الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

صديق حسن خان

التعليقاتُ الرَّضية على "الرَّوضة النّديَّة" للعلامة صدِّيق حسَن خَان رحمه الله بقلم العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني ضبط نصَّه، وحقَّقه، وَقَام على نشره علي بن حسَن بن علي بن عَبد الحميد الحَلبيُّ الأثريّ المجَلّد الأوّل الطّهَارة - الخُمْسْ دَارُ ابن القيِّم - دَار ابن عفَّان

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1423 هـ - 2003 م رقم الإيداع 15932/2001 الترقيم الدولي 4-30-6052-977 دَارُ ابن القيِّم للنشر والتوزيع هاتف: 4315882 - فاكس: 4318891 الرياض: ص. ب: 156471 الرمز البريدى: 11778 المملكة العربية السعودية دَار ابن عفَّان للنشر والتوزيع القاهرة: 11 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر ت: 5066420 - محمول: 0101583626 الإدارة - الجيزة برج الأطباء أول ش فيصل ت: 5693615 - تليفاكس: 5692850 - 3255820 ص. ب 8 بين السرايات جمهورية مصر العربية E-mail:[email protected]

مقدمة العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة العلامة المحدِّث الشيخ محمَّد نَاصِر الدّين الألبَاني (¬1) الحمدُ لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدِ، وعلى آله وصحبه أجمعين: أمّا بَعْدُ: فهذا كتابي: "التعليقات الرضية على الروضة النديّة"؛ يَخْرُجُ لإخواننا القُراء -طلبة العِلْمِ- مطبوعًا بهياً؛ وذلك بعد انتهائي من تدريسهِ، والتعليق عليه: بأكثَرَ من أربعينَ سنةَ؛ على الرغم من تعاهُدي إياهُ الفَينَةَ بعد الفَيْنَةِ، على مَر هذه السنين.... وإنِّي لأحمد اللهَ -سبحانه- أنْ سهل ذلك، ويسر أسبابَه؛ فالكتابُ -الأصلُ- من الكتب الفقهية النافعةِ التي انتهج مؤلفُها -رحمه الله تعالى- طريقةَ أصحابِ الحديث؛ قيامًا بالحُجة والدليل؛ بعيدًا عن التقليد وَمحْضِ الأقاويل؛ ولكنّه -كسائر البَشَر- عُرْضَةٌ للنقْدِ، والتَخطئِة، والمراجعةِ؛ وله على ذلك كله -إن شاء اللهُ- أجرٌ ... ¬

_ (¬1) قال محققُ هذا الكتاب أبو الحارث الحلبي الأثريُّ -عفا اللهُ عنه- بمنه -: لقد وافَقَ توقيت نشرنا لهذا الكتاب، وانتهائنا منه -تصحيحًا، وتنقيحًا- مَنْحُ شيخِنا أبي عبد الرحمن -حفظه الله- جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة السنة النبوية؛ فجزى اللهُ -خيرًا- القائمين عليها لما وفقهم اللهُ إليه مِن هذا التقدير والتكريم. ولا يعرف الفضلَ لأهل الفضل ألا ذوو الفضل.

ولقد كان عَرَضَ عَلَيَّ -منذ أكثرَ من سنتين- وَلَدُنا وصاحُبنا الأخُ أبو الحارث علي بن حسمن بن علي الحلبي -وفّقه الله- فِكْرَةَ طباعةِ تلك التعليقات -المشار إليها-، ونشرها؛ لما رأى فيها من نفع وفائدة -حتى لا تَظَل حبيسة فوق جدران الكتب-؛ ولينتفعَ بها الدارسون، ويستفيدَ منها المتفقهون: فوافقتُ على ذلك؛ وناولته نُسختي الخاصة -بتعليقاتي التي بخط يدي، والتي كنتُ قد سميْتُها منذُ أمَد: " التعليقات الرضيّة على الروضة الندية "-؛ ليقومَ -جزاه اللهُ خيرًا- بهذه المهمة العلمية. وها هو الكتابُ -بتعليقاتِه- بحمد الله ومِنتهِ- مطبوعًا بين أيدي القُراء؛ يَفيدون منه، ويُفيدون به؛ والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. وإنّي لأسالُ الله -تبارك وتعالى- أنْ يجزيَ صاحبَنا أبا الحارث -زاده الله توفيقًا- على ما قامَ به من جُهدِ مشكور في تحقيقهِ لهذه "التعليقات"، وإبرازها إلى حَيز الوجود، وكذا الناشِرَ للكتاب: دار ابن عفان/القاهرة؛ داعيًا الله -جل وعلا- لهما - أن يُباركَ جهودَهما في خدمةِ -ونَشْر- الكتب العلميّة السلفية النافعة -إن شاء الله-. كما أسألُهُ -عز وَجَل- أنْ ينفعَ بما أكتب، وأنْ يُلهِمني الحق والصواب، وأن يجعلَه خالصًا لوجهه، وأن يدخِر لي أجر ذلك عنده؛ إنه -سبحانه- خير مسؤول. وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِ العالَمين. 19/رمضان/1419 هـ محمد ناصر الدين الألباني أبو عبد الرحمن عمّان

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق إِن الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَستعِينُهُ، وَنَستغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِل لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ. وَأشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ. وَأشْهَدُ أن مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أما بَعْدُ: "فإنهُ يَنبغِي لِكُل أحَد أن يَتَخَلقَ بِأخْلاَقِ رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، وَيَقْتَدِيَ بِأقْوَالهِ وَأفْعَالِهِ وَتَقْريرهِ؛ فِي الأحكَامِ وَالآدَابِ وَسَائِر مَعَالِمِ الإسْلاَمِ، وَأنْ يَعْتَمِدَ فِي ذلِكَ مَا صَح وَيَجْتَنِبَ مَا ضَعُفَ، وَلاَ يَغتر بِمُخَالِفِي السننِ الصحِيحَةِ، وَلاَ يُقَلدَ مُعْتَمِدِي الأحَادِيثِ الضعِيفَةِ؛ فَإن اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وَقَالَ- تَعَالَى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وَقَالَ- تَعَالَى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ؛ فَهذِهِ الآيَاتُ -وَمَا فِي مَعناهُن- حَث عَلَى اتباعِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَنَهَانَا عَنِ الابْتِدَاعِ وَالاخْتِرَاعِ، وَأمَرَنَا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِنْدَ التنازُعِ

بِالرجُوعِ إِلَى الله وَالرسُولِ -أي: الكِتَابِ وَالسنةِ-، وَهذَا كُلُّهُ فِي سُنة صَحتْ، أما مَا لَمْ تَصح: فكيْفَ تكُونُ سُنةَ؟! وَكَيفَ يُحكَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَهُ أوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْر مُسَوغٌ لِذلِكَ؟!! وَلاَ تَغْتَرن بِكَثْرَةِ المتساهِلِينَ فِي العَمَلِ -وَالاحْتِجَاجِ فِي الأحكامِ- بِالأحَادِيثِ الضعِيفَةِ! وَإنْ كَانُوا مُصَنفِينَ وَأئِمة فِي الفِقهِ وَغَيْرهِ!!.." (¬1) . وَ"الفِقْهُ فِي الدينِ: مِنْ أفْضَلِ مَا يُتَنَافَسُ فِيهِ وَيُطلَبُ، وَيُثَابَرُ عَلَى السعْي فِي تَحْصِيلِهِ وَيُرْغَبُ؛ لأن بِهِ صَلاَحَ العَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَبِهِ يَهتدِي مِنْ غَيهِ لِرشَادِهِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الفَلاَحِ وَالسعَادَةِ، وَبِهِ يُتَمكنُ مِنَ القِيَامِ بِوَاجِبِ العِبَادَةِ، وَأهلُهُ هُمُ الوَاسِطَةُ بَينَ اللهِ وَبَينَ خَلقِهِ فِي تَبلِيغِ شَرعِهِ وَأحكَامِهِ، وَتَمْيِيز حَلاَلِهِ مِن حَرَامِهِ. وَقَدْ فَازَ بِهذِهِ الفَضِيلَةِ الصدرُ الأولُ، وَمَن عَلَى نَقْلِهِمْ وَفَهْمِهِمْ فِي النصُوص المعَولُ؛ فَاقتسَمُوا إِرثَ النبوةِ فَرْضاً وَتَعصِيباً، وَلَمْ يَترُكُوا لِسِوَاهُمْ مِنْ تِلك الفَريضَةِ حَظاً وَلا نَصِيباً، ثُم اقتدَى بِهِمْ فِي نَهْجِهِمِ القَويمِ الأسنى؛ مَنْ سَبَقَت لَهُ مِنَ اللهِ السعَادَةُ وَالحُسنى، حَتى انتهَت تِلكَ الورَاثَةُ إِلى الأئِمةِ الكِبَارِ، المقتدَى بِهِم فِي سَائِر الأعصَارِ وَالأمصَارِ، فكَانُوا وَسَائِلَ وَطرُقاً وَأدِلةَ بَيْنَ الناس وَبَيْنَ الرسُولِ، يُبَلغُونَهُمْ مَا قَالَهُ، وَيُفَهمُونَهُمْ مُرَادَهُ؛ بِحَسْبِ اجتِهَادِهِم وَاستِطَاعَتِهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-" (¬2) . وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلاَءِ الأئِمةِ الفُحُول، المقتفِينَ آثَارَ الرسُول - صلى الله عليه وسلم -: الشيْخُ ¬

_ (¬1) "خلاصة الأحكام" (1/59-60) للإمام النووي. (¬2) "هداية الأريب الأمجد" (5-6) للشيخِ سليمان بن حمدان.

العلامة صِديق حسن خان -تغمده بِعفوهِ الرحِيم الرحمن-؛ فَقدْ ألفَ كِتَاباً فريداً، نسج فِيهِ منهجاً سدِيداً؛ سماه "الروضة الندِية" (¬1) ؛ مَبْنِيّاً على الدلائِل البَينةِ العِلمِية. وَلَقَدْ "سَلَكَ فِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مَسْلَكَ الإنْصَاف، وَجَانَبَ فِي الترجِيحِ سَبِيلَ الجَورِ وَالاعْتِسَاف، وَهَذبَ مَبَانِيَه، وَحَررَ مَعَانِيَه، وَاعتنَى بِتَقْدِير الأدِلةِ وَنَصْب أَعلاَمِهَا، وَتَوضِيحِ وُجُوهِ الدلالَةِ وَأحكَامِهَا، وَذَكرَ مَذَاهِبَ الأسلاَف، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنَ الوفَاقِ وَالخِلاَف، مَعَ تَرجِيحِ مَا عَضَدَهُ البُرهَان، مِنْ غَير نَظر فِي ذلِكَ إِلَى خُصُوصِيةِ إِنْسَان، رَائِياً أَن الحَق أَحَقُّ بِأنْ يَعَض بِالنوَاجِذِ علَيْهِ، وَأن مَا سِوَاهُ يُطرَحُ فِي زَوَايَا الإهْمَالِ وَلاَ يُعَولُ عَلَيهِ" (¬2) . فَجَاءَ كِتَاباً رَائِعاً، بَدِيعاً جَامِعاً، بِعِبَارَة سَهْلَةِ مُيَسرَة، وَأدِله مُنَقحَة مُحَررة، وَمَسَائِلَ مُنضَبِطَةِ مُحَبرَة. وَلِمَا لِهذَا الكِتَابِ مِنْ أهَمييما وَمكَانَة -بِمَا حَوَاهُ مِنْ قُوة وَمَتَانَة-: فقد اعتنَى بِهِ عُلَمَاؤُنَا، وَأوْصَى بِهِ كُبَرَاؤُنَا؛ وَدَرسَهُ وَشَرَحَهُ فُضَلاَؤُنَا: -فَهَذَا الشيخُ العَلامَةُ أحمَد مُحَمد شَاكِر- المتَوَفى سَنَةَ (1377 هـ) -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَقُومُ بِالتعْلِيق. عَلَيهِ وَخِدْمَتِهِ -كمَا فِي آخِر الطبعَةِ ¬

_ (¬1) وكان قد سماه -قَبْلُ-: "النفحة الأحمديّة"؛ كما في كتابه "الحطة في ذِكر الصحاح الستة" (ص 483) بتحقيقي. (¬2) من مقدمة الشيخِ محمد قاسم -مصحح المطبعة المصرية الأميرية- للطبعة الأولى من "الروضة الندية" -كما في كتاب "السيد صديق حسن خان" (ص 77) - لأختر جمال لقمان -نشر دار الهجرة-.

المنِيريةِ-. (¬1) (2/365) بِقَلَم الشيْخ شَاكِر نَفْسِه؛ حَيْثُ قَالَ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: عَهِدَ إِلَي الأخ الأستاذُ الشيْخُ مُحَمد مُنِير الدمَشْقِي (¬2) -صَاحِبُ (إِدَارَةِ الطباعَةِ المنِيريَةِ) - بِتَصحِيحِ هذَا الكِتَابِ -"الروْضَةِ الندِيةِ"-؛ فَقُمْتُ بِمُرَاجَعَةِ الأصْل الَذِي يُطبعُ مِنْهُ، وَبَذَلتُ وُسْعِي فِي مُرَاجَعَةِ مَا عَرَضَ مِنَ الشبهَاتِ فِي تَخْريجِ الأحَادِيثِ وَالكَلاَمِ عَلَى رُوَاتِهَا، وَكَتَبْتُ مَا عَن لِي مِنَ التَعْلِيقاتِ؛ رَغْبَةً فِي خِدْمَةِ السنةِ الشريفَةِ. وَنَسْألُ اللهَ أن يُعِينَنَا عَلَى القَصْدِ إِلَى الخَيْر. أحْمَد مُحَمد شَاكِر -القَاضِي الشرْعي-". وَهذَا شَيْخُنَا العَلامَةُ الألبَانِي -حَفِظَهُ اللهُ-، يَنْصَحُ بِهِ (¬3) ، وَيُدَرسَه (¬4) ، بَلْ وَيَضَعُ عَلَيْهِ تَعْلِيقاً مكْتُوباً، وَنَقْداً لَطِيفاً مَرْغُوباً -وَهُوَ هذَا الَذِي بَيْنَ أيْدِينَا-؛ وَقَدْ سَماهُ "التَعْلِيقَاتِ الرضية عَلَى الروْضَةِ الندِية". مِنْ أجْل هذَا كُلهِ: رَأيْتُ لُزُومَ نَشْر الكِتَابِ، مَعَ تَعْلِيقَاتِ مَشَايِخِنَا عَلَيهِ؛ فَلَما عَرَضْتُ هذا الأمْرَ عَلَى شَيْخِنَا -نَفَعَ اللهُ بِهِ- وَافَقَ ذلك مُبَارَكَةً كَرِيمَةً مِنْه -حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى، وَنَفَعَ بِهِ-؛ فَدَفَعَ إِلَي نُسْخَتَهُ الخَاصَّةَ، المكْتُوبَةَ ¬

_ (¬1) وهذا النصُّ -كلُّه- محذوف من الطبعات المتداوَلَةِ المصوّرة -جميعاً-!! (¬2) وَصفَ الشيخُ الدمشقِي مؤلفَنَا -رحمهما الله تعالى- في كتابه "أُنموذج من الأعمال الخيرية" (ص 395) ، بـ (الإمام، العلامة، محيي آثار السلف الصالح، ذي الأيادي البيضاء، والنعَم العظيمة على العلماء..". (¬3) كما في مجلة (الأصالة) (عدد: 5/ص 59) . (¬4) انظر ما سيأتي (ص 12) . وكاتبُ هذه السطور -عفا الله عنه- درس لمجموعة طيبة من طلاب العلم ثلاثةَ أرباعِ هذا الكتاب في نحو مئة وسبعين مجلساً، ولم يَبقَ منه -بمنّة الله- إلا القليل؛ سائلاً ربي -سُبحانه- أن يُعينني على إتمامه، وأن يُيَسر لي أسباب ذلك.

عَلَى حَوَاشِيهَا تَعْلِيقَاتُهُ، وَنَقَدَاتُهُ -بِخَطه (¬1) -، لأقُومَ بِتَحْقِيقِهَا وِإظهَارِهَا إِلَى حَيز الوُجُودِ-؛ فَجَزَاهُ اللهُ خَيْراً عَلَى حُسْن ظَنهِ بِوَلَدِهِ وَتِلمِيذِهِ، وَأكْرَمَهُ فِي الدارَين بِأكْمَل الحُسْنَيَيْن. كل ذلِكَ إِفَادَةَ لِلأمةِ، وَعِنَايَةَ بِهَا، وِإعِظاماً لأمْرهَا؛ عَسَى أنْ يَكتبَنَا اللهُ -سبْحَانَهُ- مِنْ حَمَلَةِ العِلمِ النبوي الشريف، قَائِمِينَ بِالعَمَل، وَالتَعْلِيمِ، وَالتَعْريف. فَاللهَ أسْألُ التَوْفِيقَ وَالسدَاد، وَالهُدَى وَالرشَاد. وختاماً، فإني أتقدّم بالشكر الجزيل لِكُل مَن كان له يَد في نَشر هذا الكتاب؛ تعليقاً (¬2) ، وتصحيحاً، وتنضيداً، وتدقيقاً، وضبطاً. وشكر خاص موصول: للأخ الفاضل أبي عبد الله كمال الدين بن حُسين عُويس -وفقه الله لمراضيه-، صاحب دار ابن عفان/القاهرة-، على صَبْرهِ، واحتمالِه، وقيامِهِ بالدعم المادي والأدَبي -الدؤوب- لإخراج هذا العَمَل العلميّ مطبوعاً، مشرقاً، بهياً؛ فجزاه اللهُ خيرَ الجزاءِ، وزادَنا وإياه من فضلهِ. وَصَلى اللهُ وَسَلمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِينا مُحَمدِ الأمِين، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِين. وَكَتَبَ أبُو الحَارِثِ الحَلَبِيُّ الأثَرِيُّ 23 رجب 1419 هـ الزرقَاءَ - الأُردن ¬

_ (¬1) انظر ما سيأتي (ص 29-33) . (¬2) وقد كان عندى كم كبير من التعليقات؛ إضافةَ، وشرحاً، وبياناً، ونقداً، لكني لم أضعها -جميعاً- هنا؛ تعجيلاً بالخَير، وإفادة للأمة علمَ عُلمائها ... عسى أن يُهيئ الله -سبحانه- لي تبييض هذه التعليقات وإثباتها -كلها- في طبعة قادمة -إن شاء الله-.

تعريف بـ "التعليقات الرضية على الروضة الندية"

تعريف بـ "التعليقاتُ الرَّضية على الرَّوضة النَّديَّة" * هِيَ تَعْلِيقاتٌ عِلْمِيةٌ مُنَوعَةٌ؛ بَلَغَتْ نَحْواً مِنْ ألفِ تَعْلِيق. * وَهِيَ -أَصْلاً- مُلاَحَظَات عَلَى "الروضَةِ" (¬1) عَرَضَتْ أثْنَاءَ تَدْرِيس الكِتَابِ، وَشَرْحِهِ لِطَلَبَةِ العِلْمِ؛ ولكنّها لم تستوعب كُل ما ينبغي التعليقُ عليه؛ فضلاً عن تغير الاجتهاد -فقهاً ونقداً- في عدد منها. * وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ هذِهِ التعْلِيقَاتِ -أيضاً- جَاءَتْ زِيَادَةً عَلَى تِلكَ الملاَحَظَاتِ؛ جَراءَ نَظَر الشيْخِ فِي الكِتَابِ، أوْ نَقْدِهِ، وَتَخْرِيجِهِ لِبَعْض المرْوِياتِ الوَارِدَةِ فِي كُتُبِ أخْرَى؛ فَيَضَعُ خُلاَصَةَ بَحْثِهِ فِي تَعْلِيقِ لَهُ هُنَا. وَقَدْ جَاءَ عَدَد مِنْ تعْلِيقَاتِهِ هذِهِ -حَفِظَهُ اللهُ- عَلَى تَعْلِيقَاتِ لِلشيخ أحْمَد شَاكِر عَلَى "الروضَةِ" (¬2) . ¬

_ (¬1) وقد حققها وخرج أحاديثها -قبل عدة سنوات- الأخ الفاضل الشيخ محمد صبحي حلاق في مجلدين كبيرين. وقد استفدنا -في طبعتنا هذه- من بعض ما أثبتَه من تبويبات جانبية، وعناوين فرعية؛ فجزاه الله خيراً. (¬2) وقد كتب شيخنا -بخطه- على صفحة غلاف "الروضة" من نسخته: "هذا التعليق للعلامة المحدث المجتهد القاضي أحمد محمد شاكر، كما صرح في كتابه "نظام الطلاق في الإسلام" في غير موضع". تنبيه: أثبت في حواشي كتابِنا هذا تعليقاتِ الشيخ أحمد شاكر كاملة، وميزتها بوضع حرف (ش) في نهاية كل تعليق. وأما تعليقاتُ شيخنا الألباني: فميزتُها بوضع مُرَبع أسود [[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في هذه النسخة الإلكترونية، دائرة سوداء هكذا •]] قبلها، وحرف (ن) بعدَها. وما كان خالياً من التمييز؛ فهو من تعليقاتي.

أولا: شرح الغريب

* كَتَبَ شَيْخُنَا -بِخَطهِ- عَلَى آخِر نُسْخَتِهِ مِنَ "الروضَةِ" مَا لَفْظهُ: "فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَتِهِ بِمنَاسَبَةِ الاعْتِدَاءِ المثَلثِ (¬1) عَلَى مِصْرَ لَيْلَةَ السبْتِ ( ... (¬2) /4/1377 هـ) . ثُم فَرَغْنَا مِنْ قِرَاءَتِهِ كُلهِ -حَاشَا كِتَابَ الوَصِيةِ- لَيْلَةَ السبْتِ (29/8/1379 هـ) . ". * وَهذِهِ التَعْلِيقَاتُ (الرضيةُ) مُنَوعَةٌ مُتَعَددَةٌ، مِنْهَا (¬3) : أولاً: شَرْحُ الغريبِ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/4) شَرْحاً لِكَلِمَةِ (العِلقِ) : "بِكَسْر العَيْن: النفِيسُ مِنْ كُلٌ شَيْءِ، وَالجِرَابُ؛ وَلَعَل هذَا هُوَ المرَادُ هُنَا". 2- شَرَحَ في (1/187) (الخَلِفَات) ، وَقَالَ: " اسْمٌ لِلنوقِ الحَوَامِل، وَاحِدَتُهَا خَلِفَة، وَبِنْتُ المخَاض، وَابنُ المخَاضِ: مَا دَخَلَ فِي السنةِ الثانِيَةِ ... " إلخ. 3- وَشَرَحَ فِي (1/187) -أيْضاً- (ابْن اللبونِ) ، مُبيناً أنهُ: "مَا أتَى عَلَيْهِ سَنَتَانِ مِنَ الإِبِل ... ". ¬

_ (¬1) وَيُسمى (العدوان الثلاثي) ، وهي: (حرب ثلاثية، إسرائيلية، إنكليزية، فرنسية؛ ضربت قناة السويس، وأنزلت الجنود في بورسعيد، والإسماعيلية؛ بعد احتلال سيناء، وانتهت بهزيمة العدوان الثلاثي وإخلاء سيناء) ؛ كما في "موسوعة دول العالم الإسلامي ورجالها" (4/2152) للدكتور شاكر مصطفى. (¬2) كذا "الأصل" فراغ! (¬3) والأرقام المذكورة تالياً هي أرقام "الأصل" الذي بخط شيخنا.

