة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة

الكلمة التاسعة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة (2) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: تقدم في الكلمة السابقة الحديث عن مشاهد وأحداث من غزوة بدر المباركة، ولا زال الحديث موصولاً في ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ»، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ (¬1) فَجَعَلَ يَاكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا ¬

(¬1) أي جعبته. النهاية في غريب الحديث (4/ 55).

كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ» (¬1). ومن المشاهد والأحداث: ما روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي اللهُ عنه قال: «قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ مُدَجَّجٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكْنَّى أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالْعَنَزَةِ (¬2) فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ. قَالَ هِشَامٌ: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمَطَّاتُ، فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ نَزَعْتُهَا، وَقَدْ انْثَنَى طَرَفَاهَا. قَالَ عُرْوَةُ: فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ، فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث عروة رضي اللهُ عنه قال: «كَانَ فِي الزُّبَيْرِ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ، إِحْدَاهُنَّ فِي عَاتِقِهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأُدْخِلُ أَصَابِعِي فِيهَا، قَالَ: ضُرِبَ ثِنْتَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَوَاحِدَةً يَوْمَ الْيَرْمُوكِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَقَالَ لِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ حِينَ قُتِلَ ¬

(¬1) برقم 1901. (¬2) العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئاً، وفيها سنان مثل سنان الرمح. والعكازة قريب منها. النهاية في غريب الحديث (4/ 308). (¬3) برقم 3998.

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا عُرْوَةُ: هَلْ تَعْرِفُ سَيْفَ الزُّبَيْرِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِيهِ؟ قُلْتُ: فِيهِ فَلَّةٌ (¬1) فَلَّهَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: صَدَقْتَ، بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ (¬2)، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى عُرْوَةَ. قَالَ هِشَامٌ: فَأَقَمْنَاهُ بَيْنَنَا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَأَخَذَهُ بَعْضُنَا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَخَذْتُهُ» (¬3). قال الحافظ في الفتح: «قوله: صدقت بهن فلول من قراع الكتائب هذا شطر من بيت مشهور من قصيدة مشهورة للنابغة الذبياني، وأولها: كليني لِهَمِّ يَا أُمَيْمَة نَاصب ولَيلٍ أُقَاسِيه بِطِيءِ الكَوَاكِبِ ولا عَيْبَ فِيْهم غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُم بِهِنَّ فلُولُ مِن قِراعِ الكَتَائِبِ وهو من المدح في معرض الذم، لأن الفل في السيف نقص حسي لكنه لما كان دليلاً على قوة ساعد صاحبه، كان من جملة كماله» (¬4). وفي رواية أخرى عن عروة رضي اللهُ عنه قال: «كَانَ سَيْفُ الزُّبَيْرِ ابْنِ الْعَوَّامِ مُحَلًّى بِفِضَّةٍ» (¬5). وروى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي اللهُ عنه: «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلَا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ، فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلًا، ¬

(¬1) الفلة: الثملة في السيف وجمعها: فلول. النهاية في غريب الحديث (3/ 472). (¬2) أي قتال الجيوش ومحاربتها. (¬3) برقم 3973. (¬4) فتح الباري (7/ 300). (¬5) صحيح البخاري برقم 3973.

فَأَخَذُوا بِلِجَامِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ، بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ عُرْوَةُ: كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ، قَالَ عُرْوَةُ: وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ، وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلًا» (¬1). ومنها شجاعة حمزة رضي اللهُ عنه: روى ابن إسحاق بسنده: «أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ المُعَلِّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ؟ قُلْتُ: ذَلِكَ عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الأَفَاعِيلَ» (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث وحشي قال: «إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ يَوْمَ بَدْرٍ» (¬3). لقد انتهت معركة بدر بنصرٍ حاسمٍ للمسلمين، فقد قتلوا سبعين من قادة قريش وساداتهم وأسروا سبعين، وحصلت في هذه المعركة المعجزات والكرامات العظيمة التي أيد الله بها المؤمنين، وجاء دور الغنائم، فلقد خلفت قريشٌ الكثير منها، ومن هذه الغنائم أموال المهاجرين التي تركوها في مكة، وانتزعها المشركون منهم، وهذه الغنيمة التي حصلت للمسلمين هي فضلٌ من الله يعطيه لأوليائه إذ مكنهم من رقاب أعدائهم قتلاً وأسراً، ومن أموالهم غنيمةً طيبةً للمؤمنين. ¬

(¬1) برقم 3975. (¬2) السيرة النبوية (2/ 223) وسنده حسن وأخرجه البزار (1/ 3) برقم 227. (¬3) برقم 4072.

وكان انهزام القوم وتوليهم حين زالت الشمس عند الغروب من يوم الجمعة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت رضي اللهُ عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْراً، فَالتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ العَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يُطَارِدُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى المَغْنَمِ يَحُوزُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم لَا يُصِيبُ العَدُوُّ مِنهُ غَرَّةً، وجاء في آخر الحديث: فَأَنزَلَ اللهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين (1)}» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) (37/ 422) برقم 22762 وقال محققوه حسن لغيره. (¬2) انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 246 - 253.

الكلمة الخمسون: اتباع الهوى

الكلمة الخمسون: اتباع الهوى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن الخصال المذمومة التي تلقي بصاحبها في مهاوي الردى، وتعمي بصيرته، فيصبح لا يفرق بين حق ولا باطل، ولاخير وشر .. اتباع الهوى. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43]. قال ابن كثير: «أي: مهما استحسن من شيء ورأه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه (¬1) كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]». وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وقد ذكر الله تعالى في كتابه حال هؤلاء المتبعين لأهوائهم، وأن الحال يصل بهم إلى أن يكونوا كالأنعام بل أضل، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (44) [الفرقان: 44]. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 309).

وإن من اتباع الهوى ما يفعله بعض الناس من البحث عن الرُّخَصِ المخالفة للشرع والفتاوى الشاذة، وزلات العلماء، ويلوون أعناق النصوص من أجل ذلك، وإذا كانت النصوص توافق أهواءهم رضوا وسَلَّمُوا ولم يجادلوا، وقد ذكر الله في كتابه هذا الصنف فقال: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِين (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون (50)} [النور: 47 - 50]. لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته، فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعاً فالقانون المرعي - عنده في الحقيقة - هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب (¬1). والهوى يُعْمِي ويُصِمُّ صاحبه عن الحق، روى مسلم في صحيحه عن حذيقة بن اليمان رضي اللهُ عنهما قال: سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا (¬2)، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا (¬3) نُكِتَ (¬4) فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ ¬

(¬1) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص: 231. (¬2) ومعنى تعرض: أي كأنها تلصق، بعرض القلوب أي جانبها، كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه بشدة لصقها به، قال: وقوله عوداً، عوداً: أي تعاد وتكرر عليه شيئاً بعد شيء. (¬3) أي حلت فيه محل الشراب. (¬4) أي نقطة نقطة.

فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا (¬1) كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا (¬2)، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (¬3). وقد نهى الله تبارك وتعالى نبيه عن اتباع الهوى، فقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [الشورى: 15]. وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يتعوذ بالله من اتباع الهوى، فروى الترمذي في سننه من حديث قطبة بن مالك رضي اللهُ عنه قال: كان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَهْوَاءِ» (¬4). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن اتباع الهوى من المهلكات، روى البزار في مسنده من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «المُهْلِكَاتُ ثَلَاثٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرءِ بِنَفْسِهِ» (¬5). قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللهُ عنه: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُم: طُولُ الأَمَلِ، وَاتِّبَاعُ الهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ» (¬6). ¬

(¬1) المراد شدة البياض في سواد. (¬2) أي منكوساً مائلاً. (¬3) برقم 144. (¬4) برقم 3591، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 184) برقم 2840. (¬5) مسند البزار (8/ 295) برقم 3366، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1802. (¬6) فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 530) برقم 881.

وقد وردت أقوال كثيرة عن السلف تحذر من تتبع زلات العلماء، والأقوال الشاذة، قال سليمان التيمي: «لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله» (¬1)، وقال الإمام الأوزاعي: «من أخذ بنوادر العلماء (أي الأقوال النادرة) خرج من الإسلام» (¬2)، وقال عمر ابن الخطاب رضي اللهُ عنه: «ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ العَالِمِ، وَجِدَالُ المُنَافِقِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ» (¬3)، وقال ابن حزم الأندلسي: «وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله صلى اللهُ عليه وسلم» (¬4) اهـ. وروى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: «دخلت على المعتضد بالله فدفع إِلَيَّ كتاباً فنظرت فيه فإذا قد جمع له من الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر - النبيذ - لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب» (¬5). اهـ. وقد شدد العلماء في الإنكار على من تتبع الرخص وشواذ ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 91). (¬2) سير أعلام النبلاء (7/ 125). (¬3) سنن الدارمي (1/ 71). (¬4) الأحكام في أصول الأحكام (5/ 65). (¬5) سير أعلام النبلاء (3/ 465).

الأقوال، حيث وصفوه مرة بأنه شر عباد الله كما ذكر ذلك عبد الرزاق عن معمر (¬1)، وتارة وصفوه بالفسق كما نص عليه ابن النجار، فقال: يحرم على العامي تتبع الرخص ويُفسق به (¬2)، وقال الغزالي: ليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع (¬3). وبعض الناس إذا أراد أن يستفتي يسأل في كل مسألة من عُرِفَ بالتساهل فيها، والإفتاء بغير ما عليه جماهير العلماء، فإذا دُلَّ على العلماء الذين يفتون بالكتاب والسنة؛ قال: إن هؤلاء لا يعرفون إلا لغة التحريم، كل شيء عندهم حرام، فهذا وأمثاله اتخذوا دينهم لعباً ولهواً والله تعالى قال لنبيه صلى اللهُ عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، ولم يقل كما أردت، قال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع العلماء على أن العامي لا يجوز له تتبع الرخص» (¬4). قال محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» (¬5). أما قول بعضهم: ضع بينك وبين النار مُطَوَّعٍ، فهذا القول لا يكون صحيحاً إلا بسؤال أهل العلم المعروفين بالتقوى، وأن يكون القصد ¬

(¬1) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلاّل (1/ 209). (¬2) مختصر التحرير ص: 252. (¬3) المستصفى (2/ 469). (¬4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 91). (¬5) مقدمة صحيح مسلم ص: 24.

من السؤال معرفة الحق والعلم الذي يرضي الله تعالى (¬1). ومن الأمثلة على تتبع زلات العلماء وترك ما قال به جمهور أهل العلم، ودلت عليه النصوص الصريحة: الذين يأخذون بقول من قال بإباحة الغناء، ويتركون من قال بتحريمه، كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وجماهير أهل العلم من المتقدمين، والمتأخرين. ومنهم: الذين يأخذون بقول من قال من المعاصرين بجواز حلق اللحية، ويتركون النصوص الصريحة التي وردت في الصحيحين وغيرها من الكتب الستة بالأمر بإعفائها، وهو قول جمهور أهل العلم من المتقدمين، والمتأخرين، بل لم يعرف حلق اللحية إلا في العصور المتأخرة. ومنهم: الذين يأخذون بقول من قال من المعاصرين بجواز إسبال الثياب من غير خيلاء، ويتركون النصوص الصريحة التي وردت في الصحيح وغيره بتحريم ما أسفل من الكعبين من الإزار. وما ذكرته غَيْضٌ مِن فَيضٍ، وَقَلِيلٌ مِن كَثِيرٍ، أسأل الله تعالى أن يرزقنا التجرد للحق، وأن يبعدنا عن اتباع الهوى، وأن يجعلنا ممن يسارعون إلى تنفيذ أمر الله ورسوله راضين مسلمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر رسالة الشيخ عبد اللطيف التويجري بعنوان: تتبع الرخص بين الشرع والواقع، فقد أجاد وأفاد.

الكلمة الواحدة والخمسون: الفقه في الدين وفضله

الكلمة الواحدة والخمسون: الفقه في الدين وفضله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تحث المسلم على التفقه في الدين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون (122)} [التوبة: 122]. روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معاوية رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (¬1). قال بعض أهل العلم: مَنْ لَمْ يُفَقَّهْ فِي الدِّينِ، لَمْ يُرِدْ بِهِ اللَّهُ خَيْرًا. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً ¬

(¬1) برقم 71 وصحيح مسلم برقم 1037.

أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَاسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (¬1). قال العلَّامة صدِّيق حسن خان رحمه الله: «والفقه في دين الله هو الفهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم، وكان الفقيه في سلف هذه الأمة من اتصف بفهمها» (¬2). اهـ. مختصراً. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» (¬3). ومن الفقه في الدين الوصول إلى الأجر العظيم بالعمل القليل، أو بمعنى آخر: معرفة الطرق للحصول على الأجر الجزيل، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَاذِنِ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: «أَوَ فَعَلْتِ؟ » قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» (¬4). ففي هذا الحديث بيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم لأم المؤمنين ميمونة أن العتق مع الفضل العظيم الذي ورد فيه إلا أن الأفضل منه أن تُعطي هذه الأمة ¬

(¬1) برقم 79 وصحيح مسلم برقم 2282. (¬2) مختصر صحيح مسلم للمنذري ص: 402. (¬3) برقم 3353 وصحيح مسلم برقم 2378. (¬4) برقم 2592 وصحيح مسلم برقم 999.

لأخوالها فتخدمهم، فإن ذلك فيه صلة رحم. ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما عَنْ جُوَيْرِيَةَ أُم المُؤمنِين رضي اللهُ عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ » قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (¬1). هذا الحديث يبيِّن أن أم المؤمنين جويرية رضي اللهُ عنها كانت تذكر الله من صلاة الصبح إلى وقت الضحى وهو وقت طويل، فأخبرها النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه بكلمات يسيرة لا تتجاوز دقائق معدودة قد حصل على أجر أعظم من أجرها في ذلك الوقت الطويل. ومنها ما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه قال: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّه صلى اللهُ عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ»، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: «لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» (¬2). ¬

(¬1) برقم 2726. (¬2) برقم 338 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 69) برقم 327.

الشاهد أن الذي أعاد الوضوء والصلاة عمل عملاً أكثر من صاحبه الذي لم يُعِدْ واقتصر على صلاة واحدة، ومع ذلك كان أعظم أجراً بإصابته السنة. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من مداخل الشيطان على المؤمن إشغاله بالمفضول على الفاضل، بمعنى أن هناك أعمالاً صالحة أجرها عظيم فيشغله بأعمال صالحة أخرى أقل أجراً من الأولى. ومن الفقه في الدين معرفة الفاضل وتقديمه على المفضول، ومن ذلك ورود عملان صالحان في وقت واحد، فمن الفقه تقديم ما يفوت وقته أو حاله على ما لا يفوت، وذلك كمن سمع الأذان وهو يقرأ القرآن فمن الفقه في الدين تقديم متابعة الأذان على القراءة لأن الأذان يفوت وقته، وقراءة القرآن يمكن تداركها. ومن ذلك تقديم ما نفعه مُتَعَدٍّ إلى الغير على ما نفعه قاصر على صاحبه، كتعليم العلم وتفضيله على العبادة، وفي الحديث: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» (¬1)، وقوله صلى اللهُ عليه وسلم: «فَضْلُ العِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ» (¬2). ومن الفقه في الدين تقديم ما هو أساس لغيره وغيره يُبنى عليه، كتقديم طلب العلم على نوافل الصلاة والصيام وغيرها. ¬

(¬1) جزء من حديث في سنن الترمذي برقم 2685 وقال الترمذي حسن غريب صحيح وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 4213. (¬2) مستدرك الحاكم (1/ 283) برقم 320 وقال محققه الحديث عندي أنه حسن وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم 4214.

ومن الفقه تقديم ما تنشط له النفس ويكون إقبالها على فعله أعظم، ومن ذلك إفطار يوم عرفة للحاج مع ما جاء في صيامه من الفضل. ومنه الاختيار المناسب للحال، قال تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} [البقرة: 271]. قال العلماء: إن صدقة السر أفضل، فإذا كان في إظهارها مصلحة كاقتداء الغير ونحوه كان الإظهار أفضل، وقس على ذلك موفقاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية والخمسون: خطر الطائفة النصيرية

الكلمة الثانية والخمسون: خطر الطائفة النصيرية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أعداء المسلمين من الكفار يمكرون ويخططون الليل والنهار للقضاء على الإسلام وأهله، ومن خططهم الخبيثة زرع الفرق الضالة في بلاد المسلمين حتى يضعفوا شوكتهم ويسيطروا على ثرواتهم ويبعدوهم عن دينهم وأخلاقهم، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. ومن هذه الفرق الباطنية التي غرسها الاستعمار في بلاد المسلمين فرقة النصيرية وهي من أخبث الفرق الباطنية، وسأذكر بعضاً من معتقداتها وأهدافها ونشأتها وخطرها على الإسلام والمسلمين للعلم والحذر. أما تعريف النصيرية: فهم اتباع محمد بن نصير النميري، وسميت بهذا الاسم نسبة إليه، وهم من غلاة الشيعة الذين أَلَّهُوا علي بن أبي طالب، وقد انبثقوا من الاثني عشرية الرافضة. نشأتها: لما توفي الحسن العسكري الذي تَدَّعِي الرافضة أنه إمامها الحادي عشر، اجتمع الغلاة من المنتمين إليه، وادَّعَوا أن له ولداً اختفى في سرداب بمنزل أبيه (سامراء) وأنه الإمام بعد أبيه، وخرج مجموعة من

غلاة الشيعة كل يدَّعي أنه هو الواسطة بين هذا الإمام الغائب في السرداب في زعمهم وبين الشيعة، ومن هؤلاء: محمد بن نصير الذي سمي أتباعه فيما بعد بالنصيرية نسبة إليه، ونشأت النصيرية من ذلك الوقت. أسماؤها: كانوا يدعون بالنميرية، ثم اتخذوا اسم النصيرية منذ عهد شيخهم الخصي وكانوا يسمون أنفسهم المؤمنين، وفي فترة الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام تسموا بالعلويين. مواطنهم: يسكن النصيرية في جبال اللاذقية، وحماه، وحمص من سوريا، وفي لواء الإسكندرونة، وطرسوس، وأدنه أو أطنه (في تركيا حالياً) وفي كردستان وغيرها. طوائفهم: ينقسم النصيرية إلى أربع طوائف: 1 - الحيدرية: نسبة إلى حيدر لقب علي بن أبي طالب. 2 - الشمالية: وهم يقولون إن علياً يسكن في الشمس، ويقال لهم: الشمسية. 3 - الكلازية أو القمرية: ويعتقدون أن علياً يقيم في القمر. 4 - الغيبية: يقولون إن الله تَجَلَّى ثم اختفى، والزمان الحالي هو زمان الغيبية، ويقررون أن الغائب هو الله الذي هو علي: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5)} [الكهف: 5]. وليس بين هذه الطوائف اختلاف في أصول العقيدة الباطنية كتأليه علي والتناسخ والحلول، فالاختلاف بينهم في مَقَرِّهِ، بعضهم يجعل مَقَرَّهُ القمر، وبعضهم الشمس.

أشهر رجالاتها: مؤسس المذهب النصيري هو محمد بن نصير النميري، ثم تولى المذهب بعده محمد بن جندب، ثم الحسين ابن حمدان الخصيبي الذي يعتبر الشيخ الأعظم عند النصيرية. عقائدهم الأساسية: تتلخص عقائدهم الأساسية فيما يلي: 1 - علي بن أبي طالب إله عندهم يسكن السحاب، والرعد صوته، والبرق ضحكه، وهم بهذا يعظمون السحاب، ومنهم من يعتقد أن علياً حال في القمر أو الشمس - كما مر -. 2 - تناسخ الأرواح عندهم عقيدة من عقائدهم، فالذين لا يعبدون علياً يولدون في زعمهم من جديد على شكل إبل وحمير، أما المؤمن وهو عندهم من يعبد علياً فيتحول سبع مرات ثم يأخذ مكانه بين النجوم، ومن ينحرف منهم يولد من جديد حتى يتطهر أو يُكفر عن سيئاته. 3 - إنكار البعث، والنشور، والجنة، والنار، والقول بقدم العالم كما يعتقد الدهرية الزنادقة. عبادتهم وأركان الإسلام عندهم: 1 - الشهادة هي أن تشير إلى صيغة (ع - م - س) وهي رمز لعلي، ومحمد وسلمان، وهي أشبه بعقيدة التثليث عند النصارى. 2 - الصلوات الخمس عبارة عن خمس أسماء وهي علي، وحسن، وحسين ومحمد، وفاطمة، وذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء وبقية شروط الصلاة، وواجباتها.

3 - الزكاة ويرمز لها بشخصية سلمان. 4 - الصوم وهو حفظ السر المتعلق بثلاثين رجلاً من رجالهم تمثلهم أيام رمضان، وثلاثين امرأة من نسائهم تمثلهم ليالي رمضان. 5 - الجهاد وهو صب اللعنات على الأعداء ويقولون: إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين .. إلى غير ذلك من المعتقدات الفاسدة. فضائح النصيرية: النصيرية يبيحون شرب الخمر والزنا، ولهم ليلة يختلط فيها الرجال والنساء، ويحبون (عبد الرحمن بن ملجم) قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويترضون عنه لزعمهم بأنه قد خلص اللاهوت من الناسوت وَيُخَطِّئُونَ من يلعنه. تاريخ النصيرية: حافل بالمؤامرات والمكائد للمسلمين، فقد كانوا مع الأعداء دائماً ضد المسلمين كما حصل في أيام التتار وغزو بلاد المسلمين، قال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10]. وقد رأينا وسمعنا وقرأنا عبر وسائل الإعلام ما يحصل لإخواننا أهل السنة في بلاد الشام من قتل، وسجن، وتعذيب، وانتهاك للحرمات، وتمزيق المصاحف، وضرب المساجد على أيدي النظام النصيري الحاقد، وما مجازر المسلمين في سجن تدمر وحماة وغيرها من بلاد الشام والتي قُتل فيها الآلاف من المسلمين؛ أكبر شاهد على جرائمهم الخبيثة، وحقدهم على الإسلام والمسلمين.

وقد اتفق علماء الإسلام على كفر النصيرية، وأنه لا تجوز مناكحتهم، ولا تحل ذبائحهم، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هم أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والإفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر، ولا نهي، ولا ثواب، ولا عقاب، ولا جنة، ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى اللهُ عليه وسلم، ولا بملة من الملل السابقة، وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض، ولا يحل لأحد من المسلمين أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بأمر الله ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والتعاون على كشف شرهم، وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]» (¬2). وقال في موضع آخر: «وهذه الطائفة الملعونة استولت على ¬

(¬1) الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة تأليف الشيخ ناصر القفاري، والشيخ ناصر العقل ص: 136 - 140. (¬2) الفتاوى (35/ 145 - 160) بتصرف.

جانب كبير من بلاد الشام (وهم) معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضاً في هذا الزمان، لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية، فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جداً» (¬1). اهـ. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الفتاوى (35/ 147 - 148).

الكلمة الثالثة والخمسون: التحذير من الغفلة

الكلمة الثالثة والخمسون: التحذير من الغفلة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فمن الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله: الغفلة، قال تعالى عن الكفار: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون (7)} [الروم: 7]، وقال تعالى عن فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون (92)} [يونس: 92]، وقال تعالى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون (7) أُوْلَئِكَ مَاوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (8)} [يونس: 7 - 8]. قال ابن فارس: «الغفلة غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالاً وإعراضاً كما في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون (1)} [الأنبياء: 1]» (¬1). وقد نهى الله تبارك وتعالى نبيه عن الغفلة، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين (205)} [الأعراف: 205]. ¬

(¬1) مقاييس اللغة (4/ 386) بتصرف.

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. وقد تكون الغفلة عن الله عقوبة من الله للعبد على معصيته، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون (108)} [النحل: 108]. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي اللهُ عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» (¬1). قد يقول قائل: ما هي أسباب الغفلة حتى يجتنبها المؤمن؟ أقول: إن من هذه الأسباب: أولاً: الانقطاع الكثير عن زيارة القبور، وتذكر الموت والدار الآخرة: قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر (2)} [التكاثر: 1 - 2]. قال ابن كثير رحمه الله: «أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور (185)} [آل عمران: 185]» (¬2). ¬

(¬1) برقم 865. (¬2) تفسير ابن كثير (14/ 442).

روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ - يَعْنِي الْمَوْتَ -» (¬1). وروى مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» (¬2). فينبغي للمؤمن أن يكون على استعدادٍ للقاء ربه وألا يكون في غفلةٍ فإن أمامه أهوالاً وأموراً عظيمةً فهناك الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والنفخ في الصور، والبعث بعد الموت، وعرصات يوم القيامة، والصراط، والميزان، وغير ذلك من الأهوال العظيمة، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد (22)} [ق: 20 - 22]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ (¬3) تَجْأَرُونَ (¬4) إِلَى اللَّهِ» (¬5). ¬

(¬1) برقم 2307 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 266) برقم 1877. (¬2) برقم 976 وابن ماجه برقم 1569 واللفظ له. (¬3) الصعدات: قال ابن الأثير (3/ 29) هي الطرق وهي جمع صُعُد، وصُعُدُ جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات، وقيل: هي جمع صُعْدة كظلمة وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه. (¬4) تجأرون: قال في النهاية (1/ 232) الجؤار: رفع الصوت والاستغاثة، جأر يجأر. (¬5) (35/ 405) برقم 21516، وقال محققوه حسن لغيره وأصله في صحيح البخاري برقم 6637.

قال الشاعر: أَمَا والله لَوْ عَلِمَ الأنَامُ ... لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا ونَامُوا لَقَدْ خُلِقُوا لأَمْرٍ لَوْ رَأَتْهُ ... عُيُون قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ ... وتَوْبِيخُ وأَهْوَالٌ عِظَامُ لِيَوْمِ الحَشْرِ قَدْ عَمِلَتْ رِجَالٌ ... فَصَلَّوا مِنْ مَخَافَتِهِ وصَامُوا ثانياً: الانغماس في المباحات، والانشغال بالدنيا وشهواتها وملذاتها والسعي في التجارات وجني الأرباح، روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتُتِنَ» (¬1). ثالثاً: الانقطاع عن مجالس الذكر وعدم المحافظة على الأذكار الشرعية في الصباح والمساء وعند دخول المسجد والخروج منه وعند الدخول إلى المنزل والخروج منه وغير ذلك من المواضع، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِين (205)} [الأعراف: 205]. قال ابن القيم رحمه الله: «على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله» (¬2)، وقال أيضاً: «إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليختر العبد أعجبها إليه وأولاها به، ¬

(¬1) برقم 2256 وقال الترمذي حديث حسن (صحيح) غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 255) برقم 1840. (¬2) الوابل الصيب ص: 95.

فهو مع أهله في الدنيا والآخرة» (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث يسيرة رضي اللهُ عنها وكانت من المهاجرات، قالت: قال لنا رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفَلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ» (¬2). رابعاً: الانقطاع عن بيوت الله وهجر صلاة الجماعة وقراءة القرآن، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال (36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار (37)} [النور: 36 - 37]. وقال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: 30]. روى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ» (¬3). والمراد بهذا الحديث صلاة الليل وتعاهد القرآن حتى لا يكون من الغافلين. الخلاصة: أن من أراد أن ينجو من الغفلة: فعليه تجنب الأسباب ¬

(¬1) الوابل الصيب ص: 99. (¬2) (45/ 35) برقم 27089 وقال محققوه إسناده محتمل للتحسين. (¬3) صحيح ابن خزيمة (2/ 181) برقم 483 والحاكم في المستدرك (2/ 257) برقم 2085 واللفظ له وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 245) برقم 642.

السابقة، والإكثار من ذكر الله حتى يكون من الذاكرين، ومن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة والخمسون: محظورات الإحرام

الكلمة الرابعة والخمسون: محظورات الإحرام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن من أراد العمرة أو الحج فإن عليه أن يتجنب محظورات الإحرام، والمقصود بها الأشياء التي تحرم بالدخول في النسك، وهي: أولاً: إزالة الشعر من الرأس بحلق أو غيره: وألحق به جمهور أهل العلم شعر بقية الجسد لأن كل ذلك أخذه من التَّرَفُّهِ، ومن الأَدِلَّةِ على ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وأما اللحية فإن حلقها حرام في حال الإحرام وغيره لما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» (¬1). ثانياً: تقليم الأظافر: قال ابن المنذر في الإجماع، وأجمعوا على أن المُحْرِمَ ممنوعٌ من أَخْذِ أَظْفَارِهِ (¬2)، وقال ابن كثيرٍ في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «هو وضع ¬

(¬1) برقم 5893 وصحيح مسلم 259 واللفظ له. (¬2) الإجماع ص: 57.

الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك» (¬1)، وألحقه جمهور العلماء بحلق الشعر بجامع التَّرَفُّهِ. ثالثاً: استعمال الطيب بعد الإحرام: فَيُمْنَعُ المُحْرِمُ من استعمال الطِّيبِ في بَدَنِهِ، أو ثوبه، لحديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما في الصحيحين فيما يُمنع منه المحرم من اللباس وفيه: «وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ» (¬2)، وحديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن رجلاً كان مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَاسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» (¬3). فهذه الأحاديث تدل على أن المحرم لا يستعمل الطيب في حال إحرامه لأنه من الترفه، وله قبل الإحرام أن يستعمل الطيب في بدنه دون لباسه ولا يضره بقاء ذلك بعد إحرامه وهذا يدخل تحت قاعدة: «يجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء»، ويدل لذلك حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّه صلى اللهُ عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» (¬4). ولحديثها الآخر: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» (¬5). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 48). (¬2) برقم 1542 وصحيح مسلم برقم 1177. (¬3) برقم 1851 وصحيح مسلم برقم 1206. (¬4) برقم 1538 وصحيح مسلم برقم 1189. (¬5) برقم 271 وصحيح مسلم برقم 1190.

رابعاً: تغطية المحرم رأسه ووجهه بملاصق: للحديث السابق فيما يمنع المحرم من اللباس وفيه: «وَلَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ» (¬1)، وحديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما في الذي وقصته ناقته وهو محرم قال: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَاسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» (¬2). وأما الاستظلال بغير ملاصق كالشمسية، وسقف السيارة، أوالخيمة، أوغير ذلك فلا حرج فيه، ففي صحيح مسلم أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَبِلَالًا رضي اللهُ عنهما كَانَا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَثْنَاءَ رَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ وَالآخَرُ رَافِعٌ ثَوبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ (¬3). ولحديث جابر رضي اللهُ عنه في صفة حج النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وفيه: أنه صلى اللهُ عليه وسلم نزل في القبة التي ضُربت له بنمرة حتى زاغت الشمس (¬4). خامساً: لبس المخيط: فلا يجوز للذَّكَر أن يلبس مخيطاً على جملته، يعني على هيئته التي فُصِّلَ وَخِيطَ عَلَيهَا كالقميص، أو على بعضه كالفانلة والسراويل والخفين والجوربين لقول النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا السَّرَاوِيلَ» (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1542 وصحيح مسلم برقم 1117. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) برقم 1298. (¬4) صحيح مسلم برقم 1218. (¬5) صحيح البخاري برقم 134 وصحيح مسلم برقم 1177.

إلا إذا لم يجد إزاراً جاز له لبس السراويل، وكذا من لم يجد نعلين جاز له لبس الخفين من غير قطع لحديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما الثابت في الصحيحين أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَاراً فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ» (¬1). ويحرم على المرأة المحرمة أن تلبس مخيطاً لوجهها كالبرقع، والنقاب، أو ليديها، كالقفازين لقول النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسِ الْقُفَّازَيْنِ» (¬2)، والقُفَّازان هما ما يخاط أو ينسج من الصوف، أو القطن، أو غيرهما على قدر اليدين، ويُباح لها من المخيط ما سوى ذلك كالقميص والسراويل والخفين والجوارب ونحو ذلك، وكذلك يباح لها سدل خمارها على وجهها إذا احتاجت إلى ذلك بلا عصابة، وإن مس الخمار وجهها فلا شيء عليها لحديث فاطمة بنت المنذر أنها قالت: «كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ، وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ» (¬3). سادساً: قتل صيد البر: لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1]، وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. ¬

(¬1) برقم 5852 وصحيح مسلم برقم 1177. (¬2) صحيح البخاري برقم 1838. (¬3) موطأ مالك ص: 213 حديث رقم 973 وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 104) برقم 1711 وصححه ووافقه الذهبي وقال محققه سنده صحيح.

وهذه الآيات تدل على أن المحرم من حين دخوله في الإحرام بالحج أو العمرة إلى تحلله يجب عليه الامتناع من قتل صيد البر، بل لا يجوز له المساعدة في قتله ولا دلالة غير المحرم عليه، لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ بَعضِ الصَّحَابَةِ فِي سَفَرٍ وَهُم مُحرِمُونَ، وَهُوَ غَيرُ مُحرِمٍ، فَرَأَوا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ عَلَيهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَاناً، وَأَكَلُوا مِنهَا، وَفِيهِ: ثُمَّ قُلنَا: أَنَأكُلُ لَحْمَ صَيدٍ وَنَحنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ »، قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» (¬1). سابعاً: عقد النكاح أو الخطبة: فلا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره بولاية ولا وكالة ولا يخطب النساء، لما ثبت عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ» (¬2). ثامناً: وطء يوجب الغسل: لقوله تعالى: {فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، والرفث: هو الجماع كما في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187]. فمن جامع قبل التحلل الأول متعمداً فسد نسكه. تاسعاً: المباشرة فيما دون الفرج قبل التحلل الأول بتقبيل أو غيره: وفي هذه الحالة لا يفسد نسكه ولكن قد ارتكب مُحَرَّماً ويجب ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1824 وصحيح مسلم برقم 1196. (¬2) صحيح مسلم برقم 1409.

عليه التوبة والاستغفار، وأوجب بعض أهل العلم الفدية عليه. ومن فعل إحدى المحظورات الخمس السابقة فإن حاله لا يخلو من ثلاث: الأول: أن يفعل المحظور بلا عذر ولا حاجة، فهذا آثم وعليه الفدية. الثاني: أن يفعل المحظور لحاجة إلى ذلك، فعليه الفدية ولا إثم عليه، لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. ولما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كعب بن عجرة رضي اللهُ عنه: أن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ القَمْلُ، فَقَالَ: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ »، قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (¬1). الثالثة: أن يفعل المحظور: إما جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً، فلا إثم عليه، ولا فدية لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286]. وفي الحديث عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬2)، ¬

(¬1) برقم 1817 وصحيح مسلم برقم 1201. (¬2) سنن ابن ماجه برقم 2045 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 348) برقم 1664.

لكن متى زال العذر فعلم بالمحظور، أو ذكره، أو زال إكراهه، أو استيقظ من نومه وجب عليه التخلي عن المحظور فوراً. أما بقية المحظورات الأربعة الباقية فإنها تختلف بحسب كل حالة وهذه تراجع في كتب الفقه ففيها تفصيل ذلك (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) التحقيق والإيضاح للشيخ ابن باز ص: 33 - 39، صفة الحج للشيخ ابن عثيمين ص: 33 - 37، تبصير الناسك بإحكام المناسك للشيخ عبد المحسن البدر ص: 49 - 65، والعمرة والحج والزيارة للشيخ سعيد القحطاني ص: 80 - 91، وكيف يحج المسلم ويعتمر للشيخ عبد الله الطيار ص: 42 - 45.

الكلمة الخامسة والخمسون: فضل العمرة وصفتها

الكلمة الخامسة والخمسون: فضل العمرة وصفتها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على فضل العمرة وأنها من مكفرات الذنوب، وأما وجوبها فقد اختلف أهل العلم في ذلك، ومن أدلة القائلين بالوجوب: ما رواه الإمام أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة رضي اللهُ عنها قالت: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» (¬1). قال ابن خزيمة: قوله في الحديث: «عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ» بيانٌ أن العمرة واجبة كالحج، إذ ظاهر قوله «عَلَيْهِنَّ» أنه واجب إذ غير جائز أن يقال: «على المرء ما هو تطوع غير واجب» (¬2). ومنها ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث عمر ابن الخطاب رضي اللهُ عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم في سؤال جبريل إياه عن الإسلام فقال: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ¬

(¬1) (42/ 198) برقم 25322 وقال محققوه إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2) (صحيح ابن خزيمة (4/ 359).

وأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ، وتَحُجَّ وتَعْتَمِرَ، وتَغْتَسِلَ مِنَ الجَنَابَةِ، وأَنْ تُتِمَّ الوُضُوءَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: صَدَقْت» (¬1). ومما يدل على فضل العمرة ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» (¬2). ومنها ما رواه النسائي من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» (¬3). وصفة العمرة أن يُحْرِمَ المعتمرُ من الميقات سواء كان ذلك عن طريق البحر، أو الجو، أو البر، ومن كان من دون هذه المواقيت أَحْرَمَ من موضعه كأهل جدة أو بحرة أو غيرها. وإذا كان المعتمر عن طريق الجو وخشي من تجاوز الميقات أحرم قبله بمدة كافية ليتيقن أنه أحرم عند الميقات أو قبله، ويستحب له أن يغتسل كما يغتسل للجنابة ويتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته، ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين، والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير ألا ¬

(¬1) (4/ 356) برقم 3065 وسنن الدارقطني (2/ 283) برقم 207 وقال هذا إسناد ثابت صحيح. (¬2) صحيح البخاري برقم 1773 وصحيح مسلم برقم 1349. (¬3) برقم 2630 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 558) برقم 2467.

تتبرج بزينة، ثم يصلي الفريضة إن كان وقت فريضة، ليحرم بعدها، فإن لم يكن وقت فريضة ووافق صلاة التطوع أحرم بعدها. ثم إذا فرغ من الصلاة نوى الدخول في العمرة فيقول: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ (¬1)، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً ... ». يرفع الرجل صوته بذلك وتخفيه المرأة، فقد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ» (¬2). وروى ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: حَجَّ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى رَحلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَربَعَةَ دَرَاهِمَ أَو لَا تُسَاوِي، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حِجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ» (¬3). ويستمر على هذه التلبية حتى تكون شعاره حتى يبدأ الطواف بالبيت، ثم يمسك عن التلبية ليتفرغ للاشتغال بأذكار الطواف والسعي وغيرها، ومن تيسر له الاغتسال قبل دخول مكة فإنه يستحب له ذلك، لما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث نافع عن ابن عمر رضي اللهُ عنهما: «أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ أَدنَى الحِلِّ أَمسَكَ عَنِ التَّلبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوَى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1549 وصحيح مسلم برقم 1184. (¬2) برقم 1814 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 341) برقم 1599. (¬3) برقم 2890 وأصله في صحيح البخاري برقم 1517، وفيه: «حج النبي صلى اللهُ عليه وسلم على رحل وكانت زاملته»، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2617.

أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَفعَلُ ذَلِكَ» (¬1). وله أن يدخل مكة من أي طريق شاء لقوله صلى اللهُ عليه وسلم: «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» (¬2)، والنبي صلى اللهُ عليه وسلم دخلها من أعلاها لأن الداخل يأتي من قِبَلِ وَجْهِهَا، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي اللهُ عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لَمَّا جَاءَ مَكَّةَ، دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا» (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إذا أتى مكة جاز أن يدخل مكة من جميع الجوانب، لكن الأفضل أن يأتي من وجه الكعبة اقتداء بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم فإنه دخلها من وجهها من الناحية العليا التي فيها اليوم باب المعلاة» (¬4). ويستحب له إذا أراد الدخول للمسجد الحرام أن يقدم رجله اليمنى ويقول: «بِسْمِ اللهِ .. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ .. » (¬5)، «اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» (¬6)، ويقول: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (¬7). ¬

(¬1) برقم 1573 وصحيح مسلم برقم 1259 واللفظ للبخاري. (¬2) سنن ابن ماجه برقم 3048 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 180) برقم 2473. (¬3) برقم 1577 وصحيح مسلم برقم 1258. (¬4) الفتاوى (26/ 119). (¬5) ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم 88 وحسنه الألباني في الكلم الطيب برقم 63. (¬6) صحيح مسلم برقم 713. (¬7) سنن أبي داود برقم 466 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 93) برقم 441 والكلم الطيب برقم 65.

وهذا الدعاء يقال في جميع المساجد، ولم يثبت عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم عند رؤية الكعبة دعاء خاص، فيدعو بما تيسر وإن دعا بدعاء أمير المؤمنين عمر رضي اللهُ عنه: اللَّهُمَّ أَنتَ السَّلَامُ، وَمِنكَ السَّلَامُ، فَحيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ (¬1)، فحسن لثبوته عنه. ثم يبادر إلى الحجر الأسود ويُقبله إن استطاع وإلا فيستلمه بيده أو عصا، وَيُقَبِّلُ ما استلمه منه، فإن شق ذلك فإنه يستقبل الحجر ويشير إليه بيده ويقول: «الله أكبر» وثبت عن ابن عمر موقوفاً عليه أنه كان يسمي ويكبر (¬2)، ويجعل الكعبة عن يساره أثناء الطواف، فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنهما قال: «لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ» (¬3)، فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه، ويسن له أن يستلمه بيمينه، فإن لم يستلمه فإنه يتركه ويمضي، ولا يشير إليه، ولا يكبر لعدم ورود ذلك عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم. ولا تُقبَّل جدران الكعبة وبقية أركانها ولا تستلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنه لا يتمسح به ولا يقبله، بل ليس في الدنيا ¬

(¬1) سنن البيهقي (5/ 72) وحسنه الألباني في مناسك الحج والعمرة ص: 20. (¬2) سنن البيهقي (5/ 79) وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 247) سنده صحيح. (¬3) صحيح البخاري 1609 وصحيح مسلم برقم 1267.

من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر رضي اللهُ عنه قال: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنفَعُ، وَلَولَا أَنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (¬1). ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبِّل الرجل أو يستلم ركني البيت اللَّذَين يليان الحَجَرَ ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين» (¬2). وقد حُفِظَ عنه صلى اللهُ عليه وسلم أنه كان يقول بين الركنين اليماني والأسود: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (¬3). ثم يبدأ بالطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحِجْر سبعة أشواط من الحَجَرِ إلى الحَجَر شوط، يضطبع (¬4) فيها كلها، ويرمل في الأشواط الثلاثة الأول منها، من الحجر إلى الحجر، ويمشي في سائرها (¬5)، وليس للطواف ذكر خاص، فله أن يقرأ من القرآن أو الذكر ما شاء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية» (¬6). ¬

(¬1) برقم 1610 وصحيح مسلم برقم 1270. (¬2) الفتاوى (27/ 79). (¬3) سنن أبي داود برقم 1892 وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 354) برقم 1666. (¬4) الاضطباع أن يُدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على يساره ويبدي منكبه الأيمن، ويغطي الأيسر. (¬5) صحيح مسلم برقم 1218. (¬6) منسك شيخ الإسلام شرح الشيخ ابن جبرين (ص: 83 - 84).

فإذا فرغ من طوافه انطلق إلى مقام إبراهيم وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وصلى خلف المقام ركعتين، ويسن له أن يقرأ في الركعتين بعد الفاتحة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1)} في الركعة الأولى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} في الركعة الثانية (¬1)، فإذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصب على رأسه، فقد قال صلى اللهُ عليه وسلم عن زمزم: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، وَهِيَ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ» (¬2)، ثم يرجع إلى الحجر الأسود فيكبر ويستلمه على التفصيل المتقدم، لما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي اللهُ عنه في صفة حجة النبي صلى اللهُ عليه وسلم ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون، ثم رجع إلى الركن فاستلمه (¬3). ثم ينطلق ليسعى بين الصفا والمروة، فإذا دنا من الصفا قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيم (158)} [البقرة: 158]. ويقول: نبدأ بما بدأ الله به، ثم يصعد على الصفا فيستقبل الكعبة فيوحد الله ويكبره، فيقول: «اللهُ أَكْبَرْ، اللهُ أَكْبَرْ، اللهُ أَكْبَرْ (ثلاثاً) لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 1218. (¬2) البيهقي في السنن الكبرى (5/ 147) برقم 9939 وصححه الألباني في الصحيحة برقم 1056. (¬3) برقم 1218.

وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ ... لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحْدَهُ (ثلاثاً) ... ويدعو بين ذلك» (¬1)، ثم يمشي إلى العَلَم (الموضوع) عن اليمين واليسار وهو المعروف بالميل الأخضر، ثم يسعى منه سعياً شديداً إلى العلم الآخر الذي بعده، لما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل وفيه: «ثُمَّ نَزَلَ إِلَى المَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى» (¬2). وقال بعض أهل العلم: إن المرأة لا يشرع في حقها الإسراع. ثم يمشي حتى يأتي المروة فيرتقي عليها ويصنع فيها ما صنع على الصفا من استقبال القبلة والتكبير والتوحيد والدعاء فهذا شوط، ثم يعود حتى يرقى على الصفا يمشي موضع مشيه، ويسعى موضع سعيه وهذا شوط ثان، وهكذا حتى يتم له سبعة أشواط، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة، ويجوز أن يطوف بينهما راكباً لأن النبي صلى اللهُ عليه وسلم ابتدأ السعي ماشياً، فلما كثر عليه الناس ركب .. ويستحب له الإكثار من الذكر والدعاء بما تيسر ولو دعا في السعي بقوله: «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ»، فحسن لثبوته عن بعض الصحابة (¬3). فإذا انتهى من الشوط السابع على المروة قص شعر رأسه، أو ¬

(¬1) صحيح مسلم 1218. (¬2) برقم 1218. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 632) الأول 15790 والثاني 15791، عن ابن مسعود وابن عمر قال الألباني في مناسك الحج والعمرة بإسنادين صحيحين ص: 28.

حلق إذا كان بين عمرته وحجه فترة كافية يطول الشعر خلالها، ولا بد في التقصير من تعميم جميع جوانب الرأس، وأما المرأة فإنها تقصر من كل ضفيرة قدر أنملة، والأنملة هي رأس الأصبع. وبذلك تنتهي العمرة، وحل للمحرم ما حرم عليه بالإحرام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السادسة والخمسون: شروط وجوب الحج

الكلمة السادسة والخمسون: شروط وجوب الحج الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ من فرائضه العِظَام، وفضائله كثيرة ويجب على كل مسلم في العمر مرة واحدة. وقرَّر أهل العلم أن الحج يجب بخمسة شروط: الشرط الأول: الإسلام: فالكافر والمشرك لا يصح حجهما ولا يُمَكَّنُ من دخول المسجد الحرام، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: «أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ: أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» (¬1). الشرط الثاني: العقل: فالمجنون لا يؤمر بالحج والعمرة ولا يصحان منه لو أتى بهما لفقده عقله، روى أبو داود في سننه مِن ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1622)، و «صحيح مسلم» (برقم 1347).

حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» (¬1). الشرط الثالث: البلوغ: فلا يجب الحج على الصبي حتى يبلغ للحديث السابق، ولكن لو حج الصبي صح حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام، لِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ امرَأَةً رَفَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ» (¬2)، وَلِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيهِ حِجَّةٌ أُخرَى، وَأَيُّمَا عَبدٍ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيهِ حِجَّةٌ أُخرَى» (¬3). قال الترمذي: «وقد أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك لا تجزي عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذلك المملوك إذا حج في رِقِّهِ ثم أُعْتِقَ فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلًا، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رِقِّهِ، وهو قول سفيان، الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق» (¬4). الشرط الرابع: كمال الحرية: فلا يجب الحج على المملوك، ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4403)، وقال الألباني: صحيح كما في «الإرواء» (2/ 4) (برقم 297). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1336). (¬3) أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (4/ 349)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 144) (برقم 1812). وقال الحافظ في «الفتح» (4/ 71): إسناده صحيح. (¬4) «سنن الترمذي» (ص: 169).

ولكنه لو حج فحجه صحيح، ولا يجزئه عن حجة الإسلام، لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم في حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما السابق: «وَأَيُّمَا عَبدٍ حَجَّ ثُمَّ عُتِقَ فَعَلَيهِ حِجَّةٌ أُخرَى» (¬1). الشرط الخامس: الاستطاعة: فالحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلًا بنص القرآن والسنة، والمراد بالمستطيع القادر ببدنه وماله لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. فمن عجز عن الحج والعمرة لهرم أو مرض لا يُرجَى بُرؤُهُ، أو كان قادرًا ببدنه وليس عنده مال يحج به أو يعتمر لم يجبا عليه، ومن عجز ببدنه وعنده مال لزمه أن ينيب من يحج عنه ويعتمر. والنيابة في الحج والعمرة مشروعة لِحَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ، قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» (¬2). وَلِحَدِيثِ الفَضلِ بنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَن أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» (¬3). ¬

(¬1) تقدَّم تخريجه. (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 930)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1513)، و «صحيح مسلم» (برقم 1334).

ومن مات وهو لم يَحُجَّ وله مال، أُخرِجَ من تَرِكَتِهِ ما يُحَجُّ به عنه، ولغيره أن يحج عنه لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ رضي اللهُ عنه، وفيه: أَنَّ امرَأَةً مَاتَتْ أُمُّهَا، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَتْ: «إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا» (¬1). وتزيد المرأة شرطًا سادسًا: وهو وجود محرمٍ أو زوجٍ يرافقها إلى الحج، لما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلْ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ؟ فَقَالَ: اخْرُجْ مَعَهَا» (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1149). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1862)، و «صحيح مسلم» (برقم 1341). انظر: «تبصير الناسك بأحكام المناسك» للشيخ عبد المحسن البدر، و «العمرة والحج والزيارة» للشيخ سعيد بن علي القحطاني.

الكلمة السابعة والخمسون: صفة الحج وواجباته

الكلمة السابعة والخمسون: صفة الحج وواجباته الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد وردت النصوص الدالة على فضل الحج وأنه من مكفرات الذنوب، ومنها قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» (¬1)، والحج المبرور هو الذي يجتمع فيه ثلاثة أمور: الأول: الإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والثاني: أن يكون وفق السنة لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «لِتَاخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» (¬2)، والثالث: سلامته مما يفسده أو ينقصه. وصفته على سبيل الاختصار: 1 - إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، استحب للذين أحلوا بعد العمرة وهم المتمتعون أن يُحرِموا بالحج ضحى من محالِّهم، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة، أما القارن والمفرد الذين لم يحلوا من إحرامهم فهم باقون على إحرامهم الأول. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1773)، و «صحيح مسلم» (برقم 1349). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1297).

أما الحجاج الذين قدموا إلى مكة اليوم الثامن، فلا بد أن يُحرِموا من الميقات، وهذا واجب من واجبات الحج، لِقَولِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» (¬1). والمقصود بالإحرام: هو نية الدخول في النسك وهو ركن من أركان الحج، فمن ترك هذه النية لم ينعقد حجه، لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (¬2). سواء كان الميقات عن طريق الجو، أو البحر، أو البر، ومن كان من دون هذه المواقيت أحرم من موضعه كأهل جدَّة، أو بحرة، أو غيرها، وإذا كان الحاج عن طريق الجو وخشي من تجاوز الميقات أحرم قبله بمدة كافية ليتيقن أنه أحرم عند الميقات أو قبله، ويستحب له أن يغتسل كما يغتسل للجنابة ويتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته، ويلبس إزارًا ورداءً أبيضين، والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير ألا تتبرج بزينة، ثم يصلي الفريضة إن كان وقت فريضة ليحرم بعدها، فإن لم يكن وقت فريضة، ووافق صلاة التطوع أحرم بعدها، ثم إذا فرغ من الصلاة نوى الدخول في الحج. 2 - ثم يقول: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا» يرفعُ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1524)، و «صحيح مسلم» (برقم 1181). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1)، و «صحيح مسلم» (برقم 1907).

الرجل صوته بالتلبية وتخفيه المرأة، ويسن الإكثار من التلبية ولا يقطعها حتى يرمي جمرة العقبة يوم العيد. 3 - ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصر الرباعية إلى ركعتين ولا يجمع، والمكوث في منى اليوم الثامن سنة. 4 - فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار إلى عرفة فينزل بنمرة إن تيسر له إلى الزوال وإلا نزل بعرفة، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم تفرغ لذكر الله ودعائه يستقبل القبلة في ذلك ولو كان الجبل خلفه حتى تغرب الشمس، والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لأن الله قال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}، فإن الإفاضة من عرفة إنما تكون بعد الوقوف وهو الركن الذي يفوت الحج بفواته لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» (¬1). قَالَ ابنُ المُنذِرِ: «وَأَجمَعُوا عَلَى أَنَّ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَرضٌ، لَا حَجَّ لِمَنْ فَاتَهُ الوُقُوفُ بِهَا» (¬2). وذكر أهل العلم أن مَنْ فَاتَهُ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ يوم التاسع وليلة ¬

(¬1) «سنن ابن ماجه» (برقم 3015)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم، إلا بكير بن عطاء وهو ثقة. (¬2) «الإجماع لابن المنذر» (ص: 64).

العيد، فليس له حج وعليه أن يجعل نسكه عمرة ويقضي حجه. أَمَّا الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إلى غروب الشمس لمن وقف بها نهارًا، فهو واجب من واجبات الحج، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: فِي صِفَةِ حِجَّتِهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَفِيهِ: «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ» (¬1)، وَقَدْ قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «لِتَاخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» (¬2). 5 - فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة فصلى بها المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين ويبيت بها، فإذا صلى الفجر اشتغل بذكر الله ودعائه حتى يسفر جدًّا، والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج لأن الله عزَّ وجلَّ قال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. والمشعر الحرام مزدلفة، ولأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم بات بها حتى أصبح ورخص للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة إلى منى في آخر الليل، والترخيص منه صلى اللهُ عليه وسلم لهم يدل على وجوب المبيت؛ لأنه لو لم يكن واجبًا لم يحتج فيه إلى الترخيص. 6 - فإذا أسفر جدًّا سار إلى منى، فإذا وصل إليها بدأ برمي جمرة العقبة وهي أقرب الجمرات إلى مكة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، كل حصاة فوق الحمصة قليلًا ويكبر مع كل حصاة بخشوع وتعظيم لله تعالى. ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1218). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1297).

والرمي يوم النحر قبل الزوال أو بعده إلى الليل لِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُسْأَلُ يَومَ النَّحرِ بِمِنًى فَيَقُولُ: لَا حَرَجَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ: اذْبَحَ لَا حَرَجَ، فَقَالَ رَجُلٌ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ قَالَ: لَا حَرَجَ» (¬1). 7 - فإذا فرغ من رميها نحر هديه، وهو شاة أو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة، وهو واجب على المتمتع والقارن، لِقَولِهِ تَعَالَى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]. وإذا عجز عن الهدي وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويستحب أن يأكل من الهدي ويهدي ويتصدق، لِقَولِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير} [الحج: 28]. ويمتد وقت الذبح على الصحيح إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر من أيام التشريق، ويجوز له أن ينحر في أي مكان آخر من منى وكذلك في مكة، لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ، وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ» (¬2). 8 - فإذا فرغ من نحر هديه حلق رأسه كله أو قصره، والحلق أفضل إلا المرأة فتقصر من رأسها بقدر أنملة، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم دَعَا بِالرَّحمَةِ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1735)، و «صحيح مسلم» (برقم 1306). (¬2) «سنن ابن ماجه» (برقم 3048)، وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (2/ 180) (برقم 2473).

وَالمَغفِرَةِ لِلمُحَلِّقِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلِلمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً (¬1). وبعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير، يباح للمحرم كل شيء حُرِّم عليه بالإحرام إلا النساء، ويُسمى هذا التحلل الأول، فإذا تحلل التحلل الأول استحب له أن يتطيَّبَ، لِقَولِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» (¬2). 9 - ثم ينزل إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [الحج: 29]. ولما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عِندَمَا حَاضَتْ صَفِيَّةُ قَالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ؟ قَالَ: فَلَا إِذًا» (¬3). وفي رواية مسلم: «لَا بَاسَ انْفِرِي» (¬4). فدل ذلك على أن هذا الطواف لا بدَّ منه وأنه حابس لمن لم يأتِ به، قال ابن قدامة: «وهو ركن من أركان الحج لا يتم إلا به لا نعلم فيه خلافًا، ولأن الله عزَّ وجلَّ قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (¬5) [الحج: 29]. ولا يشرع الرمل والاضطباع في طواف الإفاضة فإنهما ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1727)، و «صحيح مسلم» (برقم 1301). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1539)، و «صحيح مسلم» (برقم 1189). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1757)، و «صحيح مسلم» (برقم 1211). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 1211). (¬5) «المغني» (5/ 311).

في طواف القدوم، ثم يسعى بعد ذلك سعي الحج إن كان متمتعًا لأن سعيه الأول لعمرته، وهذا سعي الحج وهو ركن من أركانه لقول النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «اسْعَوْا، فَإِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيكُمُ السَّعْيَ» (¬1). أما القارن والمفرد فليس عليه إلا سعي واحد، فإن كان قد سعاه بعد طواف القدوم كفاه ذلك عن السعي بعد طواف الإفاضة وإلا سعى بعد طواف الإفاضة، وبعد الطواف والسعي يتحلل الحاج التحلل الثاني فيحل له كل ما أَحَلَّ الله له قبل الإحرام حتى النساء. وخلاصة ما يفعل الحاج يوم العيد ما يلي: (رمي جمرة العقبة، نحر الهدي، الحلق أو التقصير، الطواف، السعي)، والسنة أن يرتبها هكذا وإن لم يتيسر له فقدم بعضها على بعض فلا حرج. 10 - ثم يبيت بمنى ليالي أيام التشريق الثلاث للمتأخرين وليلتين للمتعجلين، لقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، ولِأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم بَاتَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشرِيقِ الثَّلَاثِ. وهذا المبيت واجب من واجبات الحج إلا على السقاة والرعاة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ العَبَّاسِ ابنِ عَبدِ المُطَّلِبِ رضي اللهُ عنه: «أَنَّهُ اسْتَاذَنَ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ» (¬2)، وَلِحَدِيثِ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ رضي اللهُ عنه: «أَنَّ ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (45/ 367) (برقم 27368)، وصحح إسناده الحافظان المزي وابن عبد الهادي. انظر: «إرواء الغليل» (4/ 270) (برقم 1072). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1634)، و «صحيح مسلم» (برقم 1315).

رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ فِي الْبَيْتُوتَةِ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ يَجْمَعُونَهُمَا فِي أَحَدِهِمَا» (¬1)، فدلَّت هذه الرخصة على أن المبيت بمنى هذه الليالي واجب على غير السقاة والرعاة، ومثلهم من تدعو الحاجة إلى بقائهم في غير منى. 11 - ثم يرمي الحاج الجمرات الثلاث في هذين اليومين بَعدَ الزَّوَالِ، وهذا الرمي واجب من واجبات الحج، ولا يجوز الرمي قبل الزوال لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لَم يَرْمِ إِلَّا بَعدَ الزَّوَالِ، ولو كان ذلك جائزًا لرمى قبل الزوال تيسيرًا على أمَّته، ولهذا قال ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما كما صحيح البخاري: «كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا» (¬2)، وَكَانَ ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما يقول: «لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ» (¬3). ويبدأ برمي الجمرة الصغرى وهي أبعد الجمرات عن مكة فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ويكبر مع كل حصاة، ولا بد أن يقع الحصى في الحوض، فإن لم يقع في الحوض لم يجز، ثم يتقدم قليلًا عن الزحام ويستقبل القبلة رافعًا يديه يدعو الله تعالى بما أحب من دعاء، ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف بعدها للدعاء كما فعل في الأولى سواء، ثم يرمي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة التي ¬

(¬1) «سنن النسائي» (برقم 3069)، وصححه الألباني في صحيح «سنن النسائي» (2/ 642) (برقم 2874). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1746). (¬3) «موطأ مالك» (برقم 1279)، وقال محققه: صحيح موقوف.

رماها يوم العيد كما في الجمرتين قبلها ولا يقف بعدها للدعاء. ثم يرمي الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال كما رماها في اليوم الأول تمامًا، ويفعل عند الأولى والثانية كما فعل في اليوم الأول من أيام التشريق، فإن شاء تأخر في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار فيه بعد الزوال وهو أفضل؛ لأنه فعل النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وفيه زيادة عمل صالح وإن شاء تعجل في يومين فخرج من منى في اليوم الثاني عشر قبل الغروب، ومن عجز عن الرمي كالكبير، والمريض، والصغير، والمرأة الحامل، ونحوهم جاز أن يوكل من يرمي عنه، لِقَولِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وينبغي أن يكثر من التكبير والذكر في تلك الأيام والليالي، لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، ولقول النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ» (¬1). 12 - إذا أنهى الحاج جميع أفعال الحج السابقة وأراد الرجوع إلى بلده، فإنه لا يخرج من مكة حتى يطوف بالبيت طواف الوداع ويجعله آخر أموره قبل سفره وهو من واجبات الحج، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم طاف للوداع عند خروجه، وَلِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ» (¬2). والترخيص للحائض في ترك طواف الوداع يدل على وجوبه، ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1141). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1755)، و «صحيح مسلم» (برقم 1328).

ومثل الحائض في ذلك النفساء، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لَمَّا حَاضَتْ صَفِيَّةُ قَالَ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّها أَفَاضَت يَومَ النَّحرِ، قَالَ: اخْرُجُوا» (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

الكلمة الثامنة والخمسون: فضائل مكة وحرمتها

الكلمة الثامنة والخمسون: فضائل مكة وحُرمَتها (¬1) الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الخالق عزَّ وجلَّ لجميع المخلوقات فَضَّلَ بعضها على بعض واختار منها ما شاء، قَالَ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون (68)} [القصص: 68]. ومن الأماكن الفاضلة التي فَضَّلَهَا الله على غيرها مكة، البلد الأمين مهبط الوحي ومنبع الرسالة، وهي البلد الذي أقسم الله به فقال: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد (2)} [البلد: 1 - 2]. قال ابن كثير: هذا قسم من الله تعالى بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالًا لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها، قال سبحانه: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين (3)} [التين: 3] (¬2). وقد وردت نصوص كثيرة في فضلها وحرمتها فمن ذلك: أن فيها بيت الله العتيق أول بيت وضع للناس، قَالَ تَعَالَى: ¬

(¬1) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ليس في الدنيا شيءٌ حَرَم إلا هذان الحرمان: حرم مكة وحرم المدينة، أما ما يقال: حرم الأقصى والحرم الإبراهيمي، فلا صحَّة ولا أصل له [«الشرح الممتع» (7/ 215)]. (¬2) «تفسير ابن كثير» (14/ 353).

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين (96)} [آل عمران: 96]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَامًا» (¬1). ومنها: أن الله جعلها حرمًا آمنًا لا يُسْفَك فيه دم، ولا تعضد به شجرة (¬2)، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه (¬3)، ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَاذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3366)، و «صحيح مسلم» (برقم 520). قال ابن القيِّم: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام، وهذا من جهل هذا القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده، ولا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق - صلى الله عليهما وسلم - بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار. «زاد المعاد» (1/ 50). (¬2) لا يعضد شجره: لا يقطع. (¬3) الخلا: النبات الرطب، واختلاؤه: قطعه.

سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» (¬1). ومن فضائلها: ما ورد في فضل الصلاة في المسجد الحرام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» (¬2). وقد بحث أهل العلم هنا مضاعفة الصلاة هل هي في الحرم كله؟ وهل سائر الحسنات كذلك؟ فأما المسألة الأولى، ففي الحديث السابق وهو قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» (¬3). ونصوص القرآن والسنة التي ذُكِرَ فيها المسجد الحرام إنما عُنِيَ به الحرم كله، كَقَولِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وقَولِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]. وإنما أُسرِيَ به من بيت أم هانئ رضي اللهُ عنها. ومن أدلة السنَّة: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لَمَّا كَانَ فِي الحُدَيبِيَةِ، كَانَ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، دَخَلَ الحَرَمَ وَصَلَّى فِيهِ (¬4). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 104)، و «صحيح مسلم» (برقم 1354). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (23/ 46) (برقم 14694)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) جزء من حديث في «مسند الإمام أحمد» (31/ 220) (برقم 18910)، وقال محققوه: إسناده حسن.

وأما المسألة الثانية: فقد وردت آثار عن السلف بالمضاعفة لجميع الأعمال الصالحة، ومن تأمَّل قول الله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الحج: 25]، أيقن أن تعظيم حرمة الحرم تدل على فضله، والمسألة طويلة البحث أشرت إليها إشارة. ومنها: أن الله أخبر أنها أم القرى كما في قَولِهِ تَعَالَى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]. فالقرى كلها تبع لها وفرع عليها. ومنها: أنها قبلة لأهل الأرض كلهم فليس على وجه الأرض قبلة غيرها، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أُسَامَةَ ابنِ زَيدٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ مِنَ البَيتِ، رَكَعَ فِي قُبُلِ البَيتِ رَكعَتَينِ، وَقَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَةُ» (¬1). ومنها: الأمن لداخل الحرم، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخُلف في خبره تعالى، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام، كما قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 398)، و «صحيح مسلم» (برقم 331) مختصرًا.

أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون (67)} [العنكبوت: 67]. وقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] (¬1). ومنها: أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر البقاع، لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم كما في الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنصَارِيِّ رضي اللهُ عنه: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا بِبَولٍ وَلَا غَائِطٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» (¬2). ومنها: أن الله اختارها لمناسك الحج وجعل القصد إليها عبادة تُرفَع بها الدرجات وتُمحَى بها السيئات، كما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (¬3). ومنها: أن مكة خير البلاد وأحبها إلى الله ورسوله صلى اللهُ عليه وسلم، فقد روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَدِيٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» (¬4). وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ ¬

(¬1) زاد المعاد (3/ 445). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 394)، و «صحيح مسلم» (برقم 264) واللفظ له. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1521)، و «صحيح مسلم» (برقم 1350). (¬4) «سنن الترمذي» (برقم 3925)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.

رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم لِمَكَّةَ: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» (¬1). ومنها: أن الله جعلها مسرى نبيه محمد صلى اللهُ عليه وسلم إلى السماء، قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير (1)} [الإسراء: 1]. ومنها: أن الرحال لا تُشَدُّ للسفر إلى غير المسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللهُ عليه وسلم والمسجد الأقصى، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى اللهُ عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (¬2). ومنها: أن الله سبحانه أضاف البيت الحرام في مكة إلى نفسه، فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26]. فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه لنفسه لكفى بهذه الإضافة فضلًا وشرفًا (¬3). ومنها: أن الله تعالى عطف القلوب إلى بيته الحرام وجعله مثابة للناس، كما قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} [البقرة: ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 3926)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1189)، و «صحيح مسلم» (برقم 1397). (¬3) «زاد المعاد» (1/ 53)، و «بدائع الفوائد» (2/ 6).

125]. أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرًا، بل كلما ازدادوا زيارة له، ازدادوا له اشتياقًا، قال الشاعر: لَا يَرجِعُ الطَّرفُ عَنهَا حِينَ يَنظُرُهَا ... حَتَّى يَعُودَ إِلَيهَا الطَّرفُ مُشْتَاقًا وكم أُنفق في حبه من الأموال والأرواح، ورضي المحب بمفارقة فَلِذ الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان؟ ! مقدِّمًا بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ويراه (¬1). اهـ. ومما يدل على فضلها ومكانتها: ما جاء في المعاقبة على الهم بالسيئة فيها وإن لم تُفعَلْ، لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم (25)} [الحج: 25]. قال الشيخ عبد الرحمن السِّعدي: «فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد موجب للعذاب وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، وفي الآية الكريمة: وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها» (¬2). وكان لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما فسطاطان: أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، وفي هذا تحذير شديد ¬

(¬1) «زاد المعاد» (1/ 51 - 52). (¬2) «تفسير الشيخ السعدي» مختصرًا (ص: 671).

لمن يرتكب المنكرات العظيمة والكبائر الموبقة في مكة كالربا، والزنا، واستعمال المخدرات ونشر القنوات الفضائية السيئة، والاستماع إلى الغناء .. وغير ذلك من المعاصي والمنكرات (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) انظر: «أحكام الحرم المكي» للشيخ سامي الصقير (ص: 21 - 24).

الكلمة التاسعة والخمسون: فضائل المدينة وحرمتها

الكلمة التاسعة والخمسون: فضائل المدينة وحُرمَتها الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن مدينة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم طيبة الطيبة، مَأرِز الإيمان، ومُلتَقَى المهاجرين والأنصار، ومُتَنَزَّل جبريل الأمين على النبي صلى اللهُ عليه وسلم. هذه المدينة المباركة قد شرَّفها الله وفضَّلها وجعلها خير البقاع بعد مكة، وقد وردت النصوص الكثيرة في فضلها، وحرمتها، ومكانتها، إخبارًا ودعاءً، وترغيبًا وترهيبًا (¬1). فمنها: أن الله جعلها حرمًا، فقد روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا، مَا بَيْنَ مَازِمَيْهَا (¬2)، أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلْفٍ» (¬3). ¬

(¬1) «فضل المدينة وآداب الزيارة»، د. سليمان الغصن (ص: 9). (¬2) المأزم: المضيق في الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض ويتسع ما وراءه، «النهاية لابن الأثير» (4/ 288). وقد يطلق على الجبل نفسه ذكره ابن حجر في «فتح الباري» (4/ 83). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 1374).

وحرم المدينة هو ما بين الحرتين شرقًا وغربًا وما بين عير إلى ثور يمنًا وشامًا، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ (¬2)» (¬3). ومنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم سَمَّاهَا طَيْبَةَ وَطَابَةَ، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنتِ قَيسٍ رضي اللهُ عنها فِي حَدِيثِ الجَسَّاسَةِ قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ يَعْنِي الْمَدِينَةَ» (¬4). وفي رواية البخاري: «هَذِهِ طَابَةُ» (¬5)، قال ابن حجر رحمه الله: «والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقها من الشيء الطيب وقيل: لطهارة تربتها، وقيل: لطيبها لساكنها، وقيل من طيب العيش بها، قال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية، لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها» (¬6). وقد حدثني من سكن المدينة سنوات أنه لم يجد الروائح ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1370). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1372). (¬3) لابتيها: قال الأصمعي: اللابة الأرض ذات الحجارة السود، قال القاضي عياض: قال ابن حبيب: اللابتان الحرتان الشرقية والغربية. «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (4/ 450). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 2942). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 1872). (¬6) «فتح الباري» (4/ 89).

الكريهة التي توجد عادة في غيرها، كما حدثني أيضًا أنه لا يوجد بها الإزعاج والصخب الذي يوجد في المدن التي يكثر بها السكان، وأنه جرى بحث هذه المسألة مع بعض أهل المدينة، فكان مما قيل في تعليل ذلك اجتهادًا: إنه ربما كان من خصوصيتها وعظيم بركة أرضها امتصاص الأصوات المزعجة ليعم السكون والهدوء والطمأنينة، وممَّا حدثني أيضًا أن أرضها وجبالها يبدو للناظر إليها حسنًا، وجمالًا، وبهاءً لا يُرَى في غيرها. ومنها: أن الإيمان يَأرِزُ إليها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَارِزُ (¬1) إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَارِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» (¬2). ومنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم حثَّ على الصبر على لأوائها وشدتها، ووعد على ذلك أعظم الثواب. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ: أَنَّهُ جَاءَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَيَالِي الْحَرَّةِ فَاسْتَشَارَهُ فِي الْجَلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَشَكَا إِلَيْهِ أَسْعَارَهَا وَكَثْرَةَ عِيَالِهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى جَهْدِ الْمَدِينَةِ وَلَاوَائِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ لَا آمُرُكَ بِذَلِكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَاوَائِهَا فَيَمُوتَ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا» (¬3). ¬

(¬1) أي: ينضم إلى المدينة ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1876)، و «صحيح مسلم» (برقم 147). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 1374).

وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَاتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ! هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ! وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (¬1). قال ابن حجر: «والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم الرسول صلى اللهُ عليه وسلم وجواره، ومهبط الوحي، ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يُسْتَحْقَرُ دونها ما يجدونه من الحظوظ الغائبة العاجلة بسبب الإقامة في غيرها» (¬2). ومنها ما جاء عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنه وصفها بأنها قَرْيَةٌ تَاكُلُ الْقُرَى، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَاكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» (¬3). والمراد بـ «تَاكُلُ الْقُرَى» أي: ينصر الله الإسلام بأهل المدينة ويفتح على أيديهم القرى، فتجلب الغنائم إلى المدينة ويأكل أهلها، وأضاف الأكل إلى القرية والمراد: أهلها (¬4). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1381). (¬2) «فتح الباري» (4/ 93). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1871)، و «صحيح مسلم» (برقم 1382). (¬4) «النهاية في غريب الحديث» لابن الأثير (1/ 434)، و «شرح السنة للبغوي» (7/ 320)، و «جامع الأصول» (9/ 320).

ومنها: ما جاء عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم من الدعاء لها بالبركة، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا» (¬1). ومن المشهور لدى الكثيرين الذين انتقلوا إلى مكة أو المدينة من مدن أخرى: أن ما يصرفونه لا يكاد يبلغ النصف مما كانوا يصرفونه في المدن التي انتقلوا منها، فهذا أمر معلوم. ومن فضائلها: أنه لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ» (¬2). ومنها: أن في المدينة مسجد الرسول صلى اللهُ عليه وسلم وهو من المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى اللهُ عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (¬3). والصلاة فيه مضاعفة، روى البخاري ومسلم في ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1374). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1880)، و «صحيح مسلم» (رقم 1379). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1189)، و «صحيح مسلم» (برقم 1397).

صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» (¬1). ومنها: أن في المدينة مسجد قباء والصلاة فيه تعدل عمرة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَاتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ، كَانَ كَعَدْلِ عُمْرَةٍ» (¬2). ومنها: فضل الروضة الشريفة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» (¬3). قال ابن حجر: «وفي الحديث إشارة إلى الترغيب في سكنى المدينة. وقوله: «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ»، أي: في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من العبادة فيها المؤدية إلى الجنة، أو أن المراد روضة حقيقية بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة» (¬4). ومنها: أن فيها جبل أحد، روى البخاري ومسلم في ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1190)، و «صحيح مسلم» (برقم 1394). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (25/ 358) (برقم 15981)، وقال محققوه: صحيح بشواهده. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1196)، و «صحيح مسلم» (برقم 1391). (¬4) «شرح صحيح مسلم» (3/ 161)، و «فتح الباري» (4/ 100).

صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» (¬1). ومنها: أن فيها وادي العقيق، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ» (¬2). ومنها: أن فيها العجوة (نوع من تمر المدينة) روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ سَعدٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللِه صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ» (¬3). ومنها: أن المدينة تنفي خَبَثَهَا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ أَعرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى الإِسلَامِ، فَأَصَابَ الأَعرَابِيَّ وَعَكٌ بِالمَدِينَةِ، فَأَتَى الأَعرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 4422)، و «صحيح مسلم» (برقم 1391). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1534). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 5445)، و «صحيح مسلم» (برقم 2047).

إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا (¬1)» (¬2). ومنها: أن من أراد أهلها بسوء أهلكه الله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةَ بِسُوءٍ، أَذَابَهُ اللهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» (¬3). وفي رواية لمسلم: «وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ، إِلَّا أَذَابَهُ اللهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ، أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ» (¬4). قال القاضي عياض: «قوله: «مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةَ بِسُوءٍ، أَذَابَهُ اللهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ»، هذه الزيادة ترفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها وأن هذا حكمه في الآخرة، ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في حياة النبي صلى اللهُ عليه وسلم بسوءٍ اضْمَحَلَّ أمره كما يَضْمَحِلُّ الرصاص في النار، فيكون في اللفظ تقديم وتأخير، ويؤيده قوله في الحديث: «كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ»، ويحتمل أن يكون المراد: لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن سلطانه، ويذهبه عن قرب، كما انقضى من شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة، وهلاكه منصرفه عنها، ثم هلاك يزيد بن ¬

(¬1) ومعنى «وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا»: أي تخلصه، والمعنى: أنها إذا نفت الخبث تميز الطيب واستقر فيها. «الفتح» (4/ 97)، و «النهاية لابن الأثير» (5/ 655). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 721)، و «صحيح مسلم» (برقم 1383). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1877)، و «صحيح مسلم» (برقم 1387) واللفظ له. (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 1363).

معاوية على إثر ذلك، وغيرهم ممن صنع مثل صنيعهم. ويحتمل أن يكون المراد: من كادها اغتيالًا وطلبًا لغرتها في غفلة، فلا يتم له أمر بخلاف من أتى ذلك جهارًا، كما استباحها مسلم بن عقبة وغيره» (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ السَّائِبِ بنِ خَلَّادٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا أَخَافَهُ اللهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا (¬2)» (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «إكمال المعلم بفوائد مسلم» للقاضي عياض (4/ 453). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (27/ 92) (برقم 16557)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬3) انظر: «فضل المدينة وآداب سكانها وزيارتها» د. عبد المحسن البدر، «الأحاديث الواردة في فضل المدينة» د. صالح الرفاعي، «فضل المدينة وآداب الزيارة» د. سليمان الغصن.

الكلمة الستون: فوائد وحكم من سورة العاديات

الكلمة الستون: فوائد وحكم من سورة العاديات الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أنزل هذا القرآن لتدبره والعمل به، فقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص: 29]. وسورةُ العادياتِ من السور القصيرة التي تتكرر على أسماعنا كثيرًا ويحفظُهُا أكثرُ المسلمينَ، ويتأكدُ فهمُ معناها وما تضمنته من الحكم العظيمة، قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد (8) أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِير (11)} [العاديات: 1 - 11]. قَولُهُ تَعَالَى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} الواو: واو القسم، والمقُسم به هو العادياتُ، وهي الخيلُ المسرعاتُ في سيرها، والضبح: صوتُ أجوافها عند جريها. قَولُهُ تَعَالَى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)} أي: أنها تُوري النارَ إذا سارت ليلًا بانقداح النار بوقع حوافرها على الحجارة لقوتها وصلابتها.

قَولُهُ تَعَالَى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} أي: الخيل تغير على العدو وقت الصباح. قَولُهُ تَعَالَى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} النقع: هو الغبار تثيره بحوافرها عند عَدْوِهَا، قال الشاعر: كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا ... وَأَسْيَافُنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ قَولُهُ تَعَالَى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} أي: أنها تعدو بالفرسان حتى تنتهي بهم ميدان المعركة ومجتمع الجيوش، قال الشاعر: فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حَاجِبٌ ... تَحتَ العَجاجَةِ فِي الغُبارِ الأَقْتَمِ قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد (8)} هذا هو جواب القسم، والكنود: الكفور الجحود لنعم الله، قاله ابن عباس، وقال الحسن: هو الذي يذكر المصائب وينسى النعم (¬1)، قال الشاعر: يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ فِي فِعْلِهِ ... وَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ ظَلَمْ إِلَى مَتَى أَنْتَ وَحَتَّى مَتَى ... تَشْكُو المُصِيبَاتِ وَتَنْسَى النِّعَمْ وحال الإنسان شاهد عليه بذلك وإن أنكره بلسانه، والخير هو المال ومحبة الإنسان له شديدة كقَولِهِ تَعَالَى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 20]. قَولُهُ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور (9)} قال ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (14/ 436).

الزمخشري: هذه الكلمة وهي {بُعْثِرَ}، مأخوذة من أصلين: البعث والنثر، فالبعث خروجهم أحياء، والنثر: الانتشار كنثر الحب، فهي تدل على بعثهم منتشرين (¬1)، كقوله {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر 7)} [القمر: 7]. وكقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث (4)} [القارعة: 4]. قَولُهُ تَعَالَى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور (10)} قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: أي: ظهر وبان ما فيها من كمائن الخير والشر فصار السر علانية والباطن ظاهرًا (¬2)، قال الشاعر: وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ إِذَا حُصِّلَتْ عِنْدَ الإِلَهِ الَحَصائِلُ قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِير (11)}. {يَوْمَئِذٍ}: أي: يوم القيامة المتقدم ذكره في قوله: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور (9)}. والخبير: هو الله تعالى، وهو أخص من العليم لأنه في ذلك يقع الجزاء على ما اشتملت عليه القلوب من الأسرار والخفايا التي لا يعلمها إلا هو، وقد جمع الله بينهما في قَولِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير (3)} [التحريم: 3]. ومن فوائد السورة الكريمة وحكمها العظيمة: أولًا: أَقْسَمَ الله تعالى بالخيل العاديات، والله لا يقسم إلا ¬

(¬1) «تتمة أضواء البيان» (9/ 248) [دار الكتب العلمية]، لعطيَّة سالم. ولم أجده في تفسير الزمخشري. (¬2) «تفسير ابن سعدي» (ص: 892).

بعظيم من مخلوقاته التي تدل على عظمته، وفي ذكر الخيل وشدتها وسرعة عدوها واقتحامها ميادين المعارك تحت بوارق السيوف تنبيهٌ إلى فضلِ الجهاد وعظيمِ مكانته. ثانيًا: الإشارة إلى إعداد الخيل للجهاد في سبيل الله، وفي الآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. وَفِي الحَدِيثِ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (¬1). ثالثًا: فيه إشارة أن ما يعانيه الفرسان المجاهدون في سبيل الله: من نقع الغبار الذي تثيره الخيل، محل عناية الله وحسن جزائه، قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا يَجتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» (¬2). رابعًا: الآيات الكريمة إشارة إلى العناية بالخيل واقتناء الجياد منها والاهتمام بتدريبها وتهيئتها لكل المهام التي يحتاج إليها فيها، ومن ذلك: تضميرها، والمسابقة بينها، وتحذيتها وقاية لها من الحفاء، وذكر القدح في الآية الكريمة يشير إلى ذلك، وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم سَابَقَ بَينَ الخَيلِ الَّتِي قَد أُضمِرَتْ فَأَرسَلَهَا مِنَ الحَفيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَينَ الخَيلِ الَّتِي لَم تُضْمَرْ فَأَرسَلَهَا مِن ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ (¬3). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2850)، و «صحيح مسلم» (برقم 1871). (¬2) قطعة من حديث في «سنن الترمذي» (برقم 1633)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 2870)، و «صحيح مسلم» (برقم 1870).

خامسًا: أن الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان وجعله محل الابتلاء، فطبعه على بعض الصفات الذميمة، وكلفه بالمجاهدة على التخلص منها وتهذيب نفسه من أوضارها، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9 - 10]. سادسًا: في الآيات الكريمة إثبات البعث بعد الموت، وأن هذه الأجساد التي بليت في القبور وصارت ترابًا سوف يحييها الله ويجازيها على ما أضمرت قلوبها، فذلك حين {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء: 88 - 89]. سابعًا: أن القلوب عليها مدار صلاح الإنسان وفساده، فإذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) أكثر مصادر هذه الكلمة: من «تفسير أضواء البيان» للشيخ عطية بن محمد سالم، تلميذ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (6/ 119 - 142).

الكلمة الواحدة والستون: الكفر وأنواعه

الكلمة الواحدة والستون: الكفر وأنواعه الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن أعظم ما أمر الله به التوحيد، وأعظم ما نهى الله عنه الشرك والكفر، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم (256)} [البقرة: 256]. والكفر ضده الإيمان وهو جحد الدين الحق، وسمي كفرًا لأن فيه سترًا للحق وجحدًا له. والكفر قسمان: كفر أكبر مخرج من الملة، وكفر أصغر لا يخرج من الملة، والكفر الأكبر أنواع منها: النوع الأول: كفر التكذيب: فمن كذَّب بالقرآن أو بشيء منه أو بسنَّة النبي صلى اللهُ عليه وسلم الثابتة عنه وهو يعلم، فهو كافر كفر أكبر يخرجه من ملة الإسلام ويحل دمه وماله، والدليل قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِين (68)} [العنكبوت: 68]. وقد بيَّن تعالى في كتابه سبب هلاك الأمم السابقة وأنه

تكذيبهم للرسل، قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِين (105)} [الشعراء: 105]. وقَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين (123)} [الشعراء: 123]. وقَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِين (141)} [الشعراء: 141]. ومن كذَّب برسولٍ واحدٍ فقد كذَّب الرسل جميعًا، ولا يكون الإيمان بهم مقبولًا حتى يؤمن بجميعهم ولا يفرق بين أحد منهم، قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير (285)} [البقرة: 285]. النوع الثاني: كفر الجحود (¬1): فالكافر عنده معرفة بالحق ويقين به، ولكن يجحده ظاهرًا إما كبرًا أو حسدًا أو طمعًا في رئاسة أو دنيا أو غيره، وعلى هذا غالب الكفار، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُون (33)} [الأنعام: 33]. وقَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. فأخبر سبحانه أنها استيقنتها أنفسهم ولكن جحدوا ظلمًا وعلوًا أي من أجل الظلم والعلو على الناس، وقال موسى عليه السلام لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَونُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء: 102]. فعلم فرعون أن ما جاء به موسى هو الحق ولكنه يتظاهر بإنكاره ظلمًا وعلوًّا وإبقاءً على ¬

(¬1) وبينه وبين النوع الأول فوارق من وجوه، انظر: «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل»، و «مدارج السالكين لابن القيِّم»، و «الخفاجي في حاشيته على كتاب الشفاء للقاضي عياض».

ملكه، ولهذا قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. والعقلاء يقرون جميعًا بأن هذا الخلق له خالق مدبر وأن فرعون لم يخلق شيئًا ولم يدبر شيئًا، فالذي حمله على ذلك الكبر والإبقاء على ملكه، ومثل ما حصل مع إبليس لعنه الله عندما أمره الله بالسجود لآدم رفض كبرًا وحسدًا لآدم، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين (34)} [البقرة: 34]. النوع الثالث: كفر الشك والظن: بأن يكون شاكًّا فيما جاءت به الرسل ويظن أنهم على غير حق، وذلك كما في قصة الرجلين، فحكى الله عن أحدهما أنه قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36]. ثم حكى الله رد الآخر عليه وهو يحاوره قال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37]. النوع الرابع: كفر الإعراض: والمراد به الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي لا يكون المرء مسلمًا حتى يتعلمه ويعمل به، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة: 22]. وقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف: 3]. فسمَّاهم كافرين لإعراضهم عما أُنذِرُوا به. النوع الخامس: كفر النفاق، والمقصود الاعتقادي، وهو على ستة أنواع: تكذيب الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، أو تكذيب بعض ما جاء به، أو بغض

الرسول صلى اللهُ عليه وسلم أو بغض بعض ما جاء به الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، أو المسرة بانخفاض دين الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، أو الكراهية لانتصار دين الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، فالمنافق في هذا القسم مؤمن الظاهر كافر الباطن، أما إيمانه الظاهر فإنه يشهد شهادة الحق، ويصلي، ويصوم، ويحج، ويجاهد، ويشارك المسلمين في شعائر الدين الظاهرة كما هو حال المنافقين في عهد النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وفي كل زمن يكون فيه الحق منصورًا، وأما كفره باطنًا فبما يخفيه من التكذيب بالحق، وإضمار العداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُون (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُون (3)} [المنافقون: 1 - 3]. أي: آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، والمنافق إنما يظهر الإيمان نفاقًا من أجل أن يعيش مع المؤمنين لأنه لا يقدر على مجابهة المؤمنين ولا يقدر على مفارقتهم فاضطر إلى أن ينافق. أما الكفر الأصغر: فهو إتيان الذنوب التي سمَّاها رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم كفرًا ولم تصل إلى الكفر الأكبر، مثل قوله صلى اللهُ عليه وسلم كما في الصحيحين مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» (¬1). فالمراد بالكفر هنا الكفر الأصغر لأن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب لكنه لا يخرج به صاحبه من الإسلام، والدليل على ذلك: أن الله عزَّ وجلَّ قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1739)، و «صحيح مسلم» (برقم 1679).

اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين (9)} [الحجرات: 9]. وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. فأخبر عن المقتتلين بأنهم مؤمنون وأنهم إخوة، فدل على أن القتل بغير حق وإن كان كبيرة وجريمة عظيمة إلا أنه لا يخرج القاتل من الإيمان إلى الكفر ما لم يستحله. ومثله كفر النعم، قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون (112)} [النحل: 112] (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) انظر: «دروس من القرآن الكريم» للشيخ صالح الفوزان (ص: 159 - 166).

الكلمة الثانية والستون: صلاة الكسوف

الكلمة الثانية والستون: صلاة الكسوف الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها زَوجِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَتْ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بِالنَّاسِ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» (¬1). وفي رواية: «إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِمَوْتِ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1044)، و «صحيح مسلم» (برقم 901).

بَشَرٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ، مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَاكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ» (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله، ينجليان بأمره، وينكشفان بأمره ورحمته، فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عقوبة معاصيهم ومخالفتهم، كسفهما باختفاء ضوئهما كله، أو بعضه، إنذارًا للعباد، وتذكيرًا لهم لعلهم يُحدِثُونَ توبةً فيقومون بما يجب عليهم من أوامر ربهم ويبتعدون عما حرم عليهم من نواهي الله عزَّ وجلَّ، ولذلك كثر الكسوف في هذا العصر فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعًا وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 904).

أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم، أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي، والغاية الأكيدة، قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُون (60)} [الذاريات: 60]. إن كثيرًا من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف، فلم يقيموا له وزنًا، ولم يحرك منهم ساكنًا وما ذاك إلا لضعف إيمانهم، وجهلهم بما جاء عن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية، وغفلتهم عن الأسباب الشرعية، والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية، فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفوا الإيمان، فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق» (¬1). اهـ. وينبغي للمؤمن عند حدوث الكسوف أن يفزع للأمور التالية: أولًا: الصلاة على الصفة المتقدم ذكرها لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ» (¬2). والسنة إطالة القراءة في الصلاة، فقد كانت قراءته صلى اللهُ عليه وسلم في الركوع الأول من الركعة الأولى ¬

(¬1) «الضياء اللامع من الخطب الجوامع» (ص: 270 - 271) مختصرًا. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 907).

قريبًا من سورة البقرة، والركوع الثاني من الركعة الأولى قريبًا من سورة آل عمران، وَتَقُولُ أَسمَاءُ رضي اللهُ عنها: «فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم الْقِيَامَ جِدًّا حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ» (¬1). وكذلك الركوع والسجود كان قريبًا من قراءته صلى اللهُ عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ» (¬2). ثانيًا: الذكر والدعاء والاستغفار، لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم في الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ رضي اللهُ عنه: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» (¬3). وفي رواية: «فَاذْكُرُوا حَتَّى يَنْجَلِيَا» (¬4). وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللهَ، وَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ» (¬5). ثالثًا: العتق والصدقة: روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَسمَاءَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ» (¬6). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 86)، و «صحيح مسلم» (رقم 905). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1045)، و «صحيح مسلم» (برقم 910). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1059)، و «صحيح مسلم» (برقم 912). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 901). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 1043)، و «صحيح مسلم» (برقم 915). (¬6) «صحيح البخاري» (برقم 1054).

وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْوهُمَا فَكَبِّرُوا، وادْعُوا اللهَ عزَّ وجلَّ وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (42/ 191) (برقم 25312)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.

الكلمة الثالثة والستون: التفكير أحواله وفوائده

الكلمة الثالثة والستون: التفكير أحواله وفوائده الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل. قال ابن القيِّم رحمه الله: «أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة، والطلب في الأخذ، والترك، والحب، والبغض، وأنفع الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أصل الأفكار ويليها أربعة، فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثانية دارت أفكار العقلاء ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه، وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة، فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام

الوقت، وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد، وبإزاء هذه الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر الخلق، كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أُعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه، أو الفكر في الشهوات والملذات وطرق تحصيلها، أو الفكر فيما لم يكن لو كان كيف يكون؟ كالفكر فيما إذا وجد كنزًا أو ملك ضيعة ماذا يصنع؟ أو غيرها من الأفكار السفل» (¬1). اهـ. ومراد ابن القيِّم رحمه الله من الكلام السابق أن الفكر على قسمين: الأول فكر في أمور الدنيا، ويشتمل على أربعة أنواع هي: الأخذ، والترك، والحب، والبغض والثاني: فكر في أمور الآخرة، ويشتمل أيضًا على أربعة أنواع: الأخذ، والترك، والحب، والبغض. - فالأخذ يكون لما في الدنيا والآخرة من الخير. - والترك لما فيهما من الشر. - والحب لما في الدنيا والآخرة من الأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة. - والبغض لما فيهما من الأعمال السيئة، والأخلاق القبيحة. فعلى هذه الأقسام الثمانية تدور أفكار الخلق جميعًا. ¬

(¬1) «الفوائد» (ص: 222 - 223).

خطوات التفكير: 1 - تدريب العقل على التفكير المثمر والمفيد، فإن كثيرًا من المشاريع والمخترعات العظيمة كانت بدايتها فكرة. 2 - تدوين الأفكار والخواطر وعدم تأجيلها، ويشمل ذلك الأفكار الجزئية والتفصيلية، فإذا لم تدون هذه التفاصيل ضاع الوقت والجهد بلا فائدة. 3 - إفراد كل فكرة مهمة بملف مستقل حتى تكتمل وتصبح واضحة، فالمرء قد يفكر في أكثر من موضوع في وقت واحد، وقد يتوقف تفكيره في موضوع ما برهة من الزمن لسبب أو لآخر ثم يعاود التفكير فيه. 4 - عرض هذه الأفكار في مراحلها الأولى على أصحاب الشأن المتخصِّصين، فقد يكون لأحدهم أثرٌ مفيدٌ في توجيه الفكرة وتصحيحها أو تطويرها. 5 - عدم الربط بين الفكرة وتنفيذها، فقد يأتي شخص بالفكرة وينفذها غيره. 6 - عدم الربط بين التفكير ووقت التنفيذ أو مكانه، فقد تكون الفكرة ناجحة لكن الوقت أو الزمان غير مناسبين لتنفيذها، فلا يصح إهمالها فقد يحتاج إليها في يوم أو في بلد ما. ومما ينبغي التنبيه عليه أن كثيرًا من القرارات التي لم تدرس ولم يفكر فيها تفكيرًا جيدًا كان مصيرها الفشل، وهذا يدل على

أهمية التفكير في مراحله السابقة في أي قرار مشروع يتخذه المرء. وذكر أحد الباحثين أن الدراسات تثبت أن الذين يفكرون تفكيرًا صحيحًا من أجل أمتهم ومن أجل القيام بالواجب عليهم لا يتجاوز (2 %) فقط، وهذا رقم متدن للغاية، وأما (98 %) الباقون فإن تفكيرهم في حدود المألوف في الأكل والشرب، والوظيفة، والزواج، والبيت، ونحو ذلك، وهذا يدل على خطورة التفكير وأهميته، فماذا لو كانت نسبة المفكرين تفكيرًا مفيدًا زاد على (70 %) أو (80 %) ثم أُتبع هذا التفكير بعمل مثمر، هل ستبقى الأمة على ما هي عليه اليوم؟ وهذا يستدعي من كل مسلم أن يقف مع نفسه وقفة جادة ليحاسبها، فينظر فيما قدمه لأمته منذ بلغ، وما أمضاه من قوته فيما ينفعها أو فيما يجب عليه فعله. ومما يذكر في هذا المقام أن قيام دولة اليهود التي زُرِعَتْ في قلب الأمة كالخنجر المسموم، إنما بدأ بفكرة، أُتبعت بتخطيط وعمل دؤوب لتنفيذها وإخراجها إلى أرض الواقع، ففي المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد ببازل السويسرية عام ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين ميلادية، وضع قادة اليهود مخططاتهم لقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وبرغم أنهم يهود جبناء، إلا أنهم فكَّروا وخطَّطوا وعملوا وتآمروا، فحقَّقوا من الدنيا بعض ما خطَّطوا له، قَالَ تَعَالَى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18]، قَالَ عُمَرُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَشكُو إِلَيكَ جَلَدَ الفَاجِرِ

وَعَجْزَ الثِّقَةِ» (¬1) (¬2). وينبغي للمسلمين أن يجتهدوا في وضع الخطط التي ترفع شأن الأمة ويعتز بها دينهم، فإنهم إن فعلوا ذلك مخلصين لله عملهم واجتهادهم فسيكون النجاح حليفهم بإذن الله ومعونته وتوفيقه، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (88)} [هود: 88]. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (28/ 254). (¬2) انظر: «منهج التفكير ضوابط ومحاذير» للشيخ ناصر العمر (ص: 31 - 32، 136).

الكلمة الرابعة والستون: تأملات في سورة الانفطار

الكلمة الرابعة والستون: تأمُّلات في سورة الانفطار الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، فقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، ومن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الانفطار. وهذه السورة الكريمة تتحدث عن يوم القيامة وما فيه من أهوال، وأمور عظام تشيب لها الولدان. قَولُهُ تَعَالَى {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَت (1)} [الانفطار: 1]، أي: انشقت السماء، كما قَالَ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّت (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت (2)} [الانشقاق: 1 - 2]، قال بعض المفسرين: تشققت بأمر الله لنزول الملائكة كما قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 25 - 26]. قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَت (2)} [الانفطار: 2]، أي: تناثرت نجومها صغيرها، وكبيرها تنتثر، وتتفرق وتتساقط لأن العالم انتهى.

قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت (3)} [الانفطار: 3]، أي: فُجِّرَ بَعضُهَا على بعض وَمَلَأَتِ الأَرضَ، وهذه البحار تُشَكِّلُ ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر، هذه البحار يوم القيامة تفجَّر ثم تسجَّر أي تشتعل نارًا عظيمة، كما قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت (6)} [التكوير: 6]. قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت (4)} [الانفطار: 4]، أي: أُخرِجَ ما فيها من الأموات. قَولُهُ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت (5)} [الانفطار: 5]، وذلك عند نشر الصحف المكتوب فيها جميع الأعمال، وذاك حين يقول الغافل: أين المفر؟ فيجاب: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَر (12) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّر (13)} [القيامة: 12 - 13]. والغرض من هذا تحذير العباد بأن أعمالهم محصاة عليهم، وستعرض على كل عبد صحيفة عمله ويقال له: {اقْرَا كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 14]. قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم (6)} [الانفطار: 6]، أي: ما الذي خدعك حتى أقدمت على معصية ربك الكريم الذي أوجدك من العدم وأحسن خلقك، وعلَّمك ما لم تكن تعلم، وفَضَّلَكَ على كثير من خلقه؟ ! فقابلت نعمه بالنكران، وإحسانه بالإساءة، فإن كان الذي غَرَّكَ شبابك فاعلم أن مصيره إلى الهرم، وإن كان الذي غَرَّكَ غناك فاعلم أن مصيره إلى زوال، وإن كان الذي غرك صحتك

فاعلم أن مصيرها إلى سقم، والموت من وراء ذلك. قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك (7)} [الانفطار: 7]، أي: جعلك سويًّا معتدل القامة منتصبًا في أحسن الهيئات والأشكال، فلو اجتمع الخلق كلهم وأرادوا أن يضعوا عين الإنسان في مكان أحسن من الذي خلقه الله عليه لم يجدوا، وكذلك الأنف والأذن والرجل وسائر الأعضاء، فصدق الله تعالى إذ يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4)} [التين: 4]. قَولُهُ تَعَالَى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك (8)} [الانفطار: 8]، يعني: أن الله رَكَّبَكَ في أي صورة شاء، فمن الناس من هو جميل ومنهم من هو قبيح ومنهم المتوسط، ومنهم الأبيض ومنهم الأحمر ومنهم الأسود ومنهم بين ذلك. قَولُهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّين (9)} [الانفطار: 9]، أي: بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم، ومقابلته بالمعاصي، تكذيبٌ في قلوبكم بالمعاد، والجزاء، والحساب. قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11)} [الانفطار: 10 - 11]، أي: أن كل إنسان عليه حفظة يكتبون أعماله، وهؤلاء الحفظة كرام عدول لا يظلمون أحدًا، فلا يكتبون عليه ما لم يعمل، ولا يتركوا كتابة شيء من أعماله الصالحة، قَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق: 18]. قَولُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار: 12]: إما بالمشاهدة

إن كان فعلًا، وإما بالسماع إن كان قولًا، بل إن عمل القلب يطلعهم الله عليه فيكتبونه، كما قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم في الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: «إذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا. وفي رواية: إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ» (¬1). قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم (13)} [الانفطار: 13]: هم القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، الملازمون للبر في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن في دار الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار القرار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إِنَّ فِي الدُّنيَا لَجَنَّةً، مَن لَم يَدخُلْهَا لَم يَدخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ» (¬2). قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم (14)} [الانفطار: 14]: الفجار هم الكفار لهم عذاب أليم في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة. قَولُهُ تَعَالَى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّين (15)} [الانفطار: 15]، أي: يوم الحساب والجزاء. قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِين (16)} [الانفطار: 16]، أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ولا يخفف عنهم من عذابها ولا ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 129). وقد خرَّج البخاري الشطر الأول منه (برقم 42). (¬2) «الوابل الصيِّب من الكلم الطيِّب» (ص: 109).

يُجابون إلى ما يسألون من الموت، أو الراحة، ولو يومًا واحدًا كما قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور (36)} [فاطر: 36]. قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين (18)} [الانفطار: 17 - 18]: هذا الاستفهام للتفخيم والتعظيم، يعني: أي شيء أعلمك بيوم الدين؟ والمعنى: أعلم هذا اليوم وأقدره قدره. قَولُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه (19)} [الانفطار: 19]، أي: لا يقدر أحدٌ على نفع أحدٍ ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِب لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا» (¬1). قَولُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه (19)} [الانفطار: 19]: فهو الذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «فإن قال قائل: أليس الأمر لله تعالى في يوم الدين وفيما قبله؟ الجواب: أن الأمر لله تعالى يوم الدين وفيما قبله، لكن ظهور أمره في ذلك اليوم أكثر بكثير من ¬

(¬1) جزء من حديث في «صحيح البخاري» (برقم 4771)، و «صحيح مسلم» (برقم 206).

ظهور أمره في الدنيا، ففي الدنيا يخالف الإنسان أوامر الله عزَّ وجلَّ ويطيع أمر سيده، فلا يكون الأمر لله بالنسبة لهذا ولكن في الآخرة ليس فيه إلا أمر الله عزَّ وجلَّ، وهذا كقَولِهِ تَعَالَى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار (16)} [غافر: 16]. والملك لله في الدنيا وفي الآخرة، لكن في ذلك اليوم يظهر ملكوت الله عزَّ وجلَّ وأمره، ويتبين أنه ليس هناك أمر في ذلك اليوم إلا لله عزَّ وجلَّ» (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «تفسير ابن عثيمين رحمه الله لجزء عَمَّ» (ص: 88 - 92).

الكلمة الخامسة والستون: الترغيب في الزواج

الكلمة الخامسة والستون: الترغيب في الزواج الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن نعم الله علينا كثيرة متتابعة بتتابع الليل والنهار، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار (34)} [إبراهيم: 34]. ومن هذه النعم العظيمة نعمة الزواج وهو آية من آيات الله، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (21)} [الروم: 21]، وهو من سنن المرسلين، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. وَقَد تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِأَكثَرَ مِنَ امرَأَةٍ، وَقَالَ: «إِنِّي أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (¬1). وقال تعالى مُرَغِّبًا في النكاح: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ} [النساء: 3]. وقد حثَّ عليه الشارع، لما يترتَّب عليه من مصالح دينيَّة ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 5063)، و «صحيح مسلم» (برقم 1401).

ودنيويَّة، فمن ذلك: أولًا: تكثير نسل أمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم: فالأمة كلما كثرت حصل لها من العزة والهيبة ما لا يحصل لها في حال القلة، ولهذا امتن الله على بني إسرائيل بقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} [الإسراء: 6]، وذكَّر شعيب قومه بذلك فقال سبحانه عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» (¬1). ثانيًا: إحصان الزوجين: فالزواج حصن للرجل والمرأة من الوقوع فيما حرم الله، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلا (32)} [الإسراء: 32]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» (¬2). ثالثًا: أن الزواج ستر للزوجين ووقاية وجمال: قَالَ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]. ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 2050)، وقال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 386) (برقم 1804): حسن صحيح. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 5056)، و «صحيح مسلم» (برقم 1400).

رابعًا: أن المرأة سكن للرجل: قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، فكما أن الإنسان يتخذ المسكن ليستتر به ويتقي به الحر والبرد وغير ذلك، فإن الزوجة تكون سكنًا لزوجها يطمئن إليها ويجد في قربها الأنس والراحة. خامسًا: المودة والرحمة بين الزوجين: قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (21)} [الروم: 21]. سادسًا: السعادة والإعانة على الطاعة، والخير: روى ابن حبان في صحيحه مِن حَدِيثِ سَعدٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ» (¬1)، وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬2). سابعًا: سبب للغنى وكثرة الرزق: قَالَ تَعَالَى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 32]، وقد كان بعض السلف ينصح من أصابته فاقة بالزواج لهذه الآية، قَالَ أَبُو بَكرٍ رضي اللهُ عنه: «أَطِيعُوا اللهَ فِيمَا أَمَرَكُم بِهِ مِنَ ¬

(¬1) «صحيح ابن حبان» (برقم 4021)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/ 571) (برقم 2820). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1467).

النِّكَاحِ، يُنْجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم مِنَ الغِنَى» (¬1)، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «رَغَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي التَّزوِيجِ، وَأَمَرَ بِهِ الأَحرَارَ وَالعَبِيدَ، وَوَعَدَهُم عَلَيهِ الغِنَى، فَقَالَ: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}» (¬2). والناكح الذي يريد العفاف مُعَانٌ في نكاحه، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» (¬3). ثامنًا: إنجاب الذرية الصالحة: قال تعالى عن زكريا: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران: 38]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬4). وقال العلماء: إن التزوج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة، وقد يكون النكاح واجبًا في بعض الأحيان كما إذا كان الرجل قوي الشهوة ويخاف على نفسه من الحرام إن لم يتزوج، فهنا يجب عليه أن يتزوج لإعفاف نفسه وكفها عن الحرام، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (10/ 226). (¬2) المصدر السابق (10/ 226). (¬3) «سنن الترمذي» (برقم 1655)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 1631).

عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (¬1). والذي يُنْصَحُ به الشباب: التبكير بالزواج ما دام قادرًا عليه، تنفيذًا لوصية النبي صلى اللهُ عليه وسلم، ولما فيه من الفوائد والمنافع العظيمة السابق ذكرها. صفات الزوجة التي ينبغي اختيارها: أولًا: أن تكون ذات خلق ودين: قَالَ تَعَالَى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ} [النساء: 34]، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» (¬3). وقد وصفت المرأة الصالحة في حديث رواه النسائي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» (¬4). ¬

(¬1) تقدَّم تخريجه. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 5090)، و «صحيح مسلم» (برقم 1466). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) «سنن النسائي» (12/ 383 - 384) (برقم 7421)، وقال محققوه: إسناده قوي.

ثانيًا: أن تكون بكرًا: لقول النبي صلى اللهُ عليه وسلم في الصحيحين مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: «فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ » (¬1). لكن لو تزوج ثيبًا رغبة في الإحسان إليها أو لأي مصلحة يراها فهذا طيب، فقد جاء في الصحيحين أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ لِجَابِرٍ رضي اللهُ عنه: «هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ قَالَ جَابِرٌ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ» (¬2). ثالثًا: أن تكون ودودة ولودة: كما روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» (¬3) (¬4). قال بعضهم: يعرف ذلك بالنظر في حال أمها، وجدتها، وخالاتها، وعماتها، فإذا كن ولودات فهي في الغالب ستكون مثلهن. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 2097)، و «صحيح مسلم» (برقم 715). (¬3) «سنن أبي داود» (برقم 2050)، وقال الألباني في «صحيح سنن أبي داود»: حسن صحيح (2/ 386) (برقم 1804). (¬4) انظر: «كتاب على عتبة الزواج» للشيخ محمد المنجد.

الكلمة السادسة والستون: وقفة مع سورة الكوثر

الكلمة السادسة والستون: وقفة مع سورة الكوثر الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن من سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجةٍ إلى تدبرها، ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الكوثر، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر (3)} [الكوثر: 1 - 3]. روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَنَسِ ابنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: أَغْفَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَاسَهُ مُتَبَسِّمًا، إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ، يُخْتَلَجُ العَبْدُ مِنْهُم؛ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَهُ مِنْ أُمَّتِي! فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ » (¬1). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 400)، و «مسند الإمام أحمد» (19/ 54 - 55) (برقم 11996) واللفظ له.

قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} الكوثر في اللغة العربية هو الخير الكثير، والنبي صلى اللهُ عليه وسلم أعطاه الله خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة، روى البخاري في صحيحه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَ أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ - شَكَّ هُدْبَةُ - مِسْكٌ أَذْفَرُ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ» (¬3). والكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذي يشرب منه المؤمنون يوم القيامة، فقد روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عِندَمَا ذَكَرَ الحَوضَ قَالَ: «يَشْخَبُ فِيهِ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6578). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 2300). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (9/ 257) (برقم 5355)، وقال محققوه: إسناده قوي. و «سنن الترمذي» (برقم 3361)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. واللفظ له.

مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَا» (¬1). قال ابن حجر: «الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض» (¬2). قَولُهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2)} أي: كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك النهر الذي تقدم وصفه، فأخلص لربك صلاتك ونحرك واعبده وحده لا شريك له، وانحر على اسمه وحده لا شريك له كما قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (163)} [الأنعام: 162 - 163]. قال ابن جرير بعد ما ذكر الأقوال في تفسير قَولِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2)}: والصواب قول من قال: معنى ذلك: فاجعل صلاتك كلها لربك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والأضداد، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصَّك به من إعطائه إياك الكوثر (¬3). وخصَّ هاتين العبادتين بالذكر؛ لأنهما أفضلُ العبادات وأَجَلُّ القربات، ولأن الصلاة تتضمَّن الخضوع في القلب والجوارح لله ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2300). (¬2) «فتح الباري» (11/ 466). (¬3) «تفسير الطبري» (10/ 8809).

وتنقله في أنواع العبودية وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من النحائر، وإخراج المال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به (¬1). قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}، أي: إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى، والحق والبرهان الساطع، والنور المبين هو الأبتر، والأبتر قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال الذي لا ولد له ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر (¬2). اهـ. وكانت العرب تسمِّي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر، فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفًا؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وكان من خديجة، فأنزل الله جل شأنه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}، أي: المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة. وقيل: إن قريشًا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده: قد بتر فلان، فلما مات لرسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ابنه القاسم بمكة، وإبراهيم بالمدينة؛ قالوا: بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده، فنزلت هذه الآية (¬3). ¬

(¬1) «تفسير ابن سعدي» (ص: 1168). (¬2) «مختار الصحاح» (ص: 40). (¬3) «تفسير القرطبي» (22/ 529).

روى البزار في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَدِمَ كَعبُ بنُ الأَشرَفِ مَكَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ قَرَيشٌ: أَنتَ سَيِّدُهُم، أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا المُنصَبِرِ المُنبَتِرِ مِن قَومِهِ؟ يَزعُمُ أَنَّهُ خَيرٌ مِنَّا، وَنَحنُ أَهلُ الحَجِيجِ وَأَهلُ السِّدَانَةِ وَأَهلُ السِّقَايَةِ. فَقَالَ: أَنتُم خَيرٌ مِنهُ، قَالَ: فَنَزَلَتْ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر} (¬1). قال ابن كثير: وهو إسناد صحيح، وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره، وحاشا وكلا، فقد أبقى الله ذكره، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرًّا على دوام الآباد إلى يوم الحشر، صوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد (¬2). اهـ. وهذا كما قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك (4)} [الشرح: 4]. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللهُ ذِكرَهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، فَلَيسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بَها: أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «مختصر زوائد البزار» (2/ 121) 1538، ورجَّح بعضهم إرساله. (¬2) «تفسير ابن كثير» (14/ 483). (¬3) «تفسير ابن كثير» (14/ 389).

الكلمة السابعة والستون: الاعتصام بالكتاب والسنة

الكلمة السابعة والستون: الاعتصام بالكتاب والسنة الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. قال ابن كثير رحمه الله: «{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ} قِيلَ: بِعَهدِ اللهِ، وَقِيلَ: القُرآنُ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللهِ، وَقَالَ ابنُ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: هُوَ الجَمَاعَةُ» (¬1). قوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا}: أمرهم بالجماعة ونهاهم عن الفرقة. وقد وردت النصوص الكثيرة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» (¬2). ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (3/ 136 - 137). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1715).

والاعتصام بالكتاب والسنة هو التمسك بهما على فهم السلف الصالح وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. روى أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه في سننهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وسَتَفْتَرقْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصْحَابِي» (¬1). أي: هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ العِبَادِ، فَوَجَدَ قَلبَ مُحَمَّدٍ خَيرَ قُلُوبِ العِبَادِ فَاصطَفَاهُ لِنَفسِهِ فَابتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ العِبَادِ بَعدَ قَلبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصحَابِهِ خَيرَ قُلُوبِ العِبَادِ فَجَعَلَهُم وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَن دِينِهِ» (¬2). ثُمَّ قَالَ: «مَن كَان مِنكُم مُستَنًّا فَليَستَنَّ بِمَن مَاتَ فَإِنَّ الحَيَّ لَا تُؤمَنُ عَلَيهِ الفِتنَةُ، أُولَئِكَ أَصحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا أَفضَلَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا وَأَعمَقَهَا عِلمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، اختَارَهُمُ اللهُ لِصُحبَةِ نَبِيِّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِهِ، ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2641)، و «مسند الإمام أحمد» (14/ 142) (برقم 8396)، و «سنن ابن ماجه» (برقم 3992). وصححه البوصيري، والشيخ الألباني في «الصحيحة» (برقم 1492) و (رقم 203، 204). (¬2) «العقيدة الطحاوية» (ص: 531).

فَاعرِفُوا لَهُم فَضلَهُم وَاتَّبِعُوهُم عَلَى آثَارِهِم وَتَمَسَّكُوا بِمَا استَطَعتُم مِن أَخلَاقِهِم وَسِيَرِهِم فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الهُدَى المُستَقِيمِ» (¬1). وقد وردت النصوص الكثيرة التي تحث على التمسك بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، قَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون (3)} [الأعراف: 3]. وقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (43)} [الزخرف: 43]. وقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون (18)} [الجاثية: 18]. والتمسك بالقرآن والسنة عصمة للعبد من الضلالة وهداية له، روى مسلم في صحيحه والحاكم في مستدركه مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» (¬2) (¬3). وروى الحاكم في المستدرك مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيئَينِ لَن تَضِلُّوا بَعدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي» (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم ¬

(¬1) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/ 97). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1218). (¬3) «مستدرك الحاكم» (1/ 284)، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (1/ 125) (برقم 40). (¬4) «مستدرك الحاكم» (1/ 284)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (برقم 2937).

في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، ولا يتقدم بين يديه بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعمله تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستنير فهذا أصل أهل السنة» (¬1). وقد دلت الأحاديث أن من تمسك بما كان عليه صلى اللهُ عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء الراشدين كان من الناجين، روى أبو داود والترمذي في سننهما مِن حَدِيثِ العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (¬2). ¬

(¬1) «الفتاوى» (13/ 62 - 63). (¬2) «سنن أبي داود» (برقم 4607)، و «سنن الترمذي» (برقم 2676) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه جماعة، منهم: الضياء المقدسي في «اتباع السنن واجتناب البدع».

وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه أَتَى النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِن بَعضِ أَهلِ الكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» (¬1). ومن المعلوم أن نبي الله عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد، وإنما يحكم بشريعة النبي صلى اللهُ عليه وسلم، روى البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» (¬2). قال النووي: «قوله: وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، فالصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل، هكذا قاله الإمام أبو سليمان الخطابي وغيره من العلماء» (¬3). ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (23/ 349) (برقم 15156)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في «إرواء الغليل» (6/ 34) (برقم 1589). ومعنى مُتَهَوِّكُونَ: التَّهَوُّكُ هو الوقوعُ في الأمر بغير رَوِيَّة. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 282). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3448)، و «صحيح مسلم» (برقم 155). (¬3) «شرح صحيح مسلم» (1/ 190).

قال الإمام مالك: «لَا يَصلُحُ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا، وَمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم». روى الطبراني في معجمه الكبير مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى أُنَاسٍ فِي المَسجِدِ يَنتَظِرُونَ الصَّلَاةَ وَهُم حِلَقٌ، وَفِي كُلِّ حَلقَةٍ رَجُلٌ وَفِي أَيدِيهِم حَصَى، وَرَجُلٌ يَقُولُ لَهُم: سَبِّحُوا مِئَةً فَيُسَبِّحُونَ، كَبِّرُوا مِئَةً فَيُكَبِّرُونَ، هَلِّلُوا مِئَةً فَيُهَلِّلُونَ، فَقَالَ لَهُم: عُدُّوا سَيِّئَاتِكُم، فَأَنَا ضَامِنٌ أَن لَا يَضِيعَ مِن حَسَنَاتِكُم شَيءٌ، وَيحَكُم يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم مَا أَسرَعَ هَلَكَتَكُم! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُم صلى اللهُ عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَم تَبلَ وَآنِيَتُهُ لَم تُكسَرْ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهدَى مِن مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوَ مُفْتَتِحُو بَابَ ضَلَالَةٍ؟ قَالُوا: وَاللهِ يَا أَبَا عَبدِ الرَّحمَنِ، مَا أَرَدنَا إِلَّا الخَيرَ! قَالَ: وَكَم مِن مُرِيدٍ لِلخَيرِ لَم يُصِبْهُ؟ ! » (¬1). قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «حِينَ تَبيَضُّ وُجُوهُ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَتَسوَدُّ وُجُوهُ أَهلِ البِدعَةِ وَالفُرقَةِ» (¬2). ومن فوائد الاعتصام بالكتاب والسنة: 1 - الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة للعبد من مضلات الفتن. 2 - الاعتصام بالكتاب والسنة عصمة للعبد من الوقوع في الشهوات المحرمة. ¬

(¬1) «المعجم الكبير» (9/ 127) رقم 8636. وَرُوِيَ بألفاظٍ كثيرةٍ. (¬2) «تفسير ابن كثير» (3/ 139).

3 - الاعتصام بالكتاب والسنة عزة للأمة، وقوة لها. 4 - الاعتصام بالكتاب والسنة يكشف حيل الشيطان ومداخله. 5 - الاعتصام بالكتاب والسنة دليل على صحة العقل، واستقامة الفطرة. 6 - الاعتصام بالكتاب والسنة يثمر اطمئنان القلب، وراحة النفس. 7 - الاعتصام بالكتاب والسنة عصمة من الوقوع في البدع ومحدثات الأمور. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة الثامنة والستون: من آداب النوم

الكلمة الثامنة والستون: من آداب النوم الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله تعالى جعل الليل سكنًا وراحة للناس، قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ: 10 - 11]. والنوم وفاة بعدها حياة لمن شاء الله، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا استَيقَظَ مِن نَومِهِ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (¬1). وللنوم آداب نبوية، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم، فمن ذلك: 1 - إطفاء النار، والمصابيح، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 7395).

الْأَبْوَابَ» (¬1). والعلة في إطفاء النار والمصابيح: أن الفأرة ربما جرَّت الفتيلة فأحرقت أهل البيت، كما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا المَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» (¬2). وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه قَالَ: «احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَانِهِمُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» (¬3). وأما إغلاق الأبواب قبل النوم، فقد جاء في رواية مسلم مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا» (¬4). قال ابن دقيق العيد رحمه الله: «في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية، حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد، ولا سيما الشياطين، وأما قوله: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا» فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6296)، و «صحيح مسلم» (برقم 2012). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6295)، و «صحيح مسلم» (برقم 2012). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6294)، و «صحيح مسلم» (برقم 2016). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 2012).

الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيهًا على ما يخفى مما لا يُطَّلَعُ عليه إلا من جانب النبوة» (¬1). 2 - تغطية الآنية: روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ، لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ، إِلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ» (¬2). 3 - استحباب الوضوء قبل النوم: لما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّا وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَاتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» (¬3). 4 - نفض الفراش قبل الاضطجاع عليه والتسمية: كما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ» (¬4). وفي رواية مسلم: «وَلْيُسَمِّ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا ¬

(¬1) «فتح الباري» (11/ 87). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2014). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6311)، و «صحيح مسلم» (برقم 2710). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6320)، و «صحيح مسلم» (برقم 2714).

خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ» (¬1). 5 - النوم على الشق الأيمن، ووضع اليد اليمنى تحت الخد: لِحَدِيثِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ السَّابِقِ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّا وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ» (¬2). وروى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ حَفصَةَ رضي اللهُ عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» (¬3). 6 - قراءة بعض السور والأذكار قبل النوم: أذكر بعضًا منها: روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق (2)} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1)} ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَاسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» (¬4). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2714). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) «سنن أبي داود» (برقم 5045)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3/ 951) (برقم 4218). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 5017).

الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» (¬1). وفي صحيح البخاري مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: في قصة الشيطان وجاء فيه: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَا آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ» (¬2). وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِندَ نَومِهِ: «بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» (¬3). وفي سنن أبي داود مِن حَدِيثِ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «اقْرَا {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1)} ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» (¬4). وفي صحيح البخاري مِن حَدِيثِ حُذَيفَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَن يَنَامَ قَالَ: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وأَحْيَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (¬5). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 5009)، و «صحيح مسلم» (برقم 807 - 808). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 5010). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6320)، و «صحيح مسلم» (برقم 2714). (¬4) «سنن أبي داود» (برقم 5055)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3/ 954) (برقم 4227). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 6324).

7 - استحباب الوضوء عند الجنابة قبل النوم: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» (¬1). وإن اغتسل للجنابة فهو أفضل، فقد روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ أَبِي قَيسٍ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ؟ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ، وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ، قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً» (¬2). 8 - ومن الآداب أن من استيقظ من النوم استحب له أن يقول هذا الذكر: روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عُبَادَةَ ابنِ الصَّامِتِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ (¬3) مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» (¬4). وهذا حديث عظيم القدر، كثير المنافع لمن عَوَّدَ نفسه كلَّما ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 288)، و «صحيح مسلم» (برقم 305). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 307). (¬3) التعار: استيقاظ يصحبه كلام. (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 1154).

استيقظ من نومه جرى لسانه بتوحيد الله، وذكره، فكان جزاؤه أن تقبل صلاته وتستجاب دعوته، فكم فرجت به من هموم، وكم قضيت به من ديون، وكم صلحت به أحوال فاسدة، والموفق من وفقه الله. قال ابن بطال رحمه الله: «وعد الله على لسان نبيه أن من استيقظ من نومه لهج لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمه يحمده عليها، وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه، والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة، إلا بعونه، أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به ويخلص نيته لربه سبحانه وتعالى» (¬1). 9 - كراهية النوم على البطن: روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ ضَجْعَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللهُ» (¬2). 10 - التبكير في النوم: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي اللهُ عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» (¬3). قال ابن حجر رحمه الله: «لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها ¬

(¬1) «فتح الباري» (3/ 41). (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 2768)، وقال الألباني في «صحيح سنن الترمذي»: حسن صحيح (2/ 359) (برقم 2221). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 568)، و «صحيح مسلم» (برقم 647).

عن وقتها مطلقًا أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن صلاة الصبح، أو عن وقتها المختار، أو عن قيام الليل، وَكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَضرِبُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيلِ، وَنَومًا آخِرَهُ؟ ! » (¬1) (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «فتح الباري» (2/ 73). (¬2) انظر: «منتقى الآداب الشرعية»، للشيخ ماجد العوشن (ص: 188 - 191).

الكلمة التاسعة والستون: التحذير من الغيبة

الكلمة التاسعة والستون: التحذير من الغيبة الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فلقد شاع بين كثير من المسلمين داء عظيم حذر الله ورسوله منه وهو مِعْوَلُ هَدْمٍ، يفرق بين الأحباب، ويُورث العداوة والبغضاء، ونص أهل العلم على أنه كبيرة من كبائر الذنوب (¬1)، وَقَلَّ من يسلم منه إلا من رحم الله، إنه الغيبة، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» (¬2). قال التهانوي: «الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرت نقصانًا في بدنه، أو في لبسه، أو في خلقه، أو في فعله، أو في قوله، أو في دينه، أو في دنياه، أو في ولده، أو في ثوبه، أو في ¬

(¬1) انظر: «فتح الباري» (10/ 470). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2589).

داره، أو في دابته، قال: ولا تقتصر الغيبة على القول، بل تجري أيضًا في الفعل كالحركة والإشارة والكتابة» (¬1). اهـ. وقد شبَّه الله تعالى الغيبة بأكل اللحم للإنسان الميت، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، أي: كما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا ذاك شرعًا فإن عقوبته أشدُّ من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ» (¬2). والمغتاب يعذب في قبره قبل يوم القيامة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَمَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: مَنْ يَاتِينِي بِجَرِيدَةِ نَخْلٍ؟ قَالَ: فَاسْتَبَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ، فَجِئْنَا بِعَسِيبٍ، فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ، فَجَعَلَ عَلَى هَذَا وَاحِدَةً، وَعَلَى هَذَا وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ سَيُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا كَانَ فِيهِمَا مِنْ بُلُولَتِهِمَا شَيْءٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ» (¬3)، وفي الصحيحين: «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَالْآخَرُ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ» (¬4). ¬

(¬1) «كشاف اصطلاحات الفنون» (3/ 1091) مختصرًا. (¬2) «مسند الإمام أحمد» (23/ 97) (برقم 14784)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) «مسند الإمام أحمد» (34/ 53) (برقم 20411)، وقال محققوه: حديث قوي. (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 1378)، و «صحيح مسلم» (برقم 292).

قال ابن حجر: «والغيبة قد توجد في بعض صور النميمة، وهو أن يذكره في غيبته بما فيه مما يسؤوه قاصدًا بذلك الإفساد، فيحتمل أن تكون قصة الذي كان يعذب في قبره كذلك، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الغيبة صريحًا كما في الحديث السابق، والظاهر اتحاد القصة ويحتمل التعدد» (¬1). والمغتابون يعذبون يوم القيامة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَاكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» (¬2). وهذه الغيبة التي يتساهل بها كثير من الناس حتى أصبحت فاكهة المجالس هي عند الله عظيمة، قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيم (15)} [النور: 15]. روى أبو داود والترمذي في سننهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: تَعْنِي قَصِيرَةً؛ فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ ¬

(¬1) «فتح الباري» (10/ 470 - 471). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (21/ 53) (برقم 13340)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا» (¬1). ومن أسباب هذه الغيبة مجاملة الأقران والرفاق ومشاركتهم فيما يخوضون فيه، وشفاء المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه، والاستهزاء والسخرية واحتقار الآخرين، وحسد من يثني عليه الناس ويذكرونه بخير (¬2). قال النووي رحمه الله: «اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد، ولا باللسان، فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق، أو كان من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر» (¬3). اهـ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين (55)} [القصص: 55]. قال الغزالي رحمه الله: «كان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر ولا يغتابون غائبًا ويرون ذلك أفضل الأعمال، ويرون خلافه عادة المنافقين» (¬4)، وقال بعضهم: «أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكف عن أعراض الناس» (¬5). ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4875)، و «سنن الترمذي» (برقم 2502) وقال: حسن صحيح. (¬2) «إحياء علوم الدين» (ص: 155 - 156)، بتصرُّف. (¬3) «الأذكار للنووي» (ص: 304). (¬4) «إحياء علوم الدين» (3/ 152)، بتصرُّف. (¬5) نفس المصدر.

قال البخاري رحمه الله: «أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا» (¬1). قال الذهبي: «صدق رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا، وَقَلَّ أن يقول: فلان كذاب، أو: كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر؛ فهو متهم واه، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدًا، وهذا هو والله غاية الورع» (¬2). قال محمد بن أبي حاتم الوراق: «وسمعته يقول: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها» (¬3). وقد استثنى العلماء جواز الغيبة لستة أسباب، وهي كما قال النووي: 1 - التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان أو القاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني بكذا. 2 - الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب: فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (12/ 439). (¬2) «سير أعلام النبلاء» (12/ 439 - 441). (¬3) نفس المصدر.

فازجره عنه، ونحو هذا، ويكون مقصده التوصل إلى إزالة المنكر. 3 - الاستفتاء: فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك. 4 - تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين. ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو معاملته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بِنِيَّةِ النصيحة. ومنها إذا رأى متفقهًا يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة. ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحًا لها، وإما أن يكون فاسقًا أو مغفلًا، ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من صلح. 5 - أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، وأخذ المكس وجباية الأموال، فيجوز ذكره بما يجهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب.

6 - التعريف: فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى، جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة النقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان أولى (¬1). فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء، وأكثرها مجمع عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة. قال الجمهور من العلماء: «طريقُ المغتاب في توبته أن يُقلع عن ذلك، ويعزم على ألا يعود، وأن يتحلل من الذي اغتابه، وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك ربَّما تأذى أشد مِمَّا إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون تلك بتلك» (¬2). تنبيه: من أعظم ما يردع المؤمن عن الغيبة، إضافة إلى الآيات والأحاديث المشهورة التي فيها الوعيد الشديد لمن وقع في الغيبة؛ أن يتذكر أنه يُهدي حسناته: من صلاة، وصوم، وحج، وغيرها إلى الذي اغتابه أو يتحمل أوزاره وذنوبه إذا لم تكفي حسناته التي ذهبت منه، وهذا هو أعظم الخسارة والإفلاس التي أخبر عنها النبي صلى اللهُ عليه وسلم. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «رياض الصالحين» (ص: 488 - 490). (¬2) «تفسير ابن كثير» (13/ 167)، بتصرُّف.

الكلمة السبعون: تأملات في سورة النصر

الكلمة السبعون: تأملات في سورة النصر الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قَالَ تَعَالَى {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب (29)} [ص: 29]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَنَحنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ (¬1) أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (¬2) فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» (¬3). ومن سور القرآن العظيم التي تتكرَّر على أسماعنا سورة ¬

(¬1) بطحان والعقيق: واديان بالمدينة. (¬2) هي الناقة العظيمة السمينة. (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 803).

النصر وتسمى سورة التوديع، قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح (1)} [النصر: 1 - 3]. وهذه السورة آخر ما نزل من القرآن، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّهُ قَالَ لِعُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُتبَةَ: تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ القُرآنِ، نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} قَالَ: صَدَقْتَ (¬1). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قال: «كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 3024). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 4970).

قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» (¬1). وفي رواية عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَاكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: خَبَّرَنِي رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي، فَإِذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَأَيْتُهَا، {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح}، فَتْحُ مَكَّةَ، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}» (¬3). قَولُهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} قال الطبري: «المراد بالنصر نصر الله لنبيه على قريش» (¬4). قال ابن كثير: «والمراد بالفتح فتح مكة قولًا واحدًا فإن أحياء العرب كانت ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 4967)، و «صحيح مسلم» (برقم 484). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 4968)، و «صحيح مسلم» (برقم 484). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 484). (¬4) «تفسير الطبري» (10/ 8815).

تُلَوِّحُ بإسلامها فتح مكة يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيمانًا ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام» (¬1). اهـ. وكان فتح مكة في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، وقد أخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن المراد بالفتح فتح مكة كما في حديث عائشة السابق. قَولُهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}، قال القرطبي: «فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى اللهُ عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟ فقيل: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يقول في دعائه: رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي، وجهلي، وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على كل شيء قدير» (¬2). فكان صلى اللهُ عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبًا، ويحتمل أن يكون بمعنى كن متعلقًا به، سائلًا راغبًا، متضرعًا على رؤية التقصير في أداء الحقوق، لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال، وقيل: الاستغفار تعبد يجب إتيانه، ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (14/ 494). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6398)، و «صحيح مسلم» (برقم 2719).

لا للمغفرة بل تعبدًا، وقيل: ذلك تنبيه لأمَّته، لكي لا يأمنوا ويتركوا الاستغفار، وقيل: {وَاسْتَغْفِرْهُ}، أي: استغفر لأمَّتك (¬1). قوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، أي: على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم ويقبل توبتهم، وإذا كان صلى اللهُ عليه وسلم وهو معصوم يؤمر بالاستغفار فما الظن بغيره؟ ! روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ الأَغَرِّ المُزَنِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةَ» (¬2). قَالَ ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: «نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِمِنًى فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فَعَاشَ بَعدَهُمَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم ثَمَانِينَ يَومًا (¬3)، ثُمَّ انتَقَلَ إِلَى الرَّفِيقِ الأَعلَى». وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «تفسير القرطبي» (22/ 542 - 543). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2702). (¬3) «تفسير القرطبي» (22/ 543).

الكلمة الواحدة والسبعون: أحوال الموتى والمحتضرين

الكلمة الواحدة والسبعون: أحوال الموتى والمحتضرين الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون (85) فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِين (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين (87)} [الواقعة: 83 - 87]. المراد: ساعة الاحتضار، {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون (84)} إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} بعلمنا وقدرتنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرونهم (¬1). قال ابن القيِّم رحمه الله: «إن الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلًا بها غيبًا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار وذلك من كمال حكمته وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبًا منه ويشاهدهم عيانًا ويتحدثون عنده ومعهم الأكفان والحنوط، إما من الجنة وإما من النار، وَيُؤَمِّنُونَ على دعاء الحاضرين بالخير أو الشر، وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم تارة بلفظه وتارة بإشارته وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (13/ 395).

من نطق ولا إشارة، وقد سُمِع بعض المحتضرين يقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذه الوجوه، وأخبرنا شيخنا عن بعض المحتضرين فلا أدري أشاهده أو أُخبر عنه أنه سُمع وهو يقول: عليك السلام ها هنا فاجلس، وعليك السلام ها هنا فاجلس» (¬1). اهـ. وذكر ابن أبي الدنيا أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: «أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت (ثلاث مرات) ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فَأَحَدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، ثم قرأ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين (83)} [القصص: 83]، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قبض» (¬2). وقال فضالة بن دينار: حضرت محمد بن واسع وقد سُجِّيَ للموت فجعل يقول: مرحبًا بملائكة ربي ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشممت رائحة طيبة لم أشم رائحة قط أطيب منها، ثم شَخَصَ بصره فمات، والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر وأبلغ (¬3). قال ابن القيم رحمه الله: «ولقد أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أَقْبُرٍ، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفا على أحد الأقبرِ فقال أحدهما لصاحبه: اكتب ¬

(¬1) «الروح لابن القيِّم» (ص: 183 - 184). (¬2) «الروح لابن القيِّم» (ص: 184). (¬3) «الروح لابن القيِّم» (ص: 184).

فرسخًا في فرسخ - والفرسخ ثلاثة أميال وهو ما يساوي أربع كيلو ونصف تقريبًا - ثم وقفا على الثاني فقال: اكتب ميلًا في ميل، ثم وقفا على الثالث فقال: اكتب فِترًا في فتر، ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني، ثم جيء بامرأةٍ مُتْرَفَةٍ من وجوه البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول فترًا في فتر - والفتر ما بين الإبهام والسبابة -». وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزيز الحراني: أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كوز الزجاج (¬1)، والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنا نائم أم يقظان؟ ثم الْتَفَتُّ إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر؟ فإذا به مَكَّاس (¬2) وقد توفي ذلك اليوم. فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يريه ذلك، فإذا شاء الله سبحانه أن يُطْلِعَ على ذلك بعض عبيده أطلعه وَغَيَّبَهُ عن غيره، إذ لو اطَّلَعَ عليه العباد كلهم لزالت ¬

(¬1) كوز الزجاج: موقد نار ملتهب يستعمله صانع الزجاج، فتنقلب فيه كتلة الزجاج جمرة مُتَّقِدَة. (¬2) مَكَّاس: صاحب المَكْس، وهو الذي يجبي الضرائب من الناس.

كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ» (¬1) (¬2). ومن أحوال المحتضرين أن أحدهم قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلًا عند الموت يلقن: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه؟ فإذا هو مدمن خمر، فكان يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء حتى قبضت روحه (¬3). وفي صحيح مسلم مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (¬4). قال ابن كثير رحمه الله: «والذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2867). (¬2) «الروح لابن القيِّم» (ص: 185 - 187)، بتصرُّف. (¬3) انظر: «جامع العلوم والحكم» (ص: 173)؛ و «الجواب الكافي» (ص: 147). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 2878).

مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة» (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «البداية والنهاية» (9/ 163).

الكلمة الثانية والسبعون: دروس وعبر من الهجرة النبوية

الكلمة الثانية والسبعون: دروس وعبر من الهجرة النبوية الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: لقد كانت الهجرة النبوية الحدث الإسلامي الكبير الذي غير مجرى التاريخ، واللبنة الأولى لقيام الدولة الإسلامية المباركة، والمُتَأَمِّلُ في حدث الهجرة النبوية يجد الكثير من الدروس والعبر التي تستفيد منها الأجيال المسلمة إلى يوم القيامة. روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَاتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَاسْتَاذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: نَعَمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ،

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: بِالثَّمَنِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي اللهُ عنها: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَاتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِيَا خِرِّيتًا، وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي

رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ

يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِلى الْمَدِينَةِ» (¬1). من الدروس والعبر: أولًا: إن الهجرة زمنًا ومكانًا وحيٌ من الله سبحانه وتعالى لنبيِّه صلى اللهُ عليه وسلم، فقد روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «إِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي بالْخُرُوجِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ » (¬2). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ» (¬3). ثانيًا: التنظيم والتخطيط الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات. ثالثًا: حفظ الله لنبيه من أول بعثته إلى أن وصل إلى المدينة، قَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وحكى الله تعالى قول نبيه لصاحبه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي بَكرٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «كُنْتُ مَعَ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3905 - 3906). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3905). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3622).

النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي الْغَارِ فَرَفَعْتُ رَاسِي فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَاطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» (¬1). رابعًا: لَمَّا عَفَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ، عَرَضَ عَلَيهُ سُرَاقَةُ المُسَاعَدَةَ وَقَالَ: هَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ سَهْمًا فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي فِي مَوضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا». فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس منهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله. خامسًا: أن الدور الذي قام به أبو بكر رضي اللهُ عنه في الهجرة يُعَدُّ مَنْقَبَةً كُبْرَى له، ويكفيه تكريمًا أن يذكر في قرآن يُتلى إلى يوم القيامة، قَالَ تَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. سادسًا: قال ابن القيِّم رحمه الله: «في استئجار النبي صلى اللهُ عليه وسلم لعبد الله بن أريقط الدؤلي هاديًا في وقت الهجرة - وهو كافر - دليل على جواز الرجوع إلى الكافرين في الطب والأدوية والكتابة والحساب ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من مجرد كونه كافرًا أن لا يوثق به في شيء أصلًا، فإنه لا شيء أخطر ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3922)، و «صحيح مسلم» (برقم 2381).

من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة» (¬1). 7 - أن حكم الهجرة لم ينسخ بل هو باق إلى يوم القيامة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: «حَدَّثَهُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَادُ» (¬2) (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «بدائع الفوائد» (3/ 208). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (27/ 142) (برقم 16597)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬3) انظر: «فقه السيرة» د. زيد بن عبد الكريم الزيد (ص: 292 - 321).

الكلمة الثالثة والسبعون: السواك

الكلمة الثالثة والسبعون: السواك الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن السنن المؤكَّدة التي غفل عنها كثير من الناس: السواك، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين (222)} [البقرة: 222]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» (¬1). والسواك طهارة لفم الإنسان مما يصيبه من بقايا الطعام، ومرضاة للرب، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» (¬2). وقد حثَّ النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمَّته على السواك، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬3). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 223). (¬2) «صحيح البخاري» (ص: 367)، كتاب الصوم: باب السواك الرطب واليابس للصائم. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 887)، و «صحيح مسلم» (برقم 252) واللفظ له.

وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ وَاثِلَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ» (¬2). ويتأكد السواك في مواضع عديدة منها: أولًا: عند كل صلاة فرضًا كان أم نفلًا، لما تقدَّم مِن حَدِيثِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذي وَرَدَ فيه: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬3). ثانيًا: عند كل وضوء لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» (¬4). ثالثًا: عند القيام من نوم الليل، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ حُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ الليلِ يَشُوصُ (¬5) فَاهُ بِالسِّوَاكِ» (¬6). رابعًا: عند دخول البيت، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 888). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (25/ 389) (برقم 16007)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) «صحيح البخاري» (ص: 367)، كتاب الصوم: باب السواك الرطب واليابس للصائم. (¬5) الشَّوْص: الدَّلْك. (¬6) «صحيح البخاري» (برقم 245)، و «صحيح مسلم» (برقم 255).

شُرَيْحِ بنِ هَانِئٍ قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ» (¬1). خامسًا: تغير رائحة الفم مطلقًا لعموم ما تقدَّم من قَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» (¬2). سادسًا: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُكثِرُ استِعمَالَ السِّوَاكِ وَهُوَ صَائِمٌ، فروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي وَلَا أَعُدُّ» (¬3). والذي يتأمل في حال النبي صلى اللهُ عليه وسلم يجده يحرص على السواك في كل وقت حتى عند احتضاره، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى» (¬4). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 253). (¬2) «صحيح البخاري» (ص: 367)، كتاب الصوم: باب السواك الرطب واليابس للصائم. (¬3) «صحيح البخاري» (ص: 367)، كتاب الصوم: باب السواك الرطب واليابس للصائم، مُعَلَّقًا بصيغة التمريض. (¬4) صحيح البخاري» (برقم 4438)، و «صحيح مسلم» (برقم 2443).

قال الصنعاني: «قد ذكر في السواك زيادة على مائة حديث، فَوَاعَجَبًا لِسُنَّةٍ تأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثير من الناس، بل كثير من الفقهاء، فهذه خيبة عظيمة» (¬1). اهـ. ومن أسباب حرص النبي صلى اللهُ عليه وسلم على كثرة استعمال السواك؛ أنه صلى اللهُ عليه وسلم كان يكره أن توجد منه الرائحة، وإن مما يؤسف له تفريط البعض في التنبه لهذا الأمر مما ينتج عنه أذى المحادث والمجالس، والمصلي بسبب النتن الذي يخرج من أفواه هؤلاء وخاصة المدخنين ومن يتناول الأطعمة ذات الروائح الكريهة، مع توفر وسائل التطهر وسهولة الحصول عليها. وعلى هؤلاء أن يعلموا أنه لا يحل لهم الصلاة في المساجد مع جماعة المسلمين فضلًا عن غيرها من المجالس والاجتماعات، قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ - الثُّومِ - (وقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ)، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» (¬2). وأفضل أنواع السواك ما أخذ من شجر الأراك. وقد قام باحثون بعمل أبحاث وتوصلوا إلى أن عصارة السواك تحتوي على مضادات طبيعية للبكتيريا المسببة لتسوس الأسنان، وأمراض اللثة، وأن الذين يستخدمون السواك أقل عرضة للإصابة ¬

(¬1) «سبل السلام» (1/ 175). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 855)، و «صحيح مسلم» (برقم 564) واللفظ له.

بتسوس الأسنان وأمراض اللثة من الذين لا يستخدمونه ... وغيرها من الفوائد (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) انظر: «السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب»، للشيخ عبد الله بن محمد اليوسف.

الكلمة الرابعة والسبعون: وقفات مع سورة الفيل

الكلمة الرابعة والسبعون: وقفات مع سورة الفيل الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أنزل القرآن الكريم لتدبره والعمل به، فقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]. ومن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الفيل. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيل (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيل (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّاكُول (5)} [الفيل: 1 - 5]. قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل (1)} قال ابن كثير رحمه الله: «هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله، وأرغم أنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشر خيبة، وكانوا قومًا نصارى وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالًا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإِرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ولسان حال القدر يقول:

لم ننصركم «يا معشر قريش» على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلى اللهُ عليه وسلم خاتم الأنبياء» (¬1). وقصة أصحاب الفيل على وجه الاختصار: أن ملك اليمن أبرهه أراد أن يصد الناس عن الحج إلى الكعبة فبنى بيتًا يشبه الكعبة، ودعى الناس إلى حجه، ليصدهم عن حج بيت الله، فغضب لذلك العرب، وذهب رجل منهم إلى هذا البيت الذي جعله ملك اليمن بدلًا عن الكعبة، ولطخ جدرانه بالقذر، فغضب ملك اليمن غضبًا شديدًا، وعلم أن ذلك من فعل العرب، فقدم بجيش عظيم إلى مكة، وكان معه الفيلة، وفي طريقه بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قومه، فقاتلوه، فهزمهم أبرهة، وأسر نفيل بن حبيب الخثعمي، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز، ولما تهيأ أبرهه لدخول مكة وهيأ فيله (محمود) أكبر الفيلة وعبأ جيشه ووجهوا الفيل نحو مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود أو ارجع راشدًا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين (¬2) وأدخلوا محاجنهم في مَراقَه (¬3) وبزغوه (¬4) بها ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (14/ 455). (¬2) نوع من السياط. (¬3) المواضع الرقيقة من جسده. (¬4) طعنوه بها.

ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق، ويسألون عن نُفيل ليدلهم على الطريق، هذا ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة وجعل نفيل يقول: أَيْنَ المَفَرُّ؟ وَالإِلَهُ الغَالِبُ وَالأَشْرمُ المَغْلُوبُ غَيْرُ الغَالِبِ وكان ذلك قبل بعثة النبي صلى اللهُ عليه وسلم بأربعين عامًا وكان بعض الذين شهدوا ذلك أحياء عند البعثة. قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل (2)} أي: ألم يجعل الله تعالى مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة ضلالًا منهم أدى بهم إلى الهلاك؟ قَولُهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيل (3)} أي: جماعات متفرقة وهي طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا يصيب شيئًا إلا هشمه. قَولُهُ تَعَالَى: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيل (4)} قالوا: هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم،

فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة. قَولُهُ تَعَالَى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّاكُول (5)} أي: كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل، وقيل: المعنى صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدواب وبقي منه التبن. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمرهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرًا، وأهلك عامتهم ولم يرجع منهم مخبر إلا وهو جريح كما جرى لملكهم أبرهه، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء وأخبرهم بما جرى لهم ثم مات. ومن فوائد السورة الكريمة: أولًا: أن هذه نهاية كل طاغية يحارب الله ويستحل حرماته، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم (25)} [الحج: 25]. وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد (102)} [هود: 102]» (¬1). ثانيًا: قدرة الله العظيمة، فهو القادر على كل شيء، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس: 82]، وقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر (50)} [القمر: ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 4686)، و «صحيح مسلم» (برقم 2583).

50]، وقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44]. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة الخامسة والسبعون: خطر النميمة

الكلمة الخامسة والسبعون: خطر النميمة الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن النميمة من الذنوب العظيمة التي حذر الله ورسوله منها، وهي مرض عضال، وداء خبيث، يفسد في المجتمعات ويورث العداوة والبغضاء فيها، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِين (10) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيم (11)} [القلم: 10 - 11]. قال ابن كثير: {مَّشَّاء بِنَمِيم}: الذي يمشي بين الناس وَيُحَرِّشُ بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين، وهي الحالقة (¬1). والنميمة كما بيَّنها النبي صلى اللهُ عليه وسلم هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ (¬2) هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» (¬3). ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (14/ 89). (¬2) العضة: رُوِيَت هذه اللفظة على وجهين، أحدهما: العِضَة بكسر العين وفتح الضاد على وزن العِدَة وهي الأشهر في كتب اللغة، والثاني: العَضْه بفتح العين وسكون الضاد على وزن الوَجْه وهو الأشهر في كتب الحديث. والمعنى: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ » الفاحش الغليظ التحريم. (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2606).

قال أبو السعادات: «الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»: أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس. وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة (¬1). والنمام متوعَّد بعدم دخول الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ هَمَّامِ بنِ الحَارِثِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ رضي اللهُ عنه فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ - إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» (¬2). قال ابن حجر: «القَتَّاتُ هو النَّمَّامُ، ووقع بلفظ: «نَمَّامٌ» في رواية أبي وائل عن حذيفة عند مسلم (¬3)، وقيل: الفرق بين القتات والنمام، أن النمام الذي يحضر القصة فينقلها، والقتات الذي يتسمع من حيث لا يُعلم به ثم ينقل ما سمعه» (¬4). والنمام يعذب في قبره قبل يوم القيامة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى، ¬

(¬1) «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» (ص: 320). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6056)، و «صحيح مسلم» (برقم 105). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 105). (¬4) «فتح الباري» (10/ 473).

أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» (¬1). والنمام شر عباد الله، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ غَنَمٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» (¬2). والفرق بين الغيبة والنميمة: أن الغيبة هي التكلم خلف إنسان مستور بما هو فيه مما يكرهه، أما النميمة فهي نقل كلام صادر عن الغير بغية الإفساد، وعلى ذلك تكون الغيبة صادرة عن المغتاب في الأصل، أما النميمة فهي كلام صادر عن الغير، وكذلك الغيبة قد تباح في بعض الأحيان لغرض شرعي، أما النميمة فلم ينقل جواز إباحتها أحد. قال الذهبي رحمه الله: «النميمة من الكبائر، وهي حرام بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، وقد أجاب عما يوهم أنها من الصغائر، وَهِيَ قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ»، بأن المراد ليس بكبير تركه عليهما أو ليس بكبير في زعمهما، ولهذا قيل في رواية أخرى: «بَلَى إِنَّهُ كَبِيرٌ» (¬3). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1378)، و «صحيح مسلم» (برقم 292). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (29/ 521) (برقم 17998)، وقال محققوه: حسن بشواهده. (¬3) «الكبائر» (ص: 160)، بتصرُّف.

قال ابن حجر: «وجه كونه أي (النم) كبيرة ما فيه من الإفساد، وما يترتب عليه من المضار، والحكم على ما هو كذلك بأنه كبير ظاهر جلي» (¬1). قال ابن حزم: «اتفقوا على تحريم الغيبة، والنميمة في غير النصيحة الواجبة وفيه دليل على أنها من الكبائر» (¬2). قال الذهبي رحمه الله: «كل من حُملت إليه نميمة وقيل له: قال فيك فلان: كذا وكذا؛ لزمه ستة أحوال: الأول: ألا يصدقه لأنه نمام فاسق وهو مردود الخبر. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله. الثالث: أن يبغضه في الله عزَّ وجلَّ، فإنه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب. الرابع: ألا يظن في المنقول عنه السوء لِقَولِهِ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. الخامس: ألا يحمله ما حُكي له على التجسس والبحث عن تحقق ذلك مصداقًا لِقَولِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَجَسَّسُوا}. السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته. ¬

(¬1) «الزواجر» (2/ 572). (¬2) «مراتب الإجماع» (ص: 156).

وتكمن خطورة النمام في أنه يقل الاحتراز منه؛ لأنه يأتي في صورة الناصح المشفق، فإن صدقته تحقق حينئذ ما يريده النمام من الإفساد، قال ابن حزم: «من جاء إليك بباطل رجع من عندك بحق، وذلك أن من نقل إليك كذبًا عن إنسان حرك طبعك فأجبته فرجع عنك بحق، فتحفظ من هذا ولا تجب إلا عن كلام صح عندك عن قائله» (¬1). والنمَّامون كثيرون ومن أشدهم خطرًا: طائفة جعلت مهنتها الوقيعة بين العلماء والحكام، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ ! قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ، قَالَ: قُلْتُ: لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثًا (¬2). وهذا المعنى الذي آثر ابن مسعود المصير إليه؛ جاء في حديث ضعَّفه بعض أهل العلم وجاء فيه: «لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ ¬

(¬1) «الأخلاق والسير في مداواة النفوس» لابن حزم (ص: 37). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3150)، و «صحيح مسلم» (برقم 1062) واللفظ له.

أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» (¬1). وطائفة أخرى أكل الحسد قلوبها، فلا تكاد ترى زوجين أو صديقين متآلفين إلا سعت للتفريق بينهما بالنميمة، كل ذلك في لباس النصح والإشفاق. وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيم (11)}، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدًا (¬2). قال الحسن البصري: من نَمَّ إِلَيكَ نَمَّ عَلَيكَ. ومما تعالج به النميمة: أن يعلم النمام أنه معرض نفسه لسخط الله تعالى وعقوبته، وأنها تحبط الحسنات، وأن يتدبر المرء في عيوبه ويجتهد في التطهر منها، وأن يعلم أن تأذي غيره بالغيبة أو بالنميمة كتأذيه بها فكيف يرضى لغيره ما يتأذى به، قال الشاعر: تَنَحَّ عَنِ النَّمِيمَةِ وَاجْتَنِبْهَا ... فَإِنَّ النَّمَّ يُحْبِطُ كُلَّ أَجْرِ يُثِيرُ أَخُو النَّمِيمَةِ كُلَّ شَرٍّ ... وَيَكْشِفُ لِلخَلَائِقِ كُلَّ سِرِّ ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4860). (¬2) «الكبائر» للذهبي (ص: 160).

وَيَقْتُلُ نَفْسَهُ وَسِوَاهُ ظُلْمًا ... وَلَيْسَ النَّمُّ مِنْ أَفْعَالِ حُرِّ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة السادسة والسبعون: الفأل وحسن الظن بالله

الكلمة السادسة والسبعون: الفأل وحسن الظن بالله الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الفأل وحسن الظن بالله من الأمور التي ينبغي للمؤمن أن يحافظ عليها، فإنها تعطيه دافعًا للعمل والتقدم إلى الأمام، فإن المتفائل عنده أمل أن يكون حاله في مستقبله خيرًا من يومه، وبأن يعوض فيه ما فاته، وأن يتجاوز العقبات والمحن، وأن يحقق المصالح والمنافع التي ليست في حوزته اليوم. قال الماوردي: «الفأل فيه تقوية للعزم، وباعث على الجد، ومعونة على الظفر، فقد تفاءل رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم في غزواته وحروبه (¬1)، والمراد بالتفاؤل انشراح قلب المؤمن، وإحسانه الظن، وتوقع الخير». قال ابن الأثير: «التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طلب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته» (¬2). ¬

(¬1) «أدب الدنيا والدين» (ص: 319). (¬2) «النهاية في غريب الحديث» (3/ 406)، بتصرُّف.

وَالنَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم حُوصِرَ وَأُوذِيَ وَأُخرِجَ مِن بَلَدِهِ، وَقُتِلَ أَصحَابُهُ، وَمَاتَ لَهُ سِتَّةٌ مِنَ الوَلَدِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَفَاءَلُ وَيُعجِبُهُ الاِسمُ الحَسَنُ. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يُعْجِبُنِي الْفَالُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَيُعْجِبُهُ الاِسْمُ الْحَسَنُ» (¬2). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَحَدَّثَنِي أَنَّ جَدَّهُ (حَزْنًا) قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: اسْمِي حَزْنٌ، قَالَ: بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي، قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ» (¬3). وفي صلح الحديبية عندما جاء سهيل بن عمرو لمفاوضة المسلمين، قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لِأَصحَابِهِ: «سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» (¬4). قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: الفرق بين الفأل والطيرة، أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء (¬5)، فكذلك ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 5756)، و «صحيح مسلم» (برقم 2224). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (4/ 169) (برقم 2328)، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6193). (¬4) «صحيح البخاري» (رقم 2731 - 2732). (¬5) «فتح الباري» (10/ 215).

كرهت، قال الحليمي: «كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء الظن بالله تعالى، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمورٌ بحسن الظن بالله تعالى على كل حال» (¬1)، قال البغوي: «وإنما أحب النبي صلى اللهُ عليه وسلم الفأل لأن فيه رجاءَ الخير والفائدة، ورجاءَ الخير أحسن بالإنسان من اليأس وقطع الرجاء عن الخير» (¬2). اهـ. والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال (¬3)، وقد أرشد النبي صلى اللهُ عليه وسلم أمته إلى حسن الظن بالله تعالى. روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» (¬4). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ» (¬5). قال العلماء: حسن الظن بالله تعالى، أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه (¬6)، والذي يتأمل في أحوال الرسل عليهم السلام، والصالحون ¬

(¬1) «فتح الباري» (10/ 215). (¬2) «شرح السنة» (12/ 175). (¬3) «فتح الباري» (10/ 215). (¬4) «مسند الإمام أحمد» (برقم 9076)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬5) «صحيح مسلم» (برقم 2877). (¬6) «شرح صحيح مسلم» للنووي (6/ 210).

من بعدهم يجد أنهم متفائلون في أحلك الظروف، والشدائد، فهذا موسى عليه السلام ومن معه عندما لحق بهم فرعون وجنوده وأصبح البحر أمامهم، والعدو خلفهم كان متفائلًا ومحسنًا للظن بربه، قال تعالى حاكيًا عنه {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين (62)} [الشعراء: 61 - 62]. وأم إسماعيل هاجر عندما تركها إبراهيم عليه السلام في مكة مع ابنها إسماعيل، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعها هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم مضى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا (¬1). وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي اللهُ عنها، لما نزل الوحي على النبي صلى اللهُ عليه وسلم ورجع إليها خائفًا يقول: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» (¬2). ونبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم كان من أعظم الناس تفاؤلًا وحسن ظن ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3364). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3).

بالله، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَاسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَامُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَامُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ (¬1)، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (¬2). وفي صحيح البخاري مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها، عِندَمَا كَانَ أَبُو بَكرٍ فِي جِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ فَابتَنَى أَبُو بَكرٍ مَسجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالقِرَاءَةِ فِيهِ، فَشَكَتْ قُرَيشٌ أَبَا بَكرٍ إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا: خَشِينَا أَن يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَذَهَبَ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكرٍ وَقَالَ: إِمَّا أَن تَمتَنِعَ عَمَّا تَفعَلُ وَإِمَّا أَن تَرُدَّ عَلَيَّ جِوَارِي، فَإِنِّي أَكرَهُ أَن تَتَحَدَّثَ العَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ¬

(¬1) هما جبلان بمكة أبو قبيس والجبل الذي يقابله. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1795).

فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عزَّ وجلَّ (¬1). ومن التفاؤل الذي يُذكر في هذا المجال: ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية، ففي سنة (702 هـ) تحرك التتار لغزو بلاد الشام فأخبر ابن تيمية الناس والأمراء أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، قال ابن القيِّم: وسمعته يقول ذلك، قال: فلما أكثروا عَلَيَّ قلت: لا تكثروا، كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام، قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو، وكان النصر حليف المسلمين، قَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيب} [البقرة: 214]، وقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} [الروم: 47] (¬2). ومن ذلك أن الشيخ شمس الدين الذي تولى تربية السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله كان يأخذ السلطان محمدًا بيده ويمر به على الساحل ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح في الأفق من بعيد شاهقة حصينة، ثم يقول له: أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق، إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا الرسول صلى اللهُ عليه وسلم أن رجلًا من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3905). (¬2) «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية» (ص: 415).

الْجَيْشُ» (¬1). ثم تفاءل الأمير الصبي وعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى اللهُ عليه وسلم، ولما جاء اليوم الموعود وتولى الخلافة شرع السلطان محمد الفاتح يفاوض الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال بكل تفاؤل: حسنًا عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر، حاصر السلطان محمد الفاتح القسطنطينية واحدًا وخمسين يومًا، تعددت خلالها المعارك العنيفة وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله، سقطت على يد بطل شاب له من العمر ثلاثة وعشرون عامًا. ومن ذلك ما ذكره الشيخ المقرئ عبد الله بن أحمد ابن سعيد قال: «مرضت بدمشق مرضًا شديدًا، فجاءني ابن تيمية رحمه الله وجلس عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض فدعا لي، ثم قال: جاءت العافية فما كان إلا أن قام، وإذا بالعافية قد جاءت، وَشُفِيتُ لوقتي» (¬2). ومن فوائد الفأل وحسن الظن بالله: أولًا: يجلب السعادة والسرور إلى القلب، ويذهب عنه الهم ¬

(¬1) هذا الحديث الذي ورد في سياق كلام الشيخ شمس الدين، واستدل به على فضل فاتح القسطنطينية. رواه عبد الله بن الإمام أحمد في «زوائد المسند» [31/ 287 (برقم 18957)] مِن حَدِيثِ بِشْرٍ الخَثْعَمِيِّ رضي اللهُ عنه، وقد ضعَّفه بعض أهل العلم، وفضل فتح القسطنطينية ثابت بأحاديث أخرى تراجع في مظانها. (¬2) «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية» (ص: 688).

والحزن، وهذا مطلوب شرعًا، ففي صحيح البخاري مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» (¬1). ثانيًا: فيه تقوية للعزائم، ومعونة على الظفر، وباعث على الجد والعمل، قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]. وفي صحيح مسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (¬2). ثالثًا: فيه اقتداء بالسنة النبوية، فقد حثَّ النبي صلى اللهُ عليه وسلم على ذلك. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2893). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2664).

الكلمة السابعة والسبعون: مواقف مؤثرة

الكلمة السابعة والسبعون: مواقف مؤثرة من سيرة الإمام أحمد بن حنبل الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وإمام من أئمة الهدى، نصر الله به الدين، وحفظ به السنة، ولد سنة (164 هـ)، ونشأ يتيمًا، فقد مات والده وهو طفل صغير، وطلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان طوالًا أسمر شديد السمرة، تزوج وهو ابن أربعين سنة، قال أبو زرعة الرازي: كان يحفظ ألف ألف حديث «يعني مليون حديث»، ولما سُئل أبو زرعة عن ذلك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. قال الذهبي: وهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ ذلك (¬1). إنه إمام أهل السنة والجماعة، شيخ الإسلام أحمد ابن ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (11/ 187).

محمد بن حنبل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي، ويُكنى بأبي عبد الله. قال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلًا أفضل، ولا أعلم ولا أتقى، من أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهوية: أحمد حجة بين الله وخلقه. قال الذهبي: كان أحمد عظيم الشأن، رأسًا في الحديث، وفي الفقه، وفي التأله، أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأقرانه؟ وكان مهيبًا في ذات الله، حتى قال أبو عبيد: ما هبت أحدًا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل. وكان يجتمع في مجلس أحمد خمسة آلاف، أو يزيدون؛ نحو خمس مائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت، وسأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم وقد أصبحت إمامًا للمسلمين؟ فقال له: من المحبرة إلى المقبرة. وكان رحمه الله متفقهًا زاهدًا في الدنيا، قال النسائي: جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث، والفقه، والورع، والزهد، والصبر، وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط. قال أحمد بن سنان: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه، وعرض عليه عبد الرزاق دراهم فلم يقبلها.

قال المروذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عَلَيَّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل ما أعدل بالفقر شيئًا، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر، وقال: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أُعرف، قد بُليت بالشهرة. وكان تقيًّا، ورعًا متواضعًا، قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك، قال أخاف أن يكون هذا استدراجًا بأي شيء هذا؟ وقلت له: قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء، ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق، ونرمي عن أبي عبد الله ولقد رمي عنه بحجر، والعلج على الحصن متترس بدرقة فذهب برأسه وبالدرقه، قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجًا، قلت: كلا، ودخل عليه رجل وأثنى عليه وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرًا؛ فاغتم وقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا، من أنا وما أنا؟ قال صالح بن أحمد: كان أبي إذا دعا له رجل يقول: الأَعمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا. وقال المروذي: قلت لأحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف

أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطلبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة. قال المروذي: لما ذكر الإمام أحمد أخلاق الورعين فقال: أسأل الله أن لا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟ وهذا من تواضعه وإلا فهو إمام في ذلك. وكان رحمه الله من الصادعين بالحق والصابرين عليه، وقد ابتُلِيَ في ذلك، قال الذهبي: «الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، قال: فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يُخْذَلُ، فمن قام بهما كاملًا فهو صدِّيق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله» (¬1). قال علي بن المديني: أعز الله الدين برجلين: أبو بكر الصديق في حروب الردة، وأحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن. قَالَ تَعَالَى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين (3)} [العنكبوت: 1 - 3]. روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (11/ 234).

قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ» (¬1). لما حصلت فتنة خلق القرآن في عهد المأمون قال صالح: ثم امتحن القوم ووجه بمن امتنع إلى السجن، فأجاب القوم جميعًا إلا أربعة: أبي ومحمد بن نوح، والقواريري، والحسن بن حماد، ثم أجاب هذان وبقي أبي ومحمد في الحبس أيامًا، ثم جاء كتاب من طرسوس بحملهما مقيدين زميلين، وتوفي محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه الإمام أحمد. قال عباس الدوري: سمعت أبا جعفر يقول: لما أُخذ أحمد إلى المأمون أُخبرت فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، قال: يا أبا جعفر تعنيت، قلت: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد من الموت فاتق الله ولا تجب، وجعل أحمد يبكي ويقول له: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عَلَيَّ، فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله. قال إبراهيم بن عبد الله: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها، قال: يا أحمد إن ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2398)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا، فَقَوِيَ قلبي. قال محمد بن إبراهيم: جعلوا يذاكرون أبا عبد الله بالرقةِ في التقية، وما رُوي فيها، فقال: كيف تصنعون بِحَدِيثِ خَبَّابٍ؟ «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَاسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ، أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» (¬1). فأيسنا منه، وقال: لست أبالي بالحبس؛ ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلًا بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّيَ عنه. قال صالح بن أحمد: قال أبي: فلما صرنا إلى أذنه (¬2) ورحلنا منها في جوف الليل وفتح لنا بابها إذا رجل قد دخل فقال: البشرى، قد مات الرجل - يعني المأمون -، قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه، وبقي أحمد محبوسًا بالرقة حتى بويع المعتصم إثر موت أخيه، وقد أمر بتعذيبه، وجلده بالسياط حتى أُغمي عليه عدة مرات، قال صالح: ثم خُلِّيَ عنه فصار إلى منزله، وكان مُكْثُهُ في السجن منذ أُخِذَ إلى أن ضرب: ثمانية وعشرين شهرًا. ومن أخلاقه العظيمة: عفوه وتسامحه حتى مع أشد خصومه ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3612). (¬2) بلد مشهور من الثغور قرب المصيصه.

ممن عذبه، فمن ذلك أنه قال: كل من ذكرني ففي حِلٍّ إلا مُبْتَدِعًا، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم - في حِلٍّ، ورأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. وأمر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مِسْطَحٍ، قال أبو عبد الله: وما ينفعك أن يُعذب أخاك المسلم بسببك؟ ولتعف، وتصفح فيغفر الله لك كما وعدك، وكان يقول لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، قال عبد الوهاب الورَّاق: ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية، ولا الإسلام مثله - يعني من شهد الجنازة -، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحرز على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف - يعني مليون - وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع، والدروب، ينادون: من أراد الوضوء (¬1). وكان وفاته لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول يوم الجمعة سنة (241 هـ)، رحمه الله رحمة واسعة. وجزاه عن الإسلام، والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (11/ 177 - 356).

الكلمة الثامنة والسبعون: الرفق

الكلمة الثامنة والسبعون: الرفق الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن من الأخلاق الجميلة والصفات الحميدة التي وصف الله بها نبيه محمدًا صلى اللهُ عليه وسلم الرفق. قَالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (128)} [التوبة: 128]. وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» (¬2). والرفق هو لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل وهو ضد العنف، وقد يجيء الرفق أيضًا بمعنى التمهل في الأمور ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6024)، و «صحيح مسلم» (برقم 2165). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2593).

والتأني فيها، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: ومن أسمائه تعالى (الرفيق) في أفعاله وشرعه، ومن تأمل ما احتوى عليه شرعه من الرفق، وشرع الأحكام شيئًا بعد شيء وجريانها على وجه السداد، واليسر، ومناسبة العباد وما في خلقه من الحكمة، إذ خلق الخلق أطوارًا ونقلهم من حالة إلى أخرى بحكم وأسرار لا تحيط بها العقول، وهو تعالى يحب من عباده: أهل الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، والرفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقًا في أموره متأنيًا ومع ذلك لا يفوت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت (¬1). قال ابن القيِّم: وَهُوَ الرَّفِيقُ يُحِبُّ أَهْلَ الرِّفْقِ بَلْ يُعْطِيْهِمُ بِالرِّفْقِ فَوْقَ أَمَانِ والرفق من أفضل الأخلاق، وأجلها، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، فلا يكون في شيء إلا زيَّنه وجمَّله، وحسَّنه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، وعابه وقبحه، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» (¬2). ومن آتاه اللهُ الرِّفقَ فقد أعطاه خيرًا عظيمًا من الثناء الحسن، والتوفيق، وصلاح البال، وطمأنينة النفس، ونيل المطالب، ¬

(¬1) «تفسير أسماء الله الحسنى» (ص: 206 - 207). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2594).

وتحقيق المآرب، وفي الآخرة أجر عظيم، وثواب جزيل، ذلك بأن المتأني الذي يأتي الأمور بسكينة، ورفق اتباعًا لسنن الله في الكون، واتباعًا لنبيه محمد صلى اللهُ عليه وسلم، فإنَّ من كان هذا هديه وطريقه؛ تيسر له الأمور، وبالأخص الذي يحتاج إلى أمر الناس، ونهيهم، وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين. وكذلك من آذاه الخَلْقُ بالأقوال البشعة، وصان لسانه عن مشاتمتهم ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الراحة، والطمأنينة، والرزانة، والحلم، فما أطيب عيشه! وما أنعم باله! وما أقر عينه! (¬1). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن دخول الرفق على أهل بيت علامة خير، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَا عَائِشَةُ ارْفُقِي، فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ» (¬2). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم من أكثر الناس رفقًا بأصحابه، روى البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ مَالِكِ بنِ الحُوَيرِثِ رضي اللهُ عنه قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ: ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، ¬

(¬1) «مجموع مؤلفات الشيخ ابن سعدي»، قسم العقيدة (6/ 536). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (41/ 255) (برقم 24734)، وقال محققوه: إسناده صحيح.

فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» (¬1). وكان صلى اللهُ عليه وسلم يحث أصحابه على الرفق بالناس، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (¬2). وَلَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ وَمُعَاذَ بنَ جَبَلٍ رضي اللهُ عنهما إِلَى اليَمَنِ، قَالَ لَهُمَا: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» (¬3). قال الإمام أحمد بن حنبل: يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه (¬4). وَكَانَ صلى اللهُ عليه وسلم يَحُثُّ أَهلَ بَيتِهِ عَلَى الرِّفقِ، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: «أَنَّ يَهُودَ أَتَوا النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» (¬5). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 628)، و «صحيح مسلم» (برقم 674). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6128). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6124)، و «صحيح مسلم» (برقم 1733). (¬4) «جامع العلوم والحكم» (ص: 395) [دار الريان للتراث]. (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 6030)، و «صحيح مسلم» (برقم 2165).

وَحَثَّ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وُلَاةَ أُمُورِ المُسلِمِينَ عَلَى الرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (¬1). بل إِنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم حَثَّ أُمَّتَهُ عَلَى الرِّفقِ بِالحَيَوَانِ، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (¬2). الخلاصة: أنه ينبغي على المؤمن أن يكون رفيقًا في جميع شؤونه، رفيقًا في معاملة أهله، وأولاده، وإخوانه، وأصدقائه، وفي معاملة عامة للناس، يرفق بهم، ومن كان هذا حاله فالنفوس ترتاح له، والقلوب تأنس به، والصدور تنشرح له، ويحصل على محبة الناس، وينبغي أن يكون الرفق ملازمًا للمؤمن في بيته، وسوقه، ومسجده، وفي كل مكان يخالط فيه الناس، فإذا فعل ذلك فقد أُعطي خيرًا كثيرًا، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ كُلَّهُ» (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1828). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1955). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2592).

الكلمة التاسعة والسبعون: وقفات مع سورة قريش

الكلمة التاسعة والسبعون: وقفات مع سورة قريش الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة قريش، قَالَ تَعَالَى: {لإِيلاَفِ قُرَيْش (1) إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف (4)} [قريش: 1 - 4]. هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها وهي سورة الفيل، إذ أن سورة الفيل بيان منة الله عزَّ وجلَّ على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة وهي رحلة الشتاء والصيف. قوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْش} والإلف بمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام؛ لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي

نعمة من الله سبحانه على قريش في هاتين الرحلتين؛ لأنه يحصل منهما فوائد كثيرة ومكاسب تجارية، إضافة إلى أنهم يرجعون إلى بلدهم مكة آمنين في أسفارهم لعظمتهم عند الناس لكونهم سكان حرم الله، فمن عرفهم احترمهم، بل من سار معهم أمن بهم، هذا حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم، وصيفهم، وأما في حال إقامتهم، فكما قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. قَولُهُ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت (3)} أرشدهم إلى شكر هذه النعم بعبادة رب البيت والمراد الكعبة، وهنا أضاف ربوبيته إليه، فقال: {رَبَّ هَذَا الْبَيْت} وإضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم (¬1). أي: فليوحِّدُوه بالعبادة كما جعل لهم حرمًا آمنًا وبيتًا محرمًا كما قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]. فلا يعبدوا صنمًا ولا ندًا ولا وثنًا، ومن استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون (112)} [النحل: 112]. قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف}: أي ¬

(¬1) «تفسير الشيخ ابن عثيمين» (ص: 326)، و «تفسير ابن كثير» (14/ 466).

من بعد الجوع، وكان صلى اللهُ عليه وسلم يتعوذ بالله من الجوع. روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ» (¬1). قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «{أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} وَذَلِكَ بِدَعوَةِ إِبرَاهِيمَ عليه السلام حَيثُ قَالَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]» (¬2). قال ابن زيد: «كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم، ثم قرأ قَولَهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} [القصص: 57]» (¬3). ومن فوائد السورة الكريمة: أولًا: أن نعم الله على عباده كثيرة ومن أعظمها بعد الإيمان: الأمن والغذاء، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار (34)} [إبراهيم: 34]. وقال تعالى ممتنًّا على عباده بنعمة الغذاء: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (3 مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم (31)} [عبس: 24 - 32]. وقال تعالى ممتنًّا على عباده بنعمة الأمن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 1547)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1/ 288) (برقم 1368). (¬2) «تفسير القرطبي» (22/ 508). (¬3) «تفسير القرطبي» (22/ 508).

يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون (82)} [الأنعام: 82]. وقال تعالى ممتنًّا على أهل سبأ بهذه النعمة: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِين (18)} [سبأ: 18]. روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ رضي اللهُ عنه وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» (¬1). ثانيًا: أن دوام هذه النعم وبقاءها إنما يكون بشكرها وذلك بإخلاص العبادة له وطاعته واجتناب نواهيه، قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون (55)} [النور: 55]. وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد (7)} [إبراهيم: 7]. ثالثًا: أن شكر هذه النعم يكون بالقلب والقول والفعل، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان: 12].وقَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور (13)} [سبأ: 13]. وذهاب هذه النعم إنما يكون بالمعاصي والذنوب، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2346)، وحسنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2/ 274) (برقم 1913).

الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار (29)} [إبراهيم: 28 - 29]. وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ! » (¬1). قال الشاعر: إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ... فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ ... فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1130)، و «صحيح مسلم» (برقم 2820).

الكلمة الثمانون: محاسبة النفس

الكلمة الثمانون: محاسبة النفس الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون (18)} [الحشر: 18]. قال ابن القيِّم: «دلت الآية على وجوب محاسبة النفس، فيقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدَّم ليوم القيامة من الأعمال، أَمِنَ الصالحات التي تنجيه؟ أم من السيئات التي توبقه؟ » (¬1). قال الحسن البصري: «لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه، ماذا أردتِ تعملين؟ وماذا أردتِ تأكلين؟ وماذا أردتِ تشربين؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا قدمًا ما يعاتب نفسه» (¬2). قال الماوردي: «محاسبة النفس أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعاله نهارَه، فإن كان محمودًا أمضاه، وأتبعه بما شاكله، وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل» (¬3). ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» (1/ 152). (¬2) «إغاثة اللهفان» (1/ 145). (¬3) «أدب الدنيا والدين» (ص: 360 - 361).

ومحاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده. فأما النوع الأول: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته فينظر: هل العمل موافقٌ لكتاب الله وسنة رسوله صلى اللهُ عليه وسلم أم لا؟ فإن كان موافقًا أقدم، وإن كان مخالفًا ترك، ثم ينظر: هل فعله خير له من تركه؟ أو تركه خير له من فعله؟ فإن كان الثاني: تركه ولم يقدم عليه، ثم ينظر: فإن كان لله مضى، وإن كان للجاه، والثناء، والمال من المخلوق ترك. أما النوع الثاني: فهو محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع: أولًا: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي، وحق الله في الطاعة ستة أمور: الإخلاص لله في العمل، النصيحة لله فيه، متابعة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم، شهود مشهد الإحسان فيه، شهود منة الله عليه، شهود تقصيره فيه، بعد ذلك كله يحاسب نفسه هل وَفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟ ثانيًا: أن يحاسب نفسه على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية. ثالثًا: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا من فعله. رابعًا: أن يحاسب نفسه على أمر مباحٍ، أو معتادٍ، لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحًا، أو أراد به الدنيا

وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر (¬1). قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: «حَاسِبُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنفُسَكُم قَبلَ أَن تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهوَنُ عَلَيكُم فِي الحِسَابِ غَدًا، أَن تُحَاسِبُوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ، وَتَزَيَّنُوا لِلعَرضِ الأَكبَرِ، يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ» (¬2). قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: «سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه يَومًا وَقَد خَرَجتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا فَسَمِعتُهُ يَقُولُ وَبَينِي وَبَينَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوفِ الحَائِطِ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابُ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ بَخٍ، وَاللهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللهَ ابنَ الخَطَّابِ أَو لَيُعَذِّبَنَّكَ» (¬3). قال إبراهيم التيمي: «مَثَّلْتُ نفسي في الجنة: آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مَثَّلْتُ نفسي في النار: آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قلت: فأنت في الأمنية فاعملي» (¬4). قال الغزالي: «عرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» (1/ 148 - 149). (¬2) المصدر السابق (1/ 145). (¬3) «موطأ الإمام مالك» (1800). (¬4) «محاسبة النفس» لابن أبي الدنيا (ص: 26).

بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته» (¬1). وأضر ما على المسلم الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب ويمشي الحال ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها، وعسر عليه فطامها ولو حضر رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام، وترك المألوف والمعتاد (¬2). فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر، أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يُشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبدا الآباد، فإضاعة هذه الأنفاس أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه، خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس، وأحمقهم، وأقلهم ¬

(¬1) «إحياء علوم الدين» للغزالي (4/ 418). (¬2) «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (1/ 147 - 150).

عقلًا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] (¬1). ومن فوائد محاسبة النفس: أولًا: الاطِّلاع على عيوب النفس، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته. ثانيًا: دليل على الخوف من الله والاستعداد للقائه. ثالثًا: تبين للمؤمن حقيقة الربح والخسران. رابعًا: محاسبة النفس في الدنيا تريح المؤمن يوم القيامة. خامسًا: فيه امتثال لأمر الله تعالى. سادسًا: تبعد عن الغفلة، والاستمرار في المعاصي، والذنوب. سابعًا: تعين المؤمن، وتساعده في استدراك ما نقص من الفرائض، والنوافل. ثامنًا: تثمر محبة الله ورضوانه. تاسعًا: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه، فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًّا. عاشرًا: أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (1/ 147 - 150).

والاسترسال معها (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «إغاثة اللهفان» (1/ 156)، و «نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى اللهُ عليه وسلم» (8/ 3317، 3324).

الكلمة الحادية والثمانون: الإمام عبد الله بن المبارك وشيء من أخباره

الكلمة الحادية والثمانون: الإمام عبد الله بن المبارك وشيء من أخباره الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وإمام من أئمة الهدى، نصر الله به الدين، وحفظ به السنة. قال عنه الذهبي: شيخ الإسلام وأمير الأتقياء في وقته، الحافظ الغازي عبد الله بن المبارك الحنظلي مولاهم التركي ثم المروزي، ولد سنة (118 هـ)، وطلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وأكثر من الترحال والتطواف في طلب العلم، وفي الغزو، وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان في الله، وتجهيزهم معه إلى الحج، قال شعيب بن حرب: سمعت أبا أسامة يقول: ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس، وكان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه؟ قال أشعث بن شعبة: قدم الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من [برج من] قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بِشُرَطٍ وأعوان.

قال محمد بن أعين: سمعت عبد الرحمن بن مهدي واجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: جالست الثوري وسمعت منه ومن ابن المبارك، فأيهما أرجح؟ قال: لو أن سفيان جهد على أن يكون يومًا مثل عبد الله لم يقدر، وقال سفيان الثوري: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام. وقال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة، وأمر عبد الله فما رأيت لهم عليه فضلًا إلا بصحبتهم النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وغزوهم معه. قال ابن المبارك: استعرت قلمًا بأرض الشام فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه. واجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف مع أصحابه. وقيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.

قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة من البكاء لا يجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه. وروى غير واحد أن ابن المبارك قيل له: إلى متى تكتب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد. وكان عبد الله غنيًّا شاكرًا كريمًا، قال سلمة بن سليمان: جاء رجل إلى ابن المبارك فسأله أن يقضي دينًا عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه؟ قال: سبع مئة درهم، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله إن كانت الغلات قد فنيت، فإن العمر أيضًا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي. وكان يقول للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم. قال علي بن الفضيل: سمعت أبي يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل، والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟ قال: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأُكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا. قال محمد بن عيسى: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى

طرسوس؛ وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحدًا ما عاش، فَأُخْرِجَ الرجل وسَرَى ابن المبارك، فَلَحِقَه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال: يا فتى أين كنت لم أرك؟ قال: يا أبا عبد الله كنت محبوسًا بدين، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أَدْرِ، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله. وكان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي، وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصص بيوتهم، وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسُرُّوا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى

كل رجل منهم صرته عليها اسمه. ولما عوتب فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل، وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بيت العلم. وهذه رسالة لكل تاجر أن ينفق من ماله للفقراء، والمحتاجين، وطلبة العلم، والمشاريع الخيرية، فإن في ذلك بركة وخير له في ماله، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» (¬1). وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (¬2). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (¬3). ومن أقواله العظيمة رحمه الله أنه كان يقول: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (29/ 299) (برقم 17763)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1442)، و «صحيح مسلم» (برقم 1010). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2588).

تُكَثِّرُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَثِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ. وقال أيضًا: مَنِ اسْتَخَفَّ بِالعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالأُمَرَاءِ ذَهَبَتْ دُنيَاهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالإِخْوَانِ ذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ. قال علي بن الحسن: سمعت ابن المبارك، وسأله رجل عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقال: عالجتها بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به، فقال له: اذهب، فاحفر بئرًا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ. قال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستسقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عَن جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (¬1) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شربه. قال محمد بن إبراهيم: أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرسوس: يَا عَابِدَ الحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا ... لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ تَلْعَبُ مَنْ كَانَ يَخْضِبُ خَدَّهُ بِدُمُوعِهِ ... فَنُحُورُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ أَو كَانَ يُتعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِلٍ ... فَخُيُولُنَا يَوْمَ الصَّبِيحَةِ تَتعَبُ ¬

(¬1) «سنن ابن ماجة» (برقم 3062)، وصححه الشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (4/ 320) (برقم 1123).

رِيحُ العَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرُنَا ... رَهَجُ السَّنابِكِ وَالغُبَارُ الأَطْيَبُ (¬1) وَلَقَد أَتَانَا مِن مَقَالِ نَبِيِّنَا ... قَوْلٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لَا يُكْذَبُ لَا يَسْتَوِي غُبَارُ خَيلِ اللهِ فِي ... أَنْفِ امرِئٍ وَدُخَانُ نَارٍ تَلهَبُ هَذَا كِتَابُ اللهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا ... لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيْتٍ لَا يُكْذَبُ فألفيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح. وقد رآه أحد أصحابه في المنام بعد وفاته فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي برحلتي في الحديث، عليك بالقرآن، عليك بالقرآن. وكانت وفاته سنة (181 هـ) وله من العمر ثلاثة وستون عامًا، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) الرهج: الغبار، والسنابك: جمع سنبك، طرف حافر الخيل وجانباه من قدام. (¬2) انظر: «سير أعلام النبلاء» (8/ 378 - 421).

الكلمة الثانية والثمانون: فوائد الإيمان بالقضاء والقدر

الكلمة الثانية والثمانون: فوائد الإيمان بالقضاء والقدر الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالقضاء والقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، ففي حديث جبريل المخرج في صحيح مسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» (¬1). قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (22) لِكَيْلاَ تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور (23)} [الحديد: 22 - 23]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو ابنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (¬2). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 8). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2653).

يخبر تعالى في هذه الآيات الكريمات أن جميع ما يقع من المقادير والمصائب وغيرها في الأنفس والآفاق، كل ذلك قد كتب الله وقوعه قبل وجوده بمدد طويلة، وذلك لسعة علمه المحيط بكل شيء، ما كان وما يكون، ثم يبين تعالى أن في إخباره لنا بذلك حكمتين عظيمتين وفائدتين جليلتين: الأولى: ألا نحزن حين فوات شيء من الدنيا ومصالحها، إذ إن ما لم يقدر ينقطع الطمع فيه، والحزن والأسى عليه من الحمق، والله لا يريد لنا أن نقع في ذلك لما ينتج عن الحزن من الآثار السيئة على فكر المرء وتصرفاته. الثانية: أن الناس عند حدوث النعم ينقسمون إلى قسمين، فضعيف الإيمان بالقضاء والقدر يطير فرحًا، ويمتلئ فخرًا وكبرًا وكأنه والعياذ بالله لم يصدق بما حصل له، أما قوي الإيمان الذي يعلم أن تقدير الله عزَّ وجلَّ سبق وجود هذه النعم فإنه لا يتغير عنده شيء لعلمه وإيمانه أن ما وقع كائن لا محالة فكما أن كتابته سبقت وجوده فكذلك إيمانه سبق وقوعه. وقوله تعالى في آخر الآية: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} أي: إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عزَّ وجلَّ، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ (¬1). ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (13/ 431).

ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر: أولًا: الرضا واليقين بالعوض، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (11)} [التغابن: 11]. قال ابن كثير في تفسيرها: «أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله، وقدره فصبر، واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أُخذ منه، أو خيرًا منه، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ فَيَعلَمُ أَنَّهَا مِن عِندِ اللهِ فَيَرضَى وَيُسَلِّمُ، وفي الحديث المخرج في صحيح مسلم مِن حَدِيثِ صُهَيْبٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (¬1)، قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} - يَعنِي يَسْتَرْجِعُ - يَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ» (¬2). روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ اجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2999). (¬2) «تفسير ابن كثير» (14/ 20).

مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1). ثانيًا: انشراح الصدر، وسعادة القلب، وطمأنينة النفس، وراحة البال، قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وَمَا لِيَ سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر، قَالَ تَعَالَى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون (51)} [التوبة: 51]. ثالثًا: الحصول على الأجر الكبير، قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون (157)} [البقرة: 155 - 157]، قال أمير المؤمنين: نعم العدلان، ونعمت العلاوة؛ {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون} هذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا. رابعًا: غنى النفس، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ» (¬2). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 918). (¬2) قطعة من حديث في «سنن الترمذي» (برقم 2305)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (برقم 930).

خامسًا: عدم الخوف من ضرر البشر، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (¬1). سادسًا: الشجاعة والإقدام، فالذي يؤمن بالقضاء والقدر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأجل مقدر لا يزيد فيه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، لا يهاب الموت، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145]. وقَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون (34)} [الأعراف: 34]. قال الشافعي: وَمَنْ نَزَلَتَ بِسَاحَتِهِ المنَايَا فَلا أَرضُ تَقِيهِ وَلا سَماءُ سابعًا: عدم الندم على ما فات، والتحسر على الماضي، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (¬2). ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2516)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2664).

ثامنًا: أن الخيرة فيما اختاره الله، فقد يقدر على المؤمن مصيبة فيحزن ولا يدري كم من المصالح العظيمة التي تحصل له بسببها وكم صُرف عنه من شرور، والعكس كذلك، وصدق الله إذ يقول: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة: 216]. قَالَ ابنُ عَونٍ: ارْضَ بِقَضَاءِ اللهِ مِن عُسْرٍ وَيُسْرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ لِهَمِّكَ، وَأَبلَغُ فِيمَا تَطلُبُ مِن أَمرِ آخِرَتِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ العَبدَ لَن يُصِيبَ حَقِيقَةَ الرِّضَا، حَتَّى يَكُونَ رِضَاهُ عِندَ الفَقرِ وَالبَلَاءِ، كَرِضَاهُ عِندَ الغِنَى وَالرَّخَاءِ؛ كَيفَ تَستَقضِي اللهَ فِي أَمرِكَ، ثُمَّ تَسخَطُ إِنْ رَأَيتَ قَضَاءً مُخَالِفًا لِهَوَاكَ؟ ! وَلَعَلَّ مَا هَوَيْتَ مِن ذَلِكَ، لَو وُفِّقَ لَكَ لَكَانَ فِيهِ هَلَاكُكَ، وَتَرضَى قَضَاءَهُ إِذَا وَافَقَ هَوَاكَ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِلْمِكَ بِالغَيبِ؟ ! إِذَا كُنتَ كَذَلِكَ، مَا أَنْصَفْتَ مِن نَفسِكَ، وَلَا أَصَبْتَ بَابَ الرِّضَا. قَالَ ابنُ رَجَبٍ: وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ (¬1). تاسعًا: النجاة من النار، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي اللهُ عنه: رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى ¬

(¬1) «تيسير العزيز الحميد» (ص: 522 - 523).

غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ» (¬1). عاشرًا: ذهاب الهم والغم والحزن. الحادي عشر: من الإيمان بالقدر الإيمان بكتابة المقادير قبل إيجادها، فإذا وُجِدت تبين مدى الإيمان بذلك، فَقَوِيُّ الإيمان لا يفرح بما أُوتي، ولا يحزن على ما فات، وعكسه بعكسه بهذا المعنى، وردت الآية الكريمة: {لِكَيْلاَ تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4699)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3/ 890) (برقم 3932).

الكلمة الثالثة والثمانون: قضاء حوائج الناس

الكلمة الثالثة والثمانون: قضاء حوائج الناس الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد حث الشرع الحنيف على نفع الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي إلى تفريج كرباتهم، وبذل الشفاعة الحسنة لهم، تحقيقًا لدوام المودة، وبقاء الألفة، وزيادة في روابط الأخوة، قَالَ تَعَالَى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً} [النساء: 114]، وقَالَ تَعَالَى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} [النساء: 85]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّ نَفعَ النَّاسِ مِن أَعظَمِ الأَعمَالِ وَالقُرُبَاتِ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2442)، و «صحيح مسلم» (برقم 2580).

جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَا شَاءَ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: «فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ» (¬3). قال النووي: «وفي هذا الحديث الحث على الصدقة، والجود، والمواساة، والإحسان إلى الرفقة، والأصحاب، والاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج وأنه يُكْتَفَى في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتحريضه من غير سؤال» (¬4). وأبواب نفع الناس كثيرة: كقضاء ديونهم، أو الصدقة على الفقراء منهم، أو تفريج كربهم، أو الصلح بينهم، أو إدخال السرور عليهم، .. وغيرها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1432)، و «صحيح مسلم» (برقم 2627). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2199). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 1728). (¬4) «شرح صحيح مسلم» (4/ 33).

سَعِيدِ بنِ أَبِي بُرْدَةَ عَن أَبِيهِ عَن جَدِّهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (¬1). قال ابن القيِّم رحمه الله: «وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها، ومللها، ونحلها، على أن التقرب إلى رب العالمين، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه، بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه» (¬2). اهـ ونفع الناس، والسعي في كشف كروباتهم، من صفات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحاق عليه السلام مع ما فعله إخوته به جهزهم بجهازهم ولم يبخسهم شيئًا منه، وموسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، فرفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما، وَأُمُّ المُؤمِنِينَ خَدِيجَةُ رضي اللهُ عنها تَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2707)، و «صحيح مسلم» (برقم 1009) واللفظ له. (¬2) «الجواب الكافي» (ص: 9).

وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ (¬1). وَكَانَ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا سُئِلَ عَن حَاجَةٍ لَم يَرُدَّ السَّائِلَ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: «مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَطُّ؟ فَقَالَ: لَا» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عُثمَانَ بنِ عَفَّانَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «إِنَّا وَاللهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي السَّفَرِ، وَالْحَضَرِ، فكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا، وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا، وَيَغْزُو مَعَنَا، وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ» (¬3). والصحابة رضي الله عنهم كانوا يسيرون على منهجه صلى اللهُ عليه وسلم، فيخدمون الناس وينفعونهم، فأبو بكر الصديق رضي اللهُ عنه أسلم وله أربعون ألفًا، فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعة كلهم يعذَّب في سبيل الله، أعتق بلالًا، وعامر بن فهيرة، وزنبرة، والنهدية وابنتها، وجارية بن مؤمل، وأم عبيس، وعمر بن الخطاب كان يتعاهد الأرامل يسقي لهن الماء ليلًا، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل عليها طلحة نهارًا، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، وعثمان بن عفان اشترى بئر رومة بخمسة وثلاثين ألف درهم، وجعلها للغني والفقير وابن السبيل، ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6034)، و «صحيح مسلم» (برقم 2311). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (1/ 532) (برقم 504)، وقال محققوه: إسناده حسن.

وجاء رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللهُ عنه فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله تعالى قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك، فَقَالَ عَلِيٌّ: اكْتُبْ حَاجَتَكَ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ فِي وَجْهِكَ، فَكَتَبَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيَّ بِحُلَّةٍ فَأُتِيَ بِهَا فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ فَلَبِسَهَا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: كَسَوتَنِي حُلَّةً تَبلَى مَحَاسِنُهَا فَسَوفَ أَكسُوكَ مِن حُسنِ الثَّنَا حُلَلًا إِن نِلتَ حُسنَ ثَنَائِي نِلتَ مَكرُمَةً وَلَستُ أَبغِي بِمَا قَد قُلتُهُ بَدَلًا إِنَّ الثَّنَاءَ لَيُحيِي ذِكرَ صَاحِبِهِ كَالغَيثِ يُحيِي نِدَاهُ السَّهلَ وَالجَبَلَا لَا تَزهَدِ الدَّهرَ فِي خَيرٍ تُوَافِقُهُ فَكُلُّ عَبدٍ سَيُجزَى بِالَّذِي عَمِلَا قَالَ عَلِيٌّ: عَلَيَّ بِالدَّنَانِيرِ، فَأُتِيَ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيهِ، فَقَالَ الأُصبُعُ: يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ حُلَّةٌ وَمِائَةُ دِينَارٍ، قَالَ: نَعَم. قال الذهبي عن شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: «وله محبون من العلماء، والصلحاء، ومن الجند، والأمراء، ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه» (¬1). وذكر أحد المشايخ نقلًا عن كاتب الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله أن الشيخ كان يترك صيام النافلة في بعض الأيام ويقول: لأنه يضعفني عن القيام بحوائج الناس، فالصيام نفعه للشيخ ¬

(¬1) «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية» (ص: 672).

والأعمال الأخرى المتعدية تنفع الناس. روى الطبراني في معجمه الكبير مِن حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» (¬1). قَالَ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ رضي اللهُ عنه: مَا أَصْبَحتُ وَلَيسَ عَلَى بَابِي صَاحِبُ حَاجَةٍ إِلَّا عَلِمْتُ أَنَّهَا مِنَ المَصَائِبِ، فكانوا يعتبرون صاحب الحاجة هو المنعم المتفضل على صاحب الجاه والمال حين أنزل حاجتهُ به، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: ثَلَاثَةٌ لَا أُكَافِئُهُمْ: رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ لِي فِي المَجلِسِ، وَرَجُلٌ اغبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي المَشيِ إِلَيَّ إِرَادَةَ التَّسلِيمِ عَلَيَّ، فَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَا يُكَافِئُهُ عَنَّي إِلَّا اللهُ، قِيلَ: وَمَن هُوَ؟ قَالَ: رَجُلٌ نَزَلَ بِهِ أَمرٌ فَبَاتَ لَيلَتَهُ يُفَكِّرُ بِمَن يُنزِلُهُ ثُمَّ رَآنِي أَهلًا لِحَاجَتِهِ فَأَنزَلَهَا بِي. وليحذر صاحب المعروف من المن، فإنه يفسد العمل، ويوغر الصدر ويحبط الأجر، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: 264]. قال الشاعر: أَفسَدتَ بِالمَنِّ مَا أَسدَيتَ مِن حُسنٍ ... لَيسَ الكَرِيمُ إِذَا أَسدَى بِمَنَّانِ روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) «المعجم الكبير» (8/ 261) (برقم 8014)، وقال المنذري في كتابه «الترغيب والترهيب» (1/ 679): إسناده حسن. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (برقم 1908).

قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». ذَكَرَ مِنْهُمْ: «الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ» (¬1). ومما ينبغي التنبيه عليه: أن تعليم الناس العلم الشرعي هو من أعظم النفع، فإن حاجتهم إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وَفِي الحَدِيثِ: «إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ «(¬2). وفي رواية: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ «(¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 106). (¬2) «سنن أبي داود» (برقم 3641)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 694) (برقم 3096). (¬3) «سنن الترمذي» (برقم 2685)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.

الكلمة الرابعة والثمانون: ذم الجبن

الكلمة الرابعة والثمانون: ذم الجبن الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله (الجبن)، قال الفيروزآبادي: الجبن ضعف القلب عما يحق أن يُقوى فيه (¬1)، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ الجُبْنِ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَنَسٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضِلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (¬2). قال القاضي عياض: «وكذلك استعاذته صلى اللهُ عليه وسلم من الجبن والبخل لما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام في حقوق الله، والغلظة على أهل المعاصي، وتغيير المنكرات، وأداء حقوق المال، إذ بشجاعة النفس المعتدلة يقيم الحقوق، وينصر المظلوم، وبسخاء النفس يؤدي حقوق المال، ويواسي منه ويلم به ¬

(¬1) «بصائر ذوي التمييز» (1/ 366). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6363)، و «صحيح مسلم» (برقم 2706).

عند الضرورات شعث المساكين، ويؤدي واجب المضطرين» (¬1). وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الجبن من شر الصفات التي تكون في المرء، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ: شُحٌّ (¬2) هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ» (¬3). والجبن من صفات المنافقين، قَالَ تَعَالَى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19]. قال ابن كثير: من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد: أي فإذا كان الأمن تكلموا كلامًا بليغًا فصيحًا عاليًا، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة، والنجدة وهم يكذبون في ذلك (¬4). اهـ. قال الشاعر: أَفِي السِّلم أَعْيَارًا جَفَاءً وغِلْظَةً ... وَفِي الحَربِ أَمَثالُ النِّساءِ العَوارِكِ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أَشجَعَ النَّاسِ وَأَقوَاهُم قَلبًا عِندَ لِقَاءِ العَدُوِّ، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: كُنَّا ¬

(¬1) «إكمال المعلم بفوائد مسلم» للقاضي عياض (8/ 205). (¬2) الشح: أشد البخل وهو البخل مع الحرص. وخالع: أي: شديد، كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه. (¬3) «مسند الإمام أحمد» (13/ 385) (برقم 8010)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬4) «تفسير ابن كثير» (11/ 132 - 133).

وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَاسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ - يَعْنِي النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم - (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الجميع يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى إن ذلك عامة ما تمدح به الشعراء ممدوحيهم في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل، والجبن، ثم قال: ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم إلا بالشجاعة والكرم بيَّن الله عزَّ وجلَّ أنه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، قَالَ تَعَالَى: {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38]» (¬2). ومما يدل على أن الجبن مما ينافي مكارم الأخلاق ما رواه البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ جُبَيرِ بنِ مُطْعِمٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «بَيْنَا أنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ عَلِقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذُوبًا، وَلَا جَبَانًا» (¬3). قال ابن حجر: «فيه ذم الخصال المذكورة وهي: البخل والكذب ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1776). (¬2) «الاستقامة» (2/ 263 - 270)، باختصار. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3148).

والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها» (¬1). قَالَ أَبُو الزِّنَادِ رحمه الله: «لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ الوَفَاةُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ حَضَرْتُ كَذَا وَكَذَا، وَمَا فِي جَسَدِي شِبْرٌ إِلَّا وَفِيْهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ، أَو طَعنَةٌ بِرُمحٍ، أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ، وَهَا أَنَا أَمُوْتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوْتُ العِيْرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الجُبَنَاءِ» (¬2). قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: «إِنَّ الشَّجَاعَةَ وَالجُبنَ غَرَائِزُ يَضَعُهَا اللهُ حَيثُ شَاءَ، تَجِدُ الرَّجُلَ يُقَاتِلُ لَا يُبَالِي أَلَّا يَؤُوبَ إِلَى أَهلِهِ، وَتَجِدُ الرَّجُلُ يَفِرُّ عَن أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَتَجِدُ الرَّجُلَ يُقَاتِلُ ابتِغَاءَ وَجهِ اللهِ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ». قال الشاعر: يَفِرُّ جَبَانُ القَومِ عَنِ ابنِ أُمِّهِ وَيَحْمِي شُجَاعُ القَومِ مَن لَا يُلَازِمُهُ ومن قصص الشجاعة التي تُذكر: ما حصل في غزوة بدر، قَالَ مُعَاذُ بنُ عَمرٍو رضي اللهُ عنه: جَعَلْتُ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ شَانِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ فَقَطَعْتُ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي فَطَرَحَ يَدِي وَبَقِيَتْ مُعَلَّقَةً بِجِلْدَةٍ بِجَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي عَنْهَا القِتَالُ، فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي، وَضَعْتُ قَدَمِي عَلَيْهَا، ثُمَّ تَمَطَّاتُ عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا. قَالَ الذَّهَبِيُّ بَعدَ هَذِهِ القِصَّةِ: هَذِهِ وَاللهِ الشَّجَاعَةُ، لَا كَآخِرِ مَنْ ¬

(¬1) «فتح الباري» (6/ 254). (¬2) «سير أعلام النبلاء» (1/ 382).

خُدِشَ بِسَهْمٍ، يَنْقَطِعُ قَلْبُهُ، وَتَخُوْرُ قِوَاهُ (¬1). قيل لعبد الملك: من أشجع العرب في شعره؟ فقال: عباس ابن مرداس حين يقول: أَشُدُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لَا أُبَالِي ... أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا وهذا أشجع بيت قالته العرب. وهذه أبيات في ذم الجبن، قال الشاعر: تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ ... لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَّدَمَا فَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِن عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا وقال آخر: أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الحُرُوبِ نَعَامَةُ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةٍ فِي الوَغَى ... بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ وغزالة امرأة شبيب الخارجي، قال ابن كثير: كانت أيضًا شديدة البأس تقاتل قتالًا شديدًا يعجز عنه الأبطال من الرجال، وكان الحجاج يخاف منها أشد الخوف، حتى قال فيه بعض الشعراء وذكر البيتين (¬2). ومن مفاسد الجبن: أولًا: أنه من صفات المنافقين التي ينبغي للمؤمن أن يترفع عنها. ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (1/ 251). (¬2) «البداية والنهاية» (12/ 276).

ثانيًا: أنه لا يؤخر أجلًا، ولا يقرب رزقًا، ونفعًا، قال تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. ثالثًا: أنه يدل على ضعف الإيمان، والتوكل على الله، قَالَ تَعَالَى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون (51)} [التوبة: 51]. رابعًا: أنه يؤدي إلى التقصير في أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله، ومن أعظمها مجاهدة أهل الباطل، وتغيير المنكرات. خامسًا: أنه يورث الذل، وضيق الصدر، قال ابن القيِّم رحمه الله: «فإن الشجاع منشرح الصدر، ومتسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا وأحصرهم قلبًا لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة إلا من جنس الحيوان البهيمي، وأما سرور الروح، ولذتها، ونعيمها، وابتهاجها، فمحرم على كل جبان كما هو محرم على كل بخيل» (¬1). اهـ سادسًا: أنه يؤدي إلى احتلال الأوطان، وسرقة الأموال، وانتهاك الحرمات. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «زاد المعاد» (2/ 25).

الكلمة الخامسة والثمانون: وقفات مع سورة الكافرون

الكلمة الخامسة والثمانون: وقفات مع سورة الكافرون الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به فقال سبحانه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].ومن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجةٍ إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الكافرون. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (3) وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّم (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (6)} [الكافرون: 1 - 6]. هذه السورة من السور العظيمة في كتاب الله، وقد وردت نصوص كثيرة في فضلها ومكانتها، وأنها تعدل ربع القرآن، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ: و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ» (¬1). ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2893)، وصححه الألباني في صحيح «سنن الترمذي» (3/ 6) (برقم 2317).

وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُكثِرُ مِن قِرَاءَتِهَا، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَرَأَ بِهَذِهِ السُّورَةِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} فِي رَكعَتَيِ الطَّوَافِ (¬1). وفي صحيح مسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَرَأَ بِهِمَا فِي رَكعَتَيِ الفَجرِ (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ فَرْوَةَ بنِ نَوْفَلٍ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ لَهُ: «اقْرَا عِنْدَ مَنَامِكَ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، قَالَ: ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» (¬4). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَرْقِي نَفسَهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، روى الطبراني في المعجم الصغير مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَعَنَ اللهُ ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1218). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 726). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (9/ 509 - 510) (برقم 5699)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) «مسند الإمام أحمد» (39/ 224) (برقم 23807)، وقال الحافظ في «نتائج الأفكار» (3/ 61 - 62) [دار ابن كثير]: حديث حسن وفي سنده اختلاف كثير على أبي اسحاق السبيعي، فلذا اقتصرت على تحسينه، وحسنه محققو المسند.

العَقرَبَ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيرَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلحٍ وَجَعَلَ يَمسَحُ عَلَيهَا وَيَقرَأُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}» (¬1). قوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش. قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: إِنَّ قُرَيْشًا وَعَدُوا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا، فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَطَؤُوا عَقِبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا لَكَ عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ، وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، فَلَا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً، فَهِيَ لَكَ وَلَنَا فِيهَا صَلَاحٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً: اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ (¬2). قَولُهُ تَعَالَى: {ولاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون (2)} يعني: من الأصنام والأنداد. قَولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (3)} وهو الله وحده لا شريك له. قَولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّم (4)} أي في المستقبل لا أعبد عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على ¬

(¬1) «المعجم الصغير» (ص: 117)، وصححه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة (2/ 80) (برقم 548). (¬2) «تفسير ابن جرير الطبري» (10/ 8813).

الوجه الذي يحبه ويرضاه. قَولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (5)}، أي: لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئًا من تلقاء أنفسكم كما قَالَ تَعَالَى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]، فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كانت كلمة الإسلام (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أي لا معبود بحق إلا الله، ولا طريق إليه إلا بما جاء به رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. قَولُهُ تَعَالَى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (6)}، وهو كما قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُون (41)} [يونس: 41]، وكما قَالَ تَعَالَى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. قال البخاري: يُقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ}: الكفر، {وَلِيَ دِين}: الإسلام، ولم يقل: ديني لأن الآيات بالنون فحذف الياء، كما قَالَ تَعَالَى: {فَهُوَ يَهْدِين} [الشعراء: 78] (¬1). ومن فوائد السورة الكريمة: ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (14/ 486 - 487).

أولًا: أن فيها الإخلاص لله في العبادة وعدم الإشراك به كما قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (163)} [الأنعام: 162 - 163]. ثانيًا: البراءة من الشرك والمشركين، كما قال تعالى عن نبي الله إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. ثالثًا: أن الكفار يريدون من المسلمين التنازل والمداهنة في دينهم، ولكن على المسلمين الثبات والاستقامة كما قَالَ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون (9)} [القلم: 9]، وكما قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، وقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 74 - 75]. رابعًا: ظن البعض أن السورة منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقَرُّونَ على دينهم وهم أهل الكتاب، قال ابن القيِّم رحمه الله: «وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة وعمومها نص محفوظ، وهي من السورة التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه، وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم.

ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، فلم يزل رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم من أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد في الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد لهم كل وقت، وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه، فأبى إلا مضيًا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريرًا لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل، إنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدًا فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشارككم فيه ولا أنتم تشاركوننا في ديننا الحق وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار؟ حتى يَدَّعُوا النسخ أو التخصيص، أفنرى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}، بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين اتباع رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم أهل سننه وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: (لكم دينكم ولنا ديننا) لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذا براءة منهم ومن بدعتهم، وهم مع هذا متنصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان» (¬1). ¬

(¬1) «بدائع الفوائد» (5/ 355).

خامسًا: عصمة الله لنبيه من الوقوع في عبادة الأصنام، وإجابة المشركين إلى اقتراحهم الباطل. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة السادسة والثمانون: فضائل معاوية بن أبي سفيان

الكلمة السادسة والثمانون: فضائل معاوية بن أبي سفيان الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فحديثنا اليوم عن صحابي جليل، وملك من ملوك الإسلام، ولد قبل البعثة بخمس سنين، وهو أول من غزا البحر، قال عنه النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اجعَلهُ هَادِيًا مَهدِيًّا وَاهدِ بِهِ»، وهو خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين، وقد أسلم عام الفتح. إنه أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب ابن أمية أبو عبد الرحمن القرشي الأموي المكي، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة، وكان معاوية أبيض طويلًا جميلًا، حليمًا، وقورًا، سيدًا في قومه، كريمًا، عادلًا، شهمًا، قَالَ أَبَانُ بنُ عُثمَانَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ غُلَامٌ يَمشِي مَعَ أُمِّهِ هِندٍ فَعَثَرَ فَقَالَت: قُم لَا رَفَعَكَ اللهُ، وَأَعرَابِيٌّ يَنظُرُ فَقَالَ: لِمَ تَقُولِينَ لَهُ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَظُنُّهُ سَيَسُودُ قَومَهُ، قَالَت: ثَكِلْتُهُ إِن لَم يَسُدْ إِلَّا قَومَهُ. كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وتفرد فيهم بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن إسلامه، وكانت له مواقف شريفة،

وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله، وما بعده (¬1). وكانت لهذا الصحابي الجليل فضائل عديدة عامة، وخاصة، أما العامة فهي التي وردت في فضائل الصحابة، ولا شك أن معاوية داخل في هذا الفضل، قال ابن القيِّم رحمه الله: «فما صحَّ في مناقب الصحابة على العموم ومناقب قريش، فمعاوية رضي اللهُ عنه داخل فيه» (¬2). أما الأدلة الخاصة: فمنها دعاء النبي صلى اللهُ عليه وسلم له، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي عَمِيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (¬3). ومن مناقبه: أنه أول من غزا البحر، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه عَن خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنتِ مِلْحَانَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «نَامَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، قُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، وجاء في آخر الحديث: فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ» (¬4). ¬

(¬1) «البداية والنهاية» لابن كثير (11/ 397). (¬2) «المنار المنيف» (ص: 116). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (29/ 426) (برقم 17895)، وقال محققوه: رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا سعيد بن عبد العزيز. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الألباني في «الصحيحة» (4/ 616). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6283)، و «صحيح مسلم» (برقم 1912).

هذا الحديث فيه منقبة لها وله رضي اللهُ عنه: فإنه أول من غزا البحر في زمن عثمان بن عفان (¬1). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ بِنتِ مِلْحَانَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا» (¬2). ومعنى «أَوْجَبُوا»: أي: وجبت لهم الجنة. ومن مناقبه: أنه أحد كُتاب الوحي، ففي صحيح مسلم: «أَنَّ أَبَا سُفيَانَ وَالِدَ مُعَاوِيَةَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم عِدَّةَ أُمُورٍ، مِنهَا: أَن يَجعَلَ مُعَاوِيَةَ كَاتِبًا، وَقَد أَجَابَهُ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬3). وفي مسند الإمام أحمد مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ كَاتِبَهُ» (¬4). قال ابن كثير: صحب معاوية رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وكتب الوحي بين يديه مع الكُتَّاب (¬5). ومن مناقبه: أنه خال المؤمنين، قال الإمام أحمد في السنَّة: ¬

(¬1) «فتح الباري» (6/ 77). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 2924). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2501). (¬4) «مسند الإمام أحمد» (4/ 397 - 398) (برقم 2651)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬5) «البداية والنهاية» لابن كثير (11/ 397).

سائل يقول: «أقول: معاوية خال المؤمنين، وابن عمر خال المؤمنين؟ قال: نعم معاوية أخو أم المؤمنين حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى اللهُ عليه وسلم ورحمهما، وابن عمر أخو حفصة زوج النبي صلى اللهُ عليه وسلم ورحمهما» (¬1). ومنها: أنه شهد مع رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم حُنَينًا، والطائف، وتبوك، وحج معه حجة الوداع. ومنها: أن عمر رضي اللهُ عنه ولَّاه على الشام، وأمَّره عثمان رضي اللهُ عنه على الشام عشرين سنة فضبطه، ولم يعرف عنه عجز، ولا خيانة. قال الذهبي: حسبك بمن يؤمره عمر، ثم عثمان على إقليم، وهو ثغر فيضبطه ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألَّم مرةً منه وكذلك فليكن الملك، وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم خيرًا منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه، ورأيه، وله هنات وأمور والله الموعد. وكان محببًا إلى رعيته، عمل نيابة الشام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغير ذلك (¬2). ¬

(¬1) «السنَّة» (2/ 433). (¬2) «سير أعلام النبلاء» (3/ 132 - 133).

ومنها: أنه من خير الملوك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوَّة، وكان في ملكه من الرحمة والحلم، ونفع المسلمين ما يُعْلَم أنه كان خيرًا من مُلْكِ غيره» (¬1). وقال ابن أبي العز الحنفي: «وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين» (¬2). وكان رضي اللهُ عنه من دهاة العرب، وقد اشتهر بالحكمة والحلم والمروءة، وسياسة الأمور. فمن أقواله العظيمة أنه كَانَ يَقُولُ: المُرُوءَةُ فِي أَربَعٍ: العَفَافُ فِي الإِسلَامِ، وَاستِصلَاحُ المَالِ، وَحِفظُ الإِخوَانِ، وَحِفظُ الجَارِ، وَقَالَ أَيضًا: أَفضَلُ النَّاسِ مَن عَقَلَ وَحَلُمَ، وَمَن إِذَا أُعطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا قَدِرَ غَفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنجَزَ، وَإِذَا أَسَاءَ استَغفَرَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: مَن أَسْوَدُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَسخَاهُم نَفْسًا حِينَ يُسأَلُ، وَأَحسَنُهُم فِي المَجَالِسِ خُلُقًا، وَأَحلَمُهُم حِينَ يُستَجهَلُ. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثَّل بهذه الأبيات كثيرًا: فَمَا قَتَلَ السَّفَاهَةَ مِثلُ حِلمٍ ... يَعُودُ بِهِ عَلَى الجَهلِ الحَلِيمُ فَلَا تَسفَهْ وَإِن مُلِئتَ غَيظًا ... عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ الفُحشَ لَومُ ¬

(¬1) «الفتاوى» (4/ 478). (¬2) «شرح الطحاوية» (2/ 302).

وَلَا تَقطَع أَخًا لَكَ عِندَ ذَنبٍ ... فَإِنَّ الذَّنبَ يَغفِرُهُ الكَرِيمُ وكتب معاوية إلى نائبه زياد: إِنَّهُ لَا يَنبَغِي أَن نَسُوسَ النَّاسَ سِيَاسَةً وَاحِدَةً، بِاللِّينِ فَيَمرَحُوا، وَلَا بِالشِّدَّةِ فَتَحمِلَ النَّاسَ عَلَى المَهَالِكِ، وَلَكِن كُن أَنتَ لِلشِّدَّةِ، وَالفَظَاظَةِ، وَالغِلظَةِ، أَكُنْ أَنَا لِلِّينِ وَالأُلفَةِ وَالرَّحمَةِ، فَإِذَا خَافَ خَائِفٌ وَجَدَ بَابًا يَدخُلُهُ (¬1). وسُئل الإمام أحمد عن رجل انتقص معاوية، وعمرو بن العاص: أيقال له: رافضي؟ قال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدًا من أصحاب رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم إلا له داخلة سوء (¬2)، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» (¬3). قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: «مَن شَتَمَ أَحَدًا مِن أَصحَابِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَبَا بَكرٍ، أَو عُمَرَ، أَو عُثمَانَ، أَو عَلِيًّا، أَو مُعَاوِيَةَ، أَو عَمرَو بنَ العَاصِ، فَإِنْ قَالَ: كَانُوا عَلَى ضَلَالٍ وَكُفرٍ قُتِلَ، وَإِنْ شَتَمَهُمْ بِغَيرِ هَذَا مِن مُشَاتَمَةِ النَّاسِ نُكِّلَ نَكَالًا شَدِيدًا» (¬4). وأما ما حصل بين معاوية وعلي من قتال، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين، إما مصيبين ¬

(¬1) «البداية والنهاية» لابن كثير (11/ 396 - 464). (¬2) «البداية والنهاية» (11/ 450). (¬3) قطعة من حديث في «صحيح البخاري» (برقم 3651)، و «صحيح مسلم» (برقم 2533). (¬4) «الشفاء في حقوق المصطفى» للقاضي عياض (2/ 308).

لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح، مغفور لهم خطؤهم، وما كان لهم من السيئات - وقد سبق لهم من الله الحسنى - فإن الله يغفر لهم: إما بتوبة، أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة» (¬1) كَمَا قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِينَ بَقِيتُ فِيهم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (¬2). وقال ابن قدامة المقدسي: «ومن السنَّة تولي أصحاب رسول الله، ومحبتهم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم، وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم» (¬3). قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ (¬4)» (¬5). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «الفتاوى» (3/ 406). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) «لمعة الاعتقاد» (ص: 31). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 3673)، و «صحيح مسلم» (برقم 2541). (¬5) انظر: كتاب أخينا الشيخ سعد السبيعي: «سل السِّنان في الذَّبِّ عن معاوية بن أبي سفيان رضي اللهُ عنه».

الكلمة السابعة والثمانون: من مشاهد القيامة

الكلمة السابعة والثمانون: من مشاهد القيامة القنطرة بين الجنة والنار الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا» (¬1). قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ»: أي: بعدما ينجون من الصراط الذي يمرون عليه بحسب أعمالهم، قال القرطبي: «هؤلاء المؤمنون هم الذين علم الله أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم» (¬2). اهـ، لأنه إذا استنفذ القصاص حسناتهم لم يبق لهم حسنات يدخلون بها الجنة. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6535). (¬2) «التذكرة» (ص: 292).

وقال ابن حجر: «لعل أصحاب الأعراف منهم على القول المرجح وهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وخرج من هذا صنفان من المؤمنين: من دخل الجنة بغير حساب، ومن أوبقه عمله» (¬1). قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ»: القنطرة هي جسر مقوس مبني فوق النهر يُعبر عليه (¬2). قد يقول قائل: كيف القنطرة وكيف يكون القصاص فيها، وهل هناك قصاص آخر غير القصاص الذي في عرصات يوم القيامة؟ الجواب عن ذلك: أن هذه أمور غيبية نؤمن بها ولا نطلب العلم بكيفيتها، فلا نعلم كيفية الصراط وحقيقته، ولا القنطرة، وكيف يحبسون عليها؟ فحقائق الآخرة لا يعلمها إلا الله، وسيدرك الناس ذلك يوم القيامة إذا رأوا هذه الأمور وعاينوها. قال ابن كثير: «القنطرة تكون بعد مجاوزة النار، فقد تكون هذه القنطرة منصوبة على هول آخر مما يعلمه الله، ولا نعلمه نحن. والله أعلم» (¬3). قال ابن حجر: «وقد اختلف العلماء هل القنطرة هي طرف الجسر الذي على متن جهنم أو هي جسر مستقل، ورجح القرطبي الثاني» (¬4). ¬

(¬1) «فتح الباري» (11/ 399). (¬2) «المعجم الوسيط» (ص: 762). (¬3) «البداية والنهاية» (20/ 101). (¬4) «فتح الباري» (11/ 399).

قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ»: قال الشيخ ابن عثيمين: «وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص لأجل أن يذهب الغل، والحقد، والبغضاء التي في قلوب الناس فيكون هذا بمنزلة التنقية، والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص، فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار لأجل تنقية ما في القلوب حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل» (¬1). كما قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين (47)} [الحجر: 47]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «النفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء، فإن ذلك موجب للفساد أو غير ممكن، بل إذا كان في النفس خبث طهرت، وهذبت حتى تصلح لسكنى الجنة، والتهذيب التخليص كما يهذب الذهب فيخلص من الغش، يشير إلى قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا» فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب، فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط» (¬2). اهـ فإذا دخل المؤمنون الجنة توجهوا إلى قصورهم ومنازلهم فرحين بما أعطاهم الله، يعرفون مواضعها، ويستدلون على مكانها أكثر مما يستدلون على بيوتهم في الدنيا. ¬

(¬1) «شرح العقيدة الواسطية» لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 163). (¬2) «مجموع الفتاوى» (14/ 345).

ومن فوائد الحديث: 1 - عدل الله التام: فلا يدخل المؤمن الجنة وله مظلمة عند أخيه، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ أُنَيْسٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ [بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ] قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ، قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ، وَإِنَّا إِنَّمَا نَاتِي اللهَ عزَّ وجلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ» (¬1). بل حتى البهائم يقتص من بعضها البعض، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَة رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» (¬2). 2 - أنه يجب على المؤمن أن يحرص على براءة ذمته من حقوق الآخرين وأن يتحلل منهم قبل يوم القيامة حيث لا درهم، ولا دينار، وإنما هي الحسنات والسيئات، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (25/ 432) (برقم 16042)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2582).

لِأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ، وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (¬1). 3 - أن الجنة لا تدخلها نفس خبيثة وإنما نفس طيبة، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (32)} [النحل: 32]. 4 - أن من لوازم نعيم الجنة ذهاب ما في القلوب من الغل، والحقد والبغضاء حتى تكتمل اللذة، وتحصل السعادة، قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2449).

الكلمة الثامنة والثمانون: الإيمان بالملائكة عليهم السلام

الكلمة الثامنة والثمانون: الإيمان بالملائكة عليهم السلام الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالملائكة وهو ركن من أركان الإيمان الستة، والملائكة عالم مخلوقون من نور، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» (¬1). والملائكة عباد الله، مكلفون بالعبادة، وهم خاضعون لله أتم الخضوع، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فنؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم، وهم أجساد، بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاث، وأربعة، وأكثر من ذلك، خلافًا لمن قال: إنهم أرواح. قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (1)} [فاطر: 1]. وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2996).

«أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ» (¬1). وهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يملون، ولا يتعبون، يقومون بعبادة الله وطاعته والتقيد بأوامره بلا كل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال تعالى في وصفهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُون (20)} [الأنبياء: 20]، ومعنى لا يفترون: أي لا يَضْعُفُونَ عن ذلك، وقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُون} [فصلت: 38]. أي: لَا يَمَلُّونَ. ولكل واحد منهم وظائف خصه الله بها، أخلاقهم، وأفعالهم بارة طاهرة، قَالَ تَعَالَى: {بِأَيْدِي سَفَرَة (15) كِرَامٍ بَرَرَة (16)} [عبس: 15 - 16]. جبلهم الله على الحياء، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ ! » (¬2). فجبريل: موكل بالوحي ينزل به من الله تعالى إلى الرسل، وإسرافيل: موكل بنفخ الصور، وميكائيل: موكل بالقطر والنبات .... وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل: موكل بالوحي، وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات، وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد ... ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 4856)، و «صحيح مسلم» (برقم 174). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2401).

وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَتَوَسَّلُ بِرُبُوبِيَّةِ اللهِ لَهُم فِي دُعَاءِ الاِستِفتَاحِ فِي صَلَاةِ اللَّيلِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ ... الحديث» (¬1). ومنهم من وُكِّلَ بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم ملك الموت، وأعوانه، قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون (61)} [الأنعام: 61]. ومنهم ملائكة سيَّاحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر، وكذلك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين} (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار: 10 - 12]. ومنهم ملائكة يتعاقبون على بني آدم بالليل والنهار، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ» (¬2). وآخرون موكلون بالنار وعددهم تسعة عشر، قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر (30)} [المدثر: 30]. وكبيرهم اسمه مالك خازن النار. وملك الجبال الذي ورد ذكره في صحيح مسلم عِندَمَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَقَالَ: أَنَا مَلَكُ الجِبَالِ .. (¬3). والملائكة الذين في ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 770). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 555)، و «صحيح مسلم» (برقم 632). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 1795).

كل سماء، وهم في صنوف من العبادات، منهم من هو قائم لله أبدًا، ومنهم من هو راكع له أبدًا، ومنهم من هو ساجد أبدًا، ومنهم من هو في ألوان من الطاعات أُخر، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُوم (164)} [الصافات: 164]. أي: موضع مخصوص في السماوات ومقامات العبادة، لا يتجاوزه ولا يتعداه (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ (¬2) السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيهِ مَلَكٌ سَاجِد لَوْ عَلمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ (¬3) تَجْأَرُونَ (¬4) إِلَى اللَّهِ» (¬5). وهم على درجات ومقامات، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُوم (164)} [الصافات: 164].ومنهم الملائكة المقربون، قَالَ تَعَالَى {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]. وأفضلهم جبريل عليه السلام، وصفه الله بأنه روح القدس، ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (12/ 63). (¬2) أَطَّت: قال ابن الأثير في «النهاية» (1/ 54): الأطيط: صوت الأقتاب، والقَتَب: صوت الرحل. (¬3) الصعدات: أي الطرقات. (¬4) تجأرون: قال في النهاية في غريب الحديث: الجؤار: رفع الصوت والاستغاثة (1/ 232). (¬5) «مسند الإمام أحمد» (35/ 405) (برقم 21516)، وقال محققوه: حسن لغيره.

وأنه الروح الأمين، وأنه ذو قوة مكين، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين (20)} [التكوير: 19 - 20]. أي: له مكانة، ومنزلة عالية رفيعة عند الله. روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «رَأَيتُ جِبرِيلَ عليه السلام مُنهَبِطًا قَدْ مَلَأَ مَا بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ، وعَلَيْهِ ثِيابُ سُنْدُسٍ، مُعَلَّقًا بِهِ اللُّؤلُؤُ وَاليَاقُوتُ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 13 - 14]، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ يَنتَثِرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ - أي الأشياء المختلفة الألوان - الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ» (¬2). وأفضل الملائكة من شهد بدرًا، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِن أَهلِ بَدرٍ: أَنَّ جِبرِيلَ عليه السلام قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا تَعُدُّونَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ» (¬3). ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (41/ 378) (برقم 24885)، وقال محققوه: صحيح دون قوله: «عَلَيْهِ ثِيابُ سُنْدُسٍ، مُعَلَّقًا بِهِ اللُّؤلُؤُ وَاليَاقُوتُ»، فصحيح لغيره. (¬2) «مسند الإمام أحمد» (7/ 31) (برقم 3915). قال ابن كثير: إسناده جيد قوي، «تفسير ابن كثير» (13/ 261). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3992).

أما خلقهم فهو خلق عظيم، قَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6]. روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ جَابِرِ ابنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ أَحَدِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» (¬1). أما عددهم فخلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ مَالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «فِي البَيتِ المَعمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ أَلفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَم يَعُودُوا إِلَيهِ آخِرَ مَا عَلَيهِم» (¬2). وفي رواية مسلم: «لَا يَعُودُونَ إِلَيهِ». قال ابن حجر: واستُدِلَّ به على أن الملائكة أكثر المخلوقات لأنه لا يعرف من جميع العوالم من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفًا غير ما ثبت عن الملائكة في هذا الخبر (¬3). اهـ. والملائكة لا تدخل بيتًا فيه صور، أو تماثيل، أو كلاب، كما روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي طَلحَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ المَلَائِكَةَ لَا تَدخُلُ بَيتًا فِيهِ كَلبٌ أَو صُورَةٌ» (¬4)، وفي رواية: ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4728)، وصححه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/ 282) (برقم 151). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3207)، و «صحيح مسلم» (برقم 162). (¬3) «فتح الباري» (7/ 215). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 3225)، و «صحيح مسلم» (برقم 2106).

«التَّمَاثِيلُ» (¬1). والملائكة يُؤَمِّنُونَ على قراءة المصلي ويقولون: ربنا ولك الحمد، ويدعون لمنتظر الصلاة، ويستغفرون للمؤمنين، ويدعون لهم بدخول الجنان، ويلعنون الكفرة ومن آوى محدثًا، أو رفع على أخيه السلاح، والمرأة التي تهجر فراش زوجها، ويصلون على معلمي الناس الخير كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة. الخلاصة: أن على المؤمن أن يؤمن بهؤلاء الملائكة ويحبهم، ويعرف لهم قدرهم، قَالَ تَعَالَى {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون (28)}: [الأنبياء: 26 - 27]. وعليه أن يجتنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، وأعظم ذلك الكفر، والشرك، والمعاصي، وهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم: من الرائحة الكريهة، والأقذار، والأوساخ، والبصق على اليمين في الصلاة، وقد صحت الأدلة بذلك (¬2) (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3225)، و «صحيح مسلم» (برقم 2107). (¬2) انظر: «عالم الملائكة» للشيخ عمر الأشقر. (¬3) «الخطب المنبرية» د. عبد المحسن القاسم (1/ 22 - 27).

الكلمة التاسعة والثمانون: فضائل الشام

الكلمة التاسعة والثمانون: فضائل الشام الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن لبلاد الشام مناقبَ كثيرةً ثبتت في الكتاب والسنة، وذكرها أهل العلم في كتبهم، فمن تِلك المناقب: أولًا: البركةُ فيها وثَبت ذَلك في خمس آيات: 1 - قَولُهُ تَعَالَى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]. قال جمع من المفسرين: إنها بلاد الشام. 2 - قَولُهُ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير (1)} [الإسراء: 1]، وحوله أرضُ الشام، وكان هذا في الإسراء. 3 - قَولُهُ تَعَالَى في قصة إبراهيم: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِين (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِين (71)} [الأنبياء: 70 - 71] ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه اللهُ ولوطًا إلى أرض الشام، مهاجرًا من أرض العراق.

4 - قَولُهُ تَعَالَى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِين (81)} [الأنبياء: 81]. وإنما كانت تجري إلى أرضِ الشامِ التي فيها مملكةُ سليمان. 5 - قَولُهُ تَعَالَى في قصة سبأ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِين (18)} [سبأ: 18]، قال جمع من المفسرين: يعني قرى الشام، فكانوا يسيرون من اليمن إلى الشام، والقرى التي بورك فيها الشام، والأردن، وفلسطين، ومعنى ظاهرة: أي متواصلة. فهذه خمسُ آيات في بركة الشام، الأولى في انتقال بني إسرائيل إليها، والثانيةُ مسرى الرسول صلى اللهُ عليه وسلم إليها، والثالثة هجرة إبراهيم إليها، والرابعة مملكة سليمان بها، والخامسة مسير سبأ إليها، وصفها تبارك وتعالى بأنها الأرض التي بارك فيها. وفيها أيضًا الطور الذي كلم الله عليه موسى، والذي أقسم الله به في سورة الطور، فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون (1) وَطُورِ سِينِين (2)} [التين: 1 - 2]. وذكر المفسرون أن المراد بالبركة بركة الدنيا، وذلك بكثرة الأقوات، والثمار، والأنهار والزروع، وسعة الأرزاق، وقال بعضهم: بركة الدين لأنها مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة والوحي، وقال النووي رحمه الله: «جعلها الله مباركة لأن الله كلم موسى هناك وبعثه نبيًّا» (¬1)، والصحيح أن ذلك يشمل الأمرين معًا، وَقَد دَعَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) «شرح النووي» (6/ 206).

رَبَّهُ لِلشَّامِ بِالبَرَكَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا» (¬1). ثانيًا: أن الشام أرض المحشر: قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2].استدل بهذه الآية جمع من أهل العلم (القرطبي، وابن كثير، وابن حجر) على أن الشام أرض المحشر، فالحشر الأول حصل لليهود بنفيهم إلى الشام، والثاني سيكون للناس، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ حَكِيمِ بنِ مُعَاوِيَةَ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «هَا هُنَا تُحشَرُونَ، هَا هُنَا تُحشَرُونَ، هَا هُنَا تُحشَرُونَ، ثلاثًا، رُكبَانًا، وَمُشَاةً، وَعَلَى وُجُوهِكُم .. ثم آخر الحديث، قَالَ ابنُ بُكَيرٍ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ: إِلَى هَا هُنَا تُحشَرُونَ» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس، والعقل، وكشوفات العارفين أن الخلق، والأمر، ابتداء من مكة أم القرى فهي أم الخلق، وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي التي جعلها الله قيامًا للناس، إليها يصلون، ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1037). (¬2) جزء من حديث في «مسند الإمام أحمد» (33/ 214) (برقم 20011)، وقال محققوه: إسناده حسن.

المذكورة على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق، والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام» (¬1). اهـ. ثالثًا: أن الملائكة باسطو أجنحتها للشام: وهذا في حال السلم، فكيف بحال الحرب، روى الترمذي في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ زَيدِ بنِ ثَابِتٍ رضي اللهُ عنه: قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «طُوبَى لِلشَّامِ، طُوبَى (¬2) لِلشَّامِ، قُلتُ: مَا بَالُ الشَّامِ؟ قَالَ: المَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَجنِحَتَهَا عَلَى الشَّامِ» (¬3). رابعًا: أن الله تكفل بالشام وأهله: روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ حَوَالَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً، جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ. قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ ¬

(¬1) الفتاوى (27/ 43 - 44). (¬2) طُوبَى: قال المباركفوري: أي: راحة وطيب عيش حاصل لها ولأهلها. (¬3) «سنن الترمذي» (برقم 3954). و «مسند الإمام أحمد» (35/ 483) (برقم 21606)، وقال محققوه: حديث صحيح.

وَأَهْلِهِ» (¬1). خامسًا: أن عمود الكتاب والإسلام بالشام: روى الحاكم في المستدرك مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنِّي رَأَيْتُ عَمُودَ الكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحتِ وِسَادَتِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا إِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الفِتَنُ بِالشَّامِ» (¬2). وَعَمُودُ الْكِتَابِ وَالِإسْلَامِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَهُمْ حَمَلَتُهُ الْقَائِمُونَ بِهِ (¬3). سادسًا: أن الطائفة المنصورة من الشام: روى الترمذي في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ ابْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» (¬4). وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 2483). قوله: «فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ»: أي: فالزموا اليمن، مِنْ غُدُرِكُمْ: كصرد جمع غدير وهو الحوض، تَوَكَّلَ: أي تكفل وضمن (لِي بِالشَّامِ) بأن لا يخربه بالفتنة، (وَأَهْلِهِ) أي: تكفل لي بأهل الشام بأن لا تصيبه الفتنة، ولا يهلك الله بالفتنة من أقام بها. «عون المعبود» لشمس الحق العظيم آبادي (7/ 116). (¬2) «مستدرك الحاكم» (5/ 712 - 713) (برقم 8601)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه الشيخ الألباني في تحقيقه لأحاديث «فضائل الشام للربعي» (ص: 85). (¬3) «الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (27/ 42). (¬4) مسند أحمد (24/ 363) (برقم 15597)، وقال محققوه: إسناده صحيح. و «سنن الترمذي» (برقم 2192)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

تَقُومَ السَّاعَةُ» (¬1). وَأَهْلُ الْغَرْبِ: هُمْ أَهلُ الشَّامِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَحمَدُ، وَأَيَّدَهُ فِي ذَلِكَ شَيخُ الإِسلَامِ ابنُ تَيِمِيَّةَ (¬2). سابعًا: وصية النبي صلى اللهُ عليه وسلم بالتوجه إلى الشام: روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «سَتَخْرُجُ نَارٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ. قَالُوا: فَبِمَ تَامُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» (¬3). ثامنًا: مدح النبي صلى اللهُ عليه وسلم للشام وأنها خير المنازل: روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّردَاءِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فُسْطَاطَ (¬4) الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ» (¬5). وفي رواية: «يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ الكُبرَى فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1925). (¬2) «مناقب الشام وأهله» لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 79 - 80). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (9/ 145) (برقم 5146)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) الفسطاط بالضم والكسر: المدينة التي فيها مجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط، وكذلك الخيمة الكبيرة ومنها فسطاط مصر، فإن البلد أقيم مكان فسطاط (خيمة) عمرو بن العاص فاتح مصر رضي اللهُ عنه. «المعجم الوسيط» (ص: 688)، و «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 445). (¬5) «مسند الإمام أحمد» (39/ 412) (برقم 23985)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. و «سنن أبي داود» (برقم 4298).

بِأَرضٍ يُقَالُ لَهَا: الغُوطَةُ، فِيهَا مَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، خَيرُ مَنَازِلِ المُسلِمِينَ يَومَئِذٍ» (¬1). تاسعًا: نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بالشام: روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رضي اللهُ عنه قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ» (¬2). عاشرًا: هلاك المسيح الدجال يكون في الشام: روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عِندَمَا ذَكَرَ وُصُولَ المُسلِمِينَ إِلَى الشَّامِ، قَالَ: «فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ» (¬3). الحادي عشر: أنها عُقْرُ دار المؤمنين: روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَلَا إِنَّ عُقْرَ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ» (¬4). قال ابن الأثير: عُقْرُ دار الإسلام الشام، أي: أصله وموضعه، كأنه أشار به إلى وقت ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (5/ 684) (برقم 8543)، وقال محققه: حديث صحيح. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2937). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2897). (¬4) «مسند الإمام أحمد» (28/ 165) (برقم 16965)، وقال محققوه: إسناده حسن.

الفتن أي يكون الشام يومئذ آمنًا منها، وأهل الإسلام به أسلم (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقًا على المناقب السابقة من الكتاب والسنة وآثار العلماء: «وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي للمسلمين على غزو التتار وأمري لهم بلزوم دمشق ونهيي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي للعسكر المصري إلى الشام، وتثبيت العسكر الشامي فيه، وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه في جهادنا للتتار، وأظهر الله للمسلمين صدق ما وعدناهم به وبركة ما أمرناهم به، وكان ذلك فتحًا عظيمًا ما رأى المسلمون مثله مثل صرح مملكة التتار التي أذلت أهل الإسلام فإنهم لم يهزموا أو يغلبوا كما غلبوا على باب دمشق في الغزوة الكبرى التي أنعم الله علينا فيها من النعم بما لا نحصيه خصوصًا وعمومًا. يشير بذلك إلى معركة شقحب (¬2) سنة (702 هـ) في شهر رمضان التي انتصرت فيها الجيوش المصرية والشامية بقيادة الملك الناصر قلاوون وحضور الخليفة وسكان دمشق على التتار» (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 271). (¬2) شقحب: عين ماء حولها مرج جنوبي دمشق على يمين الذاهب إلى حوران بعد الكسوة. (¬3) «مناقب الشام وأهله» لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 86 - 87).

الكلمة التسعون: تأملات في سورة التين

الكلمة التسعون: تأملات في سورة التين الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أنزل القرآن العظيم لتدبره والعمل به قَالَ تَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، ومن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم العظيمة والفوائد الجليلة سورة التين. قَالَ تَعَالَى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون (1) وَطُورِ سِينِين (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِين (8)} [التين: 1 - 8]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ البَرَاءِ ابنِ عَازِبٍ رضي اللهُ عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ» (¬1). فَمَا سَمِعتُ أَحَدًا أَحسَنَ صَوتًا مِنهُ. قَولُهُ تَعَالَى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون (1)} قال ابنُ عباسِ والحسنُ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 767)، و «صحيح مسلم» (برقم 464).

ومجاهدٌ وغيرهُمُ: «هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت، قَالَ تَعَالَى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِين (20)} [المؤمنون: 20]» (¬1). قال القرطبي: «{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء} يريدُ شجرةَ الزيتونَ، وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشامِ والحجازِ وغيرهما من البلاد وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار» (¬2). وقال بعض المفسرين: وإنما أقسم الله بالتين لأنه كان ستر آدم في الجنة لِقَولِهِ تَعَالَى {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]، وكان ورق التين والزيتون شجرة مباركة، قَالَ تَعَالَى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [النور: 35]. وينتفع به في الدهن والاصطباغ كما يسرج به فهو أَضْوَأُ وأصفى الأدهان، ويستعمل حطب هذه الشجرة للوقود، كما أن للزيتون فوائد طيبة عظيمة، وقد ذكر في مزاياها أنها شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها، وأن زيتها لا يحتاج في استخراجه إلى إعصار، بل كل أحد يستخرجه بسهولة، كما أنه يُعالج القروح والجراحات (¬3). ¬

(¬1) «الجامع لأحكام القرآن» (22/ 363). (¬2) «الجامع لأحكام القرآن» (15/ 27). (¬3) «تفسير البغوي» (2/ 47)، «زاد المسير» لابن الجوزي (6/ 43)، «التبرك أنواعه وأحكامه» (ص: 188).

روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «كُلُوا مِنَ الزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» (¬1). قَولُهُ تَعَالَى: {وَطُورِ سِينِين (3)} هو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام، وإنما أقسم بالجبل لأنه بالشام وبالأرض المقدسة وقد بارك الله فيهما، قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. قَولُهُ تَعَالَى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِين (3)} هو مكة، قال ابن كثير: ولا خلاف في ذلك، وقد أقسم الله بمكة لأنها أحب البقاع إلى الله، وأشرف البقاع عند الله. وقد أقسم الله بهذه الأشياء الأربعة: التين، والزيتون، وطور سينين، والبلد الأمين. قال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبيًا مرسلًا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم، والثاني: طور سينين، وهو الذي كلم الله فيه موسى بن عمران، والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنًا، ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 1851)، وحسنه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة (2/ 724) (برقم 379).

وهو الذي أرسل فيه محمدًا صلى اللهُ عليه وسلم (¬1). قَولُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4)} هذا جواب القسم، والمراد أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها، قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًّا عالمًا قادرًا مريدًا متكلمًا سميعًا بصيرًا مدبرًا حكيمًا (¬2). قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: 2]. قَولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين (5)} أي: إلى النار، قال ابن كثير: ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل، ولهذا قال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم لا يردون إلى أسفل السافلين (¬3). قَولُهُ تَعَالَى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون (6)} أي: غير منقوص ولا منقطع. قَولُهُ تَعَالَى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7)} أي: فأي شيء يجعلك أيها الإنسان بعد هذا البيان لا تصدق بيوم الحساب وقد علمت البدأة وعرفت أن من قدر على البدأة فهو قادر على الرجعة بطريق ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (14/ 395). (¬2) «تفسير القرطبي» (22/ 368 - 369). (¬3) «تفسير ابن كثير» (14/ 395).

الأولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا. قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِين (8)} أي: أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحدًا، ومن عدله أن يقيم القيامة فينصف المظلوم في الدنيا ممن ظلمه، قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء: 47]. وفي الحديث الذي رواه مسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» (¬1). اللهم اجعل هذا القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وقائدنا ودليلنا إلى جناتك جنات النعيم، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2582).

الكلمة الحادية والتسعون: الفقراء والضعفاء

الكلمة الحادية والتسعون: الفقراء والضعفاء الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله بحكمته وعلمه فاضل بين عباده بالفقر، والغنى، فأغنى من شاء وأفقر من شاء، قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]، وقَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون (35)} [الأنبياء: 35]، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أي: نبتليكم بالشر والخير أي بالشدة والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال، وهذا من تمام حكمته ورحمته بخلقه، فلو أغنى الناس جميعًا لبغوا في الأرض، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء} [الشورى: 27]. والفقراء هم أول من يدخل الجنة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: عَن رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ، الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَيُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ

أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً» (¬1). وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ» (¬2). والفقراء هم أكثر أهل الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» (¬3). والفقراء هم أتباع الأنبياء والرسل: روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «أَنَّ هِرَقلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَ أَبَا سُفيَانَ عَن أَتبَاعِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم هَل هُم أَشْرَافُ النَّاسِ، أَو ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَل ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» (¬4). وقد أمر الله نبيه صلى اللهُ عليه وسلم بملازمة الفقراء، والضعفاء، والمكث معهم، فإن ذلك أبعد عن مظاهر الدنيا وفتنتها، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (11/ 131) (برقم 6570)، وقال محققوه: إسناده جيد. (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 2353)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 5198)، و «صحيح مسلم» (برقم 2737). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 7).

وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسمَيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] (¬1). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَمْتَثِلُ أَمْرَ رَبِّهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَومَ القِيَامَةِ» (¬2). وقد ابْتُلِيَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابُه بالجوع الشديد فصبروا حتى أغناهم الله، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عُمَرَ رضي اللهُ عنه قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَتَلَوَّى، مَا يَجِدُ دَقَلًا (¬3) يَمْلُأَ بَطْنَهُ (¬4). قَالَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَأتِي ضُعَفَاءَ المُسلِمِينَ، وَيَزُورُهُم، وَيَعُودُ مَرضَاهُم، وَيَشهَدُ جَنَائِزَهُم (¬5). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2413). (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 2352)، وصححه الألباني في صحيح «سنن الترمذي» (2/ 275) (برقم 1917). (¬3) الدَّقَل: التمر الرديء. (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 2978). (¬5) «مستدرك الحاكم» (3/ 270) (برقم 3787)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (برقم 4877).

قُبِضَ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1). قال ابن كثير في قَولِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8]. أي: كنت فقيرًا ذا عيال فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي الفقير الصابر، والغني الشاكر (¬2). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ، وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ، نَمُصُّ الجِلدَ، وَالنَّوَى مِنَ الجُوعِ (¬3). وَيَقُولُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِن كُنتُ لَأَعتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِن كُنتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطنِي مِنَ الجُوعِ (¬4). وَيَقُولُ سَعدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه: وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوِ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ، قَالَ الشُّرَّاحُ: أَي: لِجَفَافِهِ وَيُبْسِهِ (¬5). وقد يحتقر الفقير في مجتمعه ولكنه عند الله بمنزلة عظيمة، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 5374)، و «صحيح مسلم» (برقم 2970) واللفظ له. (¬2) «تفسير ابن كثير» (14/ 385). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3159). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6452). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 3728)، و «صحيح مسلم» (برقم 2966).

قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٌ: «مَا رَايُكَ فِي هَذَا؟ »، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَن يُنْكَحَ، وَإِن شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا رَأيُكَ فِي هَذَا؟ »، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَن لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «هَذَا خَيرٌ مِنْ مِلءِ الأَرضِ مِثلِ هَذَا» (¬1). وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الرزق والنصر يكون بسبب الضعفاء، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّردَاءِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ، وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» (¬2). وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الساعي على الأرملة، والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم القائم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ» (¬3). وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن شر الطعام طعام الوليمة التي لا يُدعى إليها ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6447). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (36/ 60) (برقم 21731)، وقال محققوه: إسناده صحيح. وأصل الحديث في البخاري (برقم 2896). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6006)، و «صحيح مسلم» (برقم 2982) واللفظ له.

الفقراء، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى إِلَيهِ الْأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ المَسَاكِينُ» (¬1). وما تقدم ذكره من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يتضمن التنبيه على حال طائفة من المسلمين ابتلوا بالفقر، والضعف، فصبروا، واحتسبوا، ورضوا بما كتب الله لهم، أما المسألة المشهورة وهي التفضيل بين الغنى والفقر فقد اختلف فيها أهل العلم، والذي يترجح فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، ولتفصيل ذلك مكان آخر (¬2). وخيرُ الفقراءِ المُتَعَفِّفُ، قَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا» (¬3). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1432). (¬2) انظر: «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين» لابن القيِّم رحمه الله. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1476)، و «صحيح مسلم» (برقم 1039).

يُروَى عَن عَونِ بنِ عَبدِ اللِه بنِ عُتْبَةَ قَالَ: صَحِبْتُ الأَغنِيَاءَ فَلَم أَرَ أَحَدًا أَكبَرَ هَمًّا مِنِّي، أَرَى دَابَّةً خَيرًا مِن دَابَّتِي، وَثَوبًا خَيرًا مِن ثَوبِي، وَصَحِبْتُ الفُقَرَاءَ فَاسْتَرَحْتُ (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (ص: 304).

الكلمة الثانية والتسعون: الإيمان بالكتب السابقة وآثاره

الكلمة الثانية والتسعون: الإيمان بالكتب السابقة وآثاره الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن أركان الإيمان الستة التي يجب على المؤمن الإيمان بها: الإيمان بالكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله، قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]. والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل هو التصديق بأن هذه الكتب من عند الله أرسل بها رسله إلى الخلق لهدايتهم، وإقامة العدل بينهم، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية: «وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه من التوراة، والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتبًا أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله،

وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به، واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب، فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق، وهدى، ونور، وبيان، وشفاء» (¬1). قال تعالى عن التوراة وهي أعظم كتب بني إسرائيل أنزلها الله على موسى عليه السلام، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]، وقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]، قال جمع من المفسرين: إنها التوراة (¬2). وقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154]، قَولُهُ تَعَالَى: {وَفِي نُسْخَتِهَا}: قال الشنقيطي رحمه الله: «أي: المكتوب فيها من التوراة من كلام رب العالمين، وفيه {هُدًى} أي: دلالة وإرشاد إلى الخير، ورحمة تقي عذاب الله، وسخطه لمن عمل به (¬3)، وقيل: إن التوراة هي صحف موسى». أما الإنجيل فهو الذي أُنزل على عيسى وهو مصدق للتوراة، ومتمم لها، قال تعالى عنه: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين (46)} [المائدة: 46]، قال ابن ¬

(¬1) «العقيدة الطحاوية» (2/ 424 - 425). (¬2) «الجامع لأحكام القرآن» (9/ 328). (¬3) «العَذْب النَّمِير من مجالس الشنقيطي في التفسير» (4/ 190).

كثير: «وجعلنا الإنجيل هدًى يُهتَدَى به، {وَمَوْعِظَة} أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم» (¬1). والزبور هو الكتاب الذي أنزله الله على داود، قَالَ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163]. وصحف إبراهيم هي الصحف التي أنزلها الله على إبراهيم، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} [الأعلى: 18 - 19]. والكتب السماوية السابقة أصابها التحريف، والتبديل، والتغيير، قال تعالى عن اليهود الذين نزلت عليهم التوراة: {قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَاتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41]. قال ابن كثير رحمه الله: «الصحيح أنها نزلت في اليهوديَّين اللَّذَين زنيا، وكانوا قد بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرَّفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم، والإركاب على حمار مقلوبين» (¬2). وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ} [المائدة: 44]. وساق القرطبي في تفسيره إلى يحيى ابن ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (5/ 243). (¬2) «تفسير ابن كثير» (5/ 220).

أكتم، قال: كان للمأمون - وهو أمير إذا ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم، فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس، دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل لك وأصنع، ووعده، فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف، قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلمًا، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس، دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتُريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتُريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها، فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي، قال يحيى بن أكتم: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الخبر، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال: قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى: {وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ} [المائدة: 44]، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عزَّ وجلَّ عن القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا

لَهُ لَحَافِظُون (9)} [الحجر: 9]، فحفظه الله عزَّ وجلَّ علينا فلم يضع (¬1). وقَالَ تَعَالَى شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]، وقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ} [البقرة: 79]. والكتب السابقة كانت وقتية، وخاصة بالأمم التي نزلت فيها، ولذلك لم تأخذ صفة الدوام، ولا تكفل الله بحفظها. وقد بشرت الكتب السابقة بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. قال ابن كثير: «وهذه صفة محمد صلى اللهُ عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أُممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم، وأحبارهم» (¬2). قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146]. ففي هذه الآية يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى اللهُ عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده (¬3). روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قَالَ: «لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي اللهُ عنهما، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي ¬

(¬1) «الجامع لأحكام القرآن» (12/ 180 - 181). (¬2) «تفسير ابن كثير» (6/ 407). (¬3) «تفسير ابن كثير» (2/ 121).

التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا. وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا» (¬1). والقرآن آخر هذه الكتب وهو كلام الله، منه بدأ، وإليه يعود، وبه نسخت جميع الرسالات، والكتب التي قبله، وقد أنزله الله على نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]. ولا ينبغي للمؤمن الاشتغال بالكتب السابقة، والقراءة فيها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ (¬2) فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2125). (¬2) قال أبو عبيدة: يقول: أَمُتَحَيِّرُونَ أنتم في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذونه من اليهود والنصارى؟ ! «غريب الحديث» (3/ 29).

بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» (¬1). من آثار الإيمان بالكتب السابقة: 1 - العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قومٍ كتابًا يهديهم به. 2 - ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم، مناسبًا لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة. 3 - المستند لهذه الأمة في شهادتها على الأمم السابقة، أن الله أقام عليها الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب. 4 - أن الإيمان بالكتب السابقة المنزلة على الرسل لا يقتضي إقرار ما يوجد بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فإنها بدلت وحرفت، والذي لم يصل إليه التحريف نسخ بالقرآن وهذا بيان من اللجنة الدائمة لموقف المسلم من هذه الكتب والأديان السماوية السابقة، وقد اشتمل على إيضاح أن الدعوة إلى وحدة الأديان كفر صريح وردة عن الإسلام: ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (23/ 349) (برقم 15156)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في «إرواء الغليل» (6/ 34 - 36) (برقم 1589).

وحدة الأديان الفكر الهدام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى «وحدة الأديان»: دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء مسجد، وكنيسة، ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات، والمطارات، والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن، والإنجيل في غلاف واحد إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يُعقد لها من مؤتمرات، وندوات، وجمعيات في الشرق، والغرب، وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي: أولًا: فإن من أصول الاعتقاد في الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة: والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل، والشرائع، فلم يبق على وجه

الأرض دين يُتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]، والإسلام بعد بعثة محمد هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان. ثانيًا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى «القرآن الكريم» هو آخر كتب الله نزولًا: وعهدًا برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أُنزل من قبل من التوراة، والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبقَ كتابٌ يُتَعَبَّدُ به سوى «القرآن الكريم». قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. ثالثًا: يجب الإيمان بأن «التوراة» و «الإنجيل» قد نُسخا بالقرآن الكريم: وأنه قد لحقهما التحريف، والتبديل، والزيادة، والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم. منها: قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} [المائدة: 13]، وقوله - جل وعلا -: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُون (79)} [البقرة: 79]، وقوله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ

الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون (78)} [آل عمران: 78]. ولهذا فما كان منها صحيحًا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرَّف، أو مبدَّل، وَقَد ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ غَضِبَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه صَحِيفَةً فِيهَا شَيءٌ مِنَ التَّورَاةِ، وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: «أَفِي شَكٍّ أَنتَ يَا ابنَ الخَطَّابِ؟ أَلَم آتِ بِهَا بَيضَاءَ نَقِيَّةً؟ ! لَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» (¬1). رابعًا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، فلم يبقَ رسول يجب اتباعه سوى محمد صلى اللهُ عليه وسلم، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حيًّا لما وسعه إلا اتباعه - وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك - كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين (81)} [آل عمران: 81]، ونبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعًا لمحمد وحاكمًا بشريعته، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. ¬

(¬1) سبق تخريجه.

كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (28)} [سبأ: 28]، وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (158) [الأعراف: 158] وغيرها من الآيات. خامسًا: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام: من اليهود، والنصارى، وغيرهم وتسميته كافرًا، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين، وأنه من أهل النار، كما قَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَة (1)} [البينة: 1]، وقال - جل وعلا -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّة (6)} [البينة: 6] وغيرها من الآيات. وثبت في صحيح مسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» (¬1). ولهذا: فمن لم يُكَفِّرِ اليهود والنصارى فهو كافر، طردًا لقاعدة الشريعة: «مَن لَم يُكَفِّرِ الكَافِرَ فَهُوَ كَافِرٌ». سادسًا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية: فإن الدعوة إلى «وحدة الأديان» والتقارب بينها، وصهرها في قالب ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 153).

واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلطُ الحق بالباطل، وهدمُ الإسلام وتقويضُ دعائمه، وجرُّ أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وقوله - جل وعلا -: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89]. سابعًا: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة: إلغاء الفوارق بين الإسلام، والكفر، والحق، والباطل، والمعروف، والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء، ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون (29)} [التوبة: 29]، ويقول - جل وعلا -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِين (36)} [التوبة: 36]. ثامنًا: أن الدعوة إلى «وحدة الأديان «إن صدرت من مسلم: فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عزَّ وجلَّ، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعًا، محرمة قطعًا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن، وسنة، وإجماع.

تاسعًا: وتأسيسًا على ما تقدم: 1 - فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلًا عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها والانتماء إلى محافلها. 2 - لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين، فكيف مع القرآن في غلاف واحد! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق «القرآن الكريم» والمحرف أو الحق المنسوخ «التوراة» و «الإنجيل». 3 - كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة بناء مسجد، وكنيسة، ومعبد في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يُعبد الله به غير الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاث، لأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك. كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس «بيوت الله» وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنها عبادة غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]؛ بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، نعوذ

بالله من الكفر، وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «ليست - أي: البيع والكنائس - بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار» (¬1). عاشرًا: ومما يجب أن يعلم: أن دعوة الكفار بعامة، وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان، والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بيّنة، قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون (64)} [آل عمران: 64]. أما مجادلتهم، واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عُرى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله صلى اللهُ عليه وسلم والمؤمنون، والله المستعان على ما يصفون، قَالَ تَعَالَى: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. وإن اللجنة إذ تقرِّر ذلك وتبيِّنه للناس، فإنها توصي المسلمين ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (162/ 22).

بعامة، وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى، ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال، ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة «وحدة الأديان» ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سببًا في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين، وترويجها بينهم. نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعًا من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راض عنا. وبالله التوفيق، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة الثالثة والتسعون: الجزاء من جنس العمل

الكلمة الثالثة والتسعون: الجزاء من جنس العمل الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد وردت آيات كريمة، وأحاديث شريفة، ذكر فيها جزاء المحسنين، والمسيئين من جنس أعمالهم ترغيبًا في الأعمال الصالحة، وترهيبًا من الأعمال السيئة، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان (60)} [الرحمن: 60]، وقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)} [طه: 124 - 126]. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). ومن ذب عن عرض أخيه المسلم، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّردَاءِ رضي اللهُ عنه: ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2580).

أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ، رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). ومن ولي من أمر المسلمين شيئًا فشقَّ عليهم شقَّ الله عليه، ومن رفق بهم رفق الله به، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (¬2). ومن احتجب من الولاة عن ذوي الحاجة والمسكنة احتجب الله عن خلته، وحاجته، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَمرِو بنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ! إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ، وَالْخَلَّةِ، وَالْمَسْكَنَةِ، إِلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ، وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ» (¬3). ومن أنفق أنفق الله عليه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» (¬4). ومن بخل بماله عما أوجب الله عليه من الحقوق، أتلف الله ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (45/ 528) (برقم 27543)، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1828). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (29/ 565) (برقم 18033)، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 4684)، و «صحيح مسلم» (برقم 993).

ماله، ومحق بركته، وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (¬1). وَمَن ذَكرَ اللهَ فِي نَفْسِهِ ذَكَرَهُ اللهُ فِي نَفْسِهِ، وَمَن ذَكَرَهُ فِي مَلَإٍ ذَكَرَهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيرٌ مِنْهُمْ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» (¬2). وَمَن بَنَى مَسجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ بَيتًا فِي الجَنَّةِ، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عُثمَانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ» (¬3). وَمَن تَتَبَّعَ عَورَاتِ المُسلِمِينَ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ وَفَضَحَهُ فِي بَيتِهِ، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ، يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (¬4). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1442)، و «صحيح مسلم» (برقم 1010). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 7405)، و «صحيح مسلم» (برقم 2675). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 533). (¬4) «مسند الإمام أحمد» (33/ 20) (برقم 19776)، وقال محققوه: صحيح لغيره.

قال بعض السلف: أدركت أقوامًا لم تكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس لهم عيوبًا، وأدركت أقوامًا كانت لهم عيوب، فكفوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم .. أو كما قال (¬1). قال الشافعي رحمه الله: يَا هَاتِكًا حُرَمَ الرِّجَالِ وَتَابِعًا ... طُرُقَ الفَسَادِ عِشْتَ غَيرَ مُكَرَّمِ لَو كُنتَ حُرًّا مِن سُلَالَةِ مَاجِدٍ ... مَا كُنتَ هَتَّاكًا لِحُرمَةِ مُسْلِمِ مَن يَزْنِ فِي قَومٍ بِأَلفَيْ دِرْهَمٍ ... فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبُعِ الدِّرْهَمِ إِنَّ الزِّنَا دَيْنٌ فَإِنْ أَقْرَضْتَهُ ... كَانَ الوَفَا مِنْ أَهلِ بَيتِكَ فَاعْلَمِ ومن شرب الخمر في الدنيا حُرمها في الآخرة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنْ يَتُوبَ» (¬2). ومن عذب الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ هِشَامِ بنِ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا» (¬3). ومن الوقائع التي تبين أن الجزاء كان من جنس العمل، ما بشر به النبي صلى اللهُ عليه وسلم زوجته خديجة أم المؤمنين رضي اللهُ عنها، فقد روى البخاري ¬

(¬1) «شرح منظومة الآداب الشرعية» للحجاوي (ص: 176). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (8/ 354) (برقم 4729)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2613).

ومسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَا عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ (¬1). والصخب: ارتفاع الأصوات، والنصب: التعب، قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين، - أعني المنازعة والتعب - أنه صلى اللهُ عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعًا فلم تحوجه إلى رفع صوت، ولا منازعة، ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها (¬2). اهـ وجعفر بن أبي طالب لما قاتل في معركة مؤتة، وقطعت يداه عوضه الله بأن جعله يطير في الجنة مع الملائكة، روى الحاكم في المستدرك مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «رَأَيتُ جَعفَرَ بنَ أَبِي طَالِبِ يَطِيرُ مَعَ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ» (¬3). ومن أشهر ما يقع، وحكاياته منتشرة بين الناس، بر الوالدين وعقوقهما، فقد تداول الناس حكايات كثيرة فيمن بر والديه فرزقه الله أولادًا بروه في حياته، وكذلك العكس فيمن عقَّ والديه، ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3820)، و «صحيح مسلم» (برقم 2432). (¬2) «فتح الباري» (7/ 138). (¬3) «مستدرك الحاكم (4/ 218) (برقم 4988)، و «سنن الترمذي» (برقم 3763). وصححه الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (3/ 226) (برقم 1226).

ومما يُحكى في هذا الباب: أن رجلًا كان له أولاد هم به بارون، فإذا أرادوا أن يردوا لجلب الماء من البئر أخذوا أباهم معهم وكان شيخًا كبيرًا ليستأنس بذلك، فإذا ما وصلوا إلى مكان البئر أنزلوا أباهم برفق عن ظهر البعير وهيئوا له مكانًا، وأوقدوا له نارًا ليستدفئ بها ويصنعون له القهوة عليها، وفي إحدى المرات شاهدوا على البئر شيخًا كبيرًا وابنه يريدان أن يستقيا من البئر، وجرت العادة أن الشخصين عند الاستسقاء يكون أحدهما في أسفل البئر وعمله أشق، والآخر في أعلى البئر، وكان ذلك الابن يأمر أباه بالنزول إلى أسفل البئر ويتهدده بالقوة، وأبوه يتلطف أن يقوم هو بالنزول ولكن دون جدوى، حتى أنزله مكرهًا، فأراد أبناء الرجل البار أن يقوموا بتأديب ذلك الابن العاق إنكارًا لفعله، فقال لهم أبوهم: لو حفرتم في الأرض حولنا لوجدتم آثار موقد النار التي كنت أضعها لوالدي، وقد رزقت بركم جزاء لما كنت أصنعه به، وأما ذاك الرجل فقد شهدته وهو يصنع بأبيه ما يصنع به ابنه الآن، والجزاء من جنس العمل. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة الرابعة والتسعون: خطورة الغضب

الكلمة الرابعة والتسعون: خطورة الغضب الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الغضب من الصفات الذميمة التي وردت النصوص في ذمها والتحذير منها، فكم سبب من عداوات، وأحقاد، وفرقة بين الأزواج، وتشتت الأسر وضياع الأولاد، وقطع الأرحام، وكم حصل بسببه من حروب، وفتن، وسفك للدماء؟ ! إن الغضب يجمع الشر كله، يغضب الرحمن، ويرضي الشيطان. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الحذر من الغضب لقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون (37)} [الشورى: 37]، وقَولِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (134)} [آل عمران: 134]. روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: أَوصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» (¬1). قَالَ الخَطَّابِيُّ: «لَا تَغْضَبْ»: اجتنب أسباب الغضب، ولا ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6116).

تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتَّى النهي عنه، لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجِبِلَّةِ (¬1). وقال ابن التين: جمع صلى اللهُ عليه وسلم في قوله: «لَا تَغْضَبْ» خير الدنيا والآخرة؛ لأن الغضب يؤول إلى التقاطع، ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يُؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين (¬2). قال ابن حجر: بعدما ذكر مفاسد الغضب ومن تأمل هذه المفاسد في مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قَولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا تَغْضَبْ» من الحكمة، واستجلاب المصلحة، ودرء المفسدة، مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته، وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني (¬3). اهـ وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن القوي ليس الذي يصرع الرجال، ولكنه الذي يمسك نفسه عند غضبه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» (¬4). وَوَعَدَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم مَن مَلَكَ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ بِالجَنَّةِ، روى الطبراني في مسند الشاميين مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّردَاءِ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: ¬

(¬1) «فتح الباري» (10/ 520). (¬2) «فتح الباري» (10/ 520). (¬3) «فتح الباري» (10/ 520 - 521). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6114)، و «صحيح مسلم» (برقم 2609).

يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدخِلُنِي الجَنَّةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا تَغْضَبْ، وَلَكَ الجَنَّةُ» (¬1). الأسباب التي يُدفع بها الغضب: 1 - أن يتأمل الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ عُيَينَةَ بنَ حِصنٍ استَأذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين (199)} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ سَهلِ بنِ مُعَاذٍ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ تبارك وتعالى عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» (¬3). 2 - أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لما جاء في الصحيحين مِن حَدِيثِ سُلَيمَانَ بنِ صُرَدٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم ¬

(¬1) «مسند الشاميين» (1/ 36) (برقم 21)، وقال المنذري: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح. وصححه الشيخ الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (برقم 7374). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 4642). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (24/ 398) (برقم 15637)، وقال محققوه: إسناده حسن.

وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ (¬1). قال الطوفي: أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي وهو أن لا فاعل إلا الله، وكل فاعل غيره فهو آلة له، فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه - جل وعلا - وهو خلاف العبودية (¬2). قال ابن حجر: وبهذا يظهر السر في أمره صلى اللهُ عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان أمكنه استحضار ما ذكر، وإذا استمر الشيطان متلبسًامتمكنًا من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك (¬3). اهـ 3 - الجلوس، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» (¬4). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6115)، و «صحيح مسلم» (برقم 2610). (¬2) «فتح الباري» (10/ 521). (¬3) «فتح الباري» (10/ 521). (¬4) «سنن أبي داود» (برقم 4782)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3/ 98) (برقم 4000).

قال الخطَّابي: القائم متهيِّئ للحركة والبطش، والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما فيشبه أن يكون النبي صلى اللهُ عليه وسلم إنما أمره بالقعود لئلا يندر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد (¬1). قال ابن القيِّم رحمه الله: «دخل الناس النار من ثلاثة أبواب، باب شبهة أورثت شكًّا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه» (¬2). قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما في تفسير قَولِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله، وخضع لهم عدوهم (¬3). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله: لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه ولا تجاوز خمسة عشر سوطًا (¬4). ومن تأمل أحوال الناس لم يجد أحدًا غضب لغير الله إلا كان الندم حليفه، والعجب أن الكثير منهم يرى عواقب الغضب الوخيمة ثم لا ينتهي عنه. ¬

(¬1) «عون المعبود شرح سنن أبي داود» (7/ 97). (¬2) «الفوائد» (ص: 72). (¬3) «تفسير ابن كثير» (12/ 243). (¬4) «إحياء علوم الدين» (3/ 177).

ومما ينبغي أن يُعلم أن الغضب منه ما كان محمودًا وهو الغضب لله، وذلك عند انتهاك حرماته ومخالفة أوامره وفي جهاد أعدائه، قال تعالى عن نبي الله موسى عليه السلام: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154]. قال ابن كثير: ولما سكن عن موسى الغضب - أي: غضبه على قومه - أخذ الألواح التي ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل، غَيرَةً لله وغضبًا له (¬1). روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي مَسعُودٍ الأَنصَارِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الْحَاجَةِ» (¬3). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (6/ 395) (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2328). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 90)، و «صحيح مسلم» (برقم 466).

الكلمة الخامسة والتسعون: تأملات في سورة الانشراح

الكلمة الخامسة والتسعون: تأملات في سورة الانشراح الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن من سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد العظيمة سورة الانشراح. قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب (8)} [الانشراح: 1 - 8]. قَولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك (1)} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى اللهُ عليه وسلم ممتنًّا عليه بإحسانه إليه حاضًا له بذلك على شكره على ما أنعم عليه ليستوجب بذلك المزيد منه: ألم نشرح لك صدرك يا محمد فنورناه وجعلناه فسيحًا واسعًا، وسعناه لشرائع الدين، والدعوة إلى الله والاتصاف بمكارم الأخلاق، والإقبال على الآخرة، وتسهيل الخيرات، فلم يكن ضيقًا حرجًا لا يكاد ينقاد لخير ولا تكاد تجده منبسطًا كما قَالَ تَعَالَى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125]، وكان من دعاء نبي الله موسى عليه السلام:

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)} [طه: 25]. ومن جملة شرح الله صدر نبيه: ما فعل به ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ فَانْطُلِقَ بِي، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا (¬1)، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً» (¬2). قَولُهُ تَعَالَى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك (2)}، أي: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها، كما قَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك (3)}، أي: أثقله حتى سمع نقيضه أي صوته، قال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمع له صرير من شدة الحمل وثقله، قال بعضهم: وإنما وضعت ذنوب الأنبياء بهذا الثقل مع كونها مغفورة لشدة اهتمامهم بها وندمهم منها وتحسرهم عليها. قَولُهُ تَعَالَى: ، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك (4)} قال مجاهد: يعني التأذين ¬

(¬1) أي: شق صدري إلى كذا وكذا. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3207)، و «صحيح مسلم» (برقم 164) واللفظ له.

وفيه يقول حسان بن ثابت: أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوُّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذْ قَالَ فِي الْخَمْسِ المُؤَذِّنُ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو العَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ روى الضحاك عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: «يقول له: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح وفي مشارق الأرض ومغاربها، ولو أن رجلًا عبد الله جل ثناؤه وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمدًا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرًا، وقيل: أي أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه، وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات، والظاهر أن الآية عامة تشمل ذلك كله» (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي: «وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره بعد الله تعالى، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته» (¬2). ¬

(¬1) «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (22/ 357 - 358). (¬2) «تفسير ابن سعدي» (ص: 888).

قَولُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)} هذه بشارة من الله لرسوله ولأمته، وجرى على الرسول صلى اللهُ عليه وسلم عسر حينما كان بمكة يضيق عليه، وفي الطائف وكذلك في المدينة مع المنافقين، وقد أنجز الله له ما وعده ويسر أمره فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز، واليمن، ووسع ذات يده حتى كان يعطي الرجل المئين من الإبل ويهب الهبات العظيمة ويدخر لأهله قوت سنة. فهذا اليسر الذي حصل للنبي صلى اللهُ عليه وسلم سيكون لأمته، كذلك قَالَ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]، وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (¬1). وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: «خَلَقْتُ عُسْرًا وَاحِدًا، وَخَلَقْتُ يُسْرَيْنِ، وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» (¬2). وتوجيه كلامه مع أن العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين، قال أهل البلاغة: إن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} العسر الأول أعيد في الثانية بأل، فأل هنا للعهد الذكري وأما يسر فإنه لم يأت معرفًا بل جاء منكرًا، والقاعدة أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول إلا ما ندر، وإذا كرر الاسم ¬

(¬1) قطعة من حديث في «مسند الإمام أحمد» (5/ 19) (برقم 2803)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2) «تفسير القرطبي» (22/ 358).