ثانيا: التخريج، والنقد

4- شَرَحَ فِي (2/12) مَعنى "العَصَبَةَ" نَاقِلاً إِياهُ عَنْ "نِهَايَةِ" ابْن الأثير. 5- بَين فِي (2/13) خَطَأ تَفْسِير "عَوَان"، مُبَيناً وَجْهَ الصوَابِ فِيهِ. ثَانِياً: التخْريجُ، وَالنقْدُ؛ وَمِن أمثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/12) تَعْلِيقاً عَلَى قَوْلِ المؤَلفِ: (النهْيُ عَن الوُضُوءِ بِفَضْل وَضُوءِ المَرْأةِ) : "يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَغتسِلَ المَرْأةُ بِفَضْل الرجل.."، ثُم قَالَ: رَوَاهُ أبُو دَاودَ، وَالنسَائِي، بِسَنَدِ صَحِيح". 2- فَصلَ فِي (1/42) بِإِيضَاحِ الزيادَاتِ بَيْنَ الروَايَاتِ فِي العَزْوِ. 3- فَصلَ فِي (1/164) بِتَخريجِ حَدِيثِ خُرجَ إِجْمَالاً؛ مُبَيناً مُخَرجَهُ وَصَحَابِيهُ. 4- خَرج (1/196) حَدِيثَ: "الوَسْقُ سِتونَ صَاعاً"! مُبَيناً مَصَادِرَهُ، وَمُعِلاً لَهُ بِالانْقِطَاعِ.. 5- خَرجَ فِي (1/222) حَدِيثاً، مُشِيراً إِلَى تَصْحِيحِ جَمَاعَةِ مِن أهْل العِلمِ لَهُ، ثُم ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ ضَعفَهُ، مُرَجحاً تَضْعِيفِهِ.. 6- أشَارَ فِي (1/272) إِلَى تَتَبُّع ألفاظِ حَدِيث فِي "الصحِيحَيْن"، ثُم بَين أنه لم يَجِد لَفْظَةَ ذَكَرَهَا المصَنفُ -رَحِمَهُ اللهُ-. ثَالِثاً: المُنَاقَشَةُ وَالتَعَقب؛ وَمِن أمثَلَتِهِ: 1- نَاقَشَ فِي (1/7) صِحةَ حَدِيثِ القُلتيْن مُؤَيداً ثُبُوتَهُ، ثُم قَالَ:

"فَلاَ التِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ ضَعفَهُ؛ لأنهُ وَهَمٌ نَشَأ مِنْ عَدَمِ تَتَبع طُرُقِ الحَدِيثِ". 2- ثُم قَالَ فِي (1/7) حَوْلَ الحَدِيثِ نَفْسِهِ؛ رَاداً عَلَى مَنْ أعَلهُ بِالاضْطِرَابِ، قَائِلاً: "وَخُلاَصَةُ الجَوَابِ أن الحَدِيثَ صَحيحٌ إِسْنَادُهُ، وَالاضْطِرَابُ المَزْعُومُ فِيهِ لاَ يَضُر، وَأَن مَتْنَهُ بِلَفْظِ: "قُلتيْن"، وَأما مَا يُخَالِفُهُ؛ فهو إِما شَاذٌّ أوْ ضَعِيف، لا يَنْهَضُ لِمُعَارِضِةِ النص الصحِيحِ". 3- نَاقَشَ فِي (1/5) تَعْلِيلاً مِنَ المؤَلفِ لِحَدِيثِ: "المَاءُ طَهُور ... "، ثم قَالَ: "فَالعِلةُ مَا ذَكَرنا مِنْ الجَهَالَةِ، لا مَا أرَادَ أنْ يُصَورَهُ الشارحُ مِنَ الاخْتِلاَفِ". ْ4- تَعَقبَ فِي (1/13) عَزْوَ المصَنفِ حَدِيثاً لِلبَيْهَقِيٌ؛ قَائِلاً: "لَقَدْ أبْعَدَ المصَنفُ النجْعَةَ، فَالحَدِيثُ رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه -أيْضاً-، وإسنادُهُ صَحِيحٌ، -كَمَا بَينْتُهُ فِي "صَحِيحِ السنن" (رَقْمِ 408) -". 5- تَعَقبَ فِي (1/14) تَعْلِيلَ المصَنفِ النهْيَ عَن الصلاَةِ فِي معَاطِن الإبِل، بِأنَهَا: "رُبمَا تُؤْذِي المصَلي"! بِقَوْلِهِ: "هذَا التعْلِيلُ لا أصلَ لَهُ فِي السنةِ..". 6- تَعَقبَ فِي (1/157) عَزْوَ المصَنفِ لحَدِيثِ عَنْ سَمُرَةَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِم"، وَكَشَفَ مَا فِي طَيٌ ذلِكَ مِنْ وَهَم. 7- رَد عَلَى الصَنفِ فِي (1/173) اسْتِدْلاَلَهُ بِحَدِيث عَلَى اتباَع الجَنَازَةِ! بَيْنَما هُوَ فِي الانْصِرَافِ مِنْهَا!

رابعا: شرح مصطلحات حديثية، وذكر قواعد اصطلاحية

8- تَعَقبَ المصَنفَ فِي (1/183) بِنَقْلِهِ عَن الشوْكَانِى نَصّاً، مَعَ تَرْكِهِ جُزْءاً مُهِماً مِنهُ! رَابِعاً: شَرحُ مُصطَلَحَات حدِيثِية، وَذِكرُ قَوَاعِدَ اصطِلاَحِيةِ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ: 1- شَرح فِي (1/5) مُصطَلَحَ (غَريب) عِنْدَ ابْن الملَقن، قَالَ: "يَعْنِي: لاَ يُعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ؛ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي المقَدمَةِ". 2- قَالَ فِي (1/20) : "وَمَرَاسِيلُ الحَسَن ضَعِيفَة، قَالُوا: إِنهَا كَالرٌيحِ". 3- تكلمَ فِي (1/44) عَنْ قَاعِدَةِ انْجِبَارِ الحَدِيثِ بِكَثْرَةِ طرُقِهِ، مُبَيناً شَرطهَا، وَأنْ لاَ يكُونَ فِيهَا مُتهَم أو مَتْرُوك. 4- وَكذلِكَ أشَارَ فِي (2/21) إِلَى القَاعِدَةِ نَفْسِهَا. 5- أشَارَ فِي (1/161) إِلَى تسَاهُل ابْن حِبانَ فِي تَوْثِيقِهِ المجَاهِيلَ. 6- بَين فِي (1/165) أن الاستِحبابَ حكْمٌ شَرْعِي، لاَ يَثْبُتُ إِلا بِدَلِيل صَحِيح. 7- بَين فِي (2/12) عَدَمَ جَوَازِ رَد الحَدِيثِ بِنِسيَانِ رَاو، مَعَ حِفْظِ آخَرَ لَهُ. خَامِساً: تَصحِيحُ الأَخْطَاءِ المَطبَعِيةِ وَالسقطِ؛ وَمِن أَمْثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/4) تَعْلِيقاً عَلَى قَولِ المؤَلفِ: (طَالِبُ الحَقٌ الصادِقِ) : "لَعَلهُ: لِلحَقٌ صَادِقٌ".

سادسا: الشرح، والبيان، والتعريف

2- قَالَ فِي (1/10) : "وَلَعَلهُ سَقَطَ مِنْهُ قَوْلُهُ: "كَوْنِهِ سَاكِناً" كَمَا يَدُل عَلَيْهِ السياقُ وَالسباقُ". 3- بَينَ فِي (1/259) خَطَأ فِي النقْل عَن الترْمِذِيٌ تَحْسِينَ حَدِيث، مُشِيراً إِلَى أن ذلِكَ تَحْريف؛ مِنَ الناسخِ، أوِ الطَابعِ!! سَادِساً: الشرحُ، وَالبَيَانُ، وَالتَعْرِيفُ، ومِنْ أمْثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/43) تَعقِيباً عَلَى قَوْلِ المصَنفِ -فِي شَرح حَدِيثِ "إِنَمَا الأعْمَالُ بِالنياتِ"-: "فَإنْ كَانَ المقَدرُ عَاماً" ما لفظُهُ: "أيْ: لاَ عَمَلَ إِلا بِالنيةِ، وَلَما كَانَ هذَا مَتْروكَ الظاهِر -لأن الذوَاتِ غَيْر مُنْتَفِيَةِ- قَيدَهُ الشارعُ بِالعَمَل الشرْعِيٌ، وإنْ كَانَ خَاصّاً بِالأعْمَالِ -الأعْمَالِ الصالِحَةِ- كَمَا يَدُل عَلَيْهِ سِيَاقُ الحَدِيثِ". 2- نَاقَش (1/64) مَسْألَةَ صِفَةِ الحَيْض وَحَقِيقَتِهِ، رَاداً عَلَى المُصَنفِ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ. 3- قَالَ فِي (1/148) تعْلِيقاً عَلَى قَوْلِهِ "ليْلَةُ الهَرِيرِ": "بِفَتحِ الهَاءِ"، ثَم شرَحَهَا، وَذَكَرَ تَعْريفَهَا نَقْلاً عَن النَوَوِي في "تَهْذِيبِ الأسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ". 4- عَرف فِي (1/150) الفَرْسَخَ، وَالبَريدَ. 5- أفَادَ فِي (1/178) أن الأصْوَبَ فِي بِنَاءِ القَبْر تَسْنِيمُهُ، دُونَ تسطيحه. 6- فَرق فِي (1/253) بَيْنَ سَدْلِ المحرمَةِ عَلَى وَجْهِهَا -فَأجَازَهُ-،

سابعا: الاختيار والترجيح

وَبَيْنَ تَنَقبِهَا -فَمَنَعَهُ-. 7- ثَبتَ فِي (1/254) القَوْلَ بِالإجِمَاع عَلَى إِفْسَادِ الحَجٌ بِالجِمَاع. سَابِعاً: الاخْتِيَارُ وَالترْجِيحُ؛ وَمِنْ أمثِلَتِهِ: 1- قَالَ فِي (1/18) تَعْقِيباً عَلَى كَلاَمِ المصَنفِ حَوْلَ (النجَاسَاتِ) : "كَانَ اللائِقُ ذِكْرَ المذْي فِي النجَاسَاتِ المَنْصُوص عَلَيْهَا؛ لِوُرُودِ الأَمْر بِغَسلِهِ؛ كَمَا يُشِيرُ المؤَلفُ نَفْسُهُ إِلَى ذلِكَ". 2- نَقَدَ فِي (1/18) نَقْلَ القُرْطُبِي القَوْلَ بِالاتفَاقِ عَلَى نَجَاسَةِ الدمِ؛ مرَجحاً خِلاَفَهُ. 3- أفَاضَ فِي (1/60) فِي تَرْجِيحِ عَدَمِ مَشْرُوعِيةِ المسْحِ عَلَى الجَبِيرَةِ، مُنَاقِشاً الدلاَئِلَ وَالمسَائِلَ. 4- رَجحَ فِي (1/99) "أن السُّنةَ الوَضع عَلَى الصَدْرِ"، وَبَينَ أن مَا يُخَالِفُهُ: "ضَعِيف بِاتفَاقِ المحَدثِينَ؛ فَلاَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ". 5- رَجحَ فِي (1/156) وَجُوبَ صَلاَةِ الكسُوفِ. 6- رَد فِي (1/180) عَلَى مَنْ مَنَعَ اتباعَ النسَاءِ لِلجَنَائِز، مُبَيناً أنهُ - صلى الله عليه وسلم - مَنَعَهُن دُونَ عَزْم عَلَيْهِن. ... وَغَيْرُ هذَا وَذَاكَ -كَثِير- مِنْ مَبَاحِثَ شَرْعِيةِ، وَنَقَدَاتِ عِلمِيةِ؛ تُفِيدُ البَاحِثِينَ، وَتَنْفَعُ الراغِبِينَ.

فَجَزَى اللهُ -سُبحَانَهُ- خَيْراً: شَيْخَنَا؛ عَلَى مَا قَدمَ -وَيُقَدمُ- مِنْ أعمَال عِلمِية فِقْهِية حَدِيثِة؛ لهَا أثَرُهَا فِي الأمةِ، وَتَأصِيلِ بِنَائِهَا.

ترجمة العلامة صديق حسن خان

ترجمة العلامة صدِّيق حسن خان جرى المصنف -رحمه الله- على أن يترجم لنفسه في خواتيم بعض كتبه الهامة، مثل: "أبجد العلوم" (3/271) ، و "التاج المكلل" (541) ، و"إتحاف النبلاء" (263) ، وفعل مثل ذلك في خاتمة كتابه "الحِطة في ذكر الصحاح الستة" المطبوع -بتحقيقي- (ص 471-485) . وهو إذ يترجم لنفسه يتوسع في ذلك ويُفيض؛ فيذكر مولده، ونشأته، وأخذه عن العلماء، ورحلاته، وأعماله، ومؤلفاته. بيد أنه لا مناص في هذه المقدمة من إيراد ترجمة وجيزة مختصرةِ له، تضعُ بين يدي القارىء نبذة من حياتهِ -رحمه الله-، فأقول: * هو أبو الطيب، صديق حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القِنوجي، نزيل بهوبال - الهند. * كان مولده في التاسع عشر من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين ومئتين وألف من الهجرة النبوية، ببلدة "بريلي" موطن جده لأمه، ثم انتقلت أسرته إلى بلدة "قِنوج" موطن آبائه، ولما بلغ السادسة من عمره انتقل والده إلى رحمة الله -تعالى-، وبقي في حِجر أمه يتيماً، ونشأ عفيفاً، طاهراً، محباً للعلم والعلماء. * سافر إلى "دِهْلِي" ليتم تعليمه فيها، واجتهد في إتقان معارف القرآن

والسنة وتدوين علومِهما، وكانت له رغبة في اقتناء الكتب، وفهم زائد في قراءتها، وتحصيل فوائدها، وبخاصّةِ كتب التفسير والحديث والأصول، ثم سافر إلى "بهوبال" طلباً للمعيشة، فتزوج ملكتها، وفاز بثروة وافرة. * شيوخه عدة: منهم الشيخ محمد يعقوب أخو الشيخ محمد إسحاق حفيد الشيخ عبد العزيز الدهلوي المحدث، ومنهم الشيخ القاضي حسين بن محسن السبيْعي الأنصاري، والشيخ عبد الحق بن فضل الهندي (¬1) . * كان له في التأليف مَلكةٌ عجيبة، بحيث يكتب عدة كراريس في يوم واحد، ويصنف الكتب الفخمة في أيام قليلة، وقد شاعت كتبه وانتشرت في أقطار العالم الإسلامي، وكتب له كثير من العلماء رسائل فيها الثناء على كتبه والدعاء له، وعُد من رجال النهضة الإسلامية المجدّدين. * ترجمه الجمُّ الغفير من المصنفين؛ فله ترجمة في: "طبقات الأصوليين" (3/160) ، و"مشاهير علماء نجد" (541-457) ، و"حلية البشر" (2/ ¬

_ (¬1) وقد أكثر المصنفُ -رحمه الله- في كتبه من إطلاق كلمة "شيخنا" عند ذكر الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى-، فهذا يشعر أنه قد تتلمذ له، أو أجيز منه! وقال الكتاني في "فهرس الفهارس" (2/1055) : "ما يوجد في كتبه -يعني القِنوجي- من قوله في القاضي الشوكاني: شيخنا؛ فتجوز أو تدليس، وكيف يمكنه الأخذ عن الشوكاني وهو في قطر، والآخر في غيره؟! إلا أن يكون أجاز لأهل عصره! ولا نتحققه ... ". قلت: هو تجوُّز يدللُ المصنف فيه على احترامه وإكباره للشوكاني، وليس بتدليس؛ بديل أنه -رحمه الله- يقول أحياناً عنه: شيخ شيوخنا، ولقد قال المصنف -رحمه الله تعالى- في "أبجد العلوم" (3/194) : "وقد أتحفني شيخي عبد الحق الهندي بكتاب شيخه الشوكاني "إتحاف الإكابر بإسناد الدفاتر"، ولي أسانيد أخرى إلى الشوكاني.. ولله الحمد والمنة". ومثل هذا -تماماً- ما هو مذكور في مقدمته على هذا الكتاب الذي بين أيدينا؛ فانظر (ص 80) منه. قلت: وانظر كلمة الأستاذ إبراهيم إبراهيم هلال في كتاب "قطر الولي" (ص 33) ، ومقدمة الأستاذ محمد إسماعيل السلفي لكتاب "شرف أصحاب الحديث" (ص 10) طبع جمعية أهل الحديث - باكستان.

746) ، و "أنموذج الأعمال الخيرية" (388) ، و "الأعلام" (6/167) ، و"نزهة الخواطر"، (8/187) و"جلاء العينين" (30) ، و "معجم المؤلفين " (10/90) ، و"هدية العارفين" (2/388) ، و "معجم المطبوعات" (1201) ، و"فهرس الفهارس" (2/1055) ، و"إيضاح المكنون" (1/10) ، و"تاريخ آداب اللغة العربية" (2/96) ، و"المنْجِد" (421) ، و"عثرات المنْجِد" (317) ، و "التعليقات الظراف على الإتحاف" (34) ، و"حركة التأليف باللغة العربية ... " (274) ، و "اكتفاء القنوع" (497) و"تاريخ الأدب العربي" (2/859 - الملحق) ، و"الثقافة الإسلامية في الهند" (141) ، و"كشف الظنون عن كشف الظنون" (ص 3) ، و " مجلة الحج " (11/636) ، و"مجلة الجامعة الإسلامية" (12/47) . ولسليم فارس الشدْياق كتاب في ترجمته وذكر المثْنِين عليه، اسمه "قرة الأعيان ومسرة الأذهان". ولابنه علي حسن في سيرته كتاب سماه "مآثر صِديقي"، وآخر سماه " الروض البسام ". "وترجمه بعضُ العلماء بكتاب اسمه "قَطر الصَّيِّب في ترجمة الإمام أبي الطيب". وترجم هو لِنَفْسهِ بكتاب سماه "إبقاء المِنن". وللأستاذ أختر جمال لُقمان رسالة جامعية عن "عقيدة صديق حسن خان"، وهي مطبوعةٌ. * توفي -رحمه الله تعالى- سنة ألف وثلاث مئة وسبع هجرية، الموافق لسنة ألف وثمان مئة وتسع وثمانين ميلادية، فتكون مدة حياته تسعاً وخمسين

سنة قمرية، وسبعاً وخمسين سنة شمسية -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-. * بين المتَعاصِرَين: في الفترة التي عاش فيها العلامةُ الشيخ صديق حسن خان؛ كان هناك عالم كبير لا يقل عنه علماً، ولا ينقص عنه قدراً، وهو العلامة الشيخ عبد الحي اللكنوي -رحمه الله تعالى-، وجرت -على عادة الأقران- بينهما مباحثات علمية، وردود فقهية، وألف كل واحد في الرد على صاحبه كتباً ورسائل، إما تلميحاً أو تصريحاً. وكانت الحملة موجهة من قِبَل الشيخ اللكنوي أكثر منها من ناحية القِنوجي؛ فلقد أكثر الأول في مَثَاني تصانيفه، وتعليقاتهِ عليها من قوله: "وقال غير ملتزم الصحة من أفاضل عصرنا"! مشيراً بذلك إلى العلامة القِنوجي!! وبلغت هذه الردود في لحظة من اللحظات أوْجَ الشدةِ، حتى قال الشيخ عبد الحي الحسني -رحمه الله- واصفاً تلك الردود والمباحثات -في كتابه المستطاب "نزهة الخواطر" (8/236) -: ".... وانجرَّ إلى ما تأباه الفطرة السليمة ... "! وكان الشيخ اللكنوي حريصاً الحرص كله على متابعة هذه الردود، وَعَدم انقطاعها إلا لصالحه! بدليل ما قاله العلامة عبد الحي الحسني -رحمه الله- في كتابه "الثقافة الإسلامية في الهند" (ص 86) أثناء تعداده أسماء مصنفات اللكنوي، فقال: " ... و"إبراز الغيّ الواقع في شفاء العي"، و"تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد" -كلها بالعربية- للشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي المذكور، أما "شفاء العي عمّا أورده الشيخ عبد الحي"؛ فهو لبعض العلماء، صنفه في الرد على تعقبات الشيخ عبد الحي المذكور في مصنفاته على السيد

صديق حسن خان القِنّوجي في الوفيات، فأجاب عنه الشيخ عبد الحي في "إبراز الغي"، فرد عليه بعضهم في رسالة مستقلة سماها "تبصرة الناقد برد كيد الحاسد"، فأجاب عنه الشيخ عبد الحي في "تذكرة الراشد ... ". (¬1) قلت: ولعل مرجع هذا كله إلى سببين: الأول: اعتداد اللكنوي بنفسه، واعتقاده أنه يختلف عن علماء عصره، كما قال هو نفسه في "ظَفَر الأماني" (¬2) (ص 245) : " ... وإني أحمد الله حمداً متوالياً، وأشكره شكراً متتالياً على أن وفقني للتوسط في جميع المباحث الفقهية والحديثية، ورزقني نظراً وسيعاً، وفهماً رفيعاً، أقتدر به على الترجيح فيما بين أقوالهم المتفرقة، ونجاني من بلية تقليد المتشددين المتساهلين تقليداً جامداً، واختيار قول إحدى الطائفتين من دون تبصر وتفكر اختياراً كاسداً، لا أقول هذا تكبراً وفخراً! بل متحدثاً بنعمة الرب وشكراً، ولربي عَلي مِنَنْ مختصة، لا أقدر على عدها، ونِعَمٌ مُتكَثرة لا يمكن مني حصرها، فشكري هو العجز عن أداء شكرها، وأرجو من ربي دوامها وذُخرَها" (¬3) . الثاني: جِبِلة القنوجي وطبيعة خِلْقته؛ فقد كان -رحمه الله- كما وصفه معاصروه "حلو المنطق، مُقِلاً من الكلام، غير جاف ولا عبوس، كثير الحِلم، قليل الغضب، عفيف اللسان، لا يقترح لنفسه شيئاً، مشغول الفكر بالمطالعة ¬

_ (¬1) علق الكتاني على هذه الردود في "فهرس الفهارس" (2/1057) بقوله: "وكل منهما لا يخلو تصنيفه ورده وجوابه من فوائد، جزاهما الله خيراً". (¬2) وقد طُبع حديثاً طبعتين! (¬3) وانظر "نزهة الخواطر" (8/236) ، و"الفوائد البهية" (116) .