مرتين بصيغة التنكير فالثاني غير الأول لأن الثاني نكرة، إذًا في الآيتين الكريمتين يسران وفيهما عسر واحد، قال الشاعر: إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى اليَاسِ القُلُوبُ ... وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ وَأَوْطَأَتِ المَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ ... وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخُطُوبُ وَلَم تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ... وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الأَرِيبُ أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوثٌ ... يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ المُستَجِيبُ وَكُلُّ الحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا الفَرَجُ القَرِيبُ وقال آخر: وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الفَتَى ... ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا المَخْرَجُ كَمُلَتْ، فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا ... فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ قَولُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَب (7)}، أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطًا فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة، قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك {فَانصَب} أي: بالغ في الدعاء وسله حاجتك. قَالَ ابنُ مَسعُودٍ: فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الفَرَائِضِ، فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيلِ. اهـ. قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب (8)}، قال الثوري: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عزَّ وجلَّ. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة السادسة والتسعون: الإنابة

الكلمة السادسة والتسعون: الإنابة الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الإنابة من العبادات العظيمة التي وصف الله بها أنبيائه وعباده المؤمنين، قال تعالى عن نبي الله داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب (24)} [ص: 24]. وقال تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاب (34)} [ص: 34]. وقال تعالى عن نبي الله شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (88)} [هود: 88]. وقال تعالى عن نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (10)} [الشورى: 10]. وأثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام لاتصافه بالإنابة إليه والرجوع إليه في كل أمر، قال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب (75)} [هود: 75]. وأمر الله بها عباده فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]. والصالحون من عباد الله يقولون: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير (4)} [الممتحنة: 4]. قال ابن القيِّم رحمه الله: «الإنابة: الإسراع في مرضاة الله مع الرجوع إليه في كل وقت، وإخلاص العمل له، وقال أيضًا: الإنابة إلى الله إنابتان: الأولى: إنابة إلى ربوبيته وهي إنابة المخلوقات

كلها، المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]. والثانية: إنابة أوليائه، وهي: إنابة لألوهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه» (¬1). اهـ مختصرًا والإنابة إلى الله سبحانه هي مفتاح السعادة، والهداية، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب} [الرعد: 27]. روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ (¬2)، وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ، وَيَرْزُقَهُ اللهُ الْإِنَابَةَ» (¬3). وأخبر سبحانه أن ثوابه، وجنته لأهل الخشية والإنابة، قَالَ تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيب (33)} [ق: 31 - 33]. وأخبر سبحانه أن البشرى لأهل الإنابة، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ ¬

(¬1) «مدارج السالكين» (1/ 434). (¬2) قوله: «فَإِنَّ هَوْلَ المُطَّلَعِ»: قَالَ السِّندِيُّ: مَكَانُ الاِطِّلَاعِ مِن مَوضِعٍ عَالٍ، يُقَالُ: مُطَّلَعُ هَذَا الجَبَلِ مِن مَوضِعِ كَذَا، أَي: مَأتَاهُ وَمَصعَدُهُ، يُرِيدُ بِهِ: مَا يُشرِفُ عَلَيهِ مِن سَكَرَاتِ المَوتِ وَشَدَائِدِهِ، فَشُبِّهَ بِالمُطَّلَعِ، وَعَلَّلَ النَّهيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَنَّاهُ لِقِلَّةِ صَبرِهِ وَضَجَرِهِ، فَإِذَا جَاءَ مُتَمَنَّاهُ، ازْدَادَ ضَجَرًا عَلَى ضَجَرٍ، وَيَستَحِقُّ بِذَلِكَ مَزِيدَ سَخَطٍ، وَلِأَنَّ السَّعَادَةَ فِي طُولِ العُمْرِ؛ لِأَنَّ الإِنسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِاكْتِسَابِ السَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ، وَرَأسُ مَالِهِ العُمْرُ. هَل رَأَيتَ تَاجِرًا يُضَيِّعُ رَأسَ مَالِهِ؟ ! «مسند الإمام أحمد» (22/ 427). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (22/ 426) (برقم 14564)، وقال محققوه: حسن لغيره.

اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17]. ومن صفات العبد المنيب: الاعتبار بالآيات الدالة على عظمة الله تعالى، وعزته وسلطانه، قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب (8)} [ق: 6 - 8]. وقَالَ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيب} [غافر: 13]. والإنابة إلى الله مانعة من العذاب، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُون (54)} [الزمر: 54]. وقد أمر الله جميع الخلق بالإنابة والرجوع إليه، قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِين (31)} [الروم: 30 - 31]. وكان من دعاء النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن يرزقه الله الإنابة، روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي، وَيَسِّرِ الْهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي،

وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبيِ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ بُرَيدَةَ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه قَالَ: «خَرَجَ بُرَيْدَةُ عِشَاءً، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا صَوْتُ الرَّجُلِ يَقْرَأُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: أَتَقُولُهُ مُرَائِيًا؟ فَقَالَ بُرَيْدَةُ: أَتَقُولُهُ مُرَائِيًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: لَا، بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ، لَا، بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ، فَإِذَا الْأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ بِصَوْتٍ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّ الْأَشْعَرِيَّ - أَوْ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ - أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ» (¬2). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أكثر الناس إنابة إلى ربه، وكان من دعائه ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ومَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 1510). و «مسند الإمام أحمد» (3/ 452) (برقم 1997)، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬2) «مسند الإمام أحمد» (38/ 46) (برقم 22952)، وقال محققوه: إسناده صحيح.

المُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. أو لَا إِلَهَ غَيْرُكَ» (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6317)، و «صحيح مسلم» (برقم 769).

الكلمة السابعة والتسعون: مواقف مؤثرة

الكلمة السابعة والتسعون: مواقف مؤثرة من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة وإمام من أئمة الهدى، جدَّد الله به الدين وقمع به البدعة، كان إمام الدنيا في زمانه، وأحد أذكياء العالم وأفراده في الحفظ والعلم والعمل، إنه شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن شهاب الدين عبد الحليم ابن مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحرَّاني ابن تيمية وهو لقب لجده الأعلى، ولد في العاشر من ربيع الأول سنة (661 هـ)، والحرَّاني نسبة إلى بلدة مشهورة بين الشام والعراق، كان أبيض البشرة، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، جهوري الصوت، فصيحًا، سريع القراءة، إليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، حفظ القرآن وهو في الصغر، وأتقن علم الشريعة والعربية والمنطق وغيرها، ولم يتزوج ولا تَسَرَّى، لا رغبة عن النكاح، فهو سنة النبي صلى اللهُ عليه وسلم وإنما انشغالًا بالعلم والتعليم

والدعوة والجهاد، كان يقضي وقته كله في البحث، والقراءة والمطالعة، فلا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تَرَوَّى من المطالعة، ولا تمل من الانشغال ولا تكل من البحث. قال الذهبي: ما رأيته إلا ببطن كتاب. وقد بدأ التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان من أفراد الدهر في كثرة تأليفه، فلا يعلم في الإسلام من صنف نحو ما صنف، وقدرت مؤلفاته بخمسمائة مجلد، وبأربعة آلاف كراس أو أكثر، وقد بلغ ما يكتبه في اليوم والليلة أربع كراريس، وكان يكتب مؤلفاته من حفظه، وكان ذا قلم سريع الكتابة إذا رقم يكاد يسبق البرق إذا لمع، وكانت مؤلفاته في غاية الإبداع وقوة الحجاج وحسن التصنيف والترتيب، وشرع بالتدريس وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد وفاة أبيه، وأما درس التفسير فقد بدأ به وعمره ثلاثون سنة، واستمر مدة سنين متطاولة، وقد انعقدت له الإمامة في التفسير وعلوم القرآن الكريم، وقد أقبل عليه إقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق ويقال: إنه وضع تفسيرًا مطولًا أتى فيه بالغريب العجيب وكان مشهورًا بقوة حفظه، وقلما حفظ شيئًا فنسيه، كان الحافظ المزي يبالغ في تعظيم الشيخ والثناء عليه حتى كان يقول: لم ير مثله منذ أربعمائة سنة. وكانت قوته في حياته الجادة التي لا تعرف الهزل فضلًا عن سافل الأخلاق من الغيبة والنميمة، فقد كان في غاية التنزه من الغيبة، والنميمة، وما عُرفت عثرة له في شيء من ذلك، وكانت

مجالسه عامرة بالخير، لا يجرؤ المغتابون على غشيانها. وكان رحمه الله زاهدًا في الدنيا غيرَ مبالٍ بها، كان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجة له، وكان يعود المرضى، ويشيع الجنائز، ويقوم بحقوق الناس، ويتألف القلوب، وله محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه، عرضت عليه المناصب والولايات فرفض وقال: يقوم بها غيري، أما نشر العلم وتصحيح الاعتقاد ورد الناس إلى الله ورسوله فالناس أحوج ما يكونون إليه، وعُرضت عليه المرتبات والأعطيات فأباها؛ لأنه يعلم أنه إذا أخذت اليد ضعفت مقاومة الباطل واهتز موقف الناصح وهذا هو منهج الإمام أحمد بن حنبل، فقد قيل في ترجمته: أتته الدنيا فأباها، هذا مع انصراف شيخ الإسلام عن أمور الدنيا انصرافًا كليًا، إذ ليس له من المعلوم إلا اليسير، وقد تكفل أخوه شرف الدين بشؤونه، قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: وهذا يفيد الدرس الآتي وهو عدم اجتماع الضدين فكما أن: حُبُّ الكِتَابِ وَحُبُّ أَلحَانِ الغِنَا فِي قَلْبِ عَبدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ فحب العلم وإشغال القلب والبدن بالمال وجمعه وتنميته والمكاثرة فيه لا يجتمعان، فكلما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع من ذاك، فَلْنَبْكِ على حالنا؟ (¬1). ¬

(¬1) «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية» (ص: 26 - 27).

أما مواقفه مع الولاة، فقد كانت قوية في النصح، والأمر، والنهي، فمن ذلك مواقفه العظيمة في كسر شوكة الملاحدة، والباطنية كما في وقعة شقحب والكسروان، وموقفه مع غازان حتى وصفت شجاعته بأنها خالدية نسبة إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي اللهُ عنه، فقد حدث سنة (699 هـ) أن ملك التتر غازان قدم إلى دمشق، فخرج إليه شيخ الإسلام واجتمع به وكلمه بغلظة، فكف الله يد غازان عنه، وذلك أنه قال لترجمان الملك غازان قل له: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما عملا الذي عملت؛ عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت. وجرت له مع غازان وقطلوشاه، وبولاي، أمور قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخش إلا الله، وحضر قضاة دمشق وأعيانها إلى مجلس غازان، فقدَّم إليهم غازان طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس، ثم إن غازان طلب منه الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك فأيده وانصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فافعل به واصنع .. يدعو عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا القتل وجمعوا ثيابهم خوفًا أن يبطش به غازان فيصيبهم من دمه، فلما خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصصري لابن تيمية: كدت تهلكنا معك ونحن

ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم. وقد سجن بقلعة دمشق في آخر حياته، فبقي يؤلف الكتب، ويرسل الرسائل لأصحابه ويذكر ما فتح الله عليه من العلوم العظيمة والأحوال الجسيمة، فقال: قد فتح الله علي في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثيرًا من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثم إنه مُنع من الكتابة ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق فأقبل على التلاوة والمناجاة والذكر، وقال ابن القيِّم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة». وكان في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير .. ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليها وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب (13)} [الحديد: 13]. وكان كثير التعبد ومداومة الذكر والأوراد، لا يشغله عن هذا

شاغل ولا يصرفه صارف، قال ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إِلَيَّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتخذ هذا الغداء لسقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لِأَسْتَعِدَّ بتلك الراحة لذكر آخر، أو كلامًا هذا معناه. وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف وهو مع ذلك كان أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وَأَسَرَّهُمْ نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينةً، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها. اهـ وكان يقول: أحللت كل من آذاني، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، قال القاضي ابن مخلوف وكان من أعدائه: ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا. كانت وفاته في قلعة دمشق في سحر ليلة الاثنين عشرين من ذي القعدة سنة (728 هـ)، وقد حُمَّ رحمه الله سبعة عشر يومًا، وقد قبض في الثلث الأخير من الليل، فاجتمع في القلعة خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن

أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين فانتهيا إلى قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر (55)} [القمر: 54 - 55]. وقد اجتمع خلق كثير للصلاة عليه وحزر الرجال بستين ألفًا أو أكثر إلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك قول الإمام أحمد بن حنبل لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، وقد رئيت له منامات كثيرة صالحة، وصُلِّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد المسلمين القريبة والبعيدة حتى في اليمن، والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة (الصلاة على ترجمان القرآن) (¬1). رحم الله شيخ الإسلام. وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية» للشيخ محمد عزيز شمس، والشيخ علي العمران، بإشراف: الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله.

الكلمة الثامنة والتسعون: ذم البخل

الكلمة الثامنة والتسعون: ذم البخل الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله البخل، قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «أي: ولا يظن الذين يبخلون أي: يمنعون ما عندهم مما أتاهم الله من فضله من المال، والجاه، والعلم .. وغير ذلك مما منحهم الله وأحسن إليهم به وأمرهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبخلوا بذلك وأمسكوه وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنه خير لهم بل هو شر لهم في دينهم، ودنياهم، وعاجلهم، وآجلهم» (¬1). اهـ وأشد البخل الشح، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الحشر: 9].قال الرازي: الشح هو البخل مع ¬

(¬1) «تفسير الشيخ ابن سعدي» (ص: 141).

حرص (¬1)، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» (¬2). ويؤيد ذلك ما رواه أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ، وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» (¬3). وأنواع البخل كثيرة: فمنها بخل بالمال، أو الجسد، أو العلم، أو الجاه، أو السلام، أو الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وسلم. وقد وردت بذلك نصوص كثيرة، منها ما رواه البيهقي في شعب الإيمان مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه مَرفُوعًا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَعجَزَ النَّاسِ مَن عَجِزَ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنَّ أَبخَلَ النَّاسِ مَن بَخِلَ بِالسَّلَامِ» (¬4). وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ حُسَينِ بنِ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» (¬5). والبخل درجات فأعظمه البخل بالواجبات، والفرائض، مثل البخل بالزكاة، أو النفقة على الأهل، أو الضيافة الواجبة، روى ¬

(¬1) «مختار الصحاح» (ص: 331). (¬2) جزء من حديث في «صحيح مسلم» (برقم 2578). (¬3) قطعة من حديث في «مسند الإمام أحمد» (12/ 450) (برقم 7480)، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده. (¬4) «شعب الإيمان» (13/ 22) (برقم 8392)، وصححه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة» (برقم 601). ورجَّحَ بعضهم وقفه. (¬5) «سنن الترمذي» (برقم 3546)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَاخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ، يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180]» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «قَالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ؟ قَالَ: خُذِي بِالْمَعْرُوفِ» (¬2). وروى البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» (¬3). قال ابن قدامة المقدسي: «البخل والسخاء درجات، وأشد درجات البخل أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة إليه، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل، فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثر على نفسه مع الحاجة، والأخلاق عطايا يضعها الله عزَّ وجلَّ حيث يشاء» (¬4). اهـ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1403)، و «صحيح مسلم» (برقم 987). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 5370)، و «صحيح مسلم» (برقم 1714). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 6018)، و «صحيح مسلم» (برقم 47). (¬4) «مختصر منهاج القاصدين» (ص: 265).

الدرجة الثانية: البخل بما يستحب كالبخل بالصدقات، أو إقراض الآخرين، أو الضيافة المستحبة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ ابنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ السَّلَفَ يَجرِي مَجرَى الصَّدَقَةِ» (¬2). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ البُخْلِ، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: كُنتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا، فَكُنْتُ أَسمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن الجميع يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما تمدح به الشعراء ممدوحيهم في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن، ثم قال: ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة، والكرم، بين الله سبحانه أنه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، ومن تولى عنه بإنفاق ماله أبدل الله ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1442)، و «صحيح مسلم» (برقم 1010). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (7/ 26) (برقم 3911)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 2893).

به من يقوم بذلك، فقال: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38]» (¬1). اهـ ومما يدل على مقت البخل وأنه مما ينافي مكارم الأخلاق، ما رواه البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا هُوَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَمَعَهُ النَّاسُ مُقْبِلًا مِنْ حُنَيْنٍ عَلِقَتْ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ، حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذُوبًا، وَلَا جَبَانًا» (¬2). قال ابن حجر: «وفيه ذم الخصال المذكورة وهي البخل، والكذب، والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها» (¬3). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أكرم الناس، فقد أعطى يوم حنين الأقرع ابن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل، ولما جاءه أعرابي أعطاه واديًا من الغنم بين جبلين، فرجع إلى أصحابه ¬

(¬1) «الاستقامة» (2/ 263 - 270)، باختصار. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3148). (¬3) «فتح الباري» (6/ 254).

وهو يقول: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (¬1). قال ابن القيِّم رحمه الله: «الجبن والبخل قرينان، فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل» (¬2). قال الشاعر: إِذَا كُنْتَ جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ فَيَاكُلَهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ وقال آخر: إِذَا جَادَتِ الدُّنيَا عَلَيكَ فَجُدْ بِهَا عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ فَلَا الجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ وَلَا البُخلُ يُبقِيهَا إِذَا هِيَ تَذهَبُ وقال ابن مفلح رحمه الله: «عجبًا للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب، والمؤخر للسعة التي إياها طلب، ولعله يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم تر بخيلًا إلا غيره أسعد بمالِهِ منه لأنه في الدنيا مهتم بجمعه، وفي الآخرة آثم بمنعه، وغيره آمن في الدنيا من همه، وناج في الآخرة من إثمه» (¬3). اهـ قال حبيش الثقفي: «قعدت مع أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2312). (¬2) «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» (ص: 85). (¬3) «الآداب الشرعية» (3/ 318).

والناس متوافرون فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلًا صالحًا بخيلًا» (¬1). قال الماوردي رحمه الله: «قد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة، وإن كان ذريعة إلى كل مذمة، أربعة أخلاق، ناهيك بها ذمًّا وهي: الحرص والشره، وسوء الظن، ومنع الحقوق، وإذا آل البخيل إلى ما وصفناه من هذه الأخلاق المذمومة، والشيم اللئيمة، لم يبقَ معه خير مرجو، ولا صلاح مأمول» (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «طبقات الحنابلة» (1/ 147). (¬2) «أدب الدنيا والدين» (ص: 186 - 187)، بتصرُّف.

الكلمة التاسعة والتسعون: فضائل العفو

الكلمة التاسعة والتسعون: فضائل العفو الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن العفو من الأخلاق الجميلة، والصفات الحميدة التي أمر الله بها نبيه وعباده المؤمنين، قَالَ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين (199)} [الأعراف: 199]. وقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 159].وقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم (22)} [النور: 22]. قال الكفوي: «العفو: كف الضرر مع القدرة عليه (¬1)، وكل من استحق عقوبة وتركها فهذا الترك عفو، والفرق بين الصفح والعفو مع أنهما متقاربان في المعنى فيقال: صفحت عنه أعرضت عن ذنبه وعن تثريبه، إلا أن الصفح أبلغ من العفو، فقد يعفوا الإنسان ولا يصفح، وصفحت عنه أوليته صفحة جميلة، قَالَ تَعَالَى: {فَاصْفَحْ ¬

(¬1) «الكليات» (ص: 53، 598).

عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُون} [الزخرف: 89]» (¬1). قال ابن كثير في قَولِهِ تَعَالَى: «{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}، هذه الآية نزلت في الصِّدِّيق رضي اللهُ عنه: حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة، بعدما قال في عائشة، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة رضي اللهُ عنها، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب الله على من تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه شرع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة يعطف الصِّدِّيق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة ابن خالة الصِّدِّيق وكان مسكينًا لا مال له، وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها، وضرب الحد عليها، وكان الصِّدِّيق رضي اللهُ عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب، والأجانب، فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} أي: كان الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر [ذنب من أذنب] إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك، فعند ذلك قَالَ الصِّدِّيقُ: بَلَى وَاللهِ إِنَّا نُحِبُّ أَن تَغفِرَ لَنَا يَا رَبَّنَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنزِعُهَا مِنهُ أَبَدًا فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ، قَالَ: وَاللهِ لَا أَنفَعُهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا. فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ الصِّدِّيقُ رضي اللهُ عنه» (¬2). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: ¬

(¬1) «بصائر ذوي التمييز» (3/ 421)، بتصرُّف. (¬2) «تفسير ابن كثير» (10/ 198). والحديث في «صحيح البخاري» (برقم 4757).

«دَخَلَ عُيَينَةُ بنُ حِصنٍ عَلَى عُمَرَ ابنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ» (¬1). قال الشافعي رحمه الله: قَالُوا سَكَتَّ وَقَد خُوصِمْتَ قُلتُ لَهُم ... إِنَّ الجَوَابَ لِبَابِ الشَّرِّ مِفْتَاحُ فَالعَفْوُ عَنْ جَاهِلٍ أَو أَحمَقٍ شَرَفٌ ... وَفِيهِ أَيْضًا لِصَونِ العِرْضِ إِصْلَاحُ إِنَّ الأُسُودَ لَتُخْشَى وَهِيَ صَامِتَةٌ ... وَالكَلْبُ يُحْثَى (¬2) وَيُرْمَى وَهُوَ نُبَاحُ قَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (134)} [آل عمران: 133 - 134]. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» (¬3). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 4642). (¬2) يُرمَى بالحصى. (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2588).

وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أكثر الناس عفوًا وتسامحًا، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَاسِي فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ، قَالَ: فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1). وفي رواية: ثُمَّ لَم يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم (¬2). وَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لِزُعَمَاءِ قُرَيشٍ الَّذِينَ آذَوْهُ، وَقَتَلُوا أَصحَابَهُ، وَأَخرَجُوهُ مِن بَلَدِهِ: «اذهَبُوا فَأَنتُمُ الطُّلَقَاءُ» (¬3). وفي مسند الإمام أحمد مِن حَدِيثِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: لَئِنْ كَانَ لَنَا يَوْمٌ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ (¬4)، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ رَجُلٌ لاَ يُعْرَفُ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: أَمِنَ (¬5) الَأسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا، نَاسًا سَمَّاهُمْ، فَأَنْزَلَ الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين} ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2910)، و «صحيح مسلم» (برقم 843). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 4135). (¬3) «سيرة ابن هشام» (4/ 27). ورُوِيَ في السِّيرة. (¬4) لَنُرْبِيَنَّ: قال السِّندي: من الإرباء، يُقال: أربى على كذا: إذا زاد عليه، أي: لَنَزِيدَنَّ على ما قتلوا منا. (¬5) أمن: بفتح فكسر من الأمن، أي: الكل آمنون لا يقتل أحد منهم.

[النحل: 126]، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ» (¬1). والعفو من صفاته صلى اللهُ عليه وسلم التي وصف بها في التوراة، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ عَطَاءَ بنَ يَسَارٍ سَأَلَهُ أَن يُخبِرَهُ عَن صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي التَّورَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا، وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ» (¬2). والعفو من صفات الأنبياء السابقين، قال تعالى عن يوسف عليه السلام وهو يخاطب إخوته: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [يوسف: 92]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ ابنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (¬3). والعفو من صفات الصالحين من عباد الله. ففي عهد الخليفة المعتصم سجن الإمام أحمد بن حنبل ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (35/ 152) (برقم 21229)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 2125). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3477)، و «صحيح مسلم» (برقم 1792).

وضرب بالسياط حتى أُغمي عليه، وسال الدم من جسده، وكان يقول: قد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم - في حل، وعفا عنه، وسجن الإمام مالك، وضرب بالسياط حتى انخلعت يده من كتفه، فعفا عمن ضربه. والمواقف في العفو كثيرة عند التتبع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ، أَوْ ظُلْمِهِ، وَعُدْوَانِهِ، فَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْتُ كُلَّ مُسْلِمٍ، وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي. وَالَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي (¬1). ومما ينبغي التنبيه عليه أن العفو مشروط بالإصلاح، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: «يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كبيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به، وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، كما يحب أن يعفو الله عنه فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل» (¬2). اهـ ومن وصل إلى هذه الحالة فليحمد الله على هذه النعمة الكبرى، وعلى راحة الضمير، وعلى كثرة ما يجني من الخير. ¬

(¬1) «الفتاوى» (28/ 55). (¬2) «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» (ص: 727).

ويشرع للمسلم أن يكثر من سؤال الله العفو، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ، تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (¬1). قال الشاعر: يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً ... فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِن كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ ... فَبِمَنْ يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ المُجْرِمُ مَا لِي إِلَيكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا ... وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ فوائد العفو: 1 - امتثال أمر الله عزَّ وجلَّ. 2 - إزالة ما في النفس من الأحقاد والبغضاء. 3 - راحة النفس، وطمأنينة القلب. 4 - الأجر العظيم من الله تعالى. 5 - الرفعة في الدنيا والآخرة. 6 - نشر المحبة والأخوة بين المسلمين. 7 - أنه طريق موصل إلى الجنة. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 3513)، وقال: حديث حسن صحيح.

الكلمة المائة: مقتطفات من سيرة بطل الإسلام

الكلمة المائة: مقتطفات من سيرة بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرةِ عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبَطَلٍ من أبطالها وفَارِسٍ من فرسانها، ولد رحمه الله سنة (532 هـ)، في تكريت في العراق، وكان خليقًا للإمارة، مهيبًا شجاعًا حازمًا، مجاهدًا كثير الغزو، عالي الهمة، إنه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي أبو المظفر يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي ابن مروان بن يعقوب الدويني (¬1) ثم التكريتي المولد. قال الذهبي: «كانت له همة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها في دهر، وكانت له اليد البيضاء، ببذل الأموال، والخيل المثمنة لجنده، وله عقل جيد، وفهم، وحزم، وعزم، كان نور الدين زنكي قد أمره وبعثه في عسكره إلى مصر مع عمه أسد ¬

(¬1) دَوِيْن: بفتح أوله وكسر ثانيه وياء المثناة من تحت ساكنة وآخره نون. بلدة من نواحي أران في آخر حدود أذربيجان بقرب من تفليس. «معجم البلدان للحموي» (4/ 328).

الدين شيركوه، فحكم شيركوه مصر ثم توفي، فقام بعده صلاح الدين ودانت له العساكر، وقهر بني عبيد ومحى دولتهم، وفي سنة (583 هـ) فتح طبرية، ونازل عسقلان ثم كانت وقعة حطين بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا فحال بينهم وبين الماء على تل وسلموا أنفسهم وأُسرت ملوكهم، وبادر فأخذ عكا، وبيروت، وكوكب، وسار فحاصر القدس وَجَدَّ في ذلك، فأخذها بالأمان، ثم إن الإفرنج قامت قيامتهم على بيت المقدس وأقبلوا كقطع الليل المظلم برًّا وبحرًا، وأحاطوا بعكا ليستردوها وطال حصارهم لها وبنوا على أنفسهم خندقًا فأحاط بهم السلطان ودام الحصار لهم وعليهم نيفًا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحم، وحروب تشيب لها النواصي» (¬1). ومن أخباره التي تدل على شدته على الكفار، وغيرته على الإسلام، أنه لما أسر ملوك الأفرنج في معركة حطين، كان قد نذر أن يقتل أرناط وهو صاحب الكرك، فأسره يومئذ وكان قد مر به قوم من مصر في حال الهدنة، فغدر بهم، فناشدوه الصلح، فقال ما فيه استخفاف بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم وقتلهم، فاستحضر صلاح الدين الملوك، ثم ناول الملك جفري شربة جلاب ثلج، فشرب، فناول أرناط، فشرب، فقال السلطان للترجمان: قل لجفري: أنت الذي سقيته، وإلا أنا فما سقيته، ثم استحضر البرنس أرناط في مجلس آخر وقال: أنا أنتصر لمحمد صلى اللهُ عليه وسلم منك، ثم عرض عليه الإسلام فأبى، ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (21/ 280 - 281).

فحل كتفه بالنيمجاه (¬1)، وافتتح عامه ما لم يفتحه ملك، وطار صيته في الدنيا، وهابته الملوك. قال ابن كثير: «كان السلطان صلاح الدين من أشجع الناس وأقواهم قلبًا وبدنًا مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام، ولا سيما وهو مرابط مصابر مثابر عند عكا، فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل ويقال: ستمائة ألف، وكان جملة من قُتل منهم مائة ألف مقاتل، ولما انفصل الحال وتسلموا عكا وقتلوا أكثر من كان بها، وساروا برمتهم نحو بيت المقدس جعل يسايرهم منزلة منزلة ومرحلة مرحلة وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه، ومع هذا نصره الله، وخذلهم، وأيَّده وقتلهم، وسبقهم إلى بيت المقدس فصانه وحماه وشيد بنيانه، ولم يزل بجيشه مقيمًا به، يرهبهم، ويرعبهم ويكسرهم، ويأسرهم، حتى تضرعوا إليه وخضعوا لديه ودخلوا عليه أن يصالحهم ويتاركهم وتضع الحرب أوزارها بينهم وبينه، فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده لا ما يريدونه، وكان ذلك من جملة الرحمة التي خص بها المؤمنون». وكان رحمه الله سخيًّا، كريمًا، حبيبًا، ضحوك الوجه، كثير البشر، لا يتضجر من خير يفعله، شديد المصابرة والمثابرة على الخيرات ¬

(¬1) النيمجاه: خنجر مقوس يشبه السيف القصير وهو معرب نيمجه. «سير أعلام النبلاء» (21/ 285).

والطاعات (¬1). قال العماد: أطلق في مدة حصار عكا اثني عشر ألف فرس، وما حضر اللقاء إلا استعار فرسًا، نزَّه المجالس من الهزل، ومحافله آهلة بالفضلاء، حليمًا، مقيلًا للعثرة، تقيًّا، نقيًّا، وفيًّا صفيًّا، يُغضِي ولا يغضب، ما رد سائلًا ولا خَجَّل قائلًا، كثير البر والصدقات. قال الموفق عبد اللطيف: أتيت صلاح الدين بالقدس فرأيت ملكًا يملأ العيون روعة، والقلوب محبة قريبًا بعيدًا سهلًا محببًا وأصحابه يتشبهون به، يتسابقون إلى المعروف كما قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47] وأول ليلة حضرتُهُ وجدت مجلسه حافلًا بأهل العلم يتذاكرون وهو يحسن الاستماع والمشاركة ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق ويأتي بكل معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه ويتولى ذلك بنفسه وينقل الحجارة على عاتقه ويتأسى به الخلق. اهـ. وكان السلطان صلاح الدين متقللًا في ملبسه ومأكله ومشربه ومركبه، فلا يلبس إلا القطن والكتان والصوف، ولا يعرف أنه تخطى مكروهًا بعد أن أنعم عليه بالملك بل كان همه الأكيد ومقصوده الأعظم نصر الإسلام وكسر الأعداء اللئام، ويعمل فكره في ذلك ورأيه وحده مع من يثق برأيه ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا، ومع هذه الفضائل والآداب، فقد كان مواظبًا على الصلوات في ¬

(¬1) «البداية والنهاية» (16/ 657 - 658).

أوقاتها جماعة، يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته، بل كان يدخل الإمام فيصلي به، فكان يتجشم القيام مع ضعفه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، وكان يحب سماع القرآن العظيم ويواظب على سماع الحديث حتى إنه سمع في بعض المصافات جزءًا وهو بين الصفين للقتال وكان يقول: هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثًا. قال ابن كثير: «وفي سنة (589 هـ) اشتد به المرض ثم حصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، وعندما ظهرت مخايل الضعف الشديد وغيبوبة الذهن في بعض الأوقات استدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاَّسة ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في غمرات الموت: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] فقال: وهو كذلك صحيح، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129] تبسم، وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه، ومات رحمه الله وأكرمه وجعل جنة الفردوس مأواه، وكان له من العمر سبع وخمسون سنة، فقد كان ردءًا للإسلام، وحرزًا وكهفًا من كيد الكفرة اللئام، وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه، وود كل منهم لو فداه بأولاده وأحبابه وأصحابه، وغلقت الأسواق، وأخذ الناس في البكاء» (¬1). ¬

(¬1) «البداية والنهاية» لابن كثير (16/ 651 - 652).

وكانت وفاته بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمس مئة، قال الذهبي: فوجد الناس عليه شبيهًا بما يجدونه على الأنبياء، وما رأيت ملكًا حزن الناس لموته سواه، لأنه كان محببًا، يحبه البر والفاجر، والمسلم والكافر، ولقد صدق العماد في مدحه حيث يقول: وَلِلنَّاسِ بِالمَلِكِ النَّاصِرِ الصَّلَا حِ صَلَاحٌ وَنَصرٌ كَبِيرُ هُوَ الشَّمسُ أَفلَاكُهُ فِي البِلَا دِ وَمَطلَعُهُ سَرْجُهُ وَالسَّرِيرُ إِذَا مَا سَطَا أَو حَبَا وَاحتَبَى فَمَا اللَّيثُ مِن حَاتِمٍ مَا ثَبِيْرُ (¬1) قال العماد وغيره: لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينار واحد، وستة وثلاثين درهمًا، وقال غيره: سبعة وأربعين دينار، ولم يترك دارًا ولا عقارًا، ولا مزرعة، ولا بستانًا، ولا شيئًا من أنواع الأملاك، وإنما لم يخلف أموالًا، ولا أملاكًا لكثرة عطاياه وهباته وصدقاته وإحسانه إلى أُمرائه ووزرائه وأوليائه حتى إلى أعدائه. وكتب القاضي الفاضل تعزية إلى صاحب حلب ابن صلاح الدين الأيوبي: قَالَ تَعَالَى: «{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم (1)} كتبت إلى مولانا الملك الظاهر أحسن الله عزاءه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف من السلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالًا شديدًا، وقد حضرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (21/ 283).

الحناجر، وقد ودعت أباك مخدومي وداعًا لا تَلَاقِيَ بعده، وَقَبَّلْتُ وَجْهَهُ عَنِّي وعنك وأسلمته إلى الله وحده مغلوب الحيلة، ضعيف القوة، راضيًا عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لم يدفع البلاء ولا ما يرد القضاء، تدمع العين، يخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب: وإنا على فراقك يا يوسف (صلاح الدين) لمحزونون» (¬1). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (21/ 278 - 290)، و «البداية والنهاية» لابن كثير (16/ 651 - 658).

الكلمة الواحدة بعد المائة: من أسماء الله الحسنى

الكلمة الواحدة بعد المائة: من أسماء الله الحسنى الغافر - الغفار - الغفور الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد روى البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ». ومن أسمائه تعالى: (الغافر - الغفار - الغفور)، وقد أخبرنا ربنا تعالى أنه غافر الذنوب، وغفارها، وغفورها، كما قال: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِير (3)} [غافر: 3]. وقال تعالى فيما حكاه عن نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} [نوح: 10]. وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [البقرة: 173]. قال بعضهم قد سمى الله نفسه بالغفور في إحدى وتسعين آية، وأما اسمه الغفار فقد جاء في خمس آيات، فعلم أن ورود الغفور في القرآن أكثر بكثير من الغفار، والغفار أبلغ من الغفور، قَالَ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ

الأَلِيم (50)} [الحجر: 49 - 50]. أما الغفار ففي قَولِهِ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّار (66)} [ص: 66]. وقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} [نوح: 10]. وأما الغافر فقد ورد مرة واحدة في القرآن، قَالَ تَعَالَى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]. قال الزجَّاج: معنى الغفر في حق الله سبحانه: هو الذي يستر ذنوب عباده، ويغطيهم بستره (¬1)، وقال الحليمي: الغافر هو الذي يستر على المذنب، ولا يؤاخذه فيشهره ويفضحه، وأما الغفور فهو الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، ويزيد عفوه على مؤاخذته (¬2). ومن كرم الله، وعظيم مغفرته قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (53)} [الزمر: 53]. قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي رحمه الله: «فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه الخالعين لثياب القنوط، الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم وما أحسن ما علل به سبحانه هذا الكلام قائلًا: إنه هو الغفور الرحيم، أي كثير المغفرة، والرحمة ¬

(¬1) «تفسير أسماء الله الحسنى» (ص: 38). (¬2) «المنهاج» (1/ 102).

عظيمهما بليغهما واسعهما، ومن أبى هذا الفضل العظيم والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير وعدم التقنيط هو الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز والمسلك الذي سلكه رسوله صلى اللهُ عليه وسلم» (¬1). ومن آثار الإيمان بهذه الأسماء العظيمة: أولًا: وصف الله سبحانه نفسه بأنه غفار، وغفور للذنوب والخطايا صغيرها، وكبيرها، حتى الشرك إذا تاب منه الإنسان، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]. وقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110)} [النساء: 110]. فمهما عظمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله أعظم منها، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]. روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي» (¬2). وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: ¬

(¬1) «فتح البيان» (12/ 128). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (17/ 337) (برقم 11237)، وقال محققوه: حديث حسن.

سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» (¬1). قال الشاعر: وَهُوَ الغَفُورُ فَلَو أُتِيَ بِقُرَابِهَا مِنْ غَيرِ شِرْكٍ بَلْ مِنَ العِصْيَانِ لَأَتَاهُ بِالغُفْرَانِ مِلءَ قُرَابِهَا سُبحَانَهُ هُوَ وَاسِعُ الغُفْرَانِ بل إن الله من فضله وكرمه يبدل سيئات العبد إلى حسنات إذا صدق في توبته، قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)} [الفرقان: 70]. ثانيًا: لا يجوز للمسلم أن يتساهل بالمعاصي والذنوب بحجة أن الله غفور رحيم، فالمغفرة إنما تكون للتائبين الأوابين، قَالَ تَعَالَى: {إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25]. وقَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]. فاشترط سبحانه تغيير الحال من عمل السيئات إلى عمل الصالحات لكي تحصل المغفرة. ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 3540)، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (3/ 175) (برقم 2805).

ثالثًا: إذا علم المؤمن أن الله غفور رحيم، فإنه يشرع له أن يحرص على فعل مكفرات الذنوب وهي الأقوال، والأعمال التي شرعها الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى اللهُ عليه وسلم حتى تكفر عنه الخطايا والسيئات. رابعًا: أنه يشرع للمؤمن أن يكثر من الاستغفار حتى تحصل له المغفرة التي وعد الله بها المستغفرين، والنبي صلى اللهُ عليه وسلم كان يستغفر الله في جميع الأحوال، ومن تلك الصيغ ما رواه أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِئَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (¬1). وروى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ زَيدٍ مَولَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» (¬2). وروى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ مِحْجَنِ بنِ الأَدْرَعِ رضي اللهُ عنه قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 1516)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (1/ 283) (برقم 1342). (¬2) «سنن أبي داود» (برقم 1517)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (1/ 283) (برقم 1343).

أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ: فَقَالَ: قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلَاثًا» (¬1) (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 985)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (برقم 869). (¬2) انظر: «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى» (1/ 175 - 180).

الكلمة الثانية بعد المئة: من أداب اللباس

الكلمة الثانية بعد المئة: من أداب اللباس الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فاللباس نعمة عظيمة من نعم الله الكثيرة على عباده، لستر العورات ووقاية من الحر والبرد وسائر الآفات، وقد وردت النصوص الشرعية بأحكامه مفصلة مبينة، وبينت القدر الواجب ستره، والمستحب من اللباس والمحرم، والمكروه، والمباح مقدارًا وكيفية. وقد ذكر أهل العلم آداب اللباس في كتبهم والأدلة على ذلك فمنها: وجوب ستر العورة؛ وهي ما يجب تغطيته ويقبح ظهوره، ويستحيا منه، قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]. فتغطيته باللباس أمر واجب، وحد عورة الرجل الذكر: من السرة إلى الركبة، لما رواه الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَرْهَدٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم مَرَّ عَلَيهِ وَقَد كَشَفَ عَن فَخِذِهِ، فَقَالَ: «يَا جَرْهَدُ! غَطِّ فَخِذَكَ، فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ» (¬1). قال ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلَّقًا، ورواه مالك والترمذي وأحمد، وقال محققو المسند (25/ 280) (برقم 15932): حسن بشواهده.

البخاري بعد ذكر الخلاف في المسألة: حديث جرهد أحوط (¬1). أما المرأة: فقد وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَولُهُ: «المَرأَةُ عَورَةٌ» (¬2)، وقد تقدم التفصيل في كلمة خاصة بلباس المرأة. ومنها الابتعاد عن اللباس الرقيق الذي يصف بياض الجلد، وسواده وحمرته والذي يصف الخلقة أي الحجم لرجل وامرأة، قال ابن تميم: يكره الثوب الرقيق إذا وصف البدن (¬3)، قال المروذي: أمروني في منزل أبي عبد الله أن أشتري لهم ثوبًا، فقال: لا يكون رقيقًا أكره الرقيق للحي والميت، فإن الفخذ عورة (¬4). ومنها: ألا يتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال. روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ (¬5). ومنها: تحريم الإسبال للرجال، سواءٌ كان ما يلبس إزارًا أو ثوبًا أو بشتًا أو سراويلَ أو قميصًا، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الإِسبَالُ فِي الإِزَارِ، ¬

(¬1) «فتح الباري» (1/ 478). (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 1173)، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (2/ 933) (برقم 3109). (¬3) «شرح منظومة الآداب الشرعية» للحجاوي (ص: 437). (¬4) نفس المصدر (ص: 437). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 5885).

وَالقَمِيصِ، وَالعِمَامَةِ، مَن جَرَّ مِنهَا شَيئًا خُيَلَاءَ، لَم يَنظُرِ اللهُ إِلَيهِ يَومَ القِيَامَةِ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه مَرفُوعًا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ» (¬2). وظاهره أن مجرد الإسبال يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس ذلك، وقد ورد الوعيد الشديد لمن أسبل إزاره تحت الكعبين، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا أَسفَلَ مِنَ الكَعبَينِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ» (¬3). ومنها تحريم ارتداء الملابس التي عليها صلبان، أو تصاوير، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ » فَقَالَتْ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4094)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 771) (برقم 3450). (¬2) جزء من حديث في «مسند الإمام أحمد» (34/ 238) (برقم 20635)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 5787).

وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»، وَقَالَ: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها حَدَّثَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ (¬2). قال الحجاوي: «فإذا منع من نصبه سترًا على الحائط وتعليقه فلأن يكون ممنوعًا لبسه أولى، لأن ذلك أكثرُ إكرامًا، وهذا أحد الوجهين في التحريم» (¬3). ومنها تحريم لباس الشهرة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬4). قال الحجاوي: «لأنه يزري بصاحبه وينقص مروءته، وفي الغنية من اللباس المنزه عنه: كل لبسة يكون بها مشتهرًا بين الناس كالخروج عن عادة أهل بلده، وعشيرته فينبغي أن يلبس ما يلبسون، لئلا يشار إليه بالأصابع ويكون ذلك سببًا إلى حملهم على غيبتهم له فيشركهم في إثم الغيبة له» (¬5). ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 5961)، و «صحيح مسلم» (برقم 2107). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 5952). (¬3) «شرح منظومة الآداب الشرعية» للحجاوي (ص: 440 - 441). (¬4) «مسند الإمام أحمد» (9/ 476) (برقم 5664)، وقال محققوه: حديث حسن. (¬5) «شرح منظومة الآداب الشرعية» للحجاوي (ص: 432).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وتكره الشهرة من الثياب وهو الترفع الخارج عن العادة، والمنخفض الخارج عن العادة، فإن السلف كانوا يكرهون الشهرتين المرتفع والمنخفض» (¬1). اهـ قال ابن عبد البر: «كان يقال: كل من الطعام ما اشتهيت، والبس من الثياب ما اشتهى الناس» (¬2). قال الشاعر: إِنَّ العُيُونَ رَمَتْكَ مُذْ فَاجَاتَهَا وَعَليْكَ مِنْ شُهْرِ الثِّيَابِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِكَ مَا اشْتَهَتْ وَاجْعَلْ لِبَاسَكَ مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ ومنها: تحريم الذهب والحرير على الرجال إلا لعذر، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَينِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» (¬3). ومنها: أن السنة التيامن عند لبس اللباس، روى البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُعجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ (¬4). قال النووي رحمه الله: «وهذه قاعدة مستمرة في الشرع وهي أَنَّ مَا كان من باب التكريم والتشريف كلبس الثوب، والسراويل، ¬

(¬1) «مجموع الفتاوى» (22/ 138). (¬2) «شرح منظومة الآداب الشرعية» للحجاوي (ص: 433). (¬3) «سنن أبي داود» (برقم 4057)، وصححه الألباني في صحيح «سنن أبي داود» (برقم 3422). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 5845)، و «صحيح مسلم» (برقم 268).

والخف، وغير ذلك مما هو في معناه، يستحب التيامن فيه وذلك كله لكرامة اليمين وشرفها» (¬1). اهـ ومنها: أن السنة عند لبس الجديد أن يقول الدعاء الوارد في ذلك: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمدُ أَنتَ كَسَوتَنِيهِ، أَسأَلُكَ خَيرَهُ وَخَيرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» (¬2). ومنها استحباب لبس البياض، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» (¬3). ومنها النهي عن لبس الثوب المعصفر وهو المصبوغ بعصفر، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو ابنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِن ثِيَابِ الكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا» (¬4). قال ابن حجر في فتح الباري بعدما ذكر أقوال أهل العلم في لبس الثوب الأحمر: «والتحقيق في هذا المقام: أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في ¬

(¬1) «صحيح مسلم بشرح النووي» (1/ 160)، بتصرُّف. (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 1767)، وصححه الألباني في صحيح «سنن الترمذي» (برقم 1446). (¬3) «سنن أبي داود» (برقم 4061)، وصححه الألباني في صحيح «سنن أبي داود» (2/ 766) (برقم 3426). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 2077).

الميثرة الحمراء (¬1)، وإن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة، أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك، وإلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت» (¬2). ومنها استحباب إظهار النعمة في الملبس ونحوه، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي ثَوْبٍ دُونٍ، فَقَالَ: «أَلَكَ مَالٌ؟ » قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ » قَالَ: قَدْ آتَانِي اللهُ مِنَ الإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ، قَالَ: «فَإِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ» (¬3). ومنها الطيب، فقد كَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يحبه، فقد روى النسائي في سننه مِن حَدِيثِ أَنَسٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» (¬4). وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ (¬5). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) يشير بذلك إلى حديث البخاري في النهي عن المياثر الحمر. (¬2) «فتح الباري» (10/ 306). (¬3) «سنن أبي داود» (برقم 4063)، وصححه الألباني في صحيح «سنن أبي داود» (برقم 3428). (¬4) «سنن النسائي» (3939)، وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (برقم 3680). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 2582).

الكلمة الثالثة بعد المئة: خطر الرشوة

الكلمة الثالثة بعد المئة: خطر الرشوة الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الرشوة من الأمور المنكرة التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين وهي مرض عضال، وداء خطير، يفسد المجتمعات، ويضيع الحقوق، ويخل بالأمانة وهي كبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى في ذم اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، والرشوة: من السحت كما فسر الآية ابن مسعود وغيره (¬1). روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ ابنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالمُرتَشِيَ (¬2). واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. قال الجرجاني: «الرشوة ما يُعطَى لإبطال حق، أو إحقاق باطل» (¬3). قال الذهبي: الكبيرة الثانية والثلاثون: أخذ الرشوة ¬

(¬1) «تفسير القرطبي» (7/ 485). (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 1337)، وقال: حسن صحيح. (¬3) «التعريفات» للجرجاني (ص: 148)، و «التوقيف على مهمات التعاريف» للمناوي (ص: 365).

على الحكم، واستدل على ذلك بقَولِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَاكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (188)} [البقرة: 188]. قال الذهبي: «لا تدلوا بأموالكم إلى الحكام: أي: لا تصانعوهم بها، ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقًّا لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم». وبعد أن ذكر الأحاديث الدالة على التحريم، قال: إنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم، أو ينال بها ما لا يستحق، أما إذا أعطى ليتوصل إلى حق له، أو ليدفع عن نفسه ظلمًا، فإنه غير داخل في اللعنة، وأما الحاكم فالرشوة عليه حرام، أبطل بها حقًّا، أو دفع بها ظلمًا، والرائش: هو الوسيط بالرشوة، تابع للراشي في قصده إن قصد خيرًا لم تلحقه اللعنة، وإلا لحقته (¬1). اهـ وصور الرشوة كثيرة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «فمنها أنها تكون في الحكم فُيقضى من أجلها لمن لا يستحق، أو يمنع من يستحق، أو يُقَدَّمُ مَنْ غَيرُهُ أَحَقُّ بالتقديم، وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة سواء كان ذلك بالتراضي في التنفيذ، أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة، والرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها فَيُقَدَّمُ من أجلها من لا ينجح، أو تُعطى له الأسئلة ¬

(¬1) «الكبائر» للذهبي (ص: 131)، بتصرُّف.

قبل الامتحان فَيُوَلَّى الوظيفةَ مَنْ غَيرُهُ أَحَقُّ منه، وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة، فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح، أو تقدم له أسئلة الامتحان، أو يشار إلى أماكنها من المقررات أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها، فيتقدم هذا الطالب مع ضعف مستواه العلمي ويتأخر من هو أحق منه لقوة مستواه العلمي، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]. قال جمع من المفسرين: الأمانة كل ما ائتمن عليه المُؤَمَّنُ، ومن الأمانة أن يولى الأجدر والأحق بالوظيفة. اهـ والرشوة تكون في تنفيذ المشاريع فحينما يأتي مشروع، وتعمل مناقصة فيدفع أحدهم رشوة فيحصل على هذا المشروع مع أن غيره أتقن منه عملًا وأقل سعرًا، والرشوة تكون في التحقيقات الجنائية، أو الحوادث، أو غيرها فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة» (¬1) اهـ، أو يُعين مسئول في موقع ما فيأخذ هدية مقابل أن يسهل على صاحبها بعض الأمور، أو يقدمه على غيره، أو يعفيه من بعض الالتزامات، أو غير ذلك، وهذا غلول ورشوة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي اللهُ عنه قال: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْلُّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ ¬

(¬1) «الضياء اللامع من الخطب الجوامع» (4/ 445 - 446)، بتصرُّف.

لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَاتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَاتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ؛ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا» (¬1). وَأَرسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَبدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ رضي اللهُ عنه لِيَخرِصَ نَخلَ يَهُودِ خَيبَرَ، فَلَمَّا جَاءَهُم شَكَوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم شِدَّةَ خَرْصِهِ وَأَرَادُوا أَن يَرشُوهُ فَقَالَ: يَا أَعدَاءَ اللهِ أَتُطعِمُونِي السُّحتَ؟ وَاللهِ لَقَد جِئتُكُم مِن عِندِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَأَنتُم أَبغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ مِن عِدَّتِكُم مِنَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ، وَلَا يَحمِلُنِي بُغضِي إِيَّاكُم، وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَن لَا أَعدِلَ عَلَيكُم، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: أَفَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَمَا كَانُوا، وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ، قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللهِ، وَلَيْسَ يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 7174)، و «صحيح مسلم» (برقم 1832). (¬2) «صحيح السيرة النبوية» للشيخ إبراهيم العلي (ص: 450).

فَإِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلِي، فَقَالَوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَدْ أَخَذْنَا، فَاخْرُجُوا عَنَّا (¬1). وتأمل هذا الحديث الذي تفزع لهوله القلوب، وتشيب منه الرؤوس، وترتعد منه الفرائص، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنتِ العِرْبَاضِ عَن أَبِيهَا رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَاخُذُ الْوَبَرَةَ مِنْ فَيْءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَيَقُولُ: «مَا لِي مِنْ هَذَا إِلَّا مِثْلُ مَا لِأَحَدِكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ فِيكُمْ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ، فَإِنَّهُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). والواجب أن لا يُعطى المرتشي شيئًا فهو يأخذ أجرة من بيت المال وهو أمين على عمله، وقد وضع لخدمة الناس، وإعطائه الرشوة من التعاون على الإثم والعدوان، قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. ومن صورها: أن تكون على شكل هدية في الظاهر وهي رشوة كموظف يُهدي لرئيسه من أجل ترقيته، أو محاباته على حساب العمل، أو طالب يهدي لمعلمه من أجل إنجاحه، وأهل البلد يهدون لقاضيهم من أجل الحكم لهم (¬3). ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (23/ 210) (برقم 14953)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم. (¬2) «مسند الإمام أحمد» (28/ 385) (برقم 17154)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره. (¬3) «حصاد المحابر من خطب المنابر» للشيخ سعد الحجري (ص: 687 - 688).

والرشوة من صفات اليهود والنصارى، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَاكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]. والأحبار علماء اليهود، والرهبان عُبَّاد النصارى. من مفاسد الرشوة: أولًا: أنها مال سحت على صاحبها لا بركة فيه، وَفِي الحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (¬1). ثانيًا: أنها إفساد للمجتمع حكامًا ومحكومين. ثالثًا: تبطل حقوق الضعفاء وتنشر الظلم. رابعًا: الراشي والمرتشي كلهم ملعونون عند الله ورسوله. خامسًا: الرشوة في تولي القضاء، والوظائف العامة، تفسد المجتمع وتنشر الفساد. سادسًا: الرشوة في أمور الجند تجعل الكفاءة فيهم غير معتبرة، ويؤول الأمر إلى أن يتولى الدفاع عن البلاد من هم غير أهل لذلك فتحيق بهم الهزيمة ويلحق العار البلاد بأسرها. سابعًا: أن الرشوة إذا فشت في جهة من الجهات انتشرت في بقية الجهات، وصار على من عمل بها أولًا وزرها ووزر من عمل ¬

(¬1) قطعة من حديث في «مسند الإمام أحمد» (23/ 425) (برقم 15284)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.

بها مقتديًا به إلى يوم القيامة. ثامنًا: فقد الأمانة، وفشو الخيانة فلا يأمن الإنسان على نفسه، ولا ماله، ولا أهله. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة الرابعة بعد المئة: مقتطفات من سيرة ترجمان القرآن

الكلمة الرابعة بعد المئة: مقتطفات من سيرة ترجمان القرآن عبد الله بن عباس الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وإمام من أئمة المسلمين، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى اللهُ عليه وسلم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر. وُلِدَ رضي اللهُ عنه بِشِعْبِ بني هاشم (¬1) قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي صلى اللهُ عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقيل خمس عشرة سنة، كان وسيمًا جميلًا، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، زكي النفس، من رجال الكمال، وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: «اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّاوِيلَ»، وقد صحب النبي صلى اللهُ عليه وسلم نحوًا من ثلاثين شهرًا، وروى عنه شيئًا كثيرًا، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه، وكثرة فهمه، وكمال عقله، وسعة فضله، ونبل أصله، وله قرابة مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم فهو ابن عمه، إنه ترجمان القرآن وحبر هذه ¬

(¬1) وهو الشِّعْب الذي آوى إليه رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وبنو هاشم، لما تحالفت قريش على بني هاشم.

الأمة والمفسر لكتاب الله، فقيه العصر أبو العباس عبد الله ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو والد الخلفاء العباسيين، وهو أحد إخوة عشرة ذكور للعباس من أم الفضل وهو آخرهم مولدًا، وقد مات كل واحد منهم في بلد بعيد من الآخر جدًّا. روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي، - شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّاوِيلَ» (¬1). قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فَقَالَ: يَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَنْ فِيهِمْ؟ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ، مَا جَاءَ بِكَ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (4/ 225) (برقم 2397)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.

رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلِي النَّاسُ يَسْأَلُونِي، فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي (¬1). وَثَبَتَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما في صحيح البخاري أَنَّهُ قَالَ: كُنتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُستَضعَفِينَ (¬2)، وفي رواية أخرى: أَنَّهُ تَلاَ: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98]، قال: كُنتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّن عَذَرَ اللهُ (¬3). وهاجر مع أبيه قبل الفتح فاتفق لقياهما النبي صلى اللهُ عليه وسلم بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة فشهد الفتح وحنينًا والطائف عام ثمان وقيل: كان في سنة تسع وحجة الوداع سنة عشر، وصحب النبي صلى اللهُ عليه وسلم من حينئذ ولزمه، وأخذ عنه وحفظ، وضبط الأقوال، والأفعال، والأحوال، وأخذ عن الصحابة علمًا عظيمًا مع الفهم الثاقب، والبلاغة، والفصاحة، والجمال والملاحة، والأصالة، والبيان (¬4). روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاء نَصْرُ ¬

(¬1) «البداية والنهاية» لابن كثير (12/ 86). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 4587). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 4588). (¬4) «البداية والنهاية» لابن كثير (12/ 81).

اللَّهِ وَالْفَتْح (1)} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح (1)}، وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ» (¬1). وَقَالَ المُهَاجِرُوْنَ لِعُمَرَ: أَلَا تَدْعُو أَبْنَاءنَا كَمَا تَدْعُو ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: ذَاكُم فَتَى الكُهُولِ؛ إِنَّ لَهُ لِسَانًا سَؤُولًا، وَقَلْبًا عَقُوْلًا (¬2). وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: قَالَ لِي أَبُو العَبَّاسِ: يَا بُنَيَّ! إِنَّ عُمَرَ يُدنِيكَ، فَاحفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا: لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كَذِبًا (¬3). قال الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف، فقال ابن عباس: بل كل واحدة خير من عشرة آلاف. قال ابن كثير: وقد استنابه علي على البصرة، وأقام للناس الحج في بعض السنين فخطب بهم في عرفات خطبة، وفسر فيها سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، قال من سمعه: فسر ذلك تفسيرًا لو سمعته الروم، والترك، والديلم لأسلموا، ويقول عن نفسه: إِنْ كُنْتُ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 4970). (¬2) «سير أعلام النبلاء» (3/ 345). (¬3) «سير أعلام النبلاء» (3/ 346).

لَأَسأَلُ عَنِ الأَمرِ الوَاحِدِ ثَلَاثِينَ مِن أَصحَابِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم (¬1). قال طاووس: ما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا لحرمات الله من ابن عباس، وقال أبو رجاء: رأيت ابن عباس، وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء. قال الواقدي: حدثني داود بن جبير قال: سمعت ابن المسيب يقول: ابن عباس أعلمُ الناس، وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال، بعلم مَن سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، وما رأيت أحدًا كان أعلم بما سبقه مِن حَدِيثِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر، وعمر، وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه ولا أعلم بما مضى ولا أَثْبَت رأيًا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يومًا، ما يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا التأويل، ويومًا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب، وما رأيت عالمًا جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلًا قط سأله إلا وجد عنده علمًا، قال: وربما حفظت القصيدة من فيه ينشدها ثلاثين بيتًا. وقال مجاهد: كان ابن عباس يُسَمَّى البحر لكثرة علمه، وقال عطاء: ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهًا، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، ¬

(¬1) «البداية والنهاية» (12/ 90).

وأصحاب الشعر عنده يسألونه، فكلهم يصدر في واد واسع. وقال مغيرة عن الشعبي: قيل لابن عباس: إني أصبت هذا العلم قال: بلسان سئول، وقلب عقول. ومن أقواله ووصاياه العظيمة رضي اللهُ عنه: أن رجلًا يقال له: جندب؛ قال له: أَوصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتَوحِيدِ اللهِ، وَالعَمَلِ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ خَيرٍ أَنتَ آتِيهِ بَعدَ ذَلِكَ مَقبُولٌ، وَإِلَى اللهِ مَرفُوعٌ، إِنَّكَ لَن تَزدَادَ مِن يَومِكَ إِلَّا قُربًا، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَأَصبِحْ فِي الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ مُسَافِرٌ فَإِنَّكَ مِن أَهلِ القُبُورِ، وَابكِ عَلَى ذَنبِكَ، وَتُبْ مِن خَطِيئَتِكَ، وَلتَكُنِ الدُّنيَا أَهوَنَ عَلَيكَ مِن شِسْعِ نَعلِكَ، وَكَأَن قَد فَارَقْتَهَا وَصَدَرْتَ إِلَى عَدْلِ اللهِ، وَلَن تَنتَفِعَ بِمَا خَلَّفْتَ، وَلَن يَنفَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَلِمَاتٍ خَيْرٍ مِنَ الْخَيْلِ الدُّهْمِ (¬1)، قَالَ: لاَ تَكَلَّمَنَّ فِيمَا لاَ يَعْنِيكَ حَتَّى تَرَى لَهُ مَوْضِعًا، وَلاَ تُمَارِيَنَّ سَفِيهًا، وَلَا حَلِيمًا فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَغْلِبُكَ، وَالسَّفِيهَ يَزْدَرِيكَ، وَلَا تَذْكُرَنَّ أَخَاكَ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا بِمِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَجْزِيٌّ بِالْإِحْسَانِ، مَاخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ. فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلِمَةٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: تَمَامُ الْمَعْرُوفِ تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، ¬

(¬1) خيل دُهْم وجيش دُهْم، يعني: كثير.

يَعْنِي: أَنْ تُعَجِّلَ الْعَطِيَّةَ لِلْمُعْطَى، وَأَنْ تَصْغُرَ فِي عَيْنِ الْمُعْطِي، وَأَنْ تَسَتُرَهَا عَنِ النَّاسِ فَلَا تُظْهِرُهَا؛ فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهَا فَتْحَ بَابِ الرِّيَاءِ، وَكَسْرَ قَلْبِ الْمُعْطَى، وَاسْتِحْيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ: أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسٌ لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ لَا يَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى وَجْهِهِ لَفَعَلْتُ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا يُكَافِئُ مَنْ أَتَانِي يَطْلُبُ حَاجَةً فَرَآنِي لَهَا مَوْضِعًا إِلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ، وَكَذَا رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، أَوْ أَوْسَعَ لِي فِي مَجْلِسٍ، أَوْ قَامَ لِي عَنِ الْمَجْلِسِ، أَوْ رَجُلٌ سَقَانِي شَرْبَةَ مَاءٍ عَلَى ظَمَإٍ، أَوْ رَجُلٌ حَفِظَنِي بِظَهْرِ الْغَيْبِ. قال عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ: إِنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَعْلَمُ، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَقْضِي بِالْعَدْلِ، فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلَعَلِّي لَا أُقَاضِي إِلَيْهِ أَبَدًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ، وَمَا لِي بِهَا مِنْ سَائِمَةٍ أَبَدًا. وَقَالَ الوَاقِدِيُّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابنَ عَبَّاسٍ عَن قَولِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]؟ فَقَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ، وَالْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ، وَهَذِهِ بِالنَّبَاتِ. وَقَدْ أُصِيبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا أُصِيبَتِ الْأُخْرَى عَادَ إِلَيْهِ لَحْمُهُ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَابَنِي مَا رَأَيْتُمْ فِي الْأُولَى

شَفَقَةً عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمَّا ذَهَبَتَا اطْمَأَنَّ قَلْبِي. رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّهُ وَقَعَ فِي عَيْنِهِ الْمَاءُ، فَقِيلَ لَهُ: نَنْزِعُ مَنْ عَيْنِكَ الْمَاءَ، عَلَى أَنَّكَ لَا تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ مَنْ تَرْكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نُزِيلُ هَذَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنِكَ عَلَى أَنْ تَبْقَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا تُصَلِّي إِلَّا عَلَى عُودٍ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، فَقَالَ: لَا، وَاللهِ وَلَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَقَدْ أَنْشَدَ الْمَدَائِنِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ عَمِيَ: إِنْ يَاخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَاثُورُ فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. روى الطبراني في معجمه الكبير بسنده إلى سَعِيدِ ابنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَجَاءَ طَيْرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خَلقِهِ فَدَخَلَ نَعْشَهُ (¬1)، ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، مَا يُدْرَى مَنْ تَلَاهَا (¬2): {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة (27) ارْجِعِي ¬

(¬1) فكانوا يرون أنه علمه. (¬2) «المعجم الكبير» (10/ 236) (برقم 10581)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 285): ورجاله رجال الصحيح.

إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. قال الذهبي: فهذه قضية متواترة (¬1). قال ابن كثير: وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رضي الله عن ابن عباس، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (3/ 331 - 359). (¬2) «البداية والنهاية» لابن كثير (12/ 87 - 111).

الكلمة الخامسة بعد المئة: مخاطر الابتعاث وضوابطه

الكلمة الخامسة بعد المئة: مخاطر الابتعاث وضوابطه الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فمن الأمور التي ابتليت بها أمة الإسلام في هذه الأيام، ابتعاث أبناء وبنات المسلمين إلى بلاد الكفار للدراسة دون مراعاة الضوابط الشرعية التي ذكرها أهل العلم، وما يتضمن هذا الابتعاث من المخاطر والمفاسد الشرعية الكثيرة التي يجب على العلماء، وطلبة العلم والدعاة التنبيه عليها وتحذير الناس منها، مع العلم أنه قد كتب جمع من علماء الإسلام ودعاته من مختلف البلاد الإسلامية محذرين من الابتعاث ومخاطره على الدين والأخلاق. وحيث إن الموضوع واسع لمن أراد الكلام فيه، فسيقتصر حديثي على ذكر المخالفات الشرعية المترتبة على الابتعاث مع إلحاق فتوى هيئة كبار العلماء في ذلك، فمن تلك المفاسد المترتبة على الابتعاث: أولًا: إضعاف عقيدة الولاء والبراء، الولاء للمؤمنين والعداوة للكافرين، قَالَ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ

إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22]. وأمر الله بالهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام، فقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)} [النساء: 97]. قال ابن كثير: «هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكبًا حرامًا بالإجماع» (¬1). روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ جَرِيرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: لَا تَرَايَا نَارَاهُمَا» (¬2). قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: «لا يجوز للمسلم السفر إلى بلاد المشركين، أو الإقامة بين ظهرانيهم من غير ضرورة إلا لعارف بدينه بأدلته الشرعية يستطيع الدعوة إليه، والذب عن الشبه التي ترد عليه، ويقوم بأداء الواجبات الشرعية» (¬3). ¬

(¬1) «تفسير ابن كثير» (4/ 228). (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 1604)، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (2/ 119) (برقم 1307). (¬3) «مجموع فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله» (4/ 198).

ثانيًا: اعتناق النصرانية، والردة عن الإسلام، وهذا من أخطر وأشد المخالفات الشرعية في الذهاب إلى هناك، وللأسف أنه قد حصلت حالات ردة من بعض المبتعثين هناك، وذكرت بعض الصحف الالكترونية أن ثلاثين من المبتعثين من بلاد الجزيرة قد ارتدوا عن الإسلام، ودخلوا في النصرانية، وهذا العدد من تم تعميدهم رسميًّا في الكنيسة، أما من لم يتم تعميدهم في الكنيسة، فقد يزيد عن هذا العدد. وقد ذكر الشيخ المحدث أحمد بن محمد شاكر: أن كثيرًا من المبتعثات ممن سافرن إلى بلاد الكفر، والإلحاد في زمانه ارتددن عن دينهن، وتزوجن برجال من أمريكا، أو أوروبا من اليهود والنصارى (¬1). ثالثًا: كثرة المغريات والفتن الداعية إلى ارتكاب الفواحش، والمحرمات وخاصة فتنة النساء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أُسَامَةَ بنِ زَيدٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬2). وَقَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» (¬3). لا سيما وأن الدراسة مختلطة في بلاد الكفار. ¬

(¬1) التعليق على «مسند الإمام أحمد» (6/ 282). نقلًا عن كتاب «الابتعاث: تاريخه وآثاره»، للدكتور عبد العزيز البداح (ص: 30). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 5096)، و «صحيح مسلم» (برقم 2740). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2740).

وقد نَشَرَتِ الصُّحُفُ الإِلِكترُونِيَّةُ شكوى بعض النساء المُبْتَعَثَات من مضايقة الرجال لهن، فبعضهن يرجع المحرم الذي سافر معها، وتبقى هذه المسكينة لوحدها في بلاد الكفار تتعرَّض للفتنة، والإغراء، فإلى الله المشتكى. كَمَا نَشَرَتْ بَعضُ المَوَاقِعِ الإِلِكترُونِيَّةِ صُوَرًا جَمَاعِيَّةً لِبَعضِ المُبْتَعَثِينَ وَالمُبْتَعَثَاتِ: مِنَ الشَّبَابِ وَالفَتَيَاتِ، وَهُم فِي أَوضَاعٍ مُختَلَطَةٍ، وَالمُبْتَعَثَاتُ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا: مِنَ التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ؛ مِمَّا يَنْدَى لَهُ الجَبِينُ، وَيَتَفَطَّرُ مِنهُ القَلبَ كَمَدًا وَحَسْرَةً، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ. رابعًا: أن المسافر هناك لا يسلم من انحرافٍ عَقَدِيٍّ، أو خُلُقِيٍّ، أو عَمَلِيٍّ في العبادة وغيرها، وإن سلم فربما تبقى مناظر هذه البلاد التي فيها الكنائس وأماكن الفساد، والتبرج، والخلاعة، وتباع فيها الخمور علنًا، وتوجد فيها أماكن للبغاء في الطرقات في ذاكرته وكفى بها مفسدة. خامسًا: تأثر المسلم بالكثير من تقاليد الكفار، وعاداتهم السيئة، وهذا يؤدي إلى التشبه بهم، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬1). سادسًا: التعود على عدم الاكتراث بالدين، وعدم الالتفات لآدابه وأوامره، ونواهيه. ¬

(¬1) قطعة من حديث في «مسند الإمام أحمد» (9/ 123)، وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (15/ 509): إسناده صالح.

سابعًا: أن كثرة رؤية المنكرات للمسافر هناك من إضاعة الصلوات وتبرج النساء، وبيع المحرمات، وغير ذلك يضعف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قلب المسلم وهو مأمور بإنكار ما يخالف الشرع. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬1). إلى غير ذلك من المفاسد. وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية برقم 88 في 11/ 11 / 1401 هـ وهذا نصه: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة عشرة المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من يوم 29/ 10 / 1401 هـ إلى نهاية يوم الأربعاء الموافق 11/ 11 / 1401 هـ استعرض بعض ما استهدفت به الأمة الإسلامية عامة من بث للمذاهب الهدامة، والمبادئ الأخلاقية المنحرفة، وما قصدت به شبيبة الدولة السعودية خاصة، وما أريد لها من انحراف في الأخلاق، والعقيدة لما لهذه الدولة، وشعبها من مكانة عالية في نفوس الشعوب الإسلامية، ولما هي ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 49).

عليه من التمسك بعقيدة الإسلام الصافية، والتخلق بآدابه النبيلة، ولأن شعب هذه البلاد ركيزة الإسلام، فإذا أُفْسِدُوا سهل إفساد سواهم، وقد استعرض المجلس وسائل أعداء الإسلام في إفساد الشبيبة، واستمع إلى شرح كثير من الوقائع، واستعاد استعراض بعض ما سبق أن أبداه في مجال إصلاح وسائل الإبقاء على كيان الأمة، وحماية شبابها من التفسخ، والانحلال والانحراف الفكري. ونظرًا لأن أعظم أسباب انحراف الشباب في مسالك الرذيلة، والوقوع في شَرك أعداء الإسلام، والتنكر لما عليه أمتنا في عقيدتها، وأخلاقها، وعاداتها والانقلاب على أوضاعها الإسلامية، ومعاداة سلطاتها، والنظر إليها بالازدراء والوقوف موقف العداء إرسالهم في حال طراوتهم، وخلو أنفسهم من الحصانة الدينية بمبادئ الشريعة، وعدم التسلح بالعلم لمواجهة التيارات الفكرية، والخلقية المتربصة بهم، وإخراجهم من جوهم الإسلامي قبل بلوغهم المرحلة التي يصعب فيها على أعداء الإسلام إغراؤهم، وتحويلهم إلى أعداء لأمتهم، ودينهم، وولاة الأمر في بلادهم. ولقد ذكر للمجلس - إضافة إلى ما سبق له معرفته - حوادث أليمة، وقضايا مزعجة، سببها خروج الشباب المتوقد حيوية، وفتوة، وقوة من جو محتشم محافظ على قيمه، وعفته إلى جو مملوء بالإغراء مشبع بالانحلال يتصيد مجتمعه شباب المسلمين عن قصد وتعمد، فيدفعهم إلى إشباع رغباتهم الجنسية، وإمتاع نفوسهم بشهوات خبيثة دفعًا عنيفًا، ويسلط عليهم أنواعًا من

الإغراء، ويحاول تشكيكهم بدينهم، وتضخيم عيوب السياسة في أوطانهم، فإن وجدهم بوضع من التأهيل العلمي الشرعي بحيث يتعسر عليه انحلالهم وتشكيكهم، التمس إبراز عيوب حكوماتهم، وابتعادها عن أحكام الإسلام إلا من شاء الله، واختلاق عيوب غير موجودة، واستغل حماسة الشباب المتدينين لدينهم ليتوجهوا إلى التطرف فيخرجوا بأنفسهم عن العمل الإصلاحي إلى عمل تفريق الأمة، وزعزعة كيانها، وتفريق صفها، والعمل على قلب أنظمة الحكم فيها، ونظرًا لأن ولاة الأمر هم الأمناء على الأمة وعليهم مسئولية الأخذ بأيدي الناس إلى الوجهة السليمة، وإصلاح ما يرونه خطرًا على أمن البلاد، ودينها، ولأن الشباب هم ركيزة الأمة، ورجال غدها، وحراس كيانها، فجدير أن يحتاط لهم بكل ما يمكن من السعي في دفع أسباب انحرافهم، وجلب ما يصلحهم، ومن القواعد الشرعية الهامة أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن كثيرًا ممن يخرجون من البلاد للدراسة في بلاد الغرب يفاجؤون بحضارة صاخبة، ومفاتن منتشرة، وفتن متعددة، فتن الجنس، والشراب، والتشكيك، وقل أن يعود الطالب إلا وفي نفسه ما فيها من تأثر بما رأى، وسمع، ومارس، كل على حسب حاله ونظره للأمور فيعود وقد احتقر أوضاع بلاده، وأحب ما عليه أهل تلك البلاد من انطلاق بلا حدود، ولا قيود، ومن تقدم في ميدان العلوم العصرية بمختلف أنواعها مع غفلتهم عما عليه أولئك من بُعد عن الأخلاق، والشيم، والعفة، والحياء، واستمتاع

بكافة ما تريده الأنفس المنحلة بلا رقيب، ولا محاسب، فيكون هذا الطالب قد جلب على وطنه، وأمته، شرًا، وجر عليهم بلاءً، ودمارًا، وصار داعية سوء، ومعول هدم للأخلاق، والقيم. ونظرًا لأن البلاد بحمد الله قد توافر فيها التعليم في كافة مراحله ولا تفتقر إلا إلى بعض التخصصات العلمية العصرية؛ ولأن ولي الأمر عليه أن يدل رعيته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم؛ ولأن النساء يخرجن إلى الغرب يرين ما عليه النساء هناك من التهتك، والعري، والعلاقات بالرجال الأجانب، ولو كن ذوات أزواج مع ما يحصل من اختلاط في الدراسة لمن رغبت منهن في دراسة عامة أو خاصة، أما اللاتي لم يتزوجن وإنما ذهبن للدراسة فالعلاقة بين الطالب والطالبة هناك أمر غير مستنكر، ولا مستغرب، تزوره، ويزورها، وقد حدثت أمور لا يرضى الله عنها، ولا رسوله، وإذا كان سفر المرأة بدون محرم محرمًا ومعصية لله عز وجل، ولو كان لحج بيت الله الحرام، فكيف بسفر يفضي إلى اختلاط وخلوات، وشرور لا نهاية لها. ولهذا فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى أن النصح لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم يقضي بأن يتخذ ولاة الأمر وفقهم الله لإرضاء الله سبحانه، وحماية عباده من الفساد، وحماية هذه الأمة من التفكك ما يلي: 1 - منع ابتعاث البنات للخارج منعًا باتًّا لا استثناء فيه، ومن كانت متجاوزة مرحلة الدراسة العالية وفي تخصصها مصلحة

محققة للأمة، فإن على الدولة وفقها الله تهيئة الوسائل اللازمة لذلك في داخل المملكة، وقد منحها الله سبحانه إمكانات مادية يسهل معها بإذن الله كل صعب؛ لأن سفر المرأة للدراسة في الغالب تربو مفاسده على مصالحه، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ويتعين عدم السماح لأي إنسان أن يبعث بنته، أو من له عليها ولاية للدراسة في الخارج، سواء في البلاد المجاورة، أو بلاد الغرب، ولو على حسابه الخاص؛ لأن الأخذ على يد مثل هؤلاء فيه نجاة الجميع، كَمَا فِي حَدِيثِ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ... » الحديث (¬1). 2 - عدم إرسال أي طالب للدراسة في الخارج من المدنيين والعسكريين على حساب الدولة، أو على الحساب الخاص إلا بعد مرحلة الجامعة، وبعد الزواج، والخدمة مدة من الزمن حتى يصلب عوده وترسخ عقيدته، ويعرف عقيدة السلف، والمذاهب الهدامة والمنحرفة، ويعرف زيفها لئلا يسهل صده عن دين الله. 3 - عدم إرسال أي شخص للتخصص في أعمال نظرية كالإدارة واللغات، والاقتصاد، ونحوها، أما في علوم الإسلام وتاريخه فيجب منعه في كل مرحلة، وأن يعاقب من أرسل أولاده للدراسة، وأن لا تعتبر شهادته في البلاد. 4 - يجب إجراء تحريات كاملة عن كل شخص يراد ابتعاثه ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2493).

للتخصص لِيُعرَفَ مدى حفاظه على دينه، وأخلاقه، وثباته على ولائه لدولته، وإعطاؤه دورة يدرس فيها أحوال تلك البلاد التي سوف يذهب إليها. 5 - أن يقتصر في التخصصات على ما لا يمكن حصوله في البلاد كعلوم بعض الصناعات التي لا يوجد لها نظير في بلادنا كعلوم الذرة، ومتى أمكن جلبها إلى البلاد وجب ذلك حتى يستغنى عن الابتعاث. 6 - عدم تمكين أي جهة حكومية، عسكرية كانت أو مدنية، وأية مؤسسة حكومية، أو تجارية، بابتعاث منسوبيها سواء لدورات دراسية، أو لدراسة نظامية لنيل شهادة إلا عن طريق جهة الاختصاص في التعليم بعد توافر الشروط للتخصص وصفة المبتعث، وسنه، وأن يكون حسن السيرة معروفًا بالعقل الراجح. 7 - أن يجلب كل من لا تتوفر فيه الشروط السابقة، ويعاد لإكمال دراسته في الداخل، سواء من كان على حساب نفسه وذويه، أو على حساب الحكومة، أو إحدى المؤسسات. 8 - يوكل إلى جهة حق الرقابة على مخالفة ما تقدم، وجعل مخبرين في السفارات، والملحقيات التعليمية، لترفع تقريراتها عن كل مخالفة، وتعمد وزارة التعليم العالي، وجميع الوزارات، والمصالح، بإبلاغ الجهة المختصة عن كل مخالفة، وإذا تم ذلك على الوجه المطلوب حصل به إن شاء الله الخير العظيم للأمة في

دينها، ودنياها، والسلامة في عقيدتها، وأخلاقها، والله الموفق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. رئيس الدورة: عبد العزيز بن صالح عبد الله خياط عبد الله بن محمد بن حميد عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد محمد بن علي الحركان عبد الرزاق عفيفي راشد بن خنين محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان صالح بن غصون عبد المجيد حسن عبد الله بن قعود عبد الله بن منيع صالح بن لحيدان وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

الكلمة السادسة بعد المئة: مجالس الناس

الكلمة السادسة بعد المئة: مجالس الناس الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُم ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثرَةَ السُّؤَالِ» (¬1). قال القاضي عياض: ومعنى «قِيلَ وَقَالَ»: الخوض في أخبار الناس، وحكايات ما لا يعني من أحوالهم؛ قيل: كذا، وقال فلان: كذا، فقيل: كذا، وعلى هذا نقول (¬2). وهذا الحديث ينطبق على طائفة من الناس ليس لهم شغل إلا الحديث عن الناس، وأحوالهم، والتفاصيل الدقيقة في ذلك، والذي يتأمل في مجالس الناس واجتماعاتهم، يجد أن الكثير منها يتحدثون فيه بشتى الموضوعات، فمن السياسة إلى الاقتصاد إلى المسائل الشرعية التي لا يصلح أن يتكلم فيها إلا كبار العلماء، إلى الخوض في أعراض الناس، إلى نقل الشائعات والنكت المكذوبة، ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 1477)، و «صحيح مسلم» (برقم 593). (¬2) «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (5/ 591).

إلى التفصيل في أحوال الناس ومعيشتهم، فلان طلق زوجته، فلان طرد من وظيفته، فلان خسر في تجارته، وهكذا يذهب الوقت في قيل وقال. ولا شك أن ما سبق يوقع المسلم في عدد من المخالفات الشرعية، فمن ذلك: أولًا: أن هذا من لغو الكلام الذي ينبغي الإعراض عنه والاشتغال عنه بما يفيد، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون (3)} [المؤمنون: 3]. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: «ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن من صفات المؤمنين المفلحين إعراضهم عن اللغو وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل وما توجب المروءة تركه». وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية أشار له في غير هذا الموضع كَقَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان: 72]. ومن مرورهم به كرامًا: إعراضهم عنه وعدم مشاركتهم أصحابه فيه، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] (¬1). قال ابن حزم رحمه الله: رأيت الناس في كلامهم الذي هو فصل بينهم وبين الحمير والكلاب والحشرات ينقسمون أقسامًا ثلاثة، أحدهما: من لا يبالي فيما أنفق كلامه فيتكلم بكل ما سبق إلى ¬

(¬1) «أضواء البيان للشنقيطي» (5/ 827 - 828).

لسانه غير محقق نصر حق، ولا إنكار باطل، وهذا هو الأغلب في الناس. والثاني: أن يتكلم ناصرًا لما وقع في نفسه أنه حق، ودافعًا لما توهم أنه باطلٌ، غير محقق لطلب الحقيقة، لكن لجاجًا فيما التزم، وهذا كثيرٌ وهو دون الأول. والثالث: واضع الكلام في موضعه، وهذا أعز من الكبريت الأحمر (¬1). ثانيًا: أنه ورد الترغيب من السلف الصالح في ترك ما لا يعني، وورد بذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى اللهُ عليه وسلم ضعَّفه بعض أهل العلم، وحسَّنه بعضهم: «إِنَّ مِن حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركَهُ مَا لَا يَعنِيهِ» (¬2). قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ تَرجُمَانُ القُرآنِ: لَا تَكَلَّمَنَّ فِيمَا لَا يَعنِيكَ، حَتَّى تَرَى لَهُ مَوضِعًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيمَانَ الدَّارَانِيُّ: مَنِ اشتَغَلَ بِنَفسِهِ شُغِلَ عَنِ النَّاسِ. وَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ: مَن عَدَّ كَلَامَهُ مِن عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعنِيهِ، قَالَ ابنُ رَجَبٍ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعُدُّ كَلَامَهُ مِن عَمَلِهِ فَيُجَازِفَ وَلَا يَتَحَرَّى، وَقَد خَفِيَ هَذَا عَلَى مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حَتَّى سَأَلَ عَنهُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ: أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: «ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِم فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِم؟ ! » (¬3). ¬

(¬1) «تبويب كتاب الأخلاق والسير في مداواة النفوس» لابن حزم، للدكتور علي اليحيى (ص: 28). (¬2) «سنن الترمذي» (برقم 2317). (¬3) «سنن الترمذي» (برقم 2616)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم، قَالَ تَعَالَى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] (¬1). قال ابن رجب: «ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب تهلل وجهه، فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين، وقال الحسن: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، وقال سهل بن عبد الله التستري: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق، وقال معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عزَّ وجلَّ (¬2). وقال عبد الله ابن مسعود: أنذرتكم فضول الكلام، بحسب أحدكم ما بلغ حاجته» (¬3). وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيحٍ العَدَوِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصْمُتْ» (¬4). وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ ابنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَن صَمَتَ نَجَا» (¬5). وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: ¬

(¬1) «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (ص: 139). (¬2) «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (ص: 139). (¬3) «الصمت» لابن أبي الدنيا (ص: 80). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6018)، و «صحيح مسلم» (برقم 47). (¬5) «مسند الإمام أحمد» (11/ 19) (برقم 6481)، وقال محققوه: حديث حسن.

قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» (¬1). قال الإمام النووي: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير وغالب في العادة، والسلامة (¬2) لا يعدلها شيء. اهـ قال الشاعر: إِنْ كَانَ يُعْجِبُكَ السُّكُوتُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُعجِبُ قَبْلَكَ الأَخْيَارَا وَلَئِنْ نَدِمْتَ عَلَى سُكُوتِكَ مَرَّةً فَلَقَدْ نَدِمْتَ عَلَى الكَلَامِ مِرَارًا إِنَّ السُّكُوتَ سَلَامَةٌ وَلَرُبَّمَا زَرَعَ الكَلَامُ عَدَاوَةً وَضِرَارًا وَإِذَا تَقَرَّبَ خَاسِرٌ مِنْ خَاسِرٍ زَادَا بِذَاكَ خَسَارَةً وَتَبَارًا ثالثًا: أن هذه الأخبار التي تتناقل بين الناس ويحدث بعضهم بعضًا بها لا تسلم من الكذب والشائعات، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «كَفَى بِالمَرءِ كَذِبًا أَن يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (¬3). رابعًا: أن هذا قد يدخل في تتبع عورات المسلمين وزلاتهم، ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2406)، وقال: هذا حديث حسن. (¬2) «شرح صحيح مسلم» (2/ 19). (¬3) «صحيح مسلم» (برقم 5).

وهو أمر منهيٌّ عنه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (¬1). وقد يؤدي ذلك إلى الوقوع في الغيبة فإن الناس في الغالب يكرهون نقل أخبارهم، وأسرارهم إلا ما حسن منها، وتكلم رجل في حق رجل، فقال له صاحبه: أغزوت الروم؟ قال: لم أفعل، قال: سلم منك النصارى ولم يسلم منك أخوك المسلم. وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (¬2). خامسًا: أن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً (¬3)، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (¬4). ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (33/ 20) (برقم 19776)، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 11)، و «صحيح مسلم» (برقم 42). (¬3) تِرَةً: يعني: حسرةً وندامةً. (¬4) «سنن الترمذي» (برقم 3380)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

سادسًا: أن هذا من إضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه، وسيسأل المرء عن كل لحظة من لحظات حياته، بل إن هذا من أصول الأسئلة التي توجه له يوم القيامة، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَربَعٍ: ذَكَرَ مِنهَا: عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ » (¬1). الخلاصة: أنه ينبغي للمؤمن أن يكون جادًا في حياته، حافظًا لوقته، مشتغلًا بما ينفعه، كما وَرَدَ فِي الحَدِيثِ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» (¬2)، وأن يكون بعيدًا عن سفاسف الأمور، مترفعًا عن الرذائل، وخوارم المروءة. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2417)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2664).

الكلمة السابعة بعد المئة: مواقف مؤثرة

الكلمة السابعة بعد المئة: مواقف مؤثرة من سيرة الإمام الشافعي رحمه الله الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، وإمام من أئمة الدين، نصر الله به السنة، وقمع به البدعة. ولد رحمه الله بغزة وهي مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر جنوب فلسطين سنة (150 هـ) من شهر رجب، واشتهر بالذكاء والحفظ منذ صغره، يقول عن نفسه: كنت في الكتَّاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل لي أن آخذ منك شيئًا، واستمر على ذلك، حتى جمع القرآن وهو ابن سبع سنين. نشأ يتيمًا في حجر أمه، فخافت عليه الضيعة فتحولت به إلى مكة وهناك تعلم العربية، والشعر، ثم حُبب إليه الفقه فساد أهل زمانه، وصنف التصانيف العظيمة في الفقه، وأصوله، والأنساب، والأدب وغيرها. إنه إمام الدنيا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن

شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب ابن عبد مناف، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد نسيب رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وابن عمه، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب، كان أبيض جسيمًا، طوالًا جميلًا مهيبًا يخضب بالحناء مخالفة للشيعة، وقد أثنى عليه العلماء ثناءً عظيمًا، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: «ما أحد مس بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في رقبته منة، ولولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وكان الفقه مقفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي». وقال أيضًا عندما سأله ابنه فقال له: يا أبت أي رجل كان الشافعي؟ سمعتك تكثر الدعاء له، فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض. وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحوًا من أربعين سنة وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَبعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» (¬1)، قال: فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية (¬2). وقال عبد الرحمن بن مهدي: «لما نظرت الرسالة للشافعي ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 4291)، وصححه ابن حجر والعراقي. كما في «سنن أبي داود» (ص: 469). (¬2) «البداية والنهاية» لابن كثير (14/ 135).

أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقلٍ، فصيح نصيح، فإني أكثر الدعاء له، وما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل». وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي: «للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، من شرف نسبه، وصحة دينه ومعتقده وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه وحفظه الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف، وجودة الأصحاب والتلامذة، مثل أحمد ابن حنبل في زهده وورعه وإقامته على السنة». وكان الشافعي يقول: «العلم علمان: علم الدين وهو الفقه، وعلم الدنيا وهو الطب، وما سواه من الشعر وغيره فعناء وعبث، وأنشد يقول: كُلُّ العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشْغَلَةٌ ... إِلَّا الحَديِثَ وَعِلْمَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ العِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ» وسُئل: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم به مثل ما تنعمت به الأذنان، فقيل له: فكيف حرصك؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. قال رحمه الله: سَأَضْرِبُ فِي طُولِ البِلَادِ وَعَرْضِهَا ... أَنَالُ مُرَادِي أَو أَمُوتُ غَرِيبًا

فَإِن تَلِفَتْ نَفْسِي فَلِلَّهِ دَرُّهَا ... وَإِنْ سَلِمَتْ كَانَ الرُّجُوعُ قَرِيبًا وكان يقول: «قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وطلب العلم أفضل من صلاة النافلة». وكان يقول: «من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه». وقال: «وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا العِلْمَ، وَلَم يُنسَبْ إِلَيَّ مِنهُ شَيءٌ، فَأُؤجَرُ عَلَيهِ، وَلَا يَحمَدُونِي». وقال أيضًا: إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذهَبِي، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَولِي الحَائِطَ. وكان من العبَّاد الزهَّاد، قال الربيع بن سليمان: «كان الشافعي قد جزَّأ الليل، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام، وكان يختم القرآن في كل رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة». ومن أقواله العظيمة: «العلم ما نفع وليس العلم ما حفظ». وقال: «ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة، فأدخلت يدي فتقيأتها؛ لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف العبادة». وقال: «لا يكمل الرجل إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة». وقال: «العاقل من عقله عقله عن كل مذموم». وقال: «من لم تعزه التقوى فلا عز له». وقال: «وما فزعت من الفقر قط، طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد».

وقيل له: ما لك تكثر من إمساك العصا، ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، وقال: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا، وقال: الخير في خمسة: غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، والتقوى، والثقة بالله، وقال: اجتناب المعاصي، وترك ما لا يعنيك ينور القلب، عليك بالخلوة وقلة الأكل، وإياك ومخالطة السفهاء، ومن لا ينصفك. وقال رحمه الله: «إذا تكلمت فيما لا يعنيك ملكتك الكلمة ولم تملكها، وقال: المروءة أركان أربعة: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك، وقال أيضًا: والتواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة». وقال أيضًا: إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله. آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة. وقال: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله. وهذه الأقوال السابقة تدل على كمال عقله وفصاحته، فقد كانوا يعدونه من عقلاء الرجال. قال الذهبي: «لا نُلَام والله على حب هذا الإمام؛ لأنه من رجال

الكمال في زمانه». فرحم الله الشافعي، وأين مثله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، وقال الربيع بن سليمان: «لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه». وكان رحمه الله كريمًا يُضرب به المثل مع أنه كان في أكثر حياته فقيرًا، فإذا أتاه مقدار من المال أنفقه، وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، قال الحميدي: قدم الشافعي مرة من اليمن ومعه عشرون ألف دينار، فضرب خيمته خارجًا من مكة فما قام حتى فرقها كلها، قال أبو ثور: أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، فقلت له: لو اشتريت به ضيعة لولدك، وكان قل أن يمسك شيئًا من سماحته، فخرج ثم قدم، فسألته فقال: لم أجد بمكة ضيعة يمكنني شراؤها بمعرفتي ولكني بنيت بمنى مضربًا يكون لأصحابنا إذا حجوا نزلوا فيه، قال أبو ثور: فرآني كأني اهتممت بذلك فأنشد: إِذَا أَصبَحتُ عِندِي قُوتُ يَومِي ... فَخَلِّ الهَمَّ عَنِّي يَا سَعِيدُ وَلَا تَخطُرُ هُمُومُ غَدٍ بِبَالِي ... فَإِنَّ غَدًا لَهُ رِزْقٌ جَدِيدُ قال المزني: «دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: يا أبا عبد الله كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلًا ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول: وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ رَجَائِي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّمًا

تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ ... تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا» وكانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل: يوم الجمعة في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة رحمه الله، وأكرم مثواه، وجعل الجنة مأواه. قال الربيع: «رأيت الشافعي بعد وفاته بالمنام، فقلت: يا أبا عبد الله ما صنع الله بك؟ قال: أجلسني على كرسي من ذهب ونثر علي اللؤلؤ الرطب» (¬1). رحم الله الشافعي، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسكنه الدرجات العلى. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «سير أعلام النبلاء» (10/ 5 - 99)، و «البداية والنهاية» لابن كثير (14/ 132 - 140).

الكلمة الثامنة بعد المئة: التحايل على الأحكام الشرعية

الكلمة الثامنة بعد المئة: التحايل على الأحكام الشرعية الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فقد جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: أَنَّ هَذِهِ الأمة سيكون فيها من يتبع الأمم السابقة من اليهود والنصارى ويقلدهم فيما كانوا عليه من الضلال. ففي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟ » (¬1). وقد ارتكبوا من الضلالات، وانتهاك الحرمات، ما استحقوا به غضب الله ولعنته، ومن أعظم ذلك استحلال المحرمات بالحيل وهو فعل اليهود، وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ عنهم ذلك وأنهم لما حرم عليهم صيد السمك في يوم السبت جعلوا الشباك يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فكانت عقوبتهم المسخ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين} [الأعراف: 166]. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3456)، و «صحيح مسلم» (برقم 2669).

وفي مسألة أُخرى أخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم: أنه لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» (¬1). كل ذلك مخادعة لله، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون} [البقرة: 9]. قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: من يخادع الله يخدعه. قال ابن القيِّم رحمه الله: «ولا ريب أن من تدبر القرآن، والسنة، ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها، فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة في التصرف، والعادات، كما هي معتبرة في القربات، والعبادات، فيجعل الفعل حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وصحيحًا من وجه وفاسدًا من وجه، كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك، وشواهد هذه القاعدة كثيرة جدًا في الكتاب والسنة» (¬2). كما أخبر عزَّ وجلَّ أنه نهاهم عن خصلتين من الضلال طالما فعلوهما وهما: كتم الحق عمن يجهله، ولبس الحق بالباطل على من يعرفه، قَالَ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (71)} [آل عمران: 71]. وإن من مظاهر اتباعهم ومجاراتهم في هذه الضلالات، ما يقوم به بين الحين والآخر بعض المنافقين من بني جلدتنا من محاولات لاستحلال المحرمات ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2236)، و «صحيح مسلم» (برقم 1581). (¬2) «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» (1/ 515).

التي ينتج عنها نشر الرذائل في المجتمع بحيل شيطانية يهودية، أو نصرانية، فإذا أرادوا نشر شيء من تلك القبائح توسلوا إلى استحلاله بأنه سيكون وفق الضوابط الشرعية هكذا يزعمون وهم في الحقيقة يكذبون، ويخادعون، وتصرفاتهم ولحن أقوالهم تدل على أنه لا اعتبار للشرع عندهم ولا لضوابطه. برهان ذلك: أنهم لا يرجعون إلى العلماء ولا يقبلون ما يفتون به، وهؤلاء المنافقون يعلمون أنه لا يمكنهم هدم الدين الذي ينتسبون إليه ظاهرًا ويعادونه باطنًا مباشرة كما يعلمون أن أكبر المعاول لهدمه هو هدم الأخلاق، فيسعون إلى هدمها، ويستخدمون في ذلك أكبر معاول الهدم وأشدها فتكًا وهي المرأة، بالسعي إلى الأخذ من خطط إبليس اللعين الذي يمدهم بتعاليمه الخبيثة وهي كشف العورات، قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27]. لذلك فإني أوجه التحذير والإنذار إلى طائفتين: الأولى: الطائفة التي سبق وصف حالهم، أن يتقوا الله فإنهم إنما يخادعون الله، والله خادعهم، وأنه لا ينفعهم التسمي باسم الإسلام، أو العيش بين ظهراني أهله، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور (14) فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

مَاوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِير (15)} [الحديد: 13 - 15]. وَلَا يَغُرَّنَّهُمْ إنفاقهم في بناء مسجد، أو صدقة على محتاج، فهذه أموال أُخذت من أهلها، وقد أنفقوا في عداوة ربهم، ومحاربة دينه أضعاف ذلك كثيرًا، روى ابن ماجه في سننه مِن حَدِيثِ ثَوْبَانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَاتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَاخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَاخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (¬1). وَلَا يَغُرَّنَّهُمْ أن الله أمهلهم ولم يعجل لهم العقوبة، فإنما ذلكم استدراج وبمثل هذا اغتر سادتهم من اليهود فقالوا: {لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}، قال الله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِير (8)} [المجادلة: 8]. الطائفة الثانية: قوم مشوا في ركاب هؤلاء وأيدوهم جهلًا، أو تجاهلًا، غفلة، أو تغافلًا، فطبقوا تعاليمهم ومارسوا ما يملونه عليهم، وهم يقودونهم إلى مهاوي الردى، شعروا أم لم يشعروا، وقد أخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم عن الطائفتين جميعًا، الداعي والمستجيب، ¬

(¬1) «سنن ابن ماجه» (برقم 4245)، وصححه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2/ 33) (برقم 505).

فيما حذر الأمة منه مما يقع من الفتن في آخر الزمان فقال: «دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» (¬1). وما الدعوات التي نسمعها هنا وهناك من فتح دور السينما، وقيادة المرأة للسيارة، وفتح النوادي النسائية، وتأنيث المحلات التجارية، والاختلاط في مقاعد الدراسة بين الذكور والإناث، ومشاركة المرأة في الكشافة وغيرها، مما تم لهم تطبيقه أو يسعون إلى تنفيذه إلا أمثلة على خططهم الماكرة التي يسعون من خلالها إلى إيقاع الفتنة بين ولاة الأمر وشعوبهم، بدلًا من إطفائها، والسعي إلى جمع الشمل، وتوحيد الكلمة، وتنفيذ توجيهات علماء الأمة، والالتفاف حولهم. وهذه فتاوى العلماء في بعض ما ذكر: بيان اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول ما نُشر في الصحف عن المرأة (¬2) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: فمما لا يخفى على كل مسلم بصير بدينه، ما تعيشه المرأة المسلمة تحت ظلال الإسلام، وفي هذه البلاد خصوصًا، من كرامة، وحشمة، وعمل لائق بها، ونيل لحقوقها الشرعية التي ¬

(¬1) قطعة من حديث في «صحيح البخاري» (برقم 7084). (¬2) «فتاوى اللجنة الدائمة» (17/ 244)، بتاريخ 25/ 1 / 1420 هـ.

أوجبها الله لها، خلافًا لما كانت تعيشه في الجاهلية، وتعيشه الآن في بعض المجتمعات المخالفة لآداب الإسلام، من تسيب وضياع وظلم. وهذه نعمة نشكر الله عليها، ويجب علينا المحافظة عليها، إلا أن هناك فئات من الناس ممن تلوثت ثقافتهم بأفكار الغرب، لا يُرضيهم هذا الوضع المشرِّف، الذي تعيشه المرأة في بلادنا من حياء، وستر، وصيانة، ويريدون أن تكون مثل المرأة في البلاد الكافرة، والبلاد العلمانية، فصاروا يكتبون في الصحف، ويُطالبون باسم المرأة بأشياء تتلخص في: 1 - هتك الحجاب الذي أمرها الله به في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]. وبقَولِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. وبقَولِهِ تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]. وقول عائشة رضي اللهُ عنها في قصة تخلُّفِها عن الرَّكْبِ، ومرور صفوان بن المعطَّل رضي اللهُ عنه عليها، وتخميرها لوجهها لما أحسَّت بالرجال، قَالَتْ: «وَكَانَ يَرَانِي قَبلَ الحِجَابِ» (¬1) وقولها: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَنَحنُ مُحرِمَاتٌ، فَإِذَا مَرَّ بِنَا الرِّجَالُ سَدَلَت إِحدَانَا ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 2661)، و «صحيح مسلم» (برقم 2770).

خِمَارَهَا عَلَى وَجهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفنَاهُ» (¬1). إلى غير ذلك مما يدل على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة من الكتاب والسنة، ويريد هؤلاء منها أن تُخالف كتاب ربها وسنة نبيها، وتصبح سافرة يتمتع بالنظر إليها كل طامع وكل من في قلبه مرض. 2 - ويُطالبون بأن تُمكَّن المرأة من قيادة السيارة، رغم ما يترتب على ذلك من مفاسد وما يُعرضها له من مخاطر لا تخفى على ذي بصيرة. 3 - ويُطالبون بتصوير وجه المرأة، ووضع صورتها في بطاقة خاصة بها تتداولها الأيدي، ويطمع فيها كل من في قلبه مرض، ولا شك أن ذلك وسيلة إلى كشف الحجاب. 4 - يُطالبون باختلاط المرأة بالرجال، وأن تتولى الأعمال التي هي من اختصاص الرجال، وأن تترك عملها اللائق بها والمتلائم مع فطرتها وحشمتها، ويزعمون أن في اقتصارها على العمل اللائق بها تعطيلًا لها. ولا شك أن ذلك خلاف الواقع، فإن توليتها عملًا لا يليق بها هو تعطيلها في الحقيقة، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة من منع ¬

(¬1) «سنن أبي داود» (برقم 1833)، وفي سنده ضعف؛ ويشهد له حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنتِ المُنذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا وَنَحنُ مُحرِمَاتٌ، وَنَحنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنتِ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ. رواه مالك في «الموطأ» (برقم 973)، وقال محققه: أثر صحيح.

الاختلاط بين الرجال، والنساء، ومنع خلوة المرأة بالرجل الذي لا تحل له، ومنع سفر المرأة بدون محرم، لما يترتب على هذه الأمور من المحاذير التي لا تُحمد عقباها. ولقد منع الإسلام من الاختلاط بين الرجال والنساء حتى في مواطن العبادة، فجعل موقف النساء في الصلاة خلف الرجال، ورغَّب في صلاة المرأة في بيتها، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» (¬1) كل ذلك من أجل المحافظة على كرامة المرأة، وإبعادها عن أسباب الفتنة. فالواجب على المسلمين أن يحافظوا على كرامة نسائهم، وأن لا يلتفتوا إلى تلك الدعايات المضللة، وأن يعتبروا بما وصلت إليه المرأة في المجتمعات التي قبلت مثل تلك الدعايات، وانخدعت بها من عواقب وخيمة، فالسعيد من وُعظ بغيره. كما يجب على ولاة الأمور في هذه البلاد أن يأخذوا على أيدي هؤلاء السفهاء، وأن يمنعوهم من نشر أفكارهم السيئة، حماية للمجتمع من آثارها السيئة، وعواقبها الوخيمة، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬2)، وَقَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيرًا» (¬3)، ومن الخير لهن المحافظة ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (8/ 281) (برقم 4655)، وقال محققوه: إسناده صحيح. ورواه في موضع آخر (9/ 340) (برقم 5471). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 5186)، و «صحيح مسلم» (برقم 1468).

على كرامتهن، وعفتهن، وإبعادهن عن أسباب الفتنة. وفق الله الجميع لما فيه الخير، والصلاح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو بكر أبو زيد صالح الفوزان عضو عبد الله بن غديان نائب الرئيس عبد العزيز آل الشيخ الرئيس عبد العزيز بن باز بيان المشايخ العلماء: الجبرين، والبراك، والراجحي في حكم الأندية الرياضية النسائية الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. أما بعد: فإن المطالبة بفتح أندية رياضية للنساء مخالفة ظاهرة لما جاءت به الشريعة - شريعة الله لا الشريعة الدولية - من أحكام قويمة فيها صيانة كرامة المرأة المسلمة عن التدنس بأخلاق الجاهلية، قَالَ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب: 33]. وفي لزوم المرأة المسلمة وإلزامها بالآداب الشرعية، سلامة المجتمع من شر فتنة النساء، وطهارته من شيوع الفاحشة، وأسبابها، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ

أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون (19)} [النور: 19]. ولا ريب أن الذين يطالبون بفتح هذه الأندية النسائية لهم نصيب من هذا الذم، والوعيد، فإن فتح هذه الأندية من أعظم الأسباب، وأوسع الأبواب لإشاعة الفاحشة، ولهذا نُحذر عموم المسلمين من الانخداع بالدعايات المُضللة لهذه الأندية، ونُحذر أولئك المطالبين، من سخط الله وعقابه لما يتسببون فيه من شر على هذه الأمة، وما يجنونه على المرأة، والمجتمع من مفاسد هذه الأندية عاجلة، وآجلة. وإننا نُذكر الجميع بالله الذي سنقدم عليه، ونقف بين يديه، كَمَا قَالَ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ» (¬1). ووالله الذي لا إله إلا هو: إن افتتاح هذه النوادي ليس عملًا صالحًا، بل هو حرام لما يُفضي إليه من المفاسد المحققة، فالمرأة في كل زمان ولا سيما هذا الزمان أحوج ما تكون إلى القرار الذي أمر الله به نساء نبيه صلى اللهُ عليه وسلم في قَولِهِ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. وما يُذكر من شبهة خروج بعض النساء للرياضة بالدوران على بعض المباني هو خطأ من قلة من النساء، لا يصح أن يعالج بخطأ أعظم منه، وهو فتح أبواب واسعة لخروج المرأة في كل ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 1016).

نواحي المملكة. ومعلوم أن هذه الأندية لا تحقق الرياضة إلا للمشاركات في المباريات، وهذا لا يُتاح إلا لقلة من النساء كما هو الشأن في أندية الشباب، وسائرهن يحضر للتفرج والتشجيع كلٌ لفريقه، كما أن من المعلوم أنه لن يرتاد هذه الأندية من النساء إلا من تكون قليلة الحياء، أو عديمته. وعلى هذا: فهذه الأندية حقيقتها ملاعب، وملاهي، وستضاف مفاسد هذه الأندية النسائية، أخلاقية وأمنية إلى ما تعانيه الأمة من مفاسد أندية الشباب. هذا ويجب أن يُعلم: أن تحريم فتح هذه الأندية ليس تحريمًا لجنس الرياضة، فللمرأة أن تمارس الرياضة في بيتها بالوسائل المتاحة لها وهي كثيرة، ولها أن تُسابق زوجها في مكان خال كالبرية ونحوها كما سَابَقَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها مَرَّتَينِ، رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد (¬1). ومن العجب أن يُجعل ذلك دليلاً على فتح الأندية. نسأل الله أن يوفق ولاة أمورنا لما فيه الخير، والصلاح لهم، ولرعيتهم، وأن يرزق الجميع البصيرة في الدين، والاستقامة عليه، ¬

(¬1) «سنن ابن ماجه» (برقم 1979)، وأحمد في «مسنده» (40/ 144 - 145) (برقم 24118)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

إنه ولي ذلك والقادر عليه (¬1). الموقِّعون عبد الرحمن بن ناصر البراك عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عبد العزيز بن عبد الله الراجحي رسالة من الإمام عبد الله بن حميد إلى الملك فيصل رحمهما الله نشرت في كتاب الدرر السنية المجلد الخامس عشر، وفيها: ومن أهم ما يجب المبادرة إلى رفعه وإزالته، أو دفعه وعدم إقراره، هو: وجود هذه السينمات التي انتشرت في أكثر الأماكن، وما يعرض فيها من صور خليعة، وأمراض أخلاقية فتّاكة، تقتل ما في الإنسان من رجولية، أو مروءة، أو ديانة، إنها والله فخ نصبه لنا أعداؤنا، ليُذهبوا ما فينا من حماسة أخلاقية، امتاز بها المسلمون على غيرهم، وقد أدركوا ما يريدون من كثير من أبناء المسلمين بسببها، فلا حول ولا قوة إلا بالله. فتاوى تحريم توظيف النساء محال بيع المستلزمات النسائية: قال الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: «إن توظيف النساء في محال بيع المستلزمات النسائية، وجعل المرأة في مواجهة الرجال تحاسب، وتبيع بلا حياء ولا خجل، تترتب عليه مصائب كثيرة ¬

(¬1) «البيان» بتاريخ 13/ 5 / 1428 هـ، المصدر: مكتب الشيخ عبد العزيز الراجحي.

يتحمل أوزارها التجار أصحاب هذه المحال، وأكد أن التساهل في توظيف النساء في أعمال يكن فيها في مقابلة الرجال جرم ومخالف للشرع» (¬1). وقال الشيخ صالح الفوزان: «قرأت ما نشرته الصحف ما جاء في خطبة الجمعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ - حفظه الله - من تحريم جعل المرأة موظفة في المحلات التجارية تبيع المستلزمات النسائية على رواد المحلات من الرجال، وغيرهم، وتقابلهم مما يتنافى مع حشمتها وحيائها، وقد صدر سابقًا من اللجنة الدائمة للإفتاء فتوى بتحريم عمل الكاشيرات في المحلات التجارية، كما أن هذا العمل يتنافى مع القرارات الصادرة من ولاة الأمر في ضوابط عمل المرأة. وأضاف: وإذا كان أصحاب هذه المحلات بحاجة إلى عمال فليكونوا من الرجال، وهم كثيرون وبحاجة إلى العمل، والواجب التقيد بأوامر الشرع وبقرارات ولاة الأمر الموافقة لها تجنبًا للفتنة ومحافظة على العفة، وفق الله الجميع لصالح القول والعمل» (¬2). وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «خطبة الجمعة» بتاريخ 6/ 2 / 1433 هـ، المصدر: موقع المسلم. (¬2) بتاريخ 9/ 2 / 1433 هـ، المصدر: موقع المسلم.

الكلمة التاسعة بعد المائة: الإيمان بالرسل عليهم السلام

الكلمة التاسعة بعد المائة: الإيمان بالرسل عليهم السلام الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالرسل عليهم السلام، وهو ركن من أركان الإيمان الستة، والرسل هم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. فمن قصه الله علينا وعرفناه آمنا به بعينه، ومن لم يُقصص علينا ولم نعرفه نؤمن به إجمالًا. قَالَ تَعَالَى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164]. قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله شارح الطحاوية: «وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصًا محمدًا صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين (164)} [آل عمران: 164]. وقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين (107)} [الأنبياء: 107]. وأول الرسل نوح عليه السلام، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا

إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء: 163]. يعني وحيًا كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده وهو وحي الرسالة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الشفاعة وفيه: «أن أهل الموقف يقولون لنوح: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ» (¬1). أما آدم عليه السلام فهو نبي وليس برسول. وآخرهم، وخاتمهم، وأفضلهم محمد صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وكل رسول كان يرسل إلى قومه، أما نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم فقد أُرسل إلى الناس جميعًا، العرب، والعجم، والجن، والإنس، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرً} [سبأ: 28]. وفي صحيح مسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» (¬2). والرسل درجات، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. وأفضلهم الخمسة أولي العزم من الرسل، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 6565)، و «صحيح مسلم» (برقم 192). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 153).

وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (7)} [الأحزاب: 7]. وقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. والرسل عليه السلام بعثهم الله جميعًا مبشرين، ومنذرين، قَالَ تَعَالَى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له هو دعوة الرسل جميعًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. ولقد وصى الأنبياء بنيهم بالثبات على الدين الصحيح حتى الممات، قَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَؤابَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون (132)} [البقرة: 132]. ومكث النبي صلى اللهُ عليه وسلم عشر سنين يدعو إلى التوحيد في مكة قبل أن تُفرض الفرائض. وشرائع الأنبياء مختلفة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» (¬1). العَلاَّت: هم أولاد الضرائر من صلب رجل واحد، والأمهات مختلفة، فكذلك الأنبياء دينهم واحد وهو التوحيد وشرائعهم مختلفة، شرع الله لكل أمة على لسان رسولها ما يناسبها، وأكمل الشرائع وأتمها شريعة نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3443)، و «صحيح مسلم» (برقم 2365).

والأنبياء على درجة عظيمة من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، قَالَ تَعَالَى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وقَالَ تَعَالَى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. أبر الناس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأوسعهم حلمًا، بر بالوالدين، وصدق في الوعد، وحلم وأناة وشجاعة، وكرم، وعفة، وحفظ للجميل، ووفاء لمعروف الآخرين، وإحسان إلى الناس، وإليك النصوص فتدبر: قال تعالى عن يحيى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} [مريم: 14]. وقال تعالى عن إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54)} [مريم: 54]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (¬1). وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب (75)} [هود: 75]. وهو أول من أضاف الضيف، قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِين (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُون (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِين (26)} [الذاريات: 24 - 26]. وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَأَعطَاهُ قَطِيعًا مِنَ الغَنَمِ بَينَ جَبَلَينِ، فَأَتَى قَومَهُ فَقَالَ: ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3477)، و «صحيح مسلم» (برقم 1792).

أَي قَومِ أَسلِمُوا فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الفَقرَ (¬1). وَيَقُولُ البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ: كُنَّا إِذَا حَمِيَ الوَطِيسُ اتَّقَينَا بِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَيُحَاذِيهِ. وَقَالَ يُوسُفُ عليه السلام عِندَمَا رَاوَدَتْهُ امرَأَةُ العَزِيزِ: {مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون (23)} [يوسف: 23]. وَقَالَ لِإِخوَتِهِ: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [يوسف: 92]. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم لِزُعَمَاءِ قُرَيشٍ: «اذْهَبُوا فَأَنتُمُ الطُّلَقَاءُ» (¬2). وأنبياء الله أعطاهم الله العلم والحكمة، قَالَ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. الأنبياء أشد الناس بلاء، وصبرًا في الدعوة إلى الله، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ، فَالأَمْثَلُ» (¬3). قال ابن القيِّم رحمه الله: «وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل، والضرب، والشتم، والحبس، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله» (¬4). اهـ. ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2312). (¬2) «سيرة ابن هشام» (4/ 27). ورُوِيَ في السِّيرة. (¬3) «سنن الترمذي» (برقم 2398)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) «بدائع الفوائد» (ص: 567)، بتصرُّف.

فهذا نبينا صلى اللهُ عليه وسلم ابتُلِيَ بأنواع من البلاء، فقد شُجَّ رأسه، وكُسِرَت رباعيته، وسُحِرَ، ووُضِعَ سلى الجزور على ظهره، ومات له ستة من الولد، وقُتِلَ أصحابه وأقاربه، ورُمِيَ بالحجارة، وقالوا: ساحر ومجنون، وحُوصِرَ في شعب أبي طالب سنوات حتى أكل هو وأصحابه أوراق الشجر، وأُخرِجَ من بلده. ونوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًا، وجهرًا، ويحيا، وزكريا، ابتليا بالقتل، وأيوب عليه السلام ابتلى بأنواع من البلاء في جسده، حيث لم يبق موضع في جسده لم يسلم من الأذى سوى قلبه ولسانه، كان يذكر الله بهما ويسبح ليلًا، ونهارًا، صباحًا، ومساءً، وهذا الابتلاء لم يزد الأنبياء، والرسل عليهم السلام إلا صبرًا وحمدًا وشكرًا (¬1). فالواجب على المؤمن الإيمان بهم، ومحبتهم، ومن كذب برسول منهم فقد كذب بجميع الرسل، قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين (123)} [الشعراء: 123]. وجميع الرسل السابقين نسخت شرائعهم بشريعة النبي صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85]. قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» (¬2). ¬

(¬1) «الخطب المنبرية» د. عبد المحسن القاسم (1/ 33 - 36). (¬2) «مسند الإمام أحمد» (23/ 349) (برقم 15156)، وصححه الشيخ الألباني كما في «إرواء الغليل» (6/ 34) (برقم 1589).

وعيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد، بل يحكم بشريعة النبي صلى اللهُ عليه وسلم فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية (¬1)، قال النووي: أي لا يقبل إلا الإسلام أو السيف (¬2). ومما تقدم يتبين عظيم الإيمان بالرسل وأن الله أقام الحجة على خلقه بإرسالهم، نؤمن بذلك، ونشهد به في الدنيا ويوم القيامة، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15)} [الإسراء: 15]. كما يتبين رحمة الله تعالى بعباده بإرساله الرسل إلى كل أمة يبشرون وينذرون، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِير (24)} [فاطر: 24]. فله الحمد وله الشكر حتى يرضى، وصلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته على جميع أنبيائه ورسله، نشهد أنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا لأممهم، كما نشهد ونؤمن أن أكملهم في ذلك كله هو خاتمهم وسيدهم محمد صلى اللهُ عليه وسلم. وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ. ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3448)، و «صحيح مسلم» (برقم 155). (¬2) «شرح صحيح مسلم» للنووي (1/ 190).

الكلمة العاشرة بعد المئة: مقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم

الكلمة العاشرة بعد المئة: مقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى اللهُ عليه وسلم الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ: فإن الله أرسل نبيه محمدًا صلى اللهُ عليه وسلم رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، ففتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، والواجب على المسلم أن يكون على علم بأخلاقه وسيرته العطرة صلى اللهُ عليه وسلم امتثالًا لِقَولِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]. وقد أثنى الله تعالى على خلق نبيه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم (4)} [القلم: 4]، وقد كان صلى اللهُ عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، فلم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا ولا سبابًا ولا لعانًا وما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فيكون أبعد الناس عنه، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وكان دائم البشر سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، كان يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويكون في مهنة أهله، ويمشي مع الأرامل والمساكين، ويجيب دعوتهم، ويقضي حاجتهم، ولا يعيب على الخدم ولا يوبخهم، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَنَسٍ رضي اللهُ عنه

قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ (¬1). وَكَانَ يُوَقِّرُ الكِبَارَ، وَيَرحَمُ الصِّغَارَ. روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: مَا رَأَيتُ أَحَدًا كَانَ أَرحَمَ بِالعِيَالِ مِن رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم (¬2). وَكَانَ مُتَوَاضِعًا لِعِبَادِ اللهِ، فَكَانَ إِذَا صَافَحَهُ الرَّجُلُ لَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ يَدَهُ (¬3). وَكَانَتِ الأَمَةُ مِن إِمَاءِ المَدِينَةِ لَتَأخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَتَنطَلِقُ بِهِ حَيثُ شَاءَتْ (¬4). قال ابن حجر: المقصود من الأخذ باليد لازمة وهو الرفق والانقياد، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى اللهُ عليه وسلم (¬5). وَكَانَ صلى اللهُ عليه وسلم أَجوَدَ النَّاسِ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعطَاهُ غَنَمًا بَينَ جَبَلَينِ، فَرَجَعَ إِلَى قَومِهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا قَومِ أَسلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعطِي ¬

(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2015)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأصله في الصحيحين. (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2316). (¬3) جزء من حديث في «سنن الترمذي» (برقم 2490). وقال الألباني: ضعيف، إلا جملة المصافحة فهي ثابتة (ص: 406). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6072). (¬5) «فتح الباري» (10/ 490).

عَطَاءً مَا يَخَافُ الفَقرَ (¬1). وَمَا سُئِلَ عَن شَيءٍ صلى اللهُ عليه وسلم مِن أَمرِ الدُّنيَا فَرَدَّ طَالِبَهُ (¬2)، وَكَانَ عليه السلام أَزهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنيَا، فَقَد خُيِّرَ بَينَ أَن يَعِيشَ فِي الدُّنيَا مَا شَاءَ اللهُ، وَبَينَ لِقَاءِ رَبِّهِ فَاخْتَارَ لِقَاءَ رَبِّهِ (¬3)، وَكَانَ يَمُرُّ الهِلَالُ تِلْوَ الهِلَالِ، وَمَا يُوقَدُ فِي بَيتِهِ نَارٌ (¬4). وَيَبِيتُ اللَّيَالِيَ طَاوِيًا وَأَهلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً (¬5)، وَكَانَ يَقُولُ: «مَا لِي وَلِلدُّنيَا؟ ! مَا أَنَا إِلَّا كَرَاكِبٍ استَظَلَّ تَحتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ تَرَكَهَا وَرَاحَ» (¬6). قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ يَلتَوِي مِنَ الجُوعِ مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ (¬7) مَا يَمْلُأَ بَطْنَهُ (¬8). وَمَاتَ وَلَم يُخَلِّفْ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَّا سِلَاحَهُ، وَبَغْلَتَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا لِابنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً (¬9). وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِندَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (¬10). ¬

(¬1) «صحيح مسلم» (برقم 2312). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 6034)، و «صحيح مسلم» (برقم 2311). (¬3) «مسند الإمام أحمد» (25/ 376) (برقم 15997)، وقال محققوه: إسناده ضعيف؛ لكن الحديث صحيح في استغفاره لأهل البقيع، واختياره لقاء ربه. (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 6459)، و «صحيح مسلم» (برقم 2972). (¬5) «سنن الترمذي» (برقم 2360)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) «سنن ابن ماجه» (برقم 4109)، وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (2/ 394) (برقم 3317). (¬7) التمر الرديء. (¬8) «صحيح مسلم» (برقم 2978). (¬9) «صحيح البخاري» (برقم 4461). (¬10) «صحيح البخاري» (برقم 4467)، و «صحيح مسلم» (برقم 1603).

جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي مَجهُودٌ، فَأَرسَلَ إِلَى بَعضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا عِندِي إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أُخرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ (¬1). وَفِي مَقَامِ العُبُودِيَّةِ كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ: كَيفَ تَصنَعُ ذَلِكَ وَقَد غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَيَقُولُ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبدًا شَكُورًا؟ ! » (¬2). قَالَ أَنَسٌ رضي اللهُ عنه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ (¬3). وَفِي مَقَامِ الشَّجَاعَةِ كَانَ أَشجَعَ النَّاسِ وَأَصبَرَهُم، قَالَ البَرَاءُ ابنُ عَازِبٍ رضي اللهُ عنهما: «كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَاسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ - يَعنِي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم -» (¬4). ولقد ولَّى الناس كلهم يوم حنين وكانوا اثني عشر ألفًا ولم يبقَ معه إلا نحو مئة من أصحابه وهو راكب بغلته يركض بها نحو العدو ويقول: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابنُ عَبدِ المُطَّلِبْ» (¬5). وما زال كذلك حتى نصره الله، وَقَد أُوذِيَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ أَذًى ¬

(¬1) «صحيح البخاري» (برقم 3798)، و «صحيح مسلم» (برقم 2054) واللفظ له. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1130)، و «صحيح مسلم» (برقم 2820). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 1141). (¬4) «صحيح مسلم» (برقم 1776). (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 2864)، و «صحيح مسلم» (برقم 1776).

عَظِيمًا؛ فَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ، وَشُجَّ رَأسُهُ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجهِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلَا لِبِلَالٍ طَعَامٌ يَاكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلَالٍ» (¬1). وَكَانَ صلى اللهُ عليه وسلم حَسَنَ الصُّحبَةِ، جَمِيلَ المُعَاشَرَةِ، يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ، وَكَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذرَاءِ فِي خِدْرِهَا (¬2)، قَالَ جَرِيرُ بنُ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنه: مَا رَآنِي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجهِي (¬3)، وَكَانَ يَنهَى أَصحَابَهُ أَن يَرفَعُوهُ فَوقَ مَنزِلَتِهِ الَّتِي أَنزَلَهُ اللهُ، وَيَقُولُ: «لَا تُطْرُونِي (¬4) كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ» (¬5). أحبه الصحابة حبًّا جمًّا، إن قال، استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره (¬6)، قَالَ أَنَسٌ رضي اللهُ عنه: لَم يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم (¬7)، جمع من الأخلاق أطيبها، ومن الآداب أزكاها، ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (21/ 443) (برقم 14055)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 3562)، و «صحيح مسلم» (برقم 2320). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3035)، و «صحيح مسلم» (برقم 2475). (¬4) الإطراء: هو حسن الثناء. أي: لا تبالغوا في مدحي، كما بالغت النصارى في مدح عيسى عليه السلام، فجعلوه إلهًا أو ابن إله. (¬5) «صحيح البخاري» (برقم 3445). (¬6) «صحيح البخاري» (برقم 2731 - 2732). (¬7) «مسند الإمام أحمد» (19/ 367) (برقم 12370)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لا تحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من أمن وخوف وغنى وفقر، وقلة وكثرة» (¬1). وكان صلى اللهُ عليه وسلم أفصح الناس وأبلغهم بيانًا، صلى ذات يوم صلاة الفجر، فصعد المنبر فخطب الناس حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ثم صعد المنبر حتى حضرت العصر، فنزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرهم بما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة (¬2). كان صلى اللهُ عليه وسلم أبهى الناس وأحسنهم منظرًا، إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، قَالَ البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ رضي اللهُ عنهما: لَم أَرَ شَيئًا قَطُّ أَحسَنَ مِنهُ (¬3)، وكان طيب الجسد، زكي الرائحة، قَالَ أَنَسٌ رضي اللهُ عنه: «مَا شَمِمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ، وَلَا مِسْكًا، وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، وَلَا مَسِسْتُ شَيْئًا قَطُّ دِيبَاجًا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬4). ويجب على المؤمن أن يعرف للنبي صلى اللهُ عليه وسلم منزلته وقدره، فلا يرفعه فوق منزلته، ولا ينقص من منزلته، وعليه اتباعه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي ¬

(¬1) «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» (5/ 439). (¬2) «صحيح مسلم» (برقم 2892). (¬3) «صحيح البخاري» (برقم 3551)، و «صحيح مسلم» (برقم 2337). (¬4) «صحيح البخاري» (برقم 3561)، و «صحيح مسلم» (برقم 2330).

يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31]. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: «ويحصل تعظيم الرسول صلى اللهُ عليه وسلم بتعظيم أوامره، واجتناب نواهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه، ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه، ومحبته مقدمة على المال والأهل والولد» (¬1). روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص: 255). (¬2) «صحيح البخاري» (برقم 15)، و «صحيح مسلم» (برقم 44).

تقديم فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (¬1) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين: أما بعد: فقد اطَّلعت على الكتاب الموسوم بـ «موسوعة الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة دروس يومية» إعداد الشيخ الدكتور أمين بن عبد الله الشقاوي، عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد. والشيخ أمين معروف لديَّ، وهو من الدعاة المعروفين بالعلم والبصيرة، وقد سمعتُ عددًا من كلماته التي يلقيها في المساجد. ولما تصفَّحتُ الموسوعة وجدتها منوعة تشمل موضوعات متعددة في العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، وفي العلم، وفي الوصايا، والأدعية والأذكار، وآداب الطعام، والمحرمات، وصيانة الأعراض، واللباس، والمواعظ والرقائق، والفضائل والأخلاق، وقضايا اجتماعية كقضية المرأة وغيرها، وتوجيهات عامة، وغيرها. ولا شكَّ أن هذه الموضوعات شاملة لقضايا متعددة من أمور الدين، ¬

(¬1) تنويه: اقتصرتُ على تقديم الشيخ عبد العزيز الراجحي لهذه الموسوعة التي تمَّ اطِّلاعه عليها، أمَّا المشايخ الذين قدَّموا للكتاب في مجلده الأول، فلم نتمكَّن من عرضها عليهم، مع الشكر للجميع، جزاهم الله خيرًا.

الناس بحاجة إليها، فهذه الكلمات مفيدة لعامة الناس، وهي مفيدة للدعاة والخطباء وأئمة المساجد يقرؤونها على الناس دروسًا يومية. وإنني أوصي عموم المسلمين بقراءة هذه الموسوعة والاستفادة منها، وأوصي أيضًا أئمة المساجد، والخطباء، والدعاة، بالاستفادة منها على شكل دروس يومية تقرأ على المصلين. والمؤلف - وفقه الله - بذل جهده في اختيار الموضوعات المهمة، ودعمها بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، والتابعين، وأهل العلم المعتبرين، ورجع إلى كتب التفسير، وكتب الفقه وكتب الحديث وكتب التاريخ والسِّير، فجاءت هذه الموسوعة - بحمد الله - وافيةً بالغرض نافعةً، يجد فيه الباحث بغيته. وأسأل الله أن ينفع بهذه الموسوعة وبكلمات الشيخ أمين التي يلقيها في المساجد، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين، وأن يرزقنا الإخلاص في العمل، والصدق في القول، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه جواد كريم. وصلى الله وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين. كتبه عبد العزيز بن عبد الله الراجحي 28/ 3 / 1435 هـ

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران: 102]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فهذا هو المجلد الرابع من كتاب الدرر المنتقاة، يحتوي على

أربعين كلمةً متنوعةً، وبهذا يصل العدد الإجمالي لموضوعات كتاب الدرر أربع مئة موضوع، وقد سميتها موسوعة «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة»، والتي استغرق العمل فيها ما يقارب ثماني سنوات، وقد بذلتُ جهدي في اختيار الموضوعات لتشمل جميع أبواب الدين، والقضايا التي يحتاجها المجتمع، وهو كسابقِيه قد التزمت ألَّا أورد فيه من الأحاديث إلا ما صُحِّحَ، وقد ضبطت الأحاديث، وبعض الكلمات بالشكل؛ ليتمكن القراء من القراءة الصحيحة، تلبيةً لطلبات قراء الكتاب. كما آمل من إخواني القراء إفادتي بأي ملاحظات ترفع من مستوى الموسوعة العلمي، وتحقق الفائدة المطلوبة منها. أسأل الله تعالى أن ينفع بها الجميع، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف الرياض 11/ 4 / 1435 هـ

الكلمة الأولى: الغيرة على الأعراض

الكلمة الأولى: الغيرة على الأعراض الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الشريعة الإسلامية جاءت بكل ما يصلح الأفراد والمجتمعات، في دينهم ودنياهم. ومن الأمور العظيمة التي اهتم بها الإسلام (الغيرة على الأعراض)، وهي فطرة في الإنسان. قال القاضي عياض: «الغيرة مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين» (¬1). قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 33]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره: «ذكر الله المحرمات التي حرمها الله في كل شريعة من الشرائع، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ}، أي: الذنوب الكبار التي تستفحش، وتستقبح ¬

(¬1) فتح الباري (9/ 320).

لشناعتها وقبحها» (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ» (¬3). والغيرة من الأخلاق التي أيدها الإسلام لدى المتصفين بها، ومن المبالغات في الغيرة: أن أعرابيًّا طلق زوجته عندما رأى أناسًا ينظرون إليها، فعُوتِب في ذلك، فقال في ذلك شعرًا رائعًا منه: وَأَتْرُكُ حُبَّهَا مِنْ غَيرِ بُغْضٍ ... وَذَاكَ لِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ ... مَنَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تشْتَهِيهِ وتَجْتَنِبُ الأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ ... إِذَا كَانَ الكِلَابُ وَلَغْنَ فِيهِ وكلما كان إيمان العبد أقوى كانت غيرته أشد، وأشد الناس غيرة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يغار لله ولدينه، ففي حديث سعد بن ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، ص: 265 باختصار. (¬2) برقم 5221، وصحيح مسلم برقم 901 مطولًا. (¬3) برقم 4637، وصحيح مسلم برقم 2760.

عبادة عندما قال: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ (¬1). فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ ! لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» (¬2). وقال علي رضي الله عنه يخاطب المسلمين: «بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق، أما تغارون؟ لا خير فيمن لا يغار» (¬3). ومن صور ضعف الغيرة عند بعض الناس: ترك الرجل امرأته أو من تحت ولايته من النساء تسافر بدون محرم. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلَا تُسَافِرَنَّ الْمَرْأَةُ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ»، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً؟ قَالَ: «اذْهَب فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» (¬4). فهذا مجاهد في سبيل الله أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن الغزو في سبيل الله، كي يرافق امرأته التي خرجت في سفر طاعة وهو الحج، فكيف بمن سمح بسفر ابنته إلى بلاد الكفار للدراسة وهي في سن الشباب، وعرضها للفتنة والرذيلة؟ ! فإلى الله المشتكى. ¬

(¬1) للسيف صفحان، واحدَّان، أراد أنه يضربه بحدِّه لا بعرضه، والذي يضرب بالحد يقصد إلى القتل بخلاف الذي يضرب بالصفح فإنه يقصد التأديب. فتح الباري (9/ 321). (¬2) صحيح البخاري برقم 6846، وصحيح مسلم برقم 1499 مطولًا. (¬3) الغيرة على المرأة، للشيخ عبد الله المانع ص: 104. (¬4) البخاري برقم 3006، وصحيح مسلم برقم 1341.

ومنها: جلوس الرجل مع زوجته وبناته أمام شاشات القنوات الفضائية السيئة، التي تعرض مشاهد فاضحة وصورًا خليعة. ومنها: سماح الرجل لابنته، أو زوجته، أو من تحت ولايته بالعمل بالأماكن المختلطة مع الرجال؛ كالمستشفيات، والشركات، والأسواق .. وغيرها. ومنها: السماح للمرأة سواء كانت زوجة، أو بنتًا بالركوب مع السائق بمفردها. روى الترمذي في سننه من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» (¬1). ومنها: سماح الرجل لامرأته، أو ابنته، أو من تحت ولايته بخروج صورتها للرجال الأجانب عبر وسائل الإعلام؛ كالقنوات الفضائية، أو المجلات والجرائد، أو الإنترنت، .. أو غيرها من الوسائل. فإلى الله المشتكى. ومنها: انتشار لبس القصير، والبنطال للبنات الصغيرات اللائي تجاوزن سن التمييز، ويحتج آباؤهن بأنهن صغيرات، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وبنى بها وسنها تسع سنين. ومنها: ترك الرجل امرأته، ومن تحت ولايته تلبس الملابس التي تظهر البدن عند خروجها للأسواق، أو المناسبات كالملابس الضيقة، أو الشفافة، أو المفتوحة، أو العارية، أو تضع العباءة على الكتف، أو ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم 2165. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

تلبس البرقع وتظهر جزءًا من وجهها، وهو لا يحرك ساكنًا ولا ينهاها، فأين القوامة والغيرة؟ ! وصور ضعف الغيرة كثيرة لمن تتبعها. أما أسباب ضعف الغيرة فهي كثيرة، فمن ذلك: أولًا: ضعف الإيمان، لأن المسلم كلما ضعف إيمانه ضعفت غيرته. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعد بن عبادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ ! لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» (¬1). ثانيًا: التقليد الأعمى للكفار، فكثير من الذين لا يغارون قد تأثروا بالسفر إلى بلاد الكفار، أو بمشاهدة الأفلام، والقنوات الغربية الفاسدة. ثالثًا: حياة الترف التي يعيشها كثير من الناس، أدت في النهاية إلى الكسل وحب الراحة، والاعتماد على الغير من السائقين، والخدم، وغيرهم. رابعًا: الاختلاط بالأمم الوافدة، وفيهم من هو من غير المسلمين، أو من المسلمين الذين ضعفت عندهم الغيرة، واستمرؤوا الانحلال والتفسخ. خامسًا: ضعف شخصية بعض الرجال، لأن الواجب عليهم القوامة والإرشاد للنساء، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6846، وصحيح مسلم برقم 1499.

[النساء: 34]. قال ابن كثير: أي: الرجل قيِّم على المرأة، أي: هو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدِّبها إذا اعوجَّت (¬1). سادسًا: جهل بعض المسلمين بأحكام الشرع. سابعًا: صدور الفتاوى المتساهلة من بعض المحسوبين على أهل العلم إلى العامة فيما يتعلق بأمور النساء، والاختلاط، والخلوة، والسفر وغيرها. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، (4/ 20).