والتأليف ... منصفاً، يعرف لأقرانه ولكثير مِمن يخالفه فضلهم ... " (¬1) . قلت: ودليل على هذا قول ولده الفاضل السيد علي حسن خان واصفاً حالة والده عند موت اللكنوي -رحمة الله عليه-: "إنه لما بلغه نَعِي العلامة عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي؛ وضع يده على جبهته، وأطرق رأسه برهة، ثم رفع رأسه، وعيناه تدمعان، وهو يدعو للشيخ ويترحم، وقال: اليوم غربت شمس العلم، وقال: إن اختلافنا كان مقصوراً على تحقيق بعض المسائل، ولم يأكل طعاماً في تلك الليلة ... " (¬2) . والخلاصة أنّ: "كلام النظير والأقران ينبغي أن يُتأمل، ويُتأنى فيه ... "، كما قال الحافظ الذهبي (¬3) -رحمه الله-. * المنهج التأليفي عند المصنف: اختلفت أنظار أهل العلم وطلبته في مصنفات العلامة القِنوجي؛ فمنهم مَن قال: إنه لخصها من بعض مصنفات السابقين ولم يزد عليها شيئاً يُذكر! ومنهم من قال: إن سائره من إبداعه، وتصنيفه، وتأليفه!! ورحم الله العلامةَ الكتاني القائل في كتابهِ "فهرس الفهارس" (2/1057) رداً على مثل ذلك الادّعاء: "وما لبعض المسيحيين (¬4) في كتاب له اسمُهُ "اكتفاء القنوع بما هو مطبوع" من أن المترجم -وهو القِنوجي- كان عاميّاً ¬

_ (¬1) "نزهة الخواطر" (8/193) . وانظر كلام ابنه في ذلك، كما أورده صاحب "فهرس الفهارس" (2/1058) . (¬2) المصدر السابق. (¬3) "ميزان الاعتدال" ترجمة رقم (2000) . (¬4) والأفضلُ لو قال: (النصارى) !! والمذكورُ اسمُهُ: إدوارد فنديك، وكتابه مطبوع في مصر سنة (1896 م) ، وانظر (ص 497) منه.

وتزوج بملكة بَهُوبال، فعندما اعتزّ بالمال جمع إليه العلماء! وأرسل يبتاع الكتب بخط اليد! وكلّف العلماء بوضع المؤلفات ثم نسبها لنفسه! بل كان يختار الكتب القديمة العديمة الوجود (!) وينسبها لنفسه ... إلخ!! فكلام أعدائه فيه، وإلا فالتآليف تآليفه، ونَفَسُهُ فيها مُتحِدٌ ... ". قلت: فهذه الدعوى مجازفةٌ واضحةٌ، وفِرْيةٌ عريضةٌ من فنديك المذكور، والصواب ما قاله الكتّاني -رحمه الله تعالى-، وإن كانت السمةُ البارزةُ على مصنفاته -رحمه الله- التلخيص والتهذيب، والزيادة والترتيب، والجمع والتبويب، وهو بذلك مشابهٌ لإمام كبير من أئمة العلم، وهو الحافظ السيوطي (¬1) المتوفى سنة (911 هـ) ؛ فقد عُرف عنه المنهج نفسه، وهو منهج يدل على استبحار في العلوم، ونظر في الكتب والفنون، وليس أمراً سهلاً هيناً كما يظنه بعض المنتسبين العلم! ومِما يُنَبهُ عليه -في هذا المقام- أن الادعاءَ على أهل العلم -أو بعض منهم- بالانتحالِ! والسرقاتِ العلمية (!) شَأن قديمٌ لم يَنْجُ الأكابر -فيه- من كَيْد الأصاغر!! ثم (تجدد) هذا النمَطُ من التُّهَم -هذه الأيامَ- حتّى ألِّفت فيه مؤلفات! وَوُزعت مِن أجلهِ بيانات!! خِدْمة لأهداف مخالفة لمنهج الأسلاف!!! وترى شيئاً من تفصيل القولِ في هذه المسألةِ (الخطيرة) في كتاب "الفارق بين المصنّف والسارق" للعلامة السيوطي -ومقدمتي عليه-؛ وهو مطبوع -منذ سنوات- بتحقيقي ... وأخيراً؛ رحم اللهُ العلامة صِديق حَسَن خان، وجَمعنا -وإيّاه- في جنتهِ، إنّه -سبحانه- وليُّ ذلك والقادرُ عليه. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في مقدَمة تحقيقي لـ "المصابيح في صلاة التراويح"، وهي مطبوعة في دار عمار للنشر والتوزيع، الأردن - عمان.

"الدرر البهية" تعريف وبيان

"الدُّرَرُ البهِيةُ" تَعْرِيف وبَيَانٌ * هُوَ مَتْنٌ فِقْهِي مُختصَرٌ؛ اسْمُهُ: "الدُّرَرُ البَهِية فِي المَسَائِل الفِقهِية" (¬1) ؛ جَمَعَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ -وَهُوَ الإِمَامُ مُحَمدُ بْنُ عَلَيٍّ الشوْكَانِي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عُيُونَ مَسَائِل الفِقْهِ التِي رَجَحَ دَلِيلُهَا، وَثَبَتَتْ حُجتهَا. * وَهذَا المتْنُ -عَلَى صِغَرِهِ وَوَجَازَتِهِ- مُحتَو عَلَى أبَوَابِ الفِقْهِ جمِيعِهَا؛ بِعِبَارَة جَامِعَة، وَألفَاظِ بَدِيعَةِ رَائِعَة. * وَقَدْ شَرَحَهُ -وَاعْتَنَى بِهِ- غَيْرُ وَاحِدِ مِنْ أهْل العِلْمِ؛ مِنْهُمْ: 1- مُؤَلفُهُ نَفْسُهُ؛ بِكِتَابِ اسْمُهُ: "الدرَارِي المضِية شَرْحُ الدررِ البَهِية"، وَهُو مَطبُوعٌ مِرَاراً. 2- وَلَدُ مُؤَلفِهِ، وَهُوَ أحمَدُ بْنُ مَحَمدِ بْن عَلَيِّ الشوْكَانِيُّ -وَقَدْ تُوُفيَ سَنَةَ (1281 هـ) -، بِكِتَاب اسْمُهُ: "السُّمُوطُ الذهَبِية الحَاوِيَةُ لِلدُّرَرِ البَهِية"، وَهُوَ مَطبُوع. 3- صِديق حَسَن خَان، فِي كِتَابِهِ: "الروضَةِ الندِيةِ" (¬2) -وَهُوَ كِتَابُنَا هذَا-. ¬

_ (¬1) وقد رأينا -بعد تأمل- إثباتَ متن "الدرر البهية" -تاماً- بعد هذه المقدمات؛ تسهيلاً للمطالعة، وتيسيراً للمراجعة. (¬2) وللشيخ جمال الدين القاسمي -رحمه الله- حواش علمية عليه. انتهى منها بتاريخ 11 شعبان سنة 1328 هـ. كما في كتاب "جمال الدين القاسمي وعصره" (ص 670)

4- مُحَمد صُبْحِي حَسَن حَلاق -مُعاصر-، بِكِتَابِ اسْمُهُ: "الأدِلةُ الرضية لِمَتْن الدُّرَرِ البَهِية"، وَهُوَ مَطبُوع. 5- سَعْد الدين بن محمد الكُبي -معاصر-؛ بكتابِ اسمُهُ: "التعليقات الزهية على الدُّرر البهية"، وهو مطبوع. 6- وَهُنَاكَ نَظم لِـ "الدُّرَرِ البَهِيةِ" بقلم (عَلِي بْن مُحَمدِ بْن عَقِيل الحَازِمِيٌ) المُتَوَفى سَنَةَ (1252 هـ) ، كَمَا فِي "نَيْل الوَطَرِ" (2/160) . 7- وَنَظمٌ آخَر مَبْنِي عَلَى "الدررِ" لـ (عَلَيٌ بن عَبْدِ الله الإِرْيَانِي) المتَوَفى سَنَةَ (1323 هـ) ، كَمَا فِي كِتَابِ "هِجَر العِلْمِ وَمَعَاقِلِهِ فِي اليَمَن" (1/69) . * وَلَيْسَتْ هذِهِ العِنَايَةُ مِنْ أهْل العِلمِ -هَؤُلاَءِ- إِلا مِنْ أجْل مكَانَتِهِ وَمَتَانَتِهِ. فَرَحِمَ اللهُ مُؤَلفَهُ، وَأعْلَى مَقَامَهُ فِي الدارَيْن؛ بِمَنِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وَكَرَمِهِ.

صورة غلاف النسخة المعتمدة في التحقيق وظاهر فيها خطوط شيخنا الألباني ومن ذلك عنوان كتابه

صورة نموذج من تعليقات شيخنا الألباني على الجزء الأول من "الروضة الندية"

صورة نموذج من التعليقات (الكبيرة) التي أثبتها شيخنا الألباني في نسخته

متن "الدرر البهية في المسائل الفقهية"

متن "الدرر البهية في المسائل الفقهية"

كتاب الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم أحمدُ مَن أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين. (1 - كتاب الطهارة) (1 - باب) هذا الكتاب قد اشتمل على مسائل: الأولى: الماء طاهر مطهِّر، لا يُخرجه عن الوصفيْن إلا ما غيَّر ريحه، أو لونه، أو طعمه من النجاسات، وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيِّرات الطاهرة، ولا فرق بين قليل وكثير، وما فوق القُلَّتين وما دونهما، ومتحرك وساكن، ومستعمَل وغير مستعمَل. (2 - باب النجاسات) فصل: والنجاسات هي غائط الإنسان مُطْلقاً، وبوله - إلا الذكر الرضيع -، ولُعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل الطهارة؛ فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يُعارضه ما يساويه أو يقدم عليه. فصل: ويطهر ما يتنجَّس بغسله، حتى لا يبقى لها عين، ولا لون، ولا ريح،

باب قضاء الحاجة

ولا طعم، والنعل بالمسح، والاستحالة مطهِّرة لعدم وجود الوصف المحكوم عليه، وما لا يمكن غسله فبالصَّبِّ عليه أو النزح منه؛ حتى لا يبقى للنجاسة أثر. والماء هو الأصل في التطهير؛ فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع. (3 - باب قضاء الحاجة) على المُتخلِّي الاستتار حتى يدنو من الأرض، والبُعد أو دخول الكنيف، وترْك الكلام، والمُلابسة لما له حُرمة، وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شَرْع أو عُرْف، وعدم الاستقبال، والاستدبار للقبلة، وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة، أو ما يقوم مقامها، ويُندب الاستعاذة عند الشُّروع، والاستغفار والحمد بعد الفراغ. (4 - باب الوضوء) يجب على كل مكلَّف أن يُسمِّي إذا ذَكَرَ، ويتمضمض ويستنشق، ثم يغسل جميع وجهه، ثم يديه مع مرفقيه، ثم يمسح رأسه مع أذنيه، ويجزئ مسح بعضه، والمسح على العِمامة، ثم يغسل رجليه مع الكعبين، وله المسح على الخفين. ولا يكون وضوءاً شرعيّاً إلا بالنية لاستباحة الصلاة. فصل: يُستحبّ التَّثليث في غير الرأس، وإطالة الغُرّة والتّحْجيل، وتقديم السِّواك، وغسل اليدين إلى الرسغين - ثلاثاً - قبل الشُّروع في غسل الأعضاء المتقدمة.

باب الغسل

فصل: وينتقض الوضوء من الفرجين من عين أو ريح، وبما يوجب الغسل، ونوم المضطجع، وأكل لحم الإبل، والقيء، ونحوه، ومس الذكر. (5 - باب الغسل) يجب بخروج المنيّ بشهوة - ولو بتفكر -، وبالتقاء الختانين، وبانقطاع الحيض والنفاس، وبالاحتلام - مع وجود بلل -، وبالموت، وبالإسلام. فصل: والغسل الواجب هو: أن يُفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه، مع المضمضة والاستنشاق، والدَّلك لما يُمكن دلكه، ولا يكون شرعيا إلا بالنية لرفع موجبه، ونُدب تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين، ثم التيامن. فصل: ويشرع لصلاة الجمعة، والعيدين، ولمن غسّل ميتاً، وللإحرام، ولدخول مكة. (6 - باب التيمم) يُستباح به ما يُستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء، أو خشي الضرّر من استعماله، وأعضاؤه: الوجه ثم الكفّان، يمسحهما مرّة بضربة

باب الحيض

واحدة، ناوياً مُسمياً، ونواقضه نواقض الوضوء. (7 - باب الحيض) لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطُّهر، فذات العادة المتقرِّرة تعمل عليها، وغيرها ترجع إلى القرائن، فدم الحيض يتميز من غيره، فتكون حائضاً إذا رأت دم الحيض، ومستحاضة إذا رأت غيره، وهي كالطاهرة، وتغسل أثر الدم، وتتوضأ لكل صلاة، والحائض لا تصلي، ولا تصوم، ولا تُوطأ؛ حتى تغتسل بعد الطهر، وتقضي الصيام. فصل: والنفاس أكثره أربعون يوماً، ولا حدّ لأقله، وهو كالحيض. (2 - كتاب الصلاة) (1 - باب مواقيت الصلاة) أول وقت الظهر الزوال، وآخره مصير ظل الشيء مثله - سوى فيء الزوال -، وهو أول وقت العصر، وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية، وأول وقت المغرب غروب الشمس، وآخره ذهاب الشفق الأحمر، وهو أول العشاء، وآخره نصف الليل، وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر، وآخره طلوع الشمس، ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتُها حين يذكرها، ومن كان معذوراً وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها، والتوقيت واجب، والجمع لعذر جائز، والمتيمم وناقص الصلاة - أو الطهارة - يصلون كغيرهم من غير تأخير، وأوقات الكراهة - في غير مكة -: بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال - في غير يوم الجمعة -، وبعد العصر حتى تغرب.

باب الأذان

(2 - باب الأذان) يُشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنا؛ يُنادي بألفاظ الأذان المشروعة عند دخول وقت الصلاة، ويُشرع للسامع أن يتابع المؤذن، ثم تُشرع الإقامة على الصفة الواردة. (3 - باب شروط الصلاة) ويجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسة، وستر عورته؛ ولا يشتمل الصَّمَّاء، ولا يَسدل، ولا يُسبل، ولا يَكفت، ولا يصلي في ثوب حرير، ولا ثوب شهرة، ولا مغصوب، وعليه استقبال عين الكعبة - إن كان مُشاهداً لها أو في حكم المشاهد -، وغير المشاهد يستقبل الجهة بعد التحري. (4 - باب كيفية الصلاة) لا تكون شرعية إلا بالنية، وأركانها كلها مفترضة؛ إلا قعود التشهد الأوسط والاستراحة، ولا يجب من أذكارها إلا التكبير؛ والفاتحة في كل ركعة - ولو كان مؤتمّاً -، والتشهد الأخير، والتسليم، وما عدا ذلك فسنن، وهي: الرفع في المواضع الأربعة، والضم، والتوجه بعد التكبيرة، والتعوذ، والتأمين، وقراءة غير الفاتحة معها، والتشهد الأوسط، والأذكار الواردة في كل ركن، والاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة؛ بما ورد وبما لم يرد. (5 - باب متى تبطل الصلاة؟ وعمن تسقط؟) فصل: وتبطل الصلاة بالكلام، وبالاشتغال بما ليس منها، وبترك شرط أو ركن عمداً.

باب صلاة التطوع

فصل: ولا تجب على غير مُكلَّف، وتسقط عمن عجز عن الإشارة، وعمن أُغمي عليه حتى خرج وقتها، ويصلي المريض قائماً، ثم قاعداً، ثم على جَنْب. (6 - باب صلاة التطوع) هي أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، وصلاة الضحى، وصلاة الليل - وأكثرها ثلاث عشرة ركعة؛ يُوْتر في آخرها بركعة -، وتحية المسجد، والاستخارة، وركعتان بين كل أذان وإقامة. (7 - باب صلاة الجماعة) هي من آكد السنن؛ وتنعقد باثنين، وإذا كثر الجمع؛ كان الثواب أكثر، وتصح بعد المفضول، والأوْلى أن يكون الإمام من الخِيار، ويؤم الرجل بالنساء - لا العكس -، والمفترض بالمُتنفِّل - والعكس -، وتجب المتابعة في غير مبطل، ولا يؤم الرجل قوماً هم له كارهون، ويصلي بهم صلاة أخفهم، ويُقدَّم السلطان، ورب المنزل، والأقرأ، ثم الأعلم، ثم الأسن، وإذا اختلَّت صلاة الإمام؛ كان ذلك عليه لا على المؤتمِّين به، وموقفهم خلفه؛ إلا الواحد فعن يمينه، وإمامة النساء وسط الصف، وتقدم صفوف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، والأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنُّهَى، وعلى الجماعة أن يُسوَوُّا صفوفهم، وأن يسدوا الخَلل، وأن يُتموا الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم

باب سجود السهو

كذلك. (باب سجود السهو) وهو سجدتان قبل التسليم أو بعده؛ وبإحرام، وتشهد، وتحليل، ويُشرع لترك مسنون، وللزيادة - ولو ركعة - سهواً، وللشك في العدد، وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم. (باب القضاء للفوائت) إن كان الترك عمداً لا لعذر؛ فدَيْن الله - تعالى - أحق أن يُقضى، وإن كان بعذر، فليس بقضاء؛ بل أداء في وقت زوال العذر؛ إلا صلاة العيد؛ ففي ثانيه. (باب صلاة الجمعة) تجب على كل مُكلَّف؛ إلا المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض، وهي كسائر الصلوات؛ لا تُخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبلها، ووقتها وقت الظهر، وعلى من حضرها أن لا يتخطّى رقاب الناس، وأن يُنصت حال الخطبتين، ونُدِب له التَّبْكير، والتطيب، والتجمل، والدنو من الإمام، ومن أدرك ركعة منها؛ فقد أدركها، وهي في يوم العيد رخصة. (باب صلاة العيدين) هي ركعتان؛ في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك، ويخطب بعدها، ويستحب التجمل، والخروج إلى خارج البلد،

باب صلاة الخوف

ومخالفة الطريق، والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى، ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، ولا أذان فيها ولا إقامة. (باب صلاة الخوف) قد صلاّها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على صفات مختلفة؛ وكلها مجزئة، وإذا اشتد الخوف والتحم القتال؛ صلاّها الرّاجل والرّاكب - ولو إلى غير القبلة ولو بالإيماء -. (باب صلاة السفر) يجب القصر على من خرج من بلده قاصداً للسفر؛ وإن كان دون بريد، وإذا أقام ببلد مترددا؛ قصر إلى عشرين يوماً، وإذا عزم على إقامة أربع؛ أتم بعدها، وله الجمع تقديماً وتأخيراً؛ بأذان وإقامتين. (باب صلاة الكسوفين) وهي سُنّة، وأصح ما ورد في صفتها ركعتان؛ وفي كل ركعة ركوعان، وورد ثلاثة، وأربعة، وخمسة، يقرأ بين كل ركوعين، وورد في كل ركعة ركوع، وندب الدعاء، والتكبير، والتصدق، والاستغفار. (باب صلاة الاستسقاء) تُسنّ عند الجدْب ركعتان؛ بعدهما خُطبة؛ تتضمن الذِّكْر، والترغيب في الطاعة، والزّجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار، والدعاء برفع الجدْب، ويُحوِّلون - جميعاً - أرديتهم.

كتاب الجنائز

(3 - كتاب الجنائز) من السُّنَّة عيادة المريض، وتلقين المحتضر الشهادتين، وتوجيهه وتغميضه إذا مات، وقراءة (يس) عليه، والمبادرة بتجهيزه - إلا لتجويز حياته -، والقضاء لدَيْنه، وتسْجِيَته، ويجوز تقبيله، وعلى المريض أن يُحسن الظن بربه، ويتوب إليه، ويتخلص عن كل ما عليه. فصل: ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء، والقريب أولى بالقريب؛ إذا كان من جنسه، وأحد الزوجين بالآخر، ويكون الغسل ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر؛ بماء وسدر؛ وفي الآخرة كافور، وتُقدَّم الميامن، ولا يُغسَّل الشهيد. فصل: يجب تكفينه بما يستره - ولو لم يملك غيره -، ولا بأس بالزيادة - مع التمكن - من غير مغالاة، ويُكفَّن الشهيد في ثيابه التي قُتل فيها، وندب تطييب بدن الميت وكفنه. فصل: وتجب الصلاة على الميت، ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة، ويُكبِّر أربعاً أو خمساً، ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة، ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة، ولا يصلَّى على الغالِّ، وقاتل نفسه، والكافر، والشهيد، ويُصلَّى على القبر، وعلى الغائب.

كتاب الزكاة

فصل: ويكون المشي بالجنازة سريعاً، والمشي معها، والحمل لها سُنّة، والمتقدم عليها والمتأخِّر عنها سواء، ويُكره الرُّكوب، ويحرم النعي، والنياحة، واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور، ولا يقعد المتبع لها حتى توضع، والقيام لها منسوخ. فصل: ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السِّباع، ولا بأس بالضَّرح، واللحد أوْلى، ويُدخل الميِّت من مؤخِّر القبر، ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلاً، ويستحب حثو التراب - من كل من حضر - ثلاث حثيات، ولا يُرفع القبر زيادةً على شبر. والزيادة للموتى مشروعة، ويقف الزائر مستقبلاً للقبلة، ويحرم اتخاذ القبور مساجد، وزخرفتها، وتسريجها، والقعود عليها، وسب الأموات. والتعزية مشروعة، وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت. (4 - كتاب الزكاة) تجب في الأموال التي ستأتي؛ إذا كان المالك مُكلَّفاً. (باب زكاة الحيوان) إنما تجب منه في النعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.

فصل: إذا بلغت الإبل خمساً؛ ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين؛ ففيها ابنة مخاض، أو ابن لبون، وفي ست وأربعين حقة، وفي إحدى وستين جذعة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقَّتان إلى مئة وعشرين، فإذا زادت؛ ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حِقَّة. فصل: ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي أربعين مُسنَّة، ثم كذلك. فصل: ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مئة وإحدى وعشرين وفيها شاتان إلى مئتين وواحدة، وفيها ثلاث شياه إلى ثلاث مئة وواحدة، وفيها أربع، ثم في كل مئة شاة. فصل: ولا يُجمع بين مُفترق من الأنعام، ولا يُفرَّق بين مجتمع؛ خشية الصدقة. فصل: ولا شيء فيما دون الفريضة، ولا في الأوقاص، وما كان من خليطين فيتراجعان بالسَّويَّة، ولا تُؤخذ هَرِمة، ولا ذات عَوار، ولا عيب، ولا صغيرة، ولا أكولة، ولا رُبَّى، ولا ماخض، ولا فحل غنم.