الكلمة الثانية: إصلاح البيوت

الكلمة الثانية: إصلاح البيوت الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن إصلاح البيوت أمانة في عنق كل مسلم ومسلمة، يريدان رضا الله بتربية ذرية صالحة تساهم في بناء المجتمع المسلم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6]. ومن هذه الخطوات التي تساعد على إصلاح البيوت: 1 - الاهتمام بغرس العقيدة الصحيحة في قلوب أفراد الأسرة، وتحذيرهم من الشرك بأنواعه، كما قال تعالى عن نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام} [إبراهيم: 35]. فإبراهيم إمام الموحدين، ومع ذلك خاف على نفسه من الشرك، قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام؟ ! (¬1). 2 - حث أفراد الأسرة على الصلاة في أوقاتها بالرفق والحسنى، ¬

(¬1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص: 101.

فالأولاد يؤمرون بصلاة الجماعة، والنساء صلاتهن في بيوتهن أفضل، كما قال تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. وقال تعالى عن نبي الله إسماعيل: {وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]. روى أبو داود في سننه من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا. اهـ (¬2). 3 - إخراج المنكرات من البيوت من الصور، والتماثيل، والتمائم والصلبان، وغيرها. روى مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ: أَلَا أَبْعَثُكَ؟ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ، وَلَا صُورَةً إِلَّا طَمَسْتَهَا» (¬3). والواجب على المسلم أن يتلف الصور، وأن يُخلي بيته منها ما أمكنه ¬

(¬1) برقم 495، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 97) برقم 466. (¬2) تحفة المودود في أحكام المولود، ص: 80. (¬3) برقم 969.

ذلك، وإذا كان في منزله صور معلقة على الحيطان، أو منصوبة سواء كانت تماثيل، أو كانت رسومًا على أوراق من صور ذوات الأرواح كالبهائم، والطيور والآدميين، وكل ما فيه روح، فإنه يجب إزالتها، فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى سترًا وضعته عائشة على الجدران فيه تصاوير (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي طلحة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَا صُورَةُ» (¬2). حتى لو احتاج رب الأسرة إلى الكلب للحراسة، فإنه يوضع في مكان خاص خارج البيت. 4 - الحرص على جمع شمل الأسرة، وعدم تشتتها والترابط بينها وذلك باحترام الكبير، والرحمة بالصغير، والبر بالوالدين؛ فإنه من أعظم القربات، والأدب واللطف عند التعامل بين أفرادها، قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ» (¬3). وتربية الأولاد على الكلام الحسن، وتجنيبهم الألفاظ القبيحة، وأن يتحلَّى رب الأسرة بالصبر، والحلم، والحكمة، والرفق، فإن أعظم ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 5961، وصحيح مسلم برقم 2107. (¬2) البخاري رقم 3225، وصحيح مسلم برقم 2106. (¬3) (41/ 255) برقم 24734، وقال محققوه: إسناده صحيح.

ما يشتت الأسر ويؤدي إلى ضياع الأولاد، وتقطع وشائج الأرحام، ويولد العداوة والبغضاء الطلاق. 5 - الحذر من دخول الرجال الأجانب على المرأة في البيت، وخاصة أقارب زوجها وأبويها، فإنهم يترددون غالبًا وربما كان يجمعهم بيت واحد، وتارة تكون وحدها في البيت عند دخول أحدهم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» (¬1). والحمو قريب الزوج، شبَّهه النبي صلى الله عليه وسلم بالموت لخطورته وتساهل الناس فيه، والحرص كذلك على منع اختلاط الرجال بالنساء في المناسبات والزيارات العائلية، والذي تساهل به بعض الناس، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. قال الشيخ بكر أبو زيد: «وإذا كان الرجال ممنوعين من الدخول على النساء، وممنوعين من الخلوة بهن بطريق الأولى، كما ثبت بأحاديث أُخر؛ صار سؤالهن متاعًا لا يكون إلا من وراء حجاب، ومن دخل عليهن فقد خرق الحجاب» (¬2). 6 - توجيه النساء والأخذ على أيديهن، وخاصة عند خروجهن ¬

(¬1) البخاري برقم 5232، وصحيح مسلم برقم 2172. (¬2) حراسة الفضيلة، ص: 63.

للزيارات والمناسبات، فإن بعضهن تلبس اللباس الضيق، أو العاري، أو المفتوح، أو البنطال، وهذا لا يجوز سواء كان عند محارمها من الرجال، أو النساء مثلها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء: 34]. وفي الحديث: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (¬1). 7 - إخراج القنوات الفضائية السيئة التي تنشر الرذائل وتدعو إليها، وتحارب الفضائل وتقلل من شأنها، فكم هتكت من أعراض؟ ! وكم ضيعت من صلوات بأسبابها؟ ! وكذلك آلات المعازف والطرب، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِين} [لقمان: 6]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬2). ومن الغش للأسرة: إدخال هذه الأجهزة، التي تفسد عليهم دينهم وأخلاقهم. 8 - الانتباه لخطورة السائقين، والخادمات في البيوت، ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 2128. (¬2) البخاري برقم 715، وصحيح مسلم برقم 142 واللفظ له.

وخاصة أن كثيرًا من الخادمات تكون في سن الشباب، وفي البيت مراهقون، وقد يختلي أحدهم بهذه الخادمة فتحصل الفتنة والشر، والبعض يجلب الخدم والسائقين من شتى ملل الكفر، وهذا فيه مخالفة صريحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا» (¬1). إضافة إلى تبلُّد إحساس المسلم بكثرة مخالطة الكفار، وهذا يقضي تدريجيًا على مفهوم الولاء والبراء في قلب المؤمن، ولذلك ينبغي أن يكون استقدام الخدم والسائقين من المسلمين وفق الحاجة، مع مراعاة الجوانب الشرعية الأخرى. 9 - التعاون بين أفراد الأسرة على تنظيم الحياة الأسرية داخل المنزل وخارجه، وذلك بترتيب الأوقات، حيث يكون النوم في وقته، والاستيقاظ، مع التعاون على الاقتصاد في المعيشة، وترك الإسراف في النفقات، والحث على النظافة .. ونحو ذلك من الأمور التي حث عليها الشرع، ودعت إليها الأخلاق، وتوافقت مع الجوانب الصحية للحياة السليمة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 1767.

الكلمة الثالثة: فضل بناء المساجد ورعايتها

الكلمة الثالثة: فضل بناء المساجد ورعايتها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تبين فضل المساجد، وبنائها، ورعايتها، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين} [التوبة: 18]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عثمان ابن عفان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ» (¬1). وروى البزار في مسنده من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَجْرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» (¬2). ¬

(¬1) البخاري برقم 450، وصحيح مسلم برقم 533. (¬2) البحر الزخار (13/ 484) برقم 7289، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3602).

والمساجد يجب أن تنظف، وتطيب، وتجنب الأقذار، والروائح الكريهة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّ امرَأَةً سَودَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَنهَا؟ فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ » قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا»، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» (¬2). وفي رواية: «كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ، وَالْعِيدَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ» (¬3). وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» (¬4). ويلحق بهذا الأطعمة ذات الروائح الكريهة، وأعظم من ذلك ¬

(¬1) (43/ 397) برقم 26386، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2) صحيح البخاري برقم 458، وصحيح مسلم برقم 956. (¬3) صحيح ابن خزيمة 2/ 272 برقم 1299. (¬4) صحيح البخاري برقم 855، وصحيح مسلم برقم 564 واللفظ له.

وأولى بالنهي التدخين، أو ما يسمى الشيشة، وقد جاء النهي أيضًا عن نشد الضالة، والبيع والشراء في المسجد. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ» (¬2). ويلحق بذلك سؤال الناس أموالهم في المساجد، وإشغالهم عن التسبيح والتكبير، والتهليل، والذكر عمومًا بحجة الفقر والحاجة. وقد اختلف أهل العلم في حكم التَّسَوُّل في المساجد؟ فذهب المالكية ومن وافقهم إلى تحريم السؤال، واستدلوا على ذلك بنهيه صلى الله عليه وسلم عن إنشاد الضوال في المسجد، ويلحق به ما في معناه من البيوع، والشراء، والإجارة ونحوها، وكراهة رفع الصوت في المساجد بالعلم، وغيره. وذهب آخرون إلى الكراهة وهم الشافعية، واستدلوا بحديث عبد الله بن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ » فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا بِسَائِلٍ، فَوَجَدتُّ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ ¬

(¬1) برقم 568. (¬2) برقم 1321.

فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ (¬1). سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة؟ فأجاب بما نصه: «أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحدًا بتخطيه رقاب الناس، ولا بغير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهرًا يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو هم يسمعون علمًا يشغلهم به .. ونحو ذلك. جاز والله أعلم» (¬2). اهـ وقد وردت كذلك الأحاديث الكثيرة بالنهي عن زخرفة المساجد، والمبالغة في صرف الأموال في ذلك. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي المَسَاجِدِ» (¬3). وروى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ» (¬4). وقال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى (¬5). وروى سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 670، قال الألباني: ضعيف، وهو صحيح دون قصة السائل. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم 1458. (¬2) الفتاوى (22/ 206). (¬3) (19/ 372) برقم 12379، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬4) برقم 448، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 90) برقم 431. (¬5) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد، رقم 62.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا زَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ، وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ، فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ» (¬1). وكان مسجده عليه الصلاة والسلام متواضعًا، لم يكن به شيء من الزخارف والزينة، فروى البخاري في صحيحه من حديث نافع: أَنَّ عَبدَ اللَّهِ أَخبَرَهُ أَنَّ المَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا (¬2). وفي صحيح البخاري: أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ (¬3) النَّاسَ مِنَ المَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ (¬4). وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا (¬5). وعمارة المساجد ليست مقتصرة على بنائها فقط، بل تكون بالصلاة والذكر، والدعاء، والاستغفار، وحلق العلم، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال * ¬

(¬1) سنن سعيد بن منصور (2/ 486) برقم 165، وقال شيخنا د. سعد الحميد: والحديث بمجموع هذه الطرق يكون حسنًا لغيره، لكنه موقوف على هؤلاء الصحابة الذين رووه وهم أبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو ذر، وأما رفعه فلا يصح إلا أن يقال: إنه مما يدخل في عداد ما له حكم الرفع، لأنه لا مجال للرأي فيه. والله أعلم. اهـ. سنن سعيد بن منصور (2/ 486 - 491). (¬2) برقم 446. (¬3) من الكن، وهو ما يرد الحر، والبرد من الأبنية والمساكن، ومعنى أكن الناس من المطر: أي: صُنهم واحفظهم. النهاية في غريب الحديث (4/ 206). (¬4) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد. (¬5) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب بنيان المسجد.

رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار} [النور: 36 - 37]. روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (¬1) فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ » فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (¬3). ومكانة المسجد في الإسلام عظيمة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة كان أول عمل عمله بناء المسجد، وهو ساحة العبادة، ومدرسة العلم، ومنطلق الجيوش لمقارعة الأعداء، ويجتمع الناس في المساجد كل يوم خمس مرات، الغني والفقير، والأمير والمأمور، والصغير والكبير، جنبًا إلى جنب، فيشعرون بالمواساة والمحبة ¬

(¬1) الناقة الكوماء: عظيمة السنام. (¬2) برقم 803. (¬3) برقم 2699.

والمودة، ويتفقد بعضهم بعضًا، وفي نهاية الأسبوع يكون لخطبة الجمعة الأثر البالغ في نفوسهم. وفي المساجد تُعْقَدُ حِلَقُ العِلمِ التي خَرَّجَت الآلاف من العلماء، وطلبة العلم من شتى البقاع، وكذلك حلق تحفيظ القرآن الكريم، والدروس والمحاضرات، والكلمات، .. ونحوها. وبيَّن سبحانه أن من أعظم الجرائم صد الناس عن بيوت الله والسعي في خرابها، وأن الجزاء في ذلك خزي في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم} [البقرة: 114]. والمساجد أحب البقاع إلى الله. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» (¬1). قال النووي رحمه الله: أحب البلاد إلى الله مساجدها لأنها بيوت خصت بالذكر، وبقع أسست للتقوى والعمل الصالح، فالمساجد مواضع نزول رحمة الله وفضله، والأسواق على الضد منها (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ ¬

(¬1) برقم 671. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 584)، باختصار وتصرف.

قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ» (¬1). والمساجد بيوت الله من دخلها فقد حل ضيفًا على ربه، فلا قلب أطيب، ولا نفس أسعد من رجل حل ضيفًا على ربه، وفي بيته، وتحت رعايته. روى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ إِلَى الجَنَّةِ» (¬2). وهذه الضيافة تكون في الدنيا بما يحصل في قلوبهم من الاطمئنان والسعادة، والراحة، وفي الآخرة بما أَعَدَّ لهم من الكرامة في الجنة. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1423، وصحيح مسلم برقم 1031. (¬2) حلية الأولياء (6/ 176)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 298): رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار وقال: إسناده حسن، وهو كما قال رحمه الله. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 716. (¬3) صحيح البخاري برقم 662، وصحيح مسلم برقم 669 واللفظ له.

الكلمة الرابعة: الانتحار

الكلمة الرابعة: الانتحار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. ففي كل عام يموت الآلاف من الناس منتحرين بعمليات مختلفة، إما بالحرق، أو الشنق، أو الرمي من مكان شاهق، أو تناول السم والمواد الضارة، أو إطلاق النار، .. أو غير ذلك. وهذه الظاهرة الخطيرة التي انتشرت في بلاد العالم، تحتاج منا إلى وقفات وتأملات للاطلاع على الأسباب، والعلاج، والحكم الشرعي فيها. وقد دَلَّتِ النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الانتحار من أعظم الذنوب عند الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ

جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث ثابت بن الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬3). والمنتحر مصيره إلى النار والجنة عليه حرام. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬4). وبعد التأمل والاطلاع على الإحصائيات العالمية وأحوال الناس، يتبين أن من أسباب الانتحار: أولًا: الهم والقلق النفسي والضيق الذي يشعر به الإنسان المُقْدم على الانتحار، حيث تصبح الحياة لا قيمة لها عنده، ويريد التخلص مما يعانيه، والغالب ذلك ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 5778، وصحيح مسلم برقم 109. (¬2) صحيح البخاري برقم 1364، وصحيح مسلم برقم 109 مطولًا باختلاف. (¬3) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 6105، وصحيح مسلم برقم 110. (¬4) صحيح البخاري برقم 1364، وصحيح مسلم برقم 113 مطولًا وبدون ذكر «بدرني عبدي».

في الكفار، وقد يحصل من بعض المسلمين عند ضعف الإيمان. وصدق الله إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126 - 124]. ثانيًا: تراكم الديون والحقوق ومطالبة أصحابها بها والخوف من عواقب ذلك، وفقدان الوظيفة أو عدم الحصول عليها بعد البحث والانتظار لسنوات عديدة، والبقاء عاطلًا بلا عمل. ثالثًا: الخسارة المالية الكبيرة التي تسبب الصدمة العنيفة لصاحبها على سبيل المثال (خسارة الأسهم المشهورة في السنوات الماضية). رابعًا: الأمراض النفسية المزمنة، كحالات الاكتئاب الشديدة، أو انفصام الشخصية، وأثبتت الدراسات أن (90 %) من حالات الانتحار كانت بسبب الاكتئاب. خامسًا: استعمال المخدرات والمسكرات، فإنها تسبب تلف خلايا المخ، وبالتالي يصبح المدمن عرضة للانتحار في أي وقت. سادسًا: المشاكل الأسرية والتي تؤدي إلى الطلاق، وتشتت الأسر، والعزلة عن الناس. سابعًا: السجن لسنوات طويلة مع شعور السجين بالظلم، والإهمال لحقوقه.

ثامنًا: تسجيل بعض المواقف السياسية، أو الاحتجاج على بعض الأوضاع المعيشية الصعبة، كحالات الفقر الشديدة، أو البطالة، أو غيرها، ويكون هذا أمام المقرات الرسمية المهمة في الدول. تاسعًا: سجلت حالات انتحار لأطفال لم يبلغوا الحلم، إما بسبب تقليد الأفلام الكرتونية، أو لعدم احتواء مشاكلهم، واضطراباتهم السلوكية، أو لغير ذلك. عاشرًا: ويلحق بهذه الأسباب قيادة السيارات بطريقة غير صحيحة، كمن يسرع سرعة شديدة تؤدي إلى عدم السيطرة على السيارة تحت أي ظرف يتعرض له، أو القيادة بشكل معاكس للطريق، أو التفحيط أو المسابقة بالسيارات .. أو غير ذلك مما يفعله السفهاء. ولعل من الحلول المناسبة لهذه الجريمة الخطيرة: أولًا: تقوية الوازع الديني لدى الناس وتذكيرهم بالتوكل على الله وتفويض الأمر إليه سبحانه، قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير} [الأنعام: 17]. والصبر على البلاء، وأن يسعوا في الرزق، فليس مرتبطًا بالوظيفة، أو الشهادة الدراسية، فكم من أُمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يملك الأموال الطائلة؟ ! قال تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} [الذاريات: 22]. ثانيًا: الاقتصاد في المعيشة، والبعد عن الإسراف، وأن يقتصر

الدين على الحالات الضرورية القصوى، قال تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 31]. ثالثًا: التداوي بالقرآن، فإن فيه الشفاء لكل الأمراض النفسية والعضوية، قال تعالى: {وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [فصلت: 44]. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. واستعمال العقاقير الطبية الموصوفة من الأطباء المتخصصين الموثوق بهم. رابعًا: بث الوعي الديني بخطورة العجلة في قيادة السيارات، والالتزام بأنظمة المرور، قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وبيان فوائد الالتزام بآداب القيادة، وما فيها من المصالح وما يدرأ بها من المفاسد، وإحالة المخالفين إلى المحاكم الشرعية لمعاقبتهم بما يقتضيه الحكم الشرعي. خامسًا: إبعاد الأفلام، والمسلسلات الكرتونية، أو التلفزيونية التي تحتوي على العنف، أو الانتحار عن الأطفال، واستبدالها بما ينفعهم في دينهم ودنياهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخامسة: حقوق الجار

الكلمة الخامسة: حقوق الجار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من محاسن هذا الدين العظيم التي جاء بها: الوصية بالجار، والمجتمع كله عبارة عن أُسر كثيرة يتجاور بعضها مع بعض، فإذا أحسن كل منهم عشرة جاره صلح المجتمع، وساده الحب، والرحمة، والتعاون، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36]. روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (¬1). قال العلماء: «الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فالجار الذي له ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم، وأما الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق الإسلام، وأما الذي له ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6015، وصحيح مسلم برقم 2625 واللفظ له.

حق واحد فالجار المشرك» (¬1)، قال ابن عباس: الجار ذي القربى، أي: القريب؛ والجار الجنب، أي: الغريب (¬2). قال ابن حجر: «واسم الجار يشمل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق، والعدو، والغريب، والبلدي، والنافع، والضار، والقريب، والأجنبي، والأقرب دارًا، والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها، ثم أكثرها وهلم جرًا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيُعطى كل حقه بحسب حاله» (¬3). قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاق الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت، أو معنوية» (¬4). فعلى سبيل المثال عدم رمي الأوساخ بجوار بيته، أو إيقاف السيارات أمام منزله إذا كان ذلك يؤذيه، أو تتبع عوراته، أو النظر إلى محارمه، أو غير ذلك مما يسبب له الأذى، ولا يكفي هذا بل لا بد من تحمل الأذى الذي يصدر منه. ¬

(¬1) فتح الباري (10/ 442) بتصرف. وقد رُوي في هذا حديث، ولا يصح. (¬2) تفسير الطبري (3/ 2311 - 2313). (¬3) فتح الباري (10/ 441 - 442). (¬4) فتح الباري (10/ 442).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ»، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَامَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» (¬1). والبوائق: جمع بائقة وهي الداهية، والشيء المهلك، والأمر الشديد الذي يُوافي بغته. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» (¬2). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان إلى الجار سبب لدخول الجنة، كما أن إيذاءه سبب لدخول النار. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ (¬3) مِنَ الَاقِطِ (¬4)، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ» (¬5). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرمة الجار أعظم من حرمة غيره من ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6016، وصحيح مسلم برقم 46. (¬2) صحيح البخاري برقم 6136، وصحيح مسلم برقم 47. (¬3) الأثوار: جمع ثور، وهي قطعة من الأقط. (¬4) الأقط: بفتح الهمزة وكسر القاف وبضمها أيضًا، وبكسر الهمزة والقاف معًا وبفتحهما، هو شيء يتخذ من مخيض اللبن الغنمي. (¬5) (15/ 421 - 422) برقم 9675، وقال محققوه: إسناده حسن.

الناس، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ » قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصحَابِهِ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشَرَةٍ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ»، قَالَ: فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ » قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ» (¬1). وفي الصحيحين من حديث عبد الله قال: سَأَلتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنبِ أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» (¬2). ومن حقوقه أيضًا: الإحسان وبذل المعروف له، وإكرامه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي شريح العدوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» (¬3). وفي رواية: «فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» (¬4). وحث النبي صلى الله عليه وسلم على إطعام الجار، فروى مسلم في صحيحه ¬

(¬1) (39/ 277) برقم 23854، وقال محققوه: إسناده جيد. (¬2) صحيح البخاري برقم 4477، وصحيح مسلم برقم 86 واللفظ له. (¬3) صحيح البخاري برقم 6019، وصحيح مسلم برقم 47. (¬4) صحيح مسلم برقم 48.

من حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» (¬1). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط إليه معروفك، وتكف عنه أذاك (¬2). قال شراح الحديث: «ففي الحديث الحض على مكارم الأخلاق، والإرشاد لمحاسنها لما يترتب عليه من المحبة، والألفة ولما يحصل به من المنفعة، ودفع الحاجة والمفسدة، فقد يتأذى الجار برائحة قدر جاره وعياله وصغار ولده ولا يقدر على التوصل إلى ذلك فتهيج من صغارهم شهية الطعام، ويقوم على القائم بهم الألم والكلفة، وربما كان يتيمًا، أو أرملة، فتكون المشقة أعظم، وتشتد منهم الحسرة والألم، فلا أقبح من منع هذا اليسير المترتب عليه هذا الضرر الكبير، وكل ذلك يندفع بتشريكهم في شيء من الطبخ» (¬3). ومنها: بذل النصيحة له في دينه، ودنياه، والمشورة عليه بالخير، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جرير بن عبد الله قال: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 2625. (¬2) الآداب الشرعية (2/ 15)، لابن مفلح. (¬3) دليل الفالحين (3/ 175)، بتصرف.

وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» (¬2). ومن أهم ذلك: حثُّه وترغيبه على المحافظة على الصلاة في جماعة المسلمين، وكذلك تحذيره من تقصيره في تربية أولاده، وإهماله لمن تحت يده، وتحذيره من اقتناء آلات اللهو، والقنوات الفضائية الفاسدة، وبيان خطر جلساء السوء، ومصاحبتهم. ومنها: زيارته، وتفقد أحواله والسؤال عنه، وإجابة دعوته. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» - ذكر منها - «وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ» (¬3). هذه الحقوق على وجه العموم، ويتأكد ذلك في حق الجار، وهو نص قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَليُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» (¬4). وكلما كان الجار أقرب كان حقه أعظم. روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِيَ؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا» (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 481، وصحيح مسلم برقم 2585 واللفظ له. (¬2) برقم 55. (¬3) برقم 2162. (¬4) صحيح مسلم برقم 48، وروى البخاري بعضه. (¬5) برقم 2259.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» (¬1). ولا يحتقر المسلم الهدية التي يهديها لجاره وإن كانت قليلة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» (¬2). ومنها: إظهار محاسنه، وستر عيوبه وخاصة عند الأهل، والأولاد، فإن ذلك ينتج عنه انتشار المحبة، والمودة بين الجيران، وهذه الخصلة السابقة في غاية الأهمية، ليكونَ ذلك داعيًا إلى عدم المجاهرة بالأخلاق السيئة. قال الغزالي رحمه الله مُلَخِّصًا حقوق الجار: «أن يبدأه بالسلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا يضيق طرقه إلى الدار، ويستر ما يتكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظته عند غيبته، ولا يسمع عليه كلامًا، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف بولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه، ودنياه» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 2463، وصحيح مسلم برقم 1609. (¬2) صحيح البخاري برقم 2566، وصحيح مسلم برقم 1030. (¬3) إحياء علوم الدين (2/ 213)، مختصرًا.

ومن القصص التي تُذكر في هذا المجال، ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَاسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ» (¬1). وفي رواية: فَلَمَّا مَاتَ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1356. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 260)، والرواية له.

الكلمة السادسة: تأملات في سورة الناس

الكلمة السادسة: تأملات في سورة الناس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، فقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. ومن سور القرآن التي تتكرر على أسماعنا ونحتاج إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الفوائد الجليلة والحكم العظيمة سورة الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس * إِلَهِ النَّاس * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} [الناس: 1 - 6]. قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الصفات من صفات الرب عز وجل الربوبية والملك والإلهية، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستغيث أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزيِّن له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال. والمعصوم من عصمه الله» (¬1). اهـ. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود: أن ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 529).

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ»، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَامُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أنس في قصة زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وخروجه معها ليلًا ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعدا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا»، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي تميمة الهُجَيمِي عمن كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُنْتُ رَدِيفَهُ عَلَى حِمَارٍ، فَعَثَرَ الْحِمَارُ، فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: صَرَعْتُهُ بِقُوَّتِي، فَإِذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ، تَصَاغَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنَ الذُّبَابِ» (¬3). قال ابن كثير: «وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر ¬

(¬1) برقم 2814. (¬2) برقم 3101، وصحيح مسلم برقم 2175. (¬3) (34/ 198) برقم 20591، وقال محققوه: حديث صحيح، وقال ابن كثير: إسناده جيد قوي.

الشيطان، وغُلِب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب» (¬1). قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس} الوسوسة هي ما يلقيه الشيطان من الأفكار والأوهام، والتخيلات التي لا حقيقة لها، والخناس الذي يخنس، ويهزم، ويولي عند ذكر الله وهو الشيطان (¬2)، قال سعيد ابن جبير عن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس}، قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّاذِينَ، فَإِذَا قَضَى التَاذِينْ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضي التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا واذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِن قَبلُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟ ! » (¬4). قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس} ظاهر الآيات أن الذي يسوس يكون من شياطين الجن، ويكون من شياطين الإنس، وجاء التوجيه الإلهي الكريم بالاستعاذة من النوعين جميعًا، وقد ورد في الكتاب العزيز أنهما يشتركان في الوحي الشيطاني، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (14/ 529). (¬2) تفسير جزء عم، للشيخ ابن عثيمين ص: 359 بتصرف. (¬3) تفسير ابن كثير (14/ 529). (¬4) البخاري برقم 608، وصحيح مسلم برقم 387.

إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 112] (¬1). روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً (¬2) أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ» (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: «وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}، ولم يقل: من شر وسوسته، لتعم الاستعاذة شره جميعه، فإن قوله: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس} تعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته، وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغًا من الشر، والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، ¬

(¬1) بدائع التفسير، لابن القيم (5/ 463 - 464) باختصار. (¬2) حممة: أي فحمًا. (¬3) برقم 5112، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 962) برقم 4264. (¬4) صحيح البخاري برقم 5269، وصحيح مسلم برقم 127.

حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل له ويخيل، ويمني ويشهي، وينسي علمه بضررها، ويطوي عنها سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم، وعونًا، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين، وأزتهم، وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم وتسهل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة، فأصل كل معصية، وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا» (¬1). ومن فوائد السورة الكريمة: 1 - إثبات الربوبية، والملك، والألوهية لله تعالى، فهو رب كل شيء ومليكه والخلق كلهم عبيده، وتحت ملكه، قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [الأعراف: 200]. وقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُون} [المؤمنون: 97 - 98]. وهذه الاستعاذة لها مواضع عند القراءة، والغضب، وفي الصلاة .. وغيرها. ¬

(¬1) بدائع التفسير (5/ 452 - 453) مختصرًا.

2 - استحباب قراءة المعوذتين والإخلاص صباحًا ومساءً ثلاث مرات وعند المبيت، وعلى المرضى، والمسحورين. روى أبو داود في سننه من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه أنه قال: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ، وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتُمْ؟ » فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: «قُلْ»، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ»، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1]، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (¬1). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَاسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (¬3). وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر بهما وقال: «تَعَوَّذْ بِهِمَا، ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 5082، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 957 - 958) برقم 4241. (¬2) صحيح البخاري برقم 5016، وصحيح مسلم برقم 2192. (¬3) صحيح البخاري برقم 5017.

فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله في كلامه على المعوِّذتين: «المقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر، والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعانة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس، والطعام، والشراب، واللباس» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 1463، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/ 275) برقم 1299. (¬2) بدائع الفوائد ص: 536.

الكلمة السابعة: آداب الطريق

الكلمة السابعة: آداب الطريق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من الآداب العظيمة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها: آداب الطريق. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ»، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا»، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ» (¬1). فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث جملة من الآداب، التي ينبغي أن يتحلَّى بها من جلس في الطريق، فمن تلك الآداب: غض البصر، وقد أمر الله به في قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. روى مسلم في صحيحه من حديث جرير ابن عبد الله قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ؟ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 2465، وصحيح مسلم برقم 2121.

فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَا عَلِيُّ، لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ» (¬2). قال الشاعر: كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَؤُهَا مِنَ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ والمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِي أَعْيُنِ الغِيدِ مَوقُوفٌ عَلَى الخَطَرِ كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ... فَتكَ السِّهَامِ بِلَا قَوسٍ ولَا وَتَرِ يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ ... لَا مَرحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ وقال آخر: وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ يومًا أَتعَبَتْكَ المَنَاظِرُ رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ ومنها: كف الأذى، وإزالته من الطريق. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» (¬3). وفي رواية لمسلم: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» (¬4). ¬

(¬1) برقم 2159. (¬2) برقم 2149، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 403) برقم 1881. (¬3) برقم 2472، وصحيح مسلم برقم 1914. (¬4) برقم 1914، وأخرجه البخاري بنحوه برقم 2472.

وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قُلتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيئًا أَنتَفِعُ بِهِ؟ قَالَ: «اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» (¬1). وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» (¬2). ومن كف الأذى: عدم قضاء الحاجة في طريق الناس، أو ظلهم. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» (¬3). ومن الأذى الذي يجب كفه: الالتزام بأنظمة المرور في السير، والوقوف، وكذلك استعمال المنبه في غير حاجة. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (¬4). ومنها: هداية السائل. روى البخاري في صحيحه من حديث ¬

(¬1) برقم 2618. (¬2) صحيح البخاري برقم 9، وصحيح مسلم برقم 35. (¬3) برقم 269. (¬4) صحيح البخاري برقم 6484، وصحيح مسلم برقم 40 مختصرًا

أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (¬1). ومنها: إعانة الرجل في حمله على دابته، أو رفع متاعه عليها. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ سُلَامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ» (¬2). ومنها: رد السلام، قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» (¬4). وفي رواية: «الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ» (¬5). ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 2891. (¬2) برقم 2891، وصحيح مسلم برقم 1009 ببعض الاختلاف. (¬3) برقم 6236، وصحيح مسلم برقم 39. (¬4) برقم 6233، وصحيح مسلم برقم 2160. (¬5) صحيح البخاري برقم 6231.

110]. قال القرطبي رحمه الله: «إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة، لأن المسلمين منهم أكثر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى» (¬1). وأخبر سبحانه أن الناجين من الأمم هم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون} [هود: 117]. قال شيح الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغض الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر، والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه» (¬2). اهـ وقال أيضًا: «وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر، ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر وهذا نعت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71]. وهذا واجب كل مسلم قادر وهو فرض الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره» (¬3). ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يحث من رآه متخلفًا عن صلاة الجماعة إليها، وإذا رأى من يشرب الدخان، أو يستمع إلى الغناء والموسيقى نهاه عن ذلك، وإن مرَّ على من يغشُّ في بيعه وشرائه، ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (5/ 261). (¬2) الفتاوى (7/ 41). (¬3) الفتاوى (28 - 65 - 66).

أنكر عليه ذلك، ومن المنكرات الفاشية التي يجب التعاون على إنكارها لعظيم ضررها، تبرج النساء في الأسواق، والطرق واختلاطهن بالرجال، فالمنكرات إذا كثر إنكارها زالت أو تلاشت، وإن سكت عنها فشت وانتشرت، وبهذا امتازت أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفُضِّلَتْ على سائر الأمم، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران: 110]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثامنة: فضل الوضوء والتيمم وصفتهما

الكلمة الثامنة: فضل الوضوء والتيمم وصفتهما الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. «فالآية الكريمة أوجبت الوضوء للصلاة وبينت الأعضاء التي يجب غسلها، أو مسحها في الوضوء، وحددت مواضع الوضوء منها، ثم بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم صفة الوضوء بقوله، وبفعله، بيانًا كافيًا. أحدها: غسل الوجه بكامله ومنه المضمضة، والاستنشاق، فمن غسل وجهه وترك المضمضة والاستنشاق أو أحدهما، لم يصح وضوؤه، لأن الفم والأنف من الوجه، والله تعالى يقول: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فأمر بغسل الوجه كله، فمن ترك شيئًا منه لم يكن ممتثلًا

لأمر الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق» (¬1) (¬2). الثاني: غسل اليدين مع المرفقين لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}، فإن (إلى) هنا بمعنى مع، فلا بد أن يصل الماء إلى نهاية المرفقين، يدل على ذلك حديث أبي هريرة: أَنَّهُ غَسَلَ يَدَهُ اليُمنَى حَتَّى أَشرَعَ فِي العَضُدِ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُسرَى حَتَّى أَشرَعَ فِي العَضُدِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ (¬3). الثالث: مسح الرأس كله، ومنه الأذنان لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}. وفي حديث ابن عباس: ثُمَّ مَسَحَ رَأسَهُ وَأُذُنَيهِ، بَاطِنَهُمَا بِالسَّبَّاحَتَينِ (¬4) وَظَاهِرَهُمَا بِإِبهَامَيهِ (¬5)، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّاسِ» (¬6). قال الشيخ ناصر الدين الألباني: «وهذا الحديث يدل على وجوب مسح الأذنين وأنهما في ذلك كالرأس، وحسبك في هذا المذهب إمام السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل، وسلفه في ذلك جماعة من الصحابة. وأما المسألة الثانية: فهل يكفي في مسح الأذنين ماء الرأس، ¬

(¬1) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 41). (¬2) صحيح البخاري برقم 159، وصحيح مسلم برقم 226. (¬3) صحيح مسلم برقم 246. (¬4) السباحة والمسبحة: الأصبع التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها يُشاربها عند التسبيح. (¬5) سنن النسائي برقم 102، وصححه الألباني كما في صحيح سنن النسائي (1/ 24) برقم 99. (¬6) سنن الترمذي برقم 37، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة برقم 36.

أم لا بد لذلك من جديد؟ قال المناوي كما في فيض القدير في شرح الحديث: «الأذنان من الرأس، لا من الوجه، ولا مستقلتان، يعني فلا حاجة إلى أخذ ماء جديد منفرد لهما غير ماء الرأس في الوضوء، بل يجزئ مسحهما ببل ماء الرأس، وإلا لكان بيانًا للخلقة فقط، والمصطفى لم يبعث لذلك، وبه قال الأئمة الثلاثة» (¬1). الرابع: غسل الرجلين مع الكعبين لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} وإلى بمعنى (مع)، وذلك للأحاديث الواردة في صحة الوضوء، فإنها تدل على دخول الكعبين في الغسل. الخامس: الترتيب بأن يغسل الوجه أولًا ثم اليدين، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل رجليه لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الوضوء على هذه الكيفية. قال ابن عباس بعدما ذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (¬2). السادس: «الموالاة وهي أن يكون غسل الأعضاء المذكورة متواليًا، بحيث لا يفصل بين غسل عضو وغسل العضو الذي قبله، بل يتابع غسل الأعضاء الواحد تلو الآخر حسب الإمكان» (¬3). وقد وردت نصوص كثيرة في فضل الوضوء. روى البخاري ¬

(¬1) السلسلة الصحيحة (1/ 91). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (1/ 206) برقم 319، وأصله في صحيح البخاري. (¬3) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 42 - 43).

ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا (¬1) مُحَجَّلِينَ (¬2) مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» (¬4). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عثمان رضي الله عنه أنه قال: ألا أحدثكم حديثًا لولا آية ما حدثتكموه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا» (¬5). قال عروة: الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159]. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ، (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ)، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ، كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ)، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ، (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاء)، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ» (¬6). ¬

(¬1) غرًا: لمعة بيضاء في جبهة الفرس. (¬2) التحجيل: بياض يكون في ثلاث قوائم الفرس. (¬3) برقم 136، وصحيح مسلم برقم 246 مطولًا. (¬4) برقم 223. (¬5) صحيح البخاري برقم 160، وصحيح مسلم برقم 227. (¬6) برقم 244.

وقد تعرض حالات يكون الماء فيها معدمًا، أو في حكم المعدوم، أو موجودًا لكن يتعذر استعماله لعذر من الأعذار الشرعية، وقد جعل الله ما ينوب عنه وهو التيمم بالتراب تيسيرًا على الخلق، ورفعًا للحرج، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. والتيمم في اللغة: القصد، وشرعًا: مسح الوجه واليدين بصعيد، على وجه مخصوص. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر ابن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ» (¬1). وفي رواية: «جُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» (¬2). ونقل ابن قدامة في المغني الإجماع على جواز التيمم في الجملة (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين، ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم» (¬4). وينوب التيمم عن الماء في أحوال: أولًا: إذا عدم الماء لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا ¬

(¬1) برقم 335، وصحيح مسلم برقم 521. (¬2) صحيح مسلم برقم 522. (¬3) المغني (1/ 310). (¬4) الفتاوى (21/ 347).

طَيِّبًا} سواء عدمه في الحضر، أو السفر وطلبه فلم يجده. ثانيًا: إذا كان معه ماء يحتاج لشرب، وطبخ فلو تطهر منه لأضر حاجته بحيث يخاف العطش على نفسه، أو عطش غيره من آدمي، أو بهيمة. ثالثًا: إذا خاف باستعمال الماء الضرر في بدنه بمرض، أو تأخر برء، أو شدة برودة، وكان عاجزًا عن تسخينه لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى إلى قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. رابعًا: إذا عجز عن استعمال الماء لمرض لا يستطيع معه الحركة، وليس عنده من يوضئه، وخاف خروج الوقت. ففي تلك الأحوال يتيمم ويصلي، وإن وجد ماء يكفي بعض طهره استعمله فيما يمكنه من أعضائه، أو بدنه، وتيمم عن الباقي الذي قصر عنه الماء لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وإن كان به جرح يتضرر بغسله، أو مسحه بالماء، تيمم له وغسل الباقي، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]. وإن كان جرحه لا يتضرر بالمسح مسح الضماد الذي فوقه بالماء، وكفاه المسح عن التيمم. «ويجوز التيمم بما على وجه الأرض من تراب، وسبخة، ورمل، وغيره، هذا هو الصحيح من قولي العلماء لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا أدركتهم الصلاة تيمموا بالأرض التي يصلون عليها ترابًا أو غيره، ولم يكونوا يحملون معهم التراب» (¬1). ¬

(¬1) زاد المعاد، لابن القيم (1/ 193) بتصرف.

وصفة التيمم أن يضرب التراب بيديه ضربة واحدة، ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، ويمسح كفيه براحتيه، ويعمم الوجه والكفين بالمسح، وقد وردت هذه الصفة في الصحيحين من حديث عمار ابن ياسر (¬1) رضي الله عنه. ويبطل التيمم عن حدث أصغر بمبطلات الوضوء، وعن حدث أكبر بموجبات الغسل من جنابة، أو حيض، أو نفاس، وكذلك يبطل بوجود الماء إن كان التيمم لعدمه، وبزوال العذر الذي من أجله شرع التيمم من مرض ونحوه، ومن عدم الماء والتراب، أو وصل إلى حال لا يستطيع الوضوء، ولا التيمم، فإنه يصلي على حسب حاله بلا وضوء ولا تيمم، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يعيد هذه الصلاة لأنه أتى بما أمر به، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 347، وصحيح مسلم برقم 368. (¬2) صحيح البخاري برقم 7288، وصحيح مسلم برقم 1337.

الكلمة التاسعة: التحذير من قذف المؤمنين والمؤمنات

الكلمة التاسعة: التحذير من قذف المؤمنين والمؤمنات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن القذف من كبائر الذنوب التي حرمها الله ورسوله، ورتب عليها الحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور: 4]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [النور: 23]. «ومعنى الآية الكريمة: أن الذين يقذفون بالزنى المحصنات الحرائر العفيفات العاقلات، ثم لم يأت هؤلاء القذفة بأربعة شهداء على ما رموهن به، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا فرق بين كون المقذوف ذكرًا، أو أنثى، وإنما خص النساء بالذكر، لخصوص الواقعة ولأن قذف النساء أشنع، وأغلب، وإنما استحق القاذف هذه العقوبة صيانة لأعراض المسلمين عن التدنيس، ولأجل كف الألسن عن هذه الألفاظ القذرة التي تلطخ أعراض الأبرياء، وصيانة للمجتمع الإسلامي من شيوع الفاحشة فيه» (¬1). ¬

(¬1) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (2/ 536).

والقذف من السبع الموبقات التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ» (¬1). والمقصود بالقذف هو الرمي بالزنا، أو اللواط، سواء كان المقذوف رجلًا أو امرأة، قال الشيخ محمد صديق بن حسن خان: «التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل لغة، أو شرعًا، أو عرفًا، على الرمي بالزنا ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك، ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا شك، أو شبهة، وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالًا مرجوحًا وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد، وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال، ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا فلا شيء عليه لأن لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال» (¬2) اهـ. والمراد بلا شيء عليه يعني الحد، أما التعزير فلا بد منه، ويرجع ذلك إلى تقدير القاضي. ويثبت حد القذف بأمرين: ¬

(¬1) برقم 2766، وصحيح مسلم برقم 89. (¬2) الروضة الندية (2/ 608).

1 - إقرار القاذف، ويثبت ذلك بإقراره مرة لكون إقرار المرء لازمًا له. 2 - شهادة عدلين كسائر ما تمضي فيه الشهادة، كما أطلقه القرآن. أما عقوبة القاذف الدنيوية والأخروية إذا لم يقم بينة على صحة ما قال: 1 - أن يجلد ثمانين جلدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور: 4]. روى أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَاكَ وَتَلَا تَعْنِي الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ (¬1). 2 - أن ترد شهادته دائمًا إلا إذا تاب وأصلح لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [النور: 4 - 5]. 3 - أن يكون من الفاسقين، قال تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}. 4 - يكون عند الله من الكاذبين، لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7]. 5 - أنه ملعون في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 23]. 6 - أن له عذابًا عظيمًا ادخره الله له يوم القيامة، لقوله تعالى: ¬

(¬1) برقم 4474، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 846) برقم 3756.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [النور]. 7 - تشهد عليه جوارحه زيادة في الخزي، والعار على رؤوس الأشهاد، لقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النور: 24]. 8 - إن الله تعالى يوفيهم جزاء فعلهم، ويجزيهم حساب عملهم من القدر المستحق من أنواع العذاب في نار جهنم لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين} [النور: 25]. أما شروط القاذف والمقذوف والتفاصيل في ذلك، فتراجع في مظانها في كتب الفقه. وعلى المسلم أن يحفظ لسانه عن القذف، والسب، والغيبة، وسائر الذنوب، فإن الحد إذا لم يؤخذ في الدنيا من صاحبه أُخر إلى يوم القيامة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا، يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» (¬1). وعندما ذكر الله قصة قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما في سورة النور، قال بعدها: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيم} [النور: 15]. وإذا اجتمع القذف مع الذنوب الأخرى كان مهلكًا لصاحبه. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6858، وصحيح مسلم برقم 1660 واللفظ له.

قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَاتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 2581.

الكلمة العاشرة: خطر الفتوى

الكلمة العاشرة: خطر الفتوى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الفتوى في الإسلام لها أهمية عظيمة لأنها إخبار عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله أو رسوله أحلَّ كذا، أو حرَّم كذا، ولأن القول على الله بغير علم من الكذب على الله - سبحانه وتعالى -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 23]. وقد عرف العلماء الفتوى بأنها بيان الحكم الشرعي من غير إلزام، فالمفتي يترك العمل بالفتوى، أو عدم العمل بها لما يكون من ورع المستفتي وتقواه فلا يُسْأَلُ عن ذلك، «والفتوى مكانها عند الله عظيم، تولاها الله بنفسه في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [النساء: 176]. وقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127]. وتولاها الرسول صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون يسألونه صلى الله عليه وسلم ويفتيهم ثم بعد ذلك تولاها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عمر بن الخطاب إذا عرضت مشكلة، جمع لها المهاجرون والأنصار

يستشيرهم فيها، فبعد الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أهل العلم الصحيح وليس العلم المزيف أو العلم المدعى أو التسمي بالعلم، أو الثقافة كما يسمونها أو المفكر الإسلامي فلان، أو من كان حاصلًا على شهادة دراسية، ليس هذا من أهل الفتوى. فالذي يتولَّى الفتوى ويصدرها هو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المطلع على أقوال العلماء ليختار منها ما قام عليه الدليل، ولا يفتي إلا عند الحاجة قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل: 43]. وأهل الذكر هم العلماء، والذكر هو الوحي» (¬1). أما الفتوى فإن خطرها عظيم، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون} [النحل: 116]. قال الشافعي: «ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب، أو في السنة، أو في الإجماع، أو القياس على هذه الأصول، وما في معناها، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون} [يونس: 59 - 60]» (¬2). قال ابن كثير: «وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، ¬

(¬1) آداب المفتي والمستفتي، للشيخ صالح الفوزان (ص: 12 - 13)، أعدها للنشر: فهد ابن إبراهيم الفعيم. (¬2) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/ 59).

أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة» (¬1). وفي هذا العصر تساهل الناس في تلقي الفتوى، فصار لكل قناة من القنوات الإذاعية مفت أو أكثر، والقنوات الفضائية صار لها مفت أو أكثر، وكذلك الجرائد والمجلات التي تنشر الفسق، والفجور لها مفت، والذين يفتون المثقفون، والأطباء، والصحفيون، والمهندسون .. وغيرهم من الجهال (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬3). ولذلك كان السلف يكرهون الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ أحدهم عن المسألة، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه. وفي رواية: فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول» (¬4). قال الإمام أحمد: «من عرض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (7/ 373). (¬2) الفتوى بين مطابقة الشرع، ومسايرة الأهواء، للشيخ صالح آل الشيخ ص: 9. (¬3) صحيح البخاري برقم 100، وصحيح مسلم برقم 2673. (¬4) سنن الدارمي (1/ 53)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 163).

عظيم إلا أنه قد تلجئ إليها الضرورة، قيل له: فأيما أفضل الكلام أو السكوت؟ قال: الإمساك أحبُّ إليَّ، قيل له: فإذا كانت ضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له. وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره، ونهيه، وأنه موقوف، ومسؤول عن ذلك، وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، «وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: (لا أدري)، فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: (لا أدري)، قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألت مالكًا؟ وقال: (لا أدري)» (¬1). وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ لِبَعضِ المُفتِينَ: «إِذَا سُئِلتَ عَن مَسأَلَةٍ، فَلَا يَكُنْ هَمُّكَ تَخلِيصَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ تَخلِيصَ نَفسِكَ أَوَّلًا» (¬2). ومن الأسباب التي أدت إلى التساهل في الفتوى: أولًا: حب الظهور وبريق الشهرة، فصاحب الفتاوى المتساهلة تزداد شعبيته، وتكثر جماهيره، ويُثنى عليه بأنه معتدل، وأنه يمثل المنهج الوسطي ... وغير ذلك من العبارات البراقة، بينما صاحب الورع والفتوى المستندة إلى الأدلة الشرعية يوصف بأنه متشدد، وأنه لا يعرف إلا لغة التحريم، وأنه يشق على الناس ويثقل عليهم. ثانيًا: الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (8/ 77). (¬2) ذم المال والجاه، للحافظ ابن رجب الحنبلي ص: 38.

وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل. ثالثًا: عدم استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها، فيسأل بعضهم عن مسألة معينة، ويشاهده الملايين من البشر، ومع ذلك يجيب مباشرة ولو عرضت مسألته على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر. رابعًا: العجلة وعدم التأني والنظر والتأمل، فبعض المفتين في القنوات الفضائية يُسأَلُ عن أربع، أو خمس مسائل دفعة واحدة، ثم يجيب إجابة سريعة، «ويذكرون عن الشيخ محمد بن إبراهيم أنه كان لا يفتي وهو واقف إلا ما ندر، ولا يفتي وهو في السيارة، وإنما كان إذا أراد أن يفتي تربع واستحضر ذهنه واستجمع فتواه، وطلب من السائل أن يُلقي عليه المسألة، فعند ذلك يفتي، وكان المشايخ يروون عنه أنه ربما أَخَّرَ الفتوى شهرًا إذا كان لها صلة بأمر عظيم حتى ينظر فيها، ويستخير» (¬1). خامسًا: إرضاء الكفار، والظلمة، وأهل الفسق والفجور، وذلك لأجل الحصول على شيء من متاع الدنيا وحطامها الفاني، إما منصب، أو مال، أو غير ذلك، وهذا حال علماء السوء، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِين} [التوبة: 62]. ومن صور التساهل في الفتوى: أن بعضهم يرى إباحة الربا المنتشر لدى البنوك اليوم بكل صوره وأشكاله، وآخر يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وثالث يرى أنه لا ينبغي إقامة ¬

(¬1) الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء، للشيخ صالح آل الشيخ ص: 11.

حد الردة على المرتد في هذا الوقت لعدم مناسبته، ورابع يرى إباحة الغناء والمعازف، وخامس يرى جواز إرضاع الكبير بدون ضوابط، وسادس يرى جواز نكاح المرأة نفسها بدون ولي ولا شهود وذلك وسيلة إلى انتشار الزنا، بل وصل الأمر بأحدهم إلى أن قال: ما المانع أن يُبنَى كنيسة، ومعبد، ومسجد في مكان واحد، وكل يعبد ربه بطريقته الخاصة؟ ! وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» (¬1). الخلاصة: أن المؤمن يجب عليه أن يحتاط لدينه، فإذا أُشْكِلَ عليه شيء سأل العالم الذي يثق به في دينه، ولا يسأل من هب ودب ممن لا تبرأ الذمة بسؤالهم، فإن الأمر دين، وكما قال محمد بن سيرين: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم 2229، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1582. (¬2) مقدمة صحيح مسلم ص: 24.

الكلمة الحادية عشرة: الإتقان

الكلمة الحادية عشرة: الإتقان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد أخبر سبحانهأنه خلق هذا الكون بسمائه، وأرضه، وجباله، ونجومه وخلقه من الجن والإنس، وأتقن ذلك كله، قال تعالى: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} [يس: 40]. وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون} [النمل: 88]. وقال تعالى عن الإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} [التين: 4]. وقال تعالى عن الخلق: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]. وقال عن كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} [هود: 1]. والإتقان هو عمل الشيء على أحسن وجه، وقد وردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي تَحُثُّ المسلم على الإتقان في عبادته، وعمله وسائر شؤونه الدينية، والدنيوية، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]. روى أبو يعلى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ» (¬2). والمتأمِّل في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم يَجِدُ أَنَّ عِبَادَتَهُ مُتقَنَةٌ. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: مَا كَانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ (¬3). وحثَّ أُمَّته على إتقان العبادة، فقال: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خَمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا» (¬4). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا» (¬5). وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا حفظوا آيات من القرآن لم ينتقلوا إلى ¬

(¬1) برقم 4386، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1113. (¬2) برقم 943. (¬3) صحيح البخاري برقم (3569)، وصحيح مسلم برقم (738). (¬4) سنن أبي داود برقم (796)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 151) برقم (714). (¬5) صحيح البخاري برقم (160)، وصحيح مسلم برقم (227).

غيرها حتى يتقنونها شرحًا وعملًا. روى ابن جرير الطبري في تفسيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشرَ آيَاتٍ، لَم يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالعَمَلَ بِهِنَّ (¬1). وفرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين العمل المتقن وغير المتقن. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ» (¬2). وليعلم أن الأجير لا يستحق أجرته، إلا إذا أدى عملًا كاملًا متقنًا، فإن نقص الإتقان نقصت الأجرة. وأداء العمل كاملًا متقنًا من الأمانة التي أُؤتمن عليها المؤمن ولا يلزم من إتقان العمل أن يأخذ وقتًا طويلًا، فقد يتقن العمل بوقت قصير، وقد حدث هذا لزيد بن ثابت. روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده من حديث خارجة بن زيد: أن أباه أخبره أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال زيد: ذُهب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأُعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأَعجَب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي» ¬

(¬1) تفسير الطبري (1/ 95). (¬2) صحيح البخاري برقم (4937)، وصحيح مسلم برقم (798) واللفظ له.

قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ (¬1). وقد يحتاج الإتقان إلى وقت طويل بحسب طبيعة العمل، فقد مكث ابن حجر في تأليف كتابه (فتح الباري) خمسة وعشرين عامًا، وابن عبد البر مكث في تأليف كتابه (التمهيد) ثلاثين عامًا، وطاف ابن حنبل الدنيا مرتين من أجل جمع المسند وأحاديثه ثلاثون ألف حديث، وقد انتقاه من سبع مئة ألف حديث، والبخاري رحمه الله أتقن ترتيب كتابه صحيح البخاري على الأبواب الفقهية أيما إتقان، وكان لا يضع حديثًا حتى يصلي ركعتين. ومن فوائد الإتقان: 1 - براءة الذمة بالقيام بالعمل متقنًا من غير نقص، ولا خلل. 2 - الحصول على محبة الله لأن الله يحب العمل المتقن. 3 - أن كل إنسان مؤمن لو قام بالعمل الذي كُلِّف به متقنًا له، لما وصلت الأمة الإسلامية إلى التأخُّر الذي نعيشه هذه الأيام. 4 - أن كل إنسان يعمل بجد يجد ثمرة عمله، والكفار لما أتقنوا أمورهم الدنيوية من صناعة الأجهزة، والأسلحة الحديثة، وغيرها وصلوا إلى ما يريدون، قال تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (3645)، ومسند الإمام أحمد (35/ 490) برقم (21618) واللفظ له، وقال محققوه: إسناده حسن.

5 - أن العمل القليل المتقن خير من العمل الكثير الذي لم يتقن، فالإتقان أهم من الكثرة، وهذا ينطبق على كل عمل من أعمال الدنيا والآخرة. 6 - استحقاق الأجرة ظاهرًا وباطنًا. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية عشرة: السرقة

الكلمة الثانية عشرة: السرقة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الذنوب العظيمة التي حرَّمها الله ورسوله، ورتب عليها الحد في الدنيا، والعقوبة في الآخرة (السرقة)، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [المائدة: 38]. والسارق ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» (¬1) (¬2). قال ابن حجر: «عَدُّ السرقة من الكبائر، وهو ما اتفق عليه العلماء وصرحت به الأحاديث» (¬3). والسارق من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ مالًا لغيره (¬4). ¬

(¬1) برقم (6783)، وصحيح مسلم برقم (1687). (¬2) قال القاضي عياض: والصواب تأويله على ما تقدم من تقليل أمره، وتهجين فعله، وأنه إن لم يقطع في هذا القدر جرته عادته إلى ما هو أكثر منه، فتح الباري (12/ 83). (¬3) الزواجر (564)، نقلًا عن كتاب نضرة النعيم لمجموعة من المختصين (10/ 4626). (¬4) القاموس المحيط (ص: 892 - 893).

ومما يدل على عظم جريمة السرقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ البيعة من أصحابه ألا يقعوا فيها. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا» (¬1). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السرقة منافية للإيمان. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيهِ فِيهَا أَبصَارَهُم، وَهُوَ مُؤْمِنٌ» (¬2). قال القرطبي: «والحديث يتضمن التحرز من ثلاثة أمور وهي من أعظم أصول المفاسد، وأضدادها من أصول المصالح وهي استباحة الفروج المحرمة، وما يؤدي إلى اختلال العقل، وخص الخمر بالذكر لكونها أغلب الوجوه في ذلك، والسرقة بالذكر لكونها أغلب الوجوه التي يؤخذ بها مال الغير بغير حق» (¬3). والسارق مُتَوَعَّدٌ بالنار. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في صلاة الكسوف قال: «مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (18)، وصحيح مسلم برقم (1709). (¬2) صحيح البخاري برقم (6772)، وصحيح مسلم برقم (57). (¬3) فتح الباري (12/ 62).

حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا (¬1)، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ (¬2) يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ» (¬3). كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فُطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به (¬4). والناس سواسية في إقامة حد السرقة وهو القطع. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُقْطَعَ يَدُهَا، فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَلَّمُوهُ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَتَشفَعُ فِي حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟ ! »، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: «أَيُهَا النَّاس! إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ! لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعتُ يَدَهَا» (¬5). وإذا رُفِعَتِ السَّرِقَةُ إلى الإمام، وجب الحد ولم ينفع التنازل. روى النسائي في سننه من حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلا سَرَقَ بُرْدَةً لَهُ، فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ¬

(¬1) أي: من ضرب لهبها. (¬2) المحجن: عصا معقفة الطرف. (¬3) القصب بالضم: المَعِي وجمعه أقصاب، وقيل: القصب اسم للأمعاء كلها، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء (النهاية في غريب الحديث 4/ 67). (¬4) ومعنى هذا: أنه يحتال للإفلات من العقوبة عند التنبه إليه باستخدام العصا المعقفة في السرقة، صحيح مسلم برقم (904). (¬5) صحيح البخاري برقم (6788)، وصحيح مسلم برقم (1688) واللفظ له.

قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهُ، فَقَالَ أَبَا وَهْبٍ، أَفَلا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَاتِينَا بِهِ، فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (¬1). وقد اعترض بعضهم على قطع يد السارق في ربع دينار، فقال: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ ... وَنَسْتَجِيرُ بِمَوْلَانَا مِنَ النَّارِ فأجابه بعض أهل العلم (القاضي عبد الوهاب المالكي) لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، وهناك بيت شعر منسوب إلى علم الدين السخاوي في الرد على أبي العلاء وهو يقول: عِزُّ الأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصُهَا ذُلُّ الخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ البَارِي ومن أعظم أنواع السرقة: (السرقة من بيت المال سواء كان ذلك مالًا أو عقارًا .. أو غير ذلك من الممتلكات)، وبيت مال المسلمين ملك للمسلمين جميعًا، وليس لفئة معينة من الناس، والقائمون عليه إنما هم أمناء في حفظه وتحصيله، وصرف لأهله، فلا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أن يَعتَدِيَ عليه، أو يأخُذَ منه ما لا يستحق، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]. روى البخاري في صحيحه من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). ¬

(¬1) برقم (4878)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 107) برقم (4532). (¬2) برقم (3118).

قال ابن حجر: «يتخوضون أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل وهو أعم من أن يكون بالقسمة وبغيرها، وفيه ردع للولاة أن يأخذوا من المال شيئًا بغير حقه أو يمنعوه من أهله» (¬1). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بيت مال المسلمين أعظم من مُلكِ واحدٍ معين، وذلك لأن سرقته خيانة لكل مسلم، بخلاف سرقة، أو خيانة رجل معين، فإنه بإمكانك أن تَتَحَلَّلَ مِنهُ وَتَسلَمَ (¬2). ومنها سرقة الكهرباء، والماء، وذلك بإيقاف العداد لأن بعض الناس يظن أن له الحق في التهرب من ذلك، بحجة أنه لم يعط حقه من بيت المال. ومنها استعمال الأجهزة الكهربائية، والسيارات، وغيرها التي تخص بيت المال لأغراض شخصية، ولا يكفي التوبة، بل لا بد من رد الحقوق إلى بيت مال المسلمين. سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حكم استعمال السيارات الحكومية للأعمال الخاصة بالموظفين؟ مع الإحاطة أنه يُصرف لمستعملها جميع متطلباتها من محروقات، ويُعمل لها صيانة دورية، ويُصرف لمستعملها بدل نقل شهري مع الراتب؟ آمل من فضيلتكم توضيح المسألة شرعًا، وتوجيه نصيحة لمستعملها. فكانت الإجابة: «لا يجوز استعمال السيارات الحكومية ¬

(¬1) فتح الباري (6/ 219)، باختصار. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستنقع (14/ 354)، مختصرًا.

المخصصة للدوائر في أغراض الشخص الخاصة، وإنما تستعمل فيما خصصت له من العمل الحكومي لأن استعمالها في غير ما خُصصت له استعمال بغير حق» (¬1). ومنها: سرقة المشاريع الحكومية إما بالتحايل على عدم تنفيذها، أو تنفيذها بشكل سيئ، أو تقدير تكاليفها بأضعاف القيمة الحقيقية. ومنها: الاعتداء على الأراضي المخصصة للمرافق الحكومية، والاستيلاء عليها بطريقة، أو بأخرى. ومنها: أخذ بعض الموظفين بدل خارج دوام، أو انتداب وهم لم يعملوا، أو يسافروا، سُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن هذا، قال السائل: أنا موظف أعمل في إحدى الدوائر الحكومية وأحيانًا يصرف لنا بدل خارج وقت الدوام من إدارتنا بدون تكليفنا بالعمل خارج وقت الدوام، وبدون حضورنا للإدارة، ويعتبرونه مكافأة للموظفين بين الحين والآخر، مع العلم أن رئيس الإدارة يعلم عنه ويقره، فهل يجوز أخذ هذا المال؟ وإذا كان لا يجوز، فكيف أعمل فيما استعملته من أموال في السابق، مع العلم أني قد تصرفت فيها؟ جزاكم الله خيرًا. الجواب: إذا الواقع ما ذكرت فذلك منكر لا يجوز، بل هو من الخيانة، والواجب رد ما قبضت من هذا السبيل إلى خزينة الدولة، فإن لم تستطع فعليك الصدقة به في فقراء المسلمين، وفي المشاريع الخيرية مع التوبة إلى الله سبحانه، والعزم الصادق ألا تعود في ذلك، ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء برقم (16594).

لأنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ شيئًا من بيت مال المسلمين إلا بالطرق الشرعية التي تعلمها الدولة وتقرها (¬1). اهـ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فتاوى ومقالات متنوعة، للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (19/ 344) برقم (207).

الكلمة الثالثة عشرة: فضل الأذان والمؤذنين

الكلمة الثالثة عشرة: فضل الأذان والمؤذنين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن شعائر الإسلام العظيمة التي جاء بها، الأذان، وهو الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة (¬1). قال القرطبي وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشرك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول وتيسره لكل أحد في كل زمان ومكان (¬2). اهـ روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أنه كان يقول: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 77). (¬2) فتح الباري (2/ 77).

مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَ لَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ! قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، وفيه: فأُري عبد الله بن زيد الأذان في المنام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»، قَالَ: فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ، وَيُؤَذِّنُ بِهِ، قَالَ: فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُول اللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ» (¬2). وقد دَلَّتِ النُّصُوصُ على فضل الأذان، ووجوبه. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ (¬3). قال الخطابي رحمه الله: وفيه أن الأذان شعار الإسلام وأنه لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على تركه كان للسلطان قتالهم عليه (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (604)، وصحيح مسلم برقم (377). (¬2) برقم (499)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 469. (¬3) صحيح البخاري برقم (610)، وصحيح مسلم برقم (382). (¬4) فتح الباري (2/ 90).

ومما ورد في فضل الأذان والمؤذنين: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّاذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ (¬1) بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ، لَاسْتَهَمُوا» (¬3). وفي صحيح مسلم من حديث معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬4). وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري عن أبيه: أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ لِلصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬5)، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَد دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلمُؤَذِّنِينَ وَالأَئِمَّةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» (¬6). ¬

(¬1) قال الجمهور: المراد بالتثويب هنا الإقامة. (¬2) صحيح البخاري برقم (608)، وصحيح مسلم برقم (389). (¬3) صحيح البخاري برقم (615)، وصحيح مسلم برقم (387). (¬4) برقم (387). (¬5) برقم (3296). (¬6) سنن أبي داود برقم (517)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (237).

وروى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر مرفوعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَذَّنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَكُتِبَ لَهُ بِتَاذِينِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَبِإِقَامَتِهِ ثَلاثُونَ حَسَنَةً» (¬1). قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: «وفي هذا الحديث فضل ظاهر للمؤذن على أذانه هذه المدة المذكورة فيه، ولا يخفى أن ذلك مشروط بمن أذَّن خالصًا لوجه الله تعالى، لا يبتغي من ورائه رزقًا، ولا رياءً، ولا سمعةً، للأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة، التي تفيد أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له، وإن مما يؤسف له حقًا أن هذه العبادة العظيمة، والشعيرة الإسلامية قد انصرف أكثر علماء المسلمين عنها في بلادنا، فلا تكاد ترى أحدًا منهم يؤذن في مسجد ما، إلا ما شاء الله، بل ربما خجلوا من القيام بها، بينما تراهم يتهافتون على الإمامة، بل ويتخاصمون، فإلى الله المشتكى من غربة هذا الزمان» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَاسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ، يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ» (¬3). ومن الآداب التي ينبغي أن يتصف بها المؤذن: 1 - أن يحتسب في أذانه ولا يأخذ على أذانه أجرًا. روى ¬

(¬1) برقم 728، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 42. (¬2) السلسلة الصحيحة (1/ 104). (¬3) برقم 1203، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 41.

الترمذي في سننه من حديث عثمان بن أبي العاص قال: إِنَّ مِن آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجرًا (¬1). قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرًا، واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه (¬2). اهـ. والأجر المنهي عن أخذه هو ما يؤخذ من شخص، أو أشخاص على سبيل المعاوضة، وأما الذي يعطى للأئمة والمؤذنين من بيت مال المسلمين فهو رزق حلال. 2 - أن يكون على طهارة، وأن يؤذن قائمًا، وأن يستقبل القبلة، وأن يضع إصبعيه في أذنيه، وأن يلتفت يمينًا وشمالًا التفافًا يسيرًا يلوي به عنقه، ولا يحول صدره عن القبلة عند قوله (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، وأن يؤذن في مكان مرتفع، وأن يرفع صوته بالأذان، وأن يتمهل في أذانه ويترسل. 3 - أن يكون دقيقًا في تحري وقت الأذان، لأنه مؤتمن على صلاة الناس وصيامهم، وفطرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» (¬3). وأن يواظب على أداء الأذان في أوقاته، وعدم توكيل الغير إلا عند الحاجة إلى ذلك، ¬

(¬1) برقم (209)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) سنن الترمذي ص: 55. (¬3) سنن أبي داود برقم 517، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 215) برقم 237.

وإذا احتاج إلى التوكيل فلا يوكل إلا من كان أهلًا لذلك. ومن المخالفات والأخطاء التي يقع فيها بعض المؤذنين: 1 - اللحن في الأذان، وهو أن ينطق كلمات الأذان نطقًا يتغير به المعنى، أو نطقًا غير صحيح، فمن الأول: أن يمد الباء في الله أكبر، وقد نهى العلماء عنه نهيًا شديدًا لأن أكبار هو الطبل، والواجب أن يجزم فيصل الراء بالباء من غير مد، ومن الثاني: أن يستبدل بالهاء الحاء، وبالدال الطاء في «أشهد»، فيقول: أشحط، وهذا يكثر في إخواننا الأعاجم الذين لم يتعلموا النطق العربي الصحيح، وكذلك يوجد في بعض الأعراب من يقول: زدزامت الصلاة، بدلًا من «قد قامت الصلاة». ومن اللحن أيضًا: ترك إدغام النون في اللام من قوله: «أشهد أن لا». ومنها أيضًا: ترك التنوين في حرف الدال من «أشهد أن محمدًا»، ويستبدل به إسكان الدال. ومنها عدم تحقيق الحاء في كلمة الفلاح وتسمع وكأنها هاء .. ونحو ذلك. 2 - التغني والتمطيط الخارج عن لحون العرب إلى درجة التكلف، وكراهية ذلك عند السلف، قال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا (¬1). وقد ذُكِرَ أنه كان بالحرم المكي مُؤَذِّنٌ يُؤَذِّنُ أذانًا سمحًا من غير تكلُّفٍ، بخلاف سائر مؤذني الحرم الذين جعلوا لأذان الحرم قواعد للتطريب، وإخراج الحروف كما هو الحال الآن، ¬

(¬1) صحيح البخاري، باب رفع الصوت بالنداء.

فبعث الشيخ محمد ابن إبراهيم مفتي الديار السعودية في ذلك الوقت بكتاب إلى رئيس مؤذني المسجد الحرام بأن يُؤَذنوا على نحو ذلك المؤذن ويتركوا ما هم عليه، وهذا نص الفتوى: «من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس مؤذني المسجد الحرام بمكة المكرمة .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد، بعد أن تبلغوا جميع مؤذني المسجد الحرام أن يؤذنوا أذانًا سمحًا سهلًا، ويجتنبوا المد والتمديد، إن هذا التمديد والمط الذي يستعملونه الآن في الأذان مخل بشرعيته، فعليهم اجتناب ذلك والتمشي بما يوافق الشرع، وأن يكون أذانهم مثل المؤذن الذي يؤذن في زمزم حالًا، وعليكم إخبارهم بذلك، ومراقبتهم عن الإخلال به. والسلام عليكم» (¬1). وقد سأل أحد الإخوة اللجنة الدائمة للإفتاء فقال: «أحب الطريقة التي يُؤدى بها أذان الحرم المعروف، والمسجل على مقدمة أشرطة القرآن بالمملكة، وأستطيع أن أقوم بأدائه بنفس الطريقة، وأخبرني بعض من سمعه مني بالمسجد بأنهم يحبون ذلك، وأنه يثير في نفوسهم الشوق والحنين إلى أرض الحرمين، وبعض الناس يدعون لي حين يسمعه مني، ويستحسن ذلك الأذان، غير أن بعض إخواننا ذكر لي أن هذه الطريقة فيها لحن، وتمطيط، ومد زائد عن المعروف في قواعد التجويد، فأصبحت متحرجًا عندما أقوم بالتأذين بطريقة مؤذن الحرم المشهورة، فهل علي إثم في ذلك؟ أم أن هذه الطريقة لا بأس بها، ولا حرج فيها؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا». ¬

(¬1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (2/ 94).

فكانت الإجابة: «الأذان من شعائر المسلمين العظيمة، فهو محض عبودية من العبد لله تعالى، ولهذا فعلى المؤذن أداؤه كما شرع بصوت سمح، سهل، غير متكلف، ولا ملحون، ولا يخرجه مخرج الغناء، ولا يمده مدًا يخرجه عن المقصود منه، بل يؤديه المؤذن بصوته، مراعيًا شروطه وآدابه الشرعية، وتكلف أداء الأذان بتقليد صوت مؤذن آخر، غير معروف في هدي السلف الصالح» (¬1). 3 - زيادة لفظة (سيدنا وحبيبنا) وأمثالهما في تشهدي الأذان والإقامة، فلا تجوز الزيادة على ألفاظ الأذان بأذكار أخرى لا قبله ولا بعده يرفع بها المؤذن صوته، فكل ما يفعل غير الأذان الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو بدعة محرمة، يحرم فعله، ويجب إنكاره على من فعله. 4 - زيادة حي علي خير العمل، فهي وإن كان معناها صحيحًا، إلا أنها لم تثبت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحي على الصلاة، حي على الفلاح تغني عنها، والواجب على الخلق أن يستقيموا كما أراد الله، لا كما يريدون، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، ولم يقل: كما أردت. 5 - الأذان المسجل الذي يعلن عبر مكبرات الصوت في عدد من المساجد، وهو من البدع المنكرة التي أحدثت في العالم الإسلامي. 6 - رفع المؤذن صوته بالتبليغ من غير حاجة إلى ذلك، فبعضهم ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة، (5/ 55 - 56) برقم (20579).

بالرغم من صغر المسجد أو ارتفاع صوت الإمام، ومع ذلك يقوم بالتبليغ، وأما تبليغ أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان للحاجة إلى ذلك. تنبيه .. ينبغي أن يكون المؤذن عدلًا، أهلًا لما وُكِّلَ إليه، لأنه مؤتمن على ذلك، وعليه سوى واجبات الأذان، حقوق الإمامة وواجباتها، لأنه تشمله لقيامه بالإمامة عند غياب الإمام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة عشرة: شرح حديث «ما ذئبان جائعان»

الكلمة الرابعة عشرة: شرح حديث «ما ذئبان جائعان» الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» (¬1). هذا الحديث الشريف شرحه الحافظ ابن رجب في رسالة لطيفة بعنوان (ذم المال والجاه)، وقد نقلت من كلامه ما تيسر لي في هذه الكلمة. فهذا مثل عظيم جدًّا ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المؤمن بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين ضاريين باتا في الغنم قد غاب عنها رعاتها ليلًا، فهما يأكلان الغنم ويفترسانها، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه قليل. فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا. والحرص على المال نوعان: أحدهما: شدة محبة المال مع شدة ¬

(¬1) (25/ 62) برقم 15784، وقال محققوه: إسناده صحيح.

طلبه من وجوهه المباحة، والمبالغة في طلبه، والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة، فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره، ويبقى حسابه عليه، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره، قال الشاعر: وَمَنْ يُنْفِقِ الأَيَّامَ فِي جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الفَقْرُ وَلَا تَحْسَبَنَّ الفَقْرَ فَقْرَ مِنَ الغِنَى ... وَلَكِنْ فَقْرُ الدِّينِ مِنْ أَعْظَمِ الفَقْرِ النوع الثاني من الحرص على المال: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} [الحشر: 9]. وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» (¬1). قال طائفة من العلماء: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ويمنعها حقوقها، وحقيقته أن تتشوف النفس إلى ما حرم الله، ومنع منه، وأن لا يقنع الإنسان بما أحل الله له من مال، أو فرج، أو غيرهما. ¬

(¬1) برقم 1698، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 318) برقم 1489.

وأما حرص المرء على الشرف، فهو أشد هلاكًا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس، والعلو في الأرض، أضر على العبد من طلب المال وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف، وهو قسمان: أحدهما: طلب الشرف بالولاية، والسلطان، والمال، وهذا خطر جدًّا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها، وكرامتها، وعزها، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [القصص: 83]. وقل من حرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات أن يوفق، بل يوكل إلى نفسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» (¬1). والحرص على الشرف بطلب الولايات يستلزم ضررًا عظيمًا قبل وقوعه في السعي في أسبابه، وبعد وقوعه بالخطر العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر .. وغير ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب أيضًا أن يحب ذو الشرف والولاية أن يُحمد على أفعاله ويُثني عليها، ويطلب من الناس ذلك ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما أظهر أمرًا حسنًا في الظاهر وأحب المدح عليه، وقصد به في الباطن شرًّا. النوع الثاني: من الحرص على الجاه: طلب الشرف والعلو على ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6622، وصحيح مسلم برقم 1652.

الناس بالأمور الدينية كالعلم، والعمل، والزهد، فهذا أفحش من الأول وأقبح وأشد فسادًا وخطرًا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يُطلب بها ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقرب منه، والزلفى لديه. قال الثوري: إنما فضل العلم لأنه يُتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء. وطلب العلم للدنيا على نوعين: فإذا طلب بشيء من هذا عرض الدنيا الفاني، فهو أيضًا نوعان أحدهما: الأول: أن يطلب به المال، فهذا من نوع الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرمة. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - يَعْنِي رِيحَهَا -» (¬1). الثاني: من يطلب بالعمل، والعلم، والزهد، الرئاسة على الخلق والتعاظم عليهم، وأن ينقاد الخلق ويخضعوا له ويصرفوا وجوههم إليه، وأن يظهر للناس زيادة علمه على العلماء، أو ليعلوا به عليهم ونحو ذلك، فهذا وعيده النار لأن قصده التكبر على الخلق في نفسه محرم، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة، كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان. روى الترمذي في سننه من حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ¬

(¬1) برقم (3664)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 697) برقم (3112).

«مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» (¬1). ومن هذا الباب كراهة أن يشعر الإنسان بالعلم، والزهد، والدين، أو بإظهار الأعمال والأقوال حتى يراد وتلتمس بركته ودعاؤه وتقبَّل يده، وهو محب لذلك ويقيم عليه ويفرح به ويسعى في أسبابه، ومن هنا كان السلف الصالح يكرهون الشهرة غاية الكراهة، منهم: أيوب، والنخعي، وسفيان وأحمد، .. وغيرهم، كان أويس وغيره من الزهاد إذا عُرفوا في مكان ارتحلوا عنه، وكان خالد بن معدان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة، وقال الإمام أحمد بن حنبل: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أُعرف قد بليت بالشهرة، وكان كثير منهم يكره أن يُطلب منه الدعاء ويقول لمن يسأله الدعاء: أي شيء أنا؟ وكتب رجل إلى أحمد يسأله الدعاء، فقال أحمد: إذا دعونا نحن لهذا، فمن يدعو لنا». وأما تسابق وتنافس بعض الناس على الظهور الإعلامي سواء كان في القنوات، أو شبكات التواصل، أو غيرها من الوسائل وحب التكاثر في أعداد المتابعين والحرص على ذلك، فإنه يخشى على صاحبه مما سبق ذكره عن السلف. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 2654، وحسنه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 77) برقم 225.

الكلمة الخامسة عشرة: فضل العبد التقي الخفي

الكلمة الخامسة عشرة: فضل العبد التقي الخفي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد وردت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تبين فضل العبد التقي الغني الخفي. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عامر بن سعد قال: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ، قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ، فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» (¬1). والمراد بالتقي: هو من اتقى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والغني: هو الذي يستغني عن الناس ويقنع بما رزقه الله، والخفي: هو الذي يبتعد عن مواضع الظهور والشهرة. روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ » قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ¬

(¬1) برقم (2965).

ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ » قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» (¬1). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» (¬2). وقد وردت آثار عن السلف بالتحذير من طلب الشهرة، لأنه يخشى على صاحبها من الرياء، والعجب، والغرور، وأن المحمود خمول الذكر إلا من شهره الله لنشر دينه من غير حرص منه. قال القاضي عياض: من أحب أن يُذكر لم يذكر، ومن يكره أن يُذكر ذُكِر (¬3). قال علي بن أبي طالب: تبذل ولا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار، وتغيظ الفجار (¬4). وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يُشعر بمكانه (¬5). وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبد أحب الشهرة. قال الذهبي معلقًا عليه: علامة المخلص الذي قد يحب شهرة، ولا يشعر بها، أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد (أي: لا يغضب)، ولا يُبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، ولا يكن معجبًا بنفسه، لا يشعر بعيوبها، فإن هذا داء مزمن (¬6). وقال المروذي: قال لي ¬

(¬1) برقم (5091). (¬2) برقم (2622). (¬3) سير أعلام النبلاء (8/ 432). (¬4) إحياء علوم الدين (3/ 2145). (¬5) إحياء علوم الدين (3/ 2146). (¬6) سير أعلام النبلاء (7/ 393).

أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك فإني قد بُليت بالشهرة (¬1). وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد (¬2). وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أُبي بن كعب نمشي خلفه، إذ رآه عمر فعلاه بالدرة فقال: انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال: إن هذه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع (¬3). وقال الثوري: كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة، والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعًا. وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك (¬4). قال الذهبي: إيثار الخمول، والتواضع، وكثرة الوجل، من علامات التقوى والفلاح (¬5). روى مسلم في صحيحه من حديث أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَاتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَاتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 226). (¬2) سير أعلام النبلاء (11/ 226). (¬3) إحياء علوم الدين (3/ 2146). (¬4) إحياء علوم الدين (3/ 2146). (¬5) سير أعلام النبلاء (11/ 226).

عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عُمَّالِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ، قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَاتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَأَتَى أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَأَىهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ لِأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟ (¬1). والآثار في هذا كثيرة لمن تتبعها وهي تدل على إخلاصهم، وحرصهم على إخفاء أعمالهم، وخمول ذكرهم عند الناس، فإن ذلك أقرب إلى القبول. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2542).

الكلمة السادسة عشرة: ولي الأمر .. حقوق، وواجبات

الكلمة السادسة عشرة: ولي الأمر .. حقوق، وواجبات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الله تعالى شرع لعباده على لسان أفضل رسله شريعة كاملة في نظامها وتنظيمها كاملة في العبادات، والحقوق، والمعاملات كاملة في السياسة، والتدبير والولايات، وجعل الله تعالى الولاية فيها فرض كفاية سواء كانت في الشريعة كالقضاء بين الناس بما يقتضيه الشرع، أم في التنفيذ كالإمارة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]. فأولو الأمر صنفان من الناس: أحدهما العلماء والثاني الأمراء، فلا بد للأمة من علماء يقودونها إلى شريعة الله بيانًا، وإيضاحًا، تعليمًا، وتربية، ولا بد للأمة من أمراء يطاعون في غير معصية الله، وإذا لم يكن للأمة علماء، ولم يكن لهم أمراء، صارت في جهل عميق، وفوضى شديدة، وفسدت الأمة، قال الشاعر: لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» (¬1). ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 2608، وقال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (2/ 494) برقم 2272: حسن صحيح.

فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم التأمير في السفر مع أنه اجتماع عارض غير مستقر، فكيف في الاجتماع المستقر، إذًا لا بد للأمة من ولي أمر يبين لها الحق وذلك هم العلماء، ولا بد للأمة من ولي أمر يلزمها بتنفيذ شريعة الله، ويسوسها بما تقتضيه المصلحة وهم الأمراء (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نُعْموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم (¬2). اهـ ومما ورد في فضل الوالي العادل، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» .. وذكر منهم: «إِمَامٌ عَادِلٌ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ، مُتَصَدِّقٌ، مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ» (¬4). وقد دلت النصوص الشرعية أن الولاية أمانة يجب القيام بها حق القيام، وإلا فإن صاحبها في خطر عظيم. فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

(¬1) خطب الشيخ ابن عثيمين (4/ 70 - 71). (¬2) السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص: 37. (¬3) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031). (¬4) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم 2865.

خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، إِلَّا أَتَى اللَّهَ عز وجل مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). وروى البخاري ومسلم من حديث معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬3). أما حقوق ولي أمر المسلمين وواجباته، فقد لخَّصها أبو يعلى الفراء رحمه الله فقال: ويلزم الإمام من أمور الأمة عشرة أشياء: أولًا: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة، وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل. ثانيًا: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم حتى تظهر النصفة؛ فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. ثالثًا: حماية البيضة، والذب عن الحوزة، ليتصرف الناس في ¬

(¬1) برقم (1825). (¬2) (36/ 635) برقم 22300، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬3) صحيح البخاري برقم (150)، وصحيح مسلم برقم (142) واللفظ له.

المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين. رابعًا: إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف، واستهلاك. خامسًا: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا، ويسفكون فيها دمًا لمسلم، أو معاهد. سادسًا: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم، أو يدخل في الذمة. سابعًا: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا، واجتهادًا من غير عسف. ثامنًا: تقدير العطاء وما يُستحق في بيت المال من غير سرف، ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه، ولا تأخير. تاسعًا: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال مضبوطة، والأموال محفوظة. عاشرًا: أن يباشر بنفسه مشارعة الأمور، وتصفح الأحوال بينهم بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلًا بلذة، أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]. فلم يقتصر سبحانهعلى التفويض دون المباشرة،

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَسْؤُوْلٌ عَن رَعِيَّتِه» (¬1). وإذا قام بحقوق الأمة وجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة، والذي يخرج به عن الإمامة شيئان: الجرح في عدالته، والنقص في بدنه (¬2). اهـ (¬3) ومن الأمثلة على الخلفاء الذين تولوا أمور المسلمين، فقاموا بها حق القيام: الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد روى ابن أبي شيبة من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: انْظُرُوا مَا زَادَ فِي مَالِي مُنْذُ دَخَلْتُ فِي الْخِلَافَةِ، فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِي، فَإِنِّي قَدْ كُنْتُ أَسْتَحِلُّهُ، وَقَدْ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنَ الْوَدَكِ نَحْوًا مِمَّا كُنْتُ أَصَبْتُ مِنَ التِّجَارَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا مَاتَ نَظَرْنَا، فَإِذَا عَبْدٌ نُوبِيٌّ يَحْمِلُ صِبْيَانَهُ، وَنَاضِحٌ كَانَ يَسْقِي عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا بِهِمَا إِلَى عُمَرَ، قَالَتْ: فَأَخْبَرَنِي جَدِّي، أَنَّ عُمَرَ بَكَى وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ تَعَبًا شَدِيدًا (¬4). ومنها: الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي إحدى السنوات أصيب الناس في عهده بمجاعة شديدة أجدبت الأرض، واسودت، وانقطع المطر، وسمي ذلك العام عام الرمادة، فكان يأكل الخبز والزيت، وينقر بطنه بأصبعيه، ويقول: إنه ليس عندنا غيره حتى ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2558)، وصحيح مسلم برقم (1829). (¬2) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفراء (ص: 27 - 28). (¬3) وتنزيل ذلك على الواقع راجع لأهل الحل والعقد من العلماء وذوي الشأن. (¬4) (7/ 15) برقم (22619)، وقال الحافظ في فتح الباري (4/ 304): إسناده صحيح.

يحيا الناس (¬1). وكان يقول: «لو مات جمل ضياعًا على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه» (¬2). قال محمد بن سيرين: قدم صهر لعمر عليه، فطلب أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر، وقال: أردت أن ألقى الله ملكًا خائنًا؟ ثم أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم (¬3). وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن ميمون الأنصاري أنه قال: شهدت عمر قبل موته بأيام وهو يقول: لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا، فما أتت عليه رابعة إلا وقد أصيب (¬4). ومنها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد روى الإمام أحمد في كتابه الزهد من حديث ميمون بن مهران قال: أخبرني الهمداني أنه رأى عثمان بن عفان عليه بغلة، وخلفه غلامه نائل وهو خليفة (¬5). وكذلك ما أخرجه من حديث الهمداني قال: رأيت عثمان بن عفان نائمًا في المسجد في ملحفه ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين (¬6)، كما أخرج من حديث شرحبيل بن مسلم: أن عثمان بن عفان كان يطعم ¬

(¬1) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص: 103. (¬2) الطبقات الكبرى، لابن سعد (3/ 305). (¬3) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص: 103 - 104. (¬4) برقم (3700). (¬5) كتاب الزهد (ص: 127). (¬6) كتاب الزهد (ص: 127).

الناس طعام الإمارة، ويدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت (¬1). ومنها: الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَوْمَ الْأَضْحَى، فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خَزِيرَةً (¬2)، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، لَوْ قَرَّبْتَ إِلَيْنَا مِنْ هَذَا الْبَطِّ - يَعْنِي: الْوَزَّ - فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَكْثَرَ الْخَيْرَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ زُرَيْرٍ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِلخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصعَتَانِ: قَصعَةٌ يَأكُلُهَا هُوَ وَأَهلُهُ، وَقَصعَةٌ يَضَعُهَا بَينَ يَدَيِ النَّاسِ» (¬3). ومنها: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وقد كان في مرض موته، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أقفرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم، فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم بضعة عشر ذكرًا ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بني! والله ما منعتكم حقًا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني، قال الراوي: فلقد رأيت بعض ولده حمل على مئة فرس في سبيل الله أغناه الله، وأعطى من ماله مئة فرس يجاهد عليها في سبيل الله. ¬

(¬1) كتاب الزهد (ص: 127)، وكتاب عثمان بن عفان. شخصيته، وعصره، للدكتور علي الصلابي (ص: 106). (¬2) لحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق. (¬3) (2/ 19)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (362).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثبته الله، ويحفظه الله في أهله، وفي ماله بعده، والمطيع لهواه بالعكس (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية بشرح الشيخ ابن عثيمين ص: 29.

الكلمة السابعة عشرة: التعليم: قواعد، وفوائد

الكلمة السابعة عشرة: التعليم: قواعد، وفوائد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال شيخ الإسلام: «العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا وإن سُمي به، ولئن كان علمًا نافعًا فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله، وخير منه» (¬1). والعلم النافع هو الذي أمر الله نبيه بالاستزادة منه، فعلَّمه أن يقول: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، ¬

(¬1) الفتاوى (10/ 664).

وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (¬1). وهذا النوع من العلم هو الذي أنزله الله لهداية البشر، فمن تمسك به اهتدى ومن تركه ضل، قال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب} [سبأ: 50]. ومنه: ما تعلمه والعمل به فريضة، كالعلم بالتوحيد، ومعنى الشهادتين وأركان الإسلام، والإيمان، ونحو ذلك مما هو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (¬2). وما سوى ذلك من العلم ففرض على الكفاية، أو فضيلة من الفضائل. ويجب لهذا العلم الإخلاص لله في تعلمه، فروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬3). يَعنِي: رِيحَهَا. وروى الترمذي في سننه من حديث ابن كعب بن مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، ¬

(¬1) برقم (3641)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 694) برقم (3096). (¬2) برقم (224) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 727) برقم (3914). (¬3) برقم (3664) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 697) برقم (31122).

أَدْخَلَهُ اللَّه النَّارَ» (¬1). أما علوم الدنيا فمنها ما هو مرتبط ببعض علوم الدين كالعلم بالحساب لمعرفة قسمة المواريث، والوصايا، وحكم هذا النوع حكم أصله. ومنها: ما لا تقوم مصالح الناس إلا به كالطب، والزراعة، والصناعة ونحوها، وحكم هذا النوع يختلف باختلاف ضرورة الناس له وحاجتهم إليه، وهذه العلوم الدنيوية ينبغي فيها ملاحظة أمرين: الأول: استحضار النية الصالحة لتعلمها، وتعليمها، لما فيه خير الإسلام والمسلمين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 162]. الثاني: أن يُراعى في تعلُّمها وتطبيقها أحكام الشريعة الإسلامية. ومن قواعد التعليم وأسسه التي يحصل بتطبيقها نيل ثمرة العلم: اختيار المعلم ولا سيما في مراحل التعليم الأولى، بأن يكون ديِّنًا فاضلًا ذا مروءة، وحسن خلق ليكون قدوة لطلابه، ويكون مربِّيًا خبيرًا، وأفضل معلِّمي البشر هم الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، هيأ الله لهم اكتساب الخبرة، والتجربة في ذلك. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» (¬2). يعني: القيراط الذي هو ¬

(¬1) برقم (2654) وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 77) برقم 225. (¬2) برقم (2262).

جزء من الدينار، أو الدرهم. قال العلماء: «والحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم، والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها، وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع، وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك، أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم» (¬1). ومنها: البدء بالأسهل من العلوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]. الرباني: هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره (¬2). قال العلامة ابن خلدون: «ومن المذاهب الجميلة، والطرق الواجبة في التعليم: ألَّا يُخلط على المتعلم علمان معًا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معًا، ويُستصعبان، ويعود منهما بالخيبة، وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرًا عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله» (¬3). ¬

(¬1) فتح الباري، لابن حجر (4/ 441). (¬2) تفسير القرطبي (5/ 184). (¬3) مقدمة ابن خلدون (ص: 599).

وقد جرت عادة المسلمين في جميع الأقطار والأمصار، البدء في تعليم الولدان بالقرآن الكريم. قال العلامة ابن خلدون: «إن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات، وسبب ذلك: أن تعليم الصغر أشد رسوخًا وهو أصل لما بعد، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات» (¬1). وعلى هذا فإنه لا يلزم السير على ترتيب سور القرآن، فإذا تعلم الطفل الفاتحة، وبعض السور القصيرة التي يقيم بها صلاته كالإخلاص، والمعوذتين، فإنه ينبغي أن يختار له من مقاطع الآيات ما يسهل فهمه وحفظه، وما هو مشتمل على الآداب التي يحتاج إليها، كوصية لقمان لابنه، وكالوصية بالوالدين ونحو ذلك. «ومنها: التدرج في التعليم للمتعلمين شيئًا فشيئًا، وقليلًا قليلًا، يُلقى عليه أولًا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يُورد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون (ص: 602).

ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به، وقد شدا فلا يترك عويصًا، ولا مبهمًا، ولا منغلقًا، إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثة تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه» (¬1). ومنها: أن يُعلم الطفل علم الحساب، لما في ذلك من رياضة الذهن، والتعود على الصدق. ومنها: الفهم والرسوخ فيما يتعلَّمه الطالب، فلا ينقل من علم إلى علم إلا بعد إتقان الأول، وإدراكه إدراكًا جديدًا. ومنها: قرن العلم بالعمل، وأقل ذلك أن يفهم ماذا يراد منه؟ قال عبد الله بن مسعود: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشرَ آيَاتٍ، لَم يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالعَمَلَ بِهِنَّ (¬2). «وكذلك ينبغي أن لا يطول على المتعلم في الفن الواحد، والكتاب الواحد، بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها، وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون، ص: 597 - 598. (¬2) تفسير ابن جرير الطبري (1/ 95).

للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولًا وأحكم ارتباطًا، وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه، قال تعالى: {كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون} [البقرة: 239]» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مقدمة ابن خلدون، ص: 598 - 599.

الكلمة الثامنة عشرة: الأسواق: نصائح وأحكام

الكلمة الثامنة عشرة: الأسواق: نصائح وأحكام رقم (1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فما زالت الأسواق منذ القدم هي مجامع الناس يتبادلون فيها البضائع والسلع، وقد تطورت في العهد الجاهلي، خصوصًا الأسواق السنوية كسوق عكاظ، فأصبحت محلًا لتبادل الثقافات وإظهار المناقب، والافتخار بالفضائل، ومع ذلك فقد كانت مضبوطة بقوانين وآداب تكفل الحقوق لمرتاديها، حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يهجيه، فلما جاء الله بالإسلام كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بأهل السوق فيأمرهم وينهاهم ويقول: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» (¬1). ويأمر بترجيح الميزان، وقد كان الصحابة في عصره والسلف من بعدهم يحتسبون على أهل الأسواق حتى صار ذلك سنة متبعة في أسواق المسلمين، ثم كثرت الأسواق في أزمان متأخرة، وتغيرت الحال، وارتكبت المحرمات، وجرى الخلل في الآداب، وصار الاحتساب على أهل الأسواق من التدخل في الأمور الخاصة، وعظم الأمر إلى أحياء أسواق الجاهلية لكن دون ضوابطها الأخلاقية، فأصبحت مجمعًا للرقص ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (101).

والغناء واختلاط الرجال بالنساء، فالله المشتكى من غربة الدين، وقلة الناصرين، وتغلب المفسدين، وإقصاء المصلحين. وحيث إن الأصل في وجود الأسواق هو التجارة، وفيها ما يحل ويحرم، فإن ما حرم الله منها ممحوق البركة، وخيم العاقبة، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا كَعْبُ! لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (¬1). ومن أنواع البيوع المحرمة: ما يختص بالنساء من الملابس الظاهرة التي تلبس خارج بيتها كالملابس الشفافة، أو العارية، أو المفتوحة، أو الضيقة كالبنطال، أو القصيرة التي تكشف بعض جسدها، أو الأحذية ذات الكعوب العالية. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَةَ الرَّجُلِ (¬2). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِنْفَانِ مِن أَهْلِ النَّارِ لَم أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُوْنَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيْلَاتٌ مَائِلَاتٌ، ¬

(¬1) قطعة من حديث في مسند الإمام أحمد (23/ 425) برقم (15284)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم. (¬2) برقم (4098)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 907) برقم (5095).

رُؤُوْسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لَا يَدْخُلنَ الجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوْجَدُ مِن مَسِيْرَةِ كَذَا وَكَذَا» (¬1). ورد في فتوى اللجنة الدائمة في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ): هي أن تكتسي المرأة ما لا يسترها فهي كاسية وهي في الحقيقة عارية، مثل من تلبس الثوب الرقيق الذي يشف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع جسمها، أو الثوب القصير الذي لا يستر بعض أعضائها، فالواجب على المسلمة الحرص على التستر والاحتشام، والتزام الهدي الذي عليه أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة والحذر من الوقوع فيما حرمه الله ورسوله من الألبسة التي فيها تشبه بالكافرات والعاهرات، كما يجب على كل مسلم أن يتقي الله فيمن تحت ولايته من النساء، فلا يتركهن يلبسن ما حرمه الله ورسوله من الألبسة الخالعة والفاتنة، وليعلم أنه راع ومسؤول عن رعيته يوم القيامة (¬2). اهـ ومنها: ما يسمى بالكاب، أو العباءة المزركشة، أو المخصرة. «والعباءة الشرعية للمرأة وهي الجلباب، لا بد أن يتحقق فيها قصد الشارع من كمال الستر، والبعد عن الفتنة، وذلك أن تتوفر فيها المواصفات التالية: 1 - أن تكون سميكة لا تظهر ما تحتها، ولا يكون لها خاصية الالتصاق. ¬

(¬1) برقم (2128). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (17/ 290 - 294)، باختصار.

2 - أن تكون ساترة لجميع الجسم، واسعة لا تبدي تقاطيعه وتفاصيله. 3 - أن تكون مفتوحة من الأمام فقط، وتكون فتحة الأكمام ضيقة. 4 - ألا يكون فيها زينة تلفت إليها الأنظار، وعليه فلا بد من أن تخلو من الرسوم والزخارف، والكتابات، والعلامات. 5 - ألا تكون مشابهة للباس الكافرات أو الرجال. 6 - أن توضع العباءة على هامة الرأس ابتداء. وعلى ذلك، فلا يجوز استيراد هذه العباءة، ولا تصنيعها، ولا بيعها وترويجها بين المسلمين؛ لأن ذلك من التعاون على الاثم والعدوان، والله تعالى يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]» (¬1). تنبيه: كل ما يستعمل على وجه محرم أو يغلب على الظن ذلك، فإنه يحرم تصنيعه، واستيراده، وبيعه، وترويجه بين المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كل لباس يغلب على الظن أنه يستعان بلبسه على معصية فلا يجوز بيعه، وخياطته لمن يستعين به على المعصية والظلم، ولهذا كره بيع الخبز، واللحم لمن يعلم أنه يشرب عليه الخمر، وبيع الرياحين لمن يعلم أنه يستعين بها على الخمر، والفاحشة، وكذلك كل مباح في الأصل عُلم أنه يستعان به على المعصية» (¬2). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (17/ 139 - 140) برقم (21352). (¬2) شرح العمدة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 386) باختصار.

ومن البيوع المحرمة ما يحرم لذاته، كبيع الدخان، ويلحق به ما يسمى بالشيشة أو الجراك، وآلات الطرب والمخدرات، والمسكرات، وصور ذات الأرواح، فلا يجوز التصوير إلا لضرورة، كصورة البطاقة، أو جواز السفر، أو غيره مما تدعو الضرورة والحاجة إليه. روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: أن رجلًا جاء إليه وقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال: آتيك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ تُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» (¬1). وقال: إن كنت لا بد فاعلًا فاصنع الشجر وما لا نفس له. قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا ضَرَرَ، وَلَا إِضْرَارَ» (¬2). وإن من كبائر الذنوب المتاجرة بالجرائد، والمجلات، والأجهزة التي تحتوي على الأغاني الماجنة، والصور العارية، والتمثيليات المنحطة التي يختلط فيها الرجال والنساء مما ذاع وانتشر، حتى أفسد على الناس أخلاقهم، وأديانهم، المسلمون منهم والكفار كلهم على حد سواء، فبلغت بهم تلك الرذائل في الانحطاط إلى أنه لم يبق لديهم من الإنسانية إلا صورتها فقط، فأصبحوا محل السخرية، والاستذلال، ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2110). (¬2) (5/ 55) برقم (2865)، وقال محققوه: حسن.

والإهانة من قبل إبليس وجنوده، الذي كان أول البنود في قانونه الذي وضعه لإغواء البشر، كشف العورات، ونزع الحياء منهم، قال تعالى عنه: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27]. ومن البيوع المحرمة: ما يباع على الكفار من اليهود، والنصارى، والرافضة وأعداء الإسلام مما يُستعان به على حرب المسلمين وأذيتهم، وقد يمثل ذلك ببيع العقارات، والأراضي، وغيرها من الممتلكات على الرافضة، أو اليهود، أو النصارى .. أو غيرهم من أعداء المسلمين مما يشكل تمكينًا لهم، وبسطًا لنفوذهم، وتقوية لهم في داخل بلاد المسلمين، وبالتالي يكون عونًا لهم في المستقبل على احتلال بلاد المسلمين، والقضاء عليهم كما يخططون، وقد أفتى الشيخ عبد الله ابن جبرين رحمه الله بعدم جواز بيع العقارات للرافضة إذا كانت في محيط أهل السنة، وفي القرى، والمدن التي أهلها من السنة، لأن ذلك يعينهم على إقامة شعائرهم الباطلة، وشركهم، وبدعهم، ويمكنهم من السيطرة على بلاد المسلمين (¬1)، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2]. ومن البيوع المحرمة: ما كان فيه غش، أو كذب، أو تدليس على المشتري، أو يمين كاذبة. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» (¬2). ¬

(¬1) الفتوى بختم وتوقيع الشيخ بتاريخ 1/ 7 / 1429 هـ. (¬2) برقم (101).

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» (¬1). ومنها: ما كان فيه دعايات لجذب المشترين إلى المحلات، والأسواق، ويشتري الشخص السلعة لا لأجلها ولكن طمعًا في الحصول على الجائزة، وهو القمار الذي قال الله تعالى فيه: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 90]. وكذلك هو أكل لأموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. «سُئلت اللجنة الدائمة عن حكم الجوائز التي تعملها المحلات وبعض الأسواق لجذب الزبائن، فكانت الإجابة: إذا كان الواقع كما ذكر، فجعل ما يُعطى للمشترين باسم هدايا على هذا النظام حرام، لما فيه من المقامرة من أجل توزيع البضاعة وتنمية رأس المال بكثرة البيع، ولو كان ذلك بالأسعار التي تباع بها البضاعة عادة، ولما فيه من المضارة بالتجار الآخرين إلا إذا سلكوا نفس الطريقة فيكون في ذلك إغراء بالمقامرة من أجل رواج التجارة، وزيادة الكسب، ويتبع ذلك الشحناء، وإيقاد نار العداوة والبغضاء، وأكل المال بالباطل. فمثلًا يشتري بعض الناس بمئتي ريال، ويواتيه حظه في الكرت ¬

(¬1) برقم (106).

المسحوب (بمسجل/ أو مكيف/ أو ثلاجة) ويشتري آخر بنفس القيمة ويكون حظه في الكرت المسحوب (ولاعة/ أو زجاجة عطر قيمتها عشرة ريالات أو عشرون ريالًا)» (¬1). وبعد .. فقد جرت عادة الدول بإنشاء وزارة تُعنى بأمور التجارة وتسهيل مهمتها فيما يعود على الناس بالنفع، والخير، ومنع ما يضرهم، فعليهم القيام بما يجب عليهم من ذلك، فإن المسؤولية عظيمة أمام الله، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون} [الصافات: 24]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (¬2) (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (15/ 193) برقم (4005). (¬2) صحيح البخاري برقم (2558)، وصحيح مسلم برقم (1829). (¬3) ومن أراد التوسع في الموضوع، فليراجع رسالة المؤلف (التجارة والأسواق. نصائح وأحكام).

الكلمة التاسعة عشرة: الأسواق: نصائح وأحكام

الكلمة التاسعة عشرة: الأسواق: نصائح وأحكام رقم (2) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الله قد أحل البيع وحرم الربا، والأسواق هي مكان تجمع الناس للبيع والشراء، وتبادل المنافع، وهي مكان الفتن، وانتشار الشياطين لكثرة المنكرات فيها، وانشغال الناس بالدنيا، وهي أبغض الأماكن إلى الله. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَحَبُّ البِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ البِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» (¬1). قال النووي رحمه الله: وقوله: «أَبْغَضُ البِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا»، لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومخادعة العباد، والإعراض عن ذكر الله، ومظان الإيمان الفاجر، فالمساجد مواضع نزول رحمة الله وفضله، والأسواق على الضد منها (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عثمان عن سلمان قال: لَا تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ، وَلَا آخِرَ مَنْ ¬

(¬1) برقم (671). (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 584)، باختصار وتصرف.

يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ (¬1). وكثرة الأسواق من علامات الساعة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْكَذِبُ، وَتَتَقَارَبَ الأَسْوَاقُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ»، قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ» (¬2). والأسواق تنتشر فيها منكرات، ينبغي للمؤمن معرفتها للحذر من الوقوع فيها، وإنكارها بحسب الاستطاعة، فمن تلك المنكرات: 1 - خروج النساء متبرجات متعطرات إلى الأسواق، وقد وضعن المساحيق وأدوات التجميل، وهذا الفعل باب عظيم من أبواب الفتن التي تؤدي إلى شيوع الفواحش وانتشارها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]. 2 - الاختلاط بين الرجال والنساء، قال ابن القيم رحمه الله: «ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال، فالإمام مسؤول عن ذلك، والفتنة به عظيمة. روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا تَرَكْتُ ¬

(¬1) برقم (2451). (¬2) (16/ 422) برقم (10724)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.

بَعْدِي فِتْنَةً، أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬1). وفي حديث آخر: «عَلَيكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ» (¬2). ويجب عليه أن يمنع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن فيها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة الرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك، وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، ولا سيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية، والله سائل ولي الأمر عن ذلك، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهن في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك» (¬3). 3 - تسكع الشباب في الأسواق، والقصات، والألبسة الغربية، والسلاسل التي يتزينون بها، والبناطيل الضيقة التي يلبسونها، وغير ذلك من الميوعة والتخنث مما فيه تشبه بالنساء. روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَةَ الرَّجُلِ» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5096)، وصحيح مسلم برقم (2740). (¬2) سنن أبي داود برقم (5272)، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم (929). (¬3) الطرق الحكمية (ص: 280 - 281)، باختصار. (¬4) برقم (4098)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 907) برقم (5095).

4 - لبس بعض الفتيات الملابس القصيرة، أو البناطيل، وولي أمرها يتساهل في ذلك بحجة أنها صغيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وعمرها تسع سنين، فالواجب تعويد الفتيات وتنشئتهن منذ الصغر على الحياء والحشمة، ومن شب على شيء شاب عليه، قال الشاعر: وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا ... عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان يومًا يقسم تمر الصدقة، فأخذ الحسن بن علي رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كِخٍ، كِخٍ» لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَاكُلُ الصَّدَقَةَ؟ ! » (¬1). ورأى على عبد الله بن عمرو ثوبين معصفرين فقال: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا» (¬2). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «أرى أنه لا ينبغي للإنسان أن يلبس ابنته هذا اللباس وهي صغيرة؛ لأنها إذا اعتادته بقيت عليه، وهان عليها أمره، أما لو تعوَّدت الحشمة من صغرها، بقيت على تلك الحال في كبرها، والذي أنصح به أخواتنا المسلمات أن يتركن لباس أهل الخارج من أعداء الدين، وأن يعودن بناتهن على اللباس الساتر، وعلى الحياء، فالحياء من الإيمان» (¬3). 5 - الصور، والمجسمات المعلقة على زجاج المحلات، وهو ما ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1491). (¬2) صحيح مسلم برقم (2077). (¬3) من فتاوى الشيخ ابن عثيمين في جملة الدعوة (1709) ص: 35.

يسمى بـ (المانيكان) كدعاية لتلك المحلات، مع ما فيها من التعري والفتنة مما ينافي الحشمة والحياء، وبعضها فاضحة لا يشك مؤمن بحرمتها، وأضرارها على الشباب، والفتيات .. فإلى الله المشتكى. 6 - الميوعة واللين في الكلام من النساء عند البيع، والشراء مع أصحاب المحلات مما يؤدي إلى الفتنة بهن، قال تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. 7 - بيع السحر، والشعوذة ومنها سحر الصرف، والعطف، والغالب أن البيع يكون للنساء. 8 - المغازلات، وترتيب المواعيد بين الشباب، والفتيات وأكثر حالات الإركاب إنما تكون في الأسواق كما حدثني بذلك بعض رجال الهيئة. 9 - بقاء أصحاب المحلات وقت الصلاة داخل المحلات، والأشد من ذلك المجاهرة بعدم إغلاق المحل وقت الصلاة. 10 - توظيف الفتيات بائعات في داخل المحلات يبعن على الرجال والنساء، ويشمل ذلك الملابس، والعبايات، وأدوات الزينة .. وغيرها، وقد صدرت فتاوى من علمائنا في هذه البلاد بتحريم بيع النساء على الرجال لما فيه من تعريض المرأة للفتنة (¬1). ¬

(¬1) فتوى سماحة مفتي عام المملكة في خطبته بتاريخ 6/ 2 / 1433 هـ، وفتوى العلامة الشيخ صالح الفوزان بتاريخ 9/ 2 / 1433 هـ.

ومن الوصايا التي يُوصى بها في الأسواق: 1 - تكثيف رجال الهيئة في الأسواق، والمجمعات التجارية لتغيير تلك المنكرات. 2 - توجيه النساء وإرشادهن للقرار في بيوتهن، وألا تكثر من الخروج لغير حاجة تدعو لذلك، وإذا خرجت فيقتصر الخروج على حاجتها والحذر من التجول لوقت طويل، فكثير من النساء تتجول في السوق لساعات طويلة تتنقل بين المحلات التجارية بحجة البحث عن الأرخص والأجود، وهذا الوقت تُسأَلُ عنه يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ » (¬1). وفي رواية: «وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟ » (¬2). إضافة إلى اختلاطها بالرجال وفتنتها لهم، وعليها ألا تسرف في شراء الملابس وأدوات الزينة، وألا تتبع الموضة في ذلك، فبعضهن تشتري الملابس بشكل مستمر في كل مناسبة أو عرس، حتى لو كان هذا الثوب لم يستعمل إلا مرة واحدة، وتدفع في ذلك المبالغ المالية الطائلة، بل وصل الأمر إلى شراء حقائب اليد والنعال بآلاف الريالات. فإنا لله وإنا إليه راجعون. قال تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم (2417)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) سنن الترمذي برقم (2416).

[الأعراف: 31]. وروى النسائي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ». ولتحرص ألا تكون وحدها في السوق، مع التستر والحشمة حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، ولتحذر من التطيب عند الذهاب إلى الأسواق، فقد روى الترمذي في سننه من حديث أبي موسى: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالمرَأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِالمَجلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا»، يَعْنِي: زَانِيَةٌ (¬1). سُئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عن خروج المرأة في الأسواق من غير محرم جائز أم لا؟ ومتى يجوز؟ ومتى يحرم؟ فكان الجواب: «خروج المرأة إلى السوق في الأصل جائز، لا يشترط أن يكون معها محرم إلا أن تخشى الفتنة، فإنه يجب عليها ألا تخرج إلا بمحرم يحميها، ويصونها، ويحفظها، ويشترط لجواز خروجها إلى الأسواق أن تخرج غير متبرجة، ولا متطيبة، فإن خرجت متبرجة أو متطيبة فإنها لا يحل لها ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ (¬2)» (¬3)» (¬4). 3 - على من دخل إلى السوق أن يحرص على كثرة الذكر، ¬

(¬1) برقم (2786)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) معنى تفلات: غير متطيبات، ولا متجملات. (¬3) سنن أبي داود برقم (565)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 113) برقم (529). (¬4) مطوية بعنوان (أسئلة مهمة تخص نساء الأمة)، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

وغض البصر، وعلى إفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون} [النور: 30]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِن لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لَم يَسْتَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ» (¬1). 4 - على المسؤولين إيقاع العقوبات الشديدة لمن يثبت عليه إيذاء النساء ومعاكستهن أو البيع وقت الصلاة؟ أو وضع الصور، أو المجسمات الخليعة، أو غير ذلك من المنكرات حماية للأعراض، وقطعًا لدابر الشر. 5 - على الآباء أن يمنعوا بناتهم من الألبسة القصيرة، أو البنطال، وأن يعودوهن على الحجاب والستر منذ الصغر. تنبيه: انتشر في الآونة الأخيرة خروج النساء إلى الأسواق، وهن يلبسن النقاب، أو ما يسمى باللثام، وتكتفي بوضع جزء منه على وجهها، ويخرجن العينين والخدين، سُئل الشيخ صالح الفوزان عن النقاب الذي فيه التوسع السابق، فقال: «الواجب على المرأة المسلمة التزام الحجاب الساتر على وجهها وسائر بدنها درءًا للفتنة عنها وعن غيرها، والنقاب الذي تعمله كثير من النساء اليوم نوع من السفور، بل هو ¬

(¬1) برقم (49).

تدرج إلى ترك الحجاب، فالواجب على المسلمة أن تُبقي على حجابها الساتر، وترك هذا العبث الذي تفعله بعض السفيهات من النساء اللاتي تضايقن من الحجاب الشرعي، فأخذن يتحايلن على التخلص منه» (¬1). وبعد .. فكل ما جاء في التحذير منه في هذه الكلمة، وغيرها إنما هو من كيد أعداء الله متمثلًا ذلك بالغزو الصليبي اليهودي لإفساد المسلمين، ليسهل عليهم السيطرة علينا، واستعمارنا فكريًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وأعانهم على ذلك قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وقلوبهم مع أعدائنا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان (5/ 331) برقم (446). (¬2) ومن أراد التوسع في الموضوع، فليراجع رسالة المؤلف (التجارة والأسواق. نصائح وأحكام).

الكلمة العشرون: المستشفيات: واقعها ووسائل إصلاحها

الكلمة العشرون: المستشفيات: واقعها ووسائل إصلاحها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من حكمة الله تعالى أن يبتلي عبده المؤمن بالمرض تكفيرًا لسيئاته، أو رفعًا لدرجاته، وما كتب الله من مرض إلا وله شفاء. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» (¬1). قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين} [الشعراء: 80]. والذي يتأمل في واقع المستشفيات في هذه الأيام يرى فيها الكثير من المنكرات التي تحتاج إلى علاج، وإلى جهود كبيرة في الإصلاح، قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} [هود: 88]. ومن هذه المنكرات: أولًا: الاختلاط بين الرجال والنساء. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُم وَالدُّخُوْلَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا ¬

(¬1) برقم (5678).

رَسُوْلَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ» (¬1). وإذا كان الرجال ممنوعين من الدخول على النساء، وممنوعين من الخلوة بهن بطريق الأولى، كما ثبت بأحاديث أُخرصار سؤالهن متاعًا لا يكون إلا من وراء حجاب، ومن دخل عليهن فقد خرق الحجاب (¬2). والاختلاط له مواضع عدة كالاختلاط بين الأطباء والطبيبات والممرضات أثناء العمل، أو في الاجتماعات، والمحاضرات والندوات، أو أن يكون للطبيب ممرضة ملازمة له في أقسام العمليات، أو غير ذلك. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» (¬3). ثانيًا: لبس العاملات في المستشفيات، والمراكز الصحية، من الطبيبات والممرضات، والموظفات اللباس الخفيف، أو المفتوح، أو البنطال الضيق وهو لباس الرجل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِنْفَانِ مِن أَهْلِ النَّارِ لَم أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُم سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُوْنَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيْلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوْسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لَا يَدْخُلنَ الجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5232)، وصحيح مسلم برقم (2172). (¬2) حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله (ص: 63). (¬3) برقم (1862)، وصحيح مسلم برقم (1341).

لَيُوْجَدُ مِن مَسِيْرَةِ كَذَا وَكَذَا» (¬1). روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ» (¬2). ثالثًا: تبرج العاملات في المستشفيات من الطبيبات، والموظفات، وذلك بكشف شعر الرأس، والوجه، ووضع أدوات الزينة والتجميل. رابعًا: كشف الطبيب على المرأة المريضة، مع عدم وجود الحاجة إلى ذلك. خامسًا: إلزام الطبيبة بالكشف على الرجال. سادسًا: نظر الطبيب إلى عورة المريض بلا ضرورة، أو حاجة ملحة، وتعظم الحرمة مع اختلاف الجنسين. سابعًا: إلباس المريض، أو المريضة، في غرفة العمليات اللباس العاري أو المفتوح، أو كشف عورته أمام الكوادر الطبية من غير حاجة ملحة إلى ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَنْظُرِ الرَّجُلُ إِلَى عَورَةِ الرَّجُلِ، وَلَا المَرأَةُ إِلَى عَورَةِ المَرأَةِ» (¬3). ثامنًا: توظيف النساء في الاستقبال، وفي بعض الأحيان يكن ¬

(¬1) برقم (2128). (¬2) برقم (4098)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 907) برقم 5095. (¬3) برقم (338).

متبرجات، وقد وضعن أدوات التجميل على وجههن يفتن بذلك الرجال، ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن ضوابط كشف العورة أثناء علاج المريض ما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين: «فإن مجلس المجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة والتي بدأت يوم السبت العشرون من شعبان عام ألف وأربع مئة وخمس عشرة للهجرة، وقد نظر في هذا الموضوع وأصدر القرار الآتي: الأصل الشرعي أنه لا يجوز كشف عورة المرأة للرجل، ولا العكس ولا كشف عورة المرأة للمرأة، ولا عورة الرجل للرجل، يؤكد المجمع على ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بقراره رقم (15/ 12 / د/ 8) وتاريخ 1/ 7 / 1414 هـ، وهذا نصه: «الأصل أنه إذا توافرت طبيبة مسلمة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم طبيبة غير مسلمة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم، أو زوج، أو امرأة ثقة خشية الخلوة. في جميع الأحوال المذكورة، لا يجوز أن يشترك مع الطبيب إلا من دعت الحاجة الطبية الملحة لمشاركته، ويجب عليه كتمان الأسرار إن وجدت.

ويجب على المسؤولين في الصحة، والمستشفيات حفظ عورات المسلمين والمسلمات من خلال وضع لوائح وأنظمة خاصة تحقق هذا الهدف، وتعاقب كل من لا يحترم أخلاق المسلمين، وترتيب ما يلزم لستر العورة وعدم كشفها أثناء العمليات إلا بقدر الحاجة من خلال اللباس المناسب شرعًا (¬1). ويوصي المجمع بما يلي: (أ) أن يقوم المسؤولون عن الصحة بتعديل السياسة الصحية فكرًا، ومنهجًا وتطبيقًا، بما يتفق مع ديننا الإسلامي الحنيف، وقواعده الأخلاقية السامية، وأن يولوا عنايتهم الكاملة لرفع الحرج عن المسلمين، وحفظ كرامتهم، وصيانة أعراضهم. (ب) العمل على وجود موجه شرعي في كل مستشفى للإرشاد والتوجيه للمرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ وقد وقع القرار جمع من العلماء، وعلى رأسهم رئيس المجلس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. ومن الوصايا التي يُوصى بها إضافة إلى وصايا المجمع الفقهي الإسلامي: 1 - «يجب على الأطباء ومساعديهم من الممرضين وغيرهم ¬

(¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي (8/ 1454).

القيام بالواجبات الشرعية في كل حال من أحوالهم، وعدم التساهل فيها، ومن ذلك أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة، فلا يجوز التفريط فيها، ولا تأخيرها عن وقتها، خاصة عند وجود ما قد يشغل ويصد، فإن داعي الشر قد يوسوس للإنسان بالأعذار الواهية، والحجج الفاسدة ما يبرر له تقصيره، والصلاة لا تسقط عن المسلم ما دام عقله معه، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها» (¬1). 2 - إيجاد مستشفى خاص بالنساء، وآخر بالرجال، ويبدأ ذلك من دراسة الطب، كلية خاصة للنساء، وأخرى للرجال، ومستشفى تعليمي للنساء وآخر للرجال، وقد برزت في هذه الأيام بعض المستشفيات والمستوصفات الخاصة بالنساء، وأثبتت نجاحها، وما المانع من أن يعم ذلك جميع مستشفيات المسلمين، قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية سابقًا: وذلك أن الرجال والنساء الذين يرتادون المستشفيات للعلاج ينبغي أن يكون لكل منهم قسم خاص من المستشفى، فقسم الرجال لا يقربه النساء بحال، ومثله قسم النساء حتى تؤمن المفسدة، وتسير مستشفيات البلاد على وضع سليم من كل شبهة موافقًا لبيئة البلاد ودينها، وطبائع أهلها، وهذا لا يكلف شيئًا، ولا يوجب التزامات مالية أكثر مما كان، فإن الإدارة واحدة والتكاليف واحدة، ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 403) برقم (18589).

مع أن ذلك متعين شرعًا مهما كلف (¬1). اهـ 3 - إلزام العاملات في المستشفيات، والمراكز الصحية من طبيبات، وممرضات وموظفات باللباس الشرعي الساتر البعيد عن الفتنة، مع تغطية الوجه والكفين والرأس كاملًا. 4 - الحرص على توفير كوادر نسائية للكشف عن النساء، وخدمتهن دون الحاجة لمخاطبة الرجال ومخالطتهم، والعكس كذلك توفير كوادر رجالية من موظف الاستقبال، والطبيب، وغيره. 5 - الحرص التام على عدم الاختلاط بين المراجعين، والمراجعات، والموظفين والموظفات. 6 - الحرص على تنبيه الجميع لأوقات الصلاة، وتوفير مصلى مناسب للرجال والنساء. 7 - عدم السماح لجميع العاملات بأخذ الزينة وقت العمل سواء في اللباس أو الشعر أو الوجه، بل يُكتَفَى باللباس الشرعي الساتر لجميع البدن. 8 - «يجب على جميع العاملين في المستشفيات عدم إفشاء أسرار المرضى، ولزوم الكتمان في هذه الأمور، فإن إفشاءها مع أنه خيانة للأمانة، وهتك للأسرار، فإنه يجر من الشر ما لا يخفى. ¬

(¬1) الفتاوى (13/ 221).

9 - يجب على جميع العاملين عدم التشبه بالكفار، وقد ورد النهي صريحًا في تحريم ذلك، وعلى المسلم أن يعتز بدينه وانتمائه إليه، فلا يضعف ولا ينهزم. 10 - عدم خضوع العاملات في المستشفيات بالقول عند حاجتهن للتحدث مع الرجال غير محارمهن، على أنه لا يجوز لهن التحدث معهم إلا من وراء حجاب، ودون اختلاط» (¬1). 11 - الحرص على الكوادر المسلمة من العاملين، والعاملات، وعدم استقدام الأطباء، والممرضات، والعاملين، والعاملات من النصارى، والوثنيين وغيرهم من ملل الكفر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» (¬2)؛ إلا من دعت الحاجة إليه، وتقدر الضرورة بقدرها. 12 - أن يُدرس في كليات الطب، العلوم الشرعية التي تبين الحقوق الشرعية للمرضى، والأحكام والقواعد الشرعية لأحكام التداوي، وضوابطه. 13 - الحرص على افتتاح مكتب للشؤون الدينية في كل مستشفى حكومي أو أهلي، وتكون مهمته إزالة المنكرات ومعالجتها بالطرق المناسبة، والمراقبة الدقيقة لتطبيق الأنظمة واللوائح التي تمنع الألبسة المنافية للحياء والاختلاط، وأخذ الزينة للعاملات وقت العمل ... وغير ذلك، وكذلك توزيع الكتب، ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (1/ 403)، برقم (18589). (¬2) صحيح البخاري برقم (3053)، وصحيح مسلم برقم (1637).

والأشرطة لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، من العاملين والعاملات، وترتيب المحاضرات، والإجابة على أسئلة المرضى ... وما إلى ذلك. 14 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110]. وهذا التعاون مطلوب من الجميع، الطبيب، والموظف، والمراجع، والمرأة على بنات جنسها. من رأى منكرًا مما سبق ذكره، عليه إنكار ذلك، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71] (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) انظر: كتاب أخينا الشيخ د. يوسف الأحمد (الاختلاط، وكشف العورات في المستشفيات. الواقع، والعلاج)، فقد أجاد وأفاد.

الكلمة لحادية والعشرون: خطبة الجمعة: فوائد، وتنبيهات

الكلمة لحادية والعشرون: خطبة الجمعة: فوائد، وتنبيهات رقم (1) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: «فإن لخطبة الجمعة في الإسلام أهمية عظيمة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض أمر أو نهي، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي ركعتين ويذكر معالم الشرائع في الخطبة، والجنة، والنار، والمعاد، فيأمر بتقوى الله، ويُحَذِّرُ من غضبه، ويُرَغِّبُ في موجبات رضاه، ويذكرهم بأيام الله» (¬1). وخطبة الجمعة من أعظم الوسائل المعينة على إصلاح المجتمع وحل قضاياه. وقد أمر الله المؤمنين بحضور ذلك الاجتماع واستماع الخطبة، وإقامة الصلاة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [الجمعة: 9]. ¬

(¬1) زاد المعاد، لابن القيم (1/ 412).

قال الشيخ علي الطنطاوي: «إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة فلا تقولوا: قد شبعنا من الخطب، إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء، أما الخطب فلم تسمعوها إلا قليلًا، الخطب العبقريات الخالدات التي لا تنسج من حروف، ولا تؤلف من كلمات، ولكنها تنسج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحق لكل قلب، وتحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس ولا تقولوا: ماذا تصنع الخطب؟ فخطبة طارق هي التي فَتَحَتِ الأندلس، وأُقِيمَتْ بها دولة الإسلام قرونًا عديدة» (¬1). ومعركة الإسلام الفاصلة «بدر الكبرى» قامت على كلمات معدودة، ألقاها سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه. فعندما استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الذهاب إلى ملاقاة المشركين في بدر قام سعد بن معاذ خطيبًا فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل» قال: فقد آمنَّا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، ¬

(¬1) هتاف المجد للشيخ علي الطنطاوي (ص: 23)، بتصرف.

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ» (¬1). ولما ارتدت العرب عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قام سهيل بن عمرو خطيبًا في مكة، وكان من عقلائهم وخطبائهم، فخطب خطبة عصماء، ومما قال فيها: «يا معشر قريش، لا تكونوا آخر من أسلم، وأول من ارتدَّ، والله إن هذا الدين ليمتدن امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهما» (¬2)، فكانت تلك الخطبة من أعظم أسباب ثباتهم على الدين، والأمثلة على ذلك كثيرة. قال ابن كثير: «إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كل أسبوع مرة بالمساجد الكبار، وفيه كَمُل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح» (¬3). وقد وردت النصوص الكثيرة بوجوب الإنصات لخطبة الجمعة والفضل العظيم في ذلك. قال البخاري: باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، وإذا قال لصاحبه: (أنصت) فقد لغا، وقال سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: ينصت إذا تكلم الإمام، ثم روى عن ¬

(¬1) السيرة النبوية، لابن هشام (2/ 206). (¬2) أسد الغابة (2/ 396). (¬3) تفسير ابن كثير (13/ 558)، بتصرف.

أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ» (¬1). أي: قلت اللغو، واللغو الإم، فإذا كان الذي يقول للمتكلم: (أنصت) - وهو في الأصل يأمر بمعروف - قد لغا، فغير ذلك من الكلام من باب أولى. قال ابن حجر: «واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حق من سمعها» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَاكَ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَاتِيَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى رَكَعَ مَا شَاءَ أَنْ يَرْكَعَ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا» (¬3). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّه عز وجل إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (394)، وصحيح مسلم برقم (851). (¬2) فتح الباري (2/ 415). (¬3) (18/ 292) برقم (11768)، وقال محققوه: إسناده حسن.

أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [الأنعام: 160]» (¬1). بل إن صلاة الركعتين في المسجد والإمام يخطب تكون خفيفة، حتى يتمكن من إدراك الخطبة والاستفادة منها. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: «يَا سُلَيكُ! قُم فَاركَعْ رَكعَتَينِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»، ثم قال: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» (¬2). وقد جاء الذَّمُّ الشديد لمن خرج وترك الإمام يخطب. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخطُبُ قَائِمًا يَومَ الجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيهَا، حَتَّى لَم يَبقَ إِلَّا اثنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الجُمُعَةِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] (¬3). ورتب الشارع الفضل العظيم لمن دنا من الإمام وأنصت ليتمكن من استيعاب ما يلقيه الخطيب. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أوس بن أبي أوس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعةِ، فَغَسَلَ أحَدُكُمْ رَأسَهُ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ غَدَا أَوِ ابتَكَرَ، ثُمَّ دَنَا فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا كَصِيَامِ سَنَةٍ وَقِيَامِ سَنَةٍ» (¬4). ¬

(¬1) برقم (1113)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (723). (¬2) صحيح البخاري برقم (930)، وصحيح مسلم برقم (875) واللفظ له. (¬3) برقم (863). (¬4) (26/ 83) برقم (16161)، وقال محققوه: حديث صحيح.

وهذه الأمور السابقة كلها من أجل تهيئة السامع، فعلى الخطيب أن يستشعر أن هذا كله من أجله فليهتم لذلك، وليبذل غاية جهده على ضوء ما يأتي التنبيه عليه والإشارة إليه. فمن ذلك: الإخلاص لله تعالى، لا ليقال: فلان خطيب مصقع، أو خطب فلان خطبة عصماء .. ونحو ذلك، واسمع إلى موسى نبي الله فيما حكاه الله عنه حين دعا ربه فقال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27 - 28]، فغاية مراده أن يفهموا عنه ما يريد وحسب. ومنها: أن يكون الخطيب قدوة حسنة ظاهرًا وباطنًا، وأن يصدق قوله فعله لتكون خطبته أبلغ تأثيرًا في قلوب السامعين، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون} [الصف: 2 - 3]. وقال تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ (¬1) مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، كَانُوا يَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟ ! » (¬2). وذكر بعض أهل العلم أن من شروط صحتهما: حمد الله ¬

(¬1) يعني: آلات القطع والقص. (¬2) (19/ 244) برقم (12211)، وقال محققوه: حديث صحيح.

والشهادتين، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله، والموعظة وقراءة شيء من القرآن ولو آية (¬1). «وللأسف أن البعض من الخطباء يختصر في الخطبة الثانية اختصارًا مُخِلًّا، وتصبح الخطبة الثانية ألفاظًا تُردد وتعاد ويقتصر فيها على الدعاء، مع أن الخطبة الثانية لا تختلف في أصل السنة عن الأولى، وينبغي أن يتنبه لهذا الأمر وينوع الخطيب، فتارة يجعل الخطبة الثانية مكملة للخطبة الأولى، وتارة مساوية لها، وتارة أنقص منها، وتارة في موضوع آخر، كل هذا لا بأس به وإن ما يخشى هو التزام طريقة واحدة يفهم عامة الناس من خلالها أنها هي السنة وما عداها مخالف لها» (¬2). والدعاء في آخر الخطبة ليس شرطًا من شروطها ولا كان السلف يواظبون عليه، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الدعاء في آخر الخطبة: «وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنَّة، إذ لو كان شرعًا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من دليل خاص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين، فإن لم يوجد دليل خاص فإننا لا نأخذ به، ولا نقول: إنه من سنن الخطبة، وغاية ما نقول: إنه من الجائز، وحينئذ لا يتخذ سنة راتبة يواظب عليه، لأنه إذا اتخذ سنة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف ¬

(¬1) ومن أراد التفصيل في الأقوال والأدلة، فليراجع كتاب الشامل في فقه الخطيب والخطبة (ص: 187 - 194). (¬2) الشامل في فقه الخطيب والخطبة، للشيخ سعود الشريم (ص: 272).

حقيقة الواقع، فإنه ينبغي تجنبه» (¬1). اهـ وأما التزام كثير من الخطباء بعض الألفاظ في الخطبة على سبيل الديمومة فلا ينبغي، لأن ذلك يجعل بعض السامعين يظن أن هذه الألفاظ من صلب الخطبة، أو أن الخطبة ناقصة من دون إيرادها، وربما حصل النكير من بعضهم إذا تُرِكَتْ لكثرة مداومة الخطباء عليها، فمن تلك الألفاظ على سبيل المثال وليس الحصر. اختتام آخر الخطبة الأولى بآية، وقبل أن يختم بهذه الآية يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، في حين أنه لا يستعيذ بالله في إيراد غيرها من الآيات. ومنها: المواظبة على ختم الخطبة الأولى بقول: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ومنها: الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الخطبة على سبيل الديمومة. ومنها: قول بعضهم في آخر الخطبة الثانية على سبيل الديمومة: عباد الله، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم .. إلخ. ومنها: المواظبة على قراءة قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] في آخر الخطبة الثانية. ¬

(¬1) الشرح الممتع (5/ 87) باختصار. وللتفصيل في مسائل الدعاء، يراجع: كتاب الشامل في فقه الخطيب والخطبة، للشيخ سعود الشريم (ص: 319 - 359).

فالذي ينبغي للخطيب أن ينوع في مثل هذا، لئلا يظن الناس أن هذا من الواجب، بل لو ترك السنة أحيانًا إذا ظن بعض الناس من خلال المواظبة عليها أنها واجبة، فإن هذا الترك يكون مستحبًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإنه إذا ظن العامة أن المواظبة على قراءة السجدة، والإنسان في فجر الجمعة من الواجب، فإنه يستحب تركها أحيانًا لإزالة اللبس» (¬1) (¬2). ومنها: مغايرة بعض الخطباء صوته عند تلاوة الآيات من القرآن، لنسق صوته في وعظه وخطبه. قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله: «وهذا لم يعرف عن السالفين ولا الأئمة المتبوعين، ولا تجده لدى أجلاء العلماء في عصرنا، بل يتنكبونه، وكثير من السامعين لا يرتضونه، والأمزجة مختلفة، ولا عبرة بالفاسد منها، كما أنه لا عبرة بالمخالف لطريقة صدر هذه الأمة وسلفها» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (24/ 206). (¬2) الشامل في فقه الخطيب والخطبة، للشيخ سعود الشريم (ص: 270 - 272). (¬3) انظر: تصحيح الدعاء، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ص: 320).

الكلمة الثانية والعشرون: خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات

الكلمة الثانية والعشرون: خطبة الجمعة: فوائد وتنبيهات رقم (2) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فاستكمالًا للحديث السابق عن مكانة خطبة الجمعة وتأثيرها في الناس وما ينبغي للخطيب أن يتجنبه، ومن ذلك أن يحرص على موافقة السنة في خطبته وذلك بالآتي: 1 - تقصير الخطبة: روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث جابر بن سمرة السوائي قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِنَّمَا هُنَّ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ (¬2). 2 - رفع الصوت في الخطبة على نحو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) برقم (869). (¬2) برقم (1107)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (979).

دون التشنج والصراخ المفزع الذي يذهب بجمال الخطبة ووقعها في نفس المستمع. روى مسلم في صحيحه من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» (¬1). قال الشاعر: وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هَزَّةٌ ... تَعْرُو النَّدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ كما أنه لا يراد به أن يكون احمرار العين وشدة الغضب في كل شيء (¬2). قال القاضي عياض: «هذا حكم المحذر والمنذر، وأن تكون حركات الواعظ والمذكر وحالاته في وعظه، بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ومطابق له حتى لا يأتي بالشيء وضده، وأما اشتداد غضبه فيحتمل أنه عند نهيه عن أمر خولف فيه شرعه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان عند إنذاره» (¬3). 3 - وعلى الخطيب أن يضمن خطبته الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والحكم المأثورة عن السلف الصالح، والابتعاد عن الكلام الإنشائي المنمق والسجع المتكلف إلا ما لا بد منه، فتأثير النصوص الشرعية أبلغ في القلوب وأبقى أثرًا، وأدوم ذكرًا، وما سواها فإنه وإن أثر نوعًا ما فلا بقاء له، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بالقرآن. روى مسلم في صحيحه من حديث أُمِّ ¬

(¬1) برقم (867). (¬2) الشامل في فقه الخطيب والخطبة (ص: 227). (¬3) إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 368).

هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: مَا أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} [ق: 1]، إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، إِذَا خَطَبَ النَّاسَ (¬1). «ومن تأمل خُطَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وخُطَبَ أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب - جل جلاله -، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه، ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسومًا تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر، وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها» (¬2). قال الشيخ صالح الفوزان: «هذا ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف، حتى صار الغالب على الخطب اليوم أنها حشو من الكلام قليلة الفائدة، فبعض الخطباء يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي يرتجل فيه ما ¬

(¬1) برقم (873). (¬2) زاد المعاد، لابن القيم (1/ 409 - 410).

حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، حتى إن بعضهم يهمل شروط الخطبة، أو بعضها، ولا يتقيد بضوابطها الشرعية، فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير، والتأثر والفائدة، وبعض الخطباء يقحم في الخطبة مواضيع لا تتناسب مع موضوعها، وليس من الحكمة ذكرها في هذا المقام، وقد لا يفهمها غالب الحضور. فيا أيها الخطباء، عودوا بالخطبة إلى الهدي النبوي، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. ركِّزوا موضوعاتها على نصوص من القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام، ضمِّنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة، عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب، ونور البصائر» (¬1). 4 - وعلى الخطيب إعداد الخطبة مسبقًا، وإعادة النظر فيها حينًا بعد حين، ووعظ الخطيب نفسه بخطبته، فبعض الخطباء هداهم الله ينقل الخطبة من غيره دون تفهم وإدراك، وأعظم من ذلك من يقطع الورقة قبل الخطبة بوقت يسير من أي كتاب تيسر له، أو أي موقع من المواقع الإلكترونية. 5 - وعليه أن يختار العبارات الفصيحة الواضحة، التي يفهمها السامع، والجمل القصيرة التي يدرك فهمها. ¬

(¬1) الملخص الفقهي (1/ 261)، للشيخ صالح الفوزان (بتصرف).

6 - أن يلقيها إلقاء مفصلًا، فيقف على معاني جمل الآيات، ويفصل بين الآية والحديث، وبين جملة وأخرى، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ الحَدِيثَ، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ، وَقَالتْ: لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ (¬1). 7 - أن يبين ما يشكل من الكلمات، أو معاني النصوص التي يضطر إلى ذكرها. 8 - أن يضرب الأمثال المقربة للمعاني دون غلو، فإنه ينبغي أن ترتكز جميع الخطب على تعظيم الله وإجلاله، وذكر ممادحه، وحمده، وتمجيده، والثناء عليه، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أول ما أنزل إليه، فقال تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر} [المدثر: 3]. 9 - أما الموضوعات التي ينبغي للخطيب أن يحرص عليها، قال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورًا مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت؛ فإن هذا أمر لا يُحصِّلُ في القلب إيمانًا بالله ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصة به ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم ¬

(¬1) برقم (3568)، وصحيح مسلم برقم (2493).

يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتقسم أموالهم، ويُبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد، ومعرفة، وعلم نافع حصل به؟ » (¬1). وكلام ابن القيم محمولًا على ذكر الموت مجردًا، أما ربطه بما أمر الله بفعله، أو تركه فهو أمر محمود، قال صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يَعنِي: المَوتَ (¬2). «ولذلك ينبغي للخطيب أن يعمل لإصلاح الأفراد، وإصلاح الأسر والبيوت، ثم يبحث في الإصلاح العام ويبدأ في كل ذلك بما بدأ الله به من تحقيق التوحيد وتثبيت الإيمان في القلوب، ثم يعظ الناس بترغيبهم في فعل الفرائض، وترك المناهي، والمحرمات، وبيان ذلك لا بيان الفقيه الذي يعدد الشروط، والأركان، والسنن، والمكروهات، بل بيان المرشد الذي يذكر صالح الأعمال، وما فيها من الفضائل، وما أُعِدَّ لها من الأجور، والأعمال السيئة وما يترتب عليها من العقوبات الدنيوية، والأخروية» (¬3). وعلى الخطيب أن يتجنب توجيه الخطاب للسامعين حال ذكر ما يذم من الأمور، وعليه ألا يخاطبهم مخاطبة المدرِّس لطلابه، والأفضل أن يقول لهم: إن كثيرًا منكم يعرف هذا الأمر، وإنما أردت ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 409). (¬2) سنن الترمذي برقم (2307)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 266) برقم (1877). (¬3) مقتضب من كلام الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

التذكير، وعليه أن يجتنب الأحاديث الموضوعة، والضعيفة، والقصص الخرافية، أو التي لم توثق، أو فيها غرابة، أو كذب، أو بترك ما لا يدركه عامة السامعين. قال علي رضي الله عنه: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ (¬1). وقال ابن مسعود: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» (¬2). ومن أوجب ما يجب اجتنابه: ما يفعله بعض الخطباء من إلقاء الطُّرَف المضحكة في الخطبة، ويخشى أن يكون هذا مفسدًا لها. وعليه أن يجتنب الموضوعات التي تدل على المنكر، والمواقف التي فيها إشاعة الفواحش، وإن ظن أن ذلك مؤثر في السامعين. «وعليه أن يجتنب الحديث عن موضوعات كثيرة في خطبته، فبعض الخطباء يخوض في الخطبة الواحدة في كل شيء ينتقل من موضوع إلى موضوع، فلا يوفي موضوعًا منها حقه من البحث، فإذا جاءت الجمعة الثانية عاد إلى مثل ما كان منه في الجمعة الأولى، فتكون الخطب كلها متشابهة متماثلة، وكلها لا ثمرة لها، ولا يخرج السامع له بنتيجة عملية، ولو أن الخطيب اقتصر على موضوع واحد - جل أو دق، كبر أو صغر - فتكلم فيه ولم يجاوزه إلى غيره، لكان ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خصَّ العلم قومًا دون قوم كراهية ألَّا يفقهوا. (¬2) مقدمة صحيح مسلم، في باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (ص: 23).

لخطبته معنى، ولأخذ السامع منها عبرة، وحصل منها فائدة. ومن ذلك: أن بعضهم يريد أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة، فلا يخاطب الناس على قدر عقولهم، ولا يكلمهم على مقتضى أحوالهم، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوة خطوة، بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة» (¬1). وعلى الخطيب أن يجتنب التكلف في الإلقاء، والتشدق في الألفاظ، وخير الإلقاء ما كان طبيعيًا لا تكلف فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم كره المتشدقين وذمهم، وكذلك يبتعد عن التمطيط، وتلحين الخطبة والترنم فيها. قال النووي: يستحب كون الخطبة فصيحة، بليغة، مرتبة، مبينة من غير تمطيط، ولا تقعير (¬2). وقال البغوي: «ولا يمد الكلمات مدًا يجاوز الحد، ويحترز عن التغني وتقطيع الكلام» (¬3). «وعلى الخطيب أن يَتَذَكَّرَ أنه يقوم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو وخطرات ذهنه، ويحرص على رضا الله وحده لا على رضا الناس، ولا يتزلف إلى أحد، ولا يجعل الخطبة وسيلة إلى الدنيا وسببًا للقبول عند أهلها» (¬4). وعليه أن يبتعد عن الخلافات الفقهية، ويقتصر على المسائل ¬

(¬1) فصول إسلامية، للشيخ علي الطنطاوي (ص: 101)، بتصرف. (¬2) المجموع (4/ 358). (¬3) التهذيب (2/ 342). (¬4) فصول إسلامية، للشيخ علي الطنطاوي (ص: 103) بتصرف.

الواضحة بأدلتها الشرعية، ولا يخرج بالخطبة عن أصل موضوعها وهو الوعظ والتذكير، فإذا احتاج إلى ذكر حكم من أحكام الفقه بيَّن الحكمة في ذلك التشريع. تنبيهات: 1 - «إن كان الخطيب لديه القدرة على الارتجال والتحدث بطلاقة دون التلعثم، واللحن في اللغة، وتكرار الكلام، والخروج عن الموضوع إلى موضوعات كثيرة، فلا شك أن الارتجال أفضل وأقوى تأثيرًا في السامعين، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومن جاء من بعدهم؛ أما إن كان الأمر غير ذلك، فإن الإلقاء بالورق هو الأنفع حتى لا يزل الخطيب، أو يلحن، أو يخرج عن الموضوع» (¬1). 2 - الأصل في خطبة الجمعة عدم التفات الخطيب يمينًا وشمالًا. روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا استَوَى عَلَى المِنبَرِ استَقبَلنَاهُ بِوُجُوهِنَا (¬2). قال الشافعي: ولا أحب أن يلتفت يمينًا ولا شمالًا لِيُسْمِعَ الناس خطبته، لأنه إن كان لا يسمع أحد الشقين إذا قصد بوجهه تلقاءه، فهو لا يلتفت ناحية يسمع أهلها، إلا خفي كلامه على الناحية التي تخالفها، مع سوء الأدب من التلفت (¬3). ¬

(¬1) الشامل في فقه الخطيب، للشيخ سعود الشريم (ص: 106 - 107). (¬2) برقم (509)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 157) برقم (420). (¬3) الشافعي في الأم (1/ 334).

وقد ذكر ابن قدامة وغيره أن من سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولأنه أبلغ في سماع الناس، وأعدل بينهم؛ فإنه لو التفت إلى أحد جانبيه، لأعرض عن الجانب الآخر (¬1). 3 - الأصل في خطبة الجمعة عدم تحريك اليدين، فإن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «ليس في السنة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك .. إلى أن قال: أما خطبة الجمعة فإن المغلب فيها التعبد، ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مروان حيث رفع يديه في الدعاء، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). «وبذلك يتضح أن الأصل في اليدين عدم الحركة بالنسبة لخطبة الجمعة، وأنه لا يشغلها أو يشغل إحداهما إلا في الأمور التالية: أ - أن يشير بالسبابة حال الدعاء، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ قَالَ: رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ (¬3). ب - أن يمسك العصا بإحدى اليدين على القول بسنيتها، ¬

(¬1) المغني (3/ 178). (¬2) الشرح الممتع (5/ 85). (¬3) برقم (874).

ويمسك بالأخرى الورقة إن كان غير مرتجل، أو يمسك بحرف المنبر. ج - إذا أراد الخطيب أن يمثل بيديه عن شيء ما، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حينما قرن بين السبابة والوسطى في خطبته، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وفيه يقول: «بُعثِتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَينِ» وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (¬1) (¬2). 4 - «على المصلين أن يعلموا أن سماع الخطبة ليس للبركة فقط، بل للاتعاظ بها والعمل بما يتعلمه منها، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (867). (¬2) الشامل في فقه الخطيب والخطبة (ص: 262 - 263). (¬3) فصول إسلامية، للشيخ علي الطنطاوي (ص: 105).

الكلمة الثالثة والعشرون: أحكام العقيقة وفضائلها

الكلمة الثالثة والعشرون: أحكام العقيقة وفضائلها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الأمور التي حث عليها الشرع ورغب فيها: العقيقة، وهي من حق الولد على والده، وفيها شكر لله على تجدد نعمته على الوالدين بولادة المولود، وتقرب إلى الله تعالى، وتصدق على الفقراء، وفداء للمولود. والمراد بالعقيقة: ما يذبح أو ينحر من بهيمة الأنعام يوم السابع بنية العقيقة شكرًا لله تعالى على نعمة الولد، وسميت عقيقة لأنها تقطع عروقها عند الذبح. قال النووي: «العقيقة: الشاة المذبوحة عن المولود يوم سابعه» (¬1). وعند العامة تسمى العقيقة تميمة يقولون لأنها تتمم أخلاق المولود. «فَقَدْ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ عَقَّ عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَينِ بِكَبْشَينِ كَبْشَينِ (¬2)، وفعل ذلك صحابته الكرام فكانوا يذبحون ¬

(¬1) تحرير ألفاظ التنبيه، للنووي (ص: 162). (¬2) سنن النسائي برقم (4219)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 885) برقم 3932.

عن أولادهم، وفعله التابعون» (¬1). وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، لما رواه أبو داود من حديث سمرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى» (¬2). قال الإمام أحمد معناه: «أنه محبوس عن الشفاعة لوالديه» (¬3). والرهن في اللغة: الحبس، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} [المدثر: 38]. فظاهر الحديث أنه رهينة في نفسه، ممنوع محبوس عن خير يُراد به. وقيل: المعنى أن العقيقة لازمة لا بد منها، فشبه لزومها للمولود بلزوم الرهن للمرهون في يد المرتهن» (¬4)، وهذا يؤيد القول بالوجوب. وقال الإمام أحمد بن حنبل: «إذا لم يكن عنده ما يعق فاستقرض، أرجو أن يخلف الله عليه، فقد أحيا سنة، قال ابن المنذر: صدق أحمد، إحياء السنن واتباعها أفضل» (¬5). قال الشيخ عبد الله البسام: «والمهم أن مثل هذه التشبيهات تدل على تأكيد هذه الشعيرة، وأنه لا ينبغي إهمالها، فمن أحياها فقد أحيا سنة أمر بها صلى الله عليه وسلم وعمل بها» (¬6). وقال آخرون: إنها سنة مؤكدة، قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ: «الْأَمْرُ ¬

(¬1) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 452). (¬2) برقم (2838)، والترمذي برقم 1522 وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 547) برقم 2463. (¬3) زاد المعاد (2/ 297 - 298). (¬4) زاد المعاد (2/ 297)، فتح الباري (9/ 508) بتصرف. (¬5) توضيح الأحكام، للشيخ عبد الله البسام (6/ 89 - 90). (¬6) توضيح الأحكام، للشيخ عبد الله البسام (6/ 89 - 90).

عِنْدَنَا فِي الْعَقِيقَةِ: أَنَّ مَنْ عَقَّ فَإِنَّمَا يَعُقُّ عَنْ وَلَدِهِ بِشَاةٍ شَاةٍ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَلَيْسَتِ الْعَقِيقَةُ بِوَاجِبَةٍ، وَلَكِنَّهَا يُسْتَحَبُّ الْعَمَلُ بِهَا، وَهِيَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ النَّاسُ عِنْدَنَا» (¬1). قال ابن القيم الجوزية: «فأما أهل الحديث قاطبةً وفقهاؤهم، وجمهور أهل السنة فقالوا: هي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بما روى البخاري في صحيحه من حديث عمار الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» (¬2) (¬3). وروى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه أُراه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ فَلْيَنْسُكْ، عَنِ الْغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» (¬4)، فقالوا: «فهنا علق العقيقة بمحبة فاعلها، فقال من أحب أن ينسك، وهذا يقتضي عدم الوجوب لتفويضه إلى الاختيار فيكون قرينة صارفة للأوامر عن الوجوب إلى الندب» (¬5). وقالوا أيضًا: «لو كانت واجبة لكان وجوبها معلومًا من الدين؛ لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، وتعم به البلوى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين وجوبها للأمة بيانًا ¬

(¬1) موطأ مالك ص: 320. (¬2) تحفة المودود، لابن القيم رحمه الله (ص: 60). (¬3) صحيح البخاري برقم (5472). (¬4) جزء من حديث برقم (2842)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 547) برقم 2467. (¬5) تحفة المودود (ص: 77)، ونيل الأوطار للشوكاني (5/ 132).

عامًا كافيًا تقوم به الحجة، وينقطع معه العذر» (¬1)، وينبغي للمؤمن أن يحرص عليها ويبادر إلى ذلك خروجًا من خلاف العلماء. «والحكمة من العقيقة أنها مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين، وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذُبح عنه، وفداه الله به، فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عند ولادته بذبح عنه، ولا يستنكر أن يكون هذا حرزًا له من الشيطان بعد ولادته، كما كان ذكر اسم الله عند وضعه الرحم حرزًا له من ضرر الشيطان» (¬2). اهـ ومقدار ما يذبح عن الذكر شاتان متقاربتان سنًا، وشبهًا، وعن الأنثى شاة واحدة، لحديث أُمِّ كُرزٍ الكَعبِيَّةِ رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عَنِ الْغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» (¬3). قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: مكافئتان، أي: مستويتان أو مقاربتان. «والحكمة في الفرق بين الذكر والأنثى في مقدار العقيقة أنها على النصف من أحكام الذكر، والنعمة على الوالد بالذكر أتم، والسرور والفرحة به أكمل، فكان الشكر عليه أكثر» (¬4). «ووقت ذبح العقيقة: ينبغي أن يكون في اليوم السابع للحديث ¬

(¬1) تحفة المودود (ص: 106). (¬2) تحفة المودود (ص: 77). (¬3) سنن أبي داود برقم (2834)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2/ 546) برقم 2460. (¬4) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 453).

السابق تذبح عنه يوم سابعة، فإذا ولد يوم السبت فتذبح يوم الجمعة، يعني قبل يوم الولادة بيوم هذه هي القاعدة، وإذا ولد يوم الخميس فهي يوم الأربعاء .. وهلم جرًّا» (¬1). «وقيل: الحكمة في ذلك أن الطفل حين يولد يكون أمره مترددًا بين السلامة والعطب ولا يُدرى هل هو من أصل الحياة أو لا؟ إلى أن تأتي عليه مدة يُستدل بها بشاهد من أحواله فيها على سلامة بنيته، وصحة خلقته، وأنه قابل للحياة، وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع، فإنه دور يومي كما أن السنة دور شهري» (¬2). لكن إن خرج الطفل ميتًا قبل نفخ الروح فيه فلا عقيقة له، وإن خرج ميتًا بعد نفخ الروح فيه، فالراجح أنه يُعق عنه، لكن من لم يُعق عنه أبواه هل يعق عن نفسه إذا بلغ؟ قال الإمام البغوي: قال الحسن: إذا علمت أنه لم يُعق عنك فعق عن نفسك. وقال ابن سيرين: عققت عن نفسي ببختية (¬3) (¬4) بعد أن كنت رجلًا. وقال الإمام أحمد: ذلك على الأب واستدل من قال: بأن الكبير يعق عن نفسه إذا لم يُعق عنه، بأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد البعثة (¬5). قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «فالأفضل أن يعق عن نفسه، إذا لم ¬

(¬1) الشرح الممتع، للشيخ ابن عثيمين (7/ 493). (¬2) تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 97) وما بعده. (¬3) الأنثى من الجمال البخت، وهي جمال طوال الأعناق. (¬4) شرح السنة، للبغوي (11/ 264). (¬5) سنن البيهقي (19/ 379) برقم (19300). وقد اختلف العلماء في تصحيحه، وتضعيفه. انظر: السلسلة الصحيحة، للشيخ الألباني برقم (2726).

يعق عنه والده، ولو كان كبيرًا، هذا هو السنة» (¬1). «ويجزي في العقيقة ما يجزئ في الأضحية من حيث السن، والصفة، فيختار السليمة من العيب، والأمراض، والكاملة في خلقتها، المناسبة في سنها وسمنها» (¬2). قال ابن عبد البر: «ويتقي في العقيقة من العيوب ما يتقي في الضحايا ويسلك بها مسلك الضحايا يؤكل منها، ويتصدق، ويُهدى إلى الجيران» (¬3). وأما هل يجوز العقيقة بغير الغنم من الإبل والبقر؟ «اختلف العلماء في ذلك، فقال جمهور أهل العلم: يجوز بغير الغنم من الإبل والبقر لقوله في الحديث: «أَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا» (¬4) ولم ينص على الغنم، وقال آخرون: بل يقتصر على الغنم لقوله صلى الله عليه وسلم: «عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ» (¬5). وأجيب عن ذلك بأن ما ورد محمول على قصد التخفيف، وقالوا: لا يخفى أن مجرد ذكر الشاة في الأحاديث لا ينفي إجزاء غيرها، والذي يترجح القول الأول، والله أعلم» (¬6). واختلف أهل العلم: هل يصح تشريك العقيقة في البدنة والبقرة أم لا؟ على قولين: ¬

(¬1) الدرر البازية، لابن باز (5). (¬2) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 455). (¬3) التمهيد (2/ 431)، وتحفة المودود (ص: 87). (¬4) سبق تخريجه (¬5) سبق تخريجه (¬6) أحكام العقيقة، للشيخ مازن بن محمد (ص: 159 - 160).

القول الأول: تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة، قياسًا على جوازها في الهدي والأضاحي، وهو اختيار الشافعية. قال النووي: «ولو ذبح بقرة، أو بدنة عن سبعة أولاد، أو اشترك فيها جماعة، جاز، سواء كلهم أرادوا العقيقة، أو أراد بعضهم العقيقة، وبعضهم اللحم كما في الأضحية» (¬1). القول الثاني: لا تجزئ البدنة والبقرة إلا عن واحد، بخلاف الهدي والأضاحي، هو مذهب فقهاء المالكية والحنابلة. قال الشوكاني: ونص أحمد على أنه يشترط بدنة، أو بقرة كاملة، قال ابن القيم: «وهذا مما تخالف فيه العقيقة الهدي، والأضاحي، ثم قال: ولما كانت هذه الذبيحة جارية مجرى فداء المولود، كان المشروع فيه دمًا كاملًا لتكون نفس فداء عن نفس، وأيضًا لو صح الاشتراك لما حصل المقصود من إراقة الدم عن الولد، فإنه إراقة الدم عن واحد ويحصل لباقي الولد إخراج اللحم فقط، والمقصود نفس إراقة الدم عن الولد، وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه من منع الاشتراك في الهدي، والأضحية، ولكن سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أحقُّ وأولى أن تُتَّبَعَ، وهو الذي شرع الاشتراك في الهدايا، وشرع في العقيقة عن الغلام دمين مستقلين لا يقوم مقامهما جزور، ولا بقرة» (¬2). ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (¬3). ويستحب أن يأكل منها، ويُهدي، ويتصدق، أثلاثًا كالأضحية، ¬

(¬1) المجموع شرح المهذب (8/ 429). (¬2) نيل الأوطار للشوكاني (3/ 231)، وتحفة المودود ص: 135. (¬3) انظر الشرح الممتع (7/ 429).

وأما حلق رأس الغلام الذكر، فإنه يكون في اليوم السابع، لقوله في الحديث: «تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ» (¬1). قال الخطابي: «ومن السنة حلق رأس المولود في اليوم السابع» (¬2). وقال بعض أهل العلم: يوزن شعر المولود، ويتصدق بوزنه فضة، واستدلوا على ذلك بما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن: «احْلِقِي رَاسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِوَزْنِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ» (¬3). ويُسَمَّى يوم سابعه للحديث السابق، وإن سمَّاه في يوم ولادته فلا بأس، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم على أهله فقال: «وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ وَلَدٌ، سَمَّيْتُهُ إِبْرَاهِيمَ» فسمَّاه من حين ولادته (¬4). وعليه أن يختار لابنه الاسم الحسن، فقد كَانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الِاسمَ الحَسَنَ (¬5) وَيُغَيِّرُ القَبِيحَ (¬6)، وهذا من حق الولد على والده. وأحب الأسماء إلى الله (عبد الله وعبد الرحمن)، وأصدقها همام ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) معالم السنن للخطابي (4/ 265). (¬3) (45/ 163) برقم (27183)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل برقم (1175)، وضعفه آخرون. (¬4) برقم (2315). (¬5) هذا معلوم بالاستقراء ذكره، ابن القيم في زاد المعاد (2/ 336). (¬6) سنن الترمذي برقم (2839)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 372) برقم 2275.

والحارث. روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ، وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ، وَمُرَّةُ» (¬2). ويحرم أن يسمه بالأسماء المعبدة لغير الله: كأن يسمي عبد الكعبة، وعبد النبي، وعبد المسيح، وعبد علي، وعبد الحسين (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2132). (¬2) برقم (4950)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 935) برقم 4140. (¬3) انظر: الهدي، والأضحية، والعقيقة، للشيخ عبد الإله الطيار.

الكلمة الرابعة والعشرون: أحكام الأضحية وفضائلها

الكلمة الرابعة والعشرون: أحكام الأضحية وفضائلها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من شعائر الإسلام العظيمة التي أمر الله بها، وحثَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية، وهي ما يذبح في يوم النحر، وأيام التشريق من الإبل، والبقر، والغنم تقربًا إلى الله تعالى، وسميت بذلك لأنها تذبح ضحى بعد صلاة العيد. وشرعت الأضحية إحياء لسنة خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ أوحى الله إليه أن يذبح ولده إسماعيل ثم فداه بكبش فذبحه بدلًا عنه، قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} [الصافات: 107]. وشكرًا لله على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 36 - 37]. وأجمع المسلمون على مشروعيتها لقول الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34]. فهي مشروعة في جميع الملل. واختلف أهل العلم هل هي سنة أم واجبة؟ فذهب أهل القول الأول: إلى أنها سنة، واستدلوا على ذلك

بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا» (¬1). وذلك لأنه قال: وأراد أحدكم أن يضحي، فجعله مفوضًا إلى إرادته، ولو كانت التضحية واجبة لم يذكر ذلك. ومما استدلوا به أيضًا: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين، مخافة أن يُرى ذلك واجبًا (¬2). والقول الثاني: أن الأضحية واجبة وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد رحمهما الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: إن الظاهر وجوبها، وإن من قدر عليها فلم يفعل فهو آثم، لأن الله - سبحانه وتعالى - ذكرها مقرونة بالصلاة في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} [الكوثر: 2]، وفي قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 162]. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها وضحى عشر سنوات، وكان يظهرها على أنها شعيرة من شعائر الإسلام، حتى إنه يخرج بأضحيته ويذبحها بالمصلَّى. قال الشيخ ابن عثيمين: «والقول بالوجوب أظهر من القول بعدم الوجوب لكن بشرط القدرة، وأما العاجز الذي ليس عنده إلا مؤنة أهله، أو المدين فإنه لا تلزمه الأضحية، بل إن كان عليه دين ينبغي له ¬

(¬1) برقم (1977). (¬2) الفقه الميسر (4/ 120)، لمجموعة من المشايخ.

أن يبدأ بالدين قبل الأضحية» (¬1). وينبغي للمؤمن أن يحرص عليها، ويبادر إلى ذلك خروجًا من خلاف العلماء. والأضحية لها شروط، فمن ذلك: 1 - أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل، والبقر، والغنم، لقول الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]. وأفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ويشمل الضأن والمعز، فإن أخرج بعيرًا كاملًا فهو أفضل من الشاة، وأما لو أخرج بعيرًا عن سبع شياه فالسبع الشياه أفضل من البعير. 2 - بلوغ السن المعتبرة شرعًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً (¬2)، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّانِ» (¬3). فالإبل خمس سنين، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن ستة أشهر (¬4). قال ابن القيم رحمه الله: «وأمرهم أن يذبحوا الجذع من الضأن، والثني مما سواه وهي المسنة» (¬5). 3 - السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء، فلا يجزي في ¬

(¬1) الشرح الممتع (7/ 422 - 423). (¬2) أي: ثنية. (¬3) برقم (1963). (¬4) ذهب بعض أهل العلم في تعريف الجذع إلى أنه ما بلغ من السن ستة أشهر فما فوق، وذهب آخرون إلى أنه العظيم السمين من غير تحديد سنٍّ معيَّنَةٍ. (¬5) زاد المعاد (2/ 317).

الأضحية سوى السليمة من كل نقص في خلقتها، فلا تجزي العوراء، ولا العرجاء، ولا العضباء، وهي مكسورة القرن من أصلها، أو مقطوعة الأذن من أصلها، ولا المريضة ولا العجفاء (وهي الهزيلة التي لا مخ فيها)، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تَنْقَى» (¬1). أي: لا مخ في عظامها، وهي الهزيلة العجفاء. 4 - أن تكون في وقت الذبح، وهو من صباح العيد بعد الصلاة إلى آخر أيام التشريق، فلا تجزئ قبل صلاة العيد، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: «لَا يَذْبَحَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يُصَلِّيَ» (¬3) (¬4). الأحكام التي تتعلق بالأضحية: أولًا: من دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي، ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (2802)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 539) برقم 2431. (¬2) صحيح البخاري برقم (5546)، وصحيح مسلم برقم (1962). (¬3) برقم (1961). (¬4) الشرح الممتع، للشيخ ابن عثيمين (7/ 424 - 427).

فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية، لما روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» (¬1). وقيل: الحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم. ثانيًا: أفضلها ما كانت كبشًا أملح أقرن، وهو الوصف الذي استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحى به، كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ (¬2). وفسر الأملح بأنه الأبيض الذي يخالطه سواد، كما جاء عند مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ (¬3). قال القاضي عياض: «معناه أن قوائمه، وبطنه، وما حول عينيه أسود .. والله أعلم» (¬4). ثالثًا: تجزي الشاة عن واحد، أي: يضحي الإنسان بالشاة عن نفسه، وتجزي من حيث الثواب عنه، وعن أهل ¬

(¬1) برقم 1977. (¬2) صحيح البخاري برقم (5558)، وصحيح مسلم برقم (1966). (¬3) برقم (1967). (¬4) إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (6/ 418).

بيته، لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَن جَمِيعِ أَهلِهِ (¬1). ولحديث أبي أيوب الأنصاري: كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي وَعَن أَهلِ بَيتِهِ، فَيَأكُلُونَ، وَيُطعِمُونَ (¬2). والبدنة، والبقرة عن سبعة، والدليل حديث جابر بن عبد الله قال: نَحَرنَا فِي عَامِ الحُدَيبِيَةِ البَدَنَةَ عَن سَبعَةٍ، وَالبَقَرَةَ عَن سَبعَةٍ (¬3). رابعًا: ما يستحب عند ذبحها: أن توجه إلى القبلة مع التسمية، لما رواه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَبَحَ يَومَ العِيدِ كَبشَينِ، ثُمَّ قَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ أَوَّل الْمُسْلِمِينَ، بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ» (¬4). وفي صحيح مسلم أنه قال: «بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ» (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 7210. (¬2) سنن الترمذي برقم (1509)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) رواه مسلم برقم (1318). (¬4) (23/ 267) برقم (15022)، وقال محققوه: إسناده محتمل للتحسين. وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (4/ 350). (¬5) برقم (1967).

فقوله حين وجهها، يعني: إلى القبلة، وهذا يدل على أن التوجيه سنة، وورد في فتوى اللجنة الدائمة: «ويستحب أن يتوجه الذابح إلى القبلة، ويوجه الذبيحة كذلك إلى القبلة لأنها أشرف الجهات، ولأن الاستقبال مستحب في القربات، إلا ما دَلَّ الدليل على خلافه، ويتأكد الاستحباب إذا كانت الذبيحة هديًا، أو أضحية» (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وأما ما يفعله بعض العامة عندنا يسميها في ليلة العيد، ويمسح ظهرها من ناحيتها إلى ذنبها، وربما يكرر ذلك، هذا عني، هذا عن أهل بيتي، هذا عن أمي .. وما أشبه ذلك، فهذا من البدع، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يسمي من هي له عند الذبح» (¬2). خامسًا: صفة الذبح. روى البخاري ومسلم من حديث أنس: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ، أَمْلَحَيْنِ، أَقْرَنَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، قَالَ: وَسَمَّىَ وَكَبَّرَ (¬3). قال ابن حجر: «وفيه استحباب التكبير مع التسمية، واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين، وإمساك رأسها بيده اليسار» (¬4). ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 67) برقم (20786). (¬2) الشرح الممتع، للشيخ ابن عثيمين (7/ 454 - 455). (¬3) برقم (5564)، وصحيح مسلم برقم (1966). (¬4) فتح الباري (10/ 18).

أما الإبل فتنحر قائمة معقولة يدها اليسرى، هذه هي السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويدل لهذا قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. وجبت يعني سقطت على الأرض، وتكون اليسرى هي المعقولة لأن الذابح سوف يأتيها من الجهة اليمنى وسيمسك الحربة بيده اليمنى، وإذا نحرها فسوف تسقط على الجانب الأيسر الذي به اليد المعقولة (¬1). أما البقر فقد جاء في القرآن ذكر ذبحها، وفي السنة نحرها (¬2). قال القرطبي: «والذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتنحير في البقر، وقيل: الذبح أولى، لأنه الذي ذكره الله تعالى» (¬3). والذبح يكون بقطع الأوداج (¬4)، والأوداج جمع ودج بفتح الدال المهملة والجيم وهو العِرق الذي في الأخدع وهما عرقان متقابلان (¬5) (¬6). وفي الحديث المخرج في الصحيحين من حديث رافع ابن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّه فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ» (¬7) الحديث. ¬

(¬1) الشرح الممتع (7/ 440 - 441). (¬2) انظر: فتح الباري، لابن حجر (9/ 640 - 641). (¬3) المفهم للقرطبي (5/ 370). (¬4) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب (24). (¬5) فتح الباري، لابن حجر (9/ 640). (¬6) الودج محركة: عرق في العنق، القاموس المحيط (ص: 267). (¬7) صحيح البخاري (2488)، وصحيح مسلم برقم (1968).

قال النووي رحمه الله: «قال العلماء: ففي هذا الحديث تصريح بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويجري الدم، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم والمريء، والودجين، وأسال الدم حصلت الذكاة، وقوله: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ) قال بعض العلماء: دليل على جواز ذبح المنحور، ونحر المذبوح، وقد جوزه العلماء كافة إلا داود» (¬1). ويجوز الذبح بغير السكين إن لم تتيسر، إما بحجر ونحوه. روى البخاري في صحيحه من حديث مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: «كُلُوهَا» (¬2). وفي حديث: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ فَكُلْ» «دليل على جواز الذبح بكل محدد يقطع إلا الظفر، والسن، وسائر العظام فيدخل في ذلك السيف، والسكين، والسنان والحجر، والخشب، والزجاج، والقصب، والخزف، والنحاس، وسائر الأشياء المحددة فكلها تحصل بها الذكاة إلا السن، والظفر، والعظام كلها» (¬3). سادسًا: الإحسان حتى في الذبح: قال ابن القيم رحمه الله: «وأمر الناس إذا ذبحوا أن يحسنوا الذبح» (¬4). روى مسلم في ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم، للنووي (13/ 125 - 126). (¬2) برقم (5505). (¬3) شرح صحيح مسلم، للنووي (13/ 126). (¬4) زاد المعاد (2/ 295).

صحيحه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (¬1). سابعًا: وقد دلت الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة على أنه ينبغي أن يأكل من أضحيته، ويتصدق، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير} [الحج: 28]. فإن أهدى منها لجيرانه، وأقاربه، فهو أفضل، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا» (¬2). وفي رواية: «كُلُوا، وَأَطْعِمُوا، وَاحْبِسُوا، أَوِ ادَّخِرُوا» (¬3). ثامنًا: لا يُعطى الجزار أجرة عمله من الأضحية، فقد روى البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه قال: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى الْبُدْنِ، وَلَا أُعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا (¬4). وفي رواية مسلم: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عَنْدِنَا» (¬5). ¬

(¬1) برقم 1955. (¬2) برقم (1971). (¬3) صحيح مسلم برقم (1973). (¬4) برقم (1716)، وصحيح مسلم برقم (1317). (¬5) برقم (1317).

قال العلماء: «إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، قال البغوي رحمه الله: وأما إذا أُعطي أجرته كاملة، ثم تصدق عليه إذا كان فقيرًا كما يتصدق على الفقراء، فلا بأس بذلك» (¬1). تاسعًا: يستحب أن يذبح أضحيته بنفسه. قال ابن قدامة: «وإن ذبحها بيده كان أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمَّى وكبَّر، ولأن في فعله قربة وفعل القربة أولى من استنابته فيها، فإن استناب فيها جاز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استناب من نحر ما بقي من بدنه بعد ثلاث وستين» (¬2). تنبيه: هل الأضحية مشروعة عن الأموات أم عن الأحياء؟ «لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم ضحَّوا عن الأموات استقلالًا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات له أولاد من بنين وبنات في حياته، ومات له زوجات وأقارب يحبهم، ولم يضحِّ عن واحد منهم، فلم يضحِّ عن عمه حمزة ولا عن زوجته خديجة ولا عن غيرهم من الأبناء والبنات، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته قولًا أو فعلًا، وإنما يضحي الإنسان عنه وعن أهل بيته، وأما إدخال الميت تبعًا، فهذا قد يستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحَّى عنه وعن أهل بيته، وأهل بيته يشمل زوجاته اللاتي متن واللاتي على قيد الحياة، وكذلك ضحَّى عن أمته وفيهم من هو ميت، وفيهم من لم يوجد (¬3)، لكن الأضحية عنهم ¬

(¬1) فتح الباري (3/ 556). (¬2) المغني (13/ 390 - 391). (¬3) مسند الإمام أحمد (23/ 133 - 134) برقم 14837، وقال محققوه: صحيح لغيره.

استقلالًا ليس عليها دليل» (¬1). فإن أوصى بشيء من ماله يُضحى عنه به فلا حرج. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الشرح الممتع، للشيخ ابن عثيمين (7/ 423) باختصار.

الكلمة الخامسة والعشرون: فضائل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

الكلمة الخامسة والعشرون: فضائل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لنا في الإكرام، والاحترام، والتوقير، والإعظام، وهذه فضيلة عظيمة لهن. قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاحهن بعد موته صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة، والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية» (¬1). «فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن، واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض لأنهن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي ¬

(¬1) منهاج السنة (4/ 207)، لابن تيمية باختصار.

وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [غافر: 7 - 8]. فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة» (¬1). روى الطبراني في الأوسط من حديث أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَرْأَةُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا» (¬2). وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ» (¬3). وفي رواية الترمذي: «إِنَّ هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (¬4). قال ابن كثير رحمه الله: «فإنهن - أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - في الجنة، في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش» (¬5). وقال أيضًا: «ومن فضائلهن أن الله تعالى أمر رسوله أن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يُحصْل لهن من عنده الحياة ¬

(¬1) شرح العقيدة الواسطية، للشيخ ابن عثيمين (2/ 278). (¬2) (3/ 275) برقم (3130)، وقواه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 275) برقم 1281. (¬3) برقم (5125)، وصحيح مسلم برقم (2438). (¬4) برقم (3880). (¬5) تفسير ابن كثير (11/ 150).

الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل فاخترن - رضي الله عنهن وأرضاهن - الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة» (¬1). قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. ومنها: ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31]. فهن قنتن لله ورسوله وعملن صالحًا، فاستحققن الأجر مرتين. قال الزمخشري: «وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد منهن مثل ما لله عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، وطيب المعاشرة، والقناعة، وتوفرهن على عبادة الله، والتقوى» (¬2). ومنها: ما ذكره الله تعالى بقوله: {يَانِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. قال ابن كثير: «هذه آداب أمر الله بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك فقال مخاطبًا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن فإنهن لا يشبههن أحد من ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 145) (¬2) الكشاف (5/ 65)، بتصرف. قال في المصباح المنير (2/ 666): وتوفر على كذا: صرف همته إليه.

النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة» (¬1). ومنها: أن الله اختارهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرَّم نكاحهن بعده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب]. ومنها: أن الوحي ينزل في بيوتهن دون سائر الناس، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. قال ابن كثير: «ثم الذي لا يَشُك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. أي: اعملن بما نزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة بنت الصديق أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها كما نص على ذلك صلى الله عليه وسلم» (¬2). وأفضل أزواجه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة - رضي الله عنهن جميعًا - أما خديجة ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (11/ 150) (¬2) تفسير ابن كثير (11/ 160)

فهي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة، أول من آمن به من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، وكان أنفع الجماعة في الدعوة باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة» (¬1). ومن فضائلها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَد أَتَت، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتكَ فَاقرَأ عَلَيهَا السَّلَامَ مِن رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرهَا بِبَيتٍ فِي الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» (¬2). وأما عائشة فكانت أحب أزواجه إليه، وأعلمهن، وأعظمهن حرمة عند المسلمين. روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (¬3). وبيَّن دلالته على فضلها بقوله: «كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»، والثريد هو أفضل الأطعمة وهو خبز ولحم، قال الشاعر: إِذَا مَا الخُبْزُ تَادُمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ فإذا كان اللحم سيد الإدام، والبر سيد الأقوات، ومجموعهما ¬

(¬1) منهاج السنة (7/ 15). (¬2) برقم (3820)، وصحيح مسلم برقم (2432). (¬3) صحيح البخاري برقم (3769)، وصحيح مسلم برقم (2431).

الثريد كان الثريد أفضل الطعام. ومن زوجاته أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها. ومن فضائلها: أنها وهبت يومها لعائشة لعلمها لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم الشديدة لها. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنَ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ، قَالَت: فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ، قَالَت: يَا رَسُولَ اللَّه! قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ، يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ (¬1). ومنهن: أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنها وعن أبيها، ومن فضائلها: تعلُّمها القرآن، والكتابة. فقد روى أبو داود في سننه من حديث الشفاء بنت عبد الله قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقَالَ لِي: «أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ (¬2)، كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ» (¬3). وقد روت الكثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان المصحف الذي اجتمع عليه المسلمون في عهد عثمان في بيتها، وقد اشتهرت ¬

(¬1) برقم (5212)، وصحيح مسلم برقم (1463) واللفظ له. (¬2) النملة: قروح تخرج في الجنبين، ويقال: إنها تخرج أيضًا في غير الجنب، وهو داء معروف، وسمي نملة لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه. انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 120). (¬3) برقم (3887)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (ص: 178).

بكثرة الصيام، فقد روى ابن سعد في الطبقات من حديث نافع قال: ما ماتت حفصة حتى ما تفطر (¬1). ومنهن أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، لم تلبث عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا أشهر يسيرة، ولذلك لم يصل إلينا من أخبارها إلا القليل، ومن فضائلها: أنها كانت تلقب بأم المساكين، قال ابن كثير: وذلك لكثرة صدقاتها عليهم وبرها لهم، وإحسانها إليهم (¬2). ومنهن أم سلمة هند بنت أبي أمية سهيل بن المغيرة القرشية. ومن فضائلها: أنها هاجرت إلى الحبشة مع زوجها، وكذلك هجرتها الثانية إلى المدينة، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وكانت فقيهة حافظة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نالت شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه كغزوة المريسيع، وخيبر، وفتح مكة. ولها موقف في غزوة الحديبية لا يُنسى، فبعد الصلح الذي حصل بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا، فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ: نَحَرَ ¬

(¬1) الطبقات الكبرى (8/ 287)، وقال ابن حجر في الإصابة (13/ 287): إسناده صحيح. (¬2) البداية والنهاية، لابن كثير (5/ 581).

بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا (¬1). ومنهن أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رئاب، وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: «زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ» (¬2). ومن فضائلها: أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله من فوق سماواته، وكانت أولًا عند زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه، فلما طلقها زيد زوجه الله تعالى إياها لتتأسى به أمته في نكاح أزواج من تبنوه، قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَا} [الأحزاب: 37]. فالذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خوفه من لغط الناس عندما يجدون نظام التبني كما ألفوه قد انهار، عند ذلك نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم يحضه على إمضاء رغبة زيد في فراق امرأته ويكلفه بتزوجها (¬3)، ثم قال سبحانه في آخر الآية: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37]. ومنهن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن المصطلق، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقها صداقها. ومن فضائلها: أنها كانت امرأة مباركة، ففي سنن أبي داود من ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2731، 2732). (¬2) صحيح البخاري برقم (7421). (¬3) فقه السيرة (ص: 473 - 474).

حديث عائشة قالت: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها «أُعْتِقَ فِي سَبَبِهَا مِئَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ» (¬1). وكانت كثيرة الصيام والذكر، ففي صحيح البخاري من حديث جويرية بنت الحارث: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: «أَصُمْتِ أَمْسِ؟ » قَالَتْ: لَا، قَالَ: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ » قَالَتْ: لَا، قَالَ: «فَأَفْطِرِي» (¬2). ومنهن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها. ومن فضائلها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ تَحْتَ نَبِيٍّ» (¬3). وقد اشتهرت بالإنفاق والبذل، قال ابن كثير: «كانت من سيدات النساء عبادة، وورعًا، وزهادة، وبرًا، وصدقة» (¬4). ومنهن أم المؤمنين أم حبيبة رَمْلَةُ بِنتُ أبي سفيان بن صخر بن حرب الأموية القرشية، وليس في أزواجه من هي أقرب نسبًا إليه منها. ومن فضائلها: هجرتها إلى الحبشة مع زوجها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الهجرة إلى الحبشة: «لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ» (¬5). وقد روت الكثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ¬

(¬1) برقم 3931، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 3327. (¬2) برقم (1986). (¬3) سنن الترمذي برقم (3894)، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 244) برقم (3055). (¬4) البداية والنهاية لابن كثير (11/ 225). (¬5) صحيح البخاري برقم (3876)، وصحيح مسلم برقم (2502).

ابن كثير: «كانت أم حبيبة من سيدات أمهات المؤمنين، ومن العابدات الورعات» (¬1). ومنهن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية وهي أخت زينب بنت خزيمة لأمها أم المؤمنين وأم المساكين. ومن فضائلها: أنها روت الكثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة عنها: أما إنها كانت من أتقانا، وأوصلنا للرحم (¬2). وكانت ميمونة آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن دخل بهن. قال ابن القيم رحمه الله: «ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع، وكان يقسم منهن لثمان عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وصفية، وحبيبة، وميمونة، وسودة، وجويرية، وأول نسائه لحوقًا به بعد وفاته زينب بنت جحش سنة عشرين، وآخرهن موتًا أم سلمة سنة اثنين وستين في خلافة يزيد» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 166) باختصار. (¬2) مستدرك الحاكم (5/ 42) برقم 6878، والطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 138). (¬3) زاد المعاد (1/ 110).

الكلمة السادسة والعشرون: سورة العلق

الكلمة السادسة والعشرون: سورة العلق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الله أنزل القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. ومن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم العظيمة والفوائد الجليلة: (سورة العلق)، وهي أول ما نزل من القرآن، فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بالرسالة وأمره أن يقرأ فامتنع وقال: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَلَم يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَرَأَ، فَأَنزَلَ عَلَيهِ: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} (¬1) [العلق: 1]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة قالت: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى ¬

(¬1) تفسير الشيخ السعدي (ص: 889).

خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَا، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»، قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَا»، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكْرَم} [العلق: 1 - 3]» (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: «فأول شيء نزل من القرآن الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها تنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه وكرَّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني، ولفظي، ورسمي، والرسمي يستلزمها من غير عكس، فلهذا قال: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} [العلق: 1 - 5]. وفي الحديث: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ»، قُلْتُ: وَمَا تَقْيِيدُهُ؟ قَالَ: «كِتَابَتُهُ» (¬2) (¬3). قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق} أي: من دم، والعلقة الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح، وخص الإنسان بالذكر تشريفًا له، وقيل: أراد أن يبيِّن قدر نعمته عليه بأن خلقه من علقة مهينة حتى صار بشرًا سويًّا، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (3)، وصحيح مسلم برقم (160). (¬2) مستدرك الحاكم (1/ 303) برقم (369)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 41) برقم (2026). (¬3) تفسير ابن كثير (14/ 398).

وعاقلًا مميزًا (¬1). قوله تعالى: {اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكْرَم}، أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود الذي من كرمه أن علَّم بالقلم (¬2). قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم}، «يعني: علَّم الإنسان الخط بالقلم، قال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبَّه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو؛ وما دُوِّنَتِ العُلُومُ، وَلَا قُيِّدَتِ الحِكَمُ، وَلَا ضُبِطَتْ أَخبَارُ الأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتُهُم، وَلَا كُتُبُ اللَّهِ المُنزَلَةُ إِلَّا بِالكِتَابَةِ، وَلَولَا هِيَ مَا استَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنيَا» (¬3). روى أبو داود في سننه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» (¬4). قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم}، فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع، والبصر، والفؤاد ويسر له أسباب العلم، قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ¬

(¬1) تفسير القرطبي (22/ 377). (¬2) تفسير الشيخ السعدي ص: 889. (¬3) تفسير القرطبي (22/ 377). (¬4) برقم (4700)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3933).

الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [النحل: 78]. قوله: {كُلاًّ}، أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان أن ينعم عليه ربه بتسويته خلقه، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى. قوله تعالى: {أَن رَأَىهُ اسْتَغْنَى}، «فالإنسان - لجهله وظلمه - إذا رأى نفسه غنيًا طغى وبغى وتجبر عن الهدى، ونسي أن إلى ربه الرجعى، ولم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال أنه يترك الهدى بنفسه ويدعو غيره إلى تركه، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان» (¬1)، ثم قال سبحانه: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي المصير والمرجع وسيحاسبك على ما فعلت. قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى}، نزلت في أبي جهل لعنه الله، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي زَعَمَ لِيَطَأَ رَقَبَتَهُ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فأنزل الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}، إلى قوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن، للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص: 889).

وَتَوَلَّى}، يعني: أبا جهل {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، إلى قوله: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (¬1). وفي رواية عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، لآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ، قَالَ: فَقَالَ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا» (¬2). قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى}، أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} بقوله وأنت تزجره وتتوعده على صلاته، ولهذا قال: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، أي: أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه، ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء؟ ! «ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَة}، أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد، {لَنَسْفَعًا} أي: لنأخذن، بالناصية: وهي شعر مقدم الرأس، وقد يعبر بها عن جملة الإنسان، كما يقال هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان، وخصَّ الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا أو في الآخرة يجر بناصيته إلى النار؟ يحتمل هذا وهذا، وقد أُخذ بناصيته في يوم بدر حين قُتْل مع من قُتْل من المشركين ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار، كما قال الله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ¬

(¬1) برقم (2797). (¬2) مسند الإمام أحمد (4/ 98 - 99) برقم (2225)، وقال محققوه: صحيح.

فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَام} [الرحمن: 41]. وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر، فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعًا» (¬1). قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَة}، يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها. قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}، أي: أهل مجلسه وأصحابه ومن حوله ليعينوه على ما نزل به، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله نادٍ يجتمع الناس إليه فيه ويتكلمون في شؤونهم، فهنا يقول الله عز وجل: إن كان صادقًا فليدع ناديه، وهذا تحدٍّ له. روى الترمذي في سننه وابن جرير في تفسيره من حديث ابن عباس قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ وَتَوَعَّدَهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَانْتَهَرَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَكْثَرُ أَهْلِ الْوَادِي نَادِيًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة}، قال ابن عباس: لَو دَعَا نَادِيَهُ، أَخَذَتهُ زَبَانِيَةُ العَذَابِ مِن سَاعَتِهِ (¬2). قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة}، يعني: عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار، وقد وصفهم الله بأنهم غلاظ شداد، ¬

(¬1) تفسير القرآن الكريم جزء عم، للشيخ ابن عثيمين (ص: 268). (¬2) سنن الترمذي برقم (3349)، وابن جرير في تفسيره (10/ 8716) برقم (37564) واللفظ له. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 132) برقم 2668.

فقال تعالى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6]. وقيل: إنهم أعظم الملائكة خلقًا، وأشدهم بطشًا، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه، قال الشاعر: مَطَاعِيْمُ فِي القَصْوَى مَطَاعِينُ فِي الوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ (¬1) عِظَامٌ حُلُومُهَا فسندع الزبانية حتى يعلم من يغلب: أحزبنا أم حزبه؟ وهذه حالة الناهي وما تُوعد به من العقوبة، وأما حالة المنهي فأمره الله أن لا يصغي إلى هذا الناهي ولا ينقاد لنهيه، فقال: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ}، يعني: يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله، فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس. «قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات، والقربات، فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه، وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه، وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وعبث به وآذاه» (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أنه قال: سَجَدَ ¬

(¬1) الغلب: جمع أغلب وهو الغليظ الرقبة، وهم يصفون السادة بغلظ الرقبة وطولها. اللسان (غلب). (¬2) تفسير ابن سعدي (ص: 889). (¬3) برقم (482).

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّت} وَ {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ} (¬1). هذه السورة (العلق) سورة عظيمة، ابتدأها الله تعالى بما مَنَّ به على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل. وقد اشتملت هذه السورة على فوائد كثيرة، لعل الله ييسر بيانها في كلمة مستقلة، ومن أعظمها: اشتمالها على الأمور الثلاثة التي بمعرفتها يستقيم حال العبد في دنياه وأُخراه، وهي: 1 - مما خُلق. 2 - لما خُلق. 3 - إلى أين مصيره. نسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بطاعته، والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه على كل شيء قدير (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (578). (¬2) تفسير القرآن الكريم جزء عم، للشيخ ابن عثيمين (ص: 271).

الكلمة السابعة والعشرون: شرح حديث: «اعدد ستا بين يدي الساعة»

الكلمة السابعة والعشرون: شرح حديث: «اعدد ستًا بين يدي الساعة» الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَاخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَاتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» (¬1) (¬2). في هذا الحديث إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - عن حوادث تقع بعده، وقد وقع بعضها، وسيقع الباقي قطعًا وهي في هذا الحديث ستة أمور: أولها: موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك من أعظم المصائب التي ابتُلِيَ بها المسلمون، ولن يُبتَلَوا بمصيبة أعظم من وفاته. روى الترمذي في سننه من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ ¬

(¬1) برقم 3176. (¬2) جملة العدد تسع مئة وستون ألف مقاتل.

اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَيْدِي، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ، حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ، نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم! فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا (¬2). وروى الدارمي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ، فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» (¬3). ثانيها: فتح بيت المقدس، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تم فتح بيت المقدس سنة (16 هـ)، كما ذكر ذلك أئمة السير، فقد ذهب عمر بنفسه وصالح أهلها، وفتحها وطهرها من اليهود والنصارى، وبنى بها مسجدًا في قبلة بيت المقدس. ¬

(¬1) برقم (3618)، وقال ابن كثير: إسناده على شرط الشيخين، وقال الترمذي: حديث غريب صحيح. (¬2) برقم 2454. (¬3) (1/ 53) برقم 85، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم 347.

ثالثها: موت يصيب الأمة كقُعاص (¬1) الغنم، قال ابن حجر: «يُقال إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس (¬2) في خلافة عمر، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس (¬3)، ففي سنة (18 هـ) وقع طاعون عمواس في بلاد الشام فمات فيه خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ومن غيرهم، قيل عدد من مات فيه خمسة وعشرون ألفًا من المسلمين» (¬4). رابعها: استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطًا: وقد تحقق كثير مما أخبرنا به الصادق صلى الله عليه وسلم فكثر المال في عهد الصحابة بسبب ما وقع من الفتوح، واقتسموا أموال الفرس» والروم، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان الرجل يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله. ويكثر المال في آخر الزمان كما جاء في الحديث الآخر المخرج في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لَا أَرَبَ لِي بِهِ» (¬5). قال ابن حجر رحمه الله: «وهذا إشارة إلى ما سيقع في زمن عيسى ابن ¬

(¬1) قُعاص: بالضم، داء يأخذ الدواب، فيسيل من أنوفها شيء، فتموت فجأة. النهاية في غريب الحديث (4/ 88)، وفتح الباري (6/ 278). (¬2) عمواس: بلدة في فلسطين على ستة أميال من الرملة، على طريق بيت المقدس. معجم البلدان (4/ 157). (¬3) فتح الباري (6/ 278). (¬4) البداية والنهاية (7/ 94). (¬5) برقم 7121 مختصرًا.

مريم، فيكون في هذا الحديث إشارة إلى ثلاثة أحوال: الأولى: إلى كثرة المال فقط، وقد كان ذلك في زمن الصحابة. الحالة الثانية: الإشارة إلى فيضه من الكثرة بحيث أن يحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره، وكان ذلك في آخر عصر الصحابة وأول عصر من بعدهم، ومن ثم قيل: (يهم رب المال)، وذلك ينطبق على ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز. الحالة الثالثة: فيه الإشارة إلى فيضه وحصول الاستغناء لكل أحد، حتى يهتم صاحب المال بكونه لا يجد من يقبل صدقته، ويزداد بأنه يعرضه على غيره ولو كان ممن لا يستحق الصدقة، فيأبى أخذه فيقول: لا حاجة لي فيه، وهذا في زمن عيسى عليه السلام. ويحتمل أن يكون هذا الأخير عند خروج النار، واشتغال الناس بأمر الحشر، فلا يلتفت أحد حينئذ إلى المال، بل يقصد أن يتخفف ما استطاع» (¬1). خامسها: فتنة لا تدع بيتًا من العرب إلا دخلته، أما تخصيص العرب هنا فلأن الخطاب خطاب إخبار يخص المخاطبين، وليس خطاب أحكام يعم الأمة كلها، وعلى هذا أكثر أحاديث الفتن، إلا ما جاء النص بوقوعه خارج جزيرة العرب، وهذه الفتنة تقع قبل الملحمة الكبرى. سادسها: قوله صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ»، أما بنو الأصفر فهم الروم، والخطاب يخص المخاطبين وهم العرب، ولعل هذه الهدنة المذكورة هنا أنها الصلح المذكور في حديث ذي مخبر الآتي، وقد جاء تفصيلها وبيان القدر الذي يقع ¬

(¬1) فتح الباري (13/ 87 - 88).

بعدها، وما يتبع ذلك من قيام الملحمة الكبرى في جملة أحاديث أجملها هنا على وجه التقريب، فأقول وبالله أستعين، والعلم كله لديه: يصالح العرب المسلمون الروم، ثم ينشأ عدوًا مشتركًا بينهما فيجتمع الطرفان على قتاله فينتصرون عليه، وفي نشوة النصر يقوم قائم من الروم ويرفع راية الصليب زاعمًا أن انتصارهم به، فينتبه بعض المسلمين الذين كانوا يقاتلون، ويغضب من هذه الدعوى الشركية فيكسر الصليب، ويعلن أن النصر من الله وحده، فيقوم النصارى إلى كاسر الصليب فيقتلونه، فتقع بعد ذلك مناوشة بين النصارى والفرق المسلمة القريبة منهم، فيقتلهم النصارى، وحينئذ يقع الخلاف بين العرب المسلمين والنصارى، فيذهب النصارى فيجتمعون في الأعماق، وهو سهل فسيح يقع بالقرب من حلب، وفي أثناء استعداد الروم لجمع ذلك الجيش يقوم خليفة صالح للمسلمين ولعله المهدي لإعداد جيش قوامه سبعون ألف هم خير جيش على وجه الأرض، ويخرج ذلك الجيش من المدينة النبوية فيصطدم بجيش الروم، وبعد قتال عظيم وعمليات فدائية ينتصر عليهم، فيسير ذلك الخليفة بجيشه المنتصر حتى يفتح القسطنطينية، وروما التي تسمى اليوم الفاتيكان، بعد ذلك يُشاع فيهم أن الدجال خلفكم، فيعودون إلى دمشق معقل الإسلام، فبينما هم محصورون إذ جاءهم الفرج بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتي المسلمين المجاهدين فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، ويصلي معهم خلف

إمامهم، وبعدها ينطلق عليه السلام لقتل الدجال فيدركه وقد هرب منه إلى باب لد (¬1)، فيقتله هناك ويقتل المسلمون أتباعه اليهود ويعينهم الحجر، والشجر حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، وإليك الأحاديث فتأمل: 1 - روى أبو داود في سننه من حديث جبير بن نفير عن الهدنة قال: قَالَ جُبَيْرٌ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى ذِي مِخْبَرٍ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْنَاهُ فَسَأَلَهُ جُبَيْرٌ عَنِ الْهُدْنَةِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَاءِكُمْ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ، حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ (¬2)؛ فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ، فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ» (¬3). 2 - روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمرو بن ¬

(¬1) باب لد: هو باب من أبواب مدينة القدس يتجه نحو مدينة الد، أو أن يكون المقصود أن يقتل في مدينة لد بالقرب من المطار الرئيس لليهود. (¬2) بمرج ذي تلول: مرج وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب، وفي النهاية: أرض واسعة ذات نبات كثير (وذي تلول) بضم التاء، جمع تل وبفتحها وهو موضع مرتفع، قال القاري: وقال السندي: كل ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل. عون المعبود (11/ 269). (¬3) برقم (4292)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3/ 809) برقم 3607.

العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ» (¬1). 3 - روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ (¬2)، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا، قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُوهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ؛ فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاؤُوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَأَىهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ» (¬3). 4 - روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ¬

(¬1) (29/ 549) برقم (10822)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الصحيح. (¬2) موضعان بالشام بالقرب من حلب. (¬3) برقم (2897).

قال: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا (وَنَحَّاهَا نَحْوَالشَّامِ)، فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ (¬1)، قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ. ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ (¬2)، لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ؛ ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ (¬3) بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ (¬4)، فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً إِمَّا قَالَ: لَا يُرَى مِثْلُهَا، وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ، فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ كَانُوا مِئَةً، فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ؟ ¬

(¬1) أي: للحرب والقتال وهذا إنما يكون بعد غدر الروم المشار إليه في الحديث السابق. (¬2) الشرطة بضم الشين: أول طائفة من الجيش يشهد الواقعة ويتقدم. (¬3) أي: تقدموا إليهم ونهضوا. (¬4) الدبرة، أي: الدولة والظفر والنصرة، وتفتح الباء وتسكن، ويقال: على من الدبرة أيضًا، أي: الهزيمة. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث (2/ 98) ..

أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ سَمِعُوا بِبَاسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ، فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ» (¬1). قال ابن المنير: «أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر في هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دلَّ على أن العاقبة للمؤمنين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه» (¬2). قال المهلب: «وفيه أن الغدر من أشراط الساعة» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم (2899). (¬2) فتح الباري (6/ 278). (¬3) المصدر السابق (6/ 279).

الكلمة الثامنة والعشرون: الإمامة: حقوق وواجبات

الكلمة الثامنة والعشرون: الإمامة: حقوق وواجبات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. قال ابن عباس والحسن وغيرهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أئمة يُقتدى بنا في الخير (¬1). وقال تعالى عن خليل الله إبراهيم عليه السلام: فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124]، أي: جعلناك للناس إمامًا يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون (¬2). والإمامة وظيفة الأنبياء والرسل، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون} [السجدة: 24]. والحديث في هذه الكلمة سيكون عن الإمامة الصغرى، وهي إمامة الناس في الصلاة، فلا شك أن الإمامة لها واجبات، وحقوق، وصفات، فإمامة الناس في الصلاة مرتبة عالية، وشرف عظيم. وقد وردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بفضلها ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (10/ 334). (¬2) تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (2/ 367).

ومكانتها، فمن ذلك: ما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، الْلهُمَّ أرْشِدِ الأَئِمَةَ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ» (¬1). وقد ذكر الفقهاء - رحمهم الله - أن للإمام صفات لا بد من توفرها، فمن ذلك: أن يكون رجلًا عدلًا، فقيهًا، سليم اللفظ من نقص أو لتغ، فإن كان صبيًا، أو عبدًا، أو فاسقًا، صحت إمامته، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة أن يصلي بقومه، وكان صغيرًا، لأنه كان أقرأهم (¬2). ولا يجوز أن يكون الإمام امرأة، ولا خنثى، ولا أخرس، ولا ألتغ، وأقل ما على الإمام من القراءة، والفقه، أن يكون حافظًا لأم القرآن - الفاتحة - وما تيسر من القرآن، عالمًا بأحكام الصلاة لأنه القدر المستحق فيها، وأولى الجماعة بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله تعالى، ثم أفقههم في دين الله، ثم الأكثر تقوى، ثم الأكبر سنًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ (¬3) لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا» (¬4). وفي رواية: مكان «سِلْمًا»، «سِنًّا» (¬5). ما لم يكن الرجل سلطانًا أو صاحب منزل، فيكون أولى ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (517)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (237). (¬2) صحيح البخاري برقم (4301). (¬3) أي: أكثرهم قرآنًا وحفظًا وجمعًا له. (¬4) أي: إسلامًا. (¬5) صحيح مسلم برقم (673).

من غيره بالإمامة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ» (¬1). «ومن الصفات التي يستحب توفرها في الإمام، ولا سيَّما إن كان هو الخطيب: أن يكون عالمًا بالعقائد الصحيحة وأمور الإيمان حتى لا يزيغ ويضلل الناس، وعلى علم ومعرفة بالأحكام الفقهية كي يصحح العبادات، ويجيب عن أسئلة المأمومين، عارفًا باللغة العربية كي يؤلف الكلام البليغ والموعظة الحسنة، وأن يكون نبيهًا فطنًا، وجيهًا، تهابه القلوب، وتجله العيون، صالحًا، تقيًا، مهذبًا، ورعًا، قنوعًا، زاهدًا، غير مجاهر بمعصية، يفعل ما يقول، فذلك أدعى إلى قبول الموعظة منه والإرشاد» (¬2)؛ وألَّا يأخذَ أجرًا على إمامته، ولا يقصد به الرزق الذي يؤخذ من بيت المال، ويحسن إلى جماعة مسجده قدر المستطاع، ويتفقد أحوالهم، ويجتهد في التأليف بينهم. ومن واجبات الإمام ومسؤولياته: أن يتحرى إتمام الصلاة وعدم إنقاص شيء منها. روى ابن ماجه في سننه من حديث عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ، فَالصَّلَاةُ لَهُ وَلَهُمْ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْ ذاَلِكَ شَيْئًا، فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ» (¬3). وليحرص أن تكون صلاته مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أخف الناس صلاة في تمام. روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (673). (¬2) المسجد في الإسلام، لخير الدين وانلي (ص: 94) بتصرف. (¬3) برقم (983)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 162) برقم (820).

قال: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ، أَخَفَّ صَلَاةً، وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (¬1). فلا يطيل الصلاة فيتجاوز بذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجعلها كنقر الديك، بل يطمئن في صلاته ويعتدل فيها، ويرتل القرآن ترتيلًا حسنًا، ويقف على رؤوس الآي فلا يصلها بما بعدها، ويحسن صوته بالقرآن، ولا يتقعر، ولا يجعله غناء، أو يتكلف في قراءته؛ ويحرص على التنويع في قراءته فلا يقتصر على سور معينة، بل كلما حرص على أسماعهم أكبر عدد من السور فهو أفضل، مستدلًّا بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيد} [ق: 45]. ومنها: أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِ مِنْ تَمامِ الصَّلَاةِ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا إِذَا قُمْنَا لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ» (¬3). ومنها: تعليم الناس العلم الشرعي وخصوصًا التوحيد والإسلام والإيمان، وأمور الدين العظام كالولاء والبراء، ونواقض الإسلام، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (708)، وصحيح مسلم برقم (469). (¬2) صحيح البخاري برقم (723)، وصحيح مسلم برقم (433). (¬3) برقم (665)، وأصله في صحيح مسلم برقم (436).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك أمور العبادة كأحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما يحتاجونه في معاملاتهم، ونكاحهم، كما عليه الحرص على حِلق تحفيظ القرآن الكريم والرقي بها إلى أفضل حال .. وغيرها، فإن حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب. روى البخاري في صحيحه من حديث عثمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ» (¬1). ومنها: تفقد الفقراء، والمرضى، والمتهاونين بالصلاة، وخاصة صلاة الفجر، ومساعدة من يحتاج منهم إلى زيارة، أو نصح، فإن لذلك الأثر الكبير في قلوبهم. وفي الحديث: «لَأَن يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬2). ومنها: الحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطهير الحي من المنكرات الظاهرة، والتعاون مع جماعة المسجد على ذلك. ومنها: الحرص على استضافة العلماء والدعاة لإلقاء الدروس والمحاضرات، والكلمات، ففي ذلك إحياء للمساجد، وتذكير وتعليم للمصلين، وهو من أعظم أنواع عمارته، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين} [التوبة: 18]. ومنها: المواظبة على الإمامة في الصلوات كلها، وعدم توكيل ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5027). (¬2) صحيح مسلم برقم (2406).

الغير إلا عند الحاجة إلى ذلك، وإذا احتاج إلى التوكيل فلا يوكل إلا من كان أهلًا لذلك، وعليه مراعاة أحوال الناس؛ فإن بكر إلى الصلاة واجتمعوا، بادر بالصلاة، وإلا انتظر. سُئلت اللجنة الدائمة، يقول السائل: إننا أئمة ومؤذنو مساجد تهامة قحطان، نبتعد عن المساجد التي نقوم بها لصعوبة أرضنا، ولبعد إسكاننا عن المساجد، وإذا تركنا القيام بها فلا يوجد من يقوم بها غيرنا، فنسأل عن المكافأة التي نحصل عليها ونحن لا نواظب عليها كل فرض، هل علينا فيها إثم أم لا؟ آمل من الله ثم منكم إفتاءنا. الجواب: «لا يجوز للإنسان أن يتولى الأذان، أو الإمامة، أو غيرهما من شؤون المساجد، أو أي عمل آخر وهو لا يقوم بالعمل، ولا يحل له الراتب الذي يدفع في مقابل ذلك، وعليه أن يترك العمل لمن يقوم به على الوجه المطلوب. وبالله التوفيق» (¬1). ومنها: العناية بالمسجد، وما يحتاجه من صيانة ونظافة، وما أشبه ذلك، وأن يتعاون الإمام والمؤذن في خدمة بيت الله. وأما حقوق الإمام فإن مكانته كبيرة، وحقوقه كثيرة، إذا كان مؤديًا لواجباته، ولذلك ينبغي احترامه وتقديره، وإعانته على تحمل أمانة المسجد ومسؤولياته، وكذلك استشارته بما يحصل في الحي من أحداث وطرق علاجها، ونصحه عند تقصيره في واجبات الإمامة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ ¬

(¬1) فتاوى اللجنة الدائمة برقم (19865).

قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» (¬1). ويكون ذلك بالرفق وسرًّا. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الرِّفقَ لَا يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ» (¬2). قال الشافعي رحمه الله: تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الجَمَاعَهْ فَإِنَّ النُّصْحَ بَينَ النَّاسِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبِيخَ لَا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيتَ قَولِي فَلَا تَجْزَعْ إِذَا لَم تُعْطَ طَاعَهْ وينبغي إحسان الظن به، وعدم تتبع زلاته وعثراته، أو غيبته في المجالس، بل إن ذكر فيذكر بخير ويُدعى له، قال الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (55). (¬2) صحيح مسلم برقم (2594).

الكلمة التاسعة والعشرون: العزلة والاختلاط

الكلمة التاسعة والعشرون: العزلة والاختلاط الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد وردت النصوص من الكتاب والسنة تحث على مخالطة الناس لتعليمهم الخير ودعوتهم إليه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والصبر عليهم، كما وردت النصوص تحث على اعتزالهم، وترك مخالطتهم. ولذا اختلف العلماء أيهما أفضل: العزلة أم الاختلاط؟ استدل أصحاب القول الأول بما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِندَمَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قَالَ: «رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ، يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» (¬1). وبما رواه الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَليَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيْئَتِكَ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (6494)، وصحيح مسلم برقم (1888). (¬2) برقم (2406)، وقال: هذا حديث حسن.

وبالحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في آخر الحديث: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (¬1). وبما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ» (¬2). وقال عمر: خذوا بحظكم من العزلة. وقال سعد بن أبي وقاص: لوددت أن بيني وبين الناس بابًا من حديد، لا يكلمني أحد ولا أكلمه، حتى ألقى الله سبحانه (¬3) .. وغيرها من الأدلة. واستدل أصحاب القول الثاني بقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]. فقد كان عليه الصلاة والسلام يخالط الناس في أسواقهم، ويأمرهم، وينهاهم، ويأكل معهم، كما قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]. روى الترمذي وابن ماجه في سننهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7084)، وصحيح مسلم برقم (1847). (¬2) برقم (7088). (¬3) مختصر منهاج القاصدين (ص: 142).

أَذَاهُمْ» (¬1). كما استدلوا بما أوجبه الله على المسلمين من حضور الجمع والجماعات، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإجابة دعوتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ولا يتحقق ذلك إلا بمخالطتهم والصواب هو التفصيل في ذلك: فمن آتاه الله العلم والقوة، واستطاع القيام بحق المخالطة من تعليم العلم، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلامة من الفتن، فالاختلاط في حق هذا أفضل؛ ومن لم يكن قادرًا على ذلك ويخشى الفتنة في دينه، فالعزلة في حقه أولى، والأول أفضل من الثاني كما جاء النص بذلك في الحديث المتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ». ولي هنا تنبيهان: الأول: أن بعضًا ممن ينتسب إلى الدعوة ويزعم أنه من أهلها، يخالطون الناس ويسايرونهم على ما هم عليه، بل يداهنونهم ويسمونها مجاملة، أو سياسة الدعوة، ويستدلون على ذلك بهذا الحديث؛ والحديث نص في الرد عليهم، فإن فيه تعرضهم للأذى، ولا يكون ذلك إلا بسبب الأمر والنهي والصدع بالحق، وتحقيق الولاء والبراء، ولذا أُمروا بالصبر على ذلك؛ أما هؤلاء المخالطون فإن حقيقة أمرهم سياسة معايشهم والحفاظ على وجاهتهم، والابتعاد عن مواطن الأذى في ذات الله، ولو كان ذلك على حساب دينهم، ودعوة إبراهيم عليه السلام ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم 2507، وابن ماجه رقم 4032 واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 306) برقم (2035).

الذي هو قدوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقدوتنا، غير ما يذهب إليه هؤلاء، فإن دعوته مبنية على أمرين: الأول: تحقيق التوحيد والشهادة لله بالوحدانية المطلقة، مع التعظيم والإجلال والمحبة له جلا وعلا، والكفر بكل ما يعبد من دونه. الأمر الثاني: تحقيق الموالاة والمعاداة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الزخرف: 26 - 28]. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. ولم تكن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم غايتها جمع الناس على حق أو باطل، بل كان صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس، وهذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا به، فعندما جاء الأنصار لمبايعته في العقبة، قال لهم أسعد بن زرارة: يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم (¬1) جبينة، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا له: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها (¬2) أبدًا (¬3). ¬

(¬1) وفي رواية: خيفة. (¬2) وفي رواية: لا نستقيلها. (¬3) مسند الإمام أحمد (22/ 348) برقم 14456، وقال محققوه: إسناده على شرط مسلم.

وقد جاء في حديث الشفاعة: أن المؤمنين يقولون لربهم يوم القيامة: «يَا رَبَّنَا! فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ» (¬1). التنبيه الثاني: قد يضطر المسلم الحريص على سلامة دينه إلى حال وسط بين الاختلاط المطلق والعزلة التامة، فيقتصر من الشرائع على فرائضها كحضور الجمع والجماعات، ومن الأحوال على الضروري منها، كتحصيل القوت لنفسه ومن يلزمه؛ ثم اعلموا أيها الدعاة إلى الله! أن الاختلاف بينكم ليس في نشر الخير بين عامة الناس، وتحذيرهم من الشر، وإنما الخلاف في بيان الموقف الحق من أصحاب الشوكة والنفوذ، الذين يقفون في طريق الدعوة ويحاربون الحق وأهله، ويسلكون في ذلك طرق التلبيس والنفاق، تارة بالإغراء والترغيب، وتارات بالقوة والتهديد. ثم اعلموا أن الغاية من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أمران: أحدهما: إقامة دولة الإسلام، وثانيهما: بيان الحق للناس كافة، وقد تحقق ذلك له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه على أكمل الوجوه وأتمها، ويزيد آخر الزمان أمر ثالث، وهو طلب النجاة من الفتن، وتفصيل كل ما تقدم له مكان آخر، وإلى بيان بعض فوائد العزلة والاختلاط: «الفائدة الأولى: الفراغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه، فإن ذلك يستدعي فراغًا ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك. ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم 183.

الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض لها الإنسان غالبًا بالمخالطة وهي أربعة: 1 - الغيبة: فإن عادة الناس الخوض بالأعراض والتفكه بها، فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى، وإن سكتَّ كنت شريكًا في الإثم. 2 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من خالط الناس لم يَخلُ عن مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله، وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر، وفي العزلة سلامة من هذا. 3 - الرياء: وهو الداء العضال الذي يعسر الأضرار منه، وأول ما في مخالطة الناس إظهار التشوق إليهم، ولا يخلو ذلك عن الكذب، إما في الأصل، وإما في الزيادة. وقد كان السلف يحترزون في جواب قول السائل: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ كما قال بعضهم، وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. واعلم أنه إذا كان سؤال السائل لأخيه: كيف أصبحت؟ لا يبعثه عليه شفقة ولا محبة، كان تكلفًا ورياء، وربما سأله وفي القلب ضغن وحقد يورث أن يعلم فساد حاله، وفي العزلة الخلاص عن هذا؛ لأنه من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم، مقتوه واستثقلوه واغتابوه، ويذهب دينهم فيه، ويذهب دينه ودنياه في الانتقام منهم. 4 - مسارقة الطبع من أخلاقهم الرديئة، وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلاء فضلًا عن الغافلين، وذلك أنه قَلَّ أن يجالس الإنسان

فاسقًا مرة، مع كونه منكرًا عليه في باطنه، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته، لوجد فرقًا في النفور عن الفساد، لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هينًا على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه. الفائدة الثالثة: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين عن الخوض فيها، فإنه قلما تخلو البلاد من العصبية، والخصومات، والمعتزل عنهم سليم. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمرو رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفتن ووصفها وقال: «إذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ (¬1)، وَخَفَّتْ أمانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا»، وَشَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ، فَقُلتُ: مَا تَأمُرُنِي؟ فَقَالَ: «الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ» (¬2). الفائدة الرابعة: الخلاص من شر الناس، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد، وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفي العزلة خلاص من ذلك، كما قال بعضهم: عَدُوُّكَ مِن صَدِيقِكَ مُسْتَفَادُ ... فَلَا تسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ فَإِنَّ الدَّاءَ أَكثَرُ مَا تَرَاهُ ... يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ وقال عمر رضي الله عنه: في العزلة راحة من خلطاء السوء. وقال رجل ¬

(¬1) أي: اضطربت وقل الوفاء بها. (¬2) سنن أبي داود برقم 4343، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 205.

لأخيه: أصحبك إلى الحج، فقال: دعنا نعيش في ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهي بقاء الستر على الدين والمروءة، وسائر العورات. الفائدة الخامسة: أن ينقطع طمع الناس عنك، وطمعك عنهم، أما طمعهم، فإن رضاهم غاية لا تدرك، فالمنقطع عنهم قاطع لطمعهم في حضور ولائمهم وإملاكاتهم. وأما انقطاع الطمع، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر المطامع فيتأذى. قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. وفي الحديث: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» (¬1). الفائدة السادسة: الخلاص من مشاهدة الثقلاء الحمقى، ومقاساة أخلاقهم، وإذا تأذى الإنسان بالثقلاء، لم يلبث أن يغتابهم، فإن آذوه بالقدح فيه كافأهم، فانجر الأمر إلى فساد الدين، وفي العزلة سلامة من ذلك. أما فوائد المخالطة: الفائدة الأولى: التعلم والتعليم، وهو من أعظم الأعمال والقربات، فإن حاجة الناس إلى العلم الشرعي، أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِين، حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتُ، ¬

(¬1) صحيح البخاري رقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963).

لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» (¬1). الفائدة الثانية: النفع والانتفاع، أما الانتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة، والمحتاج إلى ذلك مضطر إلى ترك العزلة، وأما النفع فهو أن ينفع الناس إما بماله، أو ببدنه لقضاء حوائجهم، ومن قدر على ذلك فهو أفضل من العزلة. الفائدة الثالثة: التأديب والتأدب، والمراد الارتياض بمقاساة الناس، والمجاهدة في تحمل أذاهم وكسر النفس، وقهر الشهوة؛ وذلك أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه، وأما التأديب فهو أن يؤدب غيره. الفائدة الرابعة: الاستئناس والإيناس، وقد يكون مستحبًّا كالاستئناس بأهل التقوى، وقد يقصد به ترويح القلوب من كرب الوحدة، وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين. الفائدة الخامسة: في نيل الثواب وإنالته، أما الأول: فبحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وحضور الزواجات والدعوات، ففيها ثواب من جهة إدخال السرور على المؤمن. أما الثاني: فهو أن يفتح بابه للناس ليعزوه، أو يهنئوه، أو يعودوه، فإنهم بذلك ينالون ثوابًا. الفائدة السادسة: التواضع، ولا يقدر على ذلك في الوحدة، فقد يكون الكبر سببًا في اختياره العزلة، ويمنعه في المحافل ¬

(¬1) سنن الترمذي برقم 2685، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.

التقصير في إكرامه وتقديمه، وربما ترفع عن مخالطتهم لارتفاع محله عند نفسه، أو نحو ذلك» (¬1). فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعًا كليًا، وإما حاليًا، فحقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة، أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة وجماع ذلك: أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستقساء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله. وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار، والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له ونحو ذلك. ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه، وذكره، وصلاته، وتفكره ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذا يحتاج فيها إلى انفراد بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره، ولسانه، وإما في غير بيته. ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة باختصار (ص: 141 - 150).

فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا، وهذا وما هو الأصلح له في كل حال، فهذا يحتاج إلى نظر خاص» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الفتاوى (10/ 425 - 426).

الكلمة الثلاثون: صلاة الاستسقاء

الكلمة الثلاثون: صلاة الاستسقاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإنه لا حياة للعالم على وجه الأرض إلا بالماء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. وبدونه هلاك العالم، وانعدام الحياة، وطلبه من الله تعالى القادر على منحه ومنعه هو الاستسقاء، وكما أن في منعه ونقصه هلاكهم، فكذلك في زيادته، والله هو الذي يقدره لمصالح عباده، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27]. وقد شرع الاستسقاء لهذا ولهذا، وهو سنة الماضين واللاحقين، فالقلوب السليمة، والفطرة المستقيمة، تعلم أنه لا غنى لها عن الله، تستغيث به، فيغيثها، ويكشف ضرها، قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60]. «وشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الاستسقاء عند حصول الجدب، وتأخر نزول المطر عن وقته، واستسقى النبي صلى الله عليه وسلم على وجوه متعددة. الوجه الأول: يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته، وقال: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَسْقِنَا، اللَّهُمَّ أَسْقِنَا» (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1013) ورقم (1014)، وصحيح مسلم برقم (897).

قال ابن حزم: «إن قحط الناس أو اشتد المطر حتى يؤذي الناس، فليدعُ المسلمون في أدبار صلواتهم، وسجودهم، وعلى كل حال، ويدعو الإمام في خطبة الجمعة» (¬1). الوجه الثاني: أنه وعد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمس متواضعًا، متبذلًا، متخشعًا، مترسلًا، متضرعًا (¬2)، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ صلى الله عليه وسلم، وَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُم شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُم وَاسْتِئخَارَ المَطَرِ عن إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُم، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عز وجل أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُم أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُم». ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ (أَوْ: حَوَّلَ) رِدَاءَهُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً، فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَمْ يَاتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ، ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (¬3). ¬

(¬1) المحلى (5/ 93). (¬2) سنن أبي داود برقم (1165)، والترمذي برقم (558)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) برقم (1173)، وقال أبو داود: وهذا حديث غريب إسناده جيد، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 217) برقم (1040).

الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى على منبر المدينة استسقاء مجردًا في غير يوم جمعة، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة (¬1). الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل، وحفظ من دعائه حينئذ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا (¬2)، نَافِعًا غَيرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ»، قَالَ: فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ (¬3). الوجه الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء (¬4)، وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ينعطف عن يمين الخارج من المسجد (¬5). الوجه السادس: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيًا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَوْ قَدْ ¬

(¬1) سنن ابن ماجه برقم (1269)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (213 - 214) برقم 1048. (¬2) مريعًا: أي: ذا مراعة وخصب، يقال: أمرعت البلاد إذا أخصبت ويُروى: مربعًا بالباء، أي: منبتًا للربيع. (¬3) سنن أبي داود برقم (1169)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/ 216) برقم 1036. (¬4) هي إحدى صحاري المدينة، أحجار الزيت هي حجارة شديدة السواد، لها بريق، وقد دخلت هذه الأماكن في المدينة الآن. صحيح سنن أبي داود (1/ 216). (¬5) سنن أبي داود برقم (1168)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/ 216) برقم 1035.

قَالُوهَا؟ عَسَىَ رَبَّكُمْ أَنْ يُسْقِيكُمْ» ثم بسط يديه ودعا فما رد يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب، وأُمطروا، فأفعم السيل الوادي فشرب الناس فارتووا، وحفظ من دعائه في الاستسقاء: «اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وَأَحْيِ بَلَدَكَ الْمَيِّتَ» (¬1). ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء؟ فاستصحى لهم، وقال: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ (¬2) وَالجِبَالِ وَالظِّرَابِ (¬3)، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ (¬4)» (¬5). وصفة صلاة الاستسقاء الوارد ذكرها في الوجه الثاني، كصلاة العيد في عدد الركعات، والجهر بالقراءة، وفي التكبيرات الزوائد في الركعة الأولى، والثانية قبل القراءة، ومن غير أذان ولا إقامة البتة. روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا، مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ» (¬6). قال ابن قدامة: «وإذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء فإنه ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (1176)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 218) برقم 1043. (¬2) الآكام: وهي دون الجبل وأعلى من الرابية. (¬3) وهي الجبل المنبسط ليس بالعالي. (¬4) صحيح البخاري برقم (1014)، وصحيح مسلم برقم (897). (¬5) زاد المعاد، لابن القيم (1/ 439 - 444). (¬6) برقم (558)، وقال: حديث حسن صحيح.

ينبغي أن يتقدم ذلك تذكير الناس بما يلين قلوبهم من ذكر ثواب الله وعقابه، ويأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، والصيام، والصدقة، وترك التشاحن، لأن المعاصي سبب لمنع القطر من السماء، وانقطاع البركات، والتوبة، والاستغفار، والطاعة سبب لإجابة الدعاء، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [الأعراف: 96]. ويأمرهم بالصدقة على الفقراء، والمساكين، لأن ذلك سبب للرحمة ثم يعين لهم يومًا يخرجون فيه ليتهيؤوا ويستعدوا لهذه المناسبة، ثم يخرجون إلى المصلى. وينبغي ألَّا يتأخر أحد من المسلمين يستطيع الخروج، حتى الصبيان والنساء اللاتي لا تُخشى الفتنة بخروجهن، ولا يستحب إخراج البهائم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وليس لصلاة الاستسقاء وقت معين، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف، لأن وقتها متسع، فلا حاجة إلى فعلها وقت النهي، والأولى فعلها وقت العيد، لما روت عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمسِ، ولأنها تشبهها في الموضع، والصفة، فكذلك في الوقت إلا أن وقتها لا يفوت بزوال الشمس لأنها ليس لها يوم معين فلا يكون لها وقت معين» (¬1). «ويكثر في خطبة الاستسقاء من الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به لأن ذلك سبب لنزول الغيث» (¬2)، ويكثر من ¬

(¬1) المغني، لابن قدامة (3/ 337 - 338). (¬2) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 289).

الدعاء بطلب الغيث من الله تعالى، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. والسنة أن تكون الخطبة قبل الصلاة لما روى البخاري في صحيحه من حديث عباد بن تميم عن عمه قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» (¬1). وفي رواية ابن خزيمة عن عباد بن تميم قال: قال عبد الله بن زيد: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاِسْتِسْقَاءِ، فَخَطَبَ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَدَعَا، وَاسْتَسْقَى، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى بِهِمْ» (¬2)، ولما رواه أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه قالت: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ» ... وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ (¬3). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في دعاء الاستسقاء ويبالغ في ذلك حتى يُرى بياض إبطيه، وكان من شدة هذا الرفع ترى ظهور كفيه إلى السماء، وهذا والله أعلم هو معنى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى، فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ (¬4). ¬

(¬1) برقم (1024)، وصحيح مسلم برقم (894) بدون الجهر بالقراءة. (¬2) صحيح ابن خزيمة (2/ 332) برقم 1406. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) برقم 896.

وليس معنى ذلك أنه يقلب يديه في دعاء الاستسقاء، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دعا ورفع يديه، رفع الناس أيديهم معه يدعون، ومعنى يدعون، أي: يؤمنون على دعائه إذا جهر بالدعاء، وإن أسرَّ دعا كل لنفسه، وينبغي للداعي إذا دعا أن يدعو بما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك أفضل الدعاء، وأجمعه لكل خير في الدنيا والآخرة. ويسنُّ أن يستقبل القبلة في آخر الدعاء، ويحوِّل رداءه، قال ابن حجر: «محل هذا التحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدعاء» (¬1). وصفة قلب الرداء أن يجعل ما على اليمين على اليسار، وما على اليسار على اليمين، أو أن يقلبه ظهرًا لبطن، لما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة وفيه: ثُمَّ قَلَبَ رِدَاءَهُ، فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ (¬2)، ولما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن زيد: تَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، فَقَلَبَهُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَتَحَوَّلَ النَّاسُ مَعَهُ (¬3). وفي زماننا هذا قل لبس الأردية، بل كاد أن يكون معدومًا، وحل مكانه (البشت، أو المشلح، أو الفروة)، أما الغترة أو الشماغ فقد سئل الشيخ ابن عثيمين عن الشماغ هل يكون بديلًا للرداء؟ فأجاب بقوله: «لا ليس بديلًا له وربما الفروة، أو المشلح نعم لأن الشماغ أقرب ما ¬

(¬1) فتح الباري (3/ 208). (¬2) (14/ 73) برقم (8327)، وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬3) (26/ 388) برقم (16465)، وقال محققوه: حديث صحيح دون قوله: «وتحول الناس معه»، فهو حسن.

يكون للعمامة فلا يدخل في الحديث» (¬1). أما قلب الرداء للمأمومين، فقد قال ابن حجر: «واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد في مسنده من حديث عباد بلفظ: وَحَوَّلَ النَّاس مَعَهُ (¬2)، واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب في حقهن» (¬3). وقيل: الحكمة في ذلك التفاؤل بتحويل الحال عما هي: من الشدة إلى الرخاء، ونزول الغيث .. والله أعلم. وإذا طلب الإمام أو عامة الناس ممن ظهر صلاحه وتقواه أن يدعو لهم في الاستسقاء جاز. روى البخاري في صحيحه من حديث عمر قال: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ (¬4). وفي رواية: فَقَالَ عُمَرُ لِلعَبَّاسِ: قُم فَاستَسقِ وَادعُ رَبَّكَ (¬5). وروي أن معاوية خرج يستسقى، فلما جلس على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فقام يزيد، فدعاه معاوية، فأجلسه عند رجليه ثم قال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الله تعالى، فثارت في الغرب سحابة مثل ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (16/ 360). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) فتح الباري (3/ 187). (¬4) برقم (1010). (¬5) تاريخ دمشق، لابن عساكر (26/ 357).

الترس، وهب لها ريح فسقوا حتى كادوا لا يلقون منازلهم (¬1). ثم إن سقى الله المسلمين، وإلا أعادوا الاستسقاء حتى يفرج الله لهم بالغيث. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) المغني، لابن قدامة (3/ 346 - 347).

الكلمة الواحدة والثلاثون: المسح على الخفين

الكلمة الواحدة والثلاثون: المسح على الخفين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من رحمة الله بعباده ولطفه بهم أن يسَّر عليهم أمور دينهم، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ومن ذلك: ما شرع لهم من المسح على الخفين (¬1) والجوربين (¬2) تسهيلًا وتحقيقًا عليهم من مشقة البرد، والسفر .. وغير ذلك. وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة متواترة عن جمع من الصحابة في مسحه صلى الله عليه وسلم في الحضر، والسفر وأمره بذلك، وترخيصه فيه، قال الحسن: «حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين» (¬3). قال الإمام أحمد: «ليس في نفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم» (¬4)، ونقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه (¬5)، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، بخلاف المبتدعة الذين لا يرون جوازه. ¬

(¬1) المقصود بالخفاف: ما يلبس على الرجلين من جلد ونحوه. (¬2) المقصود بالجوارب: ما يلبس على الرجلين من قطن ونحوه، وما يعرف بالشراب. (¬3) المغني، لابن قدامة (1/ 359). (¬4) المغني، لابن قدامة (1/ 359). (¬5) الإجماع، لابن المنذر (ص: 5).

«والمسح عليهما هو السنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان لابسًا لهما فالمسح عليهما أفضل من خلعهما لغسل الرجل، ودليل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. فإن قوله تعالى: {أَرْجُلَكُمْ} فيها قراءتان سبعيتان صحيحتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إحداهما: {أَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفًا على قوله: {وُجُوهَكُمْ}، فتكون الرجلان مغسولتين، والثانية: {أَرْجُلَكُمْ} بالجر عطفًا على رُؤُوسِكُمْ}، فتكون الرجلان ممسوحتين. والذي بيَّن أن الرِّجْلَ تكون ممسوحة أو مغسولة هي السنة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت رجلاه مكشوفتين يغسلهما، وإذا كانتا مستورتين بالخفاف يمسح عليهما» (¬1). ومن الأحاديث الواردة في ذلك: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عروة بن المغيرة عن أبيه قال: كُنتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَهوَيتُ لِأَنزِعَ خُفَّيهِ، فَقَالَ: «دَعْهُمَا، فَإِنَّي أَدخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَينِ»، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام بن الحارث قال: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَسُئِلَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ ¬

(¬1) فتاوى في المسح على الخفين، للشيخ ابن عثيمين (ص: 23 - 25). (¬2) صحيح البخاري برقم (206)، وصحيح مسلم برقم (274).

مِثْلَ هَذَا، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ لِأَنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ (¬1) (¬2). قال الناظم: مِمَّا تَوَاتَرَ حَدِيثُ مَنْ كَذَبْ وَمَنْ بَنَى لِلَّهِ بَيْتًا وَاحْتَسَبْ وَرُؤْيَةٌ شَفَاعَةٌ وَالحَوْضُ وَمَسْحُ خُفَّيْنِ وَهَذِي بَعْضُ وأما المسح على الجوربين، فقد روى أبو داود في سننه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَلَى الجَورَبَينِ (¬3) وَالنَّعلَينِ، قَالَ يَحيَى البَكَّاءُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ (¬4). وروى عبد الرزاق في مصنفه عن قتادة عَن أَنَسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَمسَحُ عَلَى الجَورَبَينِ مِثلَ الخُفَّينِ (¬5). وذكر ابن حزم عددًا كبيرًا من السلف قالوا بالمسح على الجوربين منهم: ابن عمر، وعطاء، وإبراهيم النخعي .. وغيرهم، وأورد عددًا من ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (387)، وصحيح مسلم برقم (272). (¬2) وفي صحيح مسلم قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، وفيها آية الوضوء التي تفيد وجوب غسل الرجلين. وفي صحيح سنن النسائي (114): كان إسلام جرير قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيسير. (¬3) سنن أبي داود برقم (159)، وصححه الألباني في الإرواء برقم (101). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 190) برقم (2006)، وصححه الألباني في تحقيقه لرسالة المسح على الخفين، للشيخ جمال الدين القاسمي ص: 54. (¬5) برقم 779، وصححه الشيخ الألباني في تحقيقه لرسالة الشيخ محمد جمال الدين القاسمي ص: 54.

الآثار المتعلقة بذلك (¬1). أحكام المسح على الخفين: (1) مدة المسح على الخفين: الراجح من أقوال أهل العلم: أن مدة مسح المقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، لما روى مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه قال: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» (¬2). واختلف أهل العلم في ابتداء مدة المسح: هل هي من أول مسح بعد الحدث؟ أم تبدأ من أول حدث بعد اللبس؟ فذهب جمهور أهل العلم على أن ابتداء المدة من أول حدث بعد اللبس، وقال آخرون: من أول مسح بعد الحدث. قال النووي: «وقال الأوزاعي، وأبو ثور: ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث، وهو رواية عن أحمد وداود وهو المختار الراجح دليلًا، واختاره ابن المنذر وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه» (¬3) اهـ. روى عبد الرزاق في المصنف من حديث أبي عثمان النهدي قال: حضرت سعدًا وابن عمر يختصمان إلى عمر في المسح على الخفين، فقال عمر: يمسح عليهما إلى مثل ساعته من يومه وليلته (¬4). ¬

(¬1) قال الشيخ الألباني في تعليقه على رسالة الشيخ القاسمي المسح على الخفين (ص: 54): هذه الآثار أخرجها عبد الرزاق في مصنفه (745، 773، 779، 781 - 782)، وابن أبي شيبة في المصنف، وكثير من أسانيدها صحيح عنهم، وبعضها له أكثر من طريق واحد. (¬2) برقم (276). (¬3) المجموع (1/ 470). (¬4) (1/ 209، 807)، وقال الألباني: وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

قال الألباني: «وهو صريح في أن المسح يبتدئ من ساعة إجرائه على الخف إلى مثلها من اليوم والليلة، وهو ظاهر كل الآثار المروية عن الصحابة في مدة المسح فيما علمنا» (¬1). «فلو فرضنا أن شخصًا تطهر لصلاة الفجر يوم الثلاثاء، وبقي على طهارته حتى صلى العشاء من ليلة الأربعاء، ونام ثم قام لصلاة الفجر يوم الأربعاء، ومسح في الساعة الخامسة صباحًا؛ فإن ابتداء المدة يكون من الساعة الخامسة من صباح يوم الأربعاء، إلى الساعة الخامسة من صباح يوم الخميس، فلو قدر أنه مسح يوم الخميس قبل تمام الساعة الخامسة، فإن له أن يصلي الفجر أي فجر يوم الخميس بهذا المسح، ويصلي ما شاء أيضًا ما دام على طهارته، لأن الوضوء لا ينتقض إذا تمت المدة، على القول الراجح من أقوال أهل العلم» (¬2). وقد اختلف أهل العلم: هل انتهاء مدة المسح ينقض الوضوء؟ على أقوال أشهرها قولان في مذهب الشافعية: الأول: يجب استئناف الوضوء، الثاني: يكفيه غسل القدمين، الثالث: لا شيء عليه، بل طهارته صحيحة يصلي بها ما لم يحدث (¬3). قال ابن حزم رحمه الله: «وهذا القول الذي لا يجوز غيره، لأنه ليس في شيء من الأخبار أن الطهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء ولا عن بعضها بانقضاء وقت المسح، وإنما نهى عليه الصلاة والسلام عن أن يمسح ¬

(¬1) كتاب تمام النصح في أحكام المسح، للألباني ص: 92. (¬2) بحوث وفتاوى في المسح على الخفين، للشيخ ابن عثيمين (ص: 28 - 29). (¬3) تمام النصح في أحكام المسح ص: 92.

أحد أكثر من ثلاث للمسافر، أو يوم وليلة للمقيم، فمن قال غير هذا فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، والطهارة لا ينقضها إلا الحدث، وهذا قد صحت طهارته، ولم يحدث فهو طاهر، والطاهر يصلي ما لم يحدث، أو ما لم يأت نص جلي في أن طهارته انتقضت وإن لم يحدث، وهذا الذي انقضى وقت مسحه لم يحدث، ولا جاء نص في أن طهارته انتقضت لا عن بعض أعضائه، ولا عن جميعها، فهو طاهر يصلي حتى يحدث فيخلع خفيه حينئذ، وما على قدميه ويتوضأ ثم يستأنف المسح توقيتًا آخر، وهكذا أبدًا» (¬1). (2) شروط المسح على الخفين فهي كالتالي: أ - أن يلبسهما على طهارة، والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» (¬2). ولقول صفوان بن عسال رضي الله عنه: فَأَمَرَنَا - يَعنِي: رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - أَن نَمسَحَ عَلَى الخُفَّينِ، إِذَا نَحنُ أَدخَلنَاهُمَا عَلَى طُهرٍ (¬3). ب - أن تكون الخفاف أو الجوارب طاهرة، فإن كانت نجسة فإنه لا يجوز المسح عليها، ودليل ذلك: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ يَومٍ بِأَصحَابِهِ وَعَلَيهِ نَعلَانِ، فَخَلَعَهُمَا فِي أَثنَاءِ ¬

(¬1) المحلى، لابن حزم (2/ 94) بتصرف. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مسند الإمام أحمد (30/ 16) برقم (18093)، وقال محققوه: إسناده حسن.

صَلَاتِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ جِبرِيلَ أَخبَرَهُ بِأَنَّ فِيهِمَا أَذًى أَو قَذَرًا (¬1). وهذا يدل على أنه لا يجوز الصلاة فيما فيه نجاسة. ج - أن يكون مسحهما في الحدث الأصغر، لا في الجنابة أو ما يوجب الغسل، ودليل ذلك: حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كُنَّا سَفَرًا، أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، إِلَّا مِن جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَومٍ (¬2). د - أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعًا وهو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، لما روى مسلم في صحيحه من حديث علي قال: جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، يَعْنِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ (¬3). هـ - أن يكون الخف ونحوه مباحًا، فإن كان مغصوبًا أو حريرًا بالنسبة للرجل، لم يجز المسح عليه، لأن المحرم لا تستباح به الرخصة. «وهذا هو قول المالكية والحنابلة، وذهب الشافعية في الأصح عندهم إلى جواز المسح على الخف ولو لم يكن مباحًا، والصحيح ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (650)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 128) برقم 605. (¬2) رواه النسائي برقم (127)، والترمذي برقم (96)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) تقدم تخريجه.

أنه لا يشترط كون الخف مباحًا، لكن مع ثبوت الإثم على الغاصب، والسارق، وغيرهم ممن لبس خفًّا غير مباح» (¬1). (3) صفة المسح على الخفين: «أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أصابع رجليه، ثم يمدهما إلى ساقه فقط، يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى، والرجل اليسرى باليد اليسرى، والذي يُمسح هو أعلى الخف لقول المغيرة بن شعبة: فَمَسَحَ عَلَيهِمَا، ولم يقل: بدأ باليمنى، بل قال: مَسَحَ عَلَيهِمَا، فظاهر السنة هو هذا» (¬2). مسائل تتعلق بالمسح على الخفين: 1 - هل يجوز المسح على الخف، أو الجورب المخرق؟ «الصحيح أنه يجوز، فإن اسم الخف أو الجورب ما دام باقيًا فإنه يجوز المسح عليه، لأن السنة جاءت بالمسح على الخف على وجه مطلق، وما أطلقه الشارع فإنه ليس لأحد أن يقيده، إلا إذا كان لديه نص من الشارع أو قاعدة شرعية يتبين بها التقييد» (¬3). وقال الثوري: «وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة، مرقعة؟ ! » (¬4). وهذا القول قال به جمع من أهل العلم منهم: إسحاق والثوري، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بجوازه، ما دام ¬

(¬1) الكافي لابن قدامة (1/ 77)، والفقه الميسر لمجموعة من المشايخ (1/ 92). (¬2) بحوث وفتاوى في المسح على الخفين (ص: 38 - 39)، للشيخ ابن عثيمين. (¬3) بحوث وفتاوى في المسح على الخفين، للشيخ ابن عثيمين (ص: 38 - 39). (¬4) مصنف عبد الرزاق (753).

اسم الخف باقيًا والمشي به ممكنًا (¬1). 2 - هل خلع الممسوح من الجورب أو الخف ينقض الوضوء؟ «فيه خلاف بين أهل العلم على عدة أقوال: (أ) أن وضوءه صحيح ولا شيء عليه. (ب) أن عليه غسل رجليه فقط. (ج) أن عليه إعادة الوضوء. وبكل هذه الأقوال قال طائفة من السلف، ورجح بعض أهل العلم القول الأول لأنه المناسب، لكون المسح رخصة وتيسيرًا من الله، والقول بغيره ينافي ذلك إضافة إلى مرجحين آخرين: الأول: أنه موافق لعمل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، فقد ثبت عنه: أَنَّهُ أَحدَثَ ثُمَّ تَوَضَّأ، وَمَسَحَ عَلَى نَعلَيهِ، ثُمَّ خَلَعَهُمَا وَصَلَّى (¬2). الثاني: موافقته للنظر الصحيح، فإنه لو مسح على رأسه ثم حلق لم يجب عليه أن يعيد المسح، بل له الوضوء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3). فقد قال: «ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف، والعمامة بنزعها، ولا يجب عليه مسح رأسه، ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصري، كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب ¬

(¬1) اختيارات شيخ الإسلام (ص: 33). (¬2) مصنف عبد الرزاق (783 - 784)، قال الألباني: صحيح. (¬3) اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 15)، باختصار.

أحمد، وقول الجمهور» (¬1) (¬2). 3 - إذا تغيرت حال اللابس من إقامة إلى سفر، أو بالعكس، فأيهما يعتبر؟ وهذا له ثلاث حالات: «الحالة الأولى: أن يكون التغير قبل الحدث، مثل أن يلبس الخفين مقيمًا، ثم يسافر قبل أن يُحدِثَ، أو يلبسهما مسافرًا ثم يقدم بلده قبل أن يحدث، ففي المسألة الأولى: يمسح مسح مسافر، قال النووي: بالإجماع (¬3)، وفي المسألة الثانية: يمسح مسح مقيم، ولا إشكال في ذلك. الحالة الثانية: أن يكون التغير بعد الحدث وقبل المسح، مثل أن يلبس الخفين مقيمًا، ثم يُحدِث ثم يسافر قبل أن يمسح أو يلبسهما مسافرًا، ثم يحدث ثم يقدم بلده قبل أن يمسح، ففي المسألة الأولى: يمسح مسح مسافر، قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا أنه يتم مسح مسافر، وفي المسألة الثانية: يمسح مسح مقيم، ولم أر في ذلك خلافًا (¬4). الحالة الثالثة: أن يكون التغير بعد الحدث والمسح، مثل أن يلبس الخفين ويمسح عليهما مقيمًا، ثم يسافر أو يلبس الخفين ويمسح عليهما مسافرًا، ثم يقدم بلده بعد ذلك، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم. أما المسألة الأولى: فلا يخلو إما أن تكون مدة مسح المقيم قد انتهت أو ¬

(¬1) اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 15)، باختصار. (¬2) تمام النصح في أحكام المسح، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ص: 87). (¬3) المجموع (2/ 472). (¬4) المغني، لابن قدامة (1/ 290).

لا، فإن كانت قد انتهت فلا مسح، وإن كانت مدة مسح المقيم باقية ففي ذلك خلاف، والصحيح أنه يتم مسح مسافر. أما المسألة الثانية: فلا يخلو إما أن تكون مدة مسح المسافر قد انتهت أو لا، فإن كانت قد انتهت فلا مسح، وإن كانت باقية أتم مسح مقيم إن بقي من مدته شيء، وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم» (¬1). 1 - إذا لبس جوربًا أو خفًا، ثم لبس عليه آخر قبل أن يحدث، فله مسح أيهما شاء. 2 - إذا لبس جوربًا أو خفًّا، ثم أحدث، ثم لبس عليه آخر قبل أن يتوضأ، فالحكم للأول. 3 - إذا لبس جوربًا أو خفًّا، ثم أحدث ومسحه، ثم لبس عليه آخر، فله مسح الثاني على القول الصحيح. 4 - إذا لبس خفًا على خف أو جورب، ومسح الأعلى ثم خلعه، فهل يمسح بقية المدة على الأسفل؟ فيجوز أن يمسح على الأسفل، حتى تنتهي المدة من مسحه على الأعلى (¬2). 5 - رجل مسح بعد انتهاء مدة المسح ثم صلى، فما حكم صلاته؟ إذا مسح بعد انتهاء مدة المسح سواء كان مقيمًا، أو مسافرًا، فإن ما صلاه بهذه الطهارة يكون باطلًا، لأن وضوءه باطل، حيث إن مدة المسح انتهت، فيجب عليه أن يتوضأ من جديد ¬

(¬1) انظر: المغني، لابن قدامة (1/ 369 - 371). (¬2) بحوث وفتاوى في المسح على الخفين، للشيخ ابن عثيمين ص: 19 - 20.

وضوءًا كاملًا بغسل رجليه، وأن يعيد الصلوات التي صلاها بهذا الوضوء الذي مسح به بعد انتهاء المدة» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) بحوث وفتاوى في المسح على الخفين، للشيخ ابن عثيمين (34 - 35).

الكلمة الثانية والثلاثون: سجود السهو

الكلمة الثانية والثلاثون: سجود السهو الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. لما كان الإنسان عرضة للنسيان والذهول، وكان الشيطان يحرص على أن يشوش عليه صلاته ببعث الأفكار وانشغال باله بها عن صلاته، وربما ترتب على ذلك نقص في الصلاة، أو زيادة فيها بدافع النسيان والذهول، شرع الله للمصلي أن يسجد في آخر صلاته تفاديًا لذلك، وإرغامًا للشيطان، وجبرًا للنقصان، وإرضاء للرحمن، وهذا السجود هو ما يسميه العلماء سجود السهو (¬1). والسهو هو النسيان، وقد سها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وكان سهوه من تمام نعمة الله على أمته، وإكمال دينهم، ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو. قال الإمام أحمد بن حنبل: يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء سلم من اثنتين فسجد (¬2)، وسلم من ثلاث فسجد (¬3)، ¬

(¬1) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 149). (¬2) صحيح البخاري برقم (1229)، وصحيح مسلم برقم (573). (¬3) صحيح مسلم برقم (574).

وفي الزيادة والنقص (¬1)، وقام من اثنتين ولم يشهد (¬2). وقال الخطابي: المعتمد عند أهل العلم، هذه الأحاديث الخمسة، يعني: حديثي ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بحينة، وقال صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» (¬3) (¬4). حكمه: سجود السهو واجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» (¬5). وهو قول جمهور العلماء. ويشرع سجود السهو لأسباب ثلاثة: أولًا: إذا زاد في الصلاة سهوًا. ثانيًا: إذا نقص منها سهوًا. ثالثًا: إذا حصل عنده شك في زيادة أو نقص. فإن زاد أو نقص من الأركان أو الواجبات عمدًا، بطلت صلاته بإجماع أهل العلم، أما إن ترك مسنونًا سهوًا، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه سجد للسهو استحبابًا. «مثال ذلك: لو أن إنسانًا ترك الفاتحة، يجب عليه سجود السهو، ولكن يجب عليه شيء آخر غير سجود السهو، وهو الإتيان بالركن، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (482)، وصحيح مسلم برقم (572). (¬2) صحيح البخاري برقم (829)، وصحيح مسلم برقم (570). (¬3) ابن قدامة (2/ 403). (¬4) صحيح مسلم برقم 572. (¬5) صحيح البخاري برقم (401)، وصحيح مسلم برقم (572).

وسيأتي ماذا يصنع عند نسيانه للركن؟ وكيف يأتي به؟ مثال ثانٍ: لو أن إنسانًا ترك التشهد الأول نسيانًا، يجب عليه السجود فقط، ولا يجب عليه الإتيان به، لأنه واجب يسقط بالسهو. مثال ثالث: لو أن إنسانًا ترك دعاء الاستفتاح، لا يجب عليه سجود السهو، لأنه لو تعمد تركه لم تبطل صلاته ولكن هل يسن، الصحيح أنه إذا تركه نسيانًا يسن السجود لأنه قول مشروع، فيجبره بسجود السهو، ولا يكون سجود السهو واجبًا، لأن الأصل الذي وجب له السجود ليس بواجب، فلا يكون الفرع واجبًا، فإذا ترك الإنسان سهوًا سنة من عادته أن يأتي بها، فسجود السهو لها سنة، أما لو ترك السنة عمدًا، فهنا لا يشرع له السجود لعدم وجود السبب وهو السهو. «ويشرع سجود السهو إذا وُجد سببه، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة، لعموم الأدلة بشرط أن تكون الصلاة ذات ركوع، وسجود احترازًا من صلاة الجنازة، فإن صلاة الجنازة لا يشرع فيها سجود السهود، لأنها ليست ذات ركوع وسجود. فإن قال قائل: كيف توجبون سجود السهو في صلاة النافلة، وصلاة النفل أصلًا غير واجبة؟ ! فنقول: إنه لما تلبس بها وجب عليه أن يأتي بها على وفق الشريعة، وإلا كان مستهزئًا، وإذا كان لا يريد الصلاة فمن الأصل لا يصلي، أما أن يتلاعب فيأتي بالنافلة ناقصة ثم يقول: لا أُجبرها، فهذا لا يُوافق عليه» (¬1). ¬

(¬1) الشرح الممتع (3/ 392)، (3/ 338 - 339).

وبوب البخاري باب السهو في الفرض، والتطوع، وروى عن ابن عباس: أَنَّهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ (¬1). السبب الأول الذي يشرع فيه سجود السهو: الزيادة في الصلاة، وهي إما زيادة أفعال، أو زيادة أقوال. أما زيادة الأفعال إذا كانت زيادة من جنس الصلاة: كالقيام في محل القعود، والقعود في محل القيام، أو زاد ركوعًا، أو سجودًا، فإذا فعل ذلك سهوًا فإنه يسجد للسهو، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: «إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَين» (¬2). ولأن الزيادة في الصلاة نقص من هيئتها في المعنى، فشرع السجود لها لينجبر النقص. وكذا لو زاد ركعة سهوًا ولم يعلم إلا بعد فراغه منها، فإنه يسجد للسهو، أما إن علم في أثناء الركعة الزائدة، فإنه يجلس في الحال ويتشهد إن لم يكن تشهد، ثم يسجد للسهو ويسلم. ويجب على من علم بزيادة الإمام أو نقصه تنبيهه، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَونَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» (¬3). وتنبيه الرجال بالتسبيح والنساء بالتصفيق، لحديث سهل بن سعد سعد الساعدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نَابَكُم (¬4) أَمْرٌ، فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ، وَلْتُصَفِّقِ النِّسَاءُ» (¬5). ويلزم ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع. (¬2) صحيح مسلم برقم (572). (¬3) صحيح البخاري برقم (401)، وصحيح مسلم برقم (572). (¬4) أي: أصابه شيء يحتاج فيه إلى إعلام غيره. (¬5) صحيح البخاري برقم (684).

الإمام حينئذ الرجوع إلى تنبيههم، إذا لم يجزم بصواب نفسه، لأنه رجوع إلى الصواب، وكذا يلزمهم تنبيهه على النقص. وأما زيادة الأقوال، فهي على ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يأتي بقول مشروع في الصلاة في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، وكالتشهد في القيام، فإذا فعل ذلك سهوًا استحب له السجود للسهو، لعموم حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَين» (¬1). إلا إذا جاء بهذا الذكر مكان الذكر الواجب، ولم يقل الواجب كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه يجب عليه أن يسجد لتركه الواجب، إلا إذا جمع بينهما فلا يجب، بل يستحب لعموم الأدلة (¬2). الحالة الثانية: أن يسلم قبل إتمام الصلاة، فإن كان عمدًا بطلت صلاته لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا وطال الفصل أو نقض الوضوء بطلت صلاته وأعادها، أما إن ذكر قبل أن يطول الفصل أتم صلاته ثم سجد للسهو، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ (¬3) رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهَا، وَفِي القَومِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (572). (¬2) مجموع الفتاوى ومقالات متنوعة، للشيخ ابن باز رحمه الله (11/ 270). (¬3) الظهر والعصر.

الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَا الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ»، قَالَ: بَلىَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأسَهُ فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَكَبَّرَ ثُمَّ سَلَّمَ (¬1). الحالة الثالثة: الكلام من غير جنس الصلاة، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة إجماعًا، لحديث زيد بن أرقم قال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ، وَهُوَ إِلَى جَنبِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَت: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]، فَأُمِرنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الكَلَامِ (¬2). وإن تكلم ناسيًا أو جاهلًا بتحريمه، ففيه روايتان إحداهما: يبطلها لأنه كلام من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير، والثانية: لا يفسدها لما روى معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَانُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي! مَا رَأَيتُ مُعَلِمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ، أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَواللَّهِ! مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1229)، وصحيح مسلم برقم (573). (¬2) صحيح مسلم برقم (539).

لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» (¬1)، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة لجهله، والناس في معناه (¬2). وهذا ما رجحته اللجنة الدائمة للإفتاء (¬3). السبب الثاني: النقص. النوع الأول: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا بطلت صلاته، وإن كان سهوًا، وكان الترك لتكبيرة الإحرام، لم تنعقد صلاته، ولا يغني عنه سجود السهو شيئًا، أما إن كان ركنًا غير تكبيرة الإحرام، فله ثلاثة أحوال: الحال الأول: أن يذكره قبل أن يصل إلى محله، وفي هذه الحالة عليه أن يرجع ويأتي بالناقص ويتم عليه. الحال الثاني: أن يذكره بعد أن يصل إلى محله، وفي هذه الحالة يلغي الركعة الناقصة، وتقوم التي هو فيها محلها (¬4). الحال الثالث: أن يذكره بعد أن يسلم، وفي هذه الحالة عليه أن يأتي بالركن المتروك وما بعده (¬5). ¬

(¬1) برقم 537. (¬2) الكافي، لابن قدامة (1/ 368 - 369). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث (1 / المجموعة الثانية 435) برقم 17211. (¬4) هذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين في رسالة سجود السهو، مع التنبيه إلى أن هناك قول يعتبر كل ما عمل بعد السهو لاغيًا. (¬5) هذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع ص: 375 - 376.

النوع الثاني: ترك واجب من واجبات الصلاة، كالتكبير لغير الإحرام، أو تسبيح الركوع والسجود .. وغير ذلك من الواجبات، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة، وإن تركه سهوًا فعلى أحوال: الحال الأول: إن ذكره قبل الوصول إلى الركن الذي يليه: وجب عليه الرجوع ويأتي به. الحال الثاني: إن ذكره بعد أن وصل إلى الركن الذي يليه: فلا يرجع وعليه سجود السهو، أما ترك التشهد الأول فله أربع صور: 1 - أن يذكره قبل أن تفارق فخذاه ساقيه، وبعضهم قال: قبل أن تفارق ركبتاه الأرض، والمعنى متقارب، ففي هذه الحال يستقر وليس عليه سجود، لأنه لم يزد شيئًا في صلاته. 2 - إذا نهض ولكن في أثناء النهوض ذكر قبل أن يستتم قائمًا، فإنه يرجع ويأتي بالتشهد وعليه سجود السهو. 3 - إذا نهض واستتم قائمًا فقد وصل إلى الركن الذي يليه، فيكره له الرجوع، فإن رجع لم تبطل صلاته، وعليه سجود السهود، لحديث المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، وَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ» (¬1). 4 - إذا ذكر بعد الشروع في القراءة فلا يرجع، فإن رجع عمدًا ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (30/ 162) برقم (18223)، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه.

عالمًا حرم عليه ذلك وبطلت صلاته، لأنه تعمد المفسد وهو زيادته فعلًا من جنسها. النوع الثالث: ترك مسنون، فإذا ترك مسنونًا لم تبطل الصلاة بتركه عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه. السبب الثالث: الشك فإذا كان بعد السلام فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن النقص أو الزيادة، وإذا كان الشك وهمًا بحيث طرأ على الذهن ولم يستقر فلا يلتفت إليه، وإذا كثرت الشكوك لا يلتفت إليها، وإن لم يكن الشك كذلك فالشك إما أن يكون في زيادة ركن، أو واجب في غير المحل الذي هو فيه فلا يلتفت له، وأما الشك في الزيادة وقت فعلها فيسجد له، وأما الشك في نقص الأركان فَكَتَرْكِهَا، فيأتي بالركن على التفصيل الذي سبق في إكمال الأركان، إلا إذا غلب على ظنه أنه فعل فلا يرجع ولكن عليه سجود السهو، والشك في ترك الواجب بعد أن فارق محله لا يوجب سجود السهو (¬1). وإذا حصل له شك بنى على اليقين وهو الأقل، إلا إذا كان عنده غلبة ظن فإنه يتحرى ويبني على غالب ظنه فيأخذ به. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، ¬

(¬1) وقيل: الشك في ترك الواجب كتركه وعليه سجود السهو، إلا إذا غلب على ظنه أنه جاء به فلا سجود عليه، واختار هذا القول ابن عثيمين رحمه الله، كما في الشرح الممتع (3/ 386).

ثَلَاثًا، أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ، كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ». وفي رواية: «فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ». وَفِيِ أُخْرَى: «فَلْيَنْظُرِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ». وَفِيِ أُخْرَى: «فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ، ثُمَ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» (¬2) (¬3). «ولا سجود على مأموم دخل مع الإمام من أول الصلاة إلا تبعًا لإمامه، فإن قام المأموم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه، فسجد إمامه للسهو بعد السلام، فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول إن سجد إمامه قبل انتصابه قائمًا لزمه الرجوع، وإن انتصب قائمًا ولم يشرع في القراءة لم يرجع، وإن رجع جاز، وإن شرع في القراءة لم يكن له الرجوع، ويسجد للسهو بعد قضاء ما عليه (¬4) بعد السلام» (¬5). ¬

(¬1) برقم 571. (¬2) صحيح البخاري برقم (401)، وصحيح مسلم برقم (572)، وأبو عوانه في صحيحه برقم (1927)، والرواية الثانية والثالثة لهم إلا البخاري، والرابعة للنسائي برقم (1244). (¬3) وانظر: تمام المنة في التعليق على فقه السنة، للشيخ الألباني؛ فقد أجاد رحمه الله في الكلام على هذه المسألة (ص: 273 - 274). (¬4) نقل ذلك الشيخ سعيد القحطاني في كتابه سجود السهو (ص: 26)، عن الشيخ ابن باز رحمه الله في شرحه على الروض المربع (2/ 171). (¬5) المغني لابن قدامة (2/ 441)، والشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين (3/ 526).

مسائل تتعلق بسجود السهو: 1 - هل السجود قبل السلام أم بعده؟ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو قبل السلام في مواضع، وبعده في مواضع (¬1)، فما سجد فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام أو أمر به يسجد فيه قبله، كسجود السهو لمن ترك التشهد الأول، وسجود السهو لمن شك وبنى على اليقين، وما سجد فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد السلام أو أمر به يسجد فيه بعده، كسجود السهو لمن سلم قبل تمام الصلاة، أو ذكر بالزيادة في صلاته بعد السلام، أو شك وبنى على غالب ظنه، كما دلت على ذلك الأحاديث، فصارت الحالات عندنا على أربع صور: الأولى: الزيادة في الصلاة ويسجد لها بعد السلام. الثانية: النقص في الصلاة، ويسجد لها قبل السلام. الثالثة: الشك في الزيادة أو النقصان مع الترجيح، يسجد بعد السلام. الرابعة: الشك مع عدم الترجيح، يبني على الأقل، ويسجد قبل السلام. حكم السجود قبل السلام أو بعده على الأفضلية. قال القاضي عياض: «ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء - بعد أن ذكر أقوالهم - أنه لو سجد قبل ¬

(¬1) زاد المعاد، لابن القيم (1/ 281).

السلام، أو بعده للزيادة أو النقص، أنه يجزئه ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل» (¬1). وذهب بعض أهل العلم إلى أن ما جاءت به السنة في كونه قبل السلام فإنه يجب قبله، وما جاءت به بعد السلام فإنه يجب بعده، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) شرح النووي (5/ 56). (¬2) الفتاوى (23/ 36 - 37).

الكلمة الثالثة والثلاثون: صلاة أهل الأعذار

الكلمة الثالثة والثلاثون: صلاة أهل الأعذار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم أن رفع عنهم الحرج في دينهم، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمرٍ، فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). ومن هؤلاء الذين خفف الله عنهم في طهارتهم وصلاتهم: أصحاب الأعذار كالمريض، والمسافر، والخائف، ليتمكنوا من عبادة ربهم من غير حرج ولا مشقة. أولًا: المريض 1 - يجب عليه أن يتوضأ من الحدث الأصغر (نواقض الوضوء)، وأن يغتسل من الحدث الأكبر (موجبات الغسل). 2 - يجب عليه أن يزيل ما على السبيلين من النجاسة بالماء - كالبول والغائط - قبل الوضوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنجي ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (7288)، وصحيح مسلم برقم (1337).

بالماء (¬1)، والاستجمار بالحجارة أو ما يقوم مقامها يقوم مقام الاستنجاء بالماء، ويقوم مقام الحجارة ما في معناها من كل جامد طاهر ليس له حرمة كالخشب، والخرق، والمناديل وكل ما أنقى به فهو كالحجارة على الصحيح (¬2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الغَائِطِ، فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارِ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» (¬3). ولا بد من الاستجمار من ثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها فأكثر، لحديث سلمان رضي الله عنه أنه قال: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بِبَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ (¬4) أَوْ بِعَظْمٍ (¬5). والأفضل أن تكون وترًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» (¬6). فإن لم تكف ثلاثة أحجار زاد رابعًا، وخامسًا، حتى يُنقي المحل، والأفضل أن يستجمر الإنسان بالحجارة ثم يتبعها الماء، لأن الحجارة تزيل عين النجاسة والماء يطهر المحل فيكون أبلغ في الطهارة، وهو مخير فيها أو الجمع بينها وهو الأفضل، والاستنجاء يكون من الخارج من السبيلين؛ أما النوم، والريح، وأكل لحم الإبل، ومس الفرج، فلا يستنجي منها. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (150)، وصحيح مسلم برقم (271). (¬2) المغني، لابن قدامة (1/ 213). (¬3) سنن أبي داود برقم (40)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 10) برقم 31. (¬4) الرجيع: الروث، والعذرة. (¬5) صحيح البخاري برقم (162)، وصحيح مسلم برقم (237). (¬6) صحيح البخاري برقم (161)، وصحيح مسلم برقم (237).

3 - إذا كان المريض لا يستطيع الحركة، فإنه يوضئه شخص آخر، وإذا كان عليه حدث أكبر ساعده في الاغتسال. 4 - إذا كان المريض لا يستطيع أن يتطهر بالماء لخوفه تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض، أو بعجزه، أو خوف زيادة المرض، أو تأخر برئه، فإنه يتيمم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء]. وصفة التيمم: أن يضرب التراب ضربة واحدة ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، ويمسح كفيه براحتيه، ويعمم الوجه والكفين بالمسح، وقد وردت هذه الصفة في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر (¬1)، قال تعالى: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]. 5 - فإن لم يستطع أن يتيمم بنفسه، فإنه ييممه من عنده من المرافقين. 6 - من به جروح، أو كسر، أو مرض يضره استعمال الماء، فإنه يتيمم سواء كان محدثًا حدثًا أصغر، أو أكبر، لكن لو أمكنه أن يغسل الصحيح من جسده أو أعضائه وجب عليه ذلك، وتيمم للباقي لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (347)، وصحيح مسلم برقم (368).

7 - إذا كان في بعض أعضاء الطهارة جرح يستطيع أن يغسله بالماء غسله، فإن كان الغسل بالماء يؤثر عليه مسحه بالماء مسحًا، فإن كان المسح يؤثر عليه أيضًا فإنه يشد عليه جبيرة أو لزقة ويمسح عليها، فإن عجز فحينئذ تيمم عنه بعد الطهارة، أما إذا كان الجرح مستورًا بجبس، أو لزقة، أو جبيرة، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يمسح على الساتر ويغنيه عن الغسل. ولا يشترط لبس الجبيرة على طهارة على القول الراجح، وليس للمسح على الجبيرة توقيت، لأن مسحها لضرورة فيقدر بقدرها، ويمسح عليها في الحدث الأكبر والأصغر، والصواب أنه إذا مسح على العضو يكفيه عن التيمم، فلا يجمع بين المسح والتيمم، إلا إذا كان هناك عضو آخر لم يستطع المسح عليه (¬1). 8 - إذا تيمم لصلاته وبقي على طهارته إلى وقت الصلاة الأخرى، فإنه يصليها بالتيمم الأول، ولا يعيد التيمم للصلاة الثانية، لأنه لم يزل على طهارته، ولم يحصل ما يبطلها من نواقض الطهارة، ولم يجد الماء، لأن التيمم لا يبطل إلا بكل ما يبطل الوضوء، وهذا على الصحيح من قولي العلماء (¬2). 9 - يجب على المريض أن يطهر بدنه، وثيابه وموضع ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (12/ 240)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (11/ 155 - 172). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 344) برقم 6420.

صلاته من النجاسات، فإن عجز عن شيء من ذلك، ولم يجد من يقوم بتطهير النجاسة صلى على حسب حاله، وصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. 10 - لا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها من أجل العجز عن الطهارة، بل يتطهر بقدر ما يستطيع، ويطهر بدنه، وثوبه، والبقعة التي يصلي عليها، فإن عجز عن استعمال الماء تيمم، فإن عجز عن التيمم سقطت عنه الطهارة، وصلى على حسب حاله (¬1). 11 - المريض المصاب بسلس البول، أو استمرار خروج الدم، أو الريح ولم يبرأ بمعالجته، عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ويغسل ما يصيب بدنه، وثوبه، أو يجعل للصلاة ثوبًا طاهرًا إن تيسر له ذلك، ويحتاط لنفسه احتياطًا يمنع انتشار البول، أو الدم في ثوبه، أو جسمه، أو مكان صلاته، وله أن يفعل في الوقت ما تيسر من صلاة، وقراءة في المصحف حتى يخرج الوقت، فإذا خرج الوقت وجب عليه أن يعيد الوضوء، أو التيمم إن كان لا يستطيع الوضوء، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ المُستَحَاضَةَ أَن تَتَوَضَّأَ لِوَقتِ كُلِّ صَلَاةٍ، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (12/ 239)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (11/ 156).

كيفية صلاة المريض: 1 - يجب على المريض الذي لا يخاف زيادة مرضه أن يصلي الفريضة قائمًا، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238]. 2 - إن قدر المريض على القيام بأن يتكئ على عصا، أو يستند إلى حائط، أو يعتمد على أحد جانبيه، لزمه القيام، لحديث وابصة رضي الله عنه، عن أم قيس رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ، اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ (¬1). ولأنه قادر على القيام من غير ضرر، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (¬2). 3 - إن قدر المريض على القيام إلا أنه يكون منحيًا على هيئة الراكع كالأحدب، أو الكبير الذي انحنى ظهره وهو يستطيع القيام، لزمه القيام لحديث عمران بن حصين. 4 - المريض الذي يقدر على القيام لكنه يعجز عن الركوع أو السجود لا يسقط عنه القيام، وعليه أن يصلي قائمًا ويومئ بالركوع قائمًا إن عجز عنه، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، وإن تقوس ظهره فصار كأنه راكع زاد في ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (948)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 178) برقم 835. (¬2) صحيح البخاري برقم 1117.

انحنائه قليلًا، ثم يجلس فيومئ بالسجود جالسًا إن عجز عنه، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صَلِّ قَائِمًا» (¬1). ولأن القيام ركن قدر عليه، فلزمه الإتيان به. 5 - المريض الذي يزيد القيام في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يضره يصلي قاعدًا، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. ولحديث عمران بن حصين رضي الله عنه «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» (¬2). ولحديث أنس رضي الله عنه قال: سَقَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا (¬3). وقد أجمع العلماء على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلي جالسًا (¬4). 6 - الأفضل للمريض إذا صلى جالسًا أن يكون متربعًا في موضع القيام، وإذا ركع يركع وهو متربع على الصحيح، لأن الراكع قائم لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا (¬5). والسنة له أن يجعل يديه على ركبتيه في ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح البخاري برقم (689)، وصحيح مسلم برقم (411). (¬4) المغني، لابن قدامة (2/ 570). (¬5) سنن النسائي برقم (1661)، وصححه الألباني في صحيح النسائي (1/ 365) برقم 1567.

حال الركوع، أما في حال السجود فالواجب أن يسجد على الأرض، فإن لم يستطع وجب عليه أن يجعل يديه على الأرض وأومأ بالسجود، لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ، والرُكْبَتَينِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» (¬1). فإن لم يستطع جعل يديه على ركبتيه، وأومأ بالسجود، وجعله أخفض من الركوع، ومن عجز عن ذلك فصلى على الكرسي، فلا حرج في ذلك، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). 7 - إن عجز المريض عن الصلاة قاعدًا، صلى على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن، لحديث عمران بن حصين وفيه: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (¬3). ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأنِهِ كُلِّهِ (¬4). 8 - فإن عجز المريض عن الصلاة على جنبه، صلى مستلقيًا رجلاه إلى القبلة، لحديث عمران بن حصين: «صَلِّ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (812)، وصحيح مسلم برقم (490). (¬2) المغني لابن قدامة (2/ 572)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن باز (12/ 242 - 247)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (11/ 329). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) صحيح البخاري برقم (168)، وصحيح مسلم برقم (168).

قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، فإن لم تَستَطِعْ صلى مستلقيًا» (¬1). وإن قال ثقات من علماء الطب: إن صليت مستقليًا أمكن مداواتك، وإلا فلا، فله أن يصلي مستلقيًا (¬2). 9 - فإن عجز المريض عن الصلاة إلى القبلة، ولم يوجد من يوجهه إليها، صلى على حسب حاله، لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. 10 - فإن عجز عن الصلاة مستلقيًا، صلى على حسب حاله على أي حال كان، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. 11 - فإن عجز المريض عن جميع الأحوال السابقة، صلى بقلبه فيكبر ويقرأ، وينوي الركوع، والسجود، والقيام، والقعود بقلبه، فإن الصلاة لا تسقط عنه ما دام عقله ثابتًا، بأي حال من الأحوال، للأدلة السابقة (¬3). 12 - إذا قدر المريض في أثناء صلاته على ما كان عاجزًا عنه من قيام أو قعود، أو ركوع، أو سجود، أو إيماء، انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته، وهكذا لو كان قادرًا فعجز أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله، لأن ما مضى من ¬

(¬1) هذه الزيادة عزاها جماعة من أهل العلم للنسائي، ولم أجدها في المطبوع منه. (¬2) المغني، لابن قدامة (2/ 574). (¬3) المغني لابن قدامة (2/ 576)، ومجموع فتاوى ابن باز (12/ 243)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 232).

الصلاة كان صحيحًا فبنى عليه كما لو لم يتغير حاله (¬1). 13 - إن عجز المريض عن السجود على الأرض، فإنه يومئ بالسجود في الهواء، ولا يتخذ شيئًا يسجد عليه، لحديث جابر رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيضًا، فَرَأَىهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ، وَقَالَ: «صَلِّ عَلَى الأَرضِ إِنِ استَطَعتَ، وَإِلَّا فَأَومِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخفَضَ مِن رُكُوعِكَ» (¬2). 14 - يجب على المريض أن يصلي كل صلاة في وقتها، ويفعل كل ما يقدر عليه مما يجب فيها، فإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها، فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما جمع تقديم بحيث يقدم العصر مع الظهر، والعشاء مع المغرب، وإما جمع تأخير بحيث يؤخر الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء حسبما يكون أيسر له؛ أما صلاة الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا بعدها، فقد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ حَمْنَةَ بِنتَ جَحشٍ رضي الله عنها - لَمَّا كَانَت مُستَحَاضَةً - بِتَأخِيرِ الظُّهرِ وَتَعجِيلِ العَصرِ، ¬

(¬1) المغني لابن قدامة (2/ 576)، ومجموع فتاوى ابن باز (12/ 243). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 441) برقم (3718). قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو حاتم وقفه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (323)، وقال: والذي لا شك فيه أن الحديث بمجموع طرقه صحيح.

وَتَأخِيرِ المَغرِبِ وَتَعجِيلِ العِشَاءِ (¬1). 15 - ولا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، فلا يجوز له ترك المفروضة حتى يفوت وقتها ولو كان مريضًا ما دام عقله ثابتًا، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته؛ فإذا تركها عامدًا وهو عاقل عالم بالحكم الشرعي، مكلف يقوى على أدائها ولو إيماء فهو آثم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كفره بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» (¬2). 16 - إذا نام المريض عن صلاته، أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه، أو ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه، لما جاء في الصحيحين من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» (¬3). ويقضي الصلاة المغمى عليه ثلاثة أيام فأقل، لأنه يلحق بالنائم، أما إذا كانت المدة أكثر من ذلك، فلا قضاء عليه، لأنه يلحق بالمجنون لجامع زوال العقل (¬4). ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (287)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (56 - 57) برقم 267. (¬2) سنن الترمذي برقم (2621)، وقال: حديث حسن صحيح غريب. (¬3) صحيح البخاري برقم (597)، وصحيح مسلم برقم (684) واللفظ له. (¬4) المغني لابن قدامة (2/ 50 - 52)، وفتاوى الشيخ ابن باز (12/ 252).

كيفية صلاة المسافر: 1 - يصلي المسافر الصلاة الرباعية قصرًا فيصلي الظهر، والعصر، والعشاء ركعتين ما دام مسافرًا، أما صلاة المغرب فيصليها ثلاثًا سفرًا، وحضرًا، وهكذا صلاة الفجر يصليها ركعتين سفرًا، وحضرًا، وكذلك سنة الفجر قبلها ركعتين، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا (¬1). ويصلي الوتر كذلك، لحديث ابن عمر قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً، صَلَاةَ اللَّيلِ إِلَّا الفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ (¬2). أما السنن الرواتب، فالسنة أن لا يصليها في السفر، لحديث ابن عمر قال: صَحِبتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، فَلَم يَزِدْ عَلَى رَكعَتَينِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ (¬3). أما التطوع المطلق فمشروع في الحضر، والسفر مطلقًا: مثل صلاة الضحى، وصلاة الليل. قال النووي: اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر (¬4). الصلاة في السفينة والطائرة والقطار: 1 - تصح صلاة الفرض في السفينة والقطار قائمًا عند القدرة. روى البيهقي في سننه من حديث عبد الله بن أبي عتبة قال: صَحِبتُ جَابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ وَأَبَا سَعِيدٍ الخُدرِيَّ وَأَبَا ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1159)، وصحيح مسلم برقم (724). (¬2) صحيح البخاري برقم (999)، وصحيح مسلم برقم (700). (¬3) صحيح البخاري برقم (1102)، وصحيح مسلم برقم (689). (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 205).