باب زكاة الذهب والفضة

(باب زكاة الذهب والفضة) هي - إذا حال على أحدهما الحوْل - ربع العشر، ونصاب الذهب عشرون ديناراً، ونصاب الفضة مئتا درهم، ولا شيء فيما دون ذلك، ولا زكاة في غيرهما من الجواهر، وأموال التجارة، والمستغلاّت. (باب زكاة النّبات) يجب العشر في الحنطة، والشعير، والذرة، والتمر، والزبيب؛ وما كان يُسقى بالمسنيِّ منها؛ ففيه نصف العشر، ونصابها خمسة أوسق، ولا شيء فيما عدا ذلك، كالخضروات وغيرها، ويجب في العسل العشر. ويجوز تعجيل الزكاة، وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم، ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان - وإن كان جائراً -. (باب مصارف الزكاة) هي ثمانية - كما في الآية -، وتحرم على بني هاشم ومواليهم، وعلى الأغنياء، والأقوياء المكتسبين. (باب صدقة الفطر) هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد، والوجوب على سيد العبد، ومنفق الصغير، ونحوه، ويكون إخراجها قبل صلاة العيد، ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته؛ فلا فطرة عليه، ومصرفها مصرف الزكاة.

كتاب الخمس

(5 - كتاب الخُمس) يجب فيما يُغنم في القتال، وفي الرِّكاز، ولا يجب فيما عدا ذلك، ومصرفه من قوله - تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} . (6 - كتاب الصيام) يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل، أو إكمال عدة شعبان، ويصوم ثلاثين يوماً؛ ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها، وإذا رآه أهل بلد؛ لزم سائر البلاد الموافقة، وعلى الصائم النية قبل الفجر. (باب مبطلات الصيام) ويبطل بالأكل، والشرب، والجماع، والقيء عمداً، ويحرم الوصال، وعلى من أفطر عمداً كفّارة ككفَّارة الظِّهار، ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور. فصل: يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي، والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة، ومن مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه، والكبير العاجز عن الأداء والقضاء؛ يُكفِّر عن كل يوم بإطعام مسكين، والصائم المتطوع أمير نفسه، لا قضاء عليه ولا كفّارة. (باب صوم التطوع) يُستحبّ صيام ست من شوال، وتسع ذي الحجة، ومحرّم، وشعبان،

باب الاعتكاف

والاثنين والخميس، وأيام البيض، وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم، ويُكره صوم الدهر، وإفراد يوم الجمعة، ويوم السبت، ويحرم صوم العيدين، وأيام التشريق، واستقبال رمضان بيوم أو يومين. (باب الاعتكاف) يُشرع - ويصح - في كل وقت في المساجد، وهو في رمضان آكد، سيّما في العشر الأواخر منه، ويستحب الاجتهاد في العمل فيها، وقيام ليالي القدر، ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة. (7 - كتاب الحج) يجب على كل مكلَّف مستطيع فوراً، وكذلك العمرة؛ وما زاد فهو نافلة. فصل: يجب تعيين نوع الحج بالنية؛ من تمتع أو قِران أو إفراد، والأول أفضلها، ويكون الإحرام من المواقيت المعروفة، ومن كان دونها؛ فمُهَلُّه أهله؛ حتى أهل مكة من مكة. فصل: ولا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسّه ورْس، ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس

القفازين، وما مسه الورس والزعفران، ولا يتطيب ابتداء، ولا يأخذ من شعره أو بشره إلا لعذر، ولا يرفث، ولا يفسق، ولا يجادل، ولا ينكح، ولا يُنكح، ولا يخطب، ولا يقتل صيداً، ومن قتله؛ فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل، ولا يأكل ما صاده غيره؛ إلا إذا كان الصائد حلالاً ولم يصده لأجله، ولا يعضد من شجر الحرم؛ إلا الإذخر، ويجوز قتل الفواسق الخمس، وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة؛ إلا أن من قطع شجره أو خبطه؛ كان سلبه حلالاً لمن وجده، ويحرم صيد وجٍّ وشجره. فصل: وعند قدوم الحاج مكة؛ يطوف للقدوم سبعة أشواط، يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويقبّل الحجر الأسود، أو يستلمه بمحجن ويقبّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني، ويكفي القارن طواف واحد، وسعي واحد، ويكون حال الطواف متوضئاً ساتر العورة، والحائض تفعل ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوف بالبيت، ويندب الذِّكر حال الطواف بالمأثور، وبعد فراغه يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، ثم يعود إلى الركن فيستلمه. فصل: ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعياً بالمأثور، وإذا كان متمتّعاً؛ صار بعد السعي حلالاً؛ حتى إذا كان يوم التروية؛ أهلّ بالحج، وتوجه إلى منًى، وصلى بها: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر.

فصل: ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبراً، ويجمع العصرين فيها، ويخطب، ثم يفيض من عرفة بعد الغروب، ويأتي المزدلفة؛ ويجمع فيها بين العشاءين، ثم يبيت بها، ثم يصلي الفجر، ويأتي المشعر؛ فيذكر الله عنده، ويقف به إلى قبل طلوع الشمس، ثم يدفع حتى يأتي بطن محسِّر، ثم يسلك الطريق الوسطى إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة، فيرميها بسبع حصيات؛ يكبِّر مع كل حصاة - مثل حصى الخذف -، ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس؛ إلا النساء والصبيان؛ فيجوز لهم قبل ذلك، ويحلق رأسه أو يقصِّره، فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي؛ فلا حرج، ثم يرجع إلى منى: فيبيت بها ليالي التشريق، ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات؛ مبتدئاً بالجمرة الدنيا، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، ويُستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم يوم النحر، وفي وسط أيام التشريق، ويطوف الحاج طواف الإفاضة - وهو طواف الزيارة - يوم النحر، وإذا فرغ من أعمال الحج، وأراد الرجوع؛ طاف للوداع وجوبا؛ إلا أنه خُفِّف عن الحائض. فصل: والهدي؛ أفضله البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، وتجزئ البدَنَة والبقرة عن سبعة، ويجوز للمُهدي أن يأكل من لحم هديه، ويركب عليه، ويُنْدب له إشعاره وتقليده، ومن بعث بهدي؛ لم يحرُم عليه شيء مما يحرم على المُحرم.

باب العمرة المفردة

(باب العمرة المفردة) يُحرِم لها من الميقات، ومن كان في مكة؛ خرج إلى الحِلّ، ثم يطوف، ويسعى، ويحلق - أو يقصِّر -، وهي مشروعة في جميع السنة. (8 - كتاب النكاح) يُشرع لمن استطاع الباءة، ويجب على من خشي الوقوع في المعصية، والتَّبتُّل غير جائز؛ إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه، وينبغي أن تكون المرأة ودوداً، ولوداً، بكراً، ذات جمال، وحسب، ودين، ومال، وتُخطب الكبيرة إلى نفسها، والمعتبَر حصول الرِّضا منها لمن كان كُفْأ، والصغيرة إلى وليّها، ورضا البكر صُماتها، وتحرم الخطبة في العدة وعلى الخطبة، ويُستحب النظر إلى المخطوبة، ولا نكاح إلا بولي وشاهدين؛ إلا أن يكون عاضلاً، أو غير مسلم؛ ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يُوكِّل لعقد النكاح ولو واحداً. فصل: ونكاح المتعة منسوخ، والتحليل حرام، وكذلك الشغار، ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة؛ إلا أن يُحل حراماً، أو يُحرِّم حلالاً. (باب المحرمات في النكاح) ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة؛ والعكس، ومن صرّح القرآن بتحريمه، والرضاع كالنسب، والجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها، وما زاد على العدد المباح؛ للحر والعبد، وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده؛ فنكاحه

باب العيوب وأنكحة الكفار

باطل، وإذا أُعتقت الأمَة ملكت أمر نفسها، وخُيِّرت في زوجها. (باب العيوب وأنكحة الكفّار) ويجوز فسخ النكاح بالعيب، ويُقرّ من أنكحة الكفار - إذا أسلموا - ما يُوافق الشّرع، وإذا أسلم أحد الزوجين؛ انفسخ النّكاح، وتجب العدّة، فإن أسلم ولم تتزوج المرأة؛ كانا على نكاحهما الأول؛ ولو طالت المدة؛ إذا اختارا ذلك. (باب المهر والعِشْرة) المهر واجب، وتُكره المغالاة فيه، ويصح ولو خاتماً من حديد، أو تعليم قرآن، ومن تزوج امرأة ولم يُسمّ لها صداقاً؛ فلها مهر نسائها إذا دخل بها، ويُستحبّ تقديم شيء من المهر قبل الدخول، وعليه إحسان العِشْرة، وعليها الطاعة، ومن كانت له زوجتان فصاعداً؛ عَدَل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه، وإذا سافر أقرع بينهن، وللمرأة أن تَهَب نوْبتها، أو تُصالح الزوج على إسقاطها، ويقيم عند الجديدة البِكْر سبعاً، والثيّب ثلاثاً، ولا يجوز العزل، ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها. فصل: والولد للفراش، ولا عبرة لشَبَهه بغير صاحبه، وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمَة في طهر مَلَكها كل واحد منهم فيه، فجاءت بولد، وادّعوه جميعاً؛ فيُقْرَع بينهم، ومن استحقّه بالقُرعة؛ فعليه للآخرين ثُلُثَا الدِّيّة.

كتاب الطلاق

(9 - كتاب الطلاق) هو جائز من مُكلَّف مختار، ولو هازلاً؛ لمن كانت في طُهر لم يمسّها فيه، ولا طلّقها في الحيضة التي قبله، أو في حمل قد استبان، ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة، وفي وقوعه - ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة - خلاف، والراجح عدم الوقوع. فصل: ويقع بالكناية مع النيّة، وبالتّخيير إذا اختارت الفُرقة، وإذا جعله الزوج إلى غيره؛ وقع منه، ولا يقع بالتحريم، والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقها، يُراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيّاً، ولا تحل له بعد الثالثة، حتى تنكح زوجاً غيره. (باب الخُلْع) وإذا خالع الرجل امرأته؛ كان أمرها إليها، لا ترجع إليه بمجرد الرجعة، ويجوز بالقليل والكثير؛ ما لم يجاوز ما صار إليها منه، ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخُلْع، أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما. وهو فَسْخ، وعِدّته حيضة. (باب الإيلاء) هو أن يحلف الزوج على جميع نسائه - أو بعضهن -: لا أقربهنّ، فإن وقّت بدون أربعة أشهر؛ اعتزل حتى ينقضي ما وقّت به، وإن لم يُوقِّت شيئا

باب الظهار

- أو وَقّت بأكثر منها -؛ خُيّر بعد مُضيّها بين أن يفيء أو يُطلِّق. (باب الظِّهار) وهو قول الزوج لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، أو: ظاهرتك، أو نحو ذلك؛ فيجب عليه قبل أن يمسّها أن يُكفِّر بعتق رقبة، فإن لم يجد فليُطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين: ويجوز للإمام أن يُعينه من صدقات المسلمين؛ إذا كان فقيراً لا يقْدر على الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظِّهار مُؤقّتاً؛ فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت، وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت - أو قبل التكفير -؛ كفّ حتى يُكفِّر في المطلق، أو ينقضي وقت المؤقَّت. (باب اللعان) إذا رمى الرجل امرأته بالزنا، ولم تقرّ بذلك، ولا رجع عن رميه؛ لاعنها، فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وإذا كانت حاملاً أو كانت قد وضعت؛ أدخل نفي الولد في أيمانه، ويفرِّق الحاكم بينهما، وتحرم عليه أبداً، ويُلحق الولد بأمه فقط، ومن رماها به، فهو قاذف. (باب العِدّة والإحداد) هي للطلاق من الحامل؛ بالوضع، ومن الحائض؛ بثلاث حيض، ومن

باب استبراء الإماء

غيرهما؛ بثلاثة أشهر، وللوفاة؛ بأربعة أشهر وعشْراً؛ وإن كانت حاملاً فبالوضع؛ ولا عدّة على غير مدخولة، والأمَة كالحُرّة، وعلى المعتدّة للوفاة ترك التزين، والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها، أو بلوغ خبره، وامرأة المقُود تربَّص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، وهي امرأته ما لم تتزوج. (باب استبراء الإماء) يجب استبراء الأمَة المسْبِيّة والمُشتراة ونحوهما بحيضه؛ إن كانت حائضاً، والحامل بوضع الحمل، ومنقطعة الحيض حتى يتبيّن عدم حملها، ولا تُستبرأ بكر، ولا صغيرة مطلقاً؛ ولا يلزم الاستبراء على البائع ونحوه. (باب النفقة) تجب على الزوج للزوجة، والمطلقة رجعيّاً - لا بائناً، ولا في عدة الوفاة؛ فلا نفقة ولا سُكنى؛ إلا أن تكونا حاملتين -، وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر - والعكس -، وعلى السيد لمن يملكه، ولا تجب على القريب لقريبه؛ إلا من باب صلة الرحم، ومن وجبت نفقته؛ وجبت كسوته وسكناه. (باب الرّضاع) إنما يثبت حُكمه بخمس رضعات؛ مع تيقُّن وجود اللبن، وكون الرضيع قبل الفِطام، ويحرم به ما يحرم بالنسب، ويقبل قول المرضعة، ويجوز إرضاع الكبير - ولو كان ذا لحية - لتجويز النظر.

باب الحضانة

(باب الحضانة) الأوْلى بالطفل أمه؛ ما لم تُنكح، ثم الخالة، ثم الأب، ثم يُعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحاً، وبعد بلوغ سن الاستقلال؛ يُخيَّر الصبي بين أبيه وأمه، فإن لم يوجد؛ كَفِله من كان له في كفالته مصلحة. (10 - كتاب البيوع) المعتبَر فيه مجرد التراضي - ولو بإشارة من قادر على النطق -، ولا يجوز بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، والكلب، والسِّنَّوْر، والدم، وعسْب الفحل، وكل حرام، وفضل الماء، وما فيه غَرَر - كالسّمك في الماء، وحبل الحبَلة، والمنابذة، والملامسة، وما في الضرّع، والعبد الآبق، والمغانم حتى تُقسم، والثمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، والسمن في اللبن، والمحاقلة، والمزابنة، والمعاومة، والمخاضرة، والعُربون، والعصير إلى من يتخذه خمراً، والكالئ بالكالئ، وما اشتراه قبل قبضه، والطعام حتى يجري فيه الصاعان -، ولا يجوز الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلوماً، ومنه استثناء ظهر المبيع، ولا يجوز التفريق بين المحارم، ولا أن يبيع حاضر لباد، والتناجش، والبيع على البيع، وتلقِّي الرُّكْبان، والاحتكار، والتّسعير، ويجب وضع الجوائح، ولا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيعتان في بيعة، ورِبْح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عند البائع - ويجوز بشرط عدم الخداع -، والخيار في المجلس ثابت؛ ما لم يتفرّقا. (باب الرِّبا) يحرم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير

باب الخيارات

بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ إلا مثلاً بمثل يداً بيد، وفي إلحاق غيرها بها خلاف، فإن اختلفت الأجناس؛ جاز التفاضل إذا كان يداً بيد، ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي - وإن صحبه غيره -، ولا بيع الرطب بما كان يابساً إلا لأهل العرايا، ولا بيع اللحم بالحيوان، ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه، ولا يجوز بيع العينة. (باب الخيارات) يجب على من باع ذا عيب أن يُبيِّنه؛ وإلا ثبت للمشتري الخيار، والخراج بالضمان، وللمشتري الرد بالغرر - ومنه المصرّاة -؛ فيردها - وصاعاً من تمر، أو ما يتراضيان عليه -، ويثبت الخيار لمن خُدع أو باع قبل وصول السوق، ولكلٍّ من المتبايعين بيعاً منهيّاً عنه الرد، ومن اشترى شيئاً لم يره؛ فله ردّه إذا رآه، وله رد ما اشتراه بخيار، وإذا اختلف البيِّعان؛ فالقول ما يقوله البائع. (باب السَّلَم) هو أن يُسلِّم رأس المال في مجلس العقد؛ على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوماً إلى أجل معلوم، ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله، ولا يتصرف فيه قبل قبضه. (باب القرض) يجب إرجاع مثله، ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر؛ إذا لم يكن مشروطاً،

باب الشفعة

ولا يجوز أن يجُرّ القرض نفعاً للمُقرض. (باب الشُّفْعة) سببها الاشتراك في شيء واحد - ولو منقولاً -؛ فإذا وقعت القسمة فلا شُفعة، ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يُؤْذن شريكه، ولا تبطل بالتراخي. (باب الإجارة) يجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي، وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار، فإن لم تكن كذلك؛ استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذلك العمل، وقد ورد النهي عن كسب الحجّام، ومهر البغيّ، وحُلوان الكاهن، وعسب الفحل، وأجرة المؤذن، وقفيز الطّحّان، ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن؛ لا على تعليمه، وأن يُكري العين مدة معلومة؛ بأجرة معلومة - ومن ذلك كراء الأرض لا بشطر ما يخرج منها -، ومن أفسد ما استؤجر عليه، أو أتلف ما استأجره؛ ضمن. (باب الإحياء والإقطاع) من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره؛ فهو أحق بها، وتكون ملكاً له، ويجوز للإمام أن يُقطع - من في إقطاعه مصلحة - شيئاً من الأرض الميتة، أو المعادن، أو المياه. (باب الشَّركة) الناس شُركاء في الماء، والنار، والكلإ، وإذا تشاجر المستحقون للماء؛

باب الرهن

كان الأحق به الأعلى فالأعلى، يمسكه إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته، ولا يجوز منع فضل الماء ليُمنع به الكلأ، وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة، ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات، ويقسم الربح على ما تراضيا عليه، وتجوز المضاربة ما لم تشتمل على ما لا يحل، وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق؛ كان سبعة أذرع، ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ولا ضرر ولا ضِرار بين الشركاء، ومن ضارّ شريكه؛ جاز للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره. (باب الرهن) يجوز رهن ما يملكه الراهن في ديْن عليه؛ والظَّهر يُركب واللبن يُشرب بنفقة المرهون، ولا يُغلق الرهن بما فيه. (باب الوديعة والعاريّة) تجب على الوديع والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخُن من خانه، ولا ضمان عليه إذا تلفت بدون جنايته وخيانته، ولا يجوز منع الماعون - كالدلو، والقِدر - وإطراق الفحل، وحلب المواشي - لمن يحتاج ذلك -، والحمل عليها في سبيل الله. (باب الغصْب) يأثم الغاصب ويجب عليه رد ما أخذه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وليس لعرق ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيء؛ وله نفقته، ومن غرس في أرض غيره غرساً رفعه،

باب العتق

ولا يحل الانتفاع بالمغصوب، ومن أتلفه؛ فعليه مثله أو قيمته. (باب العتق) أفضل الرِّقاب أنفسها، ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها، ومن ملك رحِمه عَتق عليه، ومن مثّل بمملوكه فعليه أن يُعتقه؛ وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم، ومن أعتق شركاً له في عبد؛ ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم؛ وإلا عتق نصيبه فقط واستُسعي العبد، ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق، ويجوز التدبير؛ فيُعتق بموت مالكه؛ وإذا احتاج المالك جاز له بيعه، ويجوز مُكاتبة المملوك على مال يؤدّيه، فيصير عند الوفاة حُراً، ويُعتق منه بقدر ما سلّم، وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة؛ عاد في الرق، ومن استولد أمَته؛ لم يحلّ له بيعها؛ وعتقت بموته، أو بتخييره لعتقها. (باب الوقف) من حبَّس ملكه في سبيل الله؛ صار محبَّساً، وله أن يجعل غلاتِّه لأي مصرف شاء مما فيه قُربه، وللمتولّي عليه أن يأكل منه بالمعروف، وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين، ومن وقف شيئاً مضارّة لوارثه؛ كان وقفه باطلاً، ومن وضع مالاً في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد؛ جاز صرفه في أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة، أو في مسجده [صلى الله عليه وسلم] ، والوقف على القبور - لرفع سُمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة - باطل. (باب الهدايا) يُشرع قبولها ومكافأة فاعلها، وتجوز بين المسلم والكافر، ويحرم

باب الهبات

الرجوع فيها، وتجب التسوية بين الأولاد، والرد - لغير مانع شرعي - مكروه. (باب الهبات) إن كانت بغير عِوض؛ فلها حكم الهديّة في جميع ما سلف، وإن كانت بعوض؛ فهي بيع ولها حكمه، والعُمرى والرُّقبى توجبان المُلك للمُعْمر والمُرقب ولعقبه من بعده؛ لا رجوع فيهما. (11 - كتاب الأيمان) الحلف إنما يكون باسم الله - تعالى -، أو صفة له، ويحرم بغير ذلك، ومن حلف فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، ولا حِنْث عليه، ومن حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه؛ فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه، ومن أُكره على اليمين؛ فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها، واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها، ولا مؤاخذة باللغو، ومن حقّ المسلم على المسلم إبرار قَسَمه، وكفّارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز. (12 - كتاب النّذر) إنما يصح إذا ابْتُغي وجه الله، فلا بد أن يكون قُربة، ولا نذْر في معصية الله، ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو مفاضلة بين الورثة؛ مخالفة لما شرعه الله تعالى، ومنه النذر على القبور، وعلى ما لم يأذن به الله، ومن أوجب على نفسه فعلاً لم يشرعه الله؛ لم يجب عليه، وكذلك إن كان مما لم يشرعه الله وهو لا يطيقه، ومن نذر نذراً لم يُسمِّه - أو كان معصية، أو لا يُطيقه -؛ فعليه كفّارة يمين، ومن نذر بقربة؛

كتاب الأطعمة

وهو مشرك ثم أسلم؛ لزمه الوفاء، ولا ينفذ النذر إلا من الثلث، وإذا مات الناذر بقربة، ففعلها عنه ولده؛ أجزأه ذلك. (13 - كتاب الأطعمة) الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو عفو، فيحرم ما في الكتاب العزيز، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الإنسية، والجلاّلة قبل الاستحالة، والكلاب، والهر، وما كان مُستخبثاً، وما عدا ذلك فهو؛ حلال. (باب الصيد) ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح؛ كان حلالا إذا ذُكر اسم الله عليه، وما صيد بغير ذلك؛ فلا بد من التذكية، وإذا شارك الكلب المعلَّم كلب آخر؛ لم يحل صيدهما، وإذا أكل الكلب المعلَّم ونحوه من الصيد؛ لم يحل؛ فإنما أمسك على نفسه، وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرّميّة فيه ميتاً - ولو بعد أيام - في غير ماء؛ كان حلالاً ما لم يُنتن، أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه. (باب الذبح) هو ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، وذُكر اسم الله عليه - ولو بحجر أو نحوه -؛ ما لم يكن سنّاً أو ظُفراً، ويحرم تعذيب الذّبيحة، والمُثْلة بها، وذَبْحُها لغير الله، وإذا تعذّر الذبح لوجه؛ جاز الطعن والرمي، وكان ذلك كالذبح، وذكاة الجنين ذكاة أمه، وما أُبِين من الحي فهو ميتة، ويحل ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطّحال، وتحل الميتة للمضطرّ.