هُرَيرَةَ فِي سَفِينَةٍ، فَصَلَّوا قِيَامًا فِي جَمَاعَةٍ أَمَّهُم بَعضُهُم، وَهُم يَقدِرُونَ عَلَى الجُدِّ (¬1) (¬2). قال الشوكاني: «المراد أنهم يقدرون على الصلاة في البر وقد صحت صلاتهم في السفينة مع اضطرابها، وفيه جواز الصلاة في السفينة وإن كان الخروج إلى البر ممكنًا (¬3) اهـ. ولا تصح صلاة الفرض في السفينة قاعدًا لقادر على القيام، فإن عجز عن القيام صلى جالسًا، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فيصلي على حسب حاله، ويأتي بما يقدر عليه من القيام وغيره على ما تقدم، ويصلون فيها جماعة على حسب استطاعتهم، ويستقبلون القبلة في الفرض، وكلما انحرفت السفنية عن القبلة اتجهوا إليها» (¬4). 2 - صلاة الفريضة في الطائرة صحيحة فحكمها كحكم السفينة، ويجب على المسلم أن يفعل ما يجب عليه في الصلاة من القيام بالأركان، والواجبات والشروط مثل الطهارة، واستقبال القبلة، ونحو ذلك؛ وإذا كان لا يستطيع القيام بذلك، فلا يصلي بالطائرة، بل ينتظر، إلا إذا علم أن الهبوط سيكون بعد خروج الوقت، وكانت الصلاة التي أدركته في الجو لا يمكن جمعها مع ما بعدها مثل العصر، والفجر، ففي هذه الحال يصليها ولا يؤخرها عن وقتها، فيصليها كما تقدم في صفة صلاة المريض، ¬

(¬1) الجُدُّ: شاطئُ البحرِ. (¬2) سنن البيهقي (6/ 182) برقم (5560)، وابن أبي شيبة برقم (6623). (¬3) نيل الأوطار (2/ 244). (¬4) الإنصاف مع الشرح الكبير (5/ 20).

أما إذا أمكن الجمع سواء جمع تقديم أو تأخير، فإنه يفعله. 3 - الصلاة في السيارة إذا كانت كبيرة وفيها مكان للصلاة يستطيع أن يصلي الفرض قائمًا مع استقبال القبلة، وأداء الشروط، والواجبات فلا حرج كما في السفينة، والطائرة، أما إذا كان لا يستطيع، فإنه لا يصلي في السيارة، إلا إذا لم يستطع الخروج منها، وخشي خروج الوقت، صلى على حسب حاله، أما الصلاة على الرواحل كالإبل، والخيل ونحو ذلك، فلا تصح إلا عند خشيته التأذي بمطر، أو وحل إذا نزل على الأرض، ولكن إذا خشي على نفسه عند النزول من عدو، أو فوات رفقة، فإن عليه أن يستقبل القبلة إن قدر على ذلك، وعليه أن يركع ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. 4 - صلاة النافلة في السفر تصح على جميع وسائل النقل، سواء كانت من السفن، أو الطائرات، أو السيارات .. ونحو ذلك، لكن الأفضل للمصلِّي أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم يصلي حيث توجهت به السفينة أو الطائرة، أو السيارة، فقد كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) انظر: رسالة الشيخ سعيد بن وهف القحطاني صلاة المريض، فقد أجاد وأفاد.

الكلمة الرابعة والثلاثون: فضائل أهل البيت وحقوقهم

الكلمة الرابعة والثلاثون: فضائل أهل البيت وحقوقهم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم مكانة رفيعة، وفضائل كثيرة ثبتت بالكتاب والسنة، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقال: «أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم، فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإيمانهم بالله، فإن كفروا فإننا لا نحبهم ولو كانوا من أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). وقد اختلف العلماء في المراد بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ على عدة أقوال: والصحيح أنهم الذين حُرِّمَتْ عليهم الصدقة، وهو قول جمهور ¬

(¬1) جزء من حديث في صحيح مسلم برقم (2408). (¬2) العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، بشرح الشيخ ابن عثيمين بتصرف (2/ 274 - 275).

العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم، ورجحه ابن حزم، وابن تيمية، وابن حجر، وغيرهم. واختلفوا في تحديد من تحرم عليه الصدقة؟ على أقوال أشهرها قولان: القول الأول: إنهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وهو قول ابن حزم، وابن حجر. القول الثاني: إنهم بنو هاشم فقط، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وابن تيمية. «والمراد ببني هاشم على الصحيح: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، وأزواجه صلى الله عليه وسلم يدخلن في مفهوم آل محمد، بدليل قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 33 - 34]. فإن هذه الآية تدل على دخولهن حتمًا، لأن سياق الآيات قبلها، وبعدها خطاب لهن» (¬1). ولما رواه ابن أبي شبيبة بسنده عَنِ ابنِ أَبِي مُلَيكَةَ: أَنَّ خَالِدَ بنَ سَعِيدٍ بَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ بِبَقَرَةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَرَدَّتهَا، وَقَالَتْ: إِنَّا آلَ ¬

(¬1) فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة، للشيخ عبد المحسن البدر (ص: 8).

مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ (¬1). واستدلوا أيضًا بما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ رضي الله عنهما يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لَا يَاكُلُونَ الصَّدَقَةَ؟ » (¬2). وفي رواية: «لاَ تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ؟ » (¬3). وبما رواه مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ (¬4) مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ. أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَاتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ (¬5): أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ». فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ ¬

(¬1) (2/ 429) برقم (10708)، وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري (3/ 416). (¬2) صحيح البخاري برقم (1485)، وصحيح مسلم برقم 169. (¬3) صحيح مسلم برقم 1069. (¬4) خم اسم موضع غدير، وقال الزمخشري: غدير خم بين مكة والمدينة بالجحفة، وقيل: هو على ثلاثة أميال من الجحفة. اهـ معجم البلدان لياقوت الحموي (3/ 248). وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. (¬5) سميا ثقلين لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل. قال: وأصل الثقل أن العرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل، فسماهما ثقلين إعظامًا لقدرهما، وتفخيمًا لشأنهما. النهاية في غريب الحديث (1/ 216)، ولسان العرب (7/ 90).

فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي». فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ (¬1). ويدخل في ذلك موالي القوم، لما روى الترمذي في سننه من حديث أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي كَيْمَا تُصِيبَ مِنْهَا، فَقَالَ: لَا، حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا، وَإِنَّ مَوَالِيَ القَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (¬2). وبما رواه الشيخان من حديث عائشة: أَنَّ فَاطِمَةَ أَرسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكرٍ: تَسأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَاكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا المَالِ - يَعْنِي: مَالَ اللَّهِ -، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى المَاكَلِ» (¬3). قال ابن القيم: «فآله صلى الله عليه وسلم لهم خواص، منها حرمان الصدقة، ومنها أنهم لا يرثونه» (¬4). ¬

(¬1) برقم (2408). (¬2) برقم (657)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) برقم (3712)، وصحيح مسلم برقم 1759. (¬4) جلاء الأفهام (ص: 328).

وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن الحارث الهاشمي: أَنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ بْنَ رَبِيْعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ رَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ائْتِيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولَا لَهُ: استَعمِلنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ؟ فذكر الحديث، وفيه: فَقَالَ لَنَا: «إِنَّ هاَذِهِ الصَّدَقَاتِ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّها لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فبين أن ولد العباس وولد الحارث بن عبد المطلب من آل محمد، تحرم عليهم الصدقة. وأما من أدخل بني المطلب في مفهوم الآل، فاستدل بما روى البخاري في صحيحه من حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ». قَالَ جُبَيْرٌ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ (¬2). وعند أبي داود: «إِنَّا وَبَنُو المُطَّلِبِ، لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، وَإنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ»، وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ (¬3). أما فضائل أهل البيت في كتاب الله فهي كثيرة، فمن ذلك: ¬

(¬1) برقم (1072). (¬2) برقم (3140). (¬3) برقم (2980)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2/ 577) برقم 2582.

قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولما بيَّن سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرًا، دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصًا به وهم: علي، وفاطمة رضي الله عنهما، وسيدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم، وتطهيرهم، نعمة من الله ليسبغها عليهم، ورحمة من الله، وفضل، لم يبلغوها بمجرد حولهم وقوتهم» (¬1). وهو يشير إلى حديث مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةً، وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ (¬2) مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬3). وذكر أيضًا أنه قد يكون من تمام تطهيرهم: صيانتهم عن الصدقة، التي هي أوساخ الناس (¬4). ومنها قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل ¬

(¬1) جامع المسائل (3/ 75 - 76). (¬2) قال النووي: المرحل بالحاء وهو الموشى المنقوش عليه صور رحال الإبل، أما المرط فبكسر الميم وهو كساء جمعه مروط. شرح صحيح مسلم (15/ 566). (¬3) برقم 2424. (¬4) منهاج السنة (7/ 81).

لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين} [آل عمران: 61]. روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ}، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، وَفَاطِمَةَ، وَحَسَنًا، وَحُسَينًا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي» (¬1). «وهذه المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة تسع أو عشر، والآية تدل على كمال اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دلَّ على ذلك حديث الكساء» (¬2). وقد عدَّ بعض أهل العلم حديث المباهلة من فضائل أهل البيت، قال الزمخشري: «وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء» (¬3). ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29]. فالآيات دلت على فضائل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بأنهن خُيِّرْنَ بين إرادة الدنيا وزينتها، وبين إرادة الله ورسوله، والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة رضي الله عنهن. ويدل على فضلهن أيضًا: قوله تعالى في آية أخرى: {النَّبِيُّ أَوْلَى ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (2404). (¬2) منهاج السنة (4/ 13). (¬3) الكشاف (1/ 566).

بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. فقد وصفهن بأنهن أمهات المؤمنين. أما فضائل أهل البيت من السنة فهي كثيرة، فمن ذلك: 1 - ما رواه مسلم في صحيحه من حديث واثلة الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ (¬1)، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ (¬2)، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ (¬3) بَنِي هَاشِمٍ (¬4)، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» (¬5). «والذي عليه أهل السنة والجماعة أن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسًا وأفضلهم نسبًا، وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسًا ونسبًا والإلزم الدور» (¬6). 2 - روى أحمد في مسنده من حديث العباس رضي الله عنه قال: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعضُ مَا يَقُولُ النَّاسَ، فَصَعِدَ المِنبَرَ فَقَالَ: «مَنْ أَنَا؟ » قَالُوا: ¬

(¬1) إسماعيل هو ابن إبراهيم الخليل وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وقصته في سورة الصافات. (¬2) كنانة هو الأب الرابع عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬3) قريش هو الأب الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فهر بن مالك؛ وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة. (¬4) هاشم هو الأب الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬5) صحيح مسلم برقم (2276). (¬6) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 419 - 420).

أَنتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الَخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرقَةٍ، وَخَلَقَ القَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا» (¬1). 3 - روى البخاري ومسلم من حديث كعب بن عجرة: أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيفَ نُصَلِّي عَلَيكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (¬2). فالصلاة والسلام على آل محمد وأهل بيته، تقتضي أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت. 4 - حديث غدير خم وسبق الكلام عليه. «أما حقوقهم، فلا شك أن لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم حقوقًا لا يشاركهم فيها أحد من الأمة، وخصائص امتازوا بها على غيرهم، وذلك لمنزلتهم من النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان به، وقد كانت تلك الحقوق والخصائص محط اهتمام علماء السنة والجماعة، وألفوا في ذلك المؤلفات» (¬3). فمن تلك الحقوق: محبتهم، وتقديرهم، وموالاتهم، تنفيذًا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: «أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» (¬4). ¬

(¬1) (3/ 307) برقم (1788)، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬2) صحيح البخاري برقم (3369)، وصحيح مسلم (407). (¬3) أهل البيت عند شيخ الإسلام ابن تيمية، للدكتور عمر القرموشي (ص: 188). (¬4) سبق تخريجه.

ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلون فيهم حتى يوصلوهم إلى حد الألوهية، كما فعل عبد الله بن سبأ في علي بن أبي طالب حين قال له: أنت الله! ! قال القرطبي: «وهذه الوصية، وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله، وإبرارهم، وتوقيرهم، ومحبتهم، وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها» (¬1). وكان أول من امتثل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمتهم الشيخان أبو بكر، وعمر. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «ارقُبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أَهلِ بَيتِهِ» (¬2)، والمعنى: احفظوه فيهم، فلا تؤذوهم، ولا تسيئوا إليهم (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكر أنه قال: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَحَبُّ إِلَيَّ أَن أَصِلَ مِن قَرَابَتِي (¬4). وكان عمر يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء على جميع الناس، حتى إنه لما وضع الديوان للعطاء كتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا، ابدؤوا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضعوا عمر حيث وضعه الله، فبدأ ببني هاشم، وضم إليهم بني المطلب (¬5). ¬

(¬1) المفهم (6/ 304). (¬2) برقم (3713). (¬3) فتح الباري (7/ 79). (¬4) صحيح البخاري برقم (3712)، وصحيح مسلم برقم (1759). (¬5) منهاج السنة (6/ 33)، وتاريخ الطبري (2/ 570).

ومن حقوقهم: الصلاة عليهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقًا في الخمس، والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصلاة على آل محمد صلى الله عليه وسلم حق لهم عند المسلمين، وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا السبب (¬1). قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. وقد تقدم حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومن حقوقهم: ما تقدم أن الله جعل لهم حقًا في الخمس، والفيء، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. وقال تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]. فالله تعالى لما حَرَّمَ الصدقة على آل محمد تطهيرًا لهم، عوَّضهم بما يغنيهم من خمس الغنائم، ومن الفيء الذي جُعل منه رزق محمد، حيث قال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: «بُعِثْتُ بِالسَّيفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 407)، ومنهاج السنة (4/ 606).

عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) المسند (2/ 92)، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/ 509): إسناده صالح. وصححه العراقي في تخريج إحياء علوم الدين (1/ 420).

الكلمة الخامسة والثلاثون: الإيمان بالله

الكلمة الخامسة والثلاثون: الإيمان بالله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من أعظم ما أمر الله به عباده: الإيمان به وحده، والكفر بما سواه، وهو العروة الوثقى التي من تمسك بها نجا وفاز، ومن تركها خاب وخسر، قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. والآيات في الأمر بالإيمان بالله، والترغيب فيه، وبيان فضله، والتحذير من تركه كثيرة، قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [المائدة: 5]. وأركان الإيمان ستة، أعظمها الإيمان بالله تعالى، ففي حديث جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» (¬1). والإيمان محله القلب، وآثاره الأقوال، والأعمال الصالحة، ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (8).

والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: «أولًا: الإيمان بوجود الله تعالى وقد دل على وجوده الفطرة، والعقل، والشرع، والحس، أما دلالة الفطرة، فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه، من غير سبق تفكير، أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة، إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن مَولُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيرَةَ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] (¬1). وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى، فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة، ولا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقًا؟ ! ولا يمكن أن توجد صدفة، لأن كل حادث لا بد له من مُحدِثٍ، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض، يمنع منعًا باتًّا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره؟ ! ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1359)، وصحيح مسلم برقم (2658).

فكذلك هذه الطيور، والجبال، والشمس والقمر، والنجوم، والرمال، والبحار .. وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبدًا، فتعين أن يكون لها مُوجِدٌ وهو الله رب العالمين. وقد ذكر الله هذا الدليل العقلي، فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون} [الطور: 35]. يعني: أنهم لم يُخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فَتَعَيَّنَ أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقرَأُ فِي المَغرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون} [الطور: 35 - 36]، كَادَ قَلبِي أَن يَطِيرَ (¬1). وأما دلالة الحس على وجود الله، فمن وجهين: أحدهما: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال سبحانه: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 76]. وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]. وفي صحيح البخاري من حديث أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ أَعرَابِيًّا دَخَلَ المَسجِدَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الأَموَالُ، وَانقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا»، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَينَا الشَّمسَ سَبْتًا (¬2)، حَتَّى جَاءَ ¬

(¬1) برقم (4854)، وصحيح مسلم برقم (463) مختصرًا. (¬2) أي: أسبوعًا.

الأَعرَابِيُّ الجُمُعَةَ القَادِمَةَ، فَقَالَ: هَلَكَتِ الأَموَالُ، وَانقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا»، فَتَوَقَّفَ المَطَرُ (¬1). وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا إلى يومنا هذا. الوجه الثاني: أن آيات الأنبياء التي تسمى المعجزات ويشاهدها الناس أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تأييدًا لرسله، ونصرة لهم، مثال ذلك: آية موسى عليه السلام حين أمره الله أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر طريقًا يابسًا، والماء بينهما كالجبال، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم} [الشعراء: 63]. مثال آخر: آية عيسى عليه السلام حيث كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال الله تعالى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران: 49]. وقال سبحانه: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. ومثال ثالث: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر فانفلق فرقتين فرآه الناس، وفي ذلك يقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَر * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِر} [القمر: 1 - 2]. فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدًا لرسله، ونصرًا لهم، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى. أما دلالة الشرع، فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1014)، وصحيح مسلم برقم (897).

وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق، دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها، دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به» (¬1). ثانيًا: الإيمان بربوبيته ومعناه الاعتقاد الجازم بأن الله وحده لا شريك له، الخالق الرازق، المدبر للعالم كله والمتصرف فيه، وأنه خالق العباد ورازقهم ومحييهم ومميتهم، وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب الإيمان بربوبيته سبحانه، قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات: 58]. وهذا النوع من التوحيد لم يخالف فيه كفار قريش، فكانوا يقرون به مع إشراكهم في توحيد الألوهية، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون} [العنكبوت: 61]. وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون} [المؤمنون: 84 - 89]. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (5/ 108).

ويجب أن يعلم أن ما ذكره الله عن الكفار من الاعتراف، إنما هو إقرار وليس هو المعرفة لله، والعلم به التي تدعو إلى محبة الله، وحمده، وشكره، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأن التقليل من شأن هذا النوع من التوحيد - أعني: توحيد الربوبية - بناءً على اعتراف الكفار به، وأنه لم ينفعهم، دليل على أن قائل ذلك لم يفهم توحيد الربوبية كما أراد الله، وقد أبدى الله تعالى وأعاد في كتابه الكريم في بيان هذا النوع، وعرف نفسه إلى خلقه حتى يعبدوه على بصيرة، ويوحدوه على علم، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]. فالعلماء هم العارفون بالله، وقد جاءت هذه الآية بعد ذكر الآيات التي تعرفه إلى خلقه، وإليك الآيات فتدبر: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [فاطر: 27]. وتوحيد العبادة لا يتحقق على وجه الكمال إلا بمعرفة توحيد الربوبية، ولذا نجد أن الله تعالى إذا أمر بتوحيده ذكر قبله أو بعده توحيد الربوبية برهانًا على استحقاقه لذلك، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 21]، وقال تعالى: {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه: 1 - 8]. وهذه المعرفة هي التي تنفع صاحبها حين يدخل قبره، فيُسأل من ربك؟ فمن عرف الله معرفة صحيحة أجاب إجابة صحيحة، فقال: (ربي الله)، ومن كانت معرفته معرفة الكفار، لا يتجاوز الإقرار القهري، فإنه لا يستطيع الإجابة.

ثالثًا: الإيمان بألوهيته: وهو توحيد العبادة التي هي سر الوجود، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]، ومعنى ذلك: أن تكون العبادة بجميع أنواعها، والطاعة المطلقة لله تعالى لا يصرف منها شيء لغيره، فكما أنه المتوحد بالخلق، فالأمر الواجب طاعته، قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]. إن العبادة التي يريد منا ربنا عز وجل إفراده بها، هي التي تكون ناتجة عن طبيعتين فطر الله الإنسان عليها، وهما الإعجاب بالعظمة، والاعتراف بالجميل، والعبد إذا نظر إلى آيات الله في نفسه وما حوله، تبين له عظمة الله تعالى وجلاله، وقدسيته، وكماله، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون} [الذاريات: 21]، كما أنه إذا نظر إلى ما أنعم الله به عليه، وعنايته به، وأنه لا يطعم إلا من رزقه، ولا يكسي إلا من ستره، ولا ينجو من كرب وشدة إلا بإنقاذه دعاه ذلك إلى الاعتراف بنعمائه، والشكر لإحسانه، فيقوم بالعبادة، ويتفانى فيها حبًا له، وتعظيمًا لشأنه، قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون} [النحل: 53]، على هذا الأساس تربى محمد صلى الله عليه وسلم وربى أصحابه، فأول ما نزل عليه من القرآن: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} [العلق: 1 - 5]، وأول ما أمر به من دعوة الخلق تعظيم ربه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّر} [المدثر: 1 - 3]. رابعًا: الإيمان بأسماء الله وصفاته: قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي

أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [الأعراف]، فأسماؤه جلا وعلا حسنى، وصفاته عليا، وما من اسم من أسمائه إلا وهو يتضمن صفة أو أكثر من صفاته، فاسمه الرحمن يتضمن صفة الرحمة، واسمه الكريم يتضمن صفة الكرم، والإيمان بها يستلزم إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله من الأسماء والصفات على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الشورى: 11]، فأثبت لنفسه اسمين عظيمين وهما السميع والبصير، وقد تضمنت صفتين كريمتين وهما: أنه يسمع ويرى، وهاتان الصفتان لا تشبهان صفات المخلوقين، ولذا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وما يريده الله من حين علمنا أن هذين الاسمين من أسمائه وما تضمنت من الصفات هي صفاته، هو أن نعلم أنه يرانا فلا نأتي إلا ما يرضيه، ونحذر أن يسمع منا ما يسخطه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [المجادلة: 7]، وهكذا سائر الأسماء والصفات. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة السادسة والثلاثون: من أحكام الأطعمة

الكلمة السادسة والثلاثون: من أحكام الأطعمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. لما كان الطعام يتغذى به جسم الإنسان، وينعكس أثره على أخلاقه وسلوكه، فالأطعمة الطيبة يكون أثرها طيبًا على الإنسان، والأطعمة الخبيثة بضد ذلك، ولذلك أمر الله العباد بالأكل من الطيبات، ونهاهم عن الخبائث، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [البقرة: 172]. وجاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157]. والأطعمة: جمع طعام، وهو ما يؤكل ويشرب. والأصل في الأطعمة الحل، فلا يحرم منها إلا ما جاء الدليل بتحريمه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الأصل فيها الحل لمسلم عمل صالحًا، لأن الله تعالى إنما أحل الطيبات لمن يستعين بها على ¬

(¬1) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (2/ 577).

طاعته، لا على معصيته، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [المائدة: 93]. ولهذا لا يجوز أن يستعان بالمباح على المعصية، كمن يعطي اللحم، والخبز من يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش» (¬1). فالله تعالى أباح لعباده المؤمنين الطيبات لكي ينتفعوا بها، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]. فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه من المطاعم، والمشارب فلا يجوز تحريمه، فإن الله قد فصَّل لنا ما حرم، فما كان حرامًا فلا بد أن يكون تحريمه مفصلًا، فكما أنه لا يجوز إباحة ما حرم الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه ولم يحرمه، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، فما لم يبين تحريمه فهو حلال. روى الحاكم في مستدركه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحَلَّ أَحَلَّ اللَّهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ العَافِيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا» (¬2). ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. فقد ذكر أهل العلم قواعد في بيان ما يحرم من الأطعمة، وبعض ¬

(¬1) فتاوى شيخ الإسلام (7/ 44)، والاختيارات الفقهية ص: 464. (¬2) (3/ 127) برقم (2471). وأخرجه البزار في مسنده برقم (117)، وقال عقبة: إسناده صالح، وحسنه الألباني في كتابه غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص: 14) برقم (2).

هذه المحرمات يدخل تحت أكثر من قاعدة: القاعدة الأولى: ما جاء النص بتحريمه، وهي أنواع، وينقسم إلى قسمين: (أ) نصوص عامة تشمل أفرادًا كثيرةً: كالنص على تحريم كل ذي ناب من السباع (¬1) وهي التي تفترس بنابها (¬2)، مثل: الأسد، والفهد، والسِّنَّور (الهر)، والهدهد، والكلب، والنمر، ونحوه. وكل ذي مخلب (¬3) من الطير، وهي سباع الطير التي تصيد بمخلبها: كالعقاب، والباز، والصقر، والحدأة، والبومة، والنسر، والرخم. روى البخاري ومسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ (¬5). قال ابن القيم رحمه الله: «قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي ¬

(¬1) السباع: قال في القاموس: السبع بضم الباء المفترس من الحيوان، ص: 938. (¬2) الناب: السن الذي خلف الرباعية، جمعه أنياب، وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد، قال في النهاية في غريب الحديث: ما يفترس الحيوان ويأكله قهرًا كالأسد، والنمر، والذئب (2/ 337). (¬3) المخلب: بكسر الميم وفتح اللام، قال أهل اللغة: المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان، ويباح منه الحمام، والعصفور لأنهما من المستطاب. تهذيب اللغة للأزهري (7/ 417). (¬4) صحيح البخاري برقم (5530)، وصحيح مسلم برقم (1932). (¬5) برقم 1934.

عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخنشي» (¬1). (ب) ما جاء النص في تحريمه بخصوصه: 1 - الخنزير: لأنه يتغذى على القاذورات، وكل شيء من الخنزير حرام، وتخصيص اللحم بالذكر لأنه يقصد في العادة، والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم، وقد جمع الله عز وجل هذه الثلاث في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. 2 - الدم: المراد به الدم المسفوح، لقوله تعالى في آية أخرى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الصحيح أنه إنما يحرم الدم المسفوح المصبوب المهراق، فأما ما يبقى في عروق اللحم فلم يحرمه أحد من العلماء» (¬2). 3 - الحمار الأهلي: لما ورد في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى يَومَ خَيبَرَ عَن لُحُومِ الحُمُرِ الأَهلِيَّةِ (¬3). قال ابن المنذر: «لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها» (¬4). (ج) ما جاء النص بالنهي عن بيعه، وشرائه كالكلب، والهر. ¬

(¬1) إعلام الموقعين (2/ 118)، (4/ 380). (¬2) حاشية الروض المربع (7/ 417). (¬3) صحيح البخاري برقم 5204، وصحيح مسلم برقم 1941. (¬4) حاشية الروض المربع (7/ 418).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي مسعود الأنصاري: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي الزُّبَيرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ؟ قَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ (¬2). 2 - ما لم يُذَكَّ ذكاة شرعية من الحيوان المباح، أو الطير، كالميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. أ - الميتة: وهي ما مات حتف أنفه، وفارقته الحياة بدون ذكاة شرعية، وحرِّمت لما فيها من المضرة بسبب الدم المحتقن، وخبث التغذية، وتجوز للمضطر بقدر الحاجة. ب - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}: أي: ذُبِحَ على غير اسمه تعالى، وهذا حرام لما فيه من الشرك المنافي للتوحيد، فإن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأنعام: 162 - 163]. ج - المنخنقة: هي التي تخنق فتموت إما قصدًا، أو بغير قصد. د - الموقوذة: هي التي تضرب بعضا، أو شيء ثقيل فتموت. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 2237، وصحيح مسلم برقم 1567. (¬2) برقم 1569.

هـ - المتردية: هي التي تتردى من مكان عال فتموت. و- النطيحة: هي التي تنطحها أخرى فتقتلها. ز - ما أكل السبع: هي التي يعدو عليها أسد، أو نمر، أو ذئب أو كلب، فيأكل بعضها فتموت بسبب ذلك، فما أدرك من هذه الخمسة الأخيرة وبه حياة فذكي فإنه حلال الأكل لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}. ن - ما ذبح على النصب: وهي حجارة كانت منصوبة حول الكعبة وكانوا في الجاهلية يذبحون عندها، فهذه لا يحل أكلها، وذلك لأن المذبوح عند النصب معتد به تعظيم الطاغوت دلالة وإن لم يتلفظ باسمه فهو بمنزلة ما أهل لغير الله به» (¬1). 3 - الجلالة: وهي كل حيوان، أو طائر حلال يتغذى على النجاسات، ولا تحل إلا تحبس على طعام طيب مدة تكفي لزوال أثر ذلك الطعام الخبيث. روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا (¬2). وسواء في ذلك الإبل، والبقر، والغنم، والدجاج، ونحوها. قال ابن القيم رحمه الله: «أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست، وعلفت الطاهرات، حل لبنها، ولحمها، وكذا الزرع، والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت، ¬

(¬1) الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة، لمجموعة من العلماء (ص: 400 - 401)؛ الروضة الندية شرح الدرر البهية، للشيخ محمد صديق حسن خان (2/ 385). (¬2) برقم 3785، وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (8/ 149) برقم 2503.

لاستحالة وصف الخبيث وتبدله بالطيب» (¬1). 4 - ما كان ضارًا كالسموم، والمخدرات، والمسكرات، قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ عز وجل عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» (¬3). 5 - ما قطع من البهيمة. روى أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَهُوَ مَيْتَةٌ» (¬4). 6 - ما تولد من حيوان مباح، وحرام، كالبغل المتولد من الخيل، والحمر الأهلية. ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 40). (¬2) صحيح البخاري برقم 5778، وصحيح مسلم برقم 109. (¬3) برقم 2003. (¬4) سنن أبي داود برقم 2858، ومسند أحمد (36/ 235) برقم 21904، وقال محققوه: حديث حسن.

القاعدة الثانية: ما جاء النص بالنهي عن قتله من الحيوانات، والطيور، والحشرات. روى أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث ابن عباس: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن قَتلِ النَّحلَةِ، وَالنَّملَةِ، وَالصُّرَدِ، وَالهُدهُدِ (¬1)، وفي رواية لابن ماجه: وَالضِّفدَعِ (¬2). وروى أحمد في مسنده من حديث عبد الرحمن بن عثمان رضي الله عنه قال: ذَكَرَ طَبِيبٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَوَاءً، وَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يُجْعَلُ فِيهِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ (¬3). القاعدة الثالثة: ما جاء النص في الأمر بقتله من الحيوانات والطيور، إذ لو كان حلالًا لما أمر بقتله، وترك ذلك للحاجة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأَبْقَعُ (¬4)، وَالْفَارَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا» (¬5). «وألحق بعض أهل العلم أنواعًا أخرى من الغربان بالأبقع، مثل ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 5267، ومسند أحمد (5/ 295) برقم 3242، وقال محققوه: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2) برقم 3223، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 217) برقم 2608. (¬3) (25/ 36) برقم 15757، وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬4) الأبقع: هو الذي في ظهره أو بطنه بياض. شرح صحيح مسلم للنووي (8/ 353). (¬5) صحيح البخاري برقم (1829)، وصحيح مسلم برقم (1198) واللفظ له.

غراب البين، وهو أكبر الغربان، والعقعق (¬1)، والأعصم (¬2)، وعللوا ذلك بأنها مستقبحة لأكلها الخبائث، واتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، وبقي ما عداه ملتحقًا بالأبقع» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم شريك رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ، وَقَالَ: «كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام» (¬4). القاعدة الرابعة: ما كان في أكله ضرر من الحيوانات السامة. كالحيات، والعقارب، والسموم الموجودة في الأعشاب، والمخدرات، والمسكرات. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» (¬5). القاعدة الخامسة: ما يستخبثه أصحاب الفطر السليمة. كل خبيث حرام، وبهذا بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157]. ومن تلك الخبائث المحرمة: الحشرات، الزنابير، والخنافس، ¬

(¬1) وهو على قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل: سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعام، وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان. فتح الباري (4/ 38). (¬2) وهو الذي في رجليه أو في جناحيه أو بطنه بياض أو حمرة. فتح الباري (4/ 38). (¬3) انظر: فتح الباري (4/ 38). (¬4) صحيح البخاري برقم 3359، وصحيح مسلم برقم 2238. (¬5) (5/ 55) برقم 2865، وقال محققوه: حسن.

والفراش، والصراصير، وأم حبيل، .. وغيرها، وكل ما لم يدخل تحت هذه القواعد السابقة فهو حلال، سواء من الحيوانات البرية أو البحرية، أو الأطعمة، أو الأشربة، وقد أحلَّ الله لعباده الطيبات وهي كثيرة جدًّا تغنيهم عمَّا حَرَّمَ من الخبائث، ومن ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: 1 - صيد البحر، وطعامه، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]. وصيده ما صيد حيًّا، وطعامه ما مات فيه من حيتانه وأسماكه. روى أبو داود والترمذي في سننهما من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيتَتُهُ» (¬1). وكل ما يعيش إلا في البحر فإنه حلال، سواء صيد حيًّا أو لفظه البحر ميتًا، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان ضارًّا لكونه سامًّا، أو ما وقع الخلاف في حله، وهي الحيوانات البحرية المحرم جنسها في البر، مثل الخنزير، والكلب؛ أما التمساح، والضفدع ونحوهما مما يعيش في البر والبحر، فلا تدخل في صيد البحر، ولا طعامه، ويطبق عليها القواعد السابقة. 2 - الجراد: روى الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» (¬2). 3 - الكبد والطحال، فهما وإن كانا دمين، فقد جاء النص بحلهما كما سبق. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 83، وسنن الترمذي برقم 69، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) مسند الإمام أحمد (10/ 216) برقم 5723، وقال محققوه: حديث حسن، وابن ماجه برقم 3314.

4 - بهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. 5 - الخيل. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: نَحَرنَا عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلنَاهُ (¬1). ولحديث جابر رضي الله عنه قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي الْخَيْلِ (¬2). 6 - الحمار الوحشي: وهو غير المستأنس، لحديث أبي قتادة: أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحشِيًّا، فَعَقَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَل مَعَكُم مِن لَحمِهِ شَيءٌ؟ » قَالَ: مَعَنَا رِجلُهُ، فَأَخَذَهَا، فَأَكَلَهَا (¬3). 7 - الضب: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (¬4)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا فَإِنَّهُ حَلاَلٌ، وَلَكِنَّهُ لَيسَ مِن طَعَامِي» (¬5). 8 - الجربوع. 9 - الأرنب: روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه: أَنَّهُ أَخَذَ أَرنَبًا، فَذَبَحَهَا أَبُو طَلحَةَ، وَبَعَثَ بِوَرِكِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ (¬6). 10 - الضبع: لما رواه الترمذي في سننه من حديث ابْنِ أَبِي ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 5510، وصحيح مسلم برقم 1942. (¬2) صحيح البخاري برقم 5520، وصحيح مسلم برقم 1941. (¬3) صحيح البخاري برقم 2570، وصحيح مسلم برقم 1196. (¬4) صحيح البخاري برقم 2575، وصحيح مسلم برقم 1947. (¬5) صحيح البخاري برقم 7267، وصحيح مسلم برقم 1944. (¬6) صحيح البخاري برقم (2572)، وصحيح مسلم برقم (1953).

عَمَّارٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: الضَّبُعُ صَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَقَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ (¬1). قال ابن حجر: وقد ورد في الضبع أحاديث لا بأس بها (¬2). 11 - الطيور الطيبة: مثل الحجل، والدارج، والقمري، .. ، ونحوها. 12 - الدجاج: روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَاكُلُ دَجَاجًا (¬3). 13 - الوبر. هذه بعض الأحكام المتعلقة بالأطعمة، والأمثلة الواردة على سبيل المثال لا الحصر، وبقيت أحكام أخرى يستكمل الحديث عنها في كلمة قادمة إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) برقم 1791، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) فتح الباري (9/ 574). (¬3) صحيح البخاري برقم (5517)، وصحيح مسلم برقم (1649).

الكلمة السابعة والثلاثون: شهادة الزور والتحذير منها

الكلمة السابعة والثلاثون: شهادة الزور والتحذير منها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من أعظم الذنوب عند الله تعالى بعد الشرك به سبحانه: شهادة الزور، ففيها مفسدة للدين، والدنيا، وللفرد والمجتمع، وكذب، وبهتان، وأكل للمال بالباطل، وسبب لانتهاك الأعراض، وإزهاق النفوس. قال القرطبي: «شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال» (¬1). وقد جاء التحذير الشديد من شهادة الزور، فقال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج: 30]. كما جاء المدح لمجتنبيها، فقال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ » قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ ¬

(¬1) فتح الباري (5/ 426).

النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ » (ثَلَاثًا)، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: «أَلَا وَقَولُ الزُّورِ». قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنَا: لَيتَهُ سَكَتَ (¬2). «ففي هذين الحديثين الصحيحين عظم النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور غاية التعظيم، وحذر منها غاية التحذير بقوله، وفعله، حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئًا، فلما ذكر شهادة الزور جلس ليبيِّن فداحتها وعظمها، وجعل يكرر القول بها حتى قال الصحابة: لَيتَهُ سَكَتَ، وعظمها أيضًا حين صدر القول عنها بأداة التنبيه: (أَلَا؟ )، وحين فصلها في الحديث السابق عما قبلها من الكبائر وقال: «أَلَا وَقَولُ الزُّورِ» (¬3)». قوله: وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، قال الحافظ ابن حجر: «يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه، وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور، أو شهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرفه عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2653)، وصحيح مسلم برقم (88). (¬2) صحيح البخاري برقم (2653)، وصحيح مسلم برقم (87). (¬3) الضياء اللامع من الخطب الجوامع، للشيخ ابن عثيمين (4/ 451) بتصرف.

كالعداوة، والحسد، وغيرهما؛ فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعًا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك فإن مفسدته قاصرة غالبًا» (¬1). اهـ وشهادة الزور قرينة الشرك بالله، قال عبد الله بن مسعود: تُعدل شهادة الزور بالشرك، وقرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج] (¬2). ومن الفتن التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع في آخر الزمان: شهادة الزور. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَعْدَكُم قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» (¬4). وفي رواية: «ثُمَّ يَجِيءُ أَقوَامٌ تَسبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِم يَمِينَهُ، ¬

(¬1) فتح الباري (5/ 263). (¬2) تفسير ابن كثير (10/ 52). (¬3) (6/ 416) برقم (3870)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬4) صحيح البخاري برقم (2651)، وصحيح مسلم برقم (2535).

وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ». قَالَ إِبرَاهِيمُ: وَكَانُوا يَضرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالعَهدِ (¬1). وقد استشكل هذا الحديث مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَاتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» (¬2). ذكر العلماء - رحمهم الله - وجوهًا كثيرةً للجمع بين الحديثين السابقين، قال ابن حجر رحمه الله: «وأحسن الأجوبة أن المراد بحديث زيد: من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها، فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة، فيأتي الشاهد إليهم، أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك» (¬3). «ومن شهادة الزور: أن يشهد الإنسان بما لا يعلمه علمًا يقينًا مثل الشمس، أو بما يعلم أن الواقع بخلافه، سواء شهد للشخص، أو عليه» (¬4). وليست شهادة الزور مقتصرة على الشهادة بالكذب أمام القضاة في المحاكم الشرعية، فإن شهادة الزور صورها كثيرة، ويتساهل كثير من الناس فيها، فمن ذلك: «أن يشهد المدير لأحد موظفيه بأنه من أحسنهم ويؤدي عمله بجدارة وإخلاص، وقصده بذلك ترقية هذا الموظف إلى مرتبة ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (2652)، وصحيح مسلم برقم (2533). (¬2) برقم (1719). (¬3) فتح الباري (5/ 260). (¬4) الضياء اللامع من الخطب الجوامع، للشيخ ابن عثيمين (4/ 451).

أعلى، وهذه الشهادة تقدم للمسؤول الأعلى، أو يشهد للموظف المهمل لوظيفته بمبررات لإهماله لا حقيقة لها، فيشهد له بالمرض وهو غير مريض، أو يشهد له بشغل قاهر وهو غير مشغول، أو يشهد له بنقل أهله إلى مقر عمله الجديد وهو لم ينقلهم، أو باستئجار سيارة وهو لم يستأجرها، أو يشهد بأجرة أكثر مما استأجرها به، أو يشهد بأنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا وهو لم يقم بها ولم يباشرها، يزعم الشاهد بذلك أنه يريد الإصلاح بنفع المشهود له، ولم يدر أنه بهذه الشهادة ضر نفسه وضر المشهود له، وأفسد على نفسه، وعلى المشهود له دينه» (¬1). ومنها: ما يحصل عليه بعض الناس من الشهادات الدراسية مثل البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، يأخذونها زورًا وبهتانًا بغير حق، وبعضهم للأسف تكون شهادته في الشريعة الإسلامية مع جهله بأبسط الأحكام الشرعية، وقد ينال بهذه الشهادة منصبًا، أو مركزًا اجتماعيًّا، فيفتي الناس بغير علم ويضلهم. ومنها: الشهادة للشركة، أو المؤسسة التجارية الفلانية بأنها من أفضل الشركات، وأنها أجدر من غيرها، وذلك للحصول على المناقصة الحكومية وإرساء المشروع عليها. ومنها: الشهادة أن فلانًا من الناس يصلح أن يزوج، أو يؤتمن، أو يشارك في تجارة ونحوها، وهو ليس كذلك. ¬

(¬1) الضياء اللامع مع الخطب الجوامع (4/ 450)، للشيخ ابن عثيمين.

ومن مفاسد شهادة الزور: أولًا: أن صاحبها قد بنى حاله على الكذب، والافتراء، وطمس الحقائق. ثانيًا: أنه ظلم الذي شهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله، وعرضه، وروحه (أحيانًا). ثالثًا: أنه ظلم الذي شهد له، بأن ساق إليه المال الحرام فأخذه بشهادته، فوجبت له النار، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيئًا فَلَا يَأخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (¬1). رابعًا: أنه أباح ما حرم الله تعالى وعصمه: من المال، والدم، والعرض (¬2). خامسًا: أن شهادة الزور سبب لزرع الأحقاد، والضغائن في القلوب. سادسًا: أنها تعين الظالم على ظلمه، وتعطي الحق لغير مستحقه. سابعًا: أنها سبب لسيطرة الفساق، وتمكنهم، وإبعاد الأخيار عن مواقع التأثير، والإصلاح. ثامنًا: أنها سبب لفساد البلاد، والعباد. تاسعًا: أن فيها زعزعة للثقة، والأمانة بين الناس. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 7169، وصحيح مسلم برقم 1713. (¬2) الكبائر، للذهبي (ص: 79).

عاشرًا: «أن الشاهد بالزور إذا شهد مرة، هانت عليه الشهادة ثانية، وإذا شهد بالصغير، هانت عليه الشهادة بالكبير؛ لأن النفوس بمقتضى الفطرة، تنفر من المعصية وتهابها؛ فإذا وقعت فيها، هانت عليها، وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الضياء اللامع من الخطب الجوامع (4/ 453)، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

الكلمة الثامنة والثلاثون: الحث على التجارة، وبيان بركتها،

الكلمة الثامنة والثلاثون: الحث على التجارة، وبيان بركتها، وحلول لمشكلة البطالة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد وردت النصوص من الكتاب والسنة تحث على التجارة وتبين فضلها وبركتها، والاستغناء بها عما في أيدي الناس، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} [الملك: 15]. وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. قال البغوي: أي: إذا فرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم (¬1). كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين (¬2). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث رافع بن خديج قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الكَسبِ أَطيَبُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، ¬

(¬1) تفسير البغوي (2/ 945). (¬2) تفسير ابن كثير (13/ 563).

وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» (¬1). وروى البخاري في صحيحه من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيرًا مِن أَن يَأكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ» (¬2). وفي رواية: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» (¬3). وروى البخاري في صحيحه من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَاخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَاتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» (¬4). وكما تقدم أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ، فكذلك كان غيره من الأنبياء. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ زَكَرِيَّا عَلَيهِ السَّلَامُ نَجَّارًا» (¬5). وموسى عليه السلام عمل عند شعيب عشر سنوات يرعى الغنم، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام رعى الغنم. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ». فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» (¬6). والقراريط دراهم يسيرة. ¬

(¬1) (28/ 502) برقم (17265)، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬2) برقم (2072). (¬3) سنن الترمذي برقم (1358)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) برقم (1471). (¬5) صحيح مسلم برقم (2379). (¬6) برقم (2262).

ومن الأدلة على فضل التجارة وبركتها: ما ورد في الصحيحين من حديث أنس: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ، فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا (¬1) .. الحديث. فعبد الرحمن بن عوف تعفف عن مال أخيه، ثم سعى في التجارة فبارك الله له وفتح عليه بها، فتزوج بعد ذلك، ثم أصبح من تجار المدينة. قال أيوب السختياني: قال لي أبو قلابة: الزم السوق فإن الغنى من العافية (¬2) .. يعني: الغنى عن الناس. قال علي بن الفضيل: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد، والتقلل، والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي إنما أفعل ذا؛ لأصون به وجهي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي (¬3). سئل الإمام أحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَجُعِلَ رِزْقي تَحْتَ ظِلِّ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 3780، وصحيح مسلم برقم 1427. (¬2) إحياء علوم الدين (2/ 943). (¬3) تاريخ بغداد (10/ 160).

رُمْحِي» (¬1) (¬2). أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: «لَو أَنَّكُم كُنتُم تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقتُم كَمَا تُرزَقُ الطَّيرُ، تَغدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (¬3). فقوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الطير: «تَغدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق (¬4). وكان زيد بن مسلمة يغرس في أرضه، فقال له عمر رضي الله عنه: أصبت، استغن عن الناس، يكن أصون لدينك، وأكرم لك عليهم. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم. قال أبو قلابة البصري لرجل: لأن أراك تطلب معاشك، أحب إلي من أراك في زاوية المسجد. وقال أبو سليمان الداراني: ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد. قال الغزالي: «فهذه مذمة الشرع للسؤال والاتكال على كفاية الأغيار (¬5)، ومن ليس له مال موروث، فلا ينجيه من ذلك بعد الله إلا ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (2/ 92)، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/ 509): إسناده صالح. (¬2) إحياء علوم الدين (2/ 60) [طبعة دار الكتب العلمية الثالثة - بيروت]. (¬3) سنن الترمذي برقم (2344)، وقال: حديث حسن صحيح؛ ومسند الإمام أحمد (1/ 332) برقم (205)، وقال محققوه: إسناده قوي. (¬4) أي: أنها تذهب في أول النهار جائعة، وترجع في آخر النهار، وقد امتلأت بطونها بالطعام. (¬5) الأغيار: جمع غير، والمراد الغير من الناس.

الكسب والتجارة» (¬1). وكما وردت النصوص الكثيرة في فضل التجارة والاستغناء عما في أيدي الناس، فقد وردت نصوص وآثار تذم البطالة وتحذر منها، فمن ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ»، وَفِيهِ: «وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ (¬2)، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا، لاَ يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا» .. الحديث (¬3). ومن ذلك قول عمر بن الخطاب: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة (¬4). وقال ابن مسعود: «إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا، لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته» (¬5). ومما تقدم من النصوص والآثار السابقة، يتبيَّن لنا الآتي: 1 - أن الإنسان يسعى لرزقه ويبذل الأسباب المشروعة كما أُمر، والله تعالى يبارك في هذا السعي، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات: 58]. وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} [الذاريات: 22]. 2 - أن الرزق ليس مرتبطًا بالشهادة الدراسية أو الذكاء، أو ¬

(¬1) إحياء علوم الدين (2/ 942 - 944) بتصرف. (¬2) قيل: الذي لا مال له. شرح صحيح مسلم، للنووي (17/ 196). (¬3) برقم (2865). (¬4) إحياء علوم الدين (2/ 942). (¬5) نفس المصدر السابق.

الحصول على وظيفة حكومية، فكم من رجل أُمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يملك الأموال الطائلة؟ ! 3 - أن المجالات والفرص المتاحة كثيرة، ولكن يحتاج الإنسان لتشغيل الذهن، والتفكير المثمر، والعمل الجاد مع الاستعانة بالله. وهذه بعض الأسباب التي تعين على نجاح التجارة، أُخذت من النصوص الشرعية، وسؤال المختصين في ذلك: 1 - حسن النية في التجارة وأن يقصد الاستعفاف والاستغناء عن سؤال الناس. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» (¬1). 2 - الجرأة في الإقدام على العمل التجاري، قال ابن خلدون: وأما من كان فاقدًا للجرأة والإقدام من نفسه، فينبغي أن يجتنب الاحتراف بالتجارة (¬2). 3 - الوعي والإدراك لما يقدم عليه من أمور التجارة وتفاصيلها الدقيقة، فالبعض يقدم على التجارة ولكن للأسف لا يتابع أمورها، وإنما يكل الأمور للآخرين من موظَّفين أو عمَّال فتحصل الخسارة. 4 - بذل الأسباب الشرعية من الاستخارة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1469)، وصحيح مسلم برقم (1053). (¬2) مقدمة ابن خلدون (ص: 410).

أمته، والتوكل على الله، والاعتماد عليه، وكذلك الاستشارة للمختصين في هذا المجال قبل البدء في العمل التجاري، ودراسة المشروع والجدوى الاقتصادية منه، والاستمرار في الاستشارة، حتى يصل المشروع إلى تحقيق أهدافه. 5 - تقوى الله ومراقبته في هذه التجارة، فما اتقى الله امرؤ في أي أمر من أموره، إلا بارك الله له فيه. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. والبعد عن بيع أو شراء ما فيه مخالفات شرعية أو محرمات والتَّوَرُّع عن الشُّبُهات. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَمَنْ يَاخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَاكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» (¬1). قال ابن حجر: «وفيه أن المكتسب للمال من غير حلِّه لا يبارك له فيه، لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع» (¬2). 6 - الاكتفاء بالربح القليل، وعدم النظر إلى الغير من التجار، والاستعجال لِلَّحاق بهم، فمن استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقِب بحِرمانه، وقد قيل: قليل دائم خير من كثير منقطع. ¬

(¬1) برقم (6427)، وصحيح مسلم برقم (1054) واللفظ له. (¬2) فتح الباري (11/ 249).

7 - الترتيب المالي للعمل التجاري فيعرف ما له وما عليه؟ وكم سينفق على هذا المشروع من مال؟ وما هي الثمرة المتوقعة منه؟ وما مقدار هذه الأرباح؟ وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة التي توضح له الأمور، وتساعده على تجاوز العقبات، ونجاح المشروع. 8 - الصدق في المعاملة من بيع، وشراء، وشراكة والنصح للمشتري، لما ورد في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيعِهِمَا، وَإِن كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيعِهِمَا» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله قال: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (¬2). فَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ، يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: «اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاكَهُ، فَاخْتَرْ». وروى الطبراني في ترجمته: أن غلامه اشترى له فرسًا بثلاث مئة، فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال: إن فرسك خير من ثلاث مئة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثماني مئة درهم (¬3). 9 - التبكير في البيع، والشراء. روى أبو داود في سننه من ¬

(¬1) برقم (2110)، وصحيح مسلم برقم (1532) .. (¬2) صحيح البخاري برقم (57)، وصحيح مسلم برقم (56). (¬3) فتح الباري (1/ 139).

حديث صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا». وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا، بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ (¬1). 10 - أن يرضى التاجر بما قسم الله له من رزق. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحد بني سُلَيمٍ، ولا أحسبه إلا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ، وَوَسَّعَهُ؛ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ، لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» (¬2). 11 - أداء الزكاة في وقتها، ووضعها في مواضعها الشرعية، فهي الركن الثالث من أركان الدين، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [التوبة: 103]. فالزكاة طهرة ونماء للمال. 12 - وضع جزء من الربح للصدقة وهذا من أسباب البركة ونماء المال. روى مسلم في صحيحه من حديث ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 2606، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 494) برقم (2270). (¬2) (33/ 403) برقم (20279)، وقال محققوه: إسناده صحيح.

أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذاَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ، لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَاذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لاِسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَاذَا، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ» (¬1). 13 - الدعاء، فيكثر من الدعاء بأن يباركَ الله له في تجارته ويوسع له فيها، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} [البقرة]. روى البخاري في صحيحه من حديث عُرْوَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ (¬2). ¬

(¬1) برقم (2984). (¬2) برقم (3642).

وفي الحديث: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم (1479)، وسنن الترمذي برقم (3247)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) ومن أراد التوسع في الموضوع، فليراجع رسالة المؤلف (التجارة والأسواق. نصائح وأحكام).

الكلمة التاسعة والثلاثون: تعظيم شعائر الله

الكلمة التاسعة والثلاثون: تعظيم شعائر الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد} [المائدة: 1]. في هذه الآية الكريمة ينهي عز وجل عباده المؤمنين عن استحلال شعائر الله التي حرمها، وقد تضمن هذا النهي الأمر بتعظيمها وذلك بفعل ما يجب لله تعالى فيها. وقد وردت الآيات الكريمات مصرحة بتعظيمها، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. كما بين تعالى أن من علامات صلاح القلوب واستقامتها تعظيم تلك الشعائر، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج: 32]. وشعائر الله هي أوامره ونواهيه، وتعظيمها يكون بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، وبإجلالها بالقلب ومحبتها، وتكميل العبودية فيها غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل. وشعائر الله هي أعلام دينه الظاهرة التي أمر بتعظيمها، ومن

أخصها: بيت الله المحرم، ومناسك الحج، وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة تبين بإيضاح كيف يكون تعظيم شعائر الله، وما يترتب على انتهاكها من العقوبات، وحلول سخط الله وغضبه على فاعل ذلك، فمن ذلك: أن الله تعالى أمر أبانا إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل بتطهير بيته، فقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [البقرة: 125]. وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّانَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود} [الحج: 26]. وفي هاتين الآيتين الكريمتين بيان لحكمة التطهير الذي أمر الله به، وتطهيره بإزالة النجاسات، والأقذار من التعظيم الذي أمر الله به، غير أن المقصود الأعظم تطهيره من الشرك والمشركين، والزنادقة الملحدين، وتخليصه لعباد الله الموحدين الطائفين، والعاكفين، والقائمين، والركع السجود، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي بكر: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيهِ فِي حَجَّةِ العَامِ التَّاسِعِ قَبلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: أَن يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: «أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالبَيتِ عُرْيَانٌ» (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (1622)، وصحيح مسلم برقم (1347).

وإن مما يرى من مشاهد التبرج والسفور في المسجد الحرام، لهو شبيه بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع فارق بينهما من جهة القصد، فالمشركون كانوا يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فهم بذلك يقصدون تعظيم الله، فلم ينفعهم ذلك القصد الحسن لأن عملهم مبتدع غير مشروع؛ أما المتبرجات اللاتي يشاهدن عند بيت الله الحرام، وفي مناسك الحج والعمرة، فقد انعدم لديهن الأمران جميعًا، وهما حسن القصد، وصحة العمل، فإلى الله المشتكى، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ومن شعائر الله العظيمة ومناسك عبادته: الصفا والمروة التي شرع الله السعي بينهما، وجعله ركنًا لا يتم الحج إلا به، قال تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيم} [البقرة: 158]. وإن من تعظيم شعائر الله تعالى: أداء المناسك على الوجه الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من طواف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة، ووقوف بعرفة في يوم عرفة مع عموم المسلمين، ومبيت بمزدلفة والصدح بذكر الله، وتوحيده عند المشعر الحرام، ورمي الجمار اقتداءً بإمام الموحِّدين إبراهيم عليه السلام، وبخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم في غير غلو، ولا تفريط. وقد كان صلى الله عليه وسلم يؤكد ويكرر في حجته التي حجها عند كل منسك الاقتداء به والاتيان بما يفعله، فيقول: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم، فَلَعَلِّي لَا أَلقَاكُم بَعْدَ عَامِي هَذَا» (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم برقم (1297).

فبأبي هو وأمي، فلقد بلغ رسالته، وأدى أمانته، ونصح أمته، فأين منا من يستجيب له؟ فيحيا سعيدًا، ويموت راضيًا مرضيًّا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [الأنفال: 24]. لقد خاب وخسر من لم يعظم شعائر الله، وانتهك حرماته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الحج: 25]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَاذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» (¬1). فكل ما حرم الله على عباده فهو في مكة أعظم حرمة، وأشد جرمًا، وأكبر خطيئة، فمكة بلد حرمها الله واختارها بحكمته، وجعل فيها بيته، الذي هو أول بيت وضع للناس ليفدوا إليه ويطوفوا به، فهي أم القرى بنص كتاب الله وإن رغمت أنوف الحاقدين الضالين، فمن زعم أن أم القرى هي قم أو غيرها فقد كذب القرآن، ومن كذب القرآن فهو من الكافرين، وعليه لعنة الله، ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (104)، وصحيح مسلم برقم (1354).

والملائكة والناس أجمعين، قال تعالى: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم * مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون * قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [المائدة: 97 - 100]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الأربعون: خطر الإلحاد وانتشاره في بلاد المسلمين

الكلمة الأربعون: خطر الإلحاد وانتشاره في بلاد المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من المصائب العظمى، والبلايا الكبرى التي ابتلي بها العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة: ظهور الإلحاد ونشره من قبل أعداء الإسلام وأعني بالإلحاد الكفر بالله، والميل عن طريق أهل الإيمان، والرشد، وظهور التكذيب بالخالق، وبالبعث، والجنة، والنار، والتطاول على الله أو على النبي صلى الله عليه وسلم، أو على دين الإسلام، ونحو ذلك. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40]. وقال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [الأعراف: 180]. ومواقع نشر الإلحاد كثيرة كالقنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية والمقاهي الليلية المغلقة، وشبكة التواصل الاجتماعي، والفيسبوك، وتويتر والكتب، والمقالات، والصحف، والمجلات .. وغيرها. وللأسف أن هؤلاء الملاحدة قد زاد شرهم في الآونة الأخيرة، وبدؤوا يصرحون بكفرهم وزندقتهم عبر الوسائل الإعلامية السابقة، مع أنهم وُلِدُوا في بيئة مسلمة، ومن أبوين مسلمين، ولكن الشياطين اجتالتهم عن الدين القويم إلى هذا المسلك المنحرف، قال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137]. روى مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ» (¬1). ومن أقوال هؤلاء الملاحدة قبَّحهم الله: قول أحدهم: الله والشيطان وجهان لعملة واحدة، وقال أيضًا: الانتحار نصر على الله. وقال آخر: عليك أن تثبت وجود الله علميًّا وبالصور، وبعدها تثبت أنه هو من خلق الذبابة التي تَتَحَدَّوْنَ فيها العالم. وقال آخر: بالنسبة للقرآن فهو لون أدبي معروف لدى العرب، قبل الإسلام، وبعد الإسلام. وقال آخر: أنا لا أؤمن بحديث شرب أبوال الإبل، وحديث الذبابة لأنها تتنافى مع العقل الصحيح، والفطرة السليمة. وقال آخر: أعتقد أن الأديان مجرد تراث وفلكلور. وقالت إحداهن: إن كان الله في قسوته يتمثل بوجه أمي، فهو غاضب على الدوام علينا، قال تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5]. ¬

(¬1) برقم (2865).

وقد سبق هؤلاء الملحدون مثلهم كثير، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. وحكى الله عن فرعون قوله: {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وحكى الله عنهم قولهم في القرآن: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5]. فهؤلاء هم قدوتهم ومثلهم الذي يتبعونه، وأخطر ما في هؤلاء الملحدين، زعم بعضهم أنه مسلم، بل ربما ادعى الصلاح والإصلاح، كما حكى الله عن قائدهم فرعون لعنه الله عندما قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد} [غافر: 29]. وبناءً على ما سبق، فقد تمت دراسة هذه الظاهرة من بعض الدعاة، والمصلحين، وتبينت لهم أسبابها، وأذكر هنا بعضًا من تلك الأسباب، للحذر من سلوكها وإنكارها: 1 - الابتعاث إلى بلاد الكفار للدراسة دون التقيد بالضوابط الشرعية، ويبقى الطالب هناك سنوات عديدة، فينبهر بالحضارة الغربية الزائفة، ويختلط بالكفرة والملحدين من اليهود والنصارى وغيرهم، مع ضعف العلم الشرعي للرد على شبهاتهم وضلالتهم، فيبقى متشككًا في دينه وعقيدته، وفي النهاية قد ينتهي به الأمر إلى الإلحاد والزندقة، كما

حصل لبعضهم عند عودته إلى بلاده، وتنكره لدينه، وعقيدته، بل إن بعضهم آثر البقاء في بلاد الكفار، وعدم العودة إلى ديار المسلمين. قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «السفر إلى البلاد التي فيها الكفر، والضلال، والحرية، وانتشار الفساد من الزنا، وشرب الخمر وأنواع الكفر، والضلال، فيه خطر كبير وعظيم على الرجل، والمرأة، وكم من صالح سافر ورجع فاسدًا؟ ! وكم من مسلم رجع كافرًا؟ ! » (¬1). 2 - القراءة فيما يسمى بكتب الفكر والفلسفة، أو الحداثة التي تحوي الإلحاد والزندقة، ورد الأحاديث الصحيحة بحجة أنها تنافي العقل، وفي هذه الكتب أيضًا تمجيد لحضارة الغرب الزائفة، وأن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بدينهم وأخلاقهم، والتعرض للذات الإلهية بالتنقص، فالقراءة في مثل هذه الكتب المسمومة يؤثر على عقيدة القارئ، ومع كثرة القراءة، وتنوع الكتب، قد ينشأ عنده الفكر الإلحادي، كما صرَّح بعضهم بأن سبب اعتناقه لفكر الإلحاد هو القراءة في كتب النصارى المستشرقين، والعلمانيين المحسوبين على المسلمين. 3 - الاطلاع والتصفح والنظر للمواقع الإلكترونية، أو القنوات الفضائية اليهودية، أو النصرانية التي تدعو لعقيدة التثليث، أو الشيوعية الإباحية، وقد تكون البداية الاطلاع من باب الفضول، ومعرفة ما عند الغير، فيقع المحظور. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (2/ 195)، للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

4 - حب الشهوات والملذات، والتخلص من التكاليف الشرعية والانطلاق في عالم الإباحية، والمجون، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم} [يوسف: 53]. 5 - إهمال الآباء تربية أبنائهم التربية الإسلامية الصحيحة. روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُرُوا أَوْلَادَكُم بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنِينَ» (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: «فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدًى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد، إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا» (¬2). 6 - مخالطة رفقاء السوء، والإنسان مجبول على التأثر بصاحبه وجليسه، والأرواح جنود مجندة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً؛ وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا ¬

(¬1) سنن أبي داود برقم 495، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 97) برقم 466. (¬2) تحفة المودود في أحكام المولود، ص: 80.

أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» (¬1). فجليس السوء يؤثِّر على صاحبه، ويدعوه إلى البعد عن الدين ومماثلته في الوقوع في المحرمات. قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن. وصدق الله القائل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89]. وقال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27]. 7 - التفكك الأسري، وذكرت إحدى الطبيبات النفسية أنه بعد عدة نقاشات مع هؤلاء الملاحدة، تقول: «تكونت لدي قناعات بأنهم من أسر مفككة، ومن الفاشلين في التكيف مع الحياة والمجتمع، وناقمين على الظروف التي وجدوا أنفسهم فيها، وأنهم لجؤوا للإلحاد وغيره من التوجهات الفكرية، هروبًا من الواقع الذي يعيشونه لضعف شخصياتهم، وأحيانًا التقليد الأعمى للمجتمع الغربي بكل آفاته، وأمراضه النفسية التي ترسخت في العقلية الملحدة» (¬2). 8 - العجب والغرور بالنفس، واستحقار الناس كما حصل لأحدهم: كان يؤلِّف المؤلَّفات العظيمة في الدفاع عن العقيدة والدين، حتى أُعجب بنفسه، وأصابه الغرور، حتى ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم (5534)، وصحيح مسلم برقم (2628). (¬2) د. سناء المجذوب استشارية الطب النفسي في تصريح لصحيفة سبق الإلكترونية.

استحقر الأنبياء، وقال: إن العلم الذي عنده والفضل، لو قسم على الخلق، لأغنى عما عند الرسل، وألف كتابه المعروف: (هذه هي الأغلال)، يعني بها ثوابت الإسلام، وتكلم في الأنبياء، وكذب أشياء في القرآن .. فإنا لله وإنا إليه راجعون. أما طرق العلاج فمنها: 1 - إحالة هؤلاء العابثين من الزنادقة وغيرهم إلى القضاء الشرعي، وتنفيذ أحكام الشريعة فيهم، وفي الحديث: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (¬1). 2 - أن يقوم حكام المسلمين بواجبهم، وذلك بمنع أسباب الإلحاد وعدم السماح بنشرها بين المسلمين، سواء كان كتبًا، أو مواقع، أو قنوات، أو برامج إذاعية، أو فضائية، أو مقالات، أو تجمعات. 3 - توجيه الوزارات المعنية كالإعلام، والشؤون الإسلامية، ووزارة التعليم العالي، والمؤسسات التعليمية، والمدارس الحكومية، والقنوات الإسلامية ببث البرامج النافعة التي تغرس الإيمان، وترد على شبه الإلحاد والتشكيك في الدين، وتعظِّم الدين في قلوب الناس، وتربية النشء من طلاب وطالبات على العقيدة الصحيحة، والتأكيد على الخطباء ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 6922.

والدعاة والمشايخ بمواجهة بوادر الإلحاد الآخذة في التوسع، وإقامة المحاضرات، والدروس، والندوات، وتوزيع الكتب والمقالات التي تحارب الفكر الإلحادي. 4 - التواصل مع الشباب الذين ابتلوا بمثل هذه الشكوك ودلالتهم على الحق، والرد على كل الشبهات التي تعترضهم، فالعلماء هم أقدر الناس على الرد عليها، وعليهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من نشر هذا العلم، بكل ما يستطيعون عبر الوسائل الحديثة، وفتح أبواب مجالسهم لهم. 5 - على الآباء والأمهات، والمعلمين، والمعلمات، أن يقوموا بواجبهم في تربية الجيل على الإيمان، والخير والهدى، وتحذيرهم من الكفر، والفسوق والعصيان، والمسؤولية في ذلك كبيرة .. وفي الحديث: «كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (¬1). جاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية: 1 - عدم إرسال أي طالب للدراسة في الخارج من المدنيين، والعسكريين على حساب الدولة، أو على الحساب الخاص إلا بعد مرحلة الجامعة، وبعد الزواج، والخدمة مدة من الزمن حتى يصلب عوده وترسخ عقيدته، ويعرف عقيدة السلف، والمذاهب الهدامة والمنحرفة، ويعرف زيفها لئلا يسهل صده عن دين الله. ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 2558، وصحيح مسلم برقم 1829.

2 - أن يُجلب كل من لا تتوفر فيه الشروط السابقة، ويعاد لإكمال دراسته في الداخل سواء من كان على حساب نفسه وذويه، أو على حساب الحكومة، أو إحدى المؤسسات (¬1). {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب}. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) مختصرًا وللمراجعة رقم القرار 88، وتاريخ 11/ 11 / 1401 هـ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب]. أما بعد: فهذا هو الجزء التاسع من كتابي «موسوعة الدرر المنتقاة»، وقد اشتمل على خمسين كلمة نهجت في إعدادها نفس المنهج الذي سلكته في الكلمات السابقة كما بينت ذلك في مقدمة الجزء الأول من هذه الموسوعة، وقد اشتمل هذا الجزء على موضوعات في غاية الأهمية، منها: أسباب تفرق المسلمين، التشبه بالكفار، التلبيس على الناس، الصراط المستقيم والأمة الوسط .. وغيرها.

وليس بخافٍ عليَّ أن هذه الموضوعات وأمثالها تحتاج في بيانها وتفصيلها إلى ما هو أوسع من ذلك، غير أني أحببت ألا يخلو الكتاب منها لأهميتها، وحاجة واقع المسلمين إليها، مع بذل الجهد إلى ذكر أصولها والإشارة إلى مراجعها، فهذا عذري للقارئ الكريم، وأملي أن يكون عذرًا مقبولًا مع انشراح صدري بقبول ما يتفضل به كل من اطلع على كتابي هذا من نصائح وتنبيهات، والمسلم مرآة أخيه، والتعاون على البر والتقوى توجيه رباني كريم، والدال على الخير كفاعله. أسأل الله تعالى أن يرزقنا السداد في أقوالنا، والصواب في أعمالنا، والإخلاص في نياتنا، وأن يردنا وإخواننا المسلمين إليه ردًّا جميلًا، وأن يعز دينه، ويعلي كلمته، وينصر عباده المجاهدين الصادقين، وأن يقينا وإياهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المؤلف الرياض 8/ 7/ 1437 هـ

[المجلد الخامس] جـ 9

الكلمة الأولى فوائد من حديث: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا استُودِع اللَّهُ شيئًا حفِظه» (¬1). وفي الحديث فوائد منها: 1 - مشروعية الدعاء بالحفظ، قال تعالى عن نبي الله يعقوب -عليه السلام-، {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} [يوسف: 64]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند نومه: «باسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبي، وَبِكَ أَرْفَعُه، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسي فارْحَمْها، وَإِنْ أَرْسَلْتَها فاحْفَظْها بِما تَحْفَظُ بِه عِبادَكَ الصّالِحين» (¬2). ¬

(¬1). صحيح ابن حبان برقم 2682، وصححه ابن حجر العسقلاني في الفتوحات الربانية (5/ 113)، ورواه أحمد في مسنده من حديث ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لقمان الحكيم كان يقول: «إن الله -عز وجل- إذا استودع شيئًا حفظه» وقال محققوه: إسناده صحيح (9/ 431) برقم 5606. (¬2). صحيح البخاري برقم 6320، وصحيح مسلم برقم 2714.

وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دعوات المكروب: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» (¬1). 2 - مشروعية الدعاء بالاستيداع، روى الترمذي في سننه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ودَّع أصحابه في السفر يقول لأحدهم: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» (¬2). والسنة أن يرد عليه المسافر: «أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه»، فقد روى الطبراني في كتاب الدعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ، فَلْيَقُلْ لِمَنْ يُخَلِّفُ: أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا تَضِيع وَدَائِعُهُ» (¬3). قوله: أستودع الله دينك: «أي أطلب منه حفظ دينك وأمانتك، أي حفظ أمانتك فيما تزاوله من الأخذ والإعطاء ومعاشرة الناس في السفر، وقيل: المراد بالأمانة: الأهل والأولاد الذين خلفهم، وقيل: المراد بالأمانة: التكاليف كلها» (¬4). وقوله: وخواتيم عملك: قال القاري: «والأظهر أن المراد به ¬

(¬1). سنن أبي داود برقم 5090، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير برقم 3388. (¬2). سنن الترمذي برقم 3443، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث سالم بن عبد الله. (¬3). الدعاء للطبراني برقم 755، وسنن ابن ماجة برقم 2825، وحسنه العراقي كما نقل ذلك الألباني -رحمه الله- في الكلم الطيب، ص 59. (¬4). تحفة الأحوذي للمباركفوري (9/ 374).

حسن الخاتمة لأن المدار عليها في أمر الآخرة وأن التقصير فيما قبلها مجبور بحسنها» (¬1). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعاء السفر: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ» (¬2). روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فائْتِنِي بِالكَفِيلٍ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي كَانَ أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَإِنِّي جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ ¬

(¬1). المرقاة (4/ 1690). (¬2). صحيح مسلم برقم 1342.

الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلفِ دِينَار، فَقَال: وَاللَّه مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلفِ الدِينَار رَاشِدًا» (¬1). 3 - أن الله ما استودع شيئًا إلا حفظه؛ ولذلك شرع لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نستودع الله أنفس الأشياء لدينا وهي الدين والأمانة، وخواتيم الأعمال. ومن القصص التي تُذكر في هذا الشأن: أن الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز لما كان في مرض موته قيل له: يا أمير المؤمنين، أفقرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم، فقال: أدخلوهم عليَّ، فأدخلوهم بضعة عشر ذكرًا ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بني! والله ما منعتكم حقًّا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين، إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فلا أخلف له مما يستعين به على معصية الله، قوموا عني، قال الراوي: فلقد رأيت بعض ولده حمل على مئة فرس في سبيل الله، أغناه الله وأعطى من ماله مئة فرس يُجاهد عليها في سبيل الله. ¬

(¬1). برقم (2291).

ومن القصص المعاصرة: ما حدثني أحد المشايخ أن امرأتين من أقاربه كانتا على سفر، وفي بيت واحد، إحداهن وضعت الأغراض في دولابها ونسيت المفتاح، فتذكرت بعد السفر، فقالت: أستودعه الله، أما الأخرى فوضعت الأغراض وقفلت عليها بالمفتاح، فجاء اللصوص وسرقوا الأغراض المقفل عليها، ولم يسرقوا الأغراض المستودعة. قصة أخرى: حدثني أحد أئمة المساجد أنه ذهب بسيارته إلى إحدى المحلات لشراء ما يلزم، وأوقف سيارته أمام المحل، ونظرًا لاستعجال الأمر فقد تركها تشتغل ونزل يشتري ما يلزم، فتنبه لذلك أحد اللصوص فركب السيارة وانطلق بها، يقول: فجعلت أنادي سيارتي .. سيارتي ولكن دون جدوى، فعند ذلك قلت: اللهم إني استودعتك سيارتي، وبعد فترة اتصل بي من أخبرني أن سيارتي في المكان الفلاني القريب من مكان السرقة وهي بحالة سليمة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية فوائد من حديث بركة الغازي في ماله حيا وميتا

الكلمة الثانية فوائد من حديث بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًا الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن البركة ما حلت في قليل إلا كثر، ولا كثير إلا نفع، وكثرة الشيء لا تدل على خيريته، بل الخير في الشيء المبارك وإن كان قليلًا، فالمبارك وإن كان قليلًا في نظر العين فإنه أفضل من الكثير في نظر العين إذا لم يكن مباركًا، وإن الكثير ليعجب إلا أنهما لا يستويان، قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]. وهذه الحقائق العظيمة التي لا ينتفع بها إلا صاحب الفهم الثاقب، واليقين الصادق، فإن البركة في الوقت كثرة الأعمال الصالحة فيه، وفي العمل العمل به وتعميم نفعه، وفي المال كفايته والقناعة به، وفي الصحة تمامها وسلامتها، وفي الأولاد صلاحهم وبرَّهم، وفي الزوجة صلاحها وحسن تبعلها لزوجها، وتربيتها لأولادها، وطيب عشرتها، وحسن تدبيرها. قال البخاري في صحيحه: باب بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر، ثم ذكر حديثًا أن عبد الله بن الزبير قال: لما وقف أبي الزبير بن العوام يوم الجمل دعاني،

فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أُراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لدَيني، أفترى يُبقي دَيْننا من مالنا شيئًا، فقال: يا بني، بع ما لنا فاقض ديني، وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه - يعني بني عبد الله بن الزبير، يقول: ثلث الثلث- فإن فضل من مالنا فضل بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك، قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير خبيب وعباد - وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات، قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عنه في شيء فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبة من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه، فقُتل الزبير ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أَرَضِين منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر، قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط ولا جباية خراج ولا شيئًا إلا أن يكون في غزوة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال: فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن أخي، كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائةُ ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه، فقال له عبد الله: أفرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم

عن شيء منه فاستعينوا بي، وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير حق فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربع مائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال: لك من ها هنا إلى ها هنا، قال: فباع منها فقضى دينه فأوفاه وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان، والمنذر بن الزبير، وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائةُ ألف، قال: كم بقي، قال: أربعة أسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، قال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، قال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بست مائة ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه، قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أُنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، قال: فكان للزبير أربع نسوة، ورفع الثلث، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومئتا ألف - يعني مليونًا ومئتي ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومئتا ألف، يعني خمسين مليونًا ومئتي ألف (¬1). ¬

(¬1). برقم (3129).

من فوائد الحديث السابق

من فوائد الحديث السابق: 1 - البركة العظيمة التي حصلت في مال الزبير بن العوام: فبعد أن توفي وهو مثقل بالدين، يفيض ماله وتكون تركته خمسون ألف ألف، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران]. 2 - قوة توكل الزبير على ربه: فقد كان يوصي ابنه عبد الله ويقول: إن عجزت عن شيء من الدين فقل: يا مولى الزبير اقض عنه دينه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. أي كافيه. 3 - بر عبد الله بن الزبير بوالده، وحرصه على قضاء دينه، وإبراء ذمته، فقد حبس التركة أربع سنوات حتى يتأكد من عدم وجود مطالبات مالية على والده. 4 - أن المال الحلال وإن كان قليلًا في نظر العين، فإن الله يكثره ويبارك فيه، وأن المال الحرام وإن كان كثيرًا في نظر العين فإن الله يمحقه، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]. 5 - أنه ينبغي للمؤمن أن يدعو ربه أن يبارك له في ماله، ووقته، وزوجته، وأولاده، وسائر شؤونه، وأن يجعله مباركًا أينما كان، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]،

ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أطعمه فقال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ» (¬1). 6 - أن من أفضل الأموال وأكثرها بركة ما يحصل من الغزو في سبيل الله. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (846).

الكلمة الثالثة التحذير من اللعن

الكلمة الثالثة التحذير من اللعن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الذنوب العظيمة التي حَرَّمها الله ورسوله، وتوعد فاعلها في الآخرة: اللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. روى أبو داود في سننه من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّه، وَلَا بِغَضَبِهِ، وَلَا بِالنَّارِ» (¬1). ومن لعن مؤمنًا فكأنما قتله، روى البخاري ومسلم من حيث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيء فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ» (¬2). وروى الطبراني في الأوسط من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى بابًا من الكبائر (¬3). ¬

(¬1). برقم 4906 وحسنه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (3/ 927) برقم 4100. (¬2). صحيح البخاري برقم 6047، وصحيح مسلم برقم 110 مختصرًا. (¬3). (6/ 380) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم 2649.

وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن اللعنة إذا لم تجد لها طريقًا رجعت إلى صاحبها، روى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتِ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا، ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ، فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّه! وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» (¬2). وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن اللعن ليس من صفات المؤمنين المتقين، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ ¬

(¬1). برقم 4905 وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 927) برقم 4099. (¬2). صحيح البخاري برقم 5973، وصحيح مسلم برقم 90. (¬3). برقم 1977 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (2/ 189) برقم 1610.

الْقِيَامَةِ» (¬1). معناه: لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، ولا شهداء، فيه ثلاثة أقوال أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات، والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا، أي لا تقبل شهادتهم لفسقهم، والثالث: لا يرزقون الشهادة وهي القتل في سبيل الله (¬2). ولما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ادع على المشركين، قال: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» (¬3). قال الإمام النووي -رحمه الله-: «اعلم أن لعن المسلم المصون حرام بإجماع العلماء» (¬4)، وقال ابن تيمية -رحمه الله-: «الإجماع منعقد على تحريم لعن المعين من أهل الفضل» (¬5). وفي هذا الباب قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا، ولَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬6). فيه الزجر عن اللعن وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجميلة لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله تعالى، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله بالرحمة بينهم والتعاون على البر والتقوى ¬

(¬1). برقم 2598. (¬2). شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 364). (¬3). صحيح مسلم برقم 2599. (¬4). الأذكار للنووي (1/ 354). (¬5). مجموع الفتاوى (20/ 185). (¬6). صحيح مسلم برقم 2597 ورقم 2598.

وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضًا وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة وهو الإبعاد من رحمة الله تعالى فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يوده المسلم للكافر، ويدعو عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» (¬1). لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة ورحمة الله تعالى، وقيل: معنى لعن المؤمن كقتله في الإثم، وهذا أظهر» (¬2). وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لعن العاصي يعين الشيطان عليه، روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلًا كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّه مَا عَلِمْتُ إِلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (¬3). وفي رواية: «لا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» (¬4). ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن لعن أي شيء من الدواب، أو الحيوانات، أو الجمادات كالريح والحمى، والدهر، روى مسلم في صحيحه من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك ¬

(¬1). سبق تخريجه ص 19. (¬2). شرح صحيح مسلم (16/ 364). (¬3). برقم 6780. (¬4). صحيح البخاري برقم 6781.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا لعن الريح، وقال مسلم: أن رجلًا نازعته الريح رداءه على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فلعنها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ» (¬2). ومما تقدم يتبين لنا أن اللعن كبيرة من كبائر الذنوب، ويخشى على فاعلها من العقوبة في الدنيا والآخرة، وأن ما يفعله بعض شبابنا اليوم من تبادل بعضهم التحية بالتلاعن هو أمر منكر وخطير جدًا، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَهْوِيِ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (¬3). ولذلك فإن من الواجب على الآباء والأمهات تحذير الأطفال منه حتى لا يعتادوا عليه إذا كبروا، وكثير من الناس في البادية وغيرها يكنون عن اللعنة بقولهم: الكلمة الشينة، تنزيهًا لألسنتهم عن النطق بها، وهذا دليل على سلامة الفطرة، وتزكية النفس، وتطهير اللسان. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). برقم 2595. (¬2). سنن أبي داود برقم 4908، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 927) برقم 4102. (¬3). صحيح البخاري برقم 6477، وصحيح مسلم برقم 2988.

الكلمة الرابعة تأملات في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين

الكلمة الرابعة تأملات في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» (¬1). وروى أبو يعلى في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مُعْتَرَكُ (¬2) الْمَنَايَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ» (¬3). وإذا بلغ الإنسان الستين، فقد أعذر الله إليه في العمر، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]. وبوَبَّ البخاري: باب من بلغ ستين فقد أعذر الله إليه في العمر، ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَعْذَرَ اللَّه إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» (¬4). ¬

(¬1). برقم 3550، وحسنه ابن حجر -رحمه الله- كما في فتح الباري (11/ 240). (¬2). أي موضع القتال أو موضع العراك والمعاركة، فكأن هذا السن ميدان حرب يكثر فيها الموت. (¬3). برقم 1542 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (4/ 22). (¬4). برقم 6419.

قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: «اختلف أهل التفسير في المراد بالنذير، فالأكثر على أنه المشيب؛ لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها، وهو علامة لمفارقة سن الصبى الذي هو مظنة اللهو. وقوله في الحديث: أعذر الله: «الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مد لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به، يقال: أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية» (¬1). قال ابن بطال: «وإنما كانت الستون حدًّا لهذا لأنها قريبة من المعترك وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفًا من الله بعباده حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أُمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة، وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية، وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل» (¬2). قال بعض الحكماء: «الأسنان أربعة: سن الطفولة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة وهي آخر الأسنان، وغالب ¬

(¬1). فتح الباري (11/ 239). (¬2). فتح الباري (11/ 240).

ومن فوائد الحديث

ما يكون ما بين الستين والسبعين، وحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة» (¬1). وخير الناس من طال عمره وحسن عمله، روى الترمذي في سننه من حديث نفيع بن الحارث -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل: أي الناس خير؟ قال: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قِيلَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» (¬2). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رجلان من بلي حي من قضاعة أسلما مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستشهد أحدهما وأُخر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: فأُريت الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد، فعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو ذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ» (¬3). ومن فوائد الحديث: 1 - أن من بلغ الستين فقد أعذر الله إليه في العمر، فإن أعظم حدث في حياة الإنسان الموت، وانقضاء الأجل، ومفارقة الأهل والمال والولد، ولذلك عليه أن يكثر من الطاعات والقربات والاستغفار لعله يختم له بعمل صالح. ¬

(¬1). فتح الباري (11/ 240). (¬2). برقم 2330 وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3). مسند الإمام أحمد (14/ 127) برقم 8399 وقال محققوه: إسناده حسن.

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي عنبة الخولاني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّه بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَسَلَهُ»، قِيلَ: وَمَا عَسْلُهُ (¬1)؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» (¬3). 2 - من مد الله له في العمر فزاد على الستين، فهذه نعمة من الله تستوجب الشكر، ويكون ذلك بالإقبال على الله والدار الآخرة والحرص على كثرة الذكر والبعد عن المعاصي. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عَبْدِ اللَّه بْنِ شَدَّاد -رضي الله عنه-، أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عَذْرَةَ ثَلاثَةً أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْلَمُوا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يَكْفِينيهِم؟ »، قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ: فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْثًا، فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا فَخَرَجَ فِيهِمْ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَخِيرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَقَالَ: «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ ¬

(¬1). قال ابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 302): قوله عسله: أُراه مأخوذًا من العسل، شبه العمل الصالح الذي يفتح للعبد حتى يرضى الناس عنه ويطيب ذكره فيهم بالعسل. (¬2). (29/ 323) برقم 17784 وقال محققوه: صحيح لغيره. (¬3). صحيح البخاري برقم 6493، وصحيح مسلم برقم 2651 واللفظ للبخاري.

فائدة

اللَّه مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الإِسْلامِ؛ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ» (¬1). وهذا يدل على عظم فضل من طال عمره، وحسن عمله، ولم يزل لسانه رطبًا من ذكر الله، قال تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ». قِيلَ: وَمَا هِي يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «التَّكْبِيرُ، والتَّهْلِيلُ، وَالتَّسْبِيحُ، والتَّحْمِيدُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّه» (¬2). فائدة: قال الشيخ العلامة الألباني -رحمه الله- عن نفسه بعد أن تجاوز الرابعة والثمانين في تعليقه على حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» (¬3) قال ابن عرفة: وأنا من ذلك الأقل، فعلق الشيخ -رحمه الله- قائلًا: «وأنا أيضًا من ذلك الأقل، فقد جاوزت الرابعة والثمانين سائلًا المولى سبحانه وتعالى أن أكون ممن طال عمره وحسن عمله، ومع ذلك فإني أكاد أتمنى الموت لما أصاب المسلمين من الانحراف عن الدين والذل الذي نزل بهم حتى من الأذلين، ولكن حاشا أن أتمنى، وحديث أنس ما يزال ¬

(¬1). مسند الإمام أحمد (3/ 19) برقم 1401، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬2). (18/ 241) برقم 11713، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬3). سبق تخريجه.

أمامي منذ نعومة أظفاري، فليس لي إلا أن أقول كما أمرني نبيي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» (¬1)، وداعيًا بما علمنيه -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا» (¬2). وقد تفضل سبحانه فاستجاب ومتعني بكل ذلك، فها أنا لا أزال أبحث وأحقق وأكتب بنشاط قل مثيله، وأصلي النوافل قائمًا، وأسوق السيارة بنفسي المسافات الشاسعة. أقول ذلك من باب: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى]، راجيًا من المولى سبحانه وتعالى أن يزيدني من فضله فيجعل ذلك كله الوارث مني، وأن يتوفاني مسلمًا على السنة التي نذرت لها حياتي دعوة وكتابة، ويلحقني بالشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 6351 وصحيح مسلم برقم 2680. (¬2). سنن الترمذي برقم 3502 وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- في سنن الترمذي (3/ 168) برقم 2783. (¬3). صحيح الموارد إلى زوائد ابن حبان للشيخ الألباني -رحمه الله- (2/ 464) باختصار.

الكلمة الخامسة نواقض الوضوء

الكلمة الخامسة نواقض الوضوء الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. فالآية الكريمة أوجبت الوضوء للصلاة، وبينت الأعضاء التي يجب غسلها أو مسحها في الوضوء، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- صفة الوضوء بقوله وبفعله بيانًا كافيًا. «والوضوء له نواقض: وهي إما أحداث تنقض الوضوء بنفسها كالبول والغائط، وإما أسباب للأحداث بحيث إذا وقعت تكون مظنة لحصول الأحداث، كزوال العقل، والنوم، والإغماء، فإن زائل العقل لا يحس بما يحصل منه، فأقيمت المظنة مقام الحدث، فإلى التفاصيل: 1 - الخارج من السبيلين: أي من مخرج البول والغائط، والخارج من السبيلين إما أن يكون بولًا أو منيًّا، أو مذيًا، أو دم استحاضة، أو غائطًا، أو ريحًا، فإن كان الخارج بولًا، أو غائطًا فهو ناقض للوضوء بالنص والإجماع، قال تعالى في موجبات

الوضوء: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]. روى النسائي والترمذي في سننهما من حديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَلا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّام وَلَيَالِيهِنَّ، إِلا مِنَ جَنَابَةِ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْم» (¬1)، وإن كان منيًّا أو مذيًا فهو ينقض الوضوء بدلالة الأحاديث الصحيحة، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر وغيره. روى البخاري ومسلم من حديث علي -رضي الله عنه- قال: كنت رجلًا مذاء، فأمرت رجلًا أن يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- لمكان ابنته، فسأل فقال: «تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ» (¬2)، وفي رواية الترمذي: «مِنَ الْمَذْيِ الْوُضُوءُ، وَمِنَ الْمَنِيِّ الْغُسْلُ» (¬3). وكذلك ينقض الوضوء خروج دم الاستحاضة وهو دم فاسد، لا دم حيض، لحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ» (¬4)، وكذلك السائل الذي يخرج من المرأة، فهو وإن كان طاهرًا إلا أنه يجب الوضوء منه لأنه خارج من السبيل. وكذلك ينقض الوضوء خروج الريح بدلالة الأحاديث الصحيحة وعليه الإجماع، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما ¬

(¬1). سنن النسائي برقم 127، والترمذي برقم 96، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2). صحيح البخاري برقم 269، وصحيح مسلم برقم 303. (¬3). برقم 114 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬4). صحيح البخاري برقم 306، وصحيح مسلم برقم 333.

من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» (¬1)، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن شك هل خرج منه ريح أم لا: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (¬2)، أما ما يظنه بعض العامة أنه عند الحدث بخروج الريح لابد له من الاستنجاء فهذا ليس بصحيح، وإنما يكتفي بالوضوء فقط. وأما الخارج من البدن من غير السبيلين كالدم، والقيء، والرعاف، فموضع خلاف بين أهل العلم، هل ينقض الوضوء أم لا؟ على قولين: والراجح أنه لا ينقض، لكن لو توضأ خروجًا من الخلاف فهو حسن» (¬3). 2 - من النواقض زوال العقل أو تغطيته، وزوال العقل يكون بالجنون ونحوه، وتغطيته يكون بالنوم أو الإغماء ونحوهما، فمن زال عقله أو غُطي بنوم ونحوه انتقض وضوؤه لأن ذلك مظنة خروج الحدث وهو لا يحس به، إلا يسير النوم، فإنه لا ينقض الوضوء لأن الصحابة -رضي الله عنهم- كان يصيبهم النعاس وهم ينتظرون الصلاة، وإنما ينقضه النوم المستغرق جمعًا بين الأدلة. 3 - ومن نواقض الوضوء أكل لحم الإبل سواء كان قليلًا أو كثيرًا، نيئًا أو مطبوخًا، لما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر ابن سمرة أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلا تَوَضَّأْ». قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 135، وصحيح مسلم برقم 225. (¬2). صحيح مسلم برقم 361. (¬3). الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (1/ 61).

الإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ. فَتَوضَأ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ» (¬1). قال الإمام أحمد: فيه حديثان صحيحان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - مس الفرج باليد قبلًا كان أو دبرًا من نفسه أو من غيره من غير حائل؛ لأنه مع الحائل لا يعد مسًّا، واختلف العلماء في ذلك، فقال الجمهور: مس الذكر ناقض للوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة ذكرًا كان أو أنثى، واحتجوا بحديث بسرة بنت صفوان -رضي الله عنهما- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» (¬2). وروى ابن حبان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ وَلا حِجَابٌ، فَلْيَتَوَضَّأْ» (¬3). وروى أبو داود من حديث طلق بن علي -رضي الله عنه- قال: سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ قال: «هَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْه؟ » (¬4). قال ابن حجر نقلًا عن البيهقي قوله: «يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق بن علي أنه لم يخرجه صاحبا الصحيح ولم يحتجا بأحدٍ من رواته، وقد احتجا بجميع رواة حديث بسرة، ¬

(¬1). برقم 360. (¬2). مسند الإمام أحمد (45/ 270) برقم 27294، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬3). برقم 1115 وحسنه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة 1235. (¬4). سنن أبي داود برقم 182، وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- في المشكاة 320: وسنده صحيح.

إلا أنهما لم يخرجاه للاختلاف فيه على عروة، وعلى هشام بن عروة» (¬1). قال الشافعي -رحمه الله-: «قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره»، وقال أبو حاتم: «قيس بن طلق ليس فيمن تقوم به حجة، ووهاه» (¬2). وقالوا: إن حديث طلق موافق لما كان الأمر عليه قبل ورود بسرة بنت صفوان من البراءة الأصلية، وحديث بسرة ناقل عنها. وهذا ما تفتي به اللجنة الدائمة، فقد سُئلت عن هذه المسألة، فكان الجواب: الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة قول الجمهور وهو نقض وضوء من مس ذكره؛ لأن حديث «مَاَ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ» ضعيف، لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الدالة على أن من مس ذكره فعليه الوضوء، والأصل أن الأمر للوجوب وعلى تقدير عدم ضعفه فهو منسوخ بحديث: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» (¬3). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبدالرزاق عفيفي ... عبدالعزيز بن باز ¬

(¬1). تلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني -رحمه الله- (1/ 347). (¬2). تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني -رحمه الله- (3/ 450). (¬3). فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 264 - 265) برقم 6990.

وأما مس المرأة فالراجح أنه لا ينقض الوضوء إذا لم ينزل منه شيء، فقد ثبت في سنن أبي داود من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَهَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ وَلمْ يَتَوَضَّأ (¬1). وأما خروج الهواء أو الرطوبة من فرج المرأة، فالصحيح أنه لا ينقض الوضوء اعتمادًا على البراءة الأصلية، ولم يرد دليل على أنه ينقض الوضوء. وأما الودي، وهو السائل الذي يخرج من الذكر بعد البول مباشرة، لا يوجب الغسل، ولكنه نجس لأنه يخرج من سبيل الحدث، وحكمه كالبول يجب الوضوء منه. وأما خلع الخف، فهل ينقض الوضوء؟ فيه خلاف بين أهل العلم، والراجح أن الوضوء صحيح ولا شيء عليه، والدليل على ذلك أنه موافق لعمل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد ثبت عنه أنه أحدث ثم توضأ ومسح على نعليه، ثم خلعهما وصلى (¬2). ومن الأدلة أيضًا موافقته للنظر الصحيح، فإنه لو مسح على رأسه ثم حلق لم يجب عليه أن يعيد المسح، بل له الوضوء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬3). أما القسطرة البولية، وهي أن يوضع للمريض في مجرى ¬

(¬1). برقم 179 وصححه الألباني -رحمه الله- في سنن أبي داود برقم 165. (¬2). مصنف عبدالرزاق (783 - 784)، قال الألباني -رحمه الله-: صحيح. (¬3). اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ص 15 باختصار.

البول قسطار، ومعنى القسطار: ماسور بلاستيكي حتى يخرج البول عن طريقه، وذلك بسبب احتباس البول وعدم خروجه، فهذا يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة، ولا بأس أن يصلي وهو حامل لذلك الكيس، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وكذلك ينقض الوضوء مس الأم لفرج ابنها الصغير، سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء، تقول السائلة: هل لمس عورة صغيري أثناء تغيير ملابسه ينقض وضوئي؟ الجواب: لمس العورة بدون حائل ينقض الوضوء، سواء كان الملموس صغيرًا أو كبيرًا، لما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» (¬1)، وفَرْجِ المَمْسُوس مِثْلَ فَرْجِ المَاس (¬2). وبقيت مسألة مهمة وهي: من تيقن الطهارة ثم شك في حصول ناقض من نواقضها ماذا يفعل؟ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَليهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ فَلا يَخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» (¬3). «فدل هذا الحديث الشريف وما في معناه على أن المسلم إذا تيقن الطهارة وشك في انتقاضها أنه يبقى على الطهارة لأنها ¬

(¬1). سبق تخريجه. (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة للافتاء (5/ 265) برقم 10447. (¬3). صحيح البخاري برقم 176، وصحيح مسلم برقم 362 واللفظ له.

الأصل ولأنها متيقنة، وحصول الناقض مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، وهذه قاعدة في جميع الأشياء أنها تبقى على الأصل حتى يتيقن خلافها، وكذلك العكس، فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يتوضأ لأن الأصل بقاء الحدث فلا يرتفع بالشك» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (1/ 62 - 63).

الكلمة السادسة آداب قضاء الحاجة

الكلمة السادسة آداب قضاء الحاجة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. «فإن الدين الإسلامي دين كامل ما ترك شيئًا مما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم إلا بينه، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. ومن ذلك آداب قضاء الحاجة ليتميز الإنسان الذي كرمه الله عن الحيوان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء]. وقال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة]. وهناك آداب شرعية تُفعل عند دخول الخلاء، وحال قضاء الحاجة، فمن ذلك: 1 - أن يقول عند دخول الخلاء: «بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، فقد روى الترمذي في سننه من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الْخَلَاءَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ الله» (¬1). ¬

(¬1). برقم 606 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير 3610.

وروى البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ (¬1) وَالْخَبَائِثِ» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ» (¬3). 2 - إذا أراد أن يقضي حاجته في فضاء -أي في محل غير مُعد لقضاء الحاجة- فإنه يستحب له أن يبعد عن الناس بحيث يكون في مكان خال، ويستتر عن الأنظار بحائط، أو شجرة، أو غير ذلك. فقد روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا ذَهَبَ الْمَذْهَبَ أَبْعَدَ (¬4) (¬5). 3 - عليه ألاَّ يستقبل القبلة أو يستدبرها حال قضاء الحاجة، بل ينحرف عنها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي أيوب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا ¬

(¬1). الخبث: ذكران الشياطين وإناثهم، قاله الخطابي، عون المعبود شرح سنن أبي داود (1/ 12)، والخبائث: المعاصي، وقيل مطلق الأفعال المذمومة. (¬2). صحيح البخاري برقم 142، وصحيح مسلم برقم 375. (¬3). سنن أبي داود برقم 30 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 9) برقم 23. (¬4). برقم 1 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 4) برقم 1. (¬5). ومعناه: إذا أراد قضاء حاجته أكثر المشي حتى بعد عن الناس في موضع ذهابه.

الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» (¬1). قال أبو أيوب: فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بنيت قِبل القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله؟ قال: نعم (¬2). 4 - لا يجوز له أن يمس فرجه بيمينه، وكذلك لا يجوز له أن يقضي حاجته في طريق الناس، أو في ظلهم، أو موارد مياههم، لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك لما فيه من الأضرار بالناس وأذيتهم، روى البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَإِذَا أَتَى الْخَلاءَ فَلا يَمَسُّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَمَسَّح بِيَمِينِهِ» (¬3). ولما روى أبو داود في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى (¬4). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» (¬5). ولا يدخل موضع الخلاء بشيء فيه ذكر الله عز وجل، أو فيه ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 394، وصحيح مسلم برقم 264. (¬2). صحيح مسلم برقم 264. (¬3). صحيح البخاري برقم 153، وصحيح مسلم برقم 267. (¬4). سنن أبي داود برقم 33 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 9) برقم 26. (¬5). برقم 269.

قرآن، فإن خاف على ما معه مما فيه ذكر الله جاز له الدخول ويغطيه، ولا ينبغي له أن يتكلم حال قضاء الحاجة، فقد ورد في الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم النهي عن ذلك، ويحرم عليه قراءة القرآن، ولا يشرع له رد السلام، فقد روى أبو داود في سننه من حديث المهاجر بن قنفذ -رضي الله عنه- أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ، فَقَالَ: «إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّه إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَة» (¬1). 5 - عليه أن ينظف المخرج بالاستنجاء بالماء، أو الاستجمار بالأحجار، أو ما يقوم مقامهما، وإن جمع بينهما فهو أفضل، وإن اقتصر على أحدهما كفى، والاستجمار يكون بالأحجار أو ما يقوم مقامهما من الورق الخشن، أو المناديل أو الخرق ونحوهما مما ينقي المخرج وينشفه. ويشترط ثلاث مسحات متعينة فأكثر إذا أراد الزيادة، ولا يجوز الاستجمار بالعظام ورجيع الدواب أي: روثها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنها طعام إخواننا من الجن، فقد روى أبو داود في سننه من حديث خزيمة بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الاسْتِطَابَةِ (¬2)، فَقَالَ: «بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ» (¬3). وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ للجِنِ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ¬

(¬1). برقم 17 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود برقم (13). (¬2). الاستجمار. (¬3). برقم 41 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 11) برقم 32.

ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ، يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ» (¬1). 6 - عليه أن يتنزه من البول، ويبحث عن المكان الذي ليس بصلب حتى لا يرتد عليه، فإن عامة عذاب القبر من عدم التنزه من البول، فقد ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» (¬2) (¬3)، وفي رواية: «لَا يَسْتَنْزِهُ عَنْ الْبَوْلِ» (¬4). وهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن بعض العوام يظن أن الاستنجاء من الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ بدأ بالاستنجاء، ولو كان قد استنجى سابقًا بعد قضاء الحاجة، وهذا خطأ، فإنه ليس من الوضوء، والاستنجاء فعله بعد الفراغ من قضاء الحاجة، ولا داعي لتكراره، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 3859، وصحيح مسلم برقم 450. (¬2). صحيح البخاري برقم 1378، وصحيح مسلم برقم 292. (¬3). الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (1/ 29 - 33) بتصرف. (¬4). صحيح مسلم برقم 292.

الكلمة السابعة من آداب المجالس

الكلمة السابعة من آداب المجالس الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد ذكر أهل العلم آدابًا للمجالس ينبغي تعلمها وتطبيقها لأنها مستمدة من الوحيين: الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم]. وهي كثيرة نقتصر على ذكر أهمها، فمن ذلك: 1 - أن المؤمن إذا دُعي إلى طعام فينبغي ألا يثقل على صاحب الوليمة بالجلوس، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]. والمرجع إليه في تحديد ذلك وغيره مما سيأتي، ما تعارف عليه العرب من العادات الفاضلة والأخلاق الكريمة، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سُئل عن معادن العرب: «خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِليَةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» (¬1). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 4689، وصحيح مسلم برقم 2378.

2 - السلام على أهل المجلس عند القدوم والانصراف، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ» (¬1). 3 - ألا يقيم أحد من مجلسه ثم يجلس مكانه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه (¬2). 4 - ألا يفرق بين اثنين، روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا» (¬3). 5 - أن يجلس حيث يُجلسه صاحب المنزل، فهو أعرف بما يناسب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَلا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ» (¬4). ¬

(¬1). برقم 2706، وقال: حديث حسن. (¬2). صحيح البخاري برقم 6270، وصحيح مسلم برقم 2177. (¬3). سنن أبي داود برقم 4845، وحسنه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم 2385. (¬4). جزء من حديث برقم 673.

6 - من رجع إلى مجلسه بعد أن قام منه فهو أحق به، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» (¬1). 7 - النهي عن الاتكاء على راحة اليد اليسرى خلف الظهر، روى أبو داود في سننه من حديث الشريد بن سويد -رضي الله عنه- قال: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا، وَقَدْ وَضَعَتُ يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي، وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي، فَقَالَ: «لاَ تَقْعُدُ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» (¬2). 8 - حفظ السمع والبصر واللسان، فلا ينظر إلى ما لا يحل، ولا يتجسس على أهل الدار، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا (¬3)، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (¬4). وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ¬

(¬1). (13/ 218) برقم 7810، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2). سنن أبي داود برقم 4848، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 919) برقم 4058. (¬3). الفرق بين التجسس والتحسس، قيل التجسس بالجيم: البحث عن عورات النساء، وبالحاء الاستماع لحديث القوم، ويروى عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه سُئل عن الفرق بينهما فقال: لا يبعد أحدهما عن الآخر التحسس في الخير، والتجسس في الشر. موسوعة الأخلاق، الدرر السنية. (¬4). صحيح مسلم برقم 2563.

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَو يَفِرُّونَ مِنْهُ، صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ (¬1) يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» (¬3). 9 - مراعاة أدب الحديث، كحسن الاستماع والإنصات، وعدم المقاطعة أو الاستئثار بالحديث، أو رفع الصوت، أو كثرة الضحك، أو الانشغال عن الضيوف بالجوال أو غيره من الأمور التافهة. 10 - عدم إفشاء أسرار المجالس، روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِذَا حُدِّثَ الْإِنْسَانُ حَدِيثًا، وَالْمُحَدِّثُ يَلْتَفِتُ حَوْلَهُ، فَهُوَ أَمَانَةٌ» (¬4). 11 - وينبغي للجالس إذا سمع درسًا علميًّا، أو موعظة، أو حديثًا نافعًا أن يصغي إليه ويحسن الاستماع ولا ينشغل عنه بالحديث بمن حوله، أو جواله، أو يشوش المجلس بالاتصالات أو باستقبالها. 12 - الاستفادة من أهل الفضل الذين في المجلس، سواء ¬

(¬1). الآنك: الرصاص المذاب. (¬2). برقم 7042. (¬3). صحيح البخاري برقم 6136، وصحيح مسلم برقم 47. (¬4). برقم 4868، وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 922) برقم 4075.

كانوا من المشايخ أو طلبة العلم، أو من كبار السن، أو ممن لهم تجارب في الحياة، فقد لا تتيسر الفرصة للالتقاء بهم مرة أخرى، وقد ينفع الله بذلك المجلس، كان الإمام البخاري في مجلس إسحاق بن راهويه أمير المؤمنين في الحديث، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال البخاري: فوقع في قلبي فأخذت في جمع الصحيح (¬1). 13 - ترك التفاخر، ومدح النفس، وحب الظهور في المجالس، والتواضع في ذلك، لا كما يفعل بعضهم فيُحدث الناس بما يملك من أموال، وكم بلد سافر إليه، وكم من كتاب قرأه، أو التنقص من بعض الناس أو بعض المدن أو القبائل، أو الفخر بالأحساب، أو غير ذلك مما لا فائدة فيه إلا كسر قلوب الآخرين، روى الترمذي في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الله أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» (¬3). ¬

(¬1). سير أعلام النبلاء (12/ 401). (¬2). برقم 2352، وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (2/ 275) برقم 1917. (¬3). برقم 2865.

قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير (¬1). 14 - كفارة المجلس، روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). سير أعلام النبلاء (11/ 177 - 356). (¬2). برقم 3433 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (3/ 153) برقم 2730.

الكلمة الثامنة فضل الإصلاح بين الناس

الكلمة الثامنة فضل الإصلاح بين الناس الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الأعمال العظيمة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها: الصلح بين الناس، فالإسلام دين المحبة، والاجتماع، والتآلف بين المسلمين، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء]. قال الإمام الطبري -رحمه الله-: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، قال: «هو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به» (¬1). وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الذي يصلح بين الناس يكتب له أجرًا عظيمًا، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ » قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ ¬

(¬1). تفسير الطبري -رحمه الله- (4/ 2539).

فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» (¬1). وفي رواية: «لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» (¬2). وبالإصلاح تحقق أخوة الإسلام، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (¬3). ومعنى: تعدل بين الاثنين أي تصلح بين الاثنين، والإصلاح يشمل الصلح بين القبائل والأقارب والجيران والأزواج والعمال ومكفوليهم والآباء وأبنائهم، سواء كان ذلك في الأموال، أو الدماء، أو الأقوال والأفعال أو غير ذلك. قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. والنبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب المثل الأعلى في الصلح بين المسلمين، وهذه بعض الأمثلة: روى البخاري في صحيحه أن أهل قباء ¬

(¬1). (45/ 500) برقم 27508 وقال محققوه: رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬2). سنن الترمذي برقم 2510، وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير 3361. (¬3). صحيح البخاري برقم 2891، وصحيح مسلم برقم 1009 واللفظ له.

اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّه لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ » فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّه، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ (¬2). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كعب ابن مالك -رضي الله عنه- أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ: «يَا كَعْبُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «قُمْ فَاقْضِهِ» (¬3). قال ابن القيم -رحمه الله-: «فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين، فهذا أعدل ¬

(¬1). برقم 2693. (¬2). صحيح البخاري برقم 2705، وصحيح مسلم برقم 1557. (¬3). صحيح البخاري برقم 471، وصحيح مسلم برقم 1558.

الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل فيكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم» (¬1). وقد رخص الشارع بالكذب في الصلح لإزالة الوحشة بين المتخاصمين، وعودة المحبة والألفة بين المسلمين، روى البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم -رضي الله عنها- أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا». زاد مسلم قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذبًا إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها (¬2). قال الخطابي: «هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول ومجاوزة الصدق طلبًا للسلامة ودفعًا للضرر، وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد لما يرجى فيه من الإصلاح الكبير» (¬3). «فأما الكذب في الحرب فهو أن يظهر في نفسه قوة ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه، وأما الكذب بين الزوجين فمثل أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه ¬

(¬1). إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 109 - 110). (¬2). صحيح البخاري برقم 2692، وصحيح مسلم برقم 2605، والزيادة له. (¬3). معالم السنن (4/ 123).

ومن فوائد الصلح

لتصلح العلاقة بينهما وهي كذلك» (¬1). ومن فوائد الصلح: 1 - تحل المودة محل القطيعة، والمحبة محل الكراهية. 2 - الإصلاح بين الناس يغرس في نفوسهم فضيلة العفو والمغفرة. 3 - اكتساب الحسنات ورفع الدرجات. 4 - تستقيم حياة المجتمع، ويتفرغ للعمل المثمر. 5 - سعادة القلوب، وراحة النفوس من الشحناء والغل والحقد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). منهل الفوائد، موضوعات متنوعة للشيخ صالح الخضيري، ص 309.

الكلمة التاسعة وقفات مع حديث: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة

الكلمة التاسعة وقفات مع حديث: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قَالَ الله: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِه أَجْرَهُ» (¬1). قال ابن التين: «هو سبحانه خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح» (¬2). هذا الحديث اشتمل على أمور ثلاث: الأولى: قوله في الحديث: رجل أعطى بي ثم غدر: المراد أعطى بيمينه أي عاهد عهدًا وحلف عليه بالله ثم نقضه، والغدر من الصفات الذميمة، لا يتحلى بها إلا فاقد الإيمان من كافر مشرك، ويهودي، ونصراني ومنافق، ومن أخذ صفاتهم من المسلمين. ¬

(¬1). برقم 2227. (¬2). فتح الباري (4/ 418).

روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (¬1). وقال مسلم في صحيحه: «إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» (¬2) مكان: إذا اؤْتُمن خان. والغادر يحمل لواء غدره يوم القيامة خزيًا وعارًا بين الخلائق، ويكفيه أن الله خصمه يوم القيامة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ» (¬3). وفي رواية مسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬4). والغادر يعامله الله بعكس مقصوده، فلا يتم له أمر، والجزاء من جنس العمل، لما حلف محمد الأمين للمأمون في بيت الله الحرام وهما وليا عهد طالبه جعفر بن يحيى أن يقول: خذلني الله إن خذلته، فقال ذلك ثلاث مرات، قال الفضل بن الربيع: قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله الحرام: يا أبا العباس أجد نفسي أن أمري لا يتم، فقلت له: ولم ذلك أعز الله الأمير؟ قال: لأني ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 34، وصحيح مسلم برقم 58. (¬2). صحيح مسلم برقم 58. (¬3). صحيح البخاري برقم 3188، وصحيح مسلم برقم 1735 واللفظ له. (¬4). برقم 1738.

كنت أحلف وأنا أنوي الغدر، وكان كذلك لم يتم أمره (¬1). قال الأشبهي: «كم أوقع الغدر في المهالك من غادر، وضاقت عليه من موارد الهلكات فسيحات المصادر، وطوقه غدره طوق خزي فهو على فكه غير قادر» (¬2)، ويكفي الغادر سخطًا وغضبًا أن يكون الله خصمه يوم القيامة. الثانية: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ورجل باع حرًا فأكل ثمنه»: قال ابن حجر -رحمه الله-: «خص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقصود» (¬3)، قال المهلب: «وإنما كان إثمه شديدًا لأن المسلمين أكفاء في الحرية، فمن باع حرًّا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه» (¬4). الثالثة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»: قال ابن حجر -رحمه الله-: «وهو في معنى من باع حرًّا فأكل ثمنه؛ لأنه استوفى منفعته بغير عوض، وكأنه أكلها؛ ولأنه استخدمه بغير أجرة وكأنه استعبده» (¬5). ولذلك نجد أن بعض الناس عنده أُناس يعملون عنده، إما خدم أو سائقين أو موظفين، أو غير ذلك من المهن الأخرى، ويمكث ¬

(¬1). المستطرف (1/ 301). (¬2). المستطرف (1/ 299). (¬3). فتح الباري (4/ 418). (¬4). فتح الباري (4/ 418). (¬5). فتح الباري (4/ 418).

بعضهم أشهر أو ربما سنوات وله استحقاقات مالية من رواتبه لم تُصرف له، وربما تحايل عليه، أو هدده بإرجاعه إلى بلده إذا اشتكى إلى الجهات المختصة .. أو غير ذلك من الحيل، كل هذا سحت يأكله صاحبه سحتًا. وعلى خلاف ذلك، فإن الله يبارك لمن وفى الأُجراء أجرهم ويخلف عليهم أفضل مما أنفقوا. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، ... فَقَالَ أَحَدُهم: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّه، أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ؛ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» (¬1). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 2272، وصحيح مسلم برقم 2743.

من فوائد الحديث

من فوائد الحديث: 1 - أن الغدر دليل على خسة النفس وحقارتها. 2 - أن من كان الله خصمه يوم القيامة هلك وخسر. 3 - أن الغادر ممقوت من الله والملائكة والناس أجمعين. 4 - أن أكل المال الحرام من أعظم الذنوب عند الله؛ ولذلك كان وعيده أن الله تعالى خصمه يوم القيامة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة العاشرة فضل الرباط في سبيل الله

الكلمة العاشرة فضل الرباط في سبيل الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من أفضل الطاعات، وأجل القربات التي يدفع الله بها عن المسلمين الشرور الكثيرة، وتتحقق بها المصالح العظيمة، الرباط في سبيل الله. والمقصود بالرباط: «هو الإقامة في الثغور، وهي الأماكن التي يخاف على أهلها من أعداء الإسلام، والمرابط هو المقيم فيها، المعد نفسه للجهاد في سبيل الله والدفاع عن دينه وإخوانه المسلمين» (¬1). قال ابن عطية: «والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سُمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطًا، فارسًا كان أو راجلًا» (¬2). قال في فتح الباري: «والرباط هو: ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار وحراسة المسلمين منهم» (¬3). ¬

(¬1). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- (18/ 81 - 82). (¬2). المحرر الوجيز (1/ 560). (¬3). (6/ 85).

وقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تبين فضل الرباط في سبيل الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران]. قال بعض المفسرين: «المرابطة هنا: مرابطة المجاهدين في نحر العدو، وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين» (¬1). والرباط من أفضل الأعمال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ الله خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث سلمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» (¬3). والميت يختم له على عمله إلا المرابط في سبيل الله، روى الترمذي في سننه من حديث فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْر» (¬4). قال القرطبي: «وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط ¬

(¬1). المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير -رحمه الله- ص 269. (¬2). صحيح البخاري برقم 2892، وصحيح مسلم برقم 1881. (¬3). برقم 1913. (¬4). برقم 1621 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (¬1)، فإن الصدقة الجارية، والعلم المنتفع به، والولد الصالح الذي يدعو لأبويه؛ ينقطع ذلك بنفاد الصدقات، وذهاب العلم، وموت الولد، والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة؛ لأنه لا معنى للنماء إلا المضاعفة وهي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه، بل هي فضل دائم من الله تعالى إلى يوم القيامة، وهذا لأن أعمال البر كلها لا يُتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين، وإقامة شعائر الإسلام، وهذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة» (¬2). والمرابط يؤمن من الفزع الأكبر، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا، وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَأُومِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَغُدِيَ عَلَيْهِ وَرِيحَ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ (¬3) وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُرَابِطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (¬4). وعينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين ¬

(¬1). برقم 1631. (¬2). تفسير القرطبي (5/ 489). (¬3). أي يُؤتى له برزقه من الجنة في أول النهار وآخره. (¬4). (15/ 137) برقم 9244، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده.

باتت تحرس في سبيل الله، روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله» (¬1). سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أو بمسجد الأقصى؟ أو بثغر من الثغور لأجل الغزو؟ فأجاب -رحمه الله-: «المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة، وقال أيضًا: ما أعلم في ذلك خلافًا بين العلماء (¬2)، وليست هذه المسألة عند من يعرف دين الإسلام، ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد في الأعمال صار يخفى مثل هذه المسألة عن كثير من الناس، فالثغور هي البلاد المتاخمة (¬3) للعدو من المشركين وأهل الكتاب، التي يخيف العدو أهلها، ويخيف أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين، كيف والمرابطة بها -أي في ثغور المسلمين- فرض على المسلمين، إما على الأعيان، وإما على الكفاية، وأما المجاورة فليست واجبة على المسلمين (¬4).أهـ ¬

(¬1). برقم 1639 وقال: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير برقم 4113. (¬2). مجموع الفتاوى (24/ 27). (¬3). مجموع الفتاوى (28/ 418). (¬4). مجموع الفتاوى (24/ 27).

ونذكر إخواننا المرابطين في سبيل الله بالأمور التالية

قال عبد الله بن المبارك: يَا عَابِدَ الحرَمْيِن لَوْ أَبصْرتَنَا ... لعلمت أنك في العِبَادَةِ تلعبُ من كان يخضبُ خَدَهُ بدمُوعِهِ ... فَنُحُوُرُنَا بدمائِنا تتخَضبُ أو كان يُتعِبُ خَيْلَهُ في بَاطِلٍ ... فخُيولُنَا يومَ الصبيحةِ تتعبُ ريحُ العبِيرِ لَكُمْ ونَحْنُ عَبيرُنا ... رَهج السنابِكِ والغُبارُ الأطيبُ ولقد أتانا من مقَالِ نبيِّنَا ... قَولٌ صَحيحٌ صَادقٌ لا يَكْذِبُ لا يَستَوي غُبارُ خَيل الله في ... أَنْفِ امرِئٍ ودُخانُ نارٍ تَلهَبُ هذا كِتَابُ الله يَنطِقُ بَيْنَنَا ... لَيْسَ الشَّهِيدُ بمَيِّتٍ لا يَكْذِبُ ونذكر إخواننا المرابطين في سبيل الله بالأمور التالية: 1 - الإخلاص لله: فيخلص المرابط نيته لله وينوي بمرابطته الدفاع عن دين الله وإعلاء كلمته، ودحر الكفرة والمشركين، والدفاع عن مقدسات المسلمين وأعراضهم، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» (¬1). وإن مات فترجى له الشهادة، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 2810، وصحيح مسلم برقم 1904.

وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران]. روى مسلم في صحيحه من حديث مسروق قال: سألنا عبد الله «هو ابن مسعود -رضي الله عنه-» عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيءٍ نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا» (¬1). 2 - الثبات عند لقاء العدو، والإكثار من ذكر الله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} [الأنفال]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن أبي أوفى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَيُّهَا النَّاسُ: لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» (¬2) وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، ¬

(¬1). برقم 1887. (¬2). صحيح البخاري برقم 2966، وصحيح مسلم برقم 1742.

اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» (¬1). 3 - لزوم طاعة الله ورسوله، ومن ذلك المحافظة على الصلوات في أوقاتها، والفرائض التي أمر الله بها، والحذر من المعاصي والتنازع، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال]. ولا نتساهل بالمعصية، فمعصية واحدة كانت سببًا لهزيمة الصحابة -رضي الله عنهم- في أُحد، وكذلك طاعة الأمير والحذر من الاختلاف عليه، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» (¬2). 4 - الحذر من العجب والاغترار بالكثرة والقوة، فما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة]. وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران]. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 2933، وصحيح مسلم برقم 1742 واللفظ له. (¬2). صحيح البخاري برقم 7137، وصحيح مسلم برقم 1835 واللفظ له.

فائدة

فائدة: قال محمد بن الفضيل بن عياض: رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: أي العلم أفضل، قال: الأمر الذي كنت فيه، قلت: الرباط والجهاد، قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكان -رحمه الله- يحج عامًا، ويجاهد عامًا، ويتاجر عامًا (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). سير أعلام النبلاء (8/ 419).

الكلمة الحادية عشرة الخوارج صفاتهم وخطرهم

الكلمة الحادية عشرة الخوارج صفاتهم وخطرهم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَة، وسَتَفْتَرقُ هَذِهِ الأُمَّة عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَنَا عَليهِ وَأَصْحَابِي» (¬1). فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن أمته ستفترق على فرق كثيرة كلها في النار، واستثنى واحدة، وهي ما كانت على المنهج الصحيح؛ وهو ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. ومن فرق الضلال التي خرجت على أمة الإسلام «الخوارج» وقد عانت منها الأمة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، وكان بداية خروجهم أن ذا الخويصرة لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْسِمُ قسمًا ¬

(¬1). سنن الترمذي (2641)، ومسند الإمام أحمد (14/ 142) برقم 8396، وسنن ابن ماجه برقم 3992، وصححه البوصيري والشيخ الألباني -رحمه الله- في الصحيحة برقم 1492، ورقم 203، 204.

يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِل ... الْحَدِيثَ، وسيأتي ذكره. «فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه» (¬1). وفي خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- خرجوا عليه وقتلوه واستحلوا دمه، كما خرجوا في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يناظرهم ويدعوهم إلى الحق، وترك ما هم عليه من الضلال، فرجع منهم قريبًا من أربعة آلاف، وبقيت منهم بقية، قتلهم علي -رضي الله عنه- في معركة النهروان بعد أن قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا جاريته، وبقروا بطنها. وما زالوا يخرجون في كل عصر ومصر. وقد وردت الأحاديث الصحيحة بذمهم، والتحذير منهم، والأمر بقتالهم، واستئصال شأفتهم، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ». فَقَالَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ ¬

(¬1). فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (3/ 350).

مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). وجاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في وصفهم: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» (¬3). وفي رواية: «لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ» (¬4). وفي رواية مسلم: «هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ» (¬5). وفي رواية: «مُحلَّقة رُؤُوسُهُمْ» (¬6). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن معاذة قالت: ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 3610، وصحيح مسلم برقم 1064 واللفظ له. (¬2). صحيح البخاري برقم 3611، وصحيح مسلم برقم 1066 واللفظ له. (¬3). صحيح البخاري برقم 3344، وصحيح مسلم برقم 1064. (¬4). صحيح البخاري برقم 6930. (¬5). صحيح مسلم برقم 1067. (¬6). صحيح مسلم برقم 1066.

فتبين مما تقدم أن من صفات الخوارج ما يلي

سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ (¬1). فتبين مما تقدم أن من صفات الخوارج ما يلي: 1 - حدثاء الأسنان. 2 - سفهاء الأحلام: أي لم تكتمل عقولهم، ولم تنضج أفكارهم. 3 - ضعف العلم الشرعي لديهم. 4 - يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان. 5 - الغلو في الدين على جهل. 6 - مفارقة جماعة المسلمين. 7 - تأويل نصوص الكتاب والسنة بأهوائهم. 8 - أنهم لا يقبلون من الإسلام إلا ما وافق أهواءهم. وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وإذا عرف أصل البدع، فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبًا ما ليس ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 321، وصحيح مسلم برقم 335 واللفظ له. (¬2). صحيح البخاري باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم.

بذنب، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، ولهذا كفَّروا عثمان وعليًّا وشيعتهما، وكفَّروا أهل صفين-الطائفتين- في نحو ذلك من المقالات الخبيثة» (¬1). أهـ ومما يجب علمه والإحاطة به، هو معرفة سبب الضلال عند هذه الطائفة وغيرها من الطوائف الأخرى، ومختصر ذلك أن سبب الضلال هو الأخذ ببعض نصوص الكتاب والسنة وترك البعض الآخر اتباعًا لطريقة المغضوب عليهم، قال الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. فالخوارج ومن شاكلهم أخذوا بنصوص الوعيد، وقابلهم طائفة أخذوا بنصوص الوعد وهم المرجئة، فضلت الطائفتان، وأهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والمتبعين لهم بإحسان جمعوا بين النصوص كلها، فاهتدوا بذلك إلى الطريق المستقيم، وهو طريق الوسط الذي رضيه الله، فأثنى على أهله فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. وقد علم خاصة المسلمين وعامتهم أن ما يقع من هؤلاء الضُّلال من قتل المصلين الذين عصم الله دماءهم، والتفجير في بيوت الله التي أمر الله بتعظيمها وتطهيرها، وغير ذلك من ¬

(¬1). الفتاوى (3/ 355).

الأفعال الشنيعة، قد وقع ذلك تصديقًا بما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء بقوله: «يقتلون أهل الإسلام»، وأنهم وإن كانوا يقرؤون القرآن فإن قلوبهم لا تنقاد لأوامره، ولا تنزجر بزواجره، ولا تهتدي بهداه، وكما أخبر عنهم -صلى الله عليه وسلم-: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم». فعلى المسلم الذي يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه أن يتمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، وأن يحذر من اتباع الهوى، وأن يرجع إلى العلماء الربانيين، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. وكما أمر الله بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء]. ونصيحتي للمسلمين عامة، وللشباب خاصة أن يحذروا من داءين خطيرين؛ أولهما: الفتنة في الدين، ومثاله التكفير، وثانيهما: الإخلال بالأمن، ومثاله التفجير، فما وقع هذان الداءان في بلد إلا أفسده. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثانية عشرة جمع الكلمة

الكلمة الثانية عشرة جمع الكلمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن المقاصد العظيمة للشرع، الحث على جمع الكلمة ووحدة الصف بين المسلمين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لسماك الحنفي: «يا حنفي! الجماعة الجماعة، فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}» (¬1). وقد وردت النصوص الكثيرة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فبرأ الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كما نهانا عن التفرق والاختلاف، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] (¬2). ¬

(¬1). تفسير القرطبي (5/ 250). (¬2). مجموع الفتاوى (24/ 171).

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الله يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» (¬1). قال النووي -رحمه الله-: «قوله: إن الله يرضى لكم ثلاثًا، فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام» (¬2). روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الله أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا» الحديث، وفيه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: بالْجَمَاعَةِ، والسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَاد في سبيل اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ» (¬3). قال البغوي -رحمه الله-: «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة» (¬4). وكان السلف الصالح يحثون الناس على لزوم الجماعة ¬

(¬1). برقم (1715). (¬2). شرح صحيح مسلم (12/ 237). (¬3). (28/ 4006) برقم 17170 وقال محققوه: حديث صحيح. (¬4). معالم التنزيل (4/ 122).

ويحذرونهم الفرقة، روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب الناس بالجابية فقال: يا أيها الناس! إني قمت فيكم كمقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينا فقال: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ ... » الحديث (¬1). وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة» (¬2). وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك» (¬3). قال الطحاوي -رحمه الله- في العقيدة الطحاوية: «ونرى الجماعة حقًّا وصوابًا، والفرقة زيغًا وعذابًا» (¬4). ¬

(¬1). مسند الإمام أحمد (1/ 268 - 269) برقم 114، والترمذي في سننه برقم 2165 واللفظ له، وقال محققو المسند: إسناده صحيح. (¬2). رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (158 - 159). (¬3). اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 122) برقم 160، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/ 61). (¬4). متن العقيدة الطحاوية.

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله؟ قال: «الجماعة»، وفي رواية «ما أنا عليه وأصحابي» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة - علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها - هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]. فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب» (¬2). ومن أمثلة السلف الصالح التي تبين حرصهم على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وتأليف القلوب، وعدم الفرقة والخلاف، وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، ما حصل من تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، حيث سُمي ذلك عام الجماعة؛ لاجتماع كلمة ¬

(¬1). سنن الترمذي 2641، ومسند الإمام أحمد (14/ 142) برقم 8396، وسنن ابن ماجه برقم 3992، وصححه البوصيري والشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم 1492. (¬2). الفتاوى (3/ 421) بتصرف.

المسلمين على معاوية، وكان هذا مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (¬1). ومنها ما حصل بين ابن عمر ومعاوية -رضي الله عنهما-، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: «دخلت على حفصة قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: حفظت وعصمت» (¬2). ومنها ما حصل بين عبد الله بن مسعود وعثمان -رضي الله عنهما-، وذلك أن أمير المؤمنين عثمان حج عام 29 هـ وهو خليفة، وأتم الصلاة في منى، ولم يقصرها، فعاتبه في ذلك عبدالرحمن بن عوف، واعتذر له عثمان بأنه قد تزوج بمكة فكان في حكم المقيم لا المسافر، وبأن أناسًا من أهل اليمن ظنوا أن الصلاة للمقيم ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 2704. (¬2). برقم 4108.

ركعتان، فأتم عثمان -رضي الله عنه- لذلك. وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يصلي معه أربعًا وهو لا يرى ذلك، وكان يقول: ليت حظي من أربع ركعتين متقبلتين، فقيل له: لماذا تصلي خلفه إتمامًا وأنت ترى القصر، قال: الخلاف شر. وفي الختام .. فإن وصيتي لعموم المسلمين وخاصتهم: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولزوم جماعة المسلمين، والابتعاد عن أسباب التفرق والاختلاف، والسير على منهج السلف الصالح في تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة فيما يحقق التعاون على البر والتقوى، واجتناب الإثم والعدوان. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِه» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). (27/ 301) برقم 16738، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.

الكلمة الثالثة عشرة أحكام التعزية

الكلمة الثالثة عشرة أحكام التعزية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن مقاصد الشرع العظيمة تكاتف المسلمين، ومواساتهم لبعضهم البعض، ولذلك شرع للمسلم أن يعزي أخاه المسلم بمصابه، والتعزية هي: الأمر بالصبر والحث عليه، والدعاء للميت والمصاب. من الأدلة على مشروعيتها العمومات التي تحث المسلم على إعانة أخيه، وبذل المعروف له، وتفريج كربته، قال النووي -رحمه الله-: «وهي مستحبة، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أيضًا داخلة في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية» (¬1)؛ ولأن التعزية مواساة له وجبر لمصيبته، وتخفيف عنه. ومن الأدلة الخاصة في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاوية بن قرة عن أبيه -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأتِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: «أَتُحِبُّهُ؟ » فَقَالَ: يَا ¬

(¬1). الأذكار ص 258 - 259.

رَسُولَ اللَّه، أَحَبَّكَ اللَّه كَمَا أُحِبُّهُ (¬1)، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ؟ » قَالُوا: يَا رَسُولَ الله مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِيهِ: «أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ؟ » فَقَالَ رَجُلُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: «بَلْ لِكُلِّكُمْ» (¬2). وأما ألفاظ التعزية التي تقال للمصاب فهي كثيرة، قال النووي -رحمه الله-: وأما لفظة التعزية فلا حجر فيها، فبأي لفظ عزاه حصلت (¬3). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «وإن عزى بغير هذا اللفظ مثل أن يقول: أعظم الله لك الأجر، وأعانك على الصبر .. وما أشبهه، فلا حرج لأنه لم يرد شيء معين لا بد منه» (¬4). ومن ألفاظ التعزية الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما جاء في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ. فَأتِنَا فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: «إِنَّ لِلّه مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ¬

(¬1). قال السندي: قوله: أحبك الله، بيان شدة محبته بابنه، أو أنه كان يعرف قدر محبة الله تعالى لعباده المؤمنين، فضلًا عن الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، فضلًا عن سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، حاشية السندي على المسند نقلًا عن محققي المسند (24/ 361). (¬2). (24/ 361) برقم 15595، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. (¬3). الأذكار ص 260. (¬4). مجموع الفتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (17/ 346).

تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ ابْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنٌّ. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُول الله، مَا هَذَا؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّه فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» (¬1). «فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والآداب، والصبر على النوازل كلها، والهموم، والأسقام، وغير ذلك من الأغراض، ومعنى: إن لله تعالى ما أخذ، أي أن العالم كله ملك لله تعالى، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية، ومعنى: له ما أعطى، أن ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلا تجزعوا، فإن من قبضه قد انقضى أجله المسمى، فمحال تأخره، أو تقدمه عنه، فإذا علمتم هذا كله فاصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم، والله أعلم» (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَال: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ ¬

(¬1) صحيح البخاري برقم 1284، وصحيح مسلم برقم 923. (¬2). الأذكار للنووي ص 261.

ويروى عن الشافعي أنه قال

عَلَى مَا تَقُولُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَنَوِّرْ لَهُ فِيه» (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ» (¬2). ويُروى عن الشافعي أنه قال: إِنِّي مُعَزِّيك لا أَنِّي على ثِقَةٍ ... مِنَ الخُلُود ولكن سُنَّةِ الدِّين فَمَا المُعَزَّى بِبَاقٍ بعد مَيِّتهِ ... ولا المُعَزِّي ولو عَاشا إلى حين (¬3). وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: «أما بعد: فإن الولد على والده ما عاش حُزَنُ وفِتْنَةُ، فإذا قدمه فصلاة ورحمة، فلا تجزع على ما فاتك من حزنه وفتنته، ولا تضيع ما عوضك الله -عز وجل- من صلاته ورحمته». ومات ابن للإمام الشافعي فأنشد من [الطويل]: وَمَا الدَّهرُ إلاَّ هكَذَا فَاصطَبر لَهُ ... رزِيَّةُ مَالٍ أوْ فِراقُ حَبيبِ (¬4). وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عون بن عبد الله يعزيه على ابنه: أما بعد! فإنا من أهل الآخرة سكنا الدنيا أموات أبناء أموات، فالعجب من ميت كتب إلى ميت يعزيه عن ميت .. والسلام (¬5). ¬

(¬1). برقم 920. (¬2). قطعة من حديث، مسند الإمام أحمد (3/ 208) برقم 1750، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم من قوله: لا تبكوا على أخي. (¬3). الأذكار للنووي ص 262. (¬4). الأذكار للنووي ص 264. (¬5). الجامع لشعب الإيمان للبيهقي (14/ 362) قال محققه: إسناده جيد.

وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، يقول السائل

وأما مكان التعزية، فإنها تكون في أي مكان لقي فيه المسلم أخاه، فيعزي المسلم أهل المصاب في أي مكان قابلهم فيه، سواء في المسجد عند الصلاة على الجنازة أو في المقبرة أو في الشارع أو السوق أو في منزلهم، أو يتصل بهم بالهاتف، ويستحب أن يُعد لأهل الميت طعامًا يبعث به إليهم، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ، أَوْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» (¬1). وقد سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، يقول السائل: اعتاد أهل بلادنا الجلوس للتعزية عند وفاة شخص منهم أسبوعًا أو أكثر، وغلوا في ذلك، فأنفقوا كثيرًا من الأموال في الذبائح وغيرها، وتكلف المعزون فجاءوا وافدين من مسافات بعيدة، ومن تخلف عن التعزية خاضوا فيه ونسبوه إلى البخل، وإلى ترك ما يظنونه واجبًا، فأفتونا في ذلك. فكان الجواب: التعزية مشروعة، وفيها تعاون على الصبر على المعصية، ولكن الجلوس للتعزية على الصفة المذكورة واتخاذ ذلك عادة لم يكن من عمل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن من عمل أصحابه، فما اعتاده الناس من الجلوس للتعزية حتى ظنوه دينًا، وأنفقوا فيه الأموال الطائلة، وقد تكون التركة ليتامى، وعطلوا فيه مصالحهم، ولاموا فيه من لم يشاركهم ويفد إليهم كما يلومون من ترك شعيرة إسلامية، هذا من البدع المحدثة التي ذمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عموم قوله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا ¬

(¬1). مسند الإمام أحمد (3/ 208) برقم 1751، وقال محققوه: إسناده حسن.

وسئلت اللجنة الدائمة عن صنع الطعام في التعزية من قبل أهل الميت.

لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (¬1). وفي الحديث: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (¬2). فأمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وهم لم يكونوا يفعلون ذلك، وحذر من الابتداع والإحداث في الدين، وبيَّن أنه ضلال، فعلى المسلمين أن يتعاونوا على إنكار هذه العادات السيئة، والقضاء عليها، اتباعًا للسنة وحفظًا للأموال، والأوقات، وبعدًا عن مثار الأحزان، وعن التباهي بكثرة الذبائح، ووفود المعزين، وطول الجلسات، وليسعهم ما وسع الصحابة -رضي الله عنهم- والسلف الصالح من تعزية أهل الميت وتسليتهم والصدقة عنه، والدعاء له بالمغفرة والرحمة (¬3). وسُئلت اللجنة الدائمة عن صنع الطعام في التعزية من قبل أهل الميت. فكانت الإجابة: أما صنع أهل الميت طعامًا للناس واتخاذهم ذلك عادة لهم فغير معروف فيما نعلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن خلفائه الراشدين، بل هو بدعة فينبغي تركها، لما فيها من شغل أهل الميت إلى شغلهم، ولما فيها من التشبه بصنع أهل الجاهلية ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 2697، وصحيح مسلم برقم 1718. (¬2). جزء من حديث رواه أبو داود في سننه برقم 4607، وسنن الترمذي برقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه جماعة منهم الضياء المقدسي في اتباع السنن واجتناب البدع. (¬3). فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 137 - 138) برقم 34.