باب الضيافة

(باب الضيافة) يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يُحْرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه؛ كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قِراه، ويَحْرم أكل طعام الغير بغير إذنه، ومن ذلك حلْب ماشيته، وأخْذ ثمرته وزرعه، لا يجوز إلا بإذنه؛ إلا أن يكون محتاجاً إلى ذلك؛ فلْيُناد صاحب الإبل أو الحائط، فإن أجابه؛ وإلا فليشرب وليأكل - غير متخذ خُبْنة -. (باب آداب الأكل) يُشرع للآكل التسمية، والأكل باليمين ومن حافتي الطعام لا من وسطه، ومما يليه، ويلعق أصابعه والصحفة، والحمد عند الفراغ، والدعاء، ولا يأكل مُتّكئاً. (14 - كتاب الأشربة) كل مسكر حرام، وكل مفتِّر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، ويجوز الانتباذ في جميع الآنية، ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين، ويحرم تخليل الخمر، ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه، ومظِنّة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام. وآداب الشرب؛ أن يكون ثلاثة أنفاس، وباليمين، ومن قعود، وتقديم الأيمن فالأيمن، ويكون الساقي آخرهم شُرباً، ويسمِّي في أوله، ويحمد في آخره، ويُكره التنفس في السِّقاء، والنفخ فيه، والشرب من فيه، وإذا وقعت

كتاب اللباس

النجاسة في شي من المائعات؛ لم يحل شربه، وإن كان جامداً أُلقيت وما حولها، ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. (15 - كتاب اللباس) ستر العورة واجب في الملإ والخلاء، ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير، إذا كان فوق أربع أصابع؛ إلا للتداوي، ولا يفترشه، ولا المصبوغ بالعصفر، ولا ثوب شُهرة، ولا ما يختص بالنساء، ولا العكس، ويحرم على الرجال التحلي بالذهب - لا بغيره -. (كتاب الأُضحية) تُشرع لأهل كل بيت، وأقلها شاة، ووقتها بعد صلاة عيد النحر إلى آخر أيام التشريق، وأفضلها أسمنها، ولا يُجزئ ما دون الجذع من الضأن، ولا الثنيِّ من المعز، ولا الأعور، والمريض، والأعرج، والأعجف، وأعضب القرن والأذن، ويتصدق منها ويأكل ويدّخر، والذبح في المصلَّى أفضل، ولا يأخذ - من له أُضحية - من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة؛ حتى يُضحِّي. (باب الوليمة) هي مشروعة، ويجب الإجابة عليها، ويقدَّم السابق ثم الأقرب باباً، ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية. فصل: والعقيقة مُستحبّة - وهي شاتان عن الذكر، وشاة عن الأنثى - يوم سابع

كتاب الطب

المولود، وفيه يُسمى، ويُحلق رأسه، ويُتصدق بوزنه ذهباً أو فضة. (17 - كتاب الطب) يجوز التداوي، والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر، ويحرم بالمحرَّمات، ويُكره الاكتواء، ولا بأس بالحجامة، وبالرُّقية - بما يجوز - من العين وغيرها. (18 - كتاب الوِكالة) يجوز لجائز التصرف أن يُوكَّل غيره في كل شيء؛ ما لم يمنع منه مانع، وإذا باع الوكيل - بزيادة على ما رسمه موكِّله -؛ كانت الزيادة للموكِّل، وإذا خالفه إلى ما هو أنفع، أو إلى غيره ورضي به؛ صح. (19 - كتاب الضمانة) يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب، ويُرجع على المضمون عنه؛ إن كان مأموراً من جهته، ومن ضمن بإحضار شخص؛ وجب عليه إحضاره؛ وإلا غرم ما عليه. (20 - كتاب الصلح) هو جائز بين المسلمين؛ إلا صُلحاً أحل حراماً، أو حرّم حلالاً، ويجوز عن المعلوم والمجهول؛ بمعلوم وبمجهول، وعن الدم - كالمال - بأقل من الدية أو أكثر؛ ولو عن إنكار.

كتاب الحوالة

(21 - كتاب الحوالة) من أُحيل على مليء فليحتل، وإذا مطل المُحال عليه أو أفلس؛ كان للمُحال أن يُطالب المُحيل بديْنه. (22 - كتاب المفلس) يجوز لأهل الدَّيْن أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه؛ إلا ما كان لا يُستغنى عنه - وهو: المنزل، وستر العورة، وما يقيه البرد، ويسد رمقه ومن يعول -، ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به، وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع ديْنه؛ كان الموجود أُسوة الغُرماء، وإذا تبيّن إفلاسه؛ فلا يجوز حبسه، ولَيّ الواجد ظُلْم يُحل عرضه وعقوبته، ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله، ويبيعه لقضاء دينه، وكذلك يجوز له الحجر على المبذِّر ومن لا يحسن التصرف، ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله؛ حتى يؤنس منه الرشد، ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف. (23 - كتاب اللُّقطة) من وجد لُقطة فليعرف عِصافها ووِكاءها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه؛ وإلا عرّف بها حولاً، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه، ويضمن مع مجيء صاحبها، ولُقطة مكة أشد تعريفاً من غيرها، ولا بأس بأن ينتفع المُلتقط بالشيء الحقير - كالعصا والسّوط ونحوهما - بعد التعريف به ثلاثاً، وتُلتقط ضالّة الدواب؛ إلا الإبل.

كتاب القضاء

(24 - كتاب القضاء) إنما يصح قضاء من كان مجتهداً، متورِّعاً عن أموال الناس، عادلاً في القضية، حاكماً بالسّويّة، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه، ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهِّلاً للقضاء؛ فهو على خطر عظيم، وله مع الإصابة أجران، ومع الخطأ أجر - إن لم يأل جهداً في البحث -، وتحرم عليه الرِّشوة، والهديّة التي أُهديت إليه لأجل كونه قاضياً، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين؛ إلا إذا كان أحدهما كافراً، والسماع منهما قبل القضاء، وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة، والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهراً فقط، فمن قُضي له بشيء فلا يحل له؛ إلا إذا كان الحكم مُطابقاً للواقع. (25 - كتاب الخصومة) على المُدَّعي البيِّنة، وعلى المنكر اليمين، ويحكم الحاكم بالإقرار، وبشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدّعي، وبيمين المنكر، وبيمين الرد وبعلمه، ولا تُقبل شهادة من ليس بعدل، ولا الخائن، ولا ذي العداوة، والمُتّهم، والقانع لأهل البيت، والقاذف، ولا بدوي على صاحب قرية، وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة، وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وإذا تعارض البيِّنتان ولم يوجد وجه ترجيح؛ قُسّم المدّعَى، وإذا لم يكن للمُدعِّي بينة؛ فليس له إلا يمين صاحبه، ولو كان فاجراً، ولا تُقبل البيّنة بعد اليمين، ومن أقرّ بشيء - عاقلا بالغاً غير هازل ولا

كتاب الحدود

بمحال عقلا أو عادة -؛ لزمه ما أقر به؛ كائنا ما كان، ويكفي مرة واحدة؛ من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها - كما سيأتي -. (26 - كتاب الحدود) (باب حد الزاني) إن كان بكرا حرا جلد مئة جلدة، وبعد الجلد يغرب عاما، وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر، ثم يرجم حتى يموت، ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان؛ فلقصد الاستثبات، وأما الشهادة فلا بد من أربعة، ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج، ويسقط بالشبهات المحتملة، وبالرجوع عن الإقرار، وبكون المرأة عذراء أو رتقاء، ويكون الرجل مجبوبا أو عنينا، وتحرم الشفاعة في الحدود، ويحفر للمرجوم إلى الصدر، ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها - إن لم يوجد من يرضعه -، ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه، ومن لاط بذكر، قتل ولو كان بكرا، وكذلك المفعول به؛ إذا كان مختارا ويعزر من نكح بهيمة، ويجلد المملوك نصف جلد الحر، ويحده سيده أو الإمام. (باب حد السرقة) من سرق - مكلفا مختارا - من حرز ربع دينار فصاعدا؛ قطعت كفه اليمنى، ويكفي الإقرار مرة واحدة، أو شهادة عدلين، ويندب تلقين المسقط، ويحسم موضع القطع، وتعلق اليد في عنق السارق، ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان - لا بعده؛ فقد وجب -، ولا قطع في ثمر ولا

باب حد القذف

كثر؛ ما لم يؤوه الجرين - إذا أكل ولم يتخذ خبنة -؛ وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين، وضرب نكال، وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع، وقد ثبت القطع في جحد العارية. (باب حد القذف) من رمى غيره بالزنا؛ وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة إن كان حرا، وأربعين إن كان مملوكا، ويثبت ذلك بإقراره مرة، أو بشهادة عدلين، وإذا لم يتب؛ لم تقبل شهادته أبدا، فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود؛ سقط عنه الحد، وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا. (باب حد الشرب) من شرب مسكرا - مكلفا مختارا -؛ جلد على ما يراه الإمام - إما أربعين جلدة، أو أقل، أو أكثر -؛ ولو بالنعال، ويكفي إقراره مرة، أو شهادة عدلين - ولو على القيء -، وقتله في الرابعة منسوخ. فصل: والتعزير في المعاصي - التي لا توجب حدا - ثابت؛ بحبس، أو ضرب، أو نحوهما، ولا يجاوز عشرة أسواط. (باب حد المحارب) وهو أحد الأنواع المذكورة في القرآن الكريم - القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي من الأرض -، يفعل الإمام منها ما

باب من يستحق القتل حدا

رأى فيه صلاحا؛ لكل من قطع طريقا ولو في المصر؛ إذا كان قد سعى في الأرض فسادا، فإن تاب قبل القدرة عليه؛ سقط عنه ذلك. (باب من يستحق القتل حدا) هو الحربي، والمرتد، والساحر، والكاهن، والساب لله، أو لرسوله، أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة، والطاعن في الدين والزنديق بعد استتابتهم، والزاني المحصن، واللوطي - مطلقا -، والمحارب. (27 - كتاب القصاص) يجب على المكلف المختار العامد - إن اختار ذلك الورثة -؛ وإلا فلهم طلب الدية، وتقتل المرأة بالرجل - والعكس -، والعبد بالحر، والكافر بالمسلم، - لا العكس -، والفرع بالأصل - لا العكس -، ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها، والجروح - مع الإمكان -، ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية، فإن كان فيهم صغير؛ ينتظر في القصاص بلوغه، ويهدر ما سببه من المجني عليه، وإذا أمسك رجل وقتل آخر؛ قتل القاتل وحبس الممسك، وفي قتل الخطأ الدية والكفارة - وهو ما ليس بعمد، أو من صبي، أو مجنون -، وهي على العاقلة - وهم العصبة -. (28 - كتاب الديات) دية الرجل المسلم مئة من الإبل، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مئتا حلة، وتغلظ دية العمد وشبهه؛ بأن يكون المئة من الإبل؛ في بطون أربعين منها أولادها، ودية الذمي نصف دية

باب القسامة

المسلم، ودية المرأة نصف دية الرجل، والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث، وتجب الدية كاملة في العينين، والشفتين، واليدين، والرجلين، والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف، واللسان، والذكر، والصلب، وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة، وما عدا هذه المسماة؛ فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا، وفي الجنين - إذا خرج ميتا - الغرة، وفي العبد قيمته، وأرشه بحسبها. (باب القسامة) إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت - وهي خمسون يمينا -، يختارهم ولي القتيل، والديه - إن نكلوا - عليهم؛ وإن حلفوا سقطت، وإن التبس الأمر؛ كانت من بيت المال. (29 - كتاب الوصية) تجب على من له ما يوصي فيه، ولا تصح ضرارا، ولا لوارث، ولا في معصية، وهي - في القرب - من الثلث، ويجب تقديم قضاء الديون، ومن لم يترك ما يقضي دينه؛ قضاه السلطان من بيت المال. (30 - كتاب المواريث) هي مفصلة في الكتاب العزيز، ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة، وما بقي فللعصبة، والأخوات مع البنات عصبة، ولبنت الابن مع البنت

كتاب الجهاد والسير

السدس تكملة الثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين، وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم، وهو للجد مع من لا يسقطه، ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب، وفي ميراثهم مع الجد خلاف، ويرثون مع البنات إلا الإخوة لأم، ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين، وأولو الأرحام يتوارثون؛ وهم أقدم من بيت المال؛ فإن تزاحمت الفرائض فالعول، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية؛ إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل، وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات، وله الباقي بعد ذوي السهام، ويحرم بيع الولاء وهبته، ولا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث القاتل من المقتول. (31 - كتاب الجهاد والسير) الجهاد فرض كفاية مع كل بر وفاجر - إذا أذن الأبوان -، وهو - مع إخلاص النية - يكفر الخطايا إلا الدين، ويلحق به حقوق الآدميين، ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة، ويجب على الجيش طاعة أميرهم؛ إلا في معصية الله، وعليه مشاورتهم، والرفق بهم، وكفهم عن الحرام، ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده، وأن يذكي العيون، ويستطلع الأخبار، ويرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والألوية، وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، أو الجزية، أو السيف، ويحرم قتل النساء، والأطفال، والشيوخ - إلا لضرورة -، والمثلة، والإحراق بالنار، والفرار من الزحف - إلا إلى فئة -، ويجوز تبييت الكفار، والكذب في الحرب والخداع.

فصل: وما غنمه الجيش؛ كان لهم أربعة أخماسه، وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه، ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما، ويستوي في ذلك القوي والضعيف، ومن قاتل ومن لم يقاتل، ويجوز تنفيل الإمام بعض الجيش، وللإمام الصفي، وسهمه كأحد الجيش، ويرضخ من الغنيمة لمن حضر، ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا، وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه، ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة - إلا الطعام والعلف -، ويحرم الغلول، ومن جملة الغنيمة الأسرى؛ ويجوز القتل، أو الفداء، أو المن. فصل: ويجوز استرقاق العرب، وقتل الجاسوس، وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله، وإذا أسلم عبد الكافر؛ صار حرا، والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام؛ فيفعل الأصلح من قسمتها، أو تركها مشتركة بين الغانمين، أو بين جميع المسلمين، ومن أمنه أحد المسلمين؛ صار آمنا، والرسول كالمؤمن، وتجوز مهادنة الكفار ولو بشرط، وإلى أجل أكثره عشرة سنين، ويجوز تأييد المهادنة بالجزية، ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من جزيرة العرب. فصل: ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا تغنم أموالهم.

فصل: وطاعة الأئمة واجبة؛ إلا في معصية الله، ولا يجوز الخروج عليهم؛ ما أقاموا الصلاة، ولم يظهروا كفرا بواحا، ويجب الصبر على جورهم، وبذل النصيحة لهم، وعليهم الذب عن المسلمين، وكف يد الظالم، وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان، والأديان، والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة. (تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود) (وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود) والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الروضة الندية

بسم الله الرحمن الرحيم ( [مقدمة المؤلف] ) نحمدك اللهم أنت الذي علمت الناس في دينهم حكما، وفي دنياهم أحكاما، وجعلت أمة خاتم الرسل المرحومة أكرم الأمم كلها منزلا ومقاما، وما زلت ألهمت من شئت وتلهم من تشاء منهم في كل قرن استعمال السنن المطهرة على وجهها إلهاما، ونهيتهم عن التفرق في الدين، وأوضحت لهم سبيل اليقين، فأصبحوا بنعمتك بررة كراما، وما انفك عدولهم نفوا عن الدين وينفون عنه انتحال (¬1) المبطلين، وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين (¬2) ، حتى عاد علم الحق معتدلا قواما. ونصلي عليك أيها النبي الكريم، بك من علينا بالإيمان وهدانا إسلاما، لطفا بنا ورحمة علينا، وبركة فينا، وإحسانا إلينا وإكراما، فكان ذلك لزاما، ولولاك (¬3) ما اهتدينا، ولا صلينا، ولا علمنا أحكاما، فكنت أنت داعينا إلى ¬

_ (¬1) أي: ادعاء. (ش) (¬2) إشارة إلى حديث: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... "؛ وهو حديث مروي من طرق متعددة، يقوي بعضها بعضا؛ فانظر تعليقي على " الحطة في ذكر الصحاح الستة " (ص 70) للمؤلف - رحمه الله -. (¬3) روى البخاري (6331) ، ومسلم (1802) عن سلمة بن الأكوع، قال: خرجنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى خيبر، فتسيرنا قليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ {- وكان عامر رجلا شاعرا -، فنزل يحدو بالقوم يقول: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا) [فذكر أبياتا] فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من هذا السائق؟} "، قالوا: عامر، قال: " يرحمه الله ". واللفظ لمسلم.

الله - سبحانه وتعالى -، وهاديا لنا، ورؤوفا بنا، وفينا إماما. ونسلم عليكم أهل البيت الطاهرين الطيبين أنتم أصبتم من سعادة الدارين سهاما، وقمتم بالحق الحقيق بالاتباع كما يحق قياما. ورضي الله عنكم أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ بكم انتظم مبتغي الأمة الأمية بدءا وختاما، ومنكم استتب أمر الملة المكرمة أصلا وفرعا واهتماما. ورحمة الله وبركاته عليكم أهل الحديث، أنتم كشفتم للناس عن صراح (¬1) الحق وصحاح السنة وقح (¬2) الشريعة ظلاما، وعن وجه الدين القويم والصراط المستقيم لثاما، وكيف وقد جعلكم الله - تعالى - للمتقين إماما؟ ! وبعد: فلما جمع الإمام الهمام عز المسلمين والإسلام، سلالة السلف الصلحاء، تذكار العرب العرباء (¬3) ، وارث علوم سيد المرسلين، خاتمة المفسرين والمحدثين، شيخ شيوخنا الكاملين، المجتهد المطلق العلامة الرباني، قاضي قضاة القطر اليماني، محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني، المتوفى سنة خمس وخمسين ومئتين وألف الهجرية - رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الفردوس منزله ونزله ومأواه - المختصر الذي سماه " الدرر البهية في المسائل الفقهية " قاصدا بذلك جمع المسائل التي صح دليلها، واتضح سبيلها، تاركا لما كان منها من ¬

_ (¬1) الصراح - بالضم والفتح -: الخالص من كل شيء. (ش) (¬2) أي: خالصها. (ش) (¬3) أي: العرب الخلص، ويقال: العرب العاربة؛ فهو تأكيد من اللفظ نفسه، كما يقولون: ليل لائل. وانظر " مختار الصحاح " (ص 421) .

محض الرأي، فإنه قالها وقيلها، غير ملتفت إلى ما اشتهر، فالحق أحق بالاتباع، وغير جامد على ما ذكر في الزبر (¬1) فلمسلك التحقيق اتساع، بل محض فيه النصح النصيح، ومخض (¬2) عن زبد الحق الصريح، وأتى بتحقيقات جليلة خلت عنها الدفاتر، وأشار إلى تدقيقات نفيسة لم تحوها صحف الأكابر. ونسبة هذا المختصر إلى المطولات من الكتب الفقهية، نسبة السبيكة الذهبية إلى التربة المعدنية، كما يعرف ذلك من رسخ في العلوم قدمه؛ وسبح في بحار المعارف ذهنه ولسانه وقلمه، سأله جماعة من أهل الانتقاد والفهم النافذ، العاضين على علوم الاجتهاد بأقوى لحي (¬3) وأحد ناجذ (¬4) ، أن يجلي عليهم عروس ذلك المختصر، ويزفه إليهم ليمنعوا في محاسنه النظر، فاستمهلهم ريثما يصحح منه ما يحتاج إلى التصحيح، وينقح فيه ما لا يستغني عن التنقيح، ويرجح من مباحثه ما هو مفتقر إلى الترجيح، ويوضح من غوامضه ما لا بد فيه من التوضيح، فشرحه بشرح مختصر، من معين عيون الأدلة معتصر، وسماه " الدراري المضية شرح الدرر البهية " (¬5) ، وفيهما قال قائل: (إن شئت في شرع النبي ... تقدح بزند فيه واري (¬6)) ¬

_ (¬1) أي: في الكتب. (ش) (¬2) مخض اللبن: أخذ زبده. (ش) (¬3) أي: منبت اللحية. (ش) (¬4) الناجذ: آخر الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان. (ش) (¬5) وهو مطبوع مرارا؛ وقد أودعته - للتسهيل - في أول هذا الجزء. (¬6) ورى الزند: خرجت ناره. (ش)

(فاعكف على الدرر التي ... سلكت بسمط (¬1) من دراري) وشرحه هذا كان بالقول (¬2) ، فجعلته شرحا ممزوجا (¬3) ، وصيرته على منواله منسوجا، مستوعبا للفظه ومعناه، ومستصحبا لفحاويه ومبناه، مضيفا إليه مذاهب الفقهاء ليظهر ضعفها أو قوتها، عند تقابل الأدلة وتعارضها بالآراء، لا للأخذ بها على ما كان بأي حال؛ فإن الرجال تعرف بالحق لا الحق بالرجال، ثم زدت عليه أشياء من حاشية الماتن (¬4) على " شفاء الأوام (¬5) " التي سماها " وبل الغمام " (¬6) ومن غيرها عند النظر الثاني في هذا الكتاب، فعاد بحمد الله تعالى؛ كما قيل: اللبأ وابن طاب (¬7) . هذا وقد أمليت هذا الشرح على طريق الارتجال بالاستعجال، إرشادا إلى ¬

_ (¬1) السمط: الخيط ما دام فيه الخرز؛ وإلا فهو السلك. (ش) (¬2) أي: أنه يذكر الفقرة تامة، ثم يشرحها بعد. (¬3) أي: أنه يذكر الكلمة أو الكلمتين، ومعهما شرحهما ممزوجا بهما. (¬4) يعبر مؤلف هذا الشرح كثيرا عن مصنف " الأصل "، بلفظ: " الماتن "! وهو لفظ مولد مستكره؛ فأصل " المتن " الظهر - في اللغة -، ثم استعمله طلاب العلم في الكتاب المختصر إذا كان عليه شرح؛ فاشتقاق اسم فاعل من هذا - وليس بمصدر - اشتقاق خاطئ. (ش) (¬5) من تأليف الحسين بن بدر الدين اليحيوي، المتوفى سنة (662 هـ) - كما في مقدمة " وبل الغمام " (1 / 26) -. ولا أعلم كتابه مطبوعا. (¬6) مطبوع في مجلدين، بتحقيق الأخ الفاضل محمد صبحي حلاق - وفقه العلي الخلاق -. (¬7) اللبأ - كعنب -: أول اللبن عند الولادة، وابن طاب: ضرب من الرطب. (ش) قلت: وهذان هما أجود أصناف أنواعهما.

طرق من العلم طالما تركت، وهزا لطبائع جامدة طالما ركدت، راجيا من الله تعالى أن أكون ممن تعلم علم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعلمه وأذاعه، وحفظه على الناس وفيهم روجه وأشاعه. فدونك هذا المشروح والشرح، يلقي إليك زمام التفويض في المدح والقدح، يا من له في أوج (¬1) التحقيق صعود، وعليه من ملابس التدقيق برود، كيف وهو يروي غليل طالبي فقه السنة، ويشفي عليل السائقين إلى مساق الجنة؟ ! فليسعد به كل طالب الحق الصادق (¬2) ؛ ويضن به كل ذي باطل زاهق، ولئن رده القاصرون، فسيقبله الماهرون، وإن ذمه الجهلة، فسوف يمدحه الكملة. وسميت هذا الشرح الأنيس، بل العلق (¬3) النفيس " الروضة الندية شرح الدرر البهية ". والله - سبحانه وتعالى - أرجو أن يعين على التمام، وينفعني به ومن أخلفه وجميع المتبعين للسنن في هذه الدار ودار السلام، إنه ولي الإجابة؛ وبيده الهداية والإصابة. ¬

_ (¬1) أي علو. (¬2) • لعله: " للحق صادق " (ن) (¬3) • بكسر العين: النفيس من كل شيء، والجراب، ولعل هذا هو المراد هنا. (ن)

(الكتاب الأول: كتاب الطهارة)

كتاب الطهارة

قال - رضي الله عنه -: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد من أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين. (1 - كتاب الطهارة) (1 - باب) (هذا الباب قد اشتمل على مسائل: الأولى: الماء طاهر ومطهر) : ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما دل الدليل على كونه طاهرا، مطهرا، وقام على ذلك الإجماع، كذلك يدل على ذلك الأصل، والظاهر (¬1) ، والبراءة (¬2) ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع، وكذلك الظهور يفيد ذلك، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة: (لا يخرجه عن الوصفين) : أي: عن وصف كونه طاهرا، وعن وصف كونه مطهرا (إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات) . ¬

_ (¬1) هو الصفة الظاهرة. (¬2) هو بقاء ما كان على ما عليه كان.

هذه المسألة الثانية من مسائل الباب، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها. والدليل عليه ما أخرجه أحمد - وصححه - وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم (¬1) ، وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد، قال: " قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض (¬2) ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور لا ينجسه شيء "، وقد أعله ابن القطان باختلاف الرواة في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه، وليس ذلك بعلة (¬3) ، وقد اختلف في أسماء كثيرة من الصحابة والتابعين على أقوال، ولم يكن ذلك موجبا للجهالة، على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال: وله طريق أحسن ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3 / 31) ، وأبو داود (67) ، والترمذي (66) ، والنسائي (1 / 174) ، والدارقطني (1 / 29) ، والبيهقي (1 / 257) . وقد نقل الحافظ في " التلخيص الحبير " (1 / 24) تصحيح أحمد، وابن معين، وابن حزم. ولم يروه ابن ماجة ولا الحاكم من حديث أبي سعيد. (¬2) جمع حيضة؛ وهي الخرقة التي تتقي بها المرأة دم الحيض (ش) . (¬3) • بلى، فإن الراوي المشار إليه قال فيه ابن القطان: " لا يعرف له حال ولا عين "، وقال الحافظ: " مستور "؛ فالاختلاف في اسمه يشير إلى جهالته، ولولاها لم يضر الخلاف المذكور؛ لما ذكره الشارح. فالعلة ما ذكرنا من الجهالة، لا ما أراد أن يصوره الشارح من الاختلاف. نعم، الحديث صحيح بلا ريب، فإن له طرقا وشواهد يقطع من وقف عليها بصحته، وقد ذكرت بعضها في " صحيح سنن أبي داود " رقم (59) (ن) . قلت: وانظر " تقريب التهذيب " (4313) .

من هذه، ثم ساقها عن أبي سعيد. وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة. وله شواهد، منها: حديث سهل بن سعد عند الدارقطني (¬1) ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان (¬2) ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط "، وأبي يعلى، والبزار، وابن السكن (¬3) ؛ كلها بنحو حديث أبي سعيد. وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني (¬4) ، من حديث ثوبان بلفظ: " الماء طهور لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه "، وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجة والطبراني (¬5) ، من حديث أبي أمامة بلفظ: " إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه "؛ وفي إسنادهما من لا يحتج به. وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة، لكنه قد وقع الإجماع ¬

_ (¬1) في " سننه " (1 / 29) . (¬2) رواه أحمد (1 / 235) ، وابن خزيمة (91) ، وابن حبان (116 - زوائده) . (¬3) رواه الطبراني في " الأوسط " (2093) ، وأبو يعلى في " مسنده " (118 - المقصد العلي ") ، والبزار (1 / 132 - " كشف الأستار ") . وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 214) : " ورجاله ثقات ". ونقل الحافظ في " التلخيص الحبير " (1 / 17) رواية ابن السكن له في " صحاحه ". (¬4) في " سننه " (1 / 28) . (¬5) رواه ابن ماجة (521) ، والطبراني في " الكبير " (7503) ، و " الأوسط " (744) . وقال الهيثمي في " المجمع " (1 / 214) : " وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف ".

على مضمونها؛ كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في " البدر المنير (¬1) "، والمهدي في " البحر (¬2) "، فمن كان يقول بحجيّة الإجماع (¬3) كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع؛ ومن كان لا يقول بحجيّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة، لكونها قد صارت مما أُجمع على معناها وتُلقّي بالقبول، فالاستدلال بها لا بالإجماع. (وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة (¬4)) : هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه، فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه، كما يقال: ماء ورد، ونحوه، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد - مثلاً - هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقوله سبحانه: {ماء طهورا} [الفرقان: 48] ، وفي السنة المطهرة بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " (¬5) ، فخرج بذلك عن كونه مطهراً، ولم يخرج به عن كونه طاهراً، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماع الطاهرين لا يوجب ¬

_ (¬1) • وكذا في " خلاصة البدر المنير " (2 / 2) ، وقال فيه: " وقول الرافعي: " إن ماءها كنُقاعة الحنّاء " غريب "؛ يعني: لا يُعلم من رواه، كما نص عليه في المقدمة. (ن) . قلتُ: وهو في أصله: " البدر المنير " (1 / 59) . (¬2) انظر " الإجماع " (10) لابن المنذر، و " البحر الزخار " (1 / 31) للمهدي. (¬3) والبحث في مسألة الإجماع طويل الفروع، كثير الذيول، أشرتُ إلى نُبذة منه في تعليقي على كتاب " حصول المأمول من علم الأصول " (ق 85) للمؤلف، يسّر الله تمامه. (¬4) كالصابون والعطر، ونحوهما. (¬5) تقدم تخريجه.

خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الاجتماع (¬1) . قال في " حجة الله البالغة " (¬2) : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي، نعم؛ إزالة الخبث به محتمل، بل هو الراجح (¬3) . وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر (¬4) ، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] البتة { وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي (¬5) ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى - عنه في الفأرة (¬6) ، والنخعي والشعبي في نحو السِّنَّور (¬7) ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى. وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذُكر في كتب المالكية (¬8) ، ودون نفي هذا ¬

_ (¬1) وهو الطهارة لكل منهما. (¬2) (1 / 185) ، للعلامة وليّ الله الدِّهلويّ. (¬3) وفي ذلك نظر وبحث؛ فانظر " المجموع " (1 / 95) . (¬4) أي: أن يكون البئر عشرة أذرع في عشرة أذرع} وانظر " فتح القدير " (1 / 92) للكمال ابن الهُمام. (¬5) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 266) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1 / 17) . (¬6) رواه عبد الرزاق في " المصنف " (1 / 82) . (¬7) رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (1 / 17) . وانظر " المجموع " (1 / 16) للنووي. (¬8) انظر " الذخيرة " (1 / 173) للقرافي. وقولهم: " دون ذلك خَرْط القتاد ": مثل يُضرب للأمر الصعب الممتنع.

الاحتمال خَرْط القَتاد " اه. وبالجملة؛ فليس في هذا الباب شي يُعتد به ويجب العمل عليه، وحديث القلتين (¬1) أثبت من ذلك كله بغير شبهة. ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات - وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى -، ثم لا ينص عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه. والله أعلم. انتهى. قلت: وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في تخريج حديث القُلّتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً، لفظاً ومعنى: في كتابه " تلخيص الحبير " في تخريج أخبار الرافعي الكبير " (¬2) إطالةً حسنةً فليرجع إليه (¬3) . (ولا فرق بين قليل وكثير) : هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم، بعد إجماعهم ¬

_ (¬1) هو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا بلغ الماء قُلّتين لم يحمل الخبَث "، وسيأتي بيان الحكم عليه، والإشارة إلى طرقه ورواياته. (¬2) الصواب في اسمه: " التلخيص الحبير ". والبحث فيه (1 / 16 - 20) ، وانظر أصله: " البدر المنير " (2 / 87 - 112) لابن الملقّن. (¬3) • ويتلخص من كلامه [يعني الحافظ ابن حجر] أنه حديث صحيح، وقد صرح بذلك في " الفتح " (1 / 277) ، وهو الحق، وصححه أيضا الحاكم، وابن منده، وابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والنووي، والذهبي، فلا التفات إلى قول من ضعّفه، لأنه وهم نشأ من عدم تتبع طرق الحديث. وقد تكلمت عليه بما يُجلّي هذه الحقيقة في " صحيح سنن أبي داود " رقم (56) . (ن) .

على أن ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر. فقيل: إن الكثير ما بلغ قلتين، والقليل ما كان دونهما؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (¬1) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما -، قال: " سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة (¬2) من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: " إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث ". وفي لفظ أحمد: " لم ينجسه شيء ". وفي لفظ لأبي داود: " لم ينجس ". وأخرجه بهذا اللفظ (¬3) ابن حبان والحاكم، وقال ابن مندة: إسناد حديث القُلّتين على شرط مسلم (¬4) . انتهى. ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه، كما هو مبين في مواطنه، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب (¬5) . ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2 / 27) ، وأبو داود (63) ، والترمذي (67) ، والنسائي (1 / 175) ، وابن ماجه (517) ، والشافعي في " الأم " (1 / 18) ، وابن خزيمة (92) ، وابن حبان (117) ، والحاكم (1 / 132) ، والدارقطني (1 / 13) ، والبيهقي في " السنن الكبرى " (1 / 260) . (¬2) هي الصحراء. (ش) . (¬3) يُريد: لفظ أحمد. (¬4) ذكر ذلك عنه ابن الملقّن في " البدر المنير " (2 / 91) ، وعنه الزيلعي في " نصب الراية " (1 / 107) . (¬5) • وخلاصة الجواب أن الحديث صحيح إسناده، والاضطراب المزعوم فيه لا يضر، وأن متنه بلفظ: " قلتين "، وما يخالفه؛ إما شاذ، أو ضعيف لا ينهض لمعارضة النص الصحيح. (ن) قلت: وانظر " إرواء الغليل " (23) .

وقد دلّ هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قُلّتين لم يحمل الخبث، وإذا كان دون القُلّتين فقد يحمل الخبث، ولكنه كما قيد حديث: " الماء طهور لا ينجسه شيء " بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها؛ كذلك يقيد حديث القلتين بها، فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها. وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث، وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتّاً، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية، لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها، لا الخبث الذي لم يغير. وحاصله: أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يُستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية، لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين - كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً -، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام، فقال في الأول: " لا ينجسه شيء "، وقال في الثاني أيضا - كما في تلك الرواية -: " لم ينجسه شيء "، فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً، كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها، فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث،

فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - على القول الراجح في الأصول؛ وهو: أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً، فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث، بل يقال فيه: إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة. وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين، والكثير بهما: الشافعي - رحمه الله - وأصحابه رحمهم الله -، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله، والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد، وقد روي أيضا عن الشافعية - رحمهم الله -، والحنفية، - رحمهم الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، ولا أدري: هل تصح هذه الرواية أم لا؟ ! فمذاهب هؤلاء مُدونّة في كتب أتباعهم، من أراد الوقوف عليها راجعها. واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله - تعالى -: {والرُّجْز (¬1) فاهْجُر} ، وبخبر الاستيقاظ، وخبر الولوغ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم، وهي جميعها في " الصحيح "، ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما، كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدّم؛ لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء ¬

_ (¬1) {الرجز} ؛ قرئ بضم الراء وكسرها؛ ومعناه العذاب، والمراد بهجر العذاب: هجر أسبابه، فلا حجة في الآية على ما ادعوا. (ش)

بجِرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن. ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس، لأن المخالطة إن كانت بالجِرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه. والحاصل: أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظُنّ استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل، وإن لم يظن فهو الكثير: ما هو أعم من عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنّة وأهل المذهب الأول اعتبروا المَئنّة، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك، فهي لا تكاد تخالف المِئنّة (¬1) في مثل هذا الموضع، وإن أرادوا استعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غيّر لون الماء، أو ريحه، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه - كما تقدم تقريره -، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم، في الإجماع، بل هو مصرِّح لحكاية الإجماع في " البحر ". فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتاً وانتفاء، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبين، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب ¬

_ (¬1) المِئنّة: العلامة. (ش)

لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم؛ فتأمل هذا فهو مفيد، بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق، ويتبلّد عند تشعب طرائقها كل مدقق. وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته (¬1) تحريرات مختلفة لهذه العلة، وأطال الكلام عليها في " طيب النشر في المسائل العشر ". وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون "، ومثل حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، ولا يستفاد منهما إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى. وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً، وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني، فإبعاد النُّجعة إلى مثل حديث: " استفت قلبك " و: " دع ما يريبك " ليس كما ينبغي { فإن قيل: إنه قصد الاستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة، فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والاستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد. وقد حُكي في تحديد الماء الكثير أقوال، منها: أن الكثير هو المستبحر} وقيل: ما إذا حُرِّك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر { وقيل: ما كان مساحة مكانه كذا} وقيل غير ذلك! ¬

_ (¬1) ك " نيل الأوطار "، و " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، و " الفتح الرباني ".

حكم الماء الراكد

وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم، بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة. (وما فوق القلتين وما دونهما) : قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قِرب، وفسرها أصحابه بخمس مئة رطل، وقدّره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر، والعشر في العشر. كذا في " المسوى شرح الموطأ ". وقال في " حجة الله البالغة ": " ومن لم يقل بالقلتين اضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير - كالمالكية -، أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل " انتهى. ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه. وإن شئت زيادة التفصيل فعليك ب " الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني "؛ ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل ( [حكم الماء الراكد] ) (ومتحرك وساكن) : وجه ذلك أن سكونه - وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به (¬1) حالة -؛ فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً؛ لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل؛ ولم يرد في الحديث النهي عن التطهير بالماء الساكن؛ إنما ورد النهي عن الانغماس فيه للجنب، كما سيذكر المؤلف بعض ألفاظه. وفرق كبير بينهما؛ بل في الحديث التصريح بالتطهير به بالتناول في كلام أبي هريرة - راويه -. (ش) • قلت: ولعله سقط منه قوله: " كونه ساكناً "؛ كما يدل عليه السباق والسياق. (ن)

وقد دلّت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن ما دام ساكناً، كحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وغيره: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب "، فقالوا: يا أبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً. وفي لفظ لأحمد وأبي داود: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة ". وفي لفظ للبخاري: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ". وفي لفظ للترمذي (¬1) : " ثم يتوضأ منه ". وغير هذه الروايات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده، والنهي عن الاغتسال فيه على انفراده، والنهي عن مجموع الأمرين. ولا يصح أن يقال: إن روايتي الانفراد مقيدتان بالاجتماع؛ لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز، فأفاد هذا أن الاغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز، فمن لم يجد إلا ماء ساكنا، وأراد أن يتطهر منه؛ فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه، حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً، ثم يتوضأ منه. وأما أبو هريرة؛ فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم، ولهذا لما سئل: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً، ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء، ¬

_ (¬1) • وكذا أحمد (رقم 7517، 7518) ؛ وسنده صحيح. (ن)

حكم الماء المستعمل

فإنه لا انغماس فيه، بل هو يتناوله تناولاً من الابتداء، فالأوْلى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة، ثم يتطهر (¬1) به. وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات، فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن، ومنهم من قال: إن هذه الروايات محمولة على الكراهية فقط! ولا وجه لذلك. وقد قيل: إن المُستبحر مخصوص من هذا بالإجماع. والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به ما دام ساكناً، فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي، وهو كونه مطهراً. وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب. ( [حكم الماء المستعمل] :) (ومستعمَل وغير مستعمَل) : هذه المسألة السادسة من مسائل الباب، وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات؛ هل يخرج بذلك عن كونه مُطهِّراً أم لا؟ فحُكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك - في إحدى الروايتين عنهما -، وأبو حنيفة - في رواية عنه -: أن الماء المستعمل غير مطهِّر، واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم. ولا دلالة له على ذلك؛ لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء ¬

_ (¬1) هذا لا يطابق معنى الحديث، وليس المقصود من التشريع إلا صيانة الماء عن القذر والنجس، وأبو هريرة فهم الحديث كما ينبغي أن يفهم. (ش)

مستعملاً؛ بل كونه ساكناً، وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الاستعمال. واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة (¬1) ، ولا تنحصر علة ذلك في الاستعمال، كما سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -، فلا يتم الاستدلال بذلك لاحتماله، ولو كانت العلة الاستعمال؛ لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس، بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل. ومن جملة ما استدلوا به: أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء، لا بماء ساقط منه. وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية، فعلى هذا المستدل أن يوضح: هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم؟ والأول: باطل. والثاني: لا يُدرى من هو؟ {فليبين لنا من هو؟} على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع. وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع؛ مثل حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الاستيقاظ قبل إدخالها الإناء، ونحوه. ¬

_ (¬1) • يشير إلى حديث: " نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً " رواه أبو داود، والنسائي بسند صحيح، والنهي فيه للتنزيه؛ لحديث ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] في جفنة، فجاء النبي [صلى الله عليه وسلم] ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله! إني كنت جنباً، فقال: " إن الماء لا يجنب " رواه أبو داود وغيره بسند صحيح. (ن)

فالحق: أن المستعمل طاهر ومطهر؛ عملاً بالأصل، وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور. وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف، ونسبه ابن حزم إلى عطاء، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وجميع أهل الظاهر، ونقله غيره عن الحسن البصري، والزهري، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة - في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين -. والحق: أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد استعماله للطهارة؛ إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه، وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، فيأخذونه ويتبركون به، والتبرك به (¬1) يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك. والحاصل: أن إخراج ما جعله الله طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل. ¬

_ (¬1) وهذا التبرك خاص بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ، ولا يجوز إلحاق غيره به؛ لعدم مساواة غيره له [صلى الله عليه وسلم] . وما تفعله بعض الفِرق الصوفية - وكثير من العامة - من ذلك؛ فهو غير جائز البتّة، بل قد يؤدي إلى الشرك - عياذاً بالله تعالى -.

باب النجاسات

(باب النجاسات) (فصل) ( [تعريف النجاسة] :) (والنجاسات) : جمع نجاسة، وهي: كل شيء يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه، ويغسلون الثياب إذا أصابها؛ كالعَذِرة والبول. ( [أنواع النجاسات] :) (1 -[بول الآدمي وغائطه] :) (هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله) بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك، بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية، كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال. أما الغائط: فكما في حديث أبي هريرة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى؛ فإن التراب له طهور "؛ وفي لفظ: " إذا وطئ الأذى بخفيه؛ فطورهما التراب ". رواهما أبو داود - رحمه الله -، وابن السكن، والحاكم، والبيهقي.

وقد اختُلف فيه على الأوزاعي (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن حبان من حديث أبي سعيد: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض، ثم ليصلّ فيهما ". وقد اختُلف في وصله وإرساله، ورجح أبو حاتم في " العلل " الموصول (¬2) . وأخرج أهل " السنن " عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: " يطهِّره ما بعده " (¬3) . وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه. وكذلك عن امرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي (¬4) - أيضا -. فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يُخرجه عن كونه نجساً بالضرورة؛ إذ اختلاف وجه التطهير لا يُخرج النجس عن كونه نجساً. ¬

_ (¬1) • وقد بيَّنت الخلاف المشار إليه في كتابي " صحيح سنن أبي داود " رقم (410) ؛ لكن الحديث صحيح، فقد رواه أبو داود أيضا من حديث عائشة بمعناه، وسنده صحيح، كما بينته هناك رقم (411) ، وحسَّنه المنذري في " مختصره ". (ن) (¬2) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم، وكذلك صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي أيضا، وقد تكلمت على سند الحديث في " صحيح سنن أبي داود " رقم (658) ، وله فيه شاهد مرسل صحيح. (ن) (¬3) • وهو حديث صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (407) . (ن) (¬4) • لقد أبعد المصنف النُّجعة، فالحديث رواه أبو داود، وابن ماجة أيضا، وإسناده صحيح كما بينته في " صحيح السنن " رقم (408) . (ن)

طهارة بول ما يؤكل لحمه

وأما التخفيف في تطهير البول؛ فكما ثبت أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر بأن يُراق على بول الأعرابي ذَنوب (¬1) من ماء. وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس - رضي الله عنهما -. (2 -[طهارة بول ما يؤكل لحمه] :) وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال؛ فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها، والأدلة مختلفة: فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل؛ فإنه ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر العُرَنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل. ومن ذلك حديث: " لا بأس ببول ما يؤكل لحمه "؛ وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر - رضي الله عنه -؛ والبراء رضي الله عنه، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي؛ وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة (¬2) . وورد ما يدل على نجاسة الرَّوث: ما أخرجه البخاري (¬3) وغيره: أنه قال [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها رِكْس "؛ والركس النجس. وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير. ولكن زاد ابن خزيمة في رواية: " إنها ركس؛ إنها روثة حمار ". ¬

_ (¬1) في الأصل (ذنوباً) وهو خطأ. والذنوب: الدلو. (ش) (¬2) بل كذبه أحمد بن حنبل. (ش) (¬3) • في " صحيحه " (1 / 206 - 207) ، وكذا أحمد (رقم 3685) . (ن)

ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة؛ لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي. وحديث الروثة لا يستلزم التعميم. وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الاعتبار؛ لأنه من رواية ثابت بن حماد، عن علي بن زيد بن جدعان، والأول: مجمع على تركه، والثاني: مجمع على ضعفه؛ فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم (¬1) . واحتجوا بإذنه [صلى الله عليه وسلم] بالصلاة في مرابض الغنم، وبإذنه بشرب أبوال الإبل، وهما صحيحان. ولا حكم للمعارضة بنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلِّي (¬2) ، فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها، ¬

_ (¬1) هو حديث رواه الدارقطني، والبزار، والبيهقي وغيرهم؛ ولفظه: " إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء ". قال الدارقطني: " لم يروه غير ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدّاً ". وقال البيهقي: " هذا باطل لا أصل له؛ ثابت متهم بالوضع ". انظر شرحنا على " التحقيق " في المسألة رقم (23) . (ش) (¬2) • هذا التعليل لا أصل له في السنة، وإنما جاء فيها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل؛ فإنها خُلقت من الشياطين ". رواه ابن ماجه، والطحاوي، وأحمد، والبيهقي، والطيالسي عن عبد الله بن مُغفَّل، وإسناده صحيح كما بينته في " الثمر المستطاب ". وله شاهد من حديث البراء بسند صحيح كما بينته هناك؛ وفيه: " صلوا فيها - يعني: مرابض الغنم -؛ فإنها بركة "، وقد رواه الخطيب في " الموضح " (2 / 97) . (ن) .