ومن بدع ومخالفات العزاء

والإعراض عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين -رضي الله عنهم-. فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة (¬1). ومن بدع ومخالفات العزاء: 1 - استئجار المقرئين لتلاوة القرآن على روح المتوفى، ويتحملون في ذلك تكاليف مالية بحجة إيصال الثواب إلى الميت. 2 - استئجار الخيام والاستراحات وإضاءتها لاستقبال المعزين. 3 - تكلف أقارب الميت أو أهل الحي في جمع الأموال لاستئجار الأماكن المعدة لاستقبال المعزين، أو الصدقة عن الميت أو أهله. 4 - «الإعلان عن وفاة الميت بشكل يشبه النعي المذموم عنه، ودفع تكاليف مالية في ذلك» (¬2). 5 - «عمل ما يسمى بالتأبين، وهي ذكرى الأربعين بعد وفاة الميت، وهي بدعة فرعونية كانت لدى الفراعنة قبل الإسلام، وفي هذا التأبين يتم مدح الميت والثناء عليه ¬

(¬1). (11/ 505) برقم 6905 وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2). انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 142) برقم 4276.

وذكر أعماله الجليلة» (¬1). 6 - عمل وليمة بعد وفاة الميت بسبعة أيام. 7 - لبس النساء الثياب السوداء حزنًا على المتوفى. 8 - كثرة الضحك والمزاح في مجلس العزاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 154) برقم 2612.

الكلمة الرابعة عشرة زيارة القبور

الكلمة الرابعة عشرة زيارة القبور الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأصله في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلا فَزُورُوهَا، ، فَإِنَّهُ يَرِقُّ الْقَلْبَ، وَتَدْمَعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وَلا تَقُولُوا هَجْرًا» (¬1). «فهذا الحديث يدل على مشروعية زيارة القبور للاتعاظ، وتذكر الآخرة، شريطة ألا يقول عندها ما يغضب الرب سبحانه كدعاء المقبور، والاستغاثة به من دون الله تعالى أو تزكيته والقطع له بالجنة» (¬2). قال النووي -رحمه الله-: «الهجر كلام الباطل، وكان النهي أولًا لقرب عهدهم من الجاهلية، فربما كانوا يتكلمون بكلام الجاهلية الباطل، فلما استقرت قواعد الإسلام، وتمهدت أحكامه، واشتهرت معالمه، أُبيح لهم الزيارة، واحتاط -صلى الله عليه وسلم- ¬

(¬1). (1/ 711) برقم 1433، وقال محققوه: هو حديث حسن صحيح. (¬2). أحكام الجنائز وبدعها للشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص 227.

بقوله: ولا تقولوا هجرًا» (¬1). روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً، وَلا تَقُولُوا مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ» (¬2). قال الصنعاني عقب أحاديث الزيارة: «الكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها، وأنها للاعتبار، فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعًا» (¬3). وذهب بعض أهل العلم إلى جواز زيارة القبور للرجال والنساء، فقد ورد في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-: أَنّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، مَرَّ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتْقِي الله، واصْبِرِي» (¬4). قال الحافظ في فتح الباري -رحمه الله-: «وموضع الدلالة منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة (¬5)» أهـ وذهب جمع من أهل العلم إلى المنع، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ¬

(¬1). المجموع (5/ 310). (¬2). مسند الإمام أحمد (3/ 38) ومستدرك الحاكم (1/ 708) برقم 1426، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في أحكام الجنائز وبدعها، ص 228: وهو كما قالا. (¬3). سبل السلام (3/ 320 - 321). (¬4). صحيح البخاري برقم 1283، وصحيح مسلم برقم 926. (¬5). فتح الباري (3/ 148 - 149).

والمقصود من زيارة القبور شيئان

الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «لَعَنَ الله زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» (¬1). وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن، وهذا ما تفتي به اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية (¬2). والمقصود من زيارة القبور شيئان: «1 - انتفاع الزائر بذكر الموت والموتى، وأن مآلهم إما إلى جنة، وإما إلى نار، وهو الغرض الأول من الزيارة كما يدل عليه ما سبق من الأحاديث. 2 - نفع الميت والإحسان إليه بالسلام عليه، والدعاء والاستغفار له، وهذا خاص بالمسلم وفيه أحاديث أشير إلى بعضها: الأول: رواه أحمد في مسنده من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، فسألته عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك، فقال: «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ لَهُمْ» (¬3). والثاني عنها أيضًا: أنها قالت: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ أي عند زيارة القبور - قال: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ ¬

(¬1). برقم 1056 وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 102 - 103) برقم 1981. (¬3). (43/ 240) برقم 26148، وقال محققوه: حديث حسن.

ومن البدع والشركيات التي تحصل عند القبور، وأشير إلى بعضها

الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ الله الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» (¬1). والثالث: رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: «السَّلامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ الله بِكُمْ للاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» (¬2) (¬3). ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه صلى على قبره، لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها؟ فقالوا ماتت، فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟ » قال: فكأنهم صغروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» (¬4). ومن البدع والشركيات التي تحصل عند القبور، وأشير إلى بعضها: 1 - الذبح والنحر عند القبور، وهو من أعظمها، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود في سننه من حديث أنس: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» (¬5). ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم 974. (¬2). صحيح مسلم برقم 975. (¬3). أحكام الجنائز وبدعها للشيخ الألباني -رحمه الله-، ص 239 - 240 بتصرف. (¬4). صحيح البخاري برقم 458، وصحيح مسلم برقم 956. (¬5). سنن أبي داود برقم 3222، وأحمد في مسنده (3/ 197)، قال الألباني في أحكام الجنائز ص 1259: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة، أو شاة، قال النووي -رحمه الله-: «وأما الذبح والعقر عند القبر فمذموم لحديث أنس هذا» (¬1) أهـ قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «وهذا إذا كان الذبح هناك للَّه تعالى، وأما إذا كان لصاحب القبر كما يفعله بعض الجهال فهو شرك صريح، وأكله حرام وفسق، كما قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]» (¬2). 2 - رفع القبور زيادة على التراب الخارج منها، وطليها بالكلس وهو مادة طلاء، وفي صحيح مسلم من حديث علي -رضي الله عنه- أنه قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته (¬3). 3 - الكتابة عليها. 4 - البناء عليها وتزيينها بالرخام ونحوه لأن ذلك من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة؛ لأن الجهال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر تعلقوا به. 5 - القعود عليها، وفي ذلك أحاديث منها ما رواه مسلم ¬

(¬1). المجموع (5/ 320). (¬2). أحكام الجنائز وبدعها، ص 259 - 260. (¬3). برقم 969.

في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ (¬1)، أو يزاد عليه (¬2) [- أو يكتب عليه -] (¬3) لأن تعظيم القبور بالبناء عليها ونحوه هو أصل شرك العالم. 6 - الصلاة عندها ولو بدون استقبال القبلة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» (¬4). 7 - بناء المساجد عليها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَعْنَةُ الله عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (¬5). 8 - السفر وشد الرحال لزيارة القبور لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (¬6). قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «والحديث عام يشمل المساجد وغيرها من المواطن التي تقصد لذاتها، أو لفضل يدعى فيها، ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم 970. (¬2). سنن أبي داود برقم 3226 وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 621) برقم 2763. (¬3). سنن أبي داود برقم 3226، وصححه الألباني -رحمه الله- كما في سنن أبي داود (2/ 621) برقم 3763. (¬4). صحيح مسلم برقم 970. (¬5). قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم 531. (¬6). صحيح البخاري برقم 1189، وصحيح مسلم برقم 1397 واللفظ له.

ألا ترى أن أبا بصرة -رضي الله عنه- قد أنكر على أبي هريرة سفره إلى الطور وليس هو مسجدًا يصلى فيه، وإنما هو جبل كلم الله فيه موسى -عليه السلام-، فهو جبل مبارك، ومع ذلك أنكر أبو بصرة السفر إليه» (¬1). 9 - إيقاد السرج عندها: أي إضاءتها بالأنوار الكهربائية وغيرها، والدليل على ذلك أنه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلُّ ضَلالَةٌ فِي النَّارِ» (¬2)، وفيه أيضًا إضاعة المال وهو منهي عنه، قال ابن حجر الفقيه: «وصرح أصحابنا بحرمة السراج على القبور وإن قل، حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر، وعللوه بالإسراف، وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس، فلا يبعد أن يكون كبيرة» (¬3). 10 - تحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» (¬4). 11 - قراءة القرآن عند القبر وهو من البدع لم يفعله ¬

(¬1). إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (4/ 143). (¬2). سنن النسائي برقم 1578 وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن النسائي (1/ 345 - 346) برقم 1487 وأصله في صحيح مسلم. (¬3). الزواجر (1/ 134). (¬4). برقم 971.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته الكرام، وكل بدعة ضلالة. 12 - تخصيص المواسم والأعياد والجُمع لزيارة القبور، وهو من البدع، وكل بدعة ضلالة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخامسة عشرة التحذير من الفتن

الكلمة الخامسة عشرة التحذير من الفتن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال]. «هذه الآية وإن كان المخاطب بها هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنها عامة لكل مسلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحذر من الفتن» (¬1). روى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، قَالوا: نَعُوذُ بالله مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (¬2). وهذه الفتن تُعرض على القلوب فتؤثر فيها، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا (¬3)، فَأَيُّ قَلْبٍ ¬

(¬1). انظر المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص 533. (¬2). برقم 2867. (¬3). ومعنى تعرض: أي كأنها تلصق بعرض القلوب، أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه بشدة لصقها به، قال: وقوله عودًا عودًا: أي تعاد وتكرر عليه شيئًا بعد شيء.

أُشْرِبَهَا نُكِتَ (¬1) فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ» (¬2). والفتن كثيرة لا تدع بيتًا إلا دخلته، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ» (¬3). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ» (¬4). وفي آخر الزمان تكثر الفتن، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ» (¬5). روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا (¬6)، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ ¬

(¬1). أي حلت فيه محل الشراب. (¬2). برقم 144. (¬3). برقم 188. (¬4). صحيح البخاري برقم 1878، وصحيح مسلم برقم 2885. (¬5). صحيح البخاري برقم 1036. (¬6). قوله يرقق: هذا الذي نقله القاضي عن جمهور الرواة، يرقق بضم الياء وفتح الراء وبقافين أن يصير بعضها رقيقًا أي خفيفًا لعظم ما بعده، فالثاني يجعل الأول رقيقًا، وقيل: معناه يشبه بعضها بعضًا، وقيل يدور بعضها في بعض ويذهب ويجيء، وقيل معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها. صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 436).

تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» (¬1). والفتن خطرها كبير، من دنا منها أخذته، ومن حام حول حماها أوقعته، والبعد عنها عصمة منها، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِه» (¬2). قال ابن حجر -رحمه الله-: «في هذا الحديث التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها» (¬3). والفتن درجات، منها الصغير والكبير، ومنها من يخرج المرء من دينه، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وَهُوَ يَعُدُّ الْفِتَنَ: «مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيْئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ مِنْهَا صِغَارٌ، وَمِنْهَا كِبَارٌ» (¬4). ¬

(¬1). برقم 1844. (¬2). صحيح البخاري برقم 3601، وصحيح مسلم برقم 2886. (¬3). فتح الباري (13/ 31). (¬4). برقم 2891.

ومن الفتن العظيمة فتنة الشرك، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، ومعنى الآية: أن ما يقوم به المشركون من صد عن سبيل الله مستقبح كذلك، ومنع المؤمنين عن المسجد الحرام وإخراج أهل المسجد الحرام منه أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، والشرك الذي هم فيه أعظم من القتل. ومنها كثرة القتل في آخر الزمان، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ» (¬1). ومن كثرة القتل سفك الدم من غير سبب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ» (¬2). ومنها فتنة المال، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عياض بن حمار -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 7121، وصحيح مسلم برقم 157. (¬2). صحيح مسلم برقم 2908. (¬3). (29/ 215) برقم 17471، وقال محققوه: حديث صحيح.

وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (¬1). وفي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ» (¬2). ومن فتنة المال جمعه سواء من حلال أو حرام، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» (¬3). ومنها فتنة النساء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (¬4). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ ¬

(¬1). برقم 118. (¬2). صحيح البخاري برقم 6368، وصحيح مسلم برقم 587. (¬3). برقم 2083. (¬4). صحيح البخاري برقم 5096، وصحيح مسلم برقم 2740.

فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» (¬1). والأولاد زينة الحياة الدنيا جعلهم الله فتنة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]. ومن الفتنة بهم التفريط في تربيتهم أو الانشغال بهم عن واجبات الدين. ومنها فتنة الدنيا بشهواتها وملذاتها، روى البخاري في صحيحه من حديث سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا» (¬2). ومنها فتنة الدجال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» (¬3). والسعيد من جنب الفتن، روى أبو داود في سننه من حديث المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: أيم الله لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنِ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا» (¬4). ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم 2742. (¬2). برقم 2822. (¬3). صحيح البخاري برقم 1377، وصحيح مسلم برقم 588 واللفظ له. (¬4). رقم 4263 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (3/ 803) برقم 3585.

فائدة مهمة

والمخرج من هذه الفتن الاستعاذة بالله منها والبعد عنها واجتنابها، والاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وسؤاله سبحانه الثبات على الدين، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابُ الله وَسُنَّتِي» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» (¬3) (¬4). فائدة مهمة: سُئل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: كيف يَعرف الرجل منا هل أصابته الفتنة أم لا؟ فأجاب: «إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر، فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته» (¬5). ¬

(¬1). مستدرك الحاكم (1/ 284) وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير برقم 2937. (¬2). مسند الإمام أحمد (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم. (¬3). برقم 2654. (¬4). خطب الشيخ د. عبدالمحسن القاسم (3/ 210 - 217). (¬5). مستدرك الحاكم (4/ 514) برقم 8443 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقال الحسن: «إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). التاريخ الكبير للبخاري (4/ 321).

الكلمة السادسة عشرة التلبية وأحكامها

الكلمة السادسة عشرة التلبية وأحكامها الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن شعائر الحج العظيمة التلبية، وقد وردت بها النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ فَليَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ» (¬1). وكان الصحابة أسرع الناس استجابة لأمر الله ورسوله، فقد روى ابن أبي شيبة عن يعقوب بن زيد قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يبلغون الروحاء حتى تبح أصواتهم من شدة تلبيتهم (¬2). والتلبية للرجال والنساء، ولكن المرأة لا ترفع صوتها إذا خشيت الفتنة، روى أحمد في مسنده من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: إني لأعلم كيف كانت تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم سمعتها بعد ذلك لبت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن ¬

(¬1). (36/ 11) برقم 21678 وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬2). (3/ 372) برقم 15051.

الحمد والنعمة لك (¬1). والذي عليه جمهور العلماء، أن الجهر بالتلبية خاص بالرجال، ونقل ابن عبدالبر الإجماع على ذلك، فقال: «وأجمع العلماء على أن السنة في المرأة ألَّا ترفع صوتها، وإنما عليها أن تسمع نفسها» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها، وعليه يُحمل فعل عائشة -رضي الله عنها-» (¬3). والتلبية من لبى بمعنى أجاب، فلفظة لبيك مثناة على قول سيبويه، والجمهور تثبتها للتكثير، أي إجابة لك بعد إجابة، أو إجابة لازمة (¬4). وقد وردت الأحاديث في فضلها، فروى الترمذي في سننه من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا» (¬5). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أَنّ ¬

(¬1). (41/ 221) برقم 24690، وقال محققوه: حديث صحيح وأصله في البخاري. (¬2). التمهيد (17/ 242). (¬3). الفتاوى (26/ 115). (¬4). الموسوعة الكويتية (13/ 261). (¬5). برقم 828 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (1/ 249) برقم 662.

النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْعَجُّ وَالثَّجُّ» (¬1). والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج سيلان دماء الهدي. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ، وَلا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلا بُشِّرَ». قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» (¬2). ويُسن أن يستقبل القبلة عند التلبية، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا، ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحْرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه فَعَلَ ذَلِكَ (¬3). وينبغي الإكثار من التلبية، وبخاصة كلما علا شرفًا أو هبط واديًا، لما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، مَرَّ بِوَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ » فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عليه السلام- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ» (¬4). ¬

(¬1). برقم 827 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (1/ 249) برقم 661. (¬2). (7/ 379) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع الصغير برقم 5569. (¬3). برقم 1553. (¬4). برقم 166.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود» (¬1). وله أن يخلطها بالتكبير والتهليل لقول ابن مسعود: «خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل (¬2)، وفي صحيح مسلم من حديث محمد ابن أبي بكر قال: قلت لأنس بن مالك غداة يوم عرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: سِرت هَذَا المسير مَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ، وَمِنَّا الْمُهِلُّ، وَلا يَعِيبُ أَحَدُنَا عَلَى صَاحبهِ (¬3). «ومن معاني التلبية أنها مأخوذة من لب بالمكان إذا أقام به، والملبي عند الحج أو العمرة يخبر أنه يقيم على عبادة الله ويلازمها، والمراد تلك العبادة التي دخل فيها سواء كانت حجًّا أو عمرة» (¬4). وأما ألفاظ التلبية فهي كثيرة، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ ¬

(¬1). فتح الباري (3/ 415). (¬2). مسند الإمام أحمد (1/ 417) وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل (4/ 296): إسناده جيد. (¬3). برقم 1285. (¬4). تهذيب السنن لابن القيم -رحمه الله- (5/ 175 - 176).

لَكَ» (¬1). قال نافع: وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يزيد فيها: لبيك وسعديك والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: أهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر، قال: والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع فلا يقول لهم شيئًا (¬3). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان من تلبية النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ» (¬4). قال ابن حجر -رحمه الله-: «والاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو عليها، وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردها عليهم وأقرهم عليها، وهو قول الجمهور» (¬5). وروى ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمّ لَبَّيْكَ، إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الآخِرَةِ» (¬6). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 1549، وصحيح مسلم برقم 1184. (¬2). صحيح مسلم برقم 1184. (¬3). برقم 1813 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 341) برقم 1598. (¬4). (14/ 194) برقم 8497 وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط البخاري. (¬5). فتح الباري (3/ 410). (¬6). صحيح ابن خزيمة برقم 2831، ومستدرك الحاكم (2/ 120) برقم 1750، واللفظ له، وقال الألباني -رحمه الله- كما في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ص 74: إسناده حسن.

وكان المشركون يلبون في حجهم ولكن تلبيتهم فيها شرك، يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَيْلَكُمْ! قَدْ قَدْ»، فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «والتلبية هي إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم -عليه السلام-، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته، والمعنى: إنا مجيبوك لدعوتك مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك، والتلبية شعار الحج، فأفضل الحج العج والثج، فالعج رفع الصوت بالتلبية، والثج إراقة دماء الهدي، ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل، بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تُسمع رفيقتها، ويستحب الإكثار منها عند اختلاف الأحوال مثل: أدبار الصلوات، ومثل ما إذا صعد نشزًا، أو هبط واديًا، أو سمع ملبيًا، أو أقبل الليل والنهار، أو التقت الرفاق، وكذلك إذا فعل ما نُهي عنه، وقد روي أنه من لبى حتى تغرب الشمس فقد أمسى مغفورًا له، وإن دعا عقيب التلبية، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من سخطه والنار؛ فحسن (¬2). أهـ ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم 1185. (¬2). الفتاوى (26/ 115 - 116).

ويبدأ وقت التلبية حين الإحرام، فمن نوى أحد النسكين يهل بما نوى، ثم يلبي، والمعتمر يلبي حتى يشرع في الطواف، وهو قول جمهور العلماء، وأن قطع التلبية يكون بالشروع في الطواف لأنه شعار إقامة العبادة التي لبى إليها (¬1). وأما الحاج فيلبي حتى يرمي جمرة العقبة الكبرى يوم النحر، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الفضل -رضي الله عنه- أخبره أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). شرح مناسك الحج والعمرة بصحيح الخبر والأثر للألباني -رحمه الله-، د. فخر الدين المحسي ص 175. (¬2). صحيح البخاري برقم 1544، وصحيح مسلم برقم 1281.

الكلمة السابعة عشرة إسلام الكافر

الكلمة السابعة عشرة إسلام الكافر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. إن طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعوة الكفار إلى الإسلام أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أجابوه إلى ذلك دعاهم إلى بقية شرائع الإسلام حسب أهميتها، وما تقتضيه الأحوال. ومما ورد في ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُولُ اللَّه، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّه افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ .. الحديث» (¬1). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه-: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 1395، وصحيح مسلم برقم 19.

مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيِه، فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (¬1). وعلى ذلك يقال أن من أسلم من الكفار يُطلب منه أن ينطق الشهادتين، ويُشرح له معناهما، أي لا معبود بحق إلا الله، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والرسل، أُرسل إلى العرب والعجم، فتؤمن به وتطيعه فيما يأمر به، وتجتنب ما نهى عنه، ثم يؤمر بالاغتسال، فقد روى الترمذي في سننه من حديث قيس بن عاصم -رضي الله عنه- قال: «أَتَيْتُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أُرِيدُ الإِسْلامَ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» (¬2). ثم بعد ذلك يُبين له أن التوبة تجبُّ ما قبلها، والإسلام يجبُّ ما قبله، وأن أعظم نعمة أنعم الله بها عليه هدايته لهذا الدين، ونجاته من النار، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» (¬3). ثم بعد ذلك يبين له أركان الإسلام والإيمان، ومعنى الإيمان باليوم الآخر والقدر، ويبين له بطلان قول النصارى في عيسى -عليه السلام- ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم 2406. (¬2). سنن الترمذي برقم 605 وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (1/ 187) برقم 495. (¬3). برقم 153.

أنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، والصحيح أن عيسى -عليه السلام- عبد الله ورسوله، وهو بشر مثله كمثل إخوانه من الرسل، وليس له شيء من خصائص الألوهية والربوبية، وأنه لم يُقتل ولم يُصلب، بل رفعه الله إلى السماء حين أراد اليهود قتله، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. وسوف ينزل في آخر الزمان، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يأتي بشرع جديد، بل يحكم بشريعة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يموت كسائر البشر. وإن كان الذي يريد الإسلام وثنيًّا أو على غير دين، أو يصرف العبادات لأهل القبور .. أو غير ذلك، فيبين له أن الله هو الخالق الرازق المدبر لهذا الكون، المستحق للعبادة، وأن عليه أن يخلص جميع العبادات لله كالدعاء، والنذر، والذبح، والاستغاثة .. وغيرها، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163]. وأن يبرأ من الشرك وأهله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. وفي الختام يُوصى بتقوى الله، والثبات على الدين، وأن يسأل الله دائمًا الثبات على دينه، قال تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. ويُوصى بدعوة زوجته وأبنائه ووالديه وأقاربه، وأن يحرص على الرفقة الصالحة التي تعينه

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل

على الخير، وأن يتفقه في دينه، ثم إن هناك أمرًا مهمًّا وهو أنه قد يرى تصرفات سيئة من بعض المسلمين من كذب، أو أخلاق سيئة .. أو غير ذلك، فهذه التصرفات لا يقرها الدين الإسلامي، فالإسلام يأمر بكل خير وينهي عن كل شر، والأخطاء تُنسب للأشخاص وليس للإسلام. أما بالنسبة للختان، فواجب على الرجال، ومكرمة في حق النساء، لكن لو أُخر الختان بعض الوقت حتى يتمكن الإسلام في قلبه، ويطمئن إليه، لكان حسنًا، خشية أن تكون المبادرة إلى دعوته إلى الختان منفرة له من الإسلام. سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: ما حكم الكافر الذي في فراش المستشفى وهناك سمعناه يقول: لا إله إلا الله محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى وافاه الأجل. هل نحكم عليه بأنه أسلم أم لا؟ الجواب: من نطق بالشهادتين قبل بلوغ الروح الحلقوم، ولم يكن يقولها في صحته ويتعاطى أنواع الشرك الأكبر، ثم مات فإنه يعد بذلك مسلمًا، ويعامل معاملة المسلمين من حيث التغسيل والصلاة عليه، والدفن والدعاء له بالمغفرة والرحمة، يدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» (¬1) رواه ¬

(¬1). مسند الإمام أحمد (10/ 300) برقم 6160، وقال محققوه: إسناده حسن.

أحمد والترمذي وغيرهما. وكذلك قصته عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب، وعرضه الشهادة عليه وهو على فراش الموت، لكنه أبى النطق بها كما في الصحيح. وفي الصحيح أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد غلامًا يهوديًا في مرضه، وعرض عليه الإسلام فأسلم، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ» (¬1). أما من كان ينطق بالشهادتين في حال صحته، ويعبد غير الله، كسؤال الأموات والاستغاثة بهم، وينذر ويذبح لهم، فإن هذا لا يعتبر مسلمًا بمجرد نطقه بالشهادتين عند الموت، إلا إذا صرح بتوبته من شركه السابق (¬2). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبدالعزيز آل الشيخ ... عبدالعزيز بن باز والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (1356). (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (1/ 352) برقم 19603.

الكلمة الثامنة عشرة الإقامة في بلاد الكفار

الكلمة الثامنة عشرة الإقامة في بلاد الكفار الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: 1 - فإن «كلام أهل العلم المتقدمين وبحوثهم بوجوب الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وما يستحب من ذلك أو يباح كان في واقع غير الواقع المعاصر، فقد كانت الخلافة الإسلامية التي يأوي إليها كل مسلم قائمة، وبلاد المسلمين كلها بلد واحد، فأينما تيمم المسلم في بلاد الإسلام فهو في بلده لا يحس بغربة ولا يشعر بوحشة. أما اليوم فإن بعض المسلمين يفر بدينه من بلده لما يقع عليه من الاضطهاد في دينه ودنياه، وربما وجد في تلك البلاد التي فرَّ اليها حياة كريمة وتمتعًا في الحقوق، وحرية في إقامة شعائر دينه قد لا توجد في غالب الدول الإسلامية» (¬1)، فإلى الله المشتكى من غربة الدين، وقلة الناصرين، وتسلط الظالمين. 2 - إن هذه المسألة وما شابهها لا يمكن تنزيل حكمها على ¬

(¬1). فقه النوازل للأقليات المسلمة للدكتور محمد يسري (2/ 1094) بتصرف.

العموم لاختلاف أحوال الناس، فلكل فرد حكمه الذي يخصه بحسب واقعه وحاله على حد قوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء]. فواجد الحيلة غير فاقدها، والقوي غير الضعيف، والغني غير الفقير، وذو العصبة غير الكلالة (¬1). وهكذا تختلف الأحكام باختلاف الأحوال، وتختلف من جانب آخر، وهو أنها ترجع إلى قواعد تحتاج في تطبيقها على الوقائع إلى النظر الدقيق والفهم الثاقب، والإلمام التام مثل قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وقاعدة «دفع أعظم الضررين بفعل أدناهما» .. وغيرها. 3 - مما يعين على الوصول إلى معرفة القول الصائب، المقارنة بين حال الشخص في تلك البلاد الكافرة، وحاله في بلده، فيرجح منهما أكثر الحالين نفعًا وأقلهما ضررًا. 4 - مما يعين على ذلك معرفة حال تلك الدول الكافرة، فمنها دولٌ المسلمون فيها كثير لهم ثقلهم واعتبارهم، مساجدهم عامرة، وشعائرهم ظاهرة، ومنها دول بخلاف ذلك. 5 - النظر الدقيق والفهم العميق للنصوص الشرعية والسيرة النبوي يقضي بالتفريق بين من كان من تلك البلاد الكافرة أصلًا ومولدًا، وبين الطارئ عليها، فلا يستوي من إذا خرج من تلك البلاد رجع إلى بلده بين أهله وذويه، وبين من إذا خرج فإنما ¬

(¬1). ذو العصبة هو الذي له أقارب من قومه أو من بلده يعينونه ويحمونه، والكلالة: الذي ليس له أحد يمنعه.

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل

يخرج من بلده إلى بلاد أخرى لا يمكنه دخولها، فضلًا عن الإقامة فيها إلا بشروط والتزامات لا تتهيأ إلا للقليل، فمن لاحظ ما تقدم وأمعن النظر لم يفته الصواب إن شاء الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت]. سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: ولدت في فرنسا وأعيش فيها إلى الآن، حيث أبلغ من العمر 26 سنة، أبواي تونسيان وأنا الآن متزوج ولي طفلان، الأول أربع سنوات، والثاني تسعة أشهر، أريد الهجرة إلى بلاد عربية من أجل مستقبل أبنائي خاصة، وللحفاظ على دينهم ولغتهم، كنت أنوي الاستقرار في تونس لأن جميع عائلتي هناك، وأبواي ينويان الرجوع إلى هناك، لكن المشكلة أن الحجاب هناك ممنوع منعًا باتًّا على المرأة المسلمة حتى في الشارع، وجميع أفراد عائلتي هناك قد استكرهوا على نزع الحجاب، كما أنه لا يجوز هناك اللقاءات أو الاجتماعات ذات الصبغة الدينية، حتى ولو كان ضمن حفلة زواج أو غيرها، والمسلمون هناك خاصةً الشباب منهم مضطرون للعيش فرادى وفي خوف دائم، حتى لمجرد الصلاة الدائمة في المسجد. لذلك فالعيش هناك بالنسبة لي ولزوجتي التي ترتدي الحجاب يعتبر مستحيلًا؛ لأنه حتى بالنسبة لأبنائي لا أضمن لهم أن يتعلموا دينهم هناك على قواعد صحيحة، وعندما أرجع وأفكر

في وضعي الحالي وكيف أني أعيش في بلاد الكفار أجد نفسي معلقًا بين الأرض والسماء، ولا عندي حل يريحني؛ لأني لا أعرف هل الهجرة في هذه الحال واجبة أم لا؟ أرجو إفادتي جزاكم الله كل خير بأحاديث وآيات قرآنية أتخذ على أساسها القرار السليم، حتى لا أندم بعد ذلك أو أحس أنني أخطأت؟ الجواب: نشكرك أيها الأخ على هذا الإحساس والشعور الديني الذي هو واجب على كل مسلم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ونوصيك بتقوى الله تعالى في جميع أمورك، كما نفيدك بأن الإقامة في بلاد الكفار محرمة في الشريعة الإسلامية إلا لحاجة معتبرة شرعًا، كعلاج لا يوجد عند المسلمين أو دعوة إلى الإسلام .. ونحو ذلك، وعليك بالاجتهاد وبذل الأسباب التي تخلصك من البقاء في بلاد الكفار والانتقال إلى بلاد المسلمين، ولو إلى غير بلدك التي هي مسقط رأسك، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. وإذا كان حالك في فرنسا وتونس كما ذكرت ولم تتيسر لك الهجرة، فعليك تقوى الله في نفسك والتمسك بدينك والثبات عليه والمحافظة على شعائر الدين كالصلوات الخمس وغيرها، ودوام الالتجاء إلى الله أن يثبت قلبك، وعليك البعد عن مشاركة أهل السوء ومجالستهم، وإن وجدت أحدًا من المسلمين فلازم صحبته، كما عليك الدعوة إلى الله حسب الاستطاعة. نسأل الله الكريم لك التوفيق وأن ييسر لك الخير

أينما كنت، إنه ولي ذلك والقادر عليه (¬1). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبدالعزيز آل الشيخ ... عبدالعزيز بن باز كما سُئل الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، يقول السائل: ما هي نصيحتكم للإخوة والأخوات المقيمين في إنجلترا ولا يعملون ويتلقون معونة مالية من الحكومة؟ وأحيانًا هم يحصلون على عمل ولكن لا يخبرون الحكومة، فهل عملهم هذا يعتبر عملًا صحيحًا؟ الجواب: «الواجب على جميع المسلمين المقيمين في بلاد الكفر، أن يهاجروا إلى البلاد الإسلامية التي تقام فيها شعائر الله إذا استطاعوا ذلك، فإن لم يتيسر ذلك فإلى البلاد التي هي أقل شرًّا، كما هاجر جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى الحبشة؛ لأن بلاد الحبشة ذاك الوقت أقل شرًّا مما يقع على المسلمين في مكة من الشر قبل فتح مكة، فإن لم يستطيعوا فعليهم أن يتقوا الله في محلهم، وأن يحذروا ما حرم الله عليهم، وأن يؤدوا ما أوجب الله عليهم، ولا حرج عليهم في قبول المعاونة والمساعدة ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/ 455 - 456) برقم 19581.

من الدولة الكافرة، إذا لم يترتب على ذلك ترك واجب، أو فعل محظور، وليس لهم أخذ المساعدة إلا على الطريقة الرسمية التي قررتها الدولة، وليس لهم أن يكذبوا للحصول عليها، وعليهم جميعًا أن يتقوا الله في كل شيء، وأن يحذروا ما نهى الله عنه، وأن يتفقهوا في القرآن والسنة فيما بينهم، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، ولو بالمكاتبة أو من طريق الهاتف، أصلح الله أحوال المسلمين جميعًا وحفظ عليهم دينهم ومنحهم الفقه فيه، وكفاهم شر أنفسهم وشر أعدائهم، إنه جواد كريم» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- (28/ 238 - 239).

الكلمة التاسعة عشرة العمل أو الدراسة لدى الكفار

الكلمة التاسعة عشرة العمل أو الدراسة لدى الكفار الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال ابن بطال في شرحه على ما بوَّب البخاري -رحمه الله- باب «هل يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في أرض الحرب؟ » وذكر فيه حديث خباب قال: «كُنْتُ قَيْنًا - أي حدادًا-، فَعَملتُ للْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَاجْتَمَعَ لِي عِندَه، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: لاَ، وَاللَّه لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: أَما وَاللَّه، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلاَ. قَالَ: وإِنِّي لَميت ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قَالَ: نَعَمْ .. الحديث» (¬1). قال المهلب: «كره العلماء أن يؤاجر المسلم نفسه من مشرك في دار الحرب أو دار الإسلام؛ لأن في ذلك ذلة للمسلمين، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة، فلا يخدمه فيما يعود على المسلمين بضر، ولا فيما لا يحل مثل: عصر خمر، أو رعاية خنازير، أو عمل سلاح أو شبه ذلك، فلا يصح لمسلم أن يهين نفسه بالخدمة لمشرك إلا عند الضرورة، فإن وقع ذلك فهو جائز، .... ألا ترى أن خبابًا عمل للعاص بن وائل وهو كافر، وجاز له ذلك» (¬2). ¬

(¬1). برقم 2275، ورواه مسلم في صحيحه برقم 5972. (¬2). فتح الباري (6/ 403).

والخلاصة: «أن إجارة المسلم نفسه للكافر ثلاثة أنواع

قال المهلب: «كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين: أحدهما أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر ألاَّ يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين، قال ابن المنير: استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله، وبطريق التبعية له. والله أعلم، والمقصود بالتبعية أن يكون ذليلًا عنده» (¬1). قال ابن قدامة: «فإما إن أجر نفسه منه في عمل معين في الذمة، كخياطة ثوب جاز بغير خلاف نعلمه، لأن عليًّا -رضي الله عنه- أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فلم ينكره، وكذلك الأنصاري، ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم ولا استخدامه فأشبه مبايعته، فإن أجر نفسه منه لغير الخدمة مدة معلومة جاز» أهـ (¬2) والخلاصة: «أن إجارة المسلم نفسه للكافر ثلاثة أنواع: الأولى: إجارة على عمل في الذمة، فهذه جائزة، والثانية: إجارة للخدمة، فهذه الصحيح فيها المنع؛ لأن إجارة الخدمة تتضمن حبس نفسه على خدمته مدة الإجارة، وذلك فيه إذلال للمسلم وإهانة له تحت يد الكافر، فلم يجز كبيع العبد المسلم له، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء]. والثالثة: إجارة عينه منه لغير الخدمة، فهذه جائزة، ¬

(¬1). فتح الباري (4/ 452). (¬2). المغني (6/ 39).

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل

كما حدث لخباب -رضي الله عنه- مع العاص بن وائل وهو كافر، فقد عمل قينًا عنده كما تقدم. هذا كله إذا كان الإيجار لعمل لا يتضمن تعظيم دينهم وشعائرهم، فإن كانت الإجارة لعمل يتضمن ذلك لم يجز» (¬1)، أو كان هذا العمل يتضمن مخالفات شرعية، كأن يكون العمل في فندق، أو مطعم يبيع المحرمات كالخنزير أو الخمر، أو يعرض القنوات الفضائية السيئة لساكنيه، أو الاختلاط بين الرجال والنساء، أو يمنع فيه من أداء الصلوات، أو غير ذلك. سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: ما حكم العمل في دول الكفر، كدول أوروبا وأمريكا، وهل يتغير الحكم لو عمل عند مسلم في مؤسسات مسلمة، ولكن في نفس البلد الكافر؟ الجواب: يجب على المسلم أن يهاجر من ديار الكفر إلى ديار الإسلام محافظة على دينه، وتكثيرًا لجماعة المسلمين، وليتعاون معهم على إقامة شعائر الإسلام، وسيجد لنفسه بإذن الله طرقًا عدة للكسب والمعيشة المباركة بين المسلمين مع الأمن على دينه إن اتقى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق]. ¬

(¬1). أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/ 199) بتصرف.

ومن هذا يعلم أن عمل المسلم في بلاد الكفر وهو يقوى على الهجرة منها إلى بلاد الإسلام لا يجوز، سواء كان عمله في محل كافر أم مسلم، إلا أن عمله في محل كافر أشد منعًا، لما يتوقع في ذلك من مزيد الخطر والذل، لكن إذا كان عالمًا وله نشاط في الدعوة إلى الإسلام، ويرجى أن يتأثر الكفار بدعوته، وتقوم به الحجة عليهم ولا تخشى عليه فتنة في دينه، أو نفسه، فله أن يقيم بينهم للقيام بواجب الدعوة إلى الله ونشر الإسلام، ومن كان مستضعفًا لا يقوى على الهجرة، فهو معذور في إقامته بين الكفار، وعلى إخوانه المسلمين أن يساعدوه، ليتمكن من الهجرة إلى بلد يأمن فيه على دينه» (¬1). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبدالرزاق عفيفي ... عبدالعزيز بن باز وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: إني قاطن في فرنسا، متزوج ولي أبناء، ومشكلتي هي كالآتي: العمل تقريبًا معدوم عندنا، وهذه ليست حجة أنجو ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/ 475 - 476) برقم 3859.

بها عند ربي، والمصيبة الكبرى وهي أنني أعيش في محيط غير مسلم، زوجتي مثلًا تصلي وتصوم، وهذا بعد جهد طويل ومديد وقاس ومر، ولا أظن إن واجهتها بالحقيقة أنها ستقتنع وترضى بحكم الله، وهذا سيؤدي لا محالة إلى الطلاق وتخريب البيت، وقانون الدولة عندنا يعطي حضانة الأولاد إلى الأم، وأخشى عليهم ترك دين أبيهم. والسؤال هو: هل أتوقف عن العمل في هذا المحل الذي فيه لحوم الخنزير وغيرها، وإن أدى ذلك إلى الطلاق إذا اقتضى الأمر، أم أواصل عملي؟ أفيدوني أفادكم الله، وفقنا الله وإياكم؟ الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر، فإنه لا يجوز لك الاستمرار في العمل المذكور؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه، لقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة]. ونوصيك بالتماس عمل غير العمل المذكور، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه (¬1). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبدالعزيز آل الشيخ ... عبدالعزيز بن باز ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/ 436 - 437) برقم 17687.

سئل الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، يقول السائل

وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: ما حكم من يشتغل عند شخص غير مسلم، هذه النقود التي يقبضها من عنده هل هي حلال أم حرام؟ الجواب: تأجير المسلم نفسه للكافر لا بأس به إذا كان العمل الذي يقوم به مباحًا، كبناء جدار أو بيع سلعة مباحة أو ما أشبه ذلك من الأعمال المباحة؛ لأن عليًّا -رضي الله عنه- أجر نفسه ليهودي بتمرات على نضح الماء له من البئر، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أَنَّ عَليًّا أَجر نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ» (¬1) (¬2). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبدالعزيز آل الشيخ ... عبدالعزيز بن باز سُئل الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، يقول السائل: يوجد بعض الإخوة المسلمين الدارسين في أمريكا لا يستطيعون أداء الصلاة في وقتها سواء مع الجماعة أو منفردين، ¬

(¬1). سنن ابن ماجه برقم 2446 وضعفه الألباني -رحمه الله- في سنن ابن ماجه ص 193 برقم 535. (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/ 485 - 486) برقم 15921.

وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، يقول السائل

وذلك بسبب أوقات المحاضرات الدراسية هنا في الجامعات الأمريكية، كما أن بعض الإخوة لا يستطيعون أداء صلاة الجمعة لمدة طويلة قد تصل إلى فصل دراسي كامل، فما الحكم في ذلك جزاكم الله خيرًا؟ الجواب: يجب على المسلم أن يصلي الصلاة في وقتها، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها من أجل بعض الدروس أو المحاضرات، إلا أن يكون مسافرًا يجوز له الجمع، أو مريضًا يشق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها، وأنت وأمثالك ليس لكم حكم المسافرين، لعزمكم على الإقامة لمدة طويلة، فالواجب على كل مسلم في أي مكان أن يراقب الله سبحانه، وأن يصلي الصلاة في أوقاتها مع الجماعة، وأن يحذر التساهل في ذلك، أو الترخص في الجمع بغير عذر شرعي، وعليه أن يصلي صلاة الجمعة مع المسلمين إذا كان في مكان تقام فيه صلاة الجمعة، ولا يجوز له التساهل في ذلك (¬1). وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، يقول السائل: هل يجوز لي شرعًا أن أعمل في عمل يقوم عليه شخص كافر لا يمكنني من أداء الصلاة في وقتها، ولا يمكنني من أداء صلاة الجمعة؟ ¬

(¬1). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- (10/ 376 - 377) بتصرف.

الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت، فإنه لا يجوز لك أن تعمل في هذا العمل الذي يصدك صاحبه عن الصلاة المفروضة في وقتها المحدد لها، وعن أداء الجمعة المكتوبة عليك (¬1). ومن الحلول: البحث عن عمل لدى المؤسسات أو الشركات التي يملكها أناس متسامحون، ولا يعارضون المسلمين عند ذهابهم لصلاة الجمعة أو التوقف عن العمل لأداء صلاة الجماعة، وهذا موجود في بعض الدول، ويعتبرون هذا من الحرية الدينية، بل بعضهم يحترم المسلم الذي يتوقف عن العمل لأداء صلاة الجمعة أو الجماعة، ولعل من المناسب أن يشترط المسلم عند كتابة عقد العمل لدى المؤسسة أو الشركة أن من حقه التوقف عن العمل لأداء صلاة الجمعة، أو الجماعة، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} [الطلاق]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (14/ 478) برقم 4047.

الكلمة العشرون الزواج من الكتابيات

الكلمة العشرون الزواج من الكتابيات الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. ذهب جماهير أهل العلم إلى حِلِّ الزواج بالكتابية، وخالف في ذلك بعضهم واستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر: كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: «إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى وهو عبد من عباد الله» (¬1). واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. ووجه الدلالة أن الله تعالى حرم نكاح المشركات، والكتابية مشركة، فيحرم نكاحها. وبقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. وهذا نهي عن إبقاء الكافرة في عصمة المسلم، فاقتضى النهي عن ابتداء نكاحها، والكتابية داخلة في مسمى الكوافر. «وقالوا أنه يُشترط بأن توحد الله ولا تشرك به شيئًا، ولكنها ¬

(¬1). برقم 5285.

لا تتبع إلا موسى عليه الصلاة والسلام، إن كانت يهودية، أو عيسى عليه الصلاة والسلام، إن كانت نصرانية، فإن خالفت الإسلام وأشركت فإنها لا تحل، وهؤلاء راموا الجمع بين آية المائدة وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وبين آية البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. فقالوا: إذا أشركت بالله ولو كانت يهودية أو نصرانية فلا تحل، وأما إذا كانت غير مشركة بالله، وإن لم تدن بالإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام فإنها تحل، وتكون الفائدة من قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] أنها غير مسلمة وحلت لا أنها مشركة وحلت. وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم من السلف والخلف، وعلى هذا الرأي إذا كانت النصرانية تقول: إن الله ثالث ثلاثة فإنها لا تحل ولو تدينت بدين النصارى، وكذلك اليهودية إذا قالت: عزير ابن الله فإنها لا تحل لأنها مشركة. وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] عامة فكل من انتمى إلى دين أهل الكتاب فهو منهم، وقالوا: إن هذا مخصص لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، لأن آية البقرة متقدمة على آية المائدة، ثم هذا التعليل في الحقيقة

عليل: لأن التخصيص لا فرق فيه بين المتقدم والمتأخر، لكن الدليل الواضح هو أن الله ذكر في سورة المائدة حل نساء أهل الكتاب، وحكى عنهم الشرك وكفرهم أيضًا، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} [التوبة]» (¬1). قال ابن كثير -رحمه الله-: «وقد تزوج جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسًا، أخذًا بهذه الآية الكريمة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، فجعلوا هذه مخصصة للآية التي في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]. إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} [البينة]، وكقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20]» (¬2). ¬

(¬1). الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (12/ 147 - 148). (¬2). تفسير ابن كثير (5/ 83 - 84).

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «فالحاصل والذي عليه جمهور أهل العلم أن من تدين بدين أهل الكتاب وانتسب إليهم ولو كان يقول بالتثليث فإنه تحل ذبيحته ويحل نكاحه» (¬1). وهذا مشروط بما في الآية الكريمة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالإحصان، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، وقيل المراد: العفيفات. قال ابن كثير -رحمه الله-: «والقول الأخير هو قول الجمهور، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل «حشفًا وسوء كيله»، والظاهر من الآية: أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا، كما قال تعالى في الآية الآخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]» (¬2). «والذي يطلع على حقوق الزوجين في الغرب يخجل في الحقيقة من هذا القانون، ويترفع عن مقارنته، لا بالإسلام الذي هو شريعة ربانية، بل بالنظم البشرية في العصور الحجرية إذ كلها تأنف من جعل الزوج ديوثًا يرى من يجامع زوجته فيباركه، أو يرى من يحبلها ولا حق له سوى نفقات الولادة. في الحقيقة إن الغرب فرغوا الزواج من معناه الحقيقي، وجعلوه رسمًا بلا ¬

(¬1). الشرح الممتع (12/ 148). (¬2). تفسير ابن كثير (5/ 82).

معنى وصورة بلا روح، وإلا فقولوا لي: بماذا تمتاز الزوجة عن الأجنبية بالنسبة للرجل؟ فالزوجة لا يلزمها في القانون الغربي أن تقدم لزوجها فنجانًا من القهوة والأجنبية كذلك، ولا يمكن لزوجها أن يجامعها إلا برضاها والأجنبية كذلك، وليس عليه أن يملي عليها رأيه والأجنبية كذلك، وليس له أن يمنعها الخروج من البيت والأجنبية كذلك، وليس له أن يمنعها معاشرة الرجال والأجنبية كذلك. وليس له أن يمنعها استضافة عشيقها في البيت والأجنبية كذلك، ولها أن تدعي أن هذا الولد من عشيقها لا من زوجها فينسب للعشيق، فأين حقوق الزوج في الغرب. كل هذا سببه نظريتهم في المساواة بين الرجل والمرأة ونظريتهم في احترام الحرية الشخصية، إضافة إلى أن القوانين الغربية فتحت بابًا عظيمًا من أبواب الفساد في صميم الجالية المسلمة، فإن الرجل لم يعد يستطيع أن يكلم زوجته كلمة واحدة إذ بيدها تطليقه، وأخذ نصف ثروته، وأكثر من نصف راتبه الشهري، إلى جانب استئثارها بحضانة أولاده وإذلاله في المحاكم. هذا بالنسبة للزوج، أما بالنسبة للأولاد، فإن الرجل مهما دفع لهم فإنه أبوهم ومسؤول عنهم، وعن تأمين العيش الكريم لهم، ولكن المشكلة لا تكمن هنا، وإنما صلب المشكلة أن هذا

الأب ليس له حظ من أولاده إلا أن يراهم ساعة في الأسبوع، ثم تستأثر الأم بسائر أوقاتهم. وتكون المشكلة أعظم إن كان المطلق مسلمًا والمطلقة كتابية، فإنها ستتأثر بتربيتهم على الكفر وعادات الكافرين فيدفع هذا المسكين نصف ثروته لامرأته الكافرة، وينفق عليها أكثر من نصف راتبه الشهري لتربي أولاده على الكفر وعلى عداوة أبيهم وبغضه وهو محروم من رؤيتهم وتربيتهم ومن أنسهم ومودتهم، حقًا إنها طامة لا يعرفها إلا من ذاقها. وللأسف هذا حال كثير من المسلمين في أوروبا الذين بادروا بالزواج من كتابيات طمعًا بالإقامة والجنسية والعمل، ورغبة بجمالها وشقارها، فانقلبوا بعد حين ليذوقوا مرارة الطلاق ويدفعوا مالهم ودين أولادهم ثمنًا لهذا الزواج. ومنهم من تورط في الزواج ثم أدرك مغبة الطلاق وما يجره عليه من خسارة في ماله وولده، فآثر الصبر على أخلاق الزوجة الغربية وصار خادمًا عندها تسيره كيف تشاء، يتجرع كأس الذل والمهانة كل يوم، ولا يستطيع أن يشكو همه لأحد. لقد رأيت في ألمانيا من مآسي المسلمين العرب ما يبعث على الحزن ويوجع القلب، ولقد رأيت من يرى ابنته تصاحب الألماني الكافر، ولا يستطيع أن يتدخل في شأنها، ومن تأتي ابنته والصليب على رقبتها ولا يستطيع أن يتكلم، ومن تزوجت ابنته من كافر وليس له إلا أن يبارك هذا الزواج، ومن اتخذت امرأته عشيقًا ولا يستطيع إلا أن يكرمه.

نعم يا إخواني إن ما أخذه الغرب من المسلمين المهاجرين، كان أكثر مما أعطاهم، ولو بدا لهم لأول وهلة أنه أعطاهم الكثير، وإن من ارتد وانحرف من أولاد المسلمين أكثر من الغربيين الذين دخلوا في الإسلام، وكان تأثيرهم فينا أكثر من تأثيرنا فيهم، وإن كان ديننا أعظم من دينهم لأننا جعلنا الدين من غير صدق، وهم صدقوا من غير دين. ومن القصص المحزنة في ذلك: قبل حوالي شهر حصل في برلين أن صاحب محل تجاري من المسلمين انتحر بسبب الطلاق، فرضت عليه المحكمة أن يدفع أكثر من نصف مدخوله الشهري لمطلقته وأولاده، كما فرضت عليه أن يتخلى عن محله التجاري، حتى يباع وتأخذ مطلقته نصيبها، أي تقسيم ثروته المالية بينه وبينها على السواء، فلم يستطع تحمل هذا الأمر فأقدم على الانتحار. إنا لله وإنا إليه راجعون. ومن هذه الحالات: صديق لي تزوج بامرأة نصرانية، ولم يكن حسن الالتزام بدينه، وكانت هي أيضًا بعيدة عن دينها، ويسر الله لهذا الرجل أن تعرف على المسلمين الملتزمين على المسجد حتى أصبح من رواده، وأصبح داعية للإسلام، وكان له من زوجته خمسة أولاد لا تتجاوز أعمارهم السبع سنوات، وصار يحضرهم إلى المسجد ويعلمهم الإسلام، وبدأت العداوة تكبر في صدر امرأته حتى اشتعل صدرها ببغض هذا الدين، ودفعها هذا البغض إلى الاقتراب من الكنيسة والدفاع عنها، وكانت تثور في البيت المجادلات الدينية والتي لم تنته إلا بطلب

المرأة الطلاق، وصدر الحكم بالطلاق، وكانت الأم قد أطلعت القاضي على سبب العداوة بينها وبين زوجها الذي انقلب إلى رجل متعصب - بزعمها - ويريد أن يربي أولاده على الإسلام ويأخذهم إلى المسجد، فمال القاضي إليها وحكم لها بحضانة الأطفال الخمسة، ولم يعد يسمح للأب أن يزور أولاده إلا مرة واحدة في الأسبوع. وحرصت الأم بعد ذلك على غرس الكفر في نفوس الأطفال، فصارت تصحبهم إلى الكنيسة بعد أن كانت الكنيسة لا تعني شيئًا لها، وبدأت تطبخ لهم الخنزير وتنفرهم من الإسلام، وكان الأب في غضون زيارة الأولاد له يحرص على تعليمهم الصلاة ويحببهم فيها، فلما علمت الأم بذلك أخبرت القاضي الذي قام بإنذار الأب بحرمانه من زيارة أطفاله له إذا حدثهم عن الإسلام أو الصلاة أو حتى صلى إحدى الصلوات أمامهم. وهذا غيض من فيض مما يجري في بلاد الغرب، من حرب على الإسلام وأهله، والاعتداء على أبناء المسلمين لإبعادهم عن دينهم. ومنذ أيام قلائل اتصل بي أحد الإخوة، وأخبرني أن صديقًا له من المسلمين العرب توفي وله زوجة ألمانية، فأراد أهله وأصدقاؤه دفنه في مقبرة المسلمين فرفضت زوجته، وأصرت على أن يدفن في مقابر النصارى، فذهب بعض الإخوة يترجونها للسماح بدفنه في مقابر المسلمين، فلم تقبل ودُفن في مقابر النصارى.

فالزوجة في القانون الألماني هي التي تأخذ هذا القرار، وليس لأهله أو أسرته أي حق في التدخل بهذا الشأن. والذي أنصح به أنه لا ينبغي الإقدام على الزواج من الكتابية إلا إذا رجا إسلامها، وغلب ذلك على ظنه بما يتوسمه من حسن صفاتها، وحبها للخير؛ لأنه حين يعقد عليها في بلاد الغرب يخضع زواجهما للقوانين الغربية، وفي هذه القوانين من السوء والعار ما لا يجوز للمسلم أن يرضى به، كانعدام قوامة الرجل في بيته، وحرية الزوجة في معاشرة الأجانب، واصطحاب العشيق إلى البيت .. وغير ذلك من المخازي. والإسلام حين أجاز الزواج بالكتابية كان ذلك مبنيًّا على الخضوع لأحكامه، فالرجل هو القوام على المرأة وعلى البيت، ولا يدع للمرأة تأثيرًا في تسيير البيت وتوجيهه نحو الانحلال أو تربية الأطفال على الكفر وعادات الكافرين، فبهذه القوامة التي منحه الشارع إياها، يزول المحذور الذي يخشى وقوعه من قبل امرأته الكافرة، وأما مع عدم الخضوع لأحكام الإسلام وعدم القوامة فالأمر يختلف. فينبغي على المسلم أن ينظر في المحذورات المتوقعة من هذا الزواج، ويتفق مع المرأة على تفاديها، كأن يتفق معها على قوامته على البيت، وتربية الأولاد وفق شرع الله، وفي حال الطلاق تكون حضانتهم له، فإن وافقت أقدم على الزواج بعد توثيق هذا الاتفاق في المركز الإسلامي، وإن أبت فلا يقدم عليه؛ لأن في

الإقدام عليه تفريطًا في حق نفسه وحق أولاده، وتضييع للأمانة التي حمَّله الله إياها، وسيسأل عن ذلك يوم القيامة» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب، د. سالم الرافعي، (ص 416 - 418، 606 - 608) بتصرف.

الكلمة الحادية والعشرون شرح اسم من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم

الكلمة الحادية والعشرون شرح اسم من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «للَّه تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِئَةٌ إِلَّا وَاحِدًا لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (¬1). وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬2). ومن أسماء الله الحسنى: الرحمن، والرحيم، قال بعضهم: ذُكِرَ الرحمن في القرآن سبعًا وخمسين مرة، وذُكِرَ الرحيم مئة وأربع عشرة مرة، والرحمن دال على أن الرحمة صفته القائمة به كعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 6410، وصحيح مسلم برقم 2677. (¬2). صحيح البخاري برقم 7392.

والرحيم دال على أنه يرحم خلقه، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب]، وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]. «ورحمة الله عامة وخاصة، فأما العامة فهي لجميع الخلق، فكل الخلق مرحومون برحمة الله، ولولا رحمة الله ما أكلوا وما شربوا، وما اكتسوا، وما سكنوا، ولكن الله رحمهم، فهيأ لهم ما تقوم به أبدانهم من المعيشة الدنيوية، وأما رحمته الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين» (¬1)، «حيث وفقهم للإيمان وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بِشَرِّ ما عندنا» (¬2). «وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم تقتضي التوفيق للإيمان والعلم والعمل وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية والفلاح والنجاح وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق» (¬3). ورحمة الله واسعة وسعت كل شيء، قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147]، وقال ¬

(¬1). أحكام من القرآن للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (1/ 25). (¬2). تيسير الكريم الرحمن ص 246 للشيخ ابن سعدي -رحمه الله-. (¬3). مجموع مؤلفات الشيخ السعدي (3/ 255).

ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين

تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَامَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي صَلاَةِ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا» (¬1). يريد رحمة الله، يعني: ضيقت واسعًا على فضل الله سبحانه وجوده، وقلت ما ليس لك قوله، وسألت ما لا يحسن سؤاله، فإن السيول الدوافع قد تكف، والبحور الزواخر قد تقبض، ولكن فضل الله وجوده على خلقه لا يكف ولا يقبض ولا يقلع أبدًا (¬2). ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين: أولًا: أن رحمة الله تغلب غضبه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» (¬3). قال ابن القيم -رحمه الله-: «وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو والصفح عنهم، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 6010. (¬2). الإفصاح عن معاني الصحاح (7/ 293). (¬3). صحيح البخاري برقم 3194، وصحيح مسلم برقم 2751.

لولاه لكان للخلق شأن آخر، ولولا ذلك لخرب العالم، وسقطت السموات على الأرض، وخرت الجبال» (¬1). ثانيًا: أن الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، روى البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلَّب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ » فَقُلْنَا: لا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: «اللَّه أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» (¬2). ثالثًا: أن الله جلَّ وعلا عنده مئة رحمة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الله خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِئَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً». وفي رواية: «فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» (¬3). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّه مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّه مِنَ ¬

(¬1). شفاء العليل (2/ 699). (¬2). صحيح البخاري برقم 5999، وصحيح مسلم برقم 2754. (¬3). صحيح البخاري برقم 6000، وصحيح مسلم برقم 2752.

الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» (¬1). رابعًا: أنه ينبغي للمؤمن أن يكون رحيمًا بالناس، فالرحمة من الأخلاق العظيمة التي حض الله سبحانه عباده على التخلق بها، فقد مدح بها أشرف رسله، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة]. وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الرحمة إنما تنال عباد الله الرحماء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» (¬2). وقال أيضًا: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ» (¬3). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَبَّلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» (¬4). وفي رواية: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ» (¬5). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 6469، وصحيح مسلم برقم 2755 واللفظ له. (¬2). صحيح البخاري برقم 1284، وصحيح مسلم برقم 923. (¬3). سنن أبي داود برقم 4942، وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع برقم 7467. (¬4). صحيح البخاري برقم 5997، وصحيح مسلم برقم 2318. (¬5). صحيح البخاري برقم 5998، وصحيح مسلم برقم 2317.

خامسًا: أن طاعة الله تعالى ورسوله سبب لرحمة الله، فكلما كان الإنسان أقرب إلى الله تعالى كانت رحمة الله أولى به، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} [آل عمران]، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف]. سادسًا: أن الله تعالى من رحمته بعباده يبتليهم بالمصائب والآلام تطهيرًا لهم وتكفيرًا لذنوبهم، ورفعة لدرجاتهم، روى الترمذي في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬1). وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَلا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَه حَتَّى يُبلِغَهُ ذَلِكَ» (¬2). فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل: قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بالبَلْوى وإنْ عَظُمَتْ ... وَيْبتَلِيَ اللهُ بعَضَ القَوْم بِالنِّعمِ سابعًا: أن المؤمنين إنما يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته لا بأعمالهم، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ¬

(¬1). برقم 2396، وقال الألباني -رحمه الله- في صحيح الترمذي (2/ 285) برقم 1953: حديث حسن صحيح. (¬2). صحيح ابن حبان برقم 2897، والحاكم (1/ 664) برقم 1314، وحسنه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم 1599.

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا» (¬1). ثامنًا: أنه يُشرع للمؤمن أن يسأل ربه الرحمة، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبيه -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: «قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي -وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلَّا الْإِبْهَامَ- فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 5673، وصحيح مسلم برقم 2816. (¬2). برقم 2697.

الكلمة الثانية والعشرون صفة الصلاة

الكلمة الثانية والعشرون صفة الصلاة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال الشيخ صالح الفوزان: «بعد أن بينَّا أركان الصلاة وواجباتها وسننها القولية والفعلية، نريد أن نذكر صفة الصلاة المشتملة على تلك الأركان والواجبات والسنن، حسبما وردت به النصوص من صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لتكون قدوة للمسلم، عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (¬1)، وإليك سياق ذلك: -كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام إلى الصلاة؛ استقبل القبلة، ورفع يديه، واستقبل ببطون أصابعهما القبلة، وقال: الله أكبر. - ثم يُمسِك شماله بيمينه، ويضعهما على صدره. - ثم يستفتح، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يداوم على استفتاح واحد، فكل الاستفتاحات الثابتة عنه يجوز الاستفتاح بها، ومنها: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. - ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 631.

- ثم يقرأ بفاتحة الكتاب، فإذا ختمها، قال: آمين. - ثم يقرأ بعد ذلك سورة: طويلة تارة، وقصيرة تارة، ومتوسطة تارة، وكان يطيل قراءة الفجر أكثر من سائر الصلوات، وكان يجهر بالقراءة في الفجر والأُوليين من المغرب والعشاء، ويُسرُّ القراءة فيما سوى ذلك، وكان -صلى الله عليه وسلم- يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية. - ثم يرفع يديه كما رفعهما في الاستفتاح، ثم يقول: الله أكبر، ويَخِرُّ راكعًا، ويضع يديه على ركبتيه مُفَرَّجَتي الأصابع، ويُمَكِّنهُما، ويمد ظهره، ويجعل رأسه حياله: لا يرفعه ولا يخفضه، ويقول: سبحان ربي العظيم. - ثم يرفع رأسه قائلًا: سمع الله لمن حمده، ويرفع يديه كما يرفعهما عند الركوع. - فإذا اعتدل قائمًا؛ قال: ربنا لك الحمد، وكان يطيل هذا الاعتدال. - ثم يكبر، ويخر ساجدًا، ولا يرفع يديه، فيسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه، ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة، ويعتدل في سجوده، ويمكِّن جبهته وأنفه من الأرض، ويعتمد على كفيه، ويرفع مرفقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، وكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى.

- ثم يرفع رأسه قائلًا: الله أكبر، ثم يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه، ثم يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني. - ثم يكبر ويسجد، ويصنع في الثانية مثلما صنع في الأولى. - ثم يرفع رأسه مكبرًا، وينهض على صدور قدميه، معتمدًا على ركبتيه وفخذيه. - فإذا استتم قائمًا، أخذ في القراءة، ويصلي الركعة الثانية كالأولى. - ثم يجلس للتشهد الأول مفترشًا كما يجلس بين السجدتين، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، ويضع إبهام يده اليمنى على أصبعه الوسطى كهيئة الحلقة، ويشير بأصبعه السبابة، وينظر إليها (¬1)، ويقول: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وكان -صلى الله عليه وسلم- يخفف هذه الجلسة (¬2). ¬

(¬1). قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: دلت السنة على أنه يشير بها عند الدعاء؛ لأن لفظ الحديث (يحركها يدعو بها) فكلما دعوت حرك إشارة إلى علو المدعو سبحانه وتعالى. الشرح الممتع (3/ 146). (¬2). قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- بعد كلامه على التشهد الأول: ثم يصلي على النبي الصلاة الإبراهيمية لعموم الأحاديث الواردة في الأمر بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد، وإن تركها في التشهد الأول فلا حرج؛ لأنه قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحاديث أنه نهض إلى الثالثة بعد الشهادتين ولم يصل على النبي -صلى الله عليه وسلم-. انظر صفة الصلاة للشيخ ابن باز -رحمه الله-.

- ثم ينهض مكبرًا، فيصلي الثالثة والرابعة، ويخففهما على الأوليين، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب. - ثم يجلس في تشهده الأخير متوركًا، يفرش رجله اليسرى، بأن يجعل ظهرها على الأرض، وينصب رجله اليمنى أو يخرج رجله اليسرى عن يمينه، ويجعل أليتيه على الأرض. - ثم يتشهد التشهد الأخير، وهو كالتشهد الأول ويزيد عليه: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. - ويستعيذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ويدعو بما ورد من الأدعية في الكتاب والسنة. - ثم يسلم عن يمينه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك؛ يبتدئُ السلام متوجهًا إلى القبلة، ويُنهيه مع تمام الالتفات. - فإذا سلم قال: أستغفر الله ثلاثًا، اللهم إنك أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يذكر الله بما ورد.

أيها المسلم، هذه جملة مختصرة في صفة الصلاة حسبما ورد في النصوص، فعليك أن تهتم بصلاتك غاية الاهتمام، وأن تكون صلاتك متفقة حسب الإمكان مع صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الاحزاب]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثالثة والعشرون فضائل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

الكلمة الثالثة والعشرون فضائل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ الله» (¬1). ومن الأذكار العظيمة التي وردت النصوص بفضلها: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن فضائل هذه الكلمات: أنهن أحب الكلام إلى الله، روى مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى الله تَعَالَى أَرْبَعٌ، سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ للَّه، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» (¬2). ¬

(¬1). برقم 3375 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (3/ 139) برقم 2687. (¬2). برقم 2137.

ومنها: أنهن أحب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مما طلعت عليه الشمس، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» (¬1). ومنها: أنهن مكفرات للذنوب، فقد ثبت في سنن الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّه، إِلا كَفَّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (¬2). ومنها: أنهن غراس الجنة، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ (¬3)، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ» (¬4). ومنها: أنه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يُعمرُ في الإسلام يكثر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن شداد -رضي الله عنه-، أن نفرًا من بني عذرة ثلاثة أتوا ¬

(¬1). برقم 2695. (¬2). برقم 3460، وحسنه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع برقم 5636. (¬3). القيعان: جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه ماء السماء، فيمسكه ويستوي نباته. النهاية في غريب الحديث (4/ 132). (¬4). برقم 3462 وحسنه الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم 105.

النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلموا، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يَكْفِينِيهِمْ؟ » قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، قَالَ: فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْثًا، فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا آَخَر، فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، قَالَ: ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَخِيرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمْ آخِرَهُمْ، قَالَ: فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ الله مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِه» (¬1). وقد دل هذا الحديث العظيم على عظم فضل من طال عمره، وحسن عمله، ولم يزل لسانه رطبًا من ذكر الله (¬2). ومنها: أن الله اختار هؤلاء الكلمات واصطفاهن لعباده، ورتب على ذلك أجورًا عظيمة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الله اصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ أَرْبَعًا: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلّه، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، فَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله، كَتَبَ الله لَهُ عِشْرِينَ حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ عِشْرِينَ سَيِّئَةً، وَمَنْ قَالَ: الله أَكْبَرُ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، فَمِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً وَحُطَّ عَنْهُ ثَلَاثُونَ ¬

(¬1). المسند (3/ 19) برقم 1401، وقال محققوه: حسن لغيره. (¬2). فقه الأدعية والأذكار للدكتور عبدالرزاق البدر ص 139.

سَيِّئة» (¬1). ومنها: أنهن جُنة لقائلهن من النار، ويأتين يوم القيامة منجيات لقائلهن، ومقدمات له، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا جُنَّتَكُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، مِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قَالَ: «لا، جُنَّتَكُمْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلا إِلَهَ إِلا الله، وَالله أَكْبَرُ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَجِّيَاتٌ ومُقَدِّمَاتٌ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ» (¬2). وفي الآية الكريمة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف]. أي التي يبقى ثوابها، ويدوم جزاؤها. ومنها: أنهن ينعطفن حول عرش الرحمن، ولهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الَّذِينَ يَذكُرونَ مِنْ جَلَالِ الله مِنْ تَسْبِيحِهِ، وَتَحْمِيدِهِ، وَتَكْبِيرِهِ، وَتَهْلِيلِهِ، يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرنَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَزَالَ لَهُ عِنْدَ الله شَيْءٌ يُذَكِّرُ بِهِ؟ » (¬3). ¬

(¬1). (13/ 387) برقم 8012، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2). المستدرك (2/ 235) برقم 2029، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع برقم 3214. (¬3). (30/ 312) برقم 18362، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح.

ومنها: أنهن ثقيلات في الميزان، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سلام -رضي الله عنه- مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «بخٍ بخٍ لِخَمْسٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبرُ، وَسُبحَانَ الله، وَالْحَمْدُ للَّه، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبهُ وَالِدُهُ» (¬1). ومنها: أن للعبد بقول كل واحدة منهن له صدقة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن ناسًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ الله، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: «أَفَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّه لَكُمْ مَا تَصَدَقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَبُكِلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً .. الحديث» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). (24/ 430) برقم 15662، وقال محققوه: حديث صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح. (¬2). برقم 1006.

الكلمة الرابعة والعشرون من آداب الضيافة واستقبال الضيوف والزوار

الكلمة الرابعة والعشرون من آداب الضيافة واستقبال الضيوف والزوار الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد ذكر أهل العلم آدابًا للضيافة واستقبال الضيوف ينبغي تعلمها وتطبيقها لأنها مستمدة من الوحيين (الكتاب والسنة) والعادات الكريمة التي توارثها العرب وتمسكوا بها جيلًا بعد جيل دفعهم إلى ذلك حبهم إكرام الضيف وتنافسهم في ذلك، وهي مكارم جاء الإسلام بإتمامها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ» (¬1)، وهي كثيرة أطال العلماء في ذكر تفاصيلها، فليرجع إليها من أراد الاستزادة، حيث إنني اقتصرت في هذه الكلمة على بعضها تنبيهًا على ما سواها، فمن ذلك: أولًا: إكرام الضيف لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» (¬2). ومدة الضيافة ثلاثة أيام لما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي شريح العدوي أن ¬

(¬1). أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في الأدب برقم 207. (¬2). صحيح البخاري برقم 6018، وصحيح مسلم برقم 48.

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ» (¬1). وفي الحديث الآخر: «وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ، قَالَ: يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ» (¬2). ثانيًا: استحباب الترحيب بالضيوف لما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم وفد عبد القيس قال: «مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الذينَ جَاءوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى» (¬3). ثالثًا: قال أبو الليث السمرقندي: «على الضيف أربعة أشياء، أولها: أن يجلس حيث يُجلس، وثانيها: أن يرضى إذا جاد له صاحب الدار بموجوده، وثالثها: ألا يقوم إلا بإذن رب البيت، ورابعها: أن يدعو له إذا خرج» (¬4). قال ابن الجوزي -رحمه الله-: «ومن آداب الزائر ألاَّ يقترح طعامًا بعينه، وإن خير بين طعامين اختار الأيسر، إلا أن يعلم أن مضيفه يُسر بذلك» (¬5). رابعًا: إذا تبع الضيف من لم يدع يستأذن المضيف في ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم 48. (¬2). صحيح مسلم برقم 48. (¬3). برقم 6176. (¬4). الفتاوى الهندية -لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي (5/ 344). (¬5). الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 208).

حضوره، للحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: كان من الأنصار رجل يقال له أبو شعيب: وكان له غلام لحام، فقال: اصنع لي طعامًا، وادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خامس خمسة، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خامس خمسة، فتبعهم رجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ»، قَالَ: بَلْ أَذِنْتُ لَهُ (¬1). خامسًا: لا ينبغي التكلف للضيف، ومرجع ذلك إلى العرف، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث قيس أن سلمان دخل عليه رجل فدعا له بما كان عنده، فقال: لولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهانا - أو أنَّا نهينا - أن يتكلف أحدنا لصاحبه، لتكلفنا لك (¬2). سادسًا: الاستئذان عند الدخول والانصراف بعد الفراغ من الطعام حتى لا يثقل على مضيفه إلا إذا كان رب البيت يرغب في بقائهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]. سابعًا: دعاء الضيف لمن استضافه بعد الفراغ من الطعام ¬

(¬1). برقم 5434. (¬2). (39/ 136) برقم 23733 وقال محققوه: حديث محتمل للتحسين بمجموع طرقه.

لما رواه أبو داود في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء إلى سعد بن عبادة -رضي الله عنه- فجاء بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ» (¬1). ولما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن أطعمهم: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» (¬2)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ! أَطْعِمْ مِنْ أَطْعَمَنِي، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي» (¬3). ثامنًا: أن يؤثر الضيف على نفسه وعياله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلا مَاءٌ، فَقَالَ: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّه؟ » فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ الله، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لا، إِلا قُوتَ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا أَصْبِحِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ ¬

(¬1). برقم 3854. (¬2). برقم 2042. (¬3). صحيح مسلم برقم 2055.

حَتَّى تُطْفِئِيهِ، قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «قَدْ عَجِبَ اللَّه مِنْ صَنِيعِكُمَا اللَّيْلَةَ» (¬1). تاسعًا: من آداب المضيف أن يخدم أضيافه، ويُظهر لهم بسط الوجه والفرح والسرور بقدومهم، وأن يحدثهم بما تميل إليه أنفسهم، وأن يقرب إليهم الطعام، قال تعالى حاكيًا ضيافة نبي الله إبراهيم -عليه السلام-: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} [الذاريات]. عاشرًا: أن يبدأ بالأكبر عند التقديم، ثم الأيمن فالأيمن، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سقى قوم قال: «ابْدَءُوا بِالْكَبِيرِ» (¬2)، أما إذا كانوا متساويين فيقدم الأيمن، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: أَتَانَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي دَارِنَا هَذِهِ، فَاستَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبتُهُ مِنْ مَاء بِئْرِنَا هَذِهِ فَأَعطَيتُهُ، وأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَا فَرِغَ قَال عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الأعْرَابِي فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: «الأَيْمَنُونَ الأَيْمَنُونَ، أَلا فَيمِّنوا» (¬3). قال أنس -رضي الله عنه-: فهي سنة، فهي سنة ثلاث مرات (¬4). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 3798 وصحيح مسلم برقم 2054. (¬2). مسند أبي يعلى (4/ 315) برقم 2425، قال الحافظ: وسنده قوي، فتح الباري (10/ 89). (¬3). وذهب بعض أهل العلم إلى تقديم الأيمن مطلقًا، ولتفصيل ذلك انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني -رحمه الله- (4/ 76). (¬4). صحيح البخاري برقم 2571، وصحيح مسلم برقم 2029 دون قوله: ألا فيمنوا.

الحادي عشر: استحباب الخروج مع الضيف إلى باب الدار، فقد زار أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام أحمد بن حنبل -رحمهما الله-، قال أبو عبيد: فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «ويؤخذ من قصة أبي طلحة -يعني في حديث أنس عن أبي طلحة - سمعت صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- ضعيفًا أعرف فيه الجوع، قال فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه حتى دخلا ... الحديث، وفيه أن من أدب من يضيف أن يخرج مع الضيف إلى باب الدار تكرمة له» (¬1). الثاني عشر: على المضيف أن يدعو لضيافته الأتقياء دون الفساق، لما رواه الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ» (¬2). الثالث عشر: السمر مع الضيف والأهل، وترجم له البخاري باب السمر مع الضيف والأهل، وذكر حديث أبي بكر وفيه: أنه ¬

(¬1). فتح الباري (9/ 528). (¬2). برقم 2395 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (2/ 285) برقم 1952.

ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم عاد إلى أضيافه وتعشى معهم (¬1). الرابع عشر: عدم إيذاء الضيف بأي نوع من أنواع الأذى سواء كان قولًا، أو فعلًا، وأن ينصرف الضيف طيب النفس، وأن يغفر لصاحب الدار أي تقصير حدث له (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). برقم 6140. (¬2). منتقى الآداب الشرعية للشيخ ماجد العوشن ص 108 - 109.

الكلمة الخامسة والعشرون من أحكام الغسل

الكلمة الخامسة والعشرون من أحكام الغسل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. «فإن الحدث الأكبر سواء كان جنابة، أو حيضًا، أو نفاسًا لا يطهر المسلم منه إلا بالغسل، قال الحافظ في الفتح: «حقيقة الاغتسال: غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية (¬1) أهـ، والدليل على وجوبه قول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. وقد ذكروا أن الغسل من الجنابة كان معمولًا به في الجاهلية وهو من بقايا دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيهم. موجبات الغسل: ستة إذا حصل واحد منها وجب الاغتسال: 1 - خروج المني من مخرجه من الذكر أو الأنثى، ولا يخلو إما أن يخرج في حال اليقظة أو حال النوم، فإن خرج في حال اليقظة اشترط وجود اللذة بخروجه، فإن خرج بدون لذة لم يوجب ¬

(¬1). فتح الباري (1/ 360).

الغسل، كالذي يخرج بسبب مرض أو عدم إمساك، وإن خرج في حال النوم، وهو ما يسمى بالاحتلام، وجب الغسل مطلقًا، لفقد إدراكه فقد لا يشعر باللذة، فالنائم إذا استيقظ ووجد أثر المني وجب عليه الغسل، وإن احتلم ولم يخرج منه ولم يجد له أثرًا لم يجب عليه الغسل. روى البخاري ومسلم من حديث أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ الله لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ» (¬1). قال ابن قدامة: «فخروج المني الدافق بشهوة يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم، وهو قول عامة الفقهاء، قال الترمذي: ولا نعلم فيه خلافًا» (¬2). 2 - من موجبات الغسل: إيلاج الذكر في الفرج ولو لم يحصل إنزال، للحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقد وَجَبَ الْغُسْلُ» (¬3). فيجب الغسل على المرأة والرجل ولو لم يحصل إنزال لهذا ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 130، وصحيح مسلم برقم 313. (¬2). المغني (1/ 266). (¬3). صحيح البخاري برقم 180، وصحيح مسلم برقم 343.

الحديث، قال النووي -رحمه الله-: «اعلم أن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال، وعلى وجوبه بالإنزال، وكان جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلا بالإنزال ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين» (¬1). 3 - من موجبات الغسل عند طائفة من العلماء: إسلام الكافر، فإذا أسلم الكافر وجب عليه الغسل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بعض الذين أسلموا أن يغتسلوا، فروى أبو داود في سننه من حديث قيس بن عاصم قال: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» (¬2). لأنه طهر باطنه من نجس الشرك، فمن الحكمة أن يطهر ظاهره بالغسل. وذهب بعض أهل العلم إلى أن اغتسال الكافر إذا أسلم مستحب، وليس بواجب، لأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأمر به كل من أسلم، فيحمل الأمر على الاستحباب جمعًا بين الأدلة. والله أعلم 4 - الموت، فيجب تغسيل الميت، غير الشهيد لما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصتْهُ (¬3)، أو قال: فَأَقْعَصَتْهُ» (¬4). ¬

(¬1). شرح مسلم للنووي (4/ 36). (¬2). سنن أبي داود برقم 355، وصححه الألباني -رحمه الله- في الإرواء (1/ 163). (¬3). الوقص: كسر العنق. (¬4). القعص: أن يضرب الإنسان فيقتل قتلًا سريعًا. النهاية في غريب الحديث (4/ 88).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -قَالَ أَيوب: يُلَبِّي، وقَالَ عَمْرٌو: مُلَبِّيًا» (¬1). قال ابن المنذر -رحمه الله-: «وأجمعوا أن الميت يغسل غسل الجنابة» (¬2). 5 - الحيض والنفاس: لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي» (¬3). وقال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]، يعني الحيض، يتطهرن بالاغتسال بعد انتهاء الحيض. وصفة الغسل الكامل: أن ينوي بقلبه الغسل، ثم يسمي ويغسل يديه ثلاثًا ويغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءًا كاملًا، ثم يحثي الماء على رأسه ثلاث مرات، يروي أصول شعره، ثم يعم بدنه بالغسل، ويدلك بدنه بيديه ليصل الماء إليه، والمرأة الحائض أو النفساء تنقض رأسها للغسل من الحيض والنفاس، وأما الجنابة فلا تنقضه حين تغتسل لمشقة التكرار، ولكن يجب عليها أن تروي أصول شعرها بالماء، ويجب على المغتسل رجلًا كان أو امرأة أن يتفقد أصول شعره ومغابن بدنه، وما تحت حلقه وإبطيه وسرته وطي ركبتيه، وإن كان لابسًا ساعة ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 1268، وصحيح مسلم برقم 1206. (¬2). الإجماع ص 42. (¬3). صحيح البخاري برقم 228، وصحيح مسلم برقم 333.

أو خاتمًا، فإنه يحركهما ليصل الماء إلى ما تحتهما. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ، فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدِ اسْتَبْرَأَ، حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ» (¬1). ويجب أن يهتم بإسباغ الغسل، بحيث لا يبقى من بدنه شيء لا يصل إليه الماء. ولا ينبغي له أن يسرف في صب الماء، فالمشروع تقليل الماء مع الإسباغ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع. ولا يجوز للمغتسل أن يغتسل عريانًا بين الناس للحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلْيَتَوَارَى بِشَيْءٍ» (¬2). ويجب على المسلم أن يهتم بأحكام الغسل، ليؤديه على الوجه المطلوب شرعًا، وما أشكل عليه من أحكامه وموجباته سأل عنه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل]» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 248، وصحيح مسلم برقم 316. (¬2). (29/ 484) برقم 1797 وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3). الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (1/ 64 - 68) بتصرف.

وذكر أهل العلم الأغسال المستحبة

وذكر أهل العلم الأغسال المستحبة: أولًا: غسل الجمعة، وذهب بعضهم إلى وجوبه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» (¬1). وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أنه مستحب، واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» (¬2). ثانيًا: غسل العيدين، فروى البيهقي من طريق الشافعي عن زاذان قال: سأل رجل عليًّا -رضي الله عنه- عن الغسل، فقال: اغْتَسِلْ كُلَّ يَوْمٍ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ: لا، الْغُسْلُ الَّذِي هُوَ الْغُسْلُ، فَقَالَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ (¬3) وَيَوْمَ النَّحْرِ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ (¬4). ثالثًا: غسل يوم عرفة: لأثر عليٍّ السابق. رابعًا: غسل الإحرام: لما رواه الترمذي في سننه من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- تجرد لإهلاله (¬5) واغتسل (¬6). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 879، وصحيح مسلم برقم 846. (¬2). سنن أبي داود برقم 354 وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 72) برقم 341. (¬3). وهذا خاص بالحاج دون غيره. (¬4). سنن البيهقي (6/ 534) برقم 6193 وصححه الألباني -رحمه الله- في الإرواء 146. (¬5). الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، يقال: أهل المحرم بالحج يهل إهلالًا، إذا لبى ورفع صوته. النهاية في غريب الحديث (5/ 271). (¬6). سنن الترمذي برقم 830 وصححه الألباني -رحمه الله- في سنن الترمذي (1/ 250) برقم 664.

خامسًا: الاغتسال عند دخول مكة، لما روى البخاري ومسلم من حديث نافع أنه قال: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى (¬1)، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك (¬2). سادسًا: غُسل من غَسَل ميتًا: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» (¬3). قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: فظاهر الأمر يفيد الوجوب، وإنما لم نقل به لحديثين: الأول: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي غُسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ، فَإِنَّ مَيِتَكُم لَيْسَ بِنَجَسٍ، فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ» (¬4). الثاني: قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: «كنا نمس الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل» (¬5). ¬

(¬1). واد معروف بقرب مكة. (¬2). صحيح البخاري برقم 1573، وصحيح مسلم برقم 1259. (¬3). سنن أبي داود برقم 3161 وصححه ابن القطان وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-: صحيح، كما في أحكام الجنائز وبدعها ص 71. (¬4). مستدرك الحاكم (1/ 724) برقم 1466 وقال الشيخ الألباني -رحمه الله-: ثم ترجح عندي أن الصواب في هذا الحديث الوقف كما بينه في الضعيفة 6304، انظر أحكام الجنائز ص 72. (¬5). سنن الدارقطني (2/ 72) برقم 4، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: إسناده صحيح. انظر أحكام الجنائز للشيخ الألباني -رحمه الله- ص 72.

قال في الدراري: «وذهب الجمهور إلى أنه مستحب» (¬1). سابعًا: الاغتسال عند كل جماع لحديث أبي رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله! ألا تجعله واحدًا؟ قال: «هَذَا أَزْكَى وَأَطْيَبُ وَأَطْهَرُ» (¬2). ثامنًا: اغتسال المستحاضة لكل صلاة، أو للظهر والعصر معًا غسلًا، وللمغرب والعشاء معًا غسلًا، وللفجر غسلًا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلاةٍ» (¬3). وفي رواية: «اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَأُمِرَتْ أَنْ تُعَجِّلَ الْعَصْرَ وَتُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلًا وَاحِدًا، وتُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلَ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلًا، وَتَغْتَسِلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ غُسْلًا» (¬4). روى أبو داود في سننه من حديث علي -رضي الله عنه- قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِ ¬

(¬1). (1/ 77). (¬2). سنن أبي داود برقم 219 قال: الشيخ الألباني -رحمه الله-: سنده حسن وقواه الحافظ ابن حجر. انظر: آداب الزفاف ص 108. (¬3). سنن أبي داود برقم 292 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 58) برقم 274. (¬4). سنن أبي داود برقم 294 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله-: كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 59) برقم 281.

أَبَاكَ ثُمَّ لاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي»، فَذَهَبتُ فَوَارَيْتُهُ وجِئته، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، وَدَعَا لِي (¬1). تاسعًا: الاغتسال من الإغماء: روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عتبة قال: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟ » قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» (¬2)، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ (¬3) فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «أَصَلَّى النَّاسُ؟ »، قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ»، قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ... الحديث» (¬4). قال الشوكاني -رحمه الله- بعد هذا الحديث: «وقد ساقه المصنف ها هنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه، وقد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض، فدل ذلك على تأكد استحبابه» (¬5) (¬6). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). برقم 3214 وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 619) برقم 2753. (¬2). المخضب: شبه المركن، وهو إناء تغسل فيه الثياب. (¬3). أي: لينهض بجهد. (¬4). جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 687، وصحيح مسلم برقم 418. (¬5). نيل الأوطار (1/ 306). (¬6). الموسوعة الفقهية الميسرة للشيخ حسين العوايشة (1/ 193 - 197).

الكلمة السادسة والعشرون فضل كفالة الأيتام

الكلمة السادسة والعشرون فضل كفالة الأيتام الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الأمور التي أوصى بها الإسلام، وحث عليها، ورتب على ذلك الثواب العظيم، الوصية باليتيم. واليتيم هو من مات أبوه وهو دون سن البلوغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى، ويستمر وصفه باليتم حتى يبلغ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ» (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «اليتيم في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه هو الذي يهذبه، ويرزقه، وينصره بموجب الطبع المخلوق، ولهذا كان تابعًا في الدين لوالده، وكان نفقته عليه وحضانته عليه، والإنفاق هو الرزق، والحضانة هي النصر لأنها الإيواء، ودفع الأذى، فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول، والمظلوم عاجز ضعيف، فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضي، ومن جهة ضعف المانع، ويتولد ¬

(¬1). سنن أبي داود برقم 2873 وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 555) برقم 2497.

عنه فسادان: ضرر اليتيم الذي لا دافع عنه، ولا يحسن إليه، وفجور الآدمي الذي لا وازع له» (¬1). قال بعضهم: ورد ذكر اليتيم في كتاب الله اثنتين وعشرين مرة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 83]. وجعل سبحانه البذل لهم من خصال البر والتقوى، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177]. ووبخ سبحانه من لم يكرم يتيمًا، فقال تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)} [الفجر]، وقرن دعَّه وهو قهره وظلمه بالتكذيب بيوم الدين، فقال سبحانه: {الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} [الماعون]، ونهى الله صفوة خلقه أن يقهر أحدًا منهم، فقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} [الضحى]. قال ابن كثير -رحمه الله-: «أي لا تذله، وتنهره، وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به» (¬2). وقد أمر الله بحفظ أموالهم، ونهى عن قربها إلا بالحسنى، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. ولا يتولى أموالهم إلا القوي الأمين. ¬

(¬1). مجموع الفتاوى (34/ 108) (¬2). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (14/ 385).

ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الضعيف أن يتولى شيئًا من أموالهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» (¬1). وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وكافل اليتيم في الجنة سواء، روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا»، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا (¬2). والسبابة هي: الأصبع التي تلي الإبهام، وتسمى المسبحة لأنه يسبح بها في الصلاة. ومعنى كافل اليتيم: أي هو القيم بأمره ومصالحه، قال النووي -رحمه الله-: «كافل اليتيم: القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية .. وغير ذلك» (¬3). قال ابن بطال: «حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك» (¬4). وإطعام الأيتام سبب لدخول الجنة، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان]. ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (1826). (¬2). صحيح البخاري برقم (5304). (¬3). شرح صحيح مسلم (13/ 118). (¬4). فتح الباري (10/ 436).

روى البخاري في الأدب المفرد: أن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- كان لا يأكل طعامًا إلا وعلى خوانه (¬1) يتيم (¬2). ومن أراد تليين قلبه فليطعم المسكين، وليمسح رأس اليتيم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ» (¬3). وأطيب المال ما أُعطي منه اليتيم، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِب المُسلِم مَا أَعْطى مِنهُ المِسْكِين، واليَتِيم، وابْنَ السَّبِيلِ» (¬4). وعد الشارع الاعتداء على مال اليتيم من كبائر الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ (¬5)، وذكر منها: أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ»، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ابتلي باليتم، فقد توفي والده وأمه حمل به، ثم ¬

(¬1). المقصود على مائدته. (¬2). صحيح الأدب المفرد تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- (102/ 136). (¬3). (2/ 263) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة (2/ 533) برقم 854. (¬4). صحيح البخاري برقم (1465) وصحيح مسلم برقم (1052). (¬5). صحيح البخاري برقم (6857) وصحيح مسلم برقم (89).

توفيت أمه وعمره ست سنين، قال تعالى ممتنًا على نبيه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى]. ويجب على الأم والأوصياء على الأيتام الإحسان إلى اليتيم بالتربية والرحمة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]. ومن ذلك تعليمه كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والفقه في الدين، وإبعاده عن جلساء السوء، وحثه على الرفقة الصالحة، وتعليمه الأخلاق الكريمة والآداب الحسنة، وليعلم كافل اليتيم أن الإنفاق عليه، وتعليمه، وتربيته، باب عظيم من أبواب الخير والرزق والبركة في الدنيا والآخرة، والقصص في هذا كثيرة ومستفيضة. ومن النماذج المشرقة لصغارٍ عاشوا حياة اليتم، ونفع الله بهم، وأصبحوا من علماء الأمة، وجهابذة العلم الإمام الشافعي -رحمه الله-، فقد أباه وهو دون العامين، فنشأ في حجر أمه في قلة من العيش، وضيق من الحال، يقول: كنت يتيمًا في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخْلفه إذا قام. وقد حفظ القرآن، وجالس العلماء، حتى ساد أهل زمانه. ومنهم الإمام أحمد بن حنبل مات والده وهو حمل في بطن والدته، وعاش حياة فقر وفاقة، فحضنته أمه وأدبته، وأحسنت تربيته، قال -رحمه الله-: كانت أمي توقظني قبل الفجر بوقت طويل وعمري عشر سنين، وتدفئ لي الماء في الشتاء، ثم نصلي أنا وإياها

ما شئنا من صلاة التهجد، ثم تنطلق بي إلى المسجد في طريق بعيد مظلم موحش لتصلي معي صلاة الفجر في المسجد، وتبقى معي حتى منتصف النهار تنتظر فراغي من طلب العلم وحفظ القرآن. ومنهم الإمام البخاري صاحب الصحيح، فقد نشأ يتيمًا في صغره، وقرأ على ألف شيخ، وصنف كتابه الصحيح، وغيره من الكتب النافعة. فبصبر الأمهات وجهادهن خرج هؤلاء العلماء الأفذاذ (¬1). تنبيه: «الرحمة باليتيم لا تمنع تأديبه ولو بالضرب المناسب عند الحاجة إلى ذلك، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط» (¬2). وروى البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بن عبيد قال: «قلت لابن سيرين: عندي يتيم، قال: اصنع به ما تصنع بولدك، اضربه ما تضرب ولدك» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). الخطب المنبرية للشيخ عبدالمحسن القاسم (3/ 182 - 183). (¬2). صحيح الأدب المفرد بتحقيق: الشيخ الألباني -رحمه الله- برقم (105/ 142). (¬3). صحيح الأدب المفرد بتحقيق: الشيخ الألباني -رحمه الله- برقم (104/ 140).

الكلمة السابعة والعشرون من أحكام الأطعمة رقم 2

الكلمة السابعة والعشرون من أحكام الأطعمة رقم 2 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. دلت الآية الكريمة على حل ذبائح أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ما لم يكن ذبحهم على غير الوجه الشرعي كالذبح بالخنق، أو الضرب على الرأس، أو الصعق بالكهرباء .. ونحو ذلك من الوجوه المحرمة، فإن لم تعلم الطريقة التي ذُبحت بها، فقد قيل بالحل أخذًا بعموم الآية السابقة ونحوها من النصوص العامة، ولا دليل في الآية على ذلك، إذ لو أُخذ بعموم اللفظ لحل لنا طعام أهل الكتاب من أي جنس كان، وعلى أي حال ذبح ولا قائل بذلك، مع التنبيه إلى أن هذا القول لو أُخذ به فغاية ذلك رفع الإثم وتبقى تلك اللحوم المذبوحة على غير الوجه الشرعي غير صالحة للأكل بما تحتوي من أضرار، وأمراض. والقول بالمنع على هذا هو المترجح حكمًا المتعين حالًا وواقعًا، وهو قول لبعض أهل العلم من المتقدمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد كلام في الجمع بين قوله {وَمَا أُهِلَّ بِهِ

لِغَيْرِ اللَّهِ} وقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: «والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال، وذلك لأن قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] عموم محفوظ لم تخص منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله، فليس كل ما استحلوه يحل لنا، ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح، فالحاظر أولى أن يُقدم، ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره، قد علمنا يقينًا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي قد أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا. والله أعلم أهـ (¬1). وقال ابن رجب -رحمه الله-: «وما أصله الحظر كالأبضاع، ولحوم الحيوان، فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لسبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فما أصله الحرمة بنى على التحريم، ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم أو كلب غير كلبه» (¬2). ¬

(¬1). اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 60). (¬2). جامع العلوم والحكم ص 88 - 89.

وقد فصل حكم هذه المسألة سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- رئيس مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية في فتوى مخطوطة نقلها عنه الشيخ صالح الفوزان في كتابه الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح، وهذا نصها: يقول السائل: ما حكم اللحوم المستوردة من الخارج معلبة وغير معلبة والتي كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت البلوى بها، فلا يكاد بيت يسلم منها، هل الأصل فيها الإباحة أم الحظر؟ نرجو بيان ذلك مفصلًا ولكم الأجر. وهذا نص الفتوى: الأصل في الأبضاع (¬1) والحيوانات التحريم، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها من أهل التذكية، فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكى، فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم، وهو مجرى النفس، والمريء وهو مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم، فما يرد من اللحوم المعلبة إن كان استيراده من بلاد إسلامية أو من بلاد أهل الكتاب أو معظمهم وأكثرهم أهل كتاب وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية فلا شك في حله، وإن ¬

(¬1). الأبضاع: أي الفروج.

كانت تلك اللحوم المستوردة تستورد من بلاد جرت عادتهم أو أكثرهم أنهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس أو بالصاعقة الكهربائية .. ونحو ذلك، فلا شك في تحريمها وكذلك ما يذبحه غير المسلمين وغير أهل الكتاب من وثني أو مجوسي أو قادياني أو شيوعي ونحوهم فلا يباح ما ذكوه؛ لأن التذكية المبيحة لأكل ما ذكى لا بد أن تكون من مسلم أو كتابي عاقل له قصد وإرادة، وغير هؤلاء لا يباح تذكيتهم. أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم هل يذبحون بالطريقة الشرعية أم بغيرها ولم يعلم حالة المذكين وجهل الأمر، فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح تغليبًا لجانب الحظر وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر سواء أكان في الذبائح أو الصيد، ومثله النكاح كما قرره أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، والعلامة ابن القيم -رحمه الله-، والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام النووي وغيرهم كثير، مستدلين بما في الصحيحين وغيرهما من حديث عدي بن حاتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ الله عَليهِ فَكُلْ، فَإِنْ وَجَدْتَ مَعَهُ كَلْبًا آَخر فَلاَ تَأْكُلْ» (¬1). فالحديث يدل على أنه إذا وجد مع كلبه المعلم كلبًا آخر أنه ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5476)، وصحيح مسلم برقم (1929) وله ألفاظ كثيرة.

لا يأكل تغليبًا لجانب الحظر، فقد اجتمع في هذا الصيد مبيح وهو إرسال الكلب المعلم إليه، وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر، لذا منع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أكله، وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: «إِذَا أَصبْتَهُ بِسَهْمِكَ فَوَقَعَ فِي المَاءِ فَلَا تَأْكُلْ» (¬1).متفق عليه. وفي رواية عند الترمذي: «إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ سَهْمَكَ قَتَلَهُ وَلَمْ تَرَ فِيهِ أَثَرَ سَبُعٍ فَكُلْ» (¬2). وقال: حسن صحيح عن عدي بن حاتم. قال ابن حجر -رحمه الله- في الصيد: «إن الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رامٍ آخر أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد، وقال أيضًا عند قوله: «وإن وقع في الماء فلا تأكل» لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء، فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله» (¬3). قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: «إذا وجد الصيد في الماء غريقًا حرم بالاتفاق. أهـ. وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلًا فقد تمت ذكاته، ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي الْمَاءَ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمك» (¬4). فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل. انتهى ملخصًا من فتح الباري. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5484) وصحيح مسلم برقم (1929). (¬2). برقم (1468) وقال حديث حسن صحيح. (¬3). فتح الباري (9/ 611). (¬4). شرح صحيح مسلم (13/ 81).

وقال الخطابي: «إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء قد غرقه فيكون هلاكه من الماء لا من قتل الكلب الذي هو آلة الذكاة، وكذلك إذا وجد فيه أثرًا لغير سهمه، والأصل أن الرخص تراعى شرائطها التي بها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي (¬1) (¬2).أ. هـ قال الشيخ صالح الفوزان -عضو هيئة كبار العلماء-: وبالنظر في القولين السابقين في حكم هذا النوع من اللحوم يتضح رجحان القول بالتحريم لقوة مبناه ووضوح أدلته وذلك من وجوه: الوجه الأول: أن الله حرم لحوم الحيوانات التي تموت بغير ذكاة شرعية في قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. فما لم تتحقق في هذه اللحوم الذكاة الشرعية فهي محرمة بناء على الأصل. الوجه الثاني: أن النصوص الشرعية التي ساقها سماحة الشيخ في فتواه تبين بوضوح أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر، وهذه اللحوم كذلك ترددت بين كونها مذكاة الذكاة المبيحة فتحل وكونها غير مذكاة فلا تحل فيغلب جانب التحريم، وكما قرر ذلك كبار الأئمة الذين ساق الشيخ أقوالهم في الفتوى. الوجه الثالث: أن هذه الكميات الهائلة التي تمتلئ بها الأسواق العالمية من الدجاج وغيره يستبعد أن تأتي الذكاة الشرعية بشروطها ¬

(¬1). معالم السنن (4/ 291). (¬2). انتهى المقصود من فتوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد.

على أفرادها كلها لأنها تذبح وتعلب آليًّا. الوجه الرابع: أن الإلحاد والتحلل من العهد الديني والأحكام الشرعية قد غلب على الناس في هذا الزمان، وقلَّت الأمانة والصدق فلا يعتمد على أقوال هؤلاء المصدرين لهذه اللحوم، ولا على كتابتهم على ظهر أغلفتها بأنها ذكيت على الطريقة الإسلامية لا سيما وقد وجد بعض الدجاج برأسه لم يقطع شيء من رقبته كما وجدت هذه العبارة مكتوبة على أغلفة ما لا يحتاج إلى ذكاة كالسمك، مما يدل على أن هذه الكتابة إنما هي عبارة عن دعاية مكذوبة يقصد بها مجرد ترويج هذه اللحوم وابتزاز الأموال بالباطل. الوجه الخامس: أنه لم يكن لقول من أباح هذا النوع من اللحوم من مستند سوى التمسك بعموم الآية الكريمة: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وهذا العموم مخصوص بالنصوص الكثيرة كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. وبالنصوص التي تدل على أنه إذا اجتمع حظر وإباحة غلب جانب الحظر والله أعلم! ! (¬1) والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح للشيخ صالح الفوزان، ص (162 - 166).

الكلمة الثامنة والعشرون التحذير من اليمين الكاذبة

الكلمة الثامنة والعشرون التحذير من اليمين الكاذبة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد عظم الإسلام شأن اليمين، وحذر من التساهل بها؛ لأنها عهد وميثاق يجب أن يُعطى حقه، قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]. قال القرطبي: «المعنى: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فإن الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى» (¬1) أهـ. قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم]، يعني كثير الحلف، قال تعالى عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)} [المجادلة]. وقال تعالى عنهم أيضًا: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56]، فبين سبحانه في هذه الآيات أن الحلف الكاذب من صفات المنافقين (¬2). ومن أشد أنواع الأيمان الكاذبة اليمين الغموس، وهي التي ¬

(¬1). تفسير القرطبي (4/ 13). (¬2). تفسير ابن كثير (14/ 5).

تغمس صاحبها في الإثم ومن ثم في النار (¬1)، قال العلماء: هي التي يحلفها على أمر ماضٍ كاذبًا عالمًا، وعدُّوها من كبائر الذنوب. روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران]. فَجَاءَ الْأَشْعَثُ، فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالوا: كَذَا وكَذَا، قَاَل: فِيَّ أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ»، قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَليهَا يَا رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيَامَة وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» (¬2). وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك» (¬3). ¬

(¬1). النهاية في غريب الحديث (3/ 724). (¬2). صحيح البخاري برقم (2357)، وصحيح مسلم برقم (138). (¬3). برقم (137).

وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص، أن أعرابيًا جَاءَ إِلَى النَّبيِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسولَ الله: مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُم عُقُوق الوَالِدين»، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ»، قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: «الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ» (¬1). واليمين الغموس من الكبائر الموجبة للنار كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران]. جاء في فتوى اللجنة الدائمة: «اليمين الغموس من كبائر الذنوب، ولا تجدي فيها الكفارة لعظيم إثمها، ولا تجب فيها الكفارة على الصحيح من قولي العلماء، وإنما تجب فيها التوبة والاستغفار» (¬2) أهـ. «ومن الأيمان الكاذبة، اليمين التي تتخذ وسيلة لترويج السلع، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» (¬3). ومعناه: أن يحلف صاحب السلعة أنه أُعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، ¬

(¬1). برقم (6920). (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة (23/ 133). (¬3). صحيح البخاري برقم (2087)، وصحيح مسلم برقم (1606).

وهو كاذب في ذلك، وإنما يريد التغرير بالمشتري ليصدقه بموجب اليمين، فيكون هذا الحالف عاصيًا لله آخذًا للزيادة بغير حق، فيعاقبه الله بمحق البركة من كسبه، وربما يتلف الله ماله كله» (¬1). روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّه إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْر فَقَالَ: وَاللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ أُعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]» (¬2). قال الخطابي: «وخص وقت العصر لتعظيم الإثم فيه، وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤًا، فإن من تجرأ عليها فيه اعتادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر وجاء ذلك في الحديث أيضًا» (¬3). ومن القصص التي تُذكر في هذا الشأن ما حدثني به أحد المشايخ نقلًا عن أحد القضاة، يقول: تخاصم لدي رجلان كبيران في السن، ¬

(¬1). الخطب المنبرية في المناسبات العصرية للشيخ صالح الفوزان (2/ 297). (¬2). صحيح البخاري برقم 2358، وصحيح مسلم برقم 108. (¬3). فتح الباري (13/ 203).

تنازعا وليس لأحدهما بينة، فقلت للمُدعى عليه: هل تحلف أن هذا المال هو مالك؟ فقال: نعم، فذكرته بالله وأن اليمين الغموس أمرها عظيم، فأصر على موقفه، ثم حلف على ذلك، قال القاضي: وأنهيت الجلسة ثم خرجا، أما المُدعى عليه فإنه لما فتح الباب ليخرج سقط عند الباب فأسرعنا إليه، وإذا به قد فارق الحياة. أما القصة الثانية: فحدثني أحد المشايخ نقلًا عن أحد موظفي المحكمة في مدينة من مدن المملكة، يقول: جاء رجل كبير في السن يشتكي إلى القاضي رجلًا آخر أخذ منه مالًا، فقال له القاضي: هل لديك بينة؟ فقال: لا، فقال: إذًا يحلف المدعى عليه، فحلف المُدعى عليه ثم خرج من المحكمة، فجعل المدعي كبير السن يدعو عليه دعاءً عظيمًا يهز الجبال من شدته، فما هي إلا أيامًا معدودة لم تتجاوز العشرة أيام إلا ويحصل حادث للمُدعى عليه فيموت من ساعته. والقصص في هذا كثيرة، ولعل فيما ذُكر عبرة لمن تفكر. ونسأل الله تعالى ألَّا يجعل لنا عند أحد من المسلمين مظلمة، وأن يجعلنا من أوليائه وأحبابه الذين ينفعون إخوانهم المسلمين، وأن يتوفانا وهو راض عنا غير غضبان. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة التاسعة والعشرون المسارعة في الاستجابة لأمر الله ورسوله

الكلمة التاسعة والعشرون المسارعة في الاستجابة لأمر الله ورسوله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال]. في هذه الآية يأمر الله عباده المؤمنين بالاستجابة لما يدعوهم إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بامتثال ما يأمرهم والانتهاء عما ينهاهم عنه، لأنه لا يدعوهم إلا لما فيه حياة قلوبهم وأبدانهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. والاستجابة هنا هي سرعة المبادرة بالامتثال والتسليم لأمر الله ورسوله، وألا يكون عند المؤمن تردد أو إبطاء، وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وعيد عظيم لمن بلغه الحق وعرفه، فتردد في قبوله ولم يمتثل له فورًا، فهو في خطر عظيم أن يحُول الله بينه وبين قلبه، فهو يريد أن يعمل بالحق فلا يستطيع ذلك، وما حال بعض المسلمين الذين تتكرر منهم المعاصي ويستمرون عليها ولا يقلعون عنها، كالذين يحلقون لحاهم، أو يشربون الدخان، أو يسبلون ثيابهم، أو يستمعون إلى الأغاني .. أو غيرها من المعاصي، إلا لعدم امتثالهم لهذه الآية الكريمة، فقد بلغهم الأمر والنهي، ودُعوا إلى الخير فلم يستجيبوا، وقد ذكر -عز وجل- هذا المعنى في آية

فمن ذلك ما حصل

أخرى متطابقة تمامًا مع هذه الآية، فقال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام]. فقوله تعالى: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي بسبب أنهم لم يؤمنوا به أول ما جاءهم، وهذا معنى الاستجابة في الآية السابقة، فكانت عقوبتهم {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ}، وفي الآية السابقة يقول تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}. وقد ورد في السنة المطهرة كيفية الاستجابة لله ورسوله، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد بن المعلى -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: » أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}» (¬1). وقد تضمنت الآيتان الكريمتان أن من سارع في قبول الحق عند سماعه سعد ونجا، ومن لم يستجب خسر وهلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لكلا الفريقين. فمن ذلك ما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أُسري به إلى السماء، وكذبته قريش، فكيف أُسري به من مكة إلى الشام ثم إلى السماء وعاد في ليلة واحدة، وهم يذهبون ويعودون في مدة شهرين؟ أما أبو بكر -رضي الله عنه- فعندما أُخبر الخبر صدَّقه دون تردد. فقد روى الحاكم في المستدرك من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: ¬

(¬1). جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (4474).

المثال الثاني: قصة جليبيب

«لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ ممَنْ كَانوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وسَعَى رِجَالٌ مَن المُشْرِكين إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه-، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه-» (¬1). قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: «إن سبب تسمية أبي بكر -رضي الله عنه- بالصديق، إنما هو سبقه الناس إلى تصديقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إتيانه لبيت المقدس من مكة، ورجوعه منه إلى منزله بمكة في تلك الليلة، وإن كان المؤمنون يشهدون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك إذا وقفوا عليه» (¬2). المثال الثاني: قصة جليبيب: روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا، فَقَالَ: ¬

(¬1). مستدرك الحاكم (4/ 25) برقم (4515)، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فإن محمد بن كثير الصنعاني صدوق ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم (306). (¬2). شرح مشكل الآثار (3/ 393).

رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: «زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ»، فَقَالَ: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّه، وَنُعْمَ عَيْنِي. فَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي» قَالَ: فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «لِجُلَيْبِيبٍ» قَالَ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أُشَاوِرُ أُمَّهَا. فَأَتَى أُمَّهَا، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ ابْنَتَكِ. فَقَالَتْ: نِعِمَّ وَنُعْمَةُ عَيْنِي. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ، إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ، فَقَالَتْ: أَجُلَيْبِيبٌ إنِيهِ؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنِيهِ؟ أَجُلَيْبِيبٌ إنِيهِ؟ لَا لَعَمْرُ اللَّه، لَا نُزَوَّجُهُ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لِيُخْبِرَهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا، قَالَتِ الْجَارِيَةُ: مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ؟ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا. فَقَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَهُ، ادْفَعُونِي، فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي. فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: شَأْنُكَ بِهَا. فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا. قَالَ: فَخَرَجَ رَسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ لَهُ، قَالَ: فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ » قَالُوا: نَفْقِدُ فُلَانًا، وَنَفْقِدُ فُلَانًا. قَالَ: «انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ » قَالُوا: لَا. قَالَ: «لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا» قَالَ: «فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى». قَالَ: فَطَلَبُوهُ، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سَاعِدَيْهِ، وَحَفَرَ لَهُ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ. قَالَ ثَابِتٌ: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا. وَحَدَّثَ

إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ثَابِتًا، قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ مَا دَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا، وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا». قَالَ: فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا (¬1). ومن الأمثلة على خسارة من لم يستجب للحق، ويمتثل لأمر الله ورسوله: المثال الأول: قال القرطبي: ورُوي أن الزيال بن حرملة قال: ] قال جابر بن عبد الله [: قال الملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلًا عالمًا بالشعر والكهانة والسحر فكلَّمه ثم أتانا ببيان من أمره؛ فقال عتبة بن ربيعة: والله، لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علمًا لا يخفى عليَّ إن كان كذلك، فقالوا: ائته فحدثه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا محمد، أنت خيرٌ أم قصي بن كلاب؟ أنت خيرٌ أم هاشم؟ أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ أنت خيرٌ أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا، وتُضلل آباءنا، وتُسفه أحلامنا، وتذم ديننا؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًّا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا ¬

(¬1). مسند الإمام أحمد (33/ 29) برقم (19784)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم برقم (2472).

في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساكت، فلما فرغ قال: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ » قال: نعم، قال: «اسْمَعْ»: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} [فصلت]. فوثب عتبة ووضع يده على فم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وناشده الله والرحم ليسكُتَنَّ، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش؛ فجاءه أبو جهل فقال: أصبوت إلى محمد؟ أم أعجبك طعامه؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدًا أبدًا، ثم قال: والله، لقد تعلمون أني من أكثر قريش مالًا، ولكني لما قصصت عليه القصة أجابني بشيء -والله- ما هو بشعر ولا

كهانة ولا سحر؛ ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فوالله، لقد خفت أن ينزل بكم العذاب؛ يعني الصاعقة» (¬1). فهذه القصة تدل على أن عتبة عرف أن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - الحق، لكنه استكبر عن قبوله وأعرض عنه، فقُتل يوم بدرٍ كافرًا، نعوذ بالله من خاتمة السوء. المثال الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلًا أكل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشماله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ»، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ (¬2). فهذا الرجل تكبر على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت عاقبته أن شُلت يده. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). سيرة ابن هشام (1/ 321 - 322) قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: هذه القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي (1/ 185) من سيرة ابن هشام، بسند حسن عن محمد ابن كعب القرظي مرسلًا، ووصله عبد بن حميد وأبو يعلى البغوي من طريق أخرى من حديث جابر -رضي الله عنه- كما في تفسير ابن كثير -رحمه الله- (4/ 9 - 91) وسنده حسن إن شاء الله .. فقه السيرة النبوية للشيخ محمد الغزالي، تحقيق: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، ص 113. (¬2). برقم (2021).

الكلمة الثلاثون من آداب القرآن

الكلمة الثلاثون من آداب القرآن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد ذكر أهل العلم آدابًا لقراءة القرآن ينبغي تعلمها وتطبيقها لأنها مستمدة من الوحيين: الكتاب والسنة. والمقصود بالآداب، ما يجب فعله أو يستحب عند التلاوة أو قبلها، فمن ذلك: «1 - الإخلاص للَّه في قراءته، وأن يريد بها وجه الله، وألا يقصد بها توصلًا إلى شيء سوى ذلك، وأن يتأدب مع القرآن، ويستحضر في ذهنه أنه يناجي الله سبحانه وتعالى، ويتلو كتابه، فيقرأ على حال من يرى الله تعالى، فإنه إن لم يره، فإن الله تعالى يراه» (¬1)، قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} [يونس]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

(¬1). الأذكار للنووي -رحمه الله- ص 196.

عَلَيْهِ ... وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ ، قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (¬1). 2 - العمل بالقرآن: روى البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- في حديث رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وجاء فيه: «أَتَانِي مَلَكَانِ فقَالاَ: انْطلِقْ، انْطلِقْ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فقَالاَ: هَذَاَ رجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (¬2). وفي الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» (¬3). 3 - تدبر القرآن عند قراءته أو استماعه: قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]. قال النووي -رحمه الله-: «ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تُحصر، وأشهر ¬

(¬1). برقم (1905). (¬2). برقم (1386). (¬3). برقم (223).

من أن تُذكر، وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم آية واحدة ليلة كاملة، أو معظم ليلة يتدبرها» (¬1). وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فرددها حتى أصبح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة] (¬2). 4 - الحث على مراجعة الحفظ وتعاهده: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِ مُحَمَّد بِيَدِهِ، لَهُو أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ في عُقُلِهَا» (¬3). 5 - يُشرع تلاوته قائمًا وماشيًا ومضطجعًا وراكبًا لحديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن (¬4). 6 - الطهارة من الحدث قبل القراءة أو مس المصحف لحديث: «إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا عَلَى طُهْرٍ (¬5)، أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَةٍ». ¬

(¬1). الأذكار للنووي -رحمه الله- ص 197 بتصرف. (¬2). (35/ 310) برقم (21388)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3). صحيح البخاري برقم (5033)، وصحيح مسلم برقم (791) واللفظ له. (¬4). صحيح البخاري برقم (297)، وصحيح مسلم برقم (301). (¬5). جزء من حديث في سنن أبي داود برقم (17)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 6) برقم (13).

7 - التسوك قبل تلاوة القرآن للحديث الذي رواه البزار في مسنده من طريق علي -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ، فَتَسَمَّعَ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُو مِنْهُ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلا صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ، فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ» (¬1). قال النووي -رحمه الله-: «وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فمه بالسواك وغيره، والاختيار في السواك أن يكون بعود الأراك ويجوز بغيره من العيدان، وبالسعد والأشنان والخرقة الخشنة .. وغير ذلك مما ينظف» (¬2). 8 - الاستعاذة قبل التلاوة، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل]. والبسملة إذا كانت القراءة من أول السورة عدا سورة التوبة. 9 - الترتيل عند القراءة لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» (¬3). 10 - الإمساك عن القراءة عند غلبة النعاس لقوله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ، فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمْ يَدْرِ ¬

(¬1). مسند البحر الزخار (2/ 214)، قال الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة ص (215): إسناده جيد رجاله رجال البخاري، وفي العقيل بن سليمان كلام لا يضر، وقال: فظاهره أنه موقوف ويحتمل أنه مرفوع. (¬2). الأذكار للنووي -رحمه الله- ص (196 - 197). (¬3). سنن أبي داود برقم (1468)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 275) برقم (1303).

مَا يَقُولُ فَلْيَضْطَجِعْ» (¬1). 11 - الخشوع عند سماعه وتلاوته، وعليه أن يجتنب الضحك، واللغط، والحديث خلال القراءة إلا كلامًا يضطر إليه، ومن التساهل الذي ابْتُلِيَ به بعض الناس، أن الإمام يقرأ القرآن في الصلاة وبعض الجوالات التي بها نغمات الموسيقى يتصل أصحابها، فيجتمع كلام الرحمن ومزمار الشيطان في آن واحد، وفي هذا انتهاك لحرمات المساجد، وقلة تعظيم لشعائر الله، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف]، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج]. ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: «نَعَمْ». فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء]، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ»، فَالتَفَتُ إِليهِ، فَإِذَاَ عَيْنَاهُ تَذْرِفَان (¬2). 12 - ينبغي أن يحافظ على تلاوته ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، وقد كانت للسلف -رضي الله عنهم- عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه، فمنهم من يختم في شهر، ومنهم في عشر ليال، ومنهم في أسبوع، ومنهم في ثلاث ليال، وقد ورد النهي في ختمه أقل من ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (787). (¬2). صحيح البخاري برقم (5050)، وصحيح مسلم برقم (800).

ثلاث؛ وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: «اقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِ شَهْرٍ»، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: «فِي ثَلاثٍ» (¬1). قال ابن قدامة: «ويكره أن يؤخر ختمة القرآن أكثر من أربعين يومًا» (¬2)، وقال القرطبي: «والأربعون مدة الضعفاء، وأولي الأشغال» (¬3). قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: «أكثر ما سمعت أن يختم القرآن في أربعين؛ ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضي إلى نسيان القرآن والتهاون به، فكان ما ذكرنا أولى» (¬4). وليحذر من هجر القرآن، قال تعالى عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان]. قال ابن القيم -رحمه الله-: وهجر القرآن على أنواع: «الأول: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه. الثاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (1978)، وصحيح مسلم برقم (1159). (¬2). المغني (2/ 611). (¬3). التذكار في أفضل الأذكار (84). (¬4). المغني لابن قدامة (2/ 611 - 612).

الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} وإن كان بعض الهجر أهون من بعض» (¬1). 13 - يشرع الإسرار بالقرآن والجهر به، وقد وردت الأحاديث بفضيلة رفع الصوت بالقرآن، وأخرى بفضيلة الإسرار، قال العلماء والجمع بينهما: «أن الإسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف الرياء فالجهر أفضل، بشرط أن لا يؤذي غيره من مصل، أو نائم، أو غيرهما، ودليل فضيلة الجهر: أن العمل فيه أكثر، ولأنه يتعدى نفعه إلى غيره، ولأنه يوقظ قلب القاري، ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه، ولأنه يطرد النوم، ويزيد في النشاط، ويوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه، فمتى حضره شيء من هذه النيات، فالجهر أفضل» (¬2). 14 - ومن أهم ما يؤمر به أن يحذر كل الحذر من اتخاذ القرآن معيشة يكتسب بها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن، قال: «اقْرَؤوا الْقُرْآنَ، وَابْتَغُوا بِهِ اللَّهَ مِنْ قَبْلِ ¬

(¬1). الفوائد ص (110 - 111). (¬2). الأذكار للنووي -رحمه الله- ص 199.

أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَهُ إِقَامَةَ الْقِدْحِ، يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ» (¬1). معناه: يتعجلون أجره أي يطلبون بقراءته العاجلة من عرض الدنيا والرفعة فيها، ولا يتأجلونه: أي لا يريدون منه الآجلة وهو جزاء الآخرة، فمن أراد بها الدنيا فهو متعجل، وإن ترسل في قراءته، ومن أراد بها الآخرة فهو متأجل وإن سرد في قراءته بعد إعطاء الحروف حقها، وهذه معجزة لوقوع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام (¬2). 15 - لا ينبغي أن يقول المسلم: نسيت آية كذا، ولكن يقول أُنسيت، لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). (23/ 144) برقم (14855)، وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2). التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص (56). (¬3). صحيح البخاري برقم (5038)، وصحيح مسلم برقم (788).

الكلمة الواحدة والثلاثون من آداب المساجد

الكلمة الواحدة والثلاثون من آداب المساجد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد ذكر أهل العلم آدابًا للمساجد، وهذه الآداب مستمدة من الوحيين الكتاب والسنة، والمقصود بالآداب الأوامر والنواهي والمستحبات التي تفعل عند دخول المساجد أو قبل ذلك، وهي كثيرة أكتفي ببعضها: 1 - استحباب لبس الثياب الحسنة واستعمال السواك عند الذهاب إلى المسجد، قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (¬1). وبعض الناس يأتي إلى المسجد بثياب النوم أو البيجامات أو ملابس العمل، وقد تكون متسخة وبها روائح كريهة تؤذي المصلين والسبب يعود إلى الكسل، فيتكاسل عن تغييرها، بينما لو أراد أن يزور مسؤولًا أو رجلًا له مكانته لاستعد لذلك، فرب العالمين أولى بالتجمل، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (887)، وصحيح مسلم برقم (252) واللفظ له.

الْقُلُوبِ (32)} [الحج]. روى أبو داود في سننه من حديث محمد بن يحيى بن حبان -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ، أَوْ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدْتُمْ، أَنْ يَتَّخِذ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ» (¬1). 2 - النهي عن حضور المساجد لمن أكل الثوم أو البصل ونحوهما، ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» (¬2). والثوم والكراث ليسا محرمين، ولكن نُهي عنهما لرائحتهما التي تؤذي المصلين، وعليه فإن النهي يكون أشد لمن يتعاطى الدخان ونحوه. 3 - يستحب المشي إلى المساجد لما روى مسلم في صحيحه من حديث أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فتوجعنا له، فقلت له: يا فلان! لو أنك اشتريت حمارًا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض! قال: أَمَ والله! ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: فحملت به حملًا حتى أتيت ¬

(¬1). سنن أبي داود برقم (1078)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 201) برقم (953). (¬2). صحيح البخاري برقم (855)، وصحيح مسلم برقم (564) واللفظ له.

نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لك ما احتسبت» (¬1)، وفي رواية: «قد جمع اللَّه لك ذلك كله» (¬2). وروى أبو داود في سننه من حديث أوس الثقفي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا» (¬3). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّه بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ » قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» (¬4). 4 - يستحب التبكير إلى المساجد لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» (¬5). ¬

(¬1). برقم (663). (¬2). برقم (663). (¬3). سنن أبي داود برقم (345)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 70) برقم (333). (¬4). برقم 251. (¬5). صحيح البخاري برقم (615)، وصحيح مسلم برقم (437).

5 - المشي إلى الصلاة بخشوع وسكينة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» (¬1). 6 - ذكر الدعاء المأثور الوارد في ذلك عند الذهاب إلى المسجد، فيذكر الدعاء الوارد عند الخروج من المنزل ثم يضيف إليه هذا الدعاء الذي رواه مسلم في صحيحه في قصة مبيت ابن عباس عند خالته ميمونة، وذكر تهجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأذن المؤذن يعني للصبح، فخرج إلى الصلاة وهو يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا» (¬2). قال العلماء: سأل النور في أعضائه وجهاته، والمراد به بيان الحق وضيائه والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجملته في جهاته الست حتى لا يزيغ شيء منها عنه (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (636)، وصحيح مسلم برقم (602). (¬2). برقم (763). (¬3). شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 287)، وذكر النووي في كتاب الأذكار حديث بلال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا ... إلى آخر الحديث، ثم قال: أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث.

7 - ورد النهي عن تشبيك الأصابع وذلك في أربع مواضع: الأول: النهي عن تشبيك الأصابع عند الذهاب إلى المسجد، فقد روى أبو داود في سننه من حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» (¬1). الثاني: إذا كان في المسجد ينتظر الصلاة، روى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي صَلاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلا يَقُلْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» (¬2). الثالث: النهي عن التشبيك فرضًا أو نفلًا في الصلاة، وهو من باب أولى للأحاديث السابقة وغيرها. الرابع: بعد صلاة الفريضة لعموم الأحاديث السابقة. وإنما يجوز للحاجة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ذي اليدين، فقد شبك بين أصابعه بعد الصلاة، وأجازه بعضهم مطلقًا. ¬

(¬1). برقم (562)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 112) برقم (526). (¬2). صحيح ابن خزيمة (1/ 229) برقم 447، ومستدرك الحاكم (1/ 458) برقم 772، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم (1294).

8 - عند دخوله إلى المسجد يقول الأدعية الواردة في ذلك، روى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه من حديث أبي حميد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ» (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجد قال: «أَعُوذُ بِاللَّه الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ... فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم» (¬2). 9 - ويستحب له أن يتابع المؤذن فيقول مثل ما يقول إلا في قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يقول عند كل لفظة منها: لا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث: «فَإِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬3). ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (713)، وسنن أبي داود برقم (465). (¬2). سنن أبي داود برقم (466)، قال النووي -رحمه الله- في كتابه الأذكار ص (78): رواه أبو داود بإسناد جيد. (¬3). صحيح مسلم برقم (385).

ويقول بعد الشهادتين ما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللَّه رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ» (¬1). ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّه وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، وَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» (¬2). ثم يسأل الله له الوسيلة، فيقول ما جاء في حديث جابر ابن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬3). ويشرع له الدعاء بين الأذان والإقامة لما روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رجلًا قال: يا رسول الله، ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (386)، وفي رواية من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد، كما في صحيح مسلم، قال النووي -رحمه الله-: وفيه أنه يستحب أن يقول بعد قوله: وأنا أشهد أن محمدًا رسول الله، رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا، شرح صحيح مسلم (4/ 309). (¬2). برقم (384). (¬3). صحيح البخاري برقم (614).

إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قُلْ كَمَا يَقُولُونَ، فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ» (¬1). 10 - يستحب الإكثار في المسجد من ذكر الله تعالى، بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير وغيرها من الأذكار، وكذلك الإكثار من قراءة القرآن، ومن المستحب فيه قراءة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلم الفقه، وسائر العلوم الشرعية، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور]. روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» (¬2). وفي رواية أخرى: «إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» (¬3). ويجتنب اللغو واللغط، والخوض في أعراض الناس، وكثرة الحديث في أمور الدنيا مما يقسي القلب، ويبعد عن الله. 11 - إذا دخل المسجد يصلي ركعتين، وهما تحية المسجد لما روى البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة السلمي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ» (¬4). ¬

(¬1). سنن أبي داود برقم (524)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 106) برقم 492. (¬2). برقم (569). (¬3). صحيح مسلم برقم (285). (¬4). صحيح البخاري برقم (444)، وصحيح مسلم برقم (714).

تنبيه

12 - النهي عن البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد، لما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهاَ اللَّه عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّه تِجَارَتَكَ» (¬2). ويلحق بذلك سؤال الناس أموالهم في المساجد، وإشغالهم عن التسبيح والتكبير والتهليل والذكر عمومًا بحجة الفقر والحاجة. 13 - النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لضرورة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الشعثاء قال: «كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة -رضي الله عنه- فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم» (¬3). تنبيه: قال النووي -رحمه الله-: «وينبغي للجالس فيه أن يأمر بما يراه من المعروف، وينهى عما يراه من المنكر، وهذا وإن كان الإنسان ¬

(¬1). برقم (568). (¬2). برقم (1321)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 34) برقم (1066). (¬3). برقم (655).

مأمورًا به في غير المسجد، إلا أنه يتأكد القول به في المسجد صيانة له، وإعظامًا وإجلالًا واحترامًا» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). الأذكار ص 80.

الكلمة الثانية والثلاثون من آداب الاستئذان

الكلمة الثانية والثلاثون من آداب الاستئذان الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الآداب العظيمة التي شرعها الإسلام أدب الاستئذان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، قال ابن الجوزي: «لا يجوز أن يدخل بيت غيره إلا بالاستئذان لهذه الآية، يعني: يجب الاستئذان إذا أراد الدخول إلى بيت غيره، ومعنى تستأنسوا: تستأذنوا» (¬1). والاستئذان: هو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، والآداب كثيرة أكتفي ببعضها، فمن ذلك: أولًا: السنة تقديم السلام قبل الاستئذان، فيقول: السلام عليكم، أأدخل، فإن لم يجبه أحد، قال ذلك ثانيًا وثالثًا، فإن لم يجبه أحد انصرف، روى أبو داود في سننه من حديث ربعي بن خراش قال: حدثنا رجل من بني عامر، أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه: «اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ » فَسَمِعَهُ ¬

(¬1). الآداب الشرعية للحجاوي ص (212).

الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَدَخَلَ (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ» (¬2). ثانيًا: أن يقف المستأذن عن يمين أو شمال الباب حتى لا تقع عينه على شيء في الدار لا يرغب صاحبها أن يراه أحد، فإنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فقد روى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» (¬3). ثالثًا: أن يُعرِّف المستأذن بنفسه، فإذا قيل له: من أنت؟ يقول: فلان بن فلان، أو فلان المعروف بكذا، أو ما أشبه ذلك بحيث يحصل التعريف التام به، ويُكره أن يقتصر على قوله: أنا أو الخادم أو بعض المحبين. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر ابن عبد اللَّه -رضي الله عنهما- قال: استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «مَنْ هَذَا؟ » فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا، أَنَا»، وحدثني عبدالرحمن بن بشر حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد، وفي حديثهم: كَأَنَّهُ كَرِهَ ¬

(¬1). برقم (5177)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- (3/ 972 - 973) برقم (4312). (¬2). صحيح البخاري برقم (2062)، وصحيح مسلم برقم (2154). (¬3). برقم (5186)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 974) برقم (4318).

ذَلِك (¬1). وروى البخاري ومسلم في حديث الإسراء المشهور، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ صَعِدَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى الثَانيةِ وَالثَالِثَةِ وسَائِرَهُن، وَيُقَالَ فِي بَابِ كُلِ سَمَاءٍ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُول: جِبْرِيلُ، وَيُقَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمد .... » (¬2). رابعًا: ينبغي للمستأذن ألاَّ يدق الباب بعنف لما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس بن مالك أنه قال: أن أبواب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تقرع بالأظافير (¬3). خامسًا: ينبغي للرجل إذا سافر وطال سفره ألا يطرق أهله ليلًا، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمِ الْغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُق أَهْلَهُ لَيْلًا» (¬4). وفي رواية: نهى أن يطرق أهله ليلًا يتخونهم، أو يلتمس عثراتهم (¬5). قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: معنى هذه الروايات كلها أنه يُكره لمن طال سفره أن يقدم على امرأته ليلًا بغتة، فأما من كان سفره قريبًا تتوقع امرأته إتيانه ليلًا فلا بأس (¬6) أهـ. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (6250)، وصحيح مسلم برقم (2155). (¬2). صحيح البخاري برقم (349)، وصحيح مسلم برقم (162) واللفظ له. (¬3). صحيح الأدب المفرد ص (418) ورقم (824)، وصححه الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم (2092). (¬4). برقم (5244). (¬5). صحيح مسلم برقم (715). (¬6). شرح صحيح مسلم للنووي (13/ 74).

وفي عصرنا الحاضر تنتفي هذه العلة بوجود وسائل الاتصال، حيث يمكن عن طريقها معرفة قدومه. سادسًا: يحرم نظر الرجل في بيت غيره إلا بإذنه، روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَمَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» (¬2). وفي رواية للنسائي: «فَلَاَ دِيَة وَلاَ قِصَاص» (¬3). سابعًا: إذا لم يؤذن للمستأذن فليرجع، فربما كان صاحب البيت لا يستطيع الاستقبال، قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)} [النور]. ثامنًا: إذا كان المكان غير البيوت المسكونة، فإن كان للمسلم فيها متاع يحتاج إليه فقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} [النور]. مثل الأسواق والفنادق، والمحلات .. وغيرها. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5924)، وصحيح مسلم (2156). (¬2). صحيح البخاري برقم (6902)، وصحيح مسلم برقم (2158). (¬3). برقم (4860).

تاسعًا: أن من دعي أو أُرسل له رسول فإنه لا يحتاج إلى الاستئذان للحديث الذي رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ» (¬1). واستثنى بعض أهل العلم ما إذا تأخر المدعو عن الدعوة، أو كان في مكان يحتاج معه في العادة إلى الإذن فإنه يستأذن. عاشرًا: الاستئذان على المحارم من النساء كالأم، والأخت وغيرهن فلا يدخل عليهن في أماكن راحتهن وغرفهن حتى يستأذن عليهن بطرق الباب أو أي وسيلة أخرى. روى البخاري في الأدب المفرد أن رجلًا سأل حذيفة -رضي الله عنه- فقال: أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَستَأذِنْ عَليهَا رَأيْتَ مَا تَكْرَه (¬2). الحادي عشر: استئذان الأطفال: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)} [النور]. ¬

(¬1). برقم (5190)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في إرواء الغليل (1955). (¬2). صحيح الأدب المفرد برقم (810)، وحسنه الألباني -رحمه الله- في تحقيقه عليه.

قال المفسرون: «يا أيها الذين آمنوا بالله وعملوا بما شرع لهم ليطلب منكم الإذن عبيدكم وإماؤكم والأطفال الأحرار الذين لم يبلغوا سن الاحتلام ثلاث مرات في ثلاثة أوقات، وذلك في غرف النوم وأماكن الراحة: من قبل صلاة الصبح وقت إبدال ثياب النوم بثياب اليقظة، وفي وقت الظهيرة حين تضعون ثيابكم للقيلولة، وبعد صلاة العشاء لأنه وقت نومكم وخلع ثياب اليقظة ولبس ثوب النوم، هذه ثلاثة أوقات عورات لكم لا يدخلون فيها عليكم إلا بعد إذن منكم، ليس عليكم حرج في دخولهم دون استئذان، ولا عليهم هم حرج فيما عداها من الأوقات، هم كثيرو التطواف، بعضكم يطوف على بعض، فيتعذر منعهم من الدخول في كل وقت إلا بالاستئذان» (¬1). الثاني عشر: الاستئذان عند الخروج لما رواه أبو الشيخ في تاريخ أصبهان من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا زَارَ أَحَدُكُمْ أَخَاهَ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، فَلا يَقُومَنَّ حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). المختصر في التفسير بإشراف مركز تفسير للدراسات القرآنية ص (357). (¬2). تاريخ أصبهان (113)، نقلًا عن الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم (182).

الكلمة الثالثة والثلاثون آداب السلام رقم 1

الكلمة الثالثة والثلاثون آداب السلام رقم 1 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن الآداب العظيمة التي شرعها الإسلام إفشاء السلام بين المسلمين لتسود المحبة والألفة والأخوة بينهم. والسلام اسم من أسماء الله، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر]. روى البخاري في الأدب المفرد من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ السَّلامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى وَضَعَهُ فِي الأَرْضِ، فَأَفْشُوا السَّلامَ بَينَكُم» (¬1). فقوله: السلام عليك، أي: اسم الله عليك، أي أنت في حفظه كما يقال: الله معك والله يصحبك، وقيل: السلام بمعنى السلامة، أي: السلامة ملازمة لك (¬2). والسلام هو التحية التي شرعها الله لعباده، وهي تحية ¬

(¬1). الأدب المفرد للبخاري برقم (989)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في الأدب. (¬2). شرح الآداب الشرعية للحجاوي ص 195.

الملائكة، وتحية أهل الجنة، قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوه: وَرَحْمَةُ اللَّه» (¬1). وأول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة أمر الصحابة بأن يفشوا السلام، روى ابن ماجة في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُ وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (3326)، وصحيح مسلم برقم (2841). (¬2). برقم (856)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 142) برقم (697). (¬3). برقم (2485)، وقال الترمذي: حديث صحيح.