روث الحيوانات

كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة، لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة؛ فإن مثل ذلك لا يُسوِّغ مباشرة ما ليس بطاهر. (3 -[روث الحيوانات] :) فالحق الحقيق بالقبول: الحكم بنجاسة ما ثبتت نجاسته بالضرورة الدينية - وهو بول الآدمي وغائطه -، وأما ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته - كالروثة -؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشيء نجساً من دون دليل؛ فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى، ولا يحل إلا بعد قيام الحجة. قال الماتن - رحمه الله تعالى -: " ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه طاهر؛ لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام، والأصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام، فالكل إما من التقول على الله - تعالى - بما لم يقل، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة ". (4 -[نجاسة بول الرضيع] :) (إلا الذكر الرضيع) : لحديث: " يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام "، أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح - خادم رسول الله [صلى الله عليه وسلم]-، وصححه الحاكم.

وأخرج أحمد، والترمذي - وحسنه -، من حديث علي - رضي الله عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل ". وأخرجه - أيضا - ابن ماجه، وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والطبراني من حديث أم الفضل لُبابة بنت الحارث، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره، حتى أغسله، فقال: " إنما يُنضح من بول الذكر، ويُغسل من بول الأنثى ". وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنها أتت بابن لها صغير لم - يأكل الطعام - إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله. وفي " صحيح البخاري " من حديث عائشة، قالت: أُتي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصبي يُحنِّكه، فبال عليه، فأتبعه الماء. وفي " صحيح مسلم " عنها، قالت: كان يؤتى بالصبيان، فيبرِّك عليهم ويحنِّكهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماء، فأتبعه بوله ولم يغسله. فهذا تصريح بأنه لم يغسله، فيكون إتباعه الماء مجرد النضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل. ¬

_ (¬1) • قلت: وأخرجه أبو داود مرفوعاً أيضا، وسنده صحيح مرفوعاً وموقوفاً، وقد بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (401، 402) . (ن)

أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع

وبالجملة: فالتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] بالقول بما هو الواجب في ذلك؛ هو الأوْلى بالاتِّباع؛ لكونه كلاماً مع أمته، فلا يعارضه ما وقع من فعله؛ على فرض أنه مخالف للقول. ( [أقوال الفقهاء في تطهير بول الرضيع] :) وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة؛ منهم: علي، وأم سلمة، والثوري، والأوزاعي، والنخعي، وداود، وابن وهب، وعطاء، والحسن، والزهري، وأحمد، وإسحاق ومالك - في رواية -. وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه. وذهب بعض أهل العلم - وقد حُكي عن مالك، والشافعي، والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما، وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية. وذهب الحنفية - رحمهم الله -، وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل، وهذا المذهب كالذي قبله - في مخالفة الأدلة -. وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام. وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية: فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.

وقد شدّد (¬1) ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر - أي ذكر كان - {وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً، بلفظ -: " بول الغلام الرضيع يُنضَح "، والواجب حمل المطلق على المقيد. قال في " الحُجّة ": " قد أخذ بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي، وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس ". قلت: قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يُنضح من بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل من بول الجارية ". فسّره البغوي بأن بول الصبي نجس، غير أنه يُكتفى فيه بالرش، وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه، فيطهّر من غير مَرْس ولا دلك. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: يغسل منهما سواء. ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -: إن المراد بالنضح الغسل الخفيف، وبالغسل المرس والدلك. وأصل المسألة: أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها، وبول الجارية أغلظ وأنتن، فاحتيج فيه إلى زيادة المرس. كذا في " المُسوى ". وأقول: أحاديث التخصيص ههنا صحيحة، لا شك في ذلك ولا ريب، فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف، الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة؟} ¬

_ (¬1) قوله: " شدّد "؛ هكذا بالأصل مصلحاً {ولعله: " شذّ "؛ فليتأمل} (ش)

وهذا كلام عاطل الجِيد عن الفائدة بمرة؛ لأن هذا المعنى قد استُفيد من العام، ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم - وكان أفصح العرب -، بما يلحقه بكلام من هو من العيّ بمنزلة تُوقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة. وقد ذكر في " النهاية " ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل. قلت: قد يَرِد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام، وههنا وقع مقابلاً للغسل، فكيف يصح تفسيره به؟ { وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب؟} وإلا كان الكلام حشواً. وإن كان استعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول؛ فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزيّة على غيره من علماء أمّته، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه. وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الأسلاف جعلوه كأسلافهم، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الإنصاف، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم، فيردون كلامه [صلى الله عليه وسلم] إلى كلامهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإن لم يوافقهم فالقول ما قالت حَذام (¬1) . فإن أنكرتَ هذا؛ فهات؛ أبِنْ لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات ¬

_ (¬1) من أمثال العرب المشهورة، والمراد عدم الحيْدَة عن كلامه [صلى الله عليه وسلم] .

لعاب الكلب

المتعسفة، وردّ أحاديث التخصيص الصحيحة؟ {مع تسليمهم أن الخاص مقدم على العام، وأن يُبنى العام على الخاص} وهذا مشتهر في الأصول اشتهار النهار. (5 -[لُعاب الكلب] :) (ولعاب كلب) : قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم؛ فليغسله سبعاً ". وثبت - أيضاً - عندهما وغيرهما مثله من حديث عبد الله بن مغفل، فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب؛ وهو المطلوب هنا. والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف، وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً؛ لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل، وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب، كما وقع في أحاديث الباب في " الصحيحين " وغيرهما؛ فإنه ليس المقصود ههنا إلا إثبات كون اللعاب نجساً، لا بيان كيفية تطهيره، فلذلك موضع آخر. والحاصل: أن الحق ما قضى به رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من التسبيع والتتريب، وليس من شرط التعبد الاطِّلاع على علل الأحكام التي تعبَّدَنا الله بها - على ما هو الراجح -، وقد صح لنا الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة، ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة، سواء كان القول المخالف منسوباً إلى

الروث

جميعهم أو إلى بعضهم، وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة، كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة. ومن أغرب ما يراه من ألهمه الله رشده وحبب إليه الإنصاف؛ ما يقع في كثير من المواطن - من جماعة - من ذلك عن الشريعة بمعزل، والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس؛ من دون سبب يقتضي ذلك - كما فيما نحن بصدده -، وفيما سلف في بول الصبي، وأشباه هذا ونظائره لا تحصى؛ والله المستعان. (5 -[الرّوث] :) (وروث) : الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله [صلى الله عليه وسلم] في الروثة: " إنها ركس "؛ والركس - في اللغة -: النجس؛ فالروثة نجس، وهو المطلوب. وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير. (6 -[دم الحيض] :) (ودم حيض) : الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد، وأبي داود، والترمذي من حديث خولة بنت يسار، قالت: يا رسول الله {ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه؟ قال: " فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم، ثم صلي فيه " قالت: يا رسول الله} إن لم يخرج أثره؟ قال: " يكفيك الماء، ولا يضرك أثره ".

وفي إسناده ابن لهيعة (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ: " حُكّيه بضِلَع (¬2) واغسليه بماء وسِدْر ". قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة (¬3) . وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما -، قالت: جاءت امرأة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض؛ فكيف تصنع؟ قال: " تحتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه ". فالأمر بغسل دم الحيض وحكّه بضِلع يفيد ثبوت نجاسته، وإن اختلف وجه تطهيره، فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً. ¬

_ (¬1) • قلت: لكن رواه عنه عبد الله بن وهب - أيضاً - عند البيهقي، وحديث ابن لهيعة إذا كان من رواية العبادلة عنه، وهم: ابن وهب، وابن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، فالحديث صحيح، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 389) . (ن) . (¬2) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام؛ أي: بعود، والأصل فيه: الضلع - باللام الساكنة -: ضلع الجنب، وقيل للعود الذي فيه انحناء وعرض: ضلع؛ تشبيهاً بالضلع الذي هو واحد الأضلاع. قاله في " اللسان ". وقال ابن الأعرابي: الضلع ههنا: العود الذي فيه الاعوجاج. وفي بعض الروايات: " بضلع " بفتح الصاد المهملة، وإسكان اللام -، وهو الحجر، وزعم ابن دقيق العيد أن الأول تصحيف! وهو خطأ. (ش) . (¬3) • وقال الحافظ في " الفتح " (1 / 266) : " وإسناده حسن "، وهو قصور؛ فالسند صحيح لا علة فيه، ولذلك أوردته في " صحيح أبي داود " (رقم 388) مصححاً. (ن)

لحم الخنزير

وأما سائر الدماء؛ فالأدلة فيها مختلفة مضطربة، والبراءة الأصلية مستصحبة، حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية. (¬1) ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله - تعالى -: {فإنه رجس} إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة - من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير -؛ لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة، ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب؟ ! والظاهر رجوعه إلى الأقرب - وهو لحم الخنزير؛ - لإفراد الضمير، ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة، والدم الذي ليس بدم حيض، ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها، كما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها ". ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية؛ فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة. (7 -[لحم الخنزير] :) (ولحم خنزير) : الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة. ¬

_ (¬1) هذا خطأ من المؤلف والشارح؛ فإن نجاسة دم الحيض ليست لأنه دم الحيض، والمتتبع للأحاديث يجد أنه كان مفهوماً أن الدم نجس - ولو لم يأت لفظ صريح بذلك -، وقد كانوا يعرفون ما هو قذر نجس بالفطرة الطاهرة. (ش) . • قلت: وقد نقل القرطبي في " تفسيره " (2 / 221) اتفاق العلماء على نجاسة الدم. قلت: وفيه نظر، فقد صح أن ابن مسعود نحر جزوراً فأصابه من دمه، فقام وصلى وعليه الدم. أخرجه الطبراني. (ن)

الأدلة على طهارة المني

( [الأدلة على طهارة المنِيّ] :) (وفيما عدا ذلك خلاف) : وأما المني؛ فاحتجوا على نجاسته بأمور: الأول: حديث عمار، وقد سلف عدم صلاحيته للاحتجاج. والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة، وذلك لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً. والثالث: بما ورد في المَذْي (¬1) من الأمر بغسل الفرج والأُنثيين. ويجاب عنه: أنه إثبات لنجاسة المني بقياس؛ لأنهما متغايران، على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي؛ إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول، أو لأنه ليس بأصل للنسل. ويلزم أن يطهُر بالنضح؛ لما ورد عند أبي داود، والترمذي - وصححه - من حديث سهل بن حُنَيْف بلفظ: " يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيثما ترى أنه (¬2) أصاب من ثوبك " (¬3) . وأما الجواب عن حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لعائشة بفرك المني؛ بأن المراد به الفرك قبل الغسل، لا مجرد الفرك فقط! فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل. ¬

_ (¬1) • كان اللائق ذكر المذْي في النجاسات المنصوصة عليها، لورود الأمر بغسله، كما يشير المؤلف نفسه إلى ذلك. (ن) (¬2) أي المدى. (ش) (¬3) • قلت: وسنده حسن كما بينته في " صحيح أبي داود " (رقم 204) . (ن)

وكان أقرب من هذا أن يجاب: بأن الفرك لم يكن بأمره [صلى الله عليه وسلم] ؛ إنما قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- كما في كتب الحديث -. والأمر الرابع: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يغسل موضع المني من ثوبه؛ ويجاب عنه: بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة، مع احتمال أن يكون غسله تقذُّراً لما فيه من مخالفة النظافة. وأما فرك عائشة لمنيِّه [صلى الله عليه وسلم] من ثوبه حال صلاته بأنه (¬1) لم يعلم بذلك: فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك، كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك. وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشيء نجساً لا يُقبل إلا بدليل تقوم به الحجة؛ غير معارض بما هو أنهض أو مساوٍ؛ لأن الحكم بكون الشيء نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى. وقد أوردت في " مِسك الختام شرح بلوغ المرام " حجج المختلفين، ورجّحت هناك ما رجّحت، وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله. وفي " سُبُل السلام ": والحق أن الأصل الطهارة، والدليل على القائل بالنجاسة، فنحن باقون على الأصل. وذهب الحنفية - رحمهم الله - إلى نجاسة المني كغيرهم، ولكن قالوا: يطهره الغسل، أو الفرك، أو الإزالة بالخِرقة، أو الإذخرة؛ عملاً بالحديثين، ¬

_ (¬1) لعله: وأنه. (ش)

الأصل في الأشياء الطهارة

وبين الفريقين القائلين بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات واستدلالات طويلة استوفيناها في حواشي " شرح العمدة ". انتهى ( [الأصل في الأشياء الطهارة] :) (والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه) : لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى، وقد أرشدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله - تعالى - عنها، وأنها عفو؛ فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته؛ فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد، أو غلط في الاستدلال، كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله - تعالى -، زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان. وهذا الزعم من أبطل الباطلات، فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام (¬1) ؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك، وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته، فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً: " إنما حُرِّم من الميتة أكلها " (¬2) ، ولو كان مجرد تحريم شيء ¬

_ (¬1) هي أنواع الدلالات المنطقية. (¬2) هذا فهم خطأ، ولم يقصد الشارع بالحصر - إذا سلمنا أن " إنما " تدل على الحصر - أنها ليست نجسة؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا نجاسة الميت بكل أجزائها مما علموه من الشريعة، فأعلمهم أن المحرم أكلها، وأما الانتفاع بجلدها؛ فجائز بعد دباغه؛ ولذلك ورد مرفوعاً من حديث ابن عباس: " إذا دُبغ الإهاب فقد طهر " رواه مسلم. ورواه الحاكم بلفظ: " دباغه يذهب بخبثه - أو نجسه أو رجسه - "، وهو صحيح لا علة له، وله ألفاظ أخرى تدل على أن الميتة نجسة، انظر شرحنا على " التحقيق " لابن الجوزي مسألة رقم (17) . (ش)

المسلم طاهر حيا وميتا

مستلزماً لنجاسته؛ لكان مثل قوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية! ( [المسلم طاهر حياً وميتاً] :) والمسلم لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، كما ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] في " الصحيح "، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق (¬1) ، كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة. فإن قلت: إذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس - كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير - فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} ؟} قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية. ( [نجاسة المشرك] :) وهكذا قوله - تعالى: {إنما المشركون نجس} : لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين، كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم، والتوضؤ من آنيتهم والأكل فيها، وإنزالهم المسجد: كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية، بل قد ورد (¬2) البيان من الشارع ¬

_ (¬1) • في نقل هذا الاتفاق نظر؛ فقد ذهب ابن حزم إلى تنجيس المذكورات في الآية. (ن) (¬2) • قلت: في الجزم بورود هذا الحديث نظر قوي، لأنه من رواية الحسن البصري مرسلاً، وأخرجه أبو داود في " المراسيل "، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق. ومراسيل الحسن ضعيفة، قالوا: إنها كالريح، وروي عنه، عن عثمان بن أبي العاص مسنداً، =

لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة، فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء؛ إنما أنجاسهم على أنفسهم "، فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة، والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية. وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته - ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه -: فلا شك أن يتعين العمل بالأرجح، فإن عورض بما يساويه؛ فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم، حتى يرد مورداً خالصاً عن شَوْب المعارضة، أو راجحاً على ما عارضه. وبالجملة: فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع، ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية. قال في " سبل السلام ": " والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة؛ فإن الحشيشة محرمة طاهرة، وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها، وأما النجاسة فيلازمها التحريم فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم؛ فإنه يحرم لبس الحرير والذهب؛ وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً، إذا عرفت هذا: فتحريم الحُمُر والخمر - الذي دلت عليه النصوص - لا يلزم منه نجاستها، بل لا بد من دليل آخر عليه؛ وإلا بقيا على الأصول ¬

_ = دون قوله: " وليس على الأرض من أنجاس القوم شيء "، وزاد: " ليكون أرق لقلوبهم "، وهو مخرج في " ضعيف أبي داود " (529) . (ن) قلت: وانظر " مصنف عبد الرزاق " (1650) ، و " نصب الراية " (4 / 270) ، و " البناية شرح الهداية " (4 / 274 - الطبعة الهندية) ، و " شرح فتح القدير " (8 / 496) .

فصل تطهير النجاسات

المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه ". انتهى. وقد أوضح الماتن في مصنفاته: ك " شرح المنتقى " و " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام " هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره؛ فليراجع. (فصل [تطهير النجاسات] ) ( [الاقتصار على ما ورد في الشرع] :) (ويطهر ما يتنجس بغسله) ؛ أي: بإسالة الماء عليه، ثم إن ورد فيه شيء عن الشارع؛ كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد، من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه، وقد تقدم ما يدل على ذلك، وتقدم - أيضا - ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب. وبالجملة: فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره؛ كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره؛ فالواجب علينا إذهاب تلك العين. (حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم) : لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أو طعمه - قد بقي فيه - جزء من العين، وإن لم يبق جرمها ولونها؛ إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الطعم.

تطهير النعل بالمسح

( [تطهير النعل بالمسح] :) (والنعل بالمسح) وكذلك الخف؛ لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة، والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة، فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك. ثم إن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان، وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس: أوضح هذا المعنى إيضاحا ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال، فقال: " إذا جاء أحدكم المسجد؛ فلينظر نعليه، فإن كان فيها خبث فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ". ولفظ أحمد وأبي داود: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد؛ فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما ". فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك، فإنه - أولا - بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجودا محققا؛ فعلوا المسح بالأرض، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها. ( [تلبيس الشيطان على الموسوسين] :) ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ما هو فيه نوعا من الجنون! فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة، حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر، مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة، فلا يزال في تعب ونصب

ومزاولة، لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد؛ شرع في العضو الثاني ثم كذلك، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس، فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد من العصاة؛ لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات - كما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيمن تجاوزها -: " ... فقد أساء وتعدى وظلم "، فجمع له [صلى الله عليه وسلم] بين هذه الثلاثة أنواع، ثم لم يقنع منه بهذا، حتى صيره تاركا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. وأخرج أهل " السنن "، وأحمد من حديث بريدة، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ". وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: " كان أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر؛ غير الصلاة ". فانظر كيف صار هذا الموسوس - بنص رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- مسيئا متعديا ظالما كافرا (¬1) ، إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه، فهذا باعتبار ما له عند ربه. وأما باعتبار ما له عند الخلق؛ فأقل الأحوال أن يقال: مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن، ف {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} ، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرا ما يفضي ¬

_ (¬1) انظر رسالة " حكم تارك الصلاة " لشيخنا الألباني - بتعليقي وتقديمي.

به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلا لنفسه في معصية، فلا يراح رائحة الجنة، كما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فيمن قتل نفسه (¬1) ، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل. فمن كان جاهلا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو {وهو قد غسل ذلك العضو مئات} { ومنهم من يقول: أريد أن أغسل غسلا مشروعا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك} فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة (¬2) دلكا فظيعا، فيشرع بالأنملة، ثم يدلك جزءا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثم يأخذ في الأخرى، ثم كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلا بعد مدة طويلة، ثم يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله، فيعود إليه، ثم كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه. ومن كان عالما؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنه ممن أضله الله على علم، ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعبادة عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يستحي من الله؛ فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يستحي من الناس؛ فيردعه حياؤه عن ¬

_ (¬1) قارن ب " غاية المرام " (453) ، و " صحيح الجامع " (6457) . (¬2) لعله: الحبة (ش) .

التطهير بالاستحالة

التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان {وفي مثل هذا قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ". والحاصل: أن هذه المحنة قد عمت وطمت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل} والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب، والغراب الأبقع (¬1) . ومن أنكر هذا فليجرب نفسه، ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض، ثم يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟ {مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلدا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قوما لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه. اللهم} أعذنا من نزعات الشيطان، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. ( [التطهير بالاستحالة] :) (والاستحالة مطهرة) ؛ أي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان ¬

_ (¬1) أمثلة تقال لندرة الشيماء.

تطهير ما لا يمكن غسله

ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول - لونا وطعما وريحا -، كاستحالة العذرة رمادا. وقد أوضحت ذلك في كتابي " دليل الطالب " فليراجع، وحققه الماتن في " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، وغيرهما. (لعدم وجود الوصف المحكوم عليه) يعني: فقدْ فقدَ الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه، وهذا هو الحق. والخلاف في ذلك معروف. ( [تطهير ما لا يمكن غسله] :) (وما) كان (لا يمكن غسله) من المتنجسات كالأرض والبئر (ف) تطهيره (بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى) أي: لا يوجد (للنجاسة أثر) ؛ لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون؛ وأما مثل البول؛ فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء، فإن وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة - بالبول - طاهرة. أقول: البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة: أن المطهر الكثير يطهر الأرض، وأن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة، وتجعل البول متلاشيا كأن لم يكن. في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة، فصب عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت،

الأصل في التطهير هو الماء

والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير، ولكنها لا تطهر، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة ". وعند الحنفية - رحمهم الله تعالى - الغسالة نجسة، والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة. انتهى. ( [الأصل في التطهير هو الماء] :) (والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع) : لأن كون الأصل في التطهير هو الماء، قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد، بل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور " يرشد إلى ما ذكرنا إرشادا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء - كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك -؛ كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق. وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، وذهب أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأبو يوسف - رحمه الله تعالى - إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر. ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إن الماء يتعين في مثل ذلك. ويرد على أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع.