وقد وردت النصوص الكثيرة في فضل السلام والأمر بإفشائه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» (¬1). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي عمارة البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ» (¬2). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (¬3). وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» (¬4). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (12)، وصحيح مسلم برقم (39). (¬2). صحيح البخاري برقم (6235)، وصحيح مسلم برقم (2066). (¬3). برقم (53). (¬4). صحيح البخاري برقم (1240)، وصحيح مسلم برقم (2162).

ويجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم، روى أبو داود في سننه من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُجْزِي عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِي عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» (¬1). أما كيفية السلام، فيستحب أن يقول المبتدئ بالسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بصيغة الجمع وإن كان المُسَلَّم عليه واحدًا، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بواو العطف في قوله: وعليكم. روى أبو داود في سننه من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «عَشْرٌ»، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «عِشْرُونَ»، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «ثَلَاثُونَ» (¬2). وينبغي الرد على من حمل السلام، فيقال له: وعليك وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ»، قَالَتْ: قُلتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ (¬3). ¬

(¬1). برقم (5210)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 978) برقم (4342). (¬2). برقم (5195)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 976) برقم (4327). (¬3). صحيح البخاري برقم (3217)، وصحيح مسلم برقم (2447).

وروى أبو داود في سننه من حديث غالب، قال: إنا لجلوس بباب الحسن، إذ جاء رجل فقال: حدثني أبي عن جدي قال: بعثني أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائته فأقرئه السلام، قال: فأتيته فقلت: إن أبي يقرئك السلام، فقال: «عَلَيْكَ السَّلَامُ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ» (¬1). ويخفض المسلم صوته إذا سلم على من كان نائمًا فيسمع اليقظان ولا يوقظ النائم، روى مسلم في صحيحه من حديث المقداد -رضي الله عنه- قال: كنا نرفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل، فيسلم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم كما كان يسلم (¬2). وورد في السنة أن الصغير يسلم على الكبير، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» (¬3). وفي رواية للبخاري: «وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ» (¬4). ومن السنة السلام على من عرف المسلم ومن لم يعرف، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى ¬

(¬1). برقم (5231)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 982) برقم (4358). (¬2). برقم (853). (¬3). صحيح البخاري برقم (6232)، وصحيح مسلم برقم (2160). (¬4). برقم 6231.

الرَّجُلِ، لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ» (¬1). وكره الشارع ابتداء السلام بقوله: عليك، أو عليكم السلام، فقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي جُري جابر ابن سُليم -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: «لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» (¬2). وقد ورد النهي عن ابتداء الكافر بالسلام، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «لأن معنى السلام هو السلامة من الآفات، فإذا قلت لإنسان: السلام عليك، فمعنى ذلك أن تسأل الله تعالى أن يسلمه من الآفات الحسية والمعنوية، فالسلامة الحسية سلامة البدن، والعرض، والمال، والسلامة المعنوية سلامة الدين» (¬3). وهذا دعاء له، وقد نهينا عن الاستغفار للمشركين، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «لَا تَبْدَؤوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» (¬4). وإذا كتب كتابًا إلى مشرك، وكتب فيه سلامًا، فينبغي أن يكتب ما كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ¬

(¬1). (6/ 398) برقم (3848)، وقال محققوه: حديثه حسن. (¬2). جزء من حديث في سنن أبي داود برقم (4084)، وسنن الترمذي برقم (2722) وقال حديث حسن صحيح. (¬3). القول المفيد شرح كتاب التوحيد (2/ 327)، للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-. (¬4). برقم (2167).

النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» (¬1). ويشرع رد السلام على الكافر الذي ابتدأ به لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. هذا إن كان اللفظ صريحًا واضحًا بالسلام، أما إن تلاعبوا بالألفاظ بقصد السخرية والحقد، فيقال: وعليكم، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْ: وَعَلَيْكَ» (¬2). وإذا مر المسلم على جماعة فيها مسلمون وكفار، فيجوز السلام عليهم ويقصد بذلك المسلمين، ففي صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى أَخْلاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» (¬3). قال ابن حجر -رحمه الله-: «يؤخذ منه جواز السلام على المسلمين إذا كان معهم كفار، وينوي حينئذ بالسلام على المسلمين» (¬4). وإذا كان لا يجوز ابتداء الكافر بالسلام، فهل يجوز ابتداؤه بتحية غير السلام، كصباح الخير، أو أهلًا وسهلًا .. وغيرها من العبارات، الصحيح أنه يجوز ابتداؤهم بتحية غير السلام وهو اختيار ابن تيمية، والنهي الوارد إنما هو في السلام الذي معناه ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (7)، وصحيح مسلم برقم (1773). (¬2). برقم (6257)، والسام هو الموت. (¬3). برقم (4566). (¬4). فتح الباري (8/ 232).

السلامة من الآفات والرحمة والبركات، ولا يصلح هذا لغير المسلم، ولا يصافح الكافر ابتداء، لكن لو مد يده للمصافحة فيصافحه المسلم لأن النهي إنما ورد في ابتدائهم بالسلام» (¬1) ومن السنة إلقاء السلام قبل مفارقة المجلس، لما رواه الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 241). (¬2). برقم (5208)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 978) برقم (4340).

الكلمة الرابعة والثلاثون آداب السلام رقم 2

الكلمة الرابعة والثلاثون آداب السلام رقم 2 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فلا زال الحديث عن آداب السلام، فمن ذلك: أنه يشرع السلام على النساء، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها- إحدى نساء بني عبد الأشهل تقول: مر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في نسوة، فسلم علينا وقال: «إِيَّاكُنَّ وَكُفْرَ الْمُنَعَّمِينَ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا كُفْرُ الْمُنَعَّمِينَ؟ قَالَ: «لَعَلَّ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تَطُولَ أَيْمَتُهَا بَيْنَ أَبَوَيْهَا وَتَعْنُسَ، فَيَرْزُقَهَا اللَّهُ -عز وجل- زَوْجًا، وَيَرْزُقَهَا مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا، فَتَغْضَبَ الْغَضْبَةَ، فَرَاحَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ يَوْمًا خَيْرًا قَطُّ» (¬1). وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مولى أم هانئ بنت أبي طالب أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- تقول: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يغتسل، وفاطمة -رضي الله عنها- ابنته تستره، فسلمت عليه فقال: «مَنْ هَذِهِ؟ » قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ» (¬2). ¬

(¬1). (45/ 542) برقم (27561)، وقال محققوه: حديث حسن. (¬2). صحيح البخاري برقم (3171)، وصحيح مسلم برقم (336).

وروى البخاري في صحيحه من حديث سهل -رضي الله عنه- قال: «كنا نفرح يوم الجمعة، قلت لسهل: ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بُضاعة - قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في قدر، وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا، ونسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله» (¬1). وروى البيهقي في الشعب من طريق مبارك بن فضالة قال: سئل الحسن عن السلام على النساء؟ قال: لم يكن الرجال يسلمون على النساء، ولكن النساء هن من يسلمن على البعال (¬2). قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: «وتعليقًا على هذا الاثر أقول: لقد ثبت سلامه - صلى الله عليه وسلم - على النساء كما في حديث أسماء السابق، كما ثبت سلام أم هانئ عليه في الحديث السابق وهي ليست من محارمه، فهذا كله ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو الأصل، وأما الآثار فهي مختلفة فبعضها تطلق الجواز، ولا تفرق بين الشابة والعجوز فهي على الأصل، وبعضها تمنع مطلقًا، وبعضها تجيزه على العجوز دون الشابة، وبعضهم يفرق تفريقًا آخر فيمنع تسليم الرجال على النساء مطلقًا، ويجيز لهن السلام عليهم مطلقًا كما في أثر الحسن هذا، والذي يتبين لي والله أعلم البقاء على الأصل؛ ولأنه داخل في عموم الأدلة الآمرة بإفشاء السلام، مع مراعاة قاعدة «دفع المفسدة قبل جلب المصلحة» ما أمكن، وإليه جنح الحليمي فيما نقله البيهقي عنه، قال: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخشى الفتنة، ¬

(¬1). برقم 6248. (¬2). (13/ 105) برقم 8508، وقال محققه: إسناده حسن.

فلذلك سلم عليهن، فمن وثق من نفسه بالتماسك فليسلم، ومن لم يأمن نفسه فلا يسلم، فإن الحديث ربما جر بعضه بعضًا والصمت أسلم» (¬1). وأقره البيهقي ثم العسقلاني» (¬2) (¬3). ويشرع كذلك السلام على الصبيان، ففي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ (¬4). وفي رواية لمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على غلمان فسلم عليهم (¬5). ويشرع للمسلم أن يسلم إذا دخل بيتًا أن يسلم سواء كان فيه آدمي أم لا، فإن كان لغيره فليستأذن وليسلم لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]. روى الترمذي في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ تَكُن بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» (¬6). فإن لم يكن في البيت أحد فقد قال نافع: كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ¬

(¬1). (13/ 106)، طبعة وزارة الأوقاف القطرية. (¬2). فتح الباري لابن حجر -رحمه الله- (11/ 33 - 34). (¬3). صحيح الأدب المفرد ص (399) بتصرف. (¬4). صحيح البخاري برقم (6247)، وصحيح مسلم برقم (2186). (¬5). برقم (2186). (¬6). برقم (2698)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

يقول: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ» (¬1). وكان ابن عمر يذهب إلى السوق ليس له حاجة إلا السلام، روى البخاري في الأدب المفرد من حديث الطفيل بن أُبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق، لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا يسلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يومًا، فاستتبعني إلى السوق فقلت: ما تصنع بالسوق؟ وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق، فاجلس بنا هنا نتحدث، فقال لي عبد الله: يا أبا بطن! - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا (¬2). أما المصافحة فقد وردت الأحاديث بفضلها وتشرع عند كل لقاء، فقد روى أبو داود في سننه من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» (¬3). وروى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّه! الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي ¬

(¬1). الأدب المفرد للإمام البخاري ص (407) برقم (1055)، وحسن إسناده الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح الأدب، وحسنه الحافظ في فتح الباري (11/ 20). (¬2). الأدب المفرد للإمام البخاري بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص (385 - 386) برقم (1006)، وقال: حديث صحيح. (¬3). برقم (5212)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (3/ 979) برقم (4343).

لَهُ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» (¬1). وفي الحديث الآخر عن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم (¬2). أما المعانقة، فتشرع عند القدوم من السفر، أو بُعد العهد .. ونحو ذلك. سُئل الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن المعانقة (¬3) والقيام؟ فقال: أما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسًا إذا كان على التدين يحبه في الله، أرجو لحديث جعفر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتنقه وقبل بين عينيه (¬4). قال البغوي -رحمه الله-: «ويكره من المعانقة والتقبيل ما كان على ¬

(¬1). برقم (2728)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (¬2). صحيح البخاري برقم (6263). (¬3). العناق: بكسر العين، الالتزام وهو المعانقة، وقد عانقه إذا جعل يده على عنقه وضمه إلى نفسه، قاله الجوهري، الآداب الشرعية للحجاوي ص (240). (¬4). مستدرك الحاكم (3/ 529) برقم (4308) وهو مرسل، قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: هذا وقد كنت منذ بعيد لا أرى تقبيل ما بين العينين لضعف حديث جعفر هذا بسبب الإرسال، وعدم وقوفي على شاهد معتبر له، فلما طبع المعجم الكبير ووقفت فيه على إسناده من طريق أنس بن سليم، وعلى ترجمته عند ابن عساكر وتبين لي أنه شاهد قوي للحديث المرسل، رأيت أنه من الواجب علي نشره في هذه السلسلة أداء للأمانة العلمية، ولعلمي أن الكثيرين من أمثالي لم تقع أعينهم عليه فضلًا عن غيرهم، فأحببت لهم أن يكونوا على بصيرة منه، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، السلسلة الصحيحة (6/ 338) برقم (2657).

وجه الملَقِ والتعظيم، وفي الحضر. فأما المأذون فيه، فعند التوديع وعند القدوم من السفر، وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله. ومَنْ قَبَّل، فلا يقبل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة، وإنما كره ذلك في الحضر، فيما يُرى؛ لأنه يكثر، ولا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض، وجد عليه الذين تركهم وظنوا أنه قد قصر بحقوقهم، وآثر عليهم، وتمام التحية المصافحة» (¬1). وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي: سألت أبا عبد الله قلت: ترى أن يقبل الرجل رأس الرجل أو يده؟ قال: نعم (¬2). روى أبو داود في سننه من حديث زارع -رضي الله عنه- وكان في وفد عبدالقيس قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وأما تقبيل الأطفال أو المحارم من النساء على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فقد وردت الأدلة بجوازه. روى أبو داود في سننه من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا- وَقَالَ ¬

(¬1). شرح السنة للبغوي (12/ 293). (¬2). الآداب الشرعية للحجاوي ص (239). (¬3). برقم (5225)، وقال الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (3/ 981) برقم (4353): حسن دون ذكر الرجل الواردة في بعض روايات الحديث.

الْحَسَنُ (¬1): حَدِيثًا وَكَلَامًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسَنُ السَّمْتَ وَالْهَدْيَ وَالدَّلَّ بِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَاطِمَةَ -رضي الله عنها-، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا» (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث البراء -رضي الله عنه- قال: فدخلت مع أبي بكر -رضي الله عنه- على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها فقبل خدها وقال: كيف أنت يا بنية (¬3). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «وكان دخول البراء على أهل أبي بكر قبل أن ينزل الحجاب قطعًا، وأيضًا فكان حينئذ دون البلوغ وكذلك عائشة» (¬4). أما مصافحة النساء غير المحارم، فقد ورد النهي عن ذلك، فروى الطبراني في المعجم الكبير من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ رَجُلٍ بِمِخْيَطٍ (¬5) مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ تَمَسَّهُ امْرَأَةٌ لا تَحِلُّ لَهُ» (¬6). وقبَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وعنده الأقرع بن حابس ¬

(¬1). أحد رواة الحديث. (¬2). برقم (5217)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (3/ 979) برقم (4347). (¬3). برقم (3918). (¬4). فتح الباري (7/ 256). (¬5). المخيط: هو ما يخاط به كالإبرة والمسلة ونحوهما. (¬6). معجم الطبراني الكبير (20/ 210) برقم (786)، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- في غاية المرام برقم (196).

التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحدًا، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» (¬1). وقال ثابت عن أنس -رضي الله عنه-: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبله وشمه (¬2). ولا بأس بتقبيل وجه الميت، ففي صحيح البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الطويل في وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: «دَخَلَ أَبُو بَكر -رضي الله عنه-، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى» (¬3). وقد ورد النهي عن السلام بالإشارة، فقد روى الترمذي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5997)، وصحيح مسلم برقم (2318). (¬2). صحيح البخاري، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته. (¬3). برقم (1241 - 1242). (¬4). برقم (2695)، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن الترمذي (2/ 346) برقم (2168).

الكلمة الخامسة والثلاثون آداب السلام رقم 3

الكلمة الخامسة والثلاثون آداب السلام رقم 3 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فمن آداب السلام، أنه يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيرًا، أو شك في سماع المُسلَّم عليه، روى البخاري في صحيحه من حديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ كَانَ «إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا، حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا» (¬1). قال النووي -رحمه الله-: «يشرع تكراره إذا كان الجمع كثيرًا ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب» (¬2). قال ابن حجر -رحمه الله-: «وكذا لو سلم وظن أنه لم يُسمع فتسن الإعادة، فيعيد مرة ثانية، وثالثة، ولا يزيد على الثالثة» (¬3). ويشرع السلام على المصلي بصوت لا يشوش على المصلين، فقد روى أبو داود في سننه من حديث صهيب -رضي الله عنه- أنه قال: «مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ إِلَيَّ إِشَارَةً، قَالَ: ولاَ ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (95). (¬2). فتح الباري (11/ 27). (¬3). فتح الباري (11/ 27).

أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: إِشَارَةً بِأُصْبُعِهِ»، وهذا لفظ حديث قتيبة (¬1). وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي. قال: فقلت لبلال -رضي الله عنه-: كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قَالَ: يَقُولُ هَكَذَا، وَبَسَطَ كَفَّهُ، وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ كَفَّهُ، وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ» (¬2). ففي حديث صهيب أشار بأصبعه، وفي حديث ابن عمر أشار باليد، قال العلامة محمد شمس الحق العظيم آبادي في شرحه على سنن أبي داود: «ويجمع بين هذه الروايات بأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله هذا مرة وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزًا، والله أعلم» (¬3). ومن المواضع التي لا يُشرع فيها رد السلام إذا كان المُسلَّم عليه مشتغلًا بقضاء الحاجة، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبُولُ، فَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ (¬4). ومنها أنه لا يشرع السلام على المصلين يوم الجمعة والإمام ¬

(¬1). برقم (925)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 174) برقم (818). (¬2). برقم (927)، وذكره الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 174) برقم (820) وقال: حسن صحيح. (¬3). عون المعبود شرح سنن أبي داود (3/ 138) بتصرف. (¬4). برقم (370).

يخطب، سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء يقول السائل: ما حكم من دخل المسجد والإمام يخطب بالمصلين فسلم على الحاضرين، هل يرد الجماعة عليه التحية؟ الجواب: لا يجوز لمن دخل والإمام يخطب يوم الجمعة إذا كان يسمع الخطبة أن يبدأ بالسلام على من في المسجد، وليس لمن في المسجد أن يرد عليه والإمام يخطب، لكن إذا رد عليه بالإشارة جاز، ولا يجوز له أن يطلب من أحد أن يجلس، ولا أن يطلب من المتكلم أن يسكت إذا كان يسمع الخطبة، والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» (¬1) (¬2). وجاء في الفتوى الثانية، سائل يقول: الرجل يكون منصتًا لخطبة الجمعة ثم يفاجأ بأحد المجاورين له في المسجد يمد يده للمصافحة والإمام يخطب، فهل يتركه أو يصافحه؟ الجواب: يصافحه بيده ولا يتكلم، ويرد عليه السلام بعد انتهاء الخطيب من الخطبة الأولى إذا سلم عليه والإمام يخطب الخطبة الأولى، وإن سلم والإمام يخطب الخطبة الثانية فأنت تسلم عليه بعد انتهاء الخطيب من الثانية (¬3). ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم تحية المسجد قبل ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (934)، وصحيح مسلم برقم (851). (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (8/ 243 - 244) برقم (5137). (¬3). فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (8/ 246) برقم (3774).

هل يشرع السلام على أهل المعاصي والبدع؟

السلام، قال ابن القيم -رحمه الله-: «ومن هديه - صلى الله عليه وسلم - يبتدئ بركعتين تحية المسجد، ثم يجيء فيسلم على القوم، فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله، فإن تلك حق الله تعالى، والسلام على الخلق هو حق لهم، وحق الله في مثل هذا أحق بالتقديم بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها نزاعًا معروفًا، والفرق بينهما حاجة الآدمي، وعدم اتساع الحق المالي لأداء الحقين، بخلاف السلام. وكانت عادة القوم معه هكذا، يدخل أحدهم المسجد فيصلي ركعتين، ثم يجيء فيسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا جاء في حديث رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد يومًا -قال رفاعة: ونحن معه، إذ جاء رجل كالبدوي فصلى، فأخف صلاته، ثم انصرف فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَيْكَ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» (¬1). وذكر الحديث. فأنكر عليه صلاته، ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما بعد الصلاة» (¬2). هل يشرع السلام على أهل المعاصي والبدع؟ قال النووي -رحمه الله-: «وأما المبتدع ومن اقترف ذنبًا عظيمًا ولم يتب، فينبغي ألا يُسلَّم عليهم ولا يرد عليهم السلام، كذا قاله البخاري وغيره من العلماء» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (757)، وصحيح مسلم برقم (397). (¬2). زاد المعاد لابن القيم -رحمه الله- (2/ 377 - 378). (¬3). الأذكار للنووي -رحمه الله- ص 419.

واحتج الإمام أبو عبد الله البخاري في صحيحه في هذه المسألة بما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم في قصة كعب بن مالك -رضي الله عنه- حين تخلف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له، قال: ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا، قال: «وكُنتَ آتِي رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ » (¬1). قال البخاري -رحمه الله-: «وقال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: لا تسلموا على شربة الخمر» (¬2). وذكر الشيخ تقي الدين في فتاويه: «أنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي-يعني تارك الصلاة - ولا يجيب دعوته» (¬3). قال النووي -رحمه الله-: «فإن اضطر إلى السلام على الظلمة بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يُسَلِّمْ .. سلَّم عليهم، قال الإمام أبو بكر ابن العربي، قال العلماء: يسلم وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، المعنى: الله عليكم رقيب» (¬4). وإن حيَّى المسلم صاحبه بغير السلام كقوله: أسعد الله صباحك أو مساءك .. أو غير ذلك من العبارات ففيه تفصيل. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (4418)، وصحيح مسلم برقم (769). (¬2). صحيح البخاري كتاب الاستئذان باب من لم يسلم على من اقترف ذنبًا ولم يرد سلامه حتى تبين توبته. (¬3). الآداب الشرعية للحجاوي ص 191. (¬4). الأذكار للنووي -رحمه الله- ص 419.

قال الإمام أحمد -رحمه الله- لصدقة وهم في جنازة: يا أبا محمد! كيف أمسيت؟ فقال: مسَّاكَ الله بالخير. وقال أيضًا للمروذي: كيف أصبحت يا أبا بكر؟ فقال له: صبَّحَكَ الله بخير يا أبا عبد الله (¬1). وإن قال (مرحبًا) فلا حرج، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما قدم وفد عبد القيس على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى» (¬2). ولكن ينبغي أن تكون التحية بعد السلام؛ لأن السلام تحية المسلمين. أما إذا كانت العبارة من تحية أهل الجاهلية كقوله أنعم صباحًا أو أطال الله بقاءك، أو أمتع الله بك .. أو غيرها من العبارات فلا ينبغي التشبه بهم. ويشرع السلام على الأصم والأبكم، ويجمع بين اللفظ والإشارة في السلام. أما الموتى فإنه يشرع السلام عليهم، لما روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله! كيف أقول لهم - أي: عند زيارة القبور - قال: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّه الْمُسْتَقْدِمِينَ ¬

(¬1). الآداب الشرعية للحجاوي ص (209 - 210) بتصرف. (¬2). صحيح البخاري برقم (5708).

مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» (¬1). فائدة: روى البخاري في صحيحه تعليقًا: أن عمارًا -رضي الله عنه- قال: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان، الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعَالَم، والإنفاق من الإقتار» (¬2). قال النووي -رحمه الله-: «وقد جمع في هذه الكلمات الثلاث خيرات الآخرة والدنيا، فإن الإنصاف يقتضي أن يؤدي إلى الله تعالى جميع حقوقه وما أُمر به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدي إلى الناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن ينصف أيضًا نفسه فلا يوقعها في قبيح أصلًا. وأما بذل السلام للعالم - فمعناه لجميع الناس- فيتضمن ألاَّ يتكبر على أحدٍ، وألاَّ يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع بسببه من السلام عليه. وأما الإنفاق من الإقتار، فيقتضي كمال الوثوق بالله تعالى والتوكل عليه والشفقة على المسلمين ... وغير ذلك، نسأل الله الكريم التوفيق للجميع» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). برقم (974). (¬2). صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب إفشاء السلام من الإسلام. (¬3). الأذكار للنووي ص (398 - 399).

الكلمة السادسة والثلاثون صلاة التطوع

الكلمة السادسة والثلاثون صلاة التطوع الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الصلاة من أفضل الطاعات وأجل العبادات، روى ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» (¬1). وقد شرع الله لعبادة صلاة التطوع لتكمل الفرائض، وتجبر نقصها، ورفعة في الدرجات، وتكفيرًا للخطايا والسيئات، وسببًا لمحبة الله، روى أبو داود في سننه من حديث تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلاةُ، قَالَ: يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لِمَلائِكَتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ: انْظُرُوا فِي صَلاةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا، أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً، كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَتِ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ، قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكُمْ» (¬2). ¬

(¬1). برقم (277)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 51) برقم (224). (¬2). برقم (864)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 163 - 164) برقم (770).

وروى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان -رضي الله عنه- مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّه سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بها خَطِيئَةً» (¬1). والتطوع يجلب محبة الله، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالى قَال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» (¬2). الحديث. قال الفاكهاني: «معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرها، أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى» (¬3). وقال ابن حجر -رحمه الله-: «وفي الحديث عظم قدر الصلاة، فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها، وذلك لأنها محل المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وربه، ولا شيء أقر لعين العبد منها، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه النسائي بسند صحيح: «وَجُعلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (¬4)، ومن كانت قرة عينه ¬

(¬1). برقم (488). (¬2). برقم (6502). (¬3). فتح الباري (11/ 343). (¬4). برقم (3939)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن النسائي (3/ 827) برقم (3680).

والتطوع أنواع

في شيء، فإنه يود ألاَّ يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه، وبه تطيب حياته» (¬1). والتطوع أنواع: الأول: ما يسميه العلماء فرض كفاية: إذا قام به البعض سقط عن الباقين، مثل صلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف. الثاني: رواتب الفرائض: الاثنا عشر على ما رجحه بعض أهل العلم، روى مسلم في صحيحه من حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» (¬2). وفي لفظ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّه كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» (¬3). وجاء تفسيرها في سنن الترمذي من حديث أم حبيبة الآخر: «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ» (¬4). الثالث: ما قيل أنه واجب، وإن لم يصل إلى حد الفريضة، كصلاة الوتر، وفي الحديث: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «يَا ¬

(¬1). فتح الباري (11/ 345). (¬2). برقم (728). (¬3). برقم (728). (¬4). برقم (415) وقال: حديث حسن صحيح.

أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْر» (¬1)، ولم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حضر ولا سفر. الرابع: نوافل الفرائض: 1 - أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها، لما رواه أبو داود في سننه من حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» (¬2). 2 - أربع ركعات قبل العصر، لما روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» (¬3). 3 - ركعتان قبل المغرب، للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس، وفيه: وكنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب (¬4)، ولحديث عبد الله بن مغفل في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلَّوْا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ قَالَ ¬

(¬1). سنن النسائي برقم (1676)، وصححه الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن النسائي (1/ 368) برقم 1581. (¬2). برقم (1269)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 105) برقم (489). (¬3). برقم (1271)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 236) برقم (1132). (¬4). برقم (836).

فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ» (¬1). 4 - ركعتان قبل صلاة العشاء لحديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، وَبَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ» (¬2). الخامس: صلاة الحاجة أو السبب، ومنها صلاة الاستخارة لقول جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخْيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ .... الحديث» (¬3). ومنها صلاة التوبة، لما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135]» (¬4). وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَام فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ - أَوْ أَرْبَعًا شَكَّ سَهْلٌ- يُحْسِنُ فِيهِمَا الذِّكْرَ ¬

(¬1). برقم (1183). (¬2). صحيح البخاري برقم (624). (¬3). صحيح البخاري برقم (6382). (¬4). برقم (1521)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 283) برقم 1346.

وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، غَفَرَ لَهُ» (¬1). ومنها تحية المسجد لما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» (¬2). ومنها سنة الوضوء، لما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الوُضُوء، ثُمَّ يَقُومُ فَيَركَع رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَغُفِرَ لَهُ» (¬3). السادس: التطوع المطلق في أي وقت عدا وقت النهي، ويُسن الإكثار منه لقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ »، قَالَ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (¬4). مثل صلاة الضحى، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَابْنَ آدَمَ! اكْفِنِي أَوَّلَ النَّهَارِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَكْفِكَ بِهِنَّ آخِرَ يَوْمِكَ» (¬5). قال السندي: «قوله بأربع ركعات، قيل: يحتمل أن يراد بها ¬

(¬1). برقم (27546)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬2). صحيح البخاري برقم (444)، وصحيح مسلم برقم (714). (¬3). (28/ 549 - 550) برقم (17314) وقال محققوه: حديث صحيح. (¬4). صحيح مسلم برقم (489). (¬5). (28/ 613) برقم (17390) وقال محققوه: إسناده صحيح.

فرض الصبح وركعتا الفجر، ويحتمل أن يراد بها صلاة الضحى، وهذا هو الظاهر من الحديث، وصنيع أبي داود وغيره في السنن قوله: بهن أي بجزائهن، قيل: يحتمل أن يراد كفايته من الآفات والحوادث الضارة، وأن يراد حفظه من الذنوب أو العفو عما وقع منه في ذلك اليوم، أو أعم من ذلك، والله أعلم» (¬1). وروى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن السائب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: «إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ» (¬2). فهذه الصلاة كانت بعد وقت النهي ودخول وقت الزوال، قال بعض أهل العلم إنها راتبة فريضة الظهر. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ» (¬3). قال بعض أهل العلم: ركعتين، وقال آخرون ثمان، والصحيح أنه لا حد لأكثرها؛ لأن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ» (¬4). ¬

(¬1). حاشية السندي على مسند الإمام أحمد (28/ 613). (¬2). برقم (478)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن الترمذي (1/ 147) برقم (396). (¬3). صحيح البخاري برقم (1178)، وصحيح مسلم برقم (1162). (¬4). صحيح مسلم برقم (719).

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «ولو صلى من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبل الزوال أربعين ركعة مثلًا لكان هذا كله داخلًا في صلاة الضحى» (¬1). روى ابن ماجه في سننه من حديث عاصم بن ضمرة السلولي قال: سألنا عليًّا عن تطوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، فقال: إنكم لا تطيقونه، فقلنا: أخبرنا به نأخذ منه ما استطعنا، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر يمهل حتى إذا كانت الشمس من هاهنا- يعني من قبل المشرق- بمقدارها من صلاة العصر من هاهنا- يعني من قبل المغرب- قام فصلى ركعتين، ثم يمهل حتى إذا كانت الشمس من هاهنا -يعني من قبل المشرق- مقدارها من صلاة الظهر من هاهنا قام فصلى أربعًا، وأربعًا قبل الظهر إذا زالت الشمس وركعتين بعدها، وأربعًا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، قال علي: فتلك ست عشرة ركعة تطوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وقل من يداوم عليها، قال وكيع: زاد فيه أبي: فقال حبيب بن أبي ثابت: يا أبا إسحاق ما أحب أن لي بحديثك هذا ملء مسجدك هذا ذهبًا (¬2). ومنها صلاة الليل، وتبدأ من صلاة العشاء إلى أذان الفجر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ» (¬3). ¬

(¬1). الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/ 85). (¬2). سنن ابن ماجه برقم (1161)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن ابن ماجه برقم (952)، والصحيح برقم 237. (¬3). جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (1163).

وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» (¬1). قد يقول قائل: هل تقضى هذه الرواتب إذا فاتت المسلم؟ وكذلك الوتر؟ الذي يترجح أنه من فاتته هذه الرواتب لعذر، فإنه يُسن قضاؤها، فقد ثبت في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وأبي قتادة في قصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم في السفر عن صلاة الفجر، حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راتبة الفجر أولًا ثم الفريضة ثانيًا (¬2). وكذلك أيضًا حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انشغل عن الركعتين بعد صلاة الظهر فقضاهما بعد صلاة العصر (¬3). وهذا نص في قضاء الرواتب. وأيضًا حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعًا قبل الظهر صلاهن بعدها (¬4). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنِ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ، فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (1137)، وصحيح مسلم برقم (749). (¬2). صحيح مسلم برقم (681) ورقم (311). (¬3). رواه البخاري برقم (1233)، وصحيح مسلم برقم (834 و 297). (¬4). سنن الترمذي برقم (426) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن الترمذي (1/ 134) برقم (350).

تنبيه

ذَكَرَهُ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة (¬2). تنبيه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النوافل أحيانًا في المسجد والأكثر كان يصليها في بيته، وحث ورغب أمته في ذلك فقال في الصحيحين منْ حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه-: «صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ» (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). برقم (1431)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (1/ 268) برقم (1268). (¬2). برقم 746. (¬3). صحيح البخاري برقم (731)، وصحيح مسلم برقم (781). (¬4). صحيح البخاري برقم (432)، وصحيح مسلم برقم (777).

الكلمة السابعة والثلاثون أوقات النهي عن الصلاة

الكلمة السابعة والثلاثون أوقات النهي عن الصلاة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد جاء في السنة النبوية النهي عن الصلاة في بعض الأوقات، بعضها معلومة السبب، والبعض الآخر غير معلوم، ومن هذه الأوقات ما النهي فيه مغلظًا وشديدًا، أي أن الصلاة لا تجوز فيه بحال، ومنها ما النهي فيه مخففًا، وذلك لجواز بعض الصلوات المخصوصة فيه. فأما الأوقات المغلظة، فهي ثلاثة: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وحين تكون الشمس في كبد السماء، وعند غروب الشمس حتى تغيب، فهذه الأوقات الثلاث نُهي عن الصلاة فيها نهيًا شديدًا، وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقبر فيها الموتى، وإليك الأحاديث: روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ (¬1) حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ ¬

(¬1). قائم الظهيرة: حال استواء الشمس، ومعناه: حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب، شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 354).

لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» (¬1) (¬2). وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ» (¬3). وروى مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الصلاة؟ قال: «صَلِّ صَلاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ شَيْطَانِ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنِّهُ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمَ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ شَّيْطَانِ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ» (¬4). وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - الحكم في النهي عن الصلاة في هذه ¬

(¬1). برقم (831). (¬2). قال النووي -رحمه الله- نقلًا عن القاضي عياض: المراد بالطلوع في قوله ثلاث ساعات، ارتفاعها وإشراقها، وإضاءتها لا مجرد ظهور قرصها، وهذا الذي قاله القاضي صحيح متعين لا عدول عنده للجمع بين الروايات، شرح صحيح مسلم (6/ 353). (¬3). صحيح البخاري برقم (3272)، وصحيح مسلم برقم (829). (¬4). برقم (832).

الأوقات وهي: 1 - أن الكفار الذين يعبدون الشمس من دون الله يسجدون للشمس في هذه الأوقات، وقد نهينا عن التشبه بهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬1). 2 - أن الشمس تطلع وتغرب بين قرني شيطان، قال النووي -رحمه الله-: «قيل: المراد بقرني الشيطان: ناحيتا الرأس، وأنه على ظاهره وهذا هو الأقوى، قالوا: ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذ يكون له ولبنيه تسلط ظاهر، وتمكن من أن يُلَبِّسُوا على المصلين صلاتهم، فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها، كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان» (¬2). وهذا من المغيبات التي لا تُعلم إلا بالوحي، وفيها التحذير من كل فعل أو قول يرضى به الشيطان في ظاهره، وإن كان فاعله لم ينو ذلك. 3 - أن النهي عن الصلاة إذا قام قائم الظهيرة له سبب آخر من أمور الغيب التي لا تُعلم إلا بالوحي؛ وهو أن جهنم تسجر (¬3) ¬

(¬1). سنن أبي داود برقم (4031)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هذا إسناد جيد، كما حسنه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري (6/ 98) وستأتي كلمة مفصلة في النهي عن التشبه بالكفار. (¬2). شرح صحيح مسلم (6/ 353). (¬3). أي: يوقد عليها إيقادًا بليغًا، شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 356).

في ذلك الوقت، ويزول النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، أما عند طلوع الشمس فحتى ترتفع قيد رمح (¬1)، وأما حين تكون في كبد السماء فحتى تزول الشمس ويظهر في الزوال، وأما عند غروبها فحتى يغيب حاجب الشمس وتختفي عن الأنظار. أما الأوقات التي ورد النهي فيها عن الصلاة نهيًا مخففًا، فمنها: بعد طلوع الفجر حتى إقامة الصلاة، فلا يصلى في هذا الوقت غير سنة الفجر، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ» (¬2). وكذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث يسار مولى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: رآني ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنا أصلي بعد ما طلع الفجر، فقال: يا يسار كم صليت؟ قلت: لا أدري! قال: لا دريت! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة فقال: «أَلا لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ: أَنْ لا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ إِلا سَجْدَتَان» (¬3). ¬

(¬1). أي: من طلوع قرص الشمس (قيد رمح) يعني قيد رمح برأي العين، هذا هو الوقت الثاني، فإذا طلعت الشمس فانظر إليها، فإذا ارتفعت قيد رمح، يعني قيد متر تقريبًا في رأي العين فحينئذ خرج وقت النهي، ويقدر بالنسبة للساعات باثنتي عشرة دقيقة إلى عشر دقائق، أي ليس بطويل، ولكن الاحتياط أن يزيد إلى ربع ساعة، فنقول بعد طلوع الشمس بربع ساعة ينتهي وقت النهي. الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (4/ 112 - 113). (¬2). سنن أبي داود برقم (419) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في الإرواء برقم (478). (¬3). (10/ 72) برقم (5811) وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده.

وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» (¬1). ومنها بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، فلا يصلي في هذا الوقت إلا سنة الفجر، فقد رخص في ذلك لمن لم يتمكن من صلاتها قبل الفريضة، وكذلك من دخل المسجد والناس يصلون الفريضة، وقد صلاها قبل ذلك فإنه يلزمه أن يصلي معهم وتكون له نافلة. روى ابن ماجه في سننه من حديث قيس بن عمرو -رضي الله عنه- قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَصَلَاةَ الصُّبْحِ مَرَّتَيْنِ؟ »، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروى الترمذي في سننه من حديث يزيد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يصليا معه فقال: «عَلَيَّ بِهِمَا» فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ » فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (597)، وصحيح مسلم برقم (684) واللفظ له. (¬2). برقم (1154)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن ابن ماجة (1/ 190) برقم (948). (¬3). برقم (219)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن الترمذي (1/ 70) برقم 181.

ولقضاء سنة الفجر وقت آخر، وهو أن يصليها من الضحى بعد ارتفاع الشمس وهو أفضل لما روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّيهِمَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ» (¬1). قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-: «إذا لم يتيسر للمسلم أداء سنة الفجر قبل الصلاة، فإنه يخير بين أدائها بعد الصلاة أو تأجيلها إلى ما بعد ارتفاع الشمس، لأن السنة قد ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمرين جميعًا، لكن تأجيلها أفضل إلى ما بعد ارتفاع الشمس لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، أما فعلها بعد الصلاة فقد ثبت من تقريره عليه الصلاة والسلام ما يدل على ذلك» (¬2). ومنها بعد صلاة العصر حتى تضيف (¬3) الشمس للغروب، فقد نُهي عن الصلاة في هذا الوقت، واستُثني من ذلك قضاء سنة الظهر لمن فاتته، والدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» (¬4) وفي رواية البخاري: «لا صَلاةَ بَعْدَ صَلاتَيْنِ: بَعْدَ ¬

(¬1). برقم (423) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 133) برقم (347). (¬2). مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (11/ 373). (¬3). أي: تميل. (¬4). صحيح البخاري برقم (586)، وصحيح مسلم برقم (827).

الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» (¬1). وروى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث علي -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ مُرْتَفِعَةً» (¬2). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «وحكى أبو الفتح اليعمري عن جماعة من السلف أنهم قالوا: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بأنهما لا يتطوع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد به وقت الطلوع ووقت الغروب، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُصَلُّوا بَعْدَ الصُّبْحِ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الشَّمس نَقِية» (¬3) وفي رواية: مرتفعة، فدل على أن المراد بالبعدية ليس على عمومه، وإنما المراد وقت الطلوع، ووقت الغروب وما قاربهما. والله أعلم» (¬4). أهـ وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد العصر فسألته عنهما فقال: «إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ» (¬5) ¬

(¬1). برقم (1864). (¬2). مسند الإمام أحمد (2/ 46) برقم (610)، وسنن أبي داود برقم (1274)، وقال محققو المسند: رجاله ثقات، وحسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتح (2/ 61 - 62). (¬3). سبق تخريجه. (¬4). فتح الباري (2/ 61 - 62). (¬5). صحيح البخاري برقم (1233)، وصحيح مسلم برقم (834).

تنبيهات

ومنها الصلاة حال خطبة الجمعة، فقد دلت الأدلة على أن الواجب الإنصات للخطبة والاستماع لها، وترك كل ما يشغل عنها، وإنما جازت الصلاة لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد، للحديث المخرج في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قال: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ -رضي الله عنه- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا سُلَيْكُ! قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»، ثُمَّ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» (¬1). تنبيهات: الأول: أن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات السابق ذكرها لا يشمل المسجد الحرام، سواء كانوا من أهله أو من الزائرين له على الراجح من أقوال أهل العلم، لما رواه أبو داود والترمذي في سننهما من حديث جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» (¬2). الثاني: اختلف أهل العلم في جواز الصلاة في هذه الأوقات عند الحاجة إلى ذلك، كتحية المسجد ونحوها، فأما الأوقات ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (930)، وصحيح مسلم برقم (875) واللفظ له. (¬2). سنن أبي داود برقم (1894)، ورواه الترمذي برقم (868) وقال: حديث جبير حديث حسن صحيح.

المخففة، فالقول في الجواز فيها ظاهر لما تقدم، وأما الأوقات المغلظة فقد منع من ذلك بعض أهل العلم لأنه وقت يسير والنهي فيه شديد، والحكمة فيه ظاهرة معلومة، وهؤلاء أسعد بالصواب فيما يظهر. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الثامنة والثلاثون تنظيم النسل

الكلمة الثامنة والثلاثون تنظيم النسل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد وردت النصوص من الكتاب والسنة تحث على الزواج وتكثير النسل لما في ذلك من المصالح العظيمة الدينية والدنيوية، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} [الرعد]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» (¬1). فالأمة كلما كثرت حصل لها من العزة والهيبة ما لا يحصل لها في حال القلة، ولهذا مَنَّ الله على بني إسرائيل بقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} [الإسراء]. وذكَّر شعيب قومه بذلك فقال سبحانه عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]. روى أبو داود في ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5065)، وصحيح مسلم برقم (1400).

سننه من حديث معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: «لَا»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ» (¬1). «والأولاد منذ القديم كانوا أمنية الناس حتى الأنبياء المرسلين، وسائر عباد الله الصالحين، وسيظلون كذلك ما سلمت فطرة الإنسان، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)} [الأعراف]. ولما دعا إبراهيم قومه إلى توحيد الله وعبادته دون سواه، وصبر على أذاهم وثابر على دعوتهم، ألقوه في النار وأنجاه الله منها، واعتزلهم وما يعبدون من دون الله؛ فوهب الله له إسماعيل ثم إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب استجابة لقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات]. بشره بإسماعيل أولًا، ولما بلغ معه السعي ابتلاه فيه وأمره بذبحه، وآثر امتثال أمر ربه على حبه لولده، وصدق في تنفيذ أمره، فبشره ثانيًا بإسحاق نبيًّا من الصالحين، وجعل النبوة في ذرية خليله من بعده، جزاءً كريمًا لصبره على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، ونجاحه فيما ابتلاه الله به من الكلمات. فالأولاد نعمة تتعلق بها قلوب البشر وترجوها، لتأنس ¬

(¬1). برقم (2050)، وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 386) برقم (1804): حسن صحيح.

الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل

بها من الوحشة، وتقوى بها عند الوحدة، وتكون قرة عين لها في الدنيا والآخرة، ولذلك طلبها إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} [الصافات]. وطلبها زكريا من ربه، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)} [الأنبياء]. وأثنى سبحانه على عباده الصالحين، فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان]. الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل: 1 - منع الحمل: هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل، كالعزل، وتناول العقاقير، ووضع اللبوس ونحوه في الفرج، وترك الوطء في وقت الإخصاب .. ونحو ذلك. 2 - تحديد النسل: هو الوقوف بالنسل عند الوصول إلى عدد معين من الذرية باستعمال وسائل يُظن أنها تمنع من الحمل. 3 - تنظيم الحمل: هو استعمال وسائل معروفة لا يراد من استعمالها إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل، بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة من الزمن لمصلحة ما يراها الزوجان، أو من يثقان به من أهل الخبرة

ولا شك أن الدعوة إلى تحديد النسل، أو منع الحمل من الأمور التي أثارها أعداء الإسلام في الأزمنة الأخيرة لإضعاف شوكة المسلمين والسيطرة على ثرواتهم، واستعمار بلادهم، مع ما في تلك الدعوة من أضرار كثيرة دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية، ومنافاتها للفطرة والإسلام» (¬1). وقد صدر قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية برقم 42 وتاريخ 13/ 4/1396 هـ يوضح الحكم الشرعي في منع الحمل، وتحديد النسل، وتنظيمه، وهذا نصه: «نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها. ونظرًا إلى أن القول بتحديد النسل، أو منع الحمل، مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة، حتى تكون ¬

(¬1). بحث من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء مقدم لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورتها المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان لعام 1395 هـ في مدينة الطائف. أبحاث هيئة كبار العلماء (2/ 503 - 528) بتصرف.

لهم القدرة على استعمار البلاد وأهلها، وحيث أن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية، وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة، ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان، فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره، عملًا بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشيًا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة» (¬1). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). أبحاث هيئة كبار العلماء (2/ 529 - 530).

الكلمة التاسعة والثلاثون الإحداد

الكلمة التاسعة والثلاثون الإحداد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. والمقصود بالإحداد: اجتناب المرأة المتوفى عنها زوجها الزينة والطيب والتجمل، وقيل: اجتناب كل ما تتزين به النساء، والعبرة بما يعتبر زينة عادة من الثياب والحلي والطيب والخضاب ونحو ذلك (¬1). وكان الحداد في الجاهلية في غاية الصعوبة والمشقة والعنت على المرأة، فجاء الإسلام بسماحته ويسره فأبطل ذلك كله، روى البخاري في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا»، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لَا»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» (¬2). قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس ¬

(¬1). الفقه الميسر لمجموعة من المشايخ (5/ 174). (¬2). صحيح البخاري برقم (5336).

الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا (¬1)، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار، أو شاة، أو طائر فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فَتُعطى بعرة، فترمي، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره، سُئل مالك: ما تفتض به؟ قال: تمسح به جلدها (¬2). قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه، فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة .... وتمكث المرأة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبًا ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب وأقداره، فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنة الجاهلية، وأبدلنا بها الصبر والحمد والاسترجاع، ولما كانت مصيبة الموت لابد أن تُحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع، سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك -يعني لغير الزوجة- وهو ثلاثة أيام، تجد بها نوع راحة وتقضي بها وطرًا من الحزن ... وما زاد على الثلاث، فمفسدته راجحة، فمنع منه، والمقصود أنه أباح للنساء الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام، وأما الإحداد على ¬

(¬1). الحفش: البيت الصغير الذليل القريب السَّمْك، سُمي به لضيقه، النهاية في غريب الحديث (1/ 407). (¬2). صحيح البخاري برقم (5337)، وصحيح مسلم برقم (1489).

ولعدة المتوفى عنها زوجها أحكام تختص بها، فمن ذلك

الزوج فإنه تابع للعدة هو من مقتضياتها ومكملاتها» (¬1). روى البخاري ومسلم من حديث أم عطية -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» (¬2). ولعدة المتوفى عنها زوجها أحكام تختص بها، فمن ذلك: أولًا: أنه يجب أن تعتد المتوفى عنها في المنزل الذي مات زوجها، وهي فيه، فلا يجوز لها أن تتحول عنه إلا لعذر، لما رواه أبو داود والترمذي في سننهما من حديث زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري -رضي الله عنها- أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنِّي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي، فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟ » فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، قَالَتْ: فَقَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»، قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (¬3). قالت: ¬

(¬1). انظر أعلام الموقعين (2/ 165). (¬2). صحيح البخاري برقم (313)، وصحيح مسلم برقم (1491). (¬3). سنن أبي داود برقم (2300)، وسنن الترمذي برقم 5001، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي برقم (3558) بلفظ: اعتدي حيث بلغك الخبر، وابن ماجه برقم (2031) ولفظه: (امكثي في بيتك الذي جاء فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله).

فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به. قال ابن قدامة -رحمه الله-: «فإن خافت هدمًا أو غرقًا أو عدوًا أو نحو ذلك، أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية رجع فيه، أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكن تعديًا، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجرة المثل، أو لم تجد ما تكتري به أو لا تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذل أجر المسكن، وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن، وإذا تعذرت السكنى سقطت ولها أن تسكن حيث شاءت» (¬1). «ويجوز للمعتدة من وفاة الزوج الخروج من البيت لحاجتها في النهار لا في الليل لأنه مظنة الفساد» (¬2)، لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: طُلِقَت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بَلَى، فَجُدِّي نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا» (¬3). ثانيًا: تمتنع الحادة عن الملابس الجميلة، وتلبس ما سواها، وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على منعها من لبس المعصفر (¬4)، ¬

(¬1). المغني (11/ 291 - 292). (¬2). الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (2/ 424). (¬3). صحيح مسلم برقم 1483. (¬4). الإجماع لابن المنذر ص (124).

فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر (¬1)، والمزعفر، والأحمر، وسائر الملون للتحسين (¬2). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم عطية -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» (¬3). ثالثًا: تمتنع عن جميع أنواع الطيب ونحوها إلا إذا طهرت من حيضها فلا بأس أن تتبخر بالبخور لحديث أم عطية -رضي الله عنها- وفيه: «وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» (¬4). قال النووي -رحمه الله- في شرح القسط والأظفار: «نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب، رخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب. والله أعلم» (¬5). قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا تَمَسُّ طِيبًا»: «يشمل جميع أنواع الأطياب والأدهان المطيبة والمياه المعتصرة من الأدهان المطيبة كماء الورد، وماء القرنفل وغيره، فهذه كلها من الطيب الممنوع، ولا ¬

(¬1). الثوب المعصفر هو المصبوغ. (¬2). المغني لابن قدامة (11/ 288). (¬3). صحيح البخاري برقم (5341)، وصحيح مسلم برقم (938. (¬4). تقدم تخريجه. (¬5). شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 357).

يدخل فيه الزيت والسمن ولا تمتنع من الأدهان التي ليس فيها طيب» (¬1). رابعًا: تمتنع الحادة من الحلي: الذهب والفضة والماس، وغيرها سواء كان ذلك قلائد، أو أسورة، أو خواتم أو غير ذلك لحديث أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن المتوفى عنها زوجها: «لا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلا الْمُمَشَّقَةَ (¬2)، وَلا الْحُلِيَّ، وَلا تَخْتَضِبُ وَلا تَكْتَحِلُ» (¬3). قال ابن المنذر -رحمه الله-: «وأجمعوا على أن منع المرأة المعتدة من لبس الحلي؛ لأن الحلي يزيد في حسنها ويدعو إلى مباشرتها» (¬4). خامسًا: تمتنع الحادة عن الخضاب بالحناء لحديث أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» (¬5). زاد أبو داود: «وَلا تَخْتَضِبُ» (¬6). ولحديث أم سلمة السابق. ¬

(¬1) زاد المعاد لابن القيم -رحمه الله- (5/ 623) بتصرف. (¬2). الممشقة: أي المصبوغة بالمشق بكسر الميم وهو الطين الأحمر الذي يُسمى مغرة، عون المعبود شرح سنن أبي داود (6/ 295). (¬3). سنن أبي داود برقم (2304)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (2/ 43). (¬4) الإجماع لابن المنذر ص 125. (¬5) سبق تخريجه، المغني لابن قدامة (3/ 89) والشرح الكبير مع المغني والأنصاف (24/ 140). (¬6) برقم 2303.

قال ابن القيم -رحمه الله-: «فيحرم عليها الخضاب والنقش والتطريف (¬1) والحمرة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على الخضاب منبهًا به على هذه الأنواع» (¬2). سادسًا: تمتنع الحادة عن الكحل لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم سلمة -رضي الله عنهما- قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا»، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لَا»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» (¬3). وقال جمهور أهل العلم: «إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد تداويًا لا زينة فلها أن تكتحل به ليلًا وتمسحه نهارًا (¬4)، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود في سننه من حديث أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء، قال أحمد: الصواب بكحل الجلاء، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة -رضي الله عنها-: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حِينَ ¬

(¬1). التطريف: خضاب الأصابع وتزيينها، انظر المعجم الوسيط ص 555. (¬2). زاد المعاد (5/ 623) بتصرف. (¬3). صحيح البخاري برقم (5334)، وصحيح مسلم برقم (1486) واللفظ له. (¬4). زاد المعاد (5/ 624).

وهذه بعض فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء فيما يتعلق بمسائل الإحداد التي يكثر السؤال عنها

تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبْرًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ » فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّه، لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَالَ: «إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ، فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ»، قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» (¬1). قال ابن قدامة -رحمه الله-: «ولا تمتنع من التنظف، بتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر، والامتشاط به» (¬2)، «ولها أن تكلم من شاءت من محارمها، وتجلس معهم وتقدم الطعام والشراب ونحو ذلك. ولها أن تعمل في بيتها وأسطح منزلها ليلًا ونهارًا، في جميع أعمالها البيتية كالطبخ، والخياطة، وكنس البيت، وغسل الملابس» (¬3). وهذه بعض فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء فيما يتعلق بمسائل الإحداد التي يكثر السؤال عنها: السؤال الأول من الفتوى رقم 14463: لنا إخوة في الكويت أثناء الغزو وخرج هؤلاء الجماعة، إلا أن أبا العائلة رفض الخروج والعائلة الباقية خرجت إلى السعودية، وبعد فترة 5 شهور، اتصل بنا أحد الإخوة يقول: فقد أبوكم، وبعد فترة التحرير ¬

(¬1). برقم (2305)، وحسن الحديث ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (5/ 625). (¬2). المغني (11/ 288). (¬3). فتاوى اللجنة الدائمة (20/ 454 - 455) بتصرف.

ذهبنا للكويت لنبحث عن هذا الرجل، ذكر لنا شخص ما أنه في المستشفى منوم، فذهبنا إلى المستشفى ووجدناه متوفى، وسألنا متى توفي؟ فقال: منذ أربعة أشهر ونصف، استلمنا الرجل وصلينا عليه ودفناه، هذه قصة الرجل، والسؤال هو: زوجة هذا الرجل هل تحد أم ماذا تفعل؟ مع العلم أن فترة الحداد أربعة أشهر وعشر، وقد مضت مدة طويلة على موته. وفقنا الله لما يحبه ويرضاه. الجواب: إذا لم تعلم الزوجة بوفاة زوجها إلا بعد مضي العدة والإحداد، فإنه لا يلزمها عدة ولا إحداد، وبعد مضي أربعة أشهر وعشر على وفاة الزوج لا شيء عليها؛ لعدم علمها بالوفاة إذا لم تكن حاملًا، فإن كانت فبوضع الحمل. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبدالرزاق عفيفي ... عبدالعزيز بن باز (¬1) السؤال الأول من الفتوى رقم 5775: في جزيرتنا فرسان عادة، وهي: إذا مات الميت تعتد عليه زوجته أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذا واجب عليها، ولكن العادة هي: أنها تعتزل في البيت بشرط ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة (20/ 416 - 417).

ألا يراها أحد ولا ترى أحدًا، وإذا رأت أحدًا قضت اليوم الذي رأت فيه الإنسان ولو كان صديقها، وتستمر على ذلك حتى تقضي عدتها، فهل هذا التصرف صحيح؟ أفيدونا مع التفسير، وهل المرأة العجوز لم يجئها الحيض عليها عدة إذا كان العدة جاءت موضحة للحمل في هذه الفترة؟ أفيدونا ولكم الشكر الجزيل. الجواب: ما ذكرته من عزلة المحادة حيث لا يراها أحد غلو في الحداد، وقضاؤها يومًا أو أيامًا حدادًا عن اليوم أو الأيام التي رآها فيها أحد وهي في حدادها خطأ، وهو من التزام ما لا يلزم، وبهذا يتبين أن عملها هذا غير صواب، فإنه لا مانع من اختلاطها بمحارمها وبالنساء. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبدالرزاق عفيفي ... عبدالعزيز بن باز (¬1) الفتوى رقم 18875: والدتي حاليًا تقضي مدة الحداد بعد وفاة والدي -يرحمه الله- وفي أثناء هذه المدة ترغب والدتي في الذهاب إلى والدتها الكبيرة في السن، وذلك لزيارتها في منزلها، حيث إنها لا تستطيع الخروج لكبر سنها، علمًا بأن جدتي أم والدتي منزلها ليس ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة (20/ 457).

ببعيد، وهو في نفس منطقتنا السكنية. والسؤال: هل يجوز لوالدتي الخروج من المنزل لزيارة والدتها، علمًا بأن والدتي سبق لها الذهاب لوالدتها عدة مرات أثناء مدة الحداد؟ وهل عليها إثم في ذلك؟ أرجو بعد تكرم سماحتكم بالإجابة على هذا السؤال. الجواب: لا مانع من خروج المحدة من بيتها لقضاء حاجتها نهارًا لا ليلًا، وزيارة أمها التي تحتاج لزيارتها من أعظم الحاجات إذا كان ذلك لا يحتاج إلى سفر؛ لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمحدات أن يجتمعن في النهار للمؤانسة فيما بينهن، ويرجعن إلى بيوتهن في الليل، فعن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلن: يا رسول الله: نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُلُّ وَاحِدَة إِلَى بَيْتِهَا» (¬1). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبدالعزيز آل الشيخ ... عبدالعزيز بن باز (¬2) ¬

(¬1). عبدالرزاق في المصنف (7/ 36) برقم (12077)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 436) وصححه الألباني -رحمه الله- في إرواء الغليل برقم (2130) وقال: الحديث مرسل. (¬2). فتاوى اللجنة الدائمة (20/ 477).

السؤال الرابع من الفتوى رقم 18083: ما حكم عمل ولائم للمرأة بعد خروجها من فترة الحداد؟ الجواب: الولائم التي تعمل للمرأة بعد خروجها من عدة الوفاة إن كانت من باب العادة، وإكرام المرأة، فلا بأس بها، وإن كانت من باب التدين واعتقاد أنها مشروعة، فإنها لا تجوز لأنها بدعة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... عبدالعزيز آل الشيخ ... صالح الفوزان ... عبدالعزيز بن باز (¬1) والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة (20/ 477 - 478).

الكلمة الأربعون أشراط الساعة الكبرى العشر

الكلمة الأربعون أشراط الساعة الكبرى العشر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري -رضي الله عنه- قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال: «مَا تَذَاكَرُونَ؟ »، قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ»، فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَليهِ السَّلام، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ (¬1). فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الساعة لا تقوم حتى تخرج هذه الآيات العشر، وإذا خرجت واحدة تلتها الأخرى، روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي قال - صلى الله عليه وسلم -: «خُرُوجُ الآيَاتِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ تَتَابَعْنَ كَمَا تَتَتَابَعُ الْخَرَزُ» (¬2). ¬

(¬1). برقم (2901). (¬2). صحيح ابن حبان برقم (6794)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم (3210).

ومن هذه الآيات التي تخرج كما في الحديث السابق «الدجال» وهو من أعظم الفتن منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة. وذلك بسبب ما يخلق الله معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول، وتحير الألباب، فقد ورد أن معه جنة ونارًا، وجنته نار، وناره جنة، وأن معه أنهار الماء، وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث استدبرته الريح ... إلى غير ذلك من الخوارق، وكل ذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة، وهو أعور العين اليسرى مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب. ومن وسائل دفع فتنته: التعوذ بالله منه وخاصة في الصلاة، وحفظ آيات من سورة الكهف كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» (¬1). وفي بعض الروايات خواتمها وغير ذلك. قوله في الحديث: نزول عيسى -عليه السلام-: بعد خروج الدجال وإفساده في الأرض، يبعث الله عيسى -عليه السلام- فينزل إلى الأرض ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وعليه مهرودتان (¬2)، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه ¬

(¬1). برقم (809). (¬2). لابس مهرودتين أي: ثوبين مصبوغين بورس ثم زعفران.

تحدر منه جمان كاللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه تنتهي حيث ينتهي طرفه (¬1). ويكون نزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق، وتكون مجتمعة لقتال الدجال، فينزل وقت إقامة الصلاة يصلي خلف أمير تلك الطائفة. قال ابن كثير -رحمه الله-: «هذا هو الأشهر في موضع نزوله أنه على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، وقد رأيت في بعض الكتب أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي جامع دمشق، فلعل هذا هو المحفوظ، وليس بدمشق منارة تعرف بالشرقية، سوى التي إلى جانب الجامع الأموي بدمشق من شرقيه، وهذا هو الأنسب والأليق لأنه ينزل وقد أقيمت الصلاة فيقول له إمام المسلمين: يا روح الله تقدم، فيقول: تقدم أنت فإنه أقيمت لك، وفي رواية: بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة» (¬2) (¬3). وزمن عيسى -عليه السلام- زمن أمن وسلام ورخاء، يرسل الله فيه المطر الغزير، وتخرج الأرض ثمراتها وبركتها، ويفيض المال، وتذهب الشحناء والبغض والتحاسد، ويحكم بشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام كما صحت بذلك الأحاديث. ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (2937). (¬2). صحيح مسلم برقم (156). (¬3). الفتن والملاحم لابن كثير (1/ 149).

وأما مدة بقائه، فقد جاء في صحيح مسلم: يمكث سبع سنين، وفي رواية صحيح مسلم: أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. قوله في الحديث: ويأجوج ومأجوج: اسمان أعجميان، وقيل عربيان، وهم من ذرية آدم -عليه السلام-. وقد وردت روايات ضعيفة في صفاتهم لا تصح، والذي عليه الروايات الصحيحة: أنهم رجال أقوياء، لا طاقة لأحد بقتالهم، ففي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه-: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالى يُوحِي إلى عِيسَى -عليه السلام-: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يَدَان لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أُوائِلهُمُ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُر آخِرُهُمْ، فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ». وفي رواية: «ثم يسيرون إلى جبل الخَمَر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنُشَّابهم (¬1) إلى السماء، فيرد الله عليهم نُشَّابهم مخضوبة دمًا» (¬2). «ويحصر نبي اللَّه عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي اللَّه عيسى -عليه السلام- وأصحابه فيرسل اللَّه عليهم النغف (¬3) في رقابهم، ¬

(¬1). يطلق على النبل والسهام. (¬2). صحيح مسلم برقم (2937). (¬3). النغف بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم، واحدتها نغفة. النهاية في غريب الحديث (5/ 87).

فيصبحون فرسى (¬1) كموت نفس واحدةٍ، ثم يهبط نبي اللَّه عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي اللَّه عيسى وأصحابه إلى اللَّه فيرسل اللَّه طيرًا كأعناق البخت، فتحملهم فتطردهم حيث شاء اللَّه» (¬2). قوله في الحديث: ثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. «وهذه الخسوفات الثلاثة لم تقع بعد كغيرها من الأشراط الكبرى التي لم يظهر شيء منها، وهي خسوفات عظيمة وعامة لأماكن كثيرة من الأرض في مشارقها، ومغاربها، وفي جزيرة العرب» (¬3). قال ابن حجر -رحمه الله-: «وقد وجد الخسف في مواضع، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدرًا زائدًا على ما وُجد، كأن يكون أعظم منه مكانًا وقدرًا» (¬4). قوله في الحديث: الدخان: ظهور الدخان من علامات الساعة الكبرى، قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} [الدخان]. ¬

(¬1). فرسى: بفتح الفاء، أي قتلى، الواحد: فريس، من فرس الذئب الشاة، وافترسها إذا قتلها. النهاية في غريب الحديث (3/ 228). (¬2) صحيح مسلم برقم (2937). (¬3). أشراط الساعة للشيخ يوسف الوابل ص (331). (¬4). فتح الباري (13/ 84).

قال بعض أهل العلم: إنه الدخان الذي أصاب قريشًا من الشدة والجوع عندما دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يستجيبوا له فأصبحوا يرون في السماء كهيئة الدخان، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم فقال: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ»، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَيَرَى الرَّجُلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ (¬1). وذهب آخرون إلى أن الدخان من الآيات المنتظرة التي لم تجئ بعد، وسيقع قرب قيام الساعة، فقد روى ابن جرير الطبري عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قال: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت (¬2). قال ابن كثير -رحمه الله-: «وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا من وافقه من الصحابة والتابعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرها التي أوردناها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (1007)، وصحيح مسلم برقم (2798). (¬2). تفسير الطبري (9/ 7338). (¬3). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (7/ 235).

«وجمع آخرون من أهل العلم بأنها أكثر من دخان، ظهرت الأولى، وبقيت الأخرى، وهي التي ستقع في آخر الزمان» (¬1)، فأما التي ظهرت فهي ما كانت تراه قريش كهيئة الدخان، وهذا الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من أشراط الساعة» (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ .. الحديث» (¬3). قوله في الحديث: طلوع الشمس من مغربها: هذا من علامات الساعة الكبرى، ودل على ذلك القرآن والسنة، قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. ودلت الأحاديث الصحيحة أن المراد ببعض الآيات المذكورة في الآية هو طلوع الشمس من مغربها، وهو قول أكثر المفسرين (¬4). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ¬

(¬1). شرح النووي لصحيح مسلم (18/ 235). (¬2). انظر أشراط الساعة للشيخ يوسف الوابل ص (334 - 336). (¬3). برقم (2947). (¬4). انظر تفسير ابن كثير (6/ 227 - 236)، وتفسير الطبري (4/ 3410 - 3418).

مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلعتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنَوا أَجْمَعون، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬2). قوله في الحديث: الدابة: ظهور دابة الأرض في آخر الزمان علامة على قرب الساعة ثابت بالكتاب والسنة، قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} [النمل]. «فهذه الآية الكريمة جاء فيها ذكر خروج الدابة، وأن ذلك يكون عند فساد الناس وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، يخرج الله لهم دابة من الأرض - قيل من مكة - وقيل من غيرها، فتكلم الناس على ذلك» (¬3). قال الشيخ أحمد شاكر: «والآية صريحة بالقول العربي، أنها دابة، ومعنى الدابة في لغة العرب معروف واضح لا يحتاج إلى تأويل، ووردت أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها بخروج ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (4636)، وصحيح مسلم برقم (157)، وجملة: لم تكن آمنت ... لمسلم. (¬2). برقم (2947). (¬3). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 430).

هذه الدابة، وأنها تخرج في آخر الزمان، ووردت آثار أخرى في صفتها لم تنسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن ربه، والمبين آيات كتابه، فلا علينا أن ندعها، ولكن بعض أهل عصرنا من المنتسبين للإسلام الذين فشا فيهم المنكر من القول والباطل من الرأي الذين لا يريدون أن يؤمنوا بالغيب ولا يريدون إلا أن يقفوا عند حدود المادة التي رسمها لهم معلموهم وقدوتهم ملحدو أوروبا الإباحيون، المتحلّلون من كل خلق ودين، هؤلاء لا يستطيعون أن يؤمنوا بما نؤمن به، ولا يستطيعون أن ينكروا إنكارًا صريحًا فيجمجمون (¬1) ويحاورون ويداورون ثم يتأولون، فيخرجون بالكلام عن معناه الوضعي الصحيح للألفاظ في لغة العرب يجعلونه أشبه بالرموز، لما وقر في أنفسهم من الإنكار الذي يبطنون» (¬2). روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» (¬3). وفي رواية: «دَابَّةُ الأَرْضِ» (¬4). وروى الإمام أحمد من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1). الجمجمة: هو أن لا يبين كلامه. القاموس المحيط (1/ 533). (¬2). شرح أحمد شاكر لمسند الإمام أحمد (15/ 82). (¬3). برقم (2941). (¬4). صحيح مسلم برقم (2901).

«تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ النَّاسَ عَلَى خَرَاطِيمِهِمْ (¬1)، ثُمَّ يَغْمُرُونَ (¬2) حَتَّى يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الْبَعِير، فَيَقُولُ: مِمَّنْ اشْتَرَيْتَهُ؟ فَيَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْ أَحَدِ الْمُخَطَّمِينَ»، وقَالَ يُونُسُ- يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ: «ثُمَّ يَغْمُرُونَ فِيكُمْ»، وَلَمْ يَشُكّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ. (¬3) قوله في الحديث: نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم: وهي آخر أشراط الساعة الكبرى، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة، وردت الروايات بأن خروج هذه النار يكون من اليمن من قعرة عدن (¬4)، وتخرج من بحر حضرموت كما في روايات أخرى. روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- في ذكر أشراط الساعة الكبرى، وفيه: «وآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» (¬5)، وفي رواية: «وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرَةِ عَدَن، تَرْحَلُ النَّاسَ» (¬6). وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ» (¬7). ¬

(¬1). الخرطوم: الأنف، وقيل مقدم الأنف. انظر لسان العرب (12/ 173). (¬2). الغمرة: الزحمة من الناس. انظر لسان العرب. (¬3). مسند الإمام أحمد (36/ 647) برقم (22308) وقال محققوه: إسناده صحيح. (¬4). عدن: هي المدينة المعروفة في اليمن جنوب الجزيرة العربية، وهي واقعة على بحر حضرموت، ويسمى اليوم البحر العربي. (¬5). برقم (2901). (¬6). برقم (2901). (¬7). (9/ 145) برقم (5146) وقال محققوه: إسناده صحيح.

وعند ظهور هذه النار العظيمة من اليمن تنتشر في الأرض وتسوق الناس إلى المحشر. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاثَة عَلىَ بَعِير، وَتحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا» (¬1). والمحشر هو الشام كما ورد في مسند الإمام أحمد من حديث حكيم بن معاوية البهزي عن أبيه -رضي الله عنه- فذكر الحديث. وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «هَاهُنَا تُحْشَرُونَ، هَاهُنَا تُحْشَرُونَ، هَاهُنَا تُحْشَرُونَ، ثَلَاثًا رُكْبَانًا، وَمُشَاةً، وَعَلَى وُجُوهِكُمْ». قال ابن أبي بكير: فأشار بيده إلى الشام فقال: «إِلَى هَاهُنَا تُحْشَرُونَ» (¬2). وفي حديث ابن عمر السابق في ذكر خروج النار قال: «عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم 6522 وصحيح مسلم برقم (2861). (¬2). مسند الإمام أحمد (33/ 214) برقم (2001)، وقال محققوه: إسناده حسن. (¬3). سبق تخريجه.

الكلمة الواحدة والأربعون صفات أهل الفردوس

الكلمة الواحدة والأربعون صفات أهل الفردوس الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص]. وقد ذكر الله في كتابه صفات أهل الفردوس في أول سورة المؤمنون، فما هي يا ترى صفاتهم؟ وكيف وصلوا إلى هذه المرتبة العظيمة؟ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون]. قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف. «قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال علي بن أبي

طالب -رضي الله عنه-: الخشوع، خشوع القلب، قال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها. وحينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه النسائي في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه-: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (¬1) (¬2). قال ابن القيم -رحمه الله-: «صلاة بلا خشوع ولا حضور، كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتًا أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره، فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد أو الأمة الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا ولا يثيبه عليها فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها» (¬3). روى أبو داود في سننه من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ، وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلا عُشْرُ صَلاتِهِ، ¬

(¬1). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 107) (¬2). سنن النسائي برقم (3939) وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن النسائي (3/ 827) برقم (3680). (¬3). الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص 11.

تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُها، خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا» (¬1). قال بعضهم: «إن الرجلين ليكونان في الصلاة، وإن ما بينهما كما بين السماء والأرض» (¬2). قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} قال ابن كثير -رحمه الله-: «أي عن الباطل وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان]، ومن مرورهم به كرامًا: إعراضهم عنه وعدم مشاركتهم أصحابه فيه، قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما وقذهم عن ذلك» (¬3). قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} «الأكثرون على أن المراد بالزكاة هنا زكاة الأموال، ويحتمل أن يكون المراد بالزكاة ها هنا زكاة النفس من الشرك والدنس كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس]، وكقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]، على أحد القولين في تفسيرها، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادًا وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا. والله أعلم» (¬4). ¬

(¬1). سنن أبي داود برقم (796)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 151) برقم (714). (¬2). مدارج السالكين (1/ 567). (¬3). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 108) بتصرف. (¬4). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 108) بتصرف.

قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} «أي الذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من الفواحش، ومن تمام حفظ الفروج، تجنب ما يدعو إلى ذلك كالنظر واللمس ونحوهما، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي غير الأزواج والإماء {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} أي المعتدون. وعموم هذه الآية يدل على تحريم نكاح المتعة، فإنها ليست زوجة حقيقية مقصودًا بقاؤها، ولا مملوكة، وتحريم نكاح المحلل لذلك» (¬1). قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} «أي إذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: «{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} أي: مراعون لها، ضابطون حافظون ¬

(¬1). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 108 - 109) وتفسير ابن سعدي -رحمه الله- ص (520). (¬2). صحيح البخاري برقم (33)، وصحيح مسلم برقم (59).

حريصون على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق للَّه، والتي هي حق للعباد، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]. فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال، والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين وأداء الأمانتين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}» (¬1)] النساء: 58]. «وكذلك العهد يشمل العهد الذي بينهم وبين ربهم، والذي بينهم وبين العباد، وهي الالتزامات والعقود التي يعقدها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها، ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها» (¬2). قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} «أي يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها، فمدحهم بالخشوع بالصلاة، وبالمحافظة عليها؛ لأنه لا يتم أمرهم إلا بأمرين، فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع أو على الخشوع من دون محافظة عليها فإنه مذموم ناقص» (¬3). قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون، أي يرثون منازل أهل النار من الجنة، روى ¬

(¬1). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 109 - 110). (¬2). تفسير الشيخ ابن سعدي ص (520). (¬3). تفسير الشيخ ابن سعدي ص (520).

ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ، مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}» (¬1). «فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترك أولئك ما أُمروا به مما خلقوا له، أحرز هؤلاء نصيب أولئك، لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» (¬2). وفي الحديث الآخر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ عز وجل إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ» (¬3). والآية السابقة {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} مثل قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم]، وكقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} ¬

(¬1). سنن ابن ماجه برقم (4341)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم (2279). (¬2). برقم (2767). (¬3). صحيح مسلم برقم (2766).

ومن فوائد الآيات الكريمات

[الزخرف] (¬1)». وكقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون]، «الفردوس: هو البستان الذي يجمع كل شيء» (¬2). روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ؛ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» (¬3). قال ابن حبان -رحمه الله-: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه أوسط الجنة؛ يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض، وهو أعلى الجنة؛ يريد في الارتفاع» (¬4). قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} لا يظعنون عنها، ولا يبغون عنها حولًا؛ لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه من غير مكدر ولا منغص. ومن فوائد الآيات الكريمات: 1 - «علق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه، فلا سبيل إلى الفلاح بدونه، وهذا يتضمن ثلاثة أمور: أن من لا يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح، واستحق اسم العدوان، ووقع ¬

(¬1). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (10/ 111). (¬2). فتح الباري (6/ 13). (¬3). صحيح البخاري برقم (2790). (¬4). فتح الباري (6/ 13).

في اللوم. فمقاساة ألم الشهوة، ومعاناتها أيسر من بعض ذلك» (¬1). 2 - افتتح الله الآيات بذكر الصفات الحميدة للمؤمنين: ومن أولها: الصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها ومكانتها العظيمة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ» (¬2). 3 - عظم شأن التوحيد ومكانته العظيمة، فالمسلم يُزَفُّ إلى الجنة، والكافر يرث مكان المسلم في النار، ولله الفضل والمنة. 4 - أن المسلم ينبغي أن تكون همته عالية، فلا يطلب الجنة فقط، وإنما الفردوس أعلى مكان في الجنة كما ورد في الحديث السابق. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). الجواب الكافي لابن القيم -رحمه الله- ص (227). (¬2). (37/ 60) برقم (22378) وقال محققوه: حديث صحيح، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في تمام المنة برقم (234).

الكلمة الثانية والأربعون تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله

الكلمة الثانية والأربعون تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد سبق الكلام في كلمة سابقة عن معنى لا إله إلا الله، والكلام سيكون هنا عن شهادة أن محمدًا رسول الله، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة]. فقوله: من أنفسكم: أي من جنسكم، بل هو منكم أيضًا كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة]. يشق عليه ما شق عليكم، أي على منفعتكم ودفع الضر عنكم، وذو رأفة ورحمة بالمؤمنين، وخص المؤمنين بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، وهذه الأوصاف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه رسول الله حقًّا كما دل على ذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وكما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

ومعنى ذلك الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله، أرسله الله إلى جميع الخلق من الجن والإنس، كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وفي الحديث: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي .. ذَكَر منها: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامة» (¬1). «ولا يكفي الاعتراف بالقلب، بل لا بد من أمر ثالث وهو الاتباع، قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف]. على سبيل المثال: أبو طالب دافع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعرف أنه رسول الله، لكن لم يتبعه، فلذلك لم يحسب من المسلمين، ومات على الكفر، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله-: «ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعَبد الله إلا بما شرع (¬2)، فلا بد من الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا واعتقادًا، ولابد من اتباعه - صلى الله عليه وسلم -». ويتلخص ذلك في هذه الأربع كلمات التي ذكرها الشيخ -رحمه الله-: الأولى: طاعته فيما أمر: قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (335)، وصحيح مسلم برقم (521). (¬2). شرح الأصول الثلاثة للشيخ صالح الفوزان ص (181 - 182).

لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].فقرن طاعة الرسول مع طاعته سبحانه، وقرن معصية الرسول مع معصيته، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} [الجن]. فالذي يشهد أنه رسول الله، تلزمه طاعته فيما أمر لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» (¬1). والطاعة درجات، فمنها ما هو واجب على كل مسلم، ومنها ما هو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ومنها ما هو سنة يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة -رضي الله عنها- قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: «إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا لكتاب الله ولا إيمانًا بالتنزيل، لقد أُنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى ¬

(¬1). برقم (7280).

كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان» (¬1). وفي صحيح البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها-: «أن نساء المهاجرات صنعن ذلك» (¬2). قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك (¬3). ومن الأمثلة على ذلك حديث جليبيب كما في مسند الإمام أحمد، وجاء فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب لجليبيب من حي من الأنصار، واعتذرت والدتها قالت الجارية: أتردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ادفعوني فإنه لن يضيعني، فاستجابت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطاعته فكان في ذلك لها الخير الكثير (¬4). الثانية: تصديقه فيما أخبر: لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن أمور كثيرة مغيبة، أخبر عن الله وعن ملائكته، وأخبر عن أمور مستقبلية من قيام الساعة، وأشراطها، وأخبر عن أمور ماضية من أحوال الأمم السابقة، فلابد من تصديقه فيما أخبر، لأنه صدق لا كذب ¬

(¬1). ابن أبي حاتم (8/ 2575)، ورواه أبو داود في سننه من حديث أم سلمة قالت: لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية، برقم (4101)، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (2/ 773) برقم (4101). (¬2). صحيح البخاري برقم (4758). (¬3). فتح الباري (8/ 490). (¬4). (33/ 29) برقم (19784)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم برقم (2472).

فيه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]. ومن لم يصدقه فيما أخبر فليس بمؤمن ولا صادق في شهادته أنه رسول الله، كيف يشهد أنه رسول الله ويكذبه في أخباره، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يطيع أمره؟ قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن]، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ» (¬1). ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ ممَنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه-، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكِ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه-» (¬2). ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (21). (¬2). مستدرك الحاكم (4/ 25) برقم (4515)، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فإن محمد بن كثير الصنعاني صدوق، ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في السلسلة الصحيحة برقم (306).

ومن الأمثلة كذلك ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المستقبلة مما وقع ومما سيقع في آخر الزمان، روى البخاري في صحيحه من حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: «اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» (¬1). وقد حدث بعضٌ من هذه الأمور المستقبلية منها: موته - صلى الله عليه وسلم -، وفتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب سنة 16 هـ، ثم الموت الذي حصل في طاعون عمواس والشام سنة 18 هـ، وكذلك استفاضة المال كما في عهد الصحابة بسبب ما وقع من الفتوح واقتسام أموال الفرس والروم، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- فكان الرجل يعرض المال فلا يجد من يقبله، والباقي سيقع كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالثة: اجتناب ما نهى عنه وزجر: من أقوال أو أفعال أو صفات، فلا ينهى عليه الصلاة والسلام عن شيء إلا وفيه ضرر، ولا يأمر بشيء إلا وفيه خير وبر، فإذا لم يجتنب العبد ما نهى ¬

(¬1). برقم (3176).

عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صار متناقضًا، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يجتنب ما نهاه عنه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1). وهذا النهي درجات، فمنه ما جاء به الشرع على وجه الجزم، وهو النهي المحرم، ومنه ما هو على سبيل الكراهة ومنه ما هو على وجه الأولى تركه، ويمثل ذلك بالنهي عن أكل الثوم والبصل، ففي الحديث المخرج في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» (¬2). فإذا أكله على سبيل التهرب من صلاة الجماعة فهو محرم، وإذا أكله قبل الصلاة بقليل فهو مكروه خشية أن يكون سببًا في التأخر عن صلاة الجماعة، وإذا أكله في أي وقت غير وقت الصلاة فإن الأولى تركه خشية أن يؤذي الآخرين برائحته، أو أن تبقى رائحته إلى وقت الصلاة. الرابعة: ألا يُعبد الله إلا بما شرع: فالعبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بأي عبادة لم يشرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (7288)، وصحيح مسلم برقم (1337). (¬2). صحيح البخاري برقم (855)، وصحيح مسلم برقم (564) واللفظ له.

«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم الجمعة: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّه، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» (¬2). «ومثال البدعة: الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا السبب لم يشرع، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة ولا القرون المفضلة، وإنما أحدثته الدولة العبيدية الرافضية لما حكمت مصر في القرن العاشر» (¬3). «ومن ابتدع شيئًا في الدين لم يأت به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يشهد أنه رسول الله، ولم يشهد الشهادة الحقيقية؛ لأن الذي يشهد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقيد بما شرعه، ولا يحدث شيئًا من عنده، أو يتبع شيئًا محدثًا ممن سبقه» (¬4). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (2697)، وصحيح مسلم برقم (1718). (¬2). برقم (867). (¬3). رسالة الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- ص (20 - 23). (¬4). شرح الأصول الثلاثة للشيخ صالح الفوزان ص (178 - 186).

الكلمة الثالثة والأربعون الفطرة السليمة

الكلمة الثالثة والأربعون الفطرة السليمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1). وخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال في خطبته: «أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: ... وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» (¬2). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (1359)، وصحيح مسلم برقم (2658). (¬2). صحيح مسلم برقم (2865).

قال القرطبي -رحمه الله-: «إن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين الحق، وقد جاء ذلك صريحًا في الصحيح، جبل الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين، وقد دل على صحة هذا المعنى بقية الخبر، حيث قال: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ يعني: أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلق، سليمًا من الآفات، فلو نزل على أصل تلك الخلقة لبقى خاليًا من العيوب، لكن يُتصرف فيه فيجدع أذنه، ويوسم وجهه، فتطرأ عليه الآفات والنقائص، فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان. وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح (¬1). أهـ وقد ضرب الله تعالى مثلًا للفطر السليمة بالزيت الصافي النقي الذي يشع نورًا من صفائه، فإذا أُوقد به السراج التقى فيه النوران فأصبح نورًا على نور، وهذا مثل ضربه الله لنور الفطرة إذا التقى مع نور الوحي، وإليك الآيات فتدبر، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور]. ¬

(¬1). المفهم للقرطبي (6/ 676) بتصرف.

وبهذا يتبين عظيم ما أنعم الله به على عباده إذ خلقهم حنفاء يحبون الحق ويؤثرونه ويميلون إليه ويقبلونه، لا يعرفون ربًّا إلا الله، ولا يعبدون إلا هو سبحانه، وهذا من عظيم رحمة الله وفضله، إذ قذف في قلوبهم هذا النور، ثم أمرهم بنور آخر هو نور الوحي يهدي الله لنوره من يشاء، ويتبع ذلك أن الله فطرهم على حب التنظف والتطهر وحسن الهيئة والسمت .. وغير ذلك من الأخلاق الجميلة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ (¬2)، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ». قال زكريا: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، زاد قتيبة: وقال وكيع: انتقاص الماء: يعني الاستنجاء (¬3). ¬

(¬1). برقم (5889)، وصحيح مسلم برقم (257). (¬2). غسل البراجم: قال النووي -رحمه الله-: سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء، والبراجم بفتح الباء، وبالجيم، جمع برجمة بضم الباء والجيم، وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها، قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وهو الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار، ونحوهما. والله أعلم. شرح صحيح مسلم (3/ 141). (¬3). برقم (261).

وهذه السنن التي فطر الله الناس عليها من جملة ما أنعم الله به على الإنسان ولا يخالفها إلا من فسدت فطرته، وتلوثت جبلته، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ .. الحديث». ومثال ذلك: مثل رجل لديه عبيد فأمرهم أن يعملوا في مزرعته فيعتنوا بأشجارها المثمرة، ويقطعوا منها الأشجار ذات الشوك والتي لا فائدة من بقائها، والأصلح للمزرعة إزالتها، فعكس هؤلاء العبيد الأمر، فجعلوا يقطعون الأشجار المثمرة ويربون الأشجار الشوكية الضارة، فما ظنك ما يكون جزاؤهم عند سيدهم ومولاهم، فالذين يعفون لحاهم ويقصون شواربهم استجابة لنداء الفطرة وامتثالًا لأمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فهؤلاء عباد الله حقًّا، وأما الذين عكسوا الأمر فمثلهم مثل أولئك العبيد الذين يقطعون الأشجار المثمرة ويتركون الضارة، فهذا دليل على فساد الفطرة، وإن الشياطين استهوتهم فاستحلوا الحرام، وحرموا الحلال، فليتوبوا وليرجعوا إلى ربهم ما داموا في زمن المهلة قبل انتهاء الأجل، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} [النور]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الرابعة والأربعون من محاسن الدين الإسلامي

الكلمة الرابعة والأربعون من محاسن الدين الإسلامي الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الأديان وأفضلها، وأعلاها وأجلها، وقد حوى من المحاسن والكمال والصلاح والرحمة والعدل والحكمة ما يشهد للَّه تعالى بالكمال المطلق وسعة العلم والحكمة، ويشهد لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه رسول الله حقًّا، وأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]. فهذا الدين الإسلامي أعظم برهان، وأجل شاهد لله بالتفرد بالكمال المطلق كله، ولنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والصدق، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. ومحاسن الدين الإسلامي عامة في جميع مسائله ودلائله، وفي أصوله وفروعه، وفيما دل عليه من علوم الشرع والأحكام، وما دل عليه من علوم الكون والاجتماع، والأمثلة على ذلك كثيرة: المثال الأول: إن دين الإسلام مبني على أصول الإيمان المذكورة في قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ

إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة]. فهذه الأصول العظيمة التي أمر الله عباده بها هي الأصول التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وهي محتوية على أجلِّ المعارف والاعتقادات من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه على ألسنة رسله، وعلى بذل الجهد في سلوك مرضاته، فدين أصله الإيمان بالله وثمرته السعي في كل ما يحبه ويرضاه، وإخلاص ذلك لله، هل يتصور أن يكون دين أحسن منه وأجلَّ وأفضل؟ ودين أمر بالإيمان بكل ما أوتيه الأنبياء والتصديق برسالاتهم، والاعتراف بالحق الذي جاءوا به من عند ربهم، وعدم التفريق بينهم، وأنهم كلهم رسل الله الصادقون، وأمناؤه المخلصون، يستحيل أن يتوجه إليه أي اعتراض وقدح. فهو يأمر بكل حق، ويعترف بكل صدق، ويقرر الحقائق الدينية المستندة إلى وحي الله لرسله، ويجري مع الحقائق العقلية الفطرية النافعة، ولا يرد حقًّا بوجه من الوجوه، ولا يصدق بكذب، ولا يروج عليه الباطل، فهو مهيمن على سائر الأديان، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران]. المثال الثاني: شرائع الإسلام الكبار: الصلاة، الزكاة، صوم رمضان، وحج البيت، فالذي يتأمل الصلاة يجد أنها من أفضل

الأعمال، ومع ذلك لا تجب في اليوم والليلة إلا خمس مرات، سبع عشرة ركعة، من لم يستطع القيام يصل قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، يتطهر بالماء، فإن عدمه أو تضرر باستعماله تطهر بالتراب، وأما الصيام فإنه يصوم المقيم القادر، فإن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر. والزكاة فيها إصلاح حال الفقراء، وسد حاجة المسكين، وقضاء دين المدين، والتخلق بأخلاق الكرام من السخاء والجود، والبعد عن أخلاق اللئام: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة]. وفي الحج بذل الأموال وتحمل المشقات، طلبًا لرضا الله، وفيه التعظيم والخضوع التام للَّه، والتذكر لأحوال الأنبياء والمرسلين والأصفياء والمخلصين، وتقوية الإيمان بهم، وشدة التعلق بمحبتهم، والتعارف بين المسلمين والسعي في جمع كلمتهم، واتفاقهم على مصالحهم الخاصة والعامة مما لا يمكن تعداده، فإنه من أعظم محاسن الدين وأجل الفوائد الحاصلة للمؤمنين، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج].

المثال الثالث: ما أمر به الشارع وحث عليه من وجوب الاجتماع والائتلاف ونهيه وتحذيره عن التفرق والاختلاف، على هذا الأصل الكبير من نصوص الكتاب والسنة شيء كثير، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وقد علم كل من له أدنى معرفة منفعة هذا الأمر، وما يترتب عليه من المصالح الدينية والدنيوية، وما يندفع به من المضار والمفاسد، ولا يخفى أن القوة المعنوية المبنية على الحق هذا أصلها الذي تدور عليه، كما أنه قد علم ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام من استقامة الدين، وصلاح الأحوال والعزة التي لم يصل إليها أحد سواهم إذ كانوا مستمسكين بهذا الأصل، قائمين به حق القيام، موقنين أشد اليقين أنه روح دينهم يزيد هذا بيانًا وإيضاحًا قول عمر -رضي الله عنه-: «إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله» (¬1). المثال الرابع: أن دين الإسلام دين رحمة وبركة وإحسان، وحث على منفعة الإنسان، فما عليه هذا الدين من الرحمة وحسن المعاملة والدعوة إلى الإحسان، والنهي عن كل ما يضاد ذلك، هو الذي صيره نورًا وضياءً بين ظلمات الظلم والبغي وسوء المعاملة، وانتهاك الحرمات. وهو الذي جذب قلوب من كانوا قبل معرفته ألد أعدائه ¬

(¬1). مستدرك الحاكم (1/ 236 - 237) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه: إسناده صحيح.

حتى استظلوا بظله الظليل. وهو الذي عطف وحنا على أهله حتى صارت الرحمة والعفو والإحسان تتدفق من قلوبهم على أقوالهم وأعمالهم، وتتخطاهم إلى أعدائهم، حتى صاروا من أعظم أوليائه، فمنهم من دخل فيه بحسن بصيرة وقوة وجدان، ومنهم من خضع له ورغب في أحكامه وفضلها على أحكام دينه لما فيها من العدل والرحمة، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة]، وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]. وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» (¬1). المثال الخامس: أن من محاسن الدين الإسلامي أنه ما حرم شيئًا عليهم إلا عوضهم خيرًا منه، مما يسد مسده ولا يغني عنه كما بين ذلك ابن القيم -رحمه الله-. حرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا، وعوضهم التجارة الرابحة. وحرم عليهم القمار وعوضهم منه أكل المال بالمسابقة بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير، وعوضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرم ¬

(¬1). جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (1284)، وصحيح مسلم برقم (923).

عليهم شرب المسكرات، وعوضهم عنه بالأشربة اللذيذة والنافعة للروح والبدن، وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وعوضهم عنها بالمطاعم والطيبات. المثال السادس: دين الإسلام هو دين الحكمة ودين العقل والفطرة والصلاح والفلاح، يوضح هذا الأصل ما هو محتوٍ عليه من الأحكام الأصولية والفروعية التي تقبلها الفطر والعقول، وتنقاد لها بوازع الحق والصواب، وما هي عليه من الأحكام وحسن الانتظام، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، فأخباره كلها حق وصدق، لم يأت - ويستحيل أن يأتي - علم سابق أو لاحق بما ينقضها أو يكذبها، وإنما العلوم الحقَّة كلها تؤازرها وتؤيدها، وهي أعظم برهان على صدقها، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت]. وقد حقق المحققون المنصفون أن كل علم نافع ديني أو دنيوي أو سياسي فقد دل عليه القرآن دلالة لا ريب فيها، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام]. فليس في شريعة الإسلام ما تحيله العقول، وإنما فيه ما تشهد العقول الزكية بصدقه ونفعه وصلاحه، وكذلك أوامره ونواهيه كلها عدل لا ظلم فيها، فما أمر بشيء إلا وهو خير أو راجح، وما نهى إلا عن الشر الخالص، أو الذي مفسدته تزيد على مصلحته، وكلما تدبر اللبيب أحكامه ازداد إيمانًا بهذا الأصل، أو علم أنه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ

ومن فوائد معرفة هذا العلم "محاسن الدين"

مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود]، وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء]، وقال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك]. وهذا الدين قد أكمله الله، فلا يحتاج إلى زيادة أو استدراك من البشر إلى يوم القيامة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ومن فوائد معرفة هذا العلم "محاسن الدين": 1 - أن الاشتغال في هذا الموضوع الذي هو أشرف المواضيع وأجلها من أفضل الأعمال الصالحة، فمعرفته والبحث عنه والتفكير فيه، وسلوك كل طريق يحصل إلى معرفته خير ما شغل العبد به نفسه، والوقت الذي ينفق في ذلك هو للعبد لا عليه. 2 - أن الناس يتفاوتون في الإيمان وكماله تفاوتًا عظيمًا، وكلما كان العبد أعرف بهذا الدين وأشد تعظيمًا له وسرورًا به وابتهاجًا، كان أكمل إيمانًا وأصح يقينًا، فإنه برهان على جميع أصول الإيمان وقواعده. 3 - أن من أكبر الدعوة إلى دين الإسلام شرح ما احتوى عليه من المحاسن التي يقبلها ويتقبلها كل صاحب عقل وفطرة سليمة، فلو تصدى للدعوة إلى هذا الدين رجال يشرحون حقائقه ويبينون للخلق مصالحه لكان ذلك كافيًا كفاية تامة في جذب الخلق إليه لما يرون من موافقته للمصالح الدينية والدنيوية، ولصلاح الظاهر والباطن من غير حاجة

إلى التعرض لدفع شبه المعارضين والطعن في أديان المخالفين، فإنه في نفسه يدفع كل شبهة تعارضه؛ لأنه حق مقرون بالبيان الواضح، والبراهين الموصلة إلى اليقين، فإذا كشف عن بعض حقائق هذا الدين صار أكبر داع إلى قبوله ورجحانه على غيره. قال الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-: «فعلى جميع الأمة حكماء وعلماء وتجار وغيرهم أن يبلغوا عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا الدين، وأن يشرحوه للناس بشتى اللغات الحية المستعملة بأساليب واضحة، وأن يشرحوا محاسن الإسلام وحكمه وفوائده وحقيقته حتى يعرفه أعداؤه، وحتى يعرفه الجاهلون فيه، وحتى يعرفه الراغبون فيه» (¬1). وقال أيضًا: «والله لو عرفه الناس اليوم، ولو عرفه العالم على حقيقته لدخلوا فيه أفواجًا اليوم، كما دخلوا فيه أفواجًا بعدما فتح الله على نبيه مكة عليه الصلاة والسلام» (¬2) (¬3). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). مجموع فتاوى ورسائل للشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- (2/ 453). (¬2). كلمة في المؤتمر الأول للدعوة والدعاة المنعقد في المدينة النبوية عام 1397 هـ. (¬3). الدر المختصرة في محاسن الدين الإسلامي للشيخ عبدالرحمن السعدي ص (389 - 395)؛ والضياء اللامع من الخطب الجوامع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (1/ 205 - 206)؛ ومن محاسن الدين الإسلامي للشيخ عبدالعزيز السلمان ص (83 - 84).

الكلمة الخامسة والأربعون وقفات مع قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} [الإسراء: 13].

الكلمة الخامسة والأربعون وقفات مع قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد]. ومن الآيات التي تحتاج منا إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة قول الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء]. «قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} هذه الآية لها وجهان معروفان من التفسير: الأول: أن المراد بالطائر: العمل، من قولهم: طار له سهم، إذا خرج له، أي: ألزمناه ما طار له من عمله. الثاني: أن المراد بالطائر: ما سبق له في علم الله من شقاوة أو سعادة، والقولان متلازمان؛ لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة، أو السعادة.

والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما شهد له القرآن، أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله، فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جدًّا، كقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة]. وأما على القول بأن المراد بطائره الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة، فالآيات الدالة على ذلك أيضًا كثيرة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30]، وقال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} [الشورى]، إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {فِي عُنُقِهِ} أي جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة أو سعادة في عنقه، أي: لازمًا له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه، وإنما ذكر العنق لأنه عضو لا نظير له في الجسد، ومنه قول العرب: تقلدها طوق الحمامة، وقولهم: الموت في الرقاب. ومنه قول الشاعر: اذْهَبْ بِهَا اذْهب بِهَا ... طَوَّقْتُهَا طَوْقَ الحَمَامَةِ فالمعنى في ذلك كله اللزوم وعدم الانفكاك.

قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرج له يوم القيامة مكتوبًا في كتاب يلقاه منشورًا» (¬1)، أي مفتوحًا يقرؤه هو وغيره، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره، قال تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} [القيامة]، وقال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} [التكوير]. قال مقاتل: «إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت» (¬2). قال القرطبي -رحمه الله-: «أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير أو شر تطوى بالموت، وتُنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها» (¬3)، ولهذا قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي: أنك تعلم أنك لم تُظلم، ولم يكتب عليك غير ما عملت؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي. قال الحسن البصري -رحمه الله-: «قد عدل] والله] من جعلك حسيب نفسك». قال ابن كثير -رحمه الله-: «هذا من حُسنِ كلام الحسن -رحمه الله-» (¬4). ¬

(¬1). أضواء البيان للشنقيطي -رحمه الله- (3/ 550 - 554) بتصرف. (¬2). تفسير القرطبي -رحمه الله- (22/ 105). (¬3). تفسير القرطبي -رحمه الله- (22/ 105). (¬4). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (8/ 444 - 445).

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ، قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا، عَبْدُكَ فُلَانٌ قَدْ حَبَسْتَهُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ» (¬1) (¬2). وبيَّن تعالى في آيات أخرى صفات هذا الكتاب الذي يلقاه العبد منشورًا، بأن من صفاته أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضرًا ليس منه شيء غائبًا، وأن الله تعالى لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئًا، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. «وبيَّن في موضع آخر أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه - جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم - وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حسابًا يسيرًا، ويرجع إلى أهله مسرورًا، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} [الانشقاق]، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ¬

(¬1). (28/ 553 - 554) برقم (17316 وقال محققوه: حديث صحيح. (¬2). قال السندي: ومعنى الختم على مثله أن يقرر ذلك عملًا له فيكتب له ذلك وإن لم يعمل، والمقصود الحث على تحسين عمل كل يوم، حيث يحتمل أن يكون مختومًا عليه. حاشية السندي على المسند (28/ 554).

فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} [الحاقة]. وبيَّن في موضع آخر أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعًا، وذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} [الحاقة]. أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل. وبيَّن في موضع آخر أن من أُوتي كتابه وراء ظهره، يصلى السعير، ويدعو الثبور، وذلك في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق]. وبيَّن في موضع آخر أنه إن أنكر شيئًا من عمله شهدت عليه جوارحه، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)} [فصلت]. وفي الحديث: «فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا،

فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ» (¬1) (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (2969). (¬2). أضواء البيان للشنقيطي (3/ 550 - 554).

الكلمة السادسة والأربعون التوسل المشروع والممنوع

الكلمة السادسة والأربعون التوسل المشروع والممنوع الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء]. فأما الآية الأولى: فقد قال إمام المفسرين ابن جرير في تفسيرها: «يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم، ووعد من الثواب وأوعد من العقاب، {اتَّقُوا اللَّهَ}، يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه» (¬1). ونقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن معنى الآية: الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد والحسن، ونقل عن قتادة قوله فيها: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، ثم قال ابن كثير -رحمه الله-: «وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه، والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى ¬

(¬1). تفسير ابن جرير -رحمه الله- (4/ 2864).

تحصيل المقصود» (¬1). وأما الآية الثانية، فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مناسبة نزولها التي توضح معناها، فقال: «نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون» (¬2). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهذا هو المعتمد في تفسير الآية» (¬3). «والذي يظهر بعد تتبع ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة أن هناك ثلاثة أنواع للتوسل شرعها الله تعالى، وحث عليها، ورد بعضها في القرآن، واستعملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحض عليها، وليس في هذه الأنواع التوسل بالذوات، أو الجاهات، أو الحقوق، أو المقامات، فدل ذلك على عدم مشروعيته وعدم دخوله في عموم الوسيلة المذكورة في الآيتين السابقتين، أما الأنواع المشار إليها من التوسل المشروع فهي: 1 - التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا، كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أن تعافيني، ¬

(¬1). تفسير ابن كثير -رحمه الله- (3/ 103) بتصرف. (¬2). صحيح مسلم برقم (3030). (¬3). فتح الباري (10/ 12 - 13).

أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي، ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الحب من صفاته تعالى. ودليل مشروعية هذا التوسل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى، ولا شك أن صفاته العليا -عز وجل- داخلة في هذا الطلب؛ لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفات له، خصت به تبارك وتعالى. ومن الأدلة أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد أدعيته الثابتة عنه فيما رواه أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- أنه - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول في تشهده: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِالاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» (¬1). 2 - التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي، كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك، اغفر لي، أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيماني به أن تفرج عني، ومنه أن يذكر الداعي عملًا صالحًا ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه، وإيثار مرضاته على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه ليكون أرجى لقبوله ¬

(¬1). برقم (1493)، وصححه الألباني -رحمه الله- في صحيح سنن أبي داود (1/ 279) برقم (1324).

وإجابته، وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [آل عمران]، وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} [آل عمران]، وأمثال هذه الآيات الكريمات. ومن الأدلة: حديث قصة أصحاب الغار المشهورة والمخرجة في الصحيحين، فإن كل واحد منهم توسل إلى الله بعمله الصالح، فالأول توسل إلى الله ببره بوالديه، والثاني بعفته عن الزنا بابنة عمه، والثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فرقًا من أرز فنماها حتى كانت منها الشاة والبقر والإبل والرقيق (¬1). 3 - التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح، كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه، فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلت عليه الشريعة المطهرة. وقد وردت أمثلة على ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، فقال: ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (2215)، وصحيح مسلم برقم (2743).

النوع الثاني: التوسل الممنوع

«اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ (¬1). وفي رواية: «فقال عمر للعباس -رضي الله عنهما-: قم فاستسق وادع ربك» (¬2). ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أننا كنا نقصد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: اللهم بجاه نبيك اسقنا، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بجاه العباس اسقنا؛ لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم» (¬3). النوع الثاني: التوسل الممنوع: «التوسل الممنوع وهو ما يسمى بالتوسل البدعي الذي لا أصل له في الدين، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا من عمل السلف الصالح. فمن ذلك سؤاله تبارك وتعالى بجاه أحد من خلقه، كقول أحدهم: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أو بجاه عبدك فلان أن ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (1010). (¬2). تاريخ دمشق لابن عساكر (26/ 357). (¬3). التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص 13 - 44 بتصرف.

ترحمني، وتغفر لي. أو سؤال الله تعالى بحق نبيه، أو بحق أحد من عباده كقولهم: اللهم إني أسألك بحق نبيك عليك، أو بحق فلان عندك أن ترحمني، وتغفر لي» (¬1). «أو سؤال الله تعالى بحق البيت الحرام مغفرة الذنوب، أو قوله: اللهم بجاه الأولياء والصالحين، ومثل فلان بن فلان، أو بكرامة رجال الله عندك، وبجاه من نحن بحضرته فرج الهم عنا وعن المهمومين، واللهم إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة، متوسلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة أن تنصر الإسلام والمسلمين» (¬2). «أو الإقسام على الله بالمتوسل به كقولهم: اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي. وغيرها من الأسئلة والتوسلات غير الجائزة والممنوعة شرعًا، وهذا النوع من التوسل لم يرد في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد في فعل الصحابة رضوان الله عليهم الذين نقلوا لنا كل أقوال وأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬3). وفي صحيح مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1). أنواع وأحكام التوسل المشروع والممنوع للشيخ عبد الله الأثري ص (73، 79) بتصرف. (¬2). التوسل أنواعه وأحكامه للشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ص (9). (¬3). أنواع وأحكام التوسل المشروع والممنوع للشيخ عبد الله الأثري ص (73 - 79) بتصرف.

تنبيه

«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (¬2). تنبيه: إذا وقع التوسل بمخلوق أو بجاه فلان مهما كانت منزلته مع الاعتقاد أن له شيئًا من الأمر من جلب نفع أو دفع ضر فهذا من الشرك الأكبر المخرج من دائرة الإسلام، بل هو من الشرك في ربوبية الله سبحانه، وأما بدون اعتقاد ذلك فهو ممنوع شرعًا لسد ذريعة الشرك. وكذلك إذا وصل الأمر إلى الدعاء أو النذر أو الذبح لأرواح الأولياء والصالحين، والعكوف حول قبورهم، فلا شك أن هذا كفر أكبر مخرج من دائرة الإسلام، وصاحبه مخلد في النار إن لم يتب منه حتى لو زعم صاحبه أنه من المسلمين وصلى وصام. قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). برقم (1718). (¬2). صحيح البخاري برقم (2697)، وصحيح مسلم برقم (1718).

الكلمة السابعة والأربعون أسباب تفرق المسلمين

الكلمة السابعة والأربعون أسباب تفرق المسلمين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن من ركائز الدين الإسلامي ودعائمه العظام؛ اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، ونبذ الفرقة والخلاف. وذكر سبحانه نعمته على المؤمنين باجتماعهم وتآلف قلوبهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال]. قال ابن كثير -رحمه الله-: «قوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، أي: لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران]» (¬1). ¬

(¬1). تفسير ابن كثير (7/ 2114).

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فبرأ الله نبيه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كما نهى عن التفرق والاختلاف، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران]. وقال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} [البينة]. قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: «وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول ولا ينقادوا له، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم، فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم لم يزدهم الهدى إلا ضلالًا، ولا البصيرة إلا عمى، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد ودين واحد» (¬1). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار قال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي»، فَكُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ (¬2). وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كنا في غزاة -قال سفيان مرة: في جيش- فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَا ¬

(¬1). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص (890). (¬2). صحيح البخاري برقم (4330)، وصحيح مسلم برقم (1061).

بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ ! » قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» (¬1). وفي الصحيحين أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجدر أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: «إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ». قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: «فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِليَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجدر فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ ألْصِقَ بَابَهُ فِي الْأَرْضِ» (¬2). فهذه الأحاديث السابقة تدل على حرصه - صلى الله عليه وسلم - على تأليف قلوب الناس، وجمع الكلمة، ومراعاة المصالح والمفاسد، بل إن الكذب وهو من كبائر الذنوب أُجيز في حالات معينة، منها تأليف القلوب، وجمع الكلمة، والإصلاح بين الناس، فكما جاء في الحديث: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» (¬3) قال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله-: «وانظر في ¬

(¬1). برقم (3518). (¬2). صحيح البخاري برقم (7243) وصحيح مسلم برقم (1333). (¬3). صحيح البخاري برقم (2692) وصحيح مسلم برقم (2605).

حكمة الله ومحبته لاجتماع القلوب كيف حرم النميمة - وهي صدق - لما فيها من إفساد القلوب، وتوليد العداوة والوحشة، وأباح الكذب - وإن كان حرامًا - إذا كان لجمع القلوب وجلب المودة وإذهاب العداوة» (¬1). ولذلك يجب الدعوة إلى هذه الركيزة العظيمة - أعني اجتماع الكلمة - والتحذير من الأسباب التي توقع في الفرقة والخلاف وهي أسباب كثيرة وفروعها متشعبة، إلا أنها ترجع في نهاية المطاف إلى أمرين اثنين: الأول: عدم توحيد المصدر الصحيح الذي يرجع فيه إلى تطبيق شعائر الدين، وهو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما عليه السلف الصالح، وذلك بكثرة من يفتي وهو غير مؤهل للفتوى، وفي هذا العصر تساهل الناس في تلقي الفتوى، فصار لكل قناة من القنوات الإذاعية مفتٍ أو أكثر، والقنوات الفضائية صار لها مفتٍ أو أكثر، وكذلك الجرائد والمجلات التي تنشر الفسق والفجور لها مفتٍ، والذين يفتون المثقفون والأطباء والصحفيون والمهندسون وغيرهم من الجهال، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّه لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬2). ¬

(¬1). سبل السلام (8/ 264). (¬2). صحيح البخاري برقم (100)، وصحيح مسلم برقم (3673).

«ولذلك ينبغي لمن ولاه الله أمر المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها. وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يعينونهم، ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم، قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك: «ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق» (¬1). وفي السابق كان العلماء يمنعون من ليس من أهل الفتوى من التصدر لها، ويذكر في هذ المقام سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- الذي كان يمنع المتطاولين، ويؤدب المتجاوزين، جاء في كتاب له لأحد المتصدرين للفتيا ممن ليس من أهلها: «الداعي إلى الكتابة لكم أنه تكرر منكم تدخلكم فيما أنتم في غنى عنه، فضلًا عما فيه من التنافي مع ما يقتضيه التقى والورع من وجوب استبراء العبد لدينه وعرضه، وذلك رأيكم في التصديق للعامة بإفتائهم في مسائل الطلاق بما هو خلاف ما عليه الفتوى، وما اشتهر القول به لدى جمهور العلماء، ومرجوحيته ظاهرة لدى المحققين من أهل العلم. فنأمل منك بارك الله فيك الكف عن إرباك العامة بفتاوى شاذة، أو مرجوحة، ومتى تقدم إليكم من يطلب الفتوى فعليك بالإشارة لهم إلى الجهة المختصة بالفتاوى، ونرجو أن يكون ¬

(¬1). بدائع الفوائد (3/ 1287).

لديك من أسباب احترامك لنفسك، ما يغنينا من إجراء ما يوقفك عند حدك» (¬1). ولما أعلن أحدهم إباحة الغناء رد عليه بعض العلماء كالشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ صالح الفوزان» (¬2). الثاني: حب النفس وتقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة، وقد كان السلف على خلاف ذلك يؤثرون غيرهم على أنفسهم ويقدمون مصالح المسلمين على مصالح أنفسهم. فمن ذلك ما حصل من تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، حيث سمي ذلك عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين على معاوية، وكان هذا مصداقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (¬3). «قد يقول قائل: إذا كان الاختلاف في الدين منهيًّا عنه، فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين؟ الجواب: نعم، هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك ¬

(¬1). فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (11/ 36). (¬2). الانحراف في الأمة. أسبابه، وآثاره، وسبل مواجهته للدكتور عبد العزيز البداح، ص (230 - 231). (¬3). صحيح البخاري برقم (3629).

في شيئين: الأول سببه، والآخر أثره. فأما اختلاف الصحابة، فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم، لا اختيارًا منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليًّا، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها، لعدم تحقق شرط المؤاخذة وهو القصد أو الإصرار عليه. وأما الاختلاف القائم بين المقلدة، فلا عذر لهم فيه غالبًا، فإن بعضهم قد تبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ. وآخرون منهم على النقيض من ذلك، فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض متأخريهم (¬1): لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: «اختلاف أمتي رحمة»، وكثيرًا ما سمعناهم يستدلون به على ذلك. ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف ¬

(¬1). انظر: فيض القدير للمناوي (1/ 209)، أو سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 76 - 77).

إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده. قال ابن القاسم: «سمعت مالكًا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس كما قال ناس: فيه توسعة ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب» (¬1). وقال أشهب: «سُئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أتراه من ذلك في سعة، فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟ ! ما الحق والصواب إلا واحد» (¬2). فثبت أن الخلاف شرٌ كله، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم، ووفقنا لاتباعهم، فظهر أن اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- هو غير اختلاف المقلدة. وخلاصته: أن الصحابة اختلفوا اضطرارًا، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، وأما المقلدة - فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منه - فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين، ذلك هو الفرق ¬

(¬1). ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/ 81 - 82). (¬2). المصدر السابق (2/ 82، 88 - 89).

من جهة السبب. وأما الفرق من جهة الأثر؛ فهو أوضح، وذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- - مع اختلافهم المعروف في الفروع - كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف، فقد كان فيهم مثلًا من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه؛ ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعًا وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلافٍ مذهبي. وأما المقلدون؛ فاختلافهم على النقيض من ذلك تمامًا، فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعًا وراء إمام واحد، بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك ورأيناه كما رآه غيرنا (¬1)، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة أو البطلان؟ ! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلي فيها أئمة أربعة متعاقبين، وتجد أناسًا ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي. ¬

(¬1). راجع الفصل الثامن من كتاب: ما لا يجوز فيه الخلاف، ص 65 - 72، تجد أمثلة عديدة مما أشرنا إليه وقع بعضها من بعض علماء الأزهر.

بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين، مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية- وهو الملقب بـ «مفتي الثقلين» -فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله: تنزيلًا لها منزلة أهل الكتاب (¬1)، ومفهوم ذلك- ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم - أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية؛ كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة؟ ! هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السَّيِّئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيِّئ في الأمة، ولذلك فهم في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين- بخلاف المتأخرين - هدانا الله جميعًا إلى صراطه المستقيم. وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم، ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة؛ إذن لهان الخطب بعض الشيء، ولكنه - ويا للأسف- تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار، فصدوهم بسبب اختلافهم، عن الدخول في دين الله أفواجًا» (¬2). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 49). (¬2). مقدمة كتاب صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- للشيخ الألباني -رحمه الله- ص 60 - 66 بتصرف.

الكلمة الثامنة والأربعون التشبه بالكفار

الكلمة الثامنة والأربعون التشبه بالكفار الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فقد وردت الأدلة من الكتاب والسنة في النهي عن التشبه بالكفار، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية]. «فأخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على شريعة شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته، وأهواؤهم كل ما يهوونه وما هم عليه من الهدى الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويودون لو يبذلون مالًا عظيمًا لتحصيل ذلك، ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فمخالفتهم فيه أحسم لمتابعتهم في أهوائهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها» (¬1). ¬

(¬1). مختصراقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (1/ 22) بتحقيق د. ناصر العقل بتصرف.

«ومنها قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 149 - 150]. قال غير واحد من السلف: «معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، فبين سبحانه أن من حكمة تنحي القبلة وتغييرها، مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتُّبع في شيء من أمره، كان له الحجة مثل ما كان -أو قريب مما كان- لليهود من الحجة في القبلة» (¬1). روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وأقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فقد يحمل هذا على ¬

(¬1). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 23) بتحقيق د. ناصر العقل. (¬2). برقم 4031، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هذا إسناد جيد، كما حسنه الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري (6/ 98).

التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك» (¬1). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟ » (¬2). وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ». فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسِ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ» (¬3). «ومشابهة بعض طوائف اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب، ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة - أيضًا - قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بُعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة المنصورة وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسَأل الله المجيب أن يجعلنا منها» (¬4).أهـ ¬

(¬1). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم ص (88 - 89) بتحقيق د. ناصر العقل. (¬2). صحيح البخاري برقم (7320)، وصحيح مسلم برقم (2669). (¬3). صحيح البخاري برقم 7319. (¬4). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بتحقيق: د. ناصر العقل ص 49.

وأما الإجماع، فمن ذلك أن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- وكذلك الصحابة والأئمة من بعده وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم: أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، كسوة أو عمامة، أو نعلين (¬1) .. إلى آخر الشروط. وروى الحافظ أبو الشيخ الأصفهاني في شروط أهل الذمة بإسناده: أن عمر -رضي الله عنه- كتب: أن لا تكاتبوا أهل الذمة، فيجري بينكم وبينهم المودة، ولا تُكْنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم (¬2). ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال: «من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة» (¬3). وغير ¬

(¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 363 - 365): رواه حرب [وهو الكرماني [بإسناد جيد، وقال محققه د. ناصر العقل: أخرج البيهقي أكثره مع اختلاف في السياق بسنده في السنن الكبرى، كتاب الجزية باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية (9/ 202). وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ص 452 - 453، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا (1/ 365): وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة. (¬2). نقلًا عن اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 367)، وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم -رحمه الله- ص 452 - 455. (¬3). سنن البيهقي الكبرى (9/ 234)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وروي بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة عن عبد الله ابن عمرو -رضي الله عنهما- قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشر معهم يوم القيامة. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 200).

ذلك من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم. «والتشبه بالظاهر يقود إلى التشبه بالباطن؛ لأن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة، وموالاة في الباطن كما. أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعوا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذاك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن اقتضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]» (¬1). بل إن التشبه في الظاهر دليل على التشبه باطنًا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]. والحال شاهد على ذلك، فمن تزيا بزي أهل العلم ¬

(¬1). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. تحقيق د. ناصر العقل ص 220 - 221.

والصالحين وجد من نفسه قوة على الاقتداء بهم، والابتعاد عن خلاف ذلك، والعكس أن من تزيا بزي السفهاء وأهل الفسق، سهل على نفسه متابعتهم وتقليدهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام» (¬1). والتشبه منهي عنه وإن لم يقصده فاعله، فعلى سبيل المثال: لو حلق لحيته ولم يقصد التشبه بالكفار، فإن فعله تشبه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» (¬2). كما يحصل التشبه وإن لم يكن من عمل الإنسان، ويمثل ذلك بالتشبيب، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» (¬3). فالتشبيب من فعل الله وخلقه لا من فعل العبد، ومع ذلك فتركه وعدم تغييره من التشبه المنهي عنه، فما بالك إذن بمن يختار ما عليه أهل الكفر والفسوق على ما عليه أهل الهدى والصلاح. وحين جاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى رأسه كأنها ¬

(¬1). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: د. ناصر العقل ص 220. (¬2). صحيح مسلم برقم (259). (¬3). صحيح البخاري برقم (3462)، وصحيح مسلم برقم (2103).

أحكام التشبه

الثغامة بياضًا، قال: «غَيِّرُوا هَذَا بِشَيءٍ» (¬1)، وفي رواية: «واجْتَنِبُوا السَّوَادَ» (¬2)؛ ولذلك على المسلم أن يغير هذا الشيب بالحناء والكتم، كما ورد بذلك الحديث حتى تحصل المخالفة لليهود والنصارى. أحكام التشبه: قد يصل التشبه بصاحبه إلى الكفر، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. قال الشنقيطي -رحمه الله-: «ذُكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين، فإنه يكون منهم بتوليه إياهم» (¬3). وبين في موضع آخر: «أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف وتقية، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آلعمران: 28]، فهذه الآية الكريمة فيها بيان لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقًا، وإيضاح أن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية، فيرخص في موالاتهم بقدر المداراة ¬

(¬1). صحيح مسلم برقم (2101). (¬2). صحيح مسلم برقم (2101). (¬3). أضواء البيان للشنقيطي (2/ 132).

التي يُكتفى بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة: ومَنْ يَأَتِي الأُمُورَ على اضْطِّرارٍ ... فَلَيْسَ كَمْثِلِ آتَيِهَا اخِتْيارًا ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدًا اختيارًا رغبة فيهم أنه كافر مثلهم» (¬1). وقد يصل التشبه إلى البدعة، فكل من جاء بعبادة لم يأت بها الشرع فقد شابه اليهود والنصارى، قال الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-: «وقد ثبت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف الصالح بعدهم التحذير من البدع، والترهيب منها، وما ذاك إلا لأنها زيادة في الدين، وشرع لم يأذن به الله، وتشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم في دينهم وابتداعهم فيه ما لم يأذن به الله، ولأن لازمها التنقص للدين الإسلامي، واتهامه بعدم الكمال، ومعلوم ما في هذا من الفساد العظيم، والمنكر الشنيع، والمصادمة لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]» (¬2). ومثال ذلك بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وقد تشبه مبتدعوها بالنصارى حذو القذة بالقذة. ومن التشبه ما يكون كبيرة من الكبائر، مثل تهنئة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم بأعيادهم، لما في ذلك من إعانتهم ¬

(¬1). أضواء البيان للشنقيطي -رحمه الله- (2/ 133). (¬2). رسالة للشيخ بعنوان التحذير من البدع ص 11.

وإقرارهم على ما هم عليه من الفجور والضلال. قال ابن القيم -رحمه الله-: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به، فحرام بالاتفاق مثل أن تهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام .. ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة، أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبًا لمقت الله وسقوطهم من عينه» (¬1).أهـ ومن التشبه ما يدخل به المتشبه في المعصية للَّه ورسوله، وإن كان لا يُستطاع الجزم بوقوعه في الكبيرة، فقد روى الترمذي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ» (¬2). ومن التشبه ما لا يقطع بتحريمه إلا أن تركه أولى، والآثار ¬

(¬1). أحكام أهل الذمة (1/ 144). (¬2). برقم (2848)، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح سنن الترمذي برقم (2168).

على ذلك من السلف الصالح كثيرة جدًّا، فقد كره بعضهم الرمي بالقوس الفارسية، وكان بعضهم يكره الشرب في الكأس الذي له ساق، وكان بعضهم يكره الصمت عند الأكل حتى لا يتشبه بالأعاجم .. وغير ذلك كثير. سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل: شاع في كثير من بلاد المسلمين لبس البدلة؛ ذلك اللباس المكون من جاكيت وبنطلون، وقد تقتصر الملابس على بنطلون وقميص أو فانيلا بكم أو بنصف كم في الصيف لشدة الحر، فهل لبس هذا اللباس يدخل تحت باب التشبه بغير المسلمين؟ أو لا؟ الجواب: الأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ويستثنى من ذلك ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصف العورة؛ لكونه شفافًا يُرى من ورائه لون الجلد، أو لكونه ضيقًا يحدد العورة؛ لأنه حينئذ في حكم كشفها وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار الخاصة بهم، فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال. وليس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص مما يختص لبسه بالكفار، بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد لعدم الألف ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقًا لعادة غيرهم من المسلمين،

لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات» (¬1). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبدالرزاق عفيفي ... عبدالعزيز بن باز ومن مظاهر التشبه بالكفار ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال- وهو كذلك: «لَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا (¬2). وفي الصحيحين من حديث عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة رضي اللَّه عنهن ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة، رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - «أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّه» (¬3). ¬

(¬1). فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (24/ 38 - 39) برقم (1620. (¬2). صحيح البخاري برقم (435)، وصحيح مسلم برقم (531). (¬3). صحيح البخاري برقم (1341)، وصحيح مسلم برقم (528).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المساجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا، ودليل على الحذر من جنس أعمالهم، حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس، ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة» (¬1). ومن مظاهر التشبه بالكفار ما يحصل من شباب وفتيان المسلمين من التشبه بالكفار في ملابسهم وهيئاتهم ولبس السلاسل، ووصل الشعر، وكذلك قصات الشعر الخاصة بهم، ومشاهدة حياتهم اليومية في الأفلام والمسلسلات، والإعجاب بهم والتحدث بلغتهم من غير حاجة إلى ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ ثوبين معصفرين فقال: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ، فَلا تَلْبَسْهَا» (¬2). «علل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك، كما في الحديث قال - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ، وَلاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلاَ ¬

(¬1). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بتحقيق: د. ناصر العقل ص 106، 107. (¬2). صحيح مسلم برقم (2077).

تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ» (¬1).ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبهًا بالكفار» (¬2). ومنها التشبه بالكفار في إقامة الأعياد، فمن الاحتفال بالمولد النبوي، إلى الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وهذه كلها أحدثت محاكاة للكفار، وكذلك الأعياد الوطنية والقومية، ورأس السنة، وعيد الميلاد، ومن آخرها ما يسمى بعيد الحب، يرتدي فيها الشباب والفتيات الملابس الحمراء، ويتبادلون الورود الحمراء. ومنها الاعتماد في التاريخ على الميلاد والأشهر الإفرنجية، أي ميلاد عيسى عليه السلام متابعة للنصارى، ويريدون من المسلمين أن يتركوا التاريخ الهجري، ويعتمدون على التاريخ الميلادي النصراني. ومنها تربية الكلاب واقتناؤها لغير حاجة، ولا شك في حرمة ذلك، إلا كلب الصيد والماشية والحرث، كما وردت بذلك النصوص، بل ويشترون هذه الكلاب بأثمان غالية؛ كل هذا تقليدًا ومحاكاة للكفار. ومنها حلق اللحى، وفيه تشبه بالمشركين والمجوس واليهود والنصارى، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5426)، صحيح مسلم برقم (2067). (¬2). مختصراقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، للمحقق: د. ناصر العقل ص 120.

حديث ابن عمر -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» (¬1). وروى مسلم في صحيحه من حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (¬2). ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار، الأمر بمخالفة الشياطين، لما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا يَأْكُلنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا» (¬3). فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال، بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة (¬4). والمظاهر كثيرة، وما ذكرته غيض من فيض، وقليل من كثير، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم]، فإنه كتاب عظيم النفع والفائدة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (5892)، وصحيح مسلم برقم (259). (¬2). برقم (260). (¬3). برقم (2020). (¬4). مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ص 147 بتحقيق د. ناصر العقل.

الكلمة التاسعة والأربعون التلبيس على الناس

الكلمة التاسعة والأربعون التلبيس على الناس الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة]، وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران]. قال ابن كثير -رحمه الله-: «يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل» (¬1). أهـ «فوبخهم على لبس الحق بالباطل، وعلى كتمان الحق، لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل، فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهمًا، وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل، ¬

(¬1). تفسير ابن كثير (1/ 379).

ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال من الحرام، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة ليهتدي المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران]. فمن عمل بما سبق من بيان الحق وتمييزه من الباطل وإقامة الحجة على الخلق، فهو من خلفاء الرسل، وهداة الأمم، ومن لبس الحق بالباطل فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه وأُمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين» (¬1). فإن قيل: ما الفرق بين هاتين الصفتين المذمومتين اللتين اتصف بها اليهود وقد نهانا الله عنهما، وهما لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، فيقال: إن الناس منهم العالم والجاهل، واليهود لعنهم الله يسعون لإضلال هؤلاء وهؤلاء، فمن وجدوا لديه علمًا لا يقدرون على كتمانه عنه، اجتهدوا في إضلاله بالتلبيس عليه، إما بإظهار الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق .. أو غير ذلك من صور المكر والدهاء، ومن وجدوه جاهلًا كتموا عنه الحق وحالوا بينه وبين الوصول إليه، إما بمنعه من الاتصال بأهل العلم، أو إخفاء كتب الحق عنه. والمقصود الأعظم من ذكر هذه الصفات تحذير أمة الإسلام ¬

(¬1). تفسير الشيخ ابن سعدي ص 36 - 118 بتصرف.

ممن اتصف بها ممن يدعي الإسلام ويزعم أنه من أهله، يظهر ذلك حين نقرأ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟ » (¬1). وقد رأينا من أهل الأهوال والبدع ما هو مطابق تمامًا لهذه الصفات المذمومة، فتجد بعضهم لا يذكر النصوص الشرعية التي تخالف مذهبه الباطل، فإن لم يستطع إخفاءها اجتهد في إبطال معناها بالتأويلات الباطلة، فإن وجد ما يوافق هواه طار به كل مطار، وإن كان أوهى من خيوط العنكبوت، فكتاباتهم محشوة بالأحاديث المكذوبة، والأقاويل الواهية، وما كثرة الفرق الضالة في الأمة المحمدية إلا بسبب اتباعهم لهؤلاء واغترارهم بهم. ومن أظهر طرق التلبيس وأعظمها فتنة، وأكثرها انتشارًا في الأمة تتبع رخص العلماء وزلاتهم، قال سليمان التيمي: «لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله» (¬2). وقال ابن حزم الأندلسي: «وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -» (¬3). ¬

(¬1). صحيح البخاري برقم (7320)، وصحيح مسلم برقم (2669). (¬2). جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (2/ 91). (¬3). الإحكام في أصول الأحكام (5/ 65).

وروى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد بالله فدفع إليَّ كتابًا فنظرت فيه، فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر - النبيذ - لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب (¬1). وقد شدد العلماء في الإنكار على من تتبع الرخص وزلات العلماء، حيث وصفوه مرة بأنه شر عباد الله كما ذكر ذلك عبدالرزاق عن معمر (¬2)، وتارة وصفوه بالفسق كما نص عليه ابن النجار، فقال: يحرم على العامي تتبع الرخص ويفسق به (¬3)، وقال الغزالي: «ليس للعامي أن يستقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع» (¬4). وبعض الناس إذا أراد أن يستفتي يسأل في كل مسألة مَنْ عُرفَ بالتساهل فيها، والإفتاء بغير ما عليه جماهير العلماء، فإذا دُلَّ على العلماء الذين يفتون بالكتاب والسنة قال: إن هؤلاء لا يعرفون إلا ¬

(¬1). رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 356) برقم (20921)، وانظر: سير أعلام النبلاء (13/ 465). (¬2). انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (1/ 209). (¬3). مختصر التحرير ص 252. (¬4). المستصفى (2/ 469).

لغة الحرام، كل شيء عندهم حرام، فهذا وأمثاله اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، والله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ولم يقل: كما أردت، قال ابن عبد البر -رحمه الله-: «أجمع العلماء على أن العامي لا يجوز له تتبع الرخص» (¬1). وأما قول بعضهم: ضع بينك وبين النار مطوع، فهذا القول لا يكون صحيحًا إلا بسؤال أهل العلم المعروفين بالتقوى، وأن يكون القصد من السؤال معرفة الحق والعلم الذي يرضي الله تعالى. قد يقول قائل: ما أسباب السلامة من هذا البلاء؟ فأقول: أولًا: الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع إليهما عند الاختلاف، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية]. روى الحاكم في مستدركه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَاب اللَّه، وَسُنَّة نَبِيِّهِ» (¬2). ثانيًا: الاقتداء بالسلف، والرجوع إليهم في فهم الكتاب والسنة، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين، ¬

(¬1). جامع بيان العلم وفضله (2/ 91). (¬2). المستدرك (1/ 284)، وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 125) برقم (40)، وأصله في صحيح مسلم برقم (1218).

قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء]. روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه في سننهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّة عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» (¬1). أي هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. ثالثًا: الرجوع في النوازل إلى العلماء الربَّانيين العاملين بعلمهم، والاستفادة من مجموع كلامهم، والابتعاد عن شواذ الفتاوى الصادرة عن أنصاف العلماء والمنتسبين إلى طلبة العلم، وهم لم يرسخوا في العلم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللَّهَ لَاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (¬2). رابعًا: عدم الاستعجال فيما يصدر من فتاوى وأحكام والتأني ¬

(¬1). سنن الترمذي برقم (2641)، ومسند الإمام أحمد (14/ 142) برقم (8396)، وسنن ابن ماجة برقم (3992)، وصححه البوصيري والشيخ الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة برقم (1492)، ورقم 203، 204. (¬2). صحيح البخاري برقم (100)، وصحيح مسلم برقم (2673).

في ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة الخمسون الصراط المستقيم والأمة الوسط

الكلمة الخمسون الصراط المستقيم والأمة الوسط الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد .. فإن هذا الموضوع وما قبله من أهم الموضوعات التي ينبغي العناية والاهتمام بها لما تحتويه على الأصول في العقيدة، وهي رأس الأمور كلها، إضافة إلى التوجيهات المهمة التي يستفيد منها طالب العلم، وعامة الناس، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال ابن كثير -رحمه الله-: «يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم -عليه السلام- واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط ها هنا الخيار والأجود كما يقال: [قريش [أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي خيرها. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطًا في قومه، أي أشرفهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطًا خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما

قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]» (¬1). روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ: لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ ، فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ ، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]» (¬2). فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. والوسط: العدل، وفي التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي: أعدلهم وخيرهم. قال زهير: هُمْ وَسَطٌ يَرضْىَ الأَناَمُ بِحُكْمِهِمْ ... إذا نَزلَتْ إِحْدى الليَّالي بِمُعْظَمِ «ولما كان الوسط مجانبًا للغلو والتقصير، كان محمودًا، أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصَّروا تقصير اليهود في أنبيائهم» (¬3). ¬

(¬1). تفسير ابن كثير (2/ 111 - 112). (¬2). برقم (4487). (¬3). تفسير القرطبي (2/ 434).

قال عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه-: «خير الأمور أوساطها» (¬1). وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة]. هذا تعليم من ربنا -عز وجل- أن نسأله الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو طريق الحق الذي لا اعوجاج فيه، وقد بينه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، وأولى الناس بهذا الوصف نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضي الله عنهم-، فمن أراد سلوك طريق الاستقامة فليقرأ سيرة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وليسلك طريقهم، وسيجد أنهم علموا وعملوا، وبذلك نجوا من أن يكونوا كالمغضوب عليهم الذين عرفوا الحق فلم يعملوا به، أو الضالين الذين يعبدون الله على جهل وضلال، فكانوا وسطًا عدولًا خيارًا. وقد أوضح لنا سبحانه وتعالى أن الصراط المستقيم هو الوحي الذي نزله على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)} [يس]. وقد جاء في مواضع كثيرة من كتاب الله ما يبين أن الصراط المستقيم يقع بين طرفي نقيض، فقال تعالى مادحًا عباده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان]، وقال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء]، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [الإسراء]. وسلوك هذا المنهج من أعظم العلامات على تعظيم أمر الله ونهيه. ¬

(¬1). أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 479)، وابن سعد (7/ 142).

قال ابن القيم -رحمه الله-: «ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط ... فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يُعارضا بترخُّص جاف، ولا يُعرَّضا لتشديد غال، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله -عز وجل- بسالكه. وما أمر الله -عز وجل- بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فَيُشَامُّه، فإن وجد فيه تقصيرًا وفتورًا وتوانيًا وترخيصًا أخذه من هذه الخطة، فَثَبَّطَه وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء .. وغير ذلك، حتى ربما ترك العبد المأمور جملة. وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وألاَّ ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وألاَّ تفتر إذا فتروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغتسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها .. ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه، وأن لا يقربه. ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم، هذا بأن لا يقربه ولا يدنو منه، وهذا بأن يتجاوزه ويتعداه، وقد فُتن بهذا أكثر الخلق، ولا يُنْجي من ذلك إلا علم راسخ، وإيمان،

وقوة على محاربته، ولزوم الوسط، والله المستعان» (¬1). وأهل السنة والجماعة هم أسعد الناس حظًا، وذلك باختيارهم الطريق الوسط بين الطوائف الضالة المتناقضة، فهم في أسماء الله وصفاته وسط بين النفاة المعطلة وبين الغالين الذين حملوها على التمثيل أو تكلفوا لمدلوها التكييف فهم بين هذا وهذا، يثبتون الأسماء والصفات لله على ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهم وسط بين الخوارج والمرجئة، فالخوارج يكفرون المسلمين بالكبيرة، ويرون أنه مخلد في النار إذا مات عليها، والمرجئة قالوا: يُسمى مؤمنًا ولا يسمى فاسقًا، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: فاعل الكبيرة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. فالله تعالى ما سلب الإيمان عن من فعل الكبيرة فسماهم مؤمنين مع حصول القتال والقتل وهو كبيرة، لكنه مع الإيمان فاسق بهذه الكبيرة. وهم في القضاء والقدر وسط بين الجبرية والقدرية، فالجبرية يثبتون قضاء الله في أفعال العباد، ويقولون: إنه مجبر لا قدرة له ولا اختيار، والقدرية ينكرون قضاء الله تعالى في أفعال العباد، ويقولون: إن العبد قادر مختار لا يتعلق فعله بقضاء الله، وأهل السنة والجماعة يثبتون قضاء الله في أفعال العباد ويقولون: إن ¬

(¬1). مقدمة الوابل الصيب لابن القيم ص 27 - 30.

له قدرة واختيارًا أودعها فيه متعلقين بقضاء الله، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر]، وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير]. وما ذكرته غيض من فيض، وقليل من كثير، أسأل الله تعالى أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه وهو راض عنا غير غضبان. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1