باب قضاء الحاجة

(3 - باب قضاء الحاجة) والحاجة: كناية عن خروج البول والغائط، وهو مأخوذ من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قعد أحدكم لحاجته "، وعبر عنه الفقهاء ب (باب الاستطابة) ؛ لحديث: " ولا يستطيب بيمينه "، والمحدثون ب (باب التخلي) ؛ مأخوذ من قوله: " إذا دخل أحدكم الخلاء "، والتبرز من قوله: " البراز في الموارد ". والكل من العبارات صحيح. ( [آداب قضاء الحاجة] :) (1 - أن يستتر) : (على المتخلي الاستتار) : فينبغي أن يبعد؛ لئلا يسمع منه صوت أو يشم منه ريح أو يرى منه عورة. ( [2 - أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض] :) (ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) عند قضاء الحاجة، ويستتر بمثل حائش نخل مما يواري أسفل بدنه، " ... فمن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره؛ فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم " (¬1) ، وذلك لأن الشيطان جبل على أفكار فاسدة وأعمال شنيعة. كذا في " الحجة ". ¬

_ (¬1) " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (1028) .

أن يبعد في المذهب أو يدخل الكنيف

وذلك لما ورد من الأدلة الدالة على وجوب ستر العورة عموما وخصوصا؛ إلا عند الضرورة، ومنها قضاء الحاجة، فلا يكشف عورته إلا عند القعود. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: " من أتى الغائط فليستتر ". ( [3 - أن يبعد في المذهب أو يدخل الكنيف] :) (والبعد) : لما أخرجه أهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى. ولفظ أبي داود: كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. ورجاله رجال الصحيح؛ إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي، ففيه مقال يسير. (أو دخول الكنيف) ؛ يعني: إذا أراد أن يقضي الحاجة في البنيان، وهناك كنيف؛ فليس عليه إلا أن يدخله، وإن قرب من الناس؛ لما سيأتي من حديث ابن عمر. ( [4 - أن يترك الكلام] :) (و) أما (ترك الكلام) : فلحديث: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان؛ فإن الله يمقت على ذلك " (¬1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو ¬

_ (¬1) ضعفه شيخنا في " تمام المنة " (58) .

أن لا يصطحب ما فيه اسم الله

داود، وابن ماجة من حديث أبي سعيد. وأخرج نحوه ابن السكن (¬1) - وصححه - من حديث جابر - رضي الله تعالى عنه -. ( [5 - أن لا يصطحب ما فيه اسم الله] :) (و) أما ترك (الملابسة لما له حرمة) : فلحديث أنس - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، والمنذري، وابن دقيق العيد - بلفظ: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء ينزع خاتمه. ولم يأت من ضعفه (¬2) بما تقوم به الحجة في التضعيف. ( [6 - أن لا يتخلى في الموارد والظل والطرق] :) (وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع) : كالتخلي في ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم والماء الدائم، فقد ورد في ذلك أحاديث: منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، قال: " اتقوا اللاعنين "، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ {قال: الذي يتخلى في طريق ¬

_ (¬1) أورد إسناده ابن القطان في " بيان الوهم والإيهام " (5 / 260) وجوده} مع أنه في إسناده يحيى بن أبي كثير! ورواه الطبراني في " الأوسط " (344 - مجمع البحرين) ؛ من حديث أبي هريرة، وفي إسناده - أيضا - يحيى بن أبي كثير. (¬2) بل هو ضعيف؛ فانظر " إرواء الغليل " (48) ، و " مختصر الشمائل المحمدية " (75) .

أن لا يبول في الجحر

الناس أو في ظلهم "؛ وافهم أن الحكمة الاحتراز عن لعنهم وتأذيهم. ومنها حديث معاذ بن جبل عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن السكن - وصححاه -، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ". وقد أعل (¬1) بأنه من رواية أبي سعيد الحميري عن معاذ - ولم يسمع منه -. وفي الباب أحاديث فيها مقال. ( [7 - أن لا يبول في الجحر] :) ومن الأمكنة التي نهى الشارع عنها: الجحر؛ لحديث عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يبال في الجحر. أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي. وقد أعل بأنه من رواية قتادة عنه - ولم يسمع منه -، ولكنه قد صحح سماعه منه علي بن المديني، وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن (¬2) . والجحر؛ قد يكون مأوى حية أو مثلها، فتخرج وتؤذي. ( [8 - أن لا يبول في مستحمه] :) ومنها ما أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -، وأهل " السنن " من حديث عبد الله بن مغفل، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم ¬

_ (¬1) ولكنه حسن في الشواهد، انظر " الإرواء " (62) ، و " المشكاة " (355) . (¬2) انظر ترجيح تضعيفه في " تمام المنة " (ص 61 - 62) .

ترك استقبال واستدبار القبلة

يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه " (¬1) . ومنها ما أخرجه مسلم - رحمه الله تعالى -، وأحمد - رحمه الله تعالى - والنسائي - رحمه الله تعالى - وابن ماجة - رحمه الله تعالى - عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبال في الماء الراكد. (أو عرف) : وجهه أنهم يتأذون بذلك، وما كان ذريعة إلى ما لا يحل، فهو لا يحل. ( [9 - ترك استقبال واستدبار القبلة] :) (وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة) : قد ورد في ذلك أحاديث: منها ما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي أيوب بلفظ: " إذا أتيتم الغائط؛ فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا " وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -، ومن حديث سلمان - أيضا -. وابن ماجة، وابن حبان من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل، والدارمي في " مسنده "، من حديث سهل بن حنيف. ( [أقوال العلماء] :) وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال، استوفاها الماتن في ¬

_ (¬1) الحديث حسن؛ إلا فقرة الوسواس؛ فلا شاهد لها؛ فانظر " تمام المنة " (ص 63) .

" نيل الأوطار ". وقد استدل من لم يمنع من ذلك بما أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر، قال: رقيت يوما على بيت حفصة - رضي الله تعالى عنها -، فرأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة "، وجعلوا هذا الحديث ناسخا لأحاديث النهي. ومن جملة ما استدلوا به: حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبي داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى؛ وحسنه - وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، والبزار - رحمه الله تعالى -، وابن الجارود - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، وابن حبان - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، قال: نهى النبي [صلى الله عليه وسلم] أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها. قد نقل الترمذي عن البخاري - رحمه الله تعالى - تصحيحه، وصححه - أيضا - ابن السكن، وحسنه - أيضا - البزار. ولا يخفى أنه قد تقرر في الأصول: أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض القول الخاص بالأمة، فما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة (¬1) ¬

_ (¬1) كلا بل يعارضه، وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به [صلى الله عليه وسلم] . وما زعمه الشارح - تبعا للمؤلف في " نيل الأوطار "؛ من أنه تقرر في الأصول ... الخ - دعوى لا دليل عليها، ومرجعها إلى ادعاء الخصوصية في بعض أفعاله، وهي لا تقبل ممن يدعيها إلا بدليل صريح. والحق أن النهي عن الاستقبال أو الاستدبار منسوخ بحديث جابر. (ش) قلت: انظر مناقشة شيخنا الألباني لهذه المسألة في " تمام المنة " (59 - 61) ؛ فقد رجح مطلق النهي.

فإن قلت: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، قالت: ذكر لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم؟ فقال: " أو قد فعلوها؟ {حولوا مقعدتي قبل القبلة "، قلت: لو صح هذا لكان صالحا للنسخ؛ لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] فعله لقصد التشريع للأمة، ولمخالفة من كان يكره الاستقبال. ولكنه لم يصح؛ فإن في إسناده خالد بن أبي الصلت: قال ابن حزم: هو مجهول، وقال الذهبي في " الميزان " في ترجمة خالد بن أبي الصلت: إن هذا الحديث منكر (¬1) . وقد استدل من خصص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أخرجه أبو داود - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، عن مروان الأصفر - رضي الله عنه -، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته؛ مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن} أليس قد نهي عن ذلك؟ ! فقال: بلى، إنما نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. وقد حسن (¬2) الحافظ في " الفتح " إسناده، ولكنه إنما يكون هذا دليلا إذا كان قد سمع من النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يفيد تخصيص ذلك النهي السابق. وأما إذا كان مستنده إنما هو مجرد فهمه من فعله [صلى الله عليه وسلم] في بيت حفصة ¬

_ (¬1) خالد بن أبي الصلت ثقة وثقه ابن حبان. (ش) قلت: والحديث في " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (947) مضعف بست علل؛ فلتنظر. (¬2) وفي إسناده الحسن بن ذكوان؛ قال الحافظ: " صدوق يخطئ ويدلس ". وقد عنعنه.

- رضي الله عنها -: فلا يكون هذا الفهم حجة، ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال. قال الشافعي - رحمه الله -: الاستقبال والاستدبار محرمان في الصحراء لا في البنيان، ووجه الجمع عنده تنزيل النهي والإباحة على حالتين. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مكروهان فيهما سواء، ووجه الجمع عنده أن النهي للتنزيه، والفعل لبيان الجواز في الجملة. كذا في " المسوى ". قال في " سبل السلام: اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: أقربها: يحرم في الصحارى دون العمران؛ لأن أحاديث الإباحة وردت في الإباحة فحملت عليه، وأحاديث النهي عامة، وبعد تخصيص العمران بأحاديث فعله التي سلفت: بقيت الصحراء على التحريم، وقد قال ابن عمر: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود وغيره. وهذا القول ليس بالبعيد؛ لبقاء أحاديث النهي على بابها، وأحاديث الإباحة كذلك. انتهى. وروي عن عائشة عند الترمذي: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يبل قائما. وروي عن عمر عند الترمذي (¬1) : أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهاه أن يبول قائما. ¬

_ (¬1) برقم (12) ، وأعله بعبد الكريم بن أبي المخارق.

أن يستجمر بثلاثة أحجار

وروى الحاكم: أن بوله [صلى الله عليه وسلم] قائما كان لمرض؛ لكن ضعفه الدارقطني، والبيهقي، فلم يكن صالحا لحمل بوله على حال الضرورة، فالأولى أن يقال: إن فعله [صلى الله عليه وسلم] لبيان الجواز، وإن البول من قيام مكروه فقط، وفعله للمكروه لبيان حكم شرعي جائز. ولا ريب أن البول من قيام: من الجفاء (¬1) والغلظة والمخالفة للهيئة المستحسنة، مع كونه مظنة لانتضاح البول وترشرشه على البائل وثيابه، فأقل أحوال النهي مع هذه الأمور: أن يكون البول من قيام مكروها. وهذا على فرض أن فعله [صلى الله عليه وسلم] لقصد التشريع حتى يكون لبيان الجواز، ويكون صارفا للنهي، فإن لم يكن كذلك؛ فالنهي باق على حقيقته، والبول من قيام من خصائصه (¬2) ، ولكن بعد ثبوت النهي من طريق صحيحة أو حسنة (¬3) { وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ". ( [10 - أن يستجمر بثلاثة أحجار] :) (وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة) ؛ أي: مسحات؛ لأنها لا تنقي ¬

_ (¬1) روى البيهقي (2 / 285) عن ابن مسعود - بسند صحيح - أنه قال: من الجفاء أن يبول الرجل قائما. وهذا محمول على عدم أمن الرشاش. (¬2) ليس هناك دليل على إثبات أنه من خصائصه [صلى الله عليه وسلم] ، ولا تقبل دعوى ذلك إلا بدليل، - كما سبق - (ش) (¬3) وأنى ذلك؟! وقد قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (1 / 283) : " ولم يثبت عن النبي [صلى الله عليه وسلم]- في النهي عن البول قائما - شيء ".

غالبا بأقل من ثلاثة أحجار؛ لما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث سلمان: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، وعن الاستنجاء برجيع أو عظم. وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى - والدارقطني - رحمه الله تعالى -؛ وقال: إسناده صحيح حسن - من حديث عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فليستطب بثلاثة أحجار؛ فإنها تجزيء عنه ". وأخرج نحوه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجة - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروثة والرمة. وأخرج ابن خزيمة، وابن حبان، والدارمي، وأبو عوانة في " صحيحه "، والشافعي - رحمهم الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا بلفظ: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ". وفي الباب أحاديث غير ما ذكرناه. ثم اعلم أنه قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في " المسوى شرح الموطأ ": قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " الاستنجاء واجب، والمراد ثلاث مسحات ".

أن يستجمر بما يقوم مقام الأحجار فيما عدا المنهي عنه

وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: سنة، والمراد الإنقاء. وقال الشافعي: لا يجوز الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار، وإن حصل الإنقاء بما دونها، فإن لم يحصل يجب أن يزيد حتى يحصل، فإن حصل بعدها بشفع يستحب أن يختم بالوتر. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: " يسن الإنقاء ولا يستحب الإيتار ". وتأويل الحديث عنده: أن المراد بالإيتار هو التثليث، كنى به عن الإنقاء، ويستحب الاستنجاء بالماء من غير وجوب. عن عمر بن الخطاب: " يتوضأ بالماء لما تحت إزاره ". قلت: معنى الوضوء ههنا الغسل والتنظيف؛ وعليه عامة أهل العلم. انتهى. وورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: " حجران للصفحتين (¬1) ، وحجر للمسربة " - بسين مهملة وراء مضمومة أو مفتوحة -: مجرى للحدث من الدبر. ( [11 - أن يستجمر بما يقوم مقام الأحجار فيما عدا المنهي عنه] :) (وما يقوم مقامها) : للضرورة؛ أي: إذا لم توجد الأحجار، ما لم يكن ذلك الغير مما ورد النهي عنه - كالروثة والرجيع والعظم -، فإنه لا يجوز ولا يجزيء. ¬

_ (¬1) أي: لما يصيبهما.

قال في " الحجة ": لأنه طعام الجن، وكذا سائر ما ينتفع به، ويستحب الجمع بين الحجر والماء (¬1) . وأقول: لا شك أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجارة من دون ماء؛ لأنه أقطع للنجاسة، فلا تبقى بعده عين للنجاسة ولا ريح، بخلاف الاستنجاء بالحجارة - وهو الاستجمار -، فإذا لم يبق جزء من عين النجاسة بقي أثر من آثارها، وإذا لم يبق شيء من الآثار بقيت الريح، ومع هذا؛ فهو من السنن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مقرونا بما لا خلاف في مشروعيته، إنما الشأن في كونه يجب على من قضى الحاجة - إذا أراد القيام إلى الصلاة - أن يستنجي بالماء، ولا يكفيه الاستجمار بالأحجار ثم يتوضأ وضوء الصلاة ثم يصلي. والاستدلال على الوجوب بحديث أهل قبا، لا يخفى أن غاية ما فيه تخصيصهم بالأمر بذلك دون غيرهم، فإن سائر الصحابة كانوا إذ ذاك لا يستنجون بالماء، ولهذا خص الله أهل قباء بالثناء، ثم لم يرد أنه [صلى الله عليه وسلم] أمر غير أهل قبا بذلك. وقد ذهب إلى أنه يكفي الأحجار: ابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، والشافعية، والحنفية، كما حكى ذلك في " البحر الزخار " عنهم. بل حكى - أيضا - عن عطاء أن غسل الدبر محدث. وعن سعيد بن المسيب: ما يفعله إلا النساء. ¬

_ (¬1) لا دليل على هذا.

هكذا في " البحر ". وروى عنه أنه كان يقول: إذن لا يزال في يدي نتن - يعني: إذا غسل فرجه بالماء -. ويدل على عدم الوجوب أحاديث الأمر بالاستجمار. وما ورد - من أن ثلاثة أحجار ينقين المؤمن - لم يصح { والحاصل: أنه لا نزاع في كون الماء أفضل؛ إنما النزاع في أنه يتعين ولا يجزيء غيره، وهذا كله على فرض ثبوت قوله في حديث أهل قبا: " ذلكموه فعليكموه "} ولكنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث؛ بل الذي في " الجامع " عن أنس: ان النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لأهل قبا: " إن الله قد أحسن الثناء عليكم؛ فما ذاك "؟ ، قالوا: نجمع في الاستجمار بين الأحجار والماء. قال في " الجامع ": ذكره رزين (¬1) . وفي " التلخيص " (¬2) عن البزار في " مسنده " قال: نبأنا عبد الله بن شبيب: نبأنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، قال: وجدت في كتاب أبي: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن العباس، قال: نزلت هذه الآية في أهل قبا: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} ، فسألهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الزهري؛ إلا محمد بن عبد العزيز، ¬

_ (¬1) وكل ما يذكره رزين من زياداته ( {) : فلا أصل له} (¬2) " التلخيص الحبير " (رقم 151) ، و " مختصر زوائد البزار " (150) كلاهما للحافظ ابن حجر.

الأدلة على الاستنجاء بالأحجار للقبل أو الدبر

ولا عنه إلا ابنه. انتهى. ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم، فقال: ليس له ولأخويه - عمران وعبيد الله - حديث مستقيم. وعبد الله بن شبيب - أيضا - ضعيف. وأصل الحديث في " سنن أبي داود "، " والترمذي "، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة. وليس في شيء هنا الجمع بين الأحجار والماء، فمحل الاستدلال على وجوب الاستنجاء بالماء - هو قوله لهم: " فعليكموه " (¬1) : إغراء لهم على الفعل بمعنى: الزموه - لم يثبت حتى يثبت ما دل عليه. ( [الأدلة على الاستنجاء بالأحجار للقبل أو الدبر] ) واعلم أن الأدلة في هذه المسألة غير مقيدة بكون الأحجار المذكورة للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما جميعا؛ إذ يصدق قوله (¬2) [صلى الله عليه وسلم] : وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار؛ على من أراد أن يستنجي بعد البول فقط، أو بعد الغائط فقط، أو بعدهما. وكذلك قوله (¬3) [صلى الله عليه وسلم] وكان يأمرنا بثلاثة أحجار؛ يصدق على كل ذاهب ¬

_ (¬1) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (285) ، و " المشكاة " (369) . (¬2) صوابه: قول الصحابي؛ لأن هذا حكاية منه عن نهيه [صلى الله عليه وسلم] . (ش) (¬3) هذا كالذي قبله. (ش)

إلى الغائط سواء ذهب إلى البول فقط، أو إلى الغائط فقط، أو لهما. والمراد بالغائط في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أتى أحدكم الغائط ": المكان المطمئن، لا نفس الخارج، كما صرح به أئمة اللغة. وكذلك قوله: " وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار ": شامل لكل قاض للحاجة - سواء ذهب إلى البول فقط، أو الغائط فقط، أو ذهب إليهما جميعاً -. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهنّ؛ فإنها تجزئ عنه ": يتناول من بال فقط، كما يتناول من تغوّط فقط. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فليستنج بثلاثة أحجار ": يصدق على كل قاض للحاجة كما عرفت. وكذلك حديث: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار، وقوله: " وأعدوا النبل (¬1) ". إذا تقرر هذا: علمت أنه شرع الاستجمار لمن بال، كما شرع لمن تغوط، وأن يكون بثلاثة أحجار: ولم يَرِدْ ما يخالف هذا من شرع ولا لغة ولا اشتقاق. والاستنجاء: هو غسل البدن عن الأذى بالماء ومسحه بالحجر؛ كما صرح به صاحب " النهاية "، وصاحب " الصحاح "، " والقاموس ". ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق عن الشعبي - مرسلاً -؛ كما في " التلخيص الحبير " (139) ، و " الكنز " (9 / 365) . وقال النووي في " المجموع " (2 / 93) : " ليس بثابت ".

والاستجمار عندهم: استعمال الجِمار والتمسح بالجِمار - وهي الأحجار الصغار -، وهو استعمال من غير تقييد. قال في " القاموس ": استجمر: استنجى. انتهى. وهو - كما لا يخفى - يصدُق على من استنجى بها للفرج الأعلى أو الأسفل أو لهما. وكذلك تصدق الاستطابة على مسح الذكر والفرج. قال في " النهاية ": الاستطابة والإطابة: كناية عن الاستنجاء، وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء؛ أي: يطهره. ومثل ذلك في " الصحاح "، و " القاموس ". ثم قد وردت أحاديث فيها مجرد الأمر بثلاثة أحجار من غير ذكر استنجاء ولا استطابة ولا استجمار؛ ولا نزاع في صدقها على الذاهب إلى البول كما تصدق على الذاهب إلى الغائط. وحينئذ تعلم أنه شرع لمن بال أن يستجمر بالأحجار عقب البول، كما شرع لمن تغوط أن يفعل ذلك، ولا ينافي ذلك حديث: " إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً "؛ كما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث عيسى بن يزداد، عن أبيه. وقد قال ابن معين: لا يعرف عيسى ولا أبوه.

الاستعاذة عند دخول الكنيف

وقال الثوري: اتفقوا على أنه ضعيف. وقال أبو حاتم: حديثه مرسل: لأن الحديث - وإن كان مما لا تقوم به الحجة (¬1) - لكنه يمكن الجمع بينه وبين أحاديث الاستجمار؛ إذ الاستجمار إنما هو المسح بالجِمار لما تلوث بالبول أو الغائط من خارج الفرج أو الذكر، لا لاستخراج ما كان داخلهما، فالنتر والاستجمار مختلفان - مفهوماً وصدقاً وزماناً ومكاناً وصفة -، فكيف يجعل أحدهما معارضاً للآخر؟ {لا سيما وحديث النتر بمكان من الضعف لا تقوم به الحجة على فرض انفراده، فكيف يؤخذ به وتترك أحاديث الاستجمار المتواترة تواتراً معنوياً عند من له أدنى ممارسة للفن؟} وقد أوضحت ذلك في " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ فليراجع. (12 -[الاستعاذة عند دخول الكنيف] :) (وتُندب الاستعاذة عند الشروع) ؛ أي: الدخول؛ لأن الحشوش مُحتضَرة (¬2) يحضرها الشياطين؛ لأنهم يحبون النجاسة، ووجهه ما أخرجه الجماعة من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا دخل الخلاء قال: " اللهم {إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ". وقد روى سعيد بن منصور في " سننه ": أنه كان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " اللهم} إني أعوذ بك من الخبث والخبائث "، وإسناده على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) انظر " سلسلة الأحاديث الضعيف " (1621) . (¬2) وفي هذا المعنى حديث صحيح؛ فانظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1070) .

أن يستغفر ويحمد بعد قضاء الحاجة

(13 -[أن يستغفر ويحمد بعد قضاء الحاجة] :) (والاستغفار والحمد بعد الفراغ) : لأنه وقت ترك ذكر الله - تعالى - ومخالطة الشياطين، والدليل عليه ما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله تعالى - بإسناد صالح (¬1) من حديث أنس - رضي الله تعالى عنه -، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى (¬2) ". وأخرج نحوه النسائي - رحمه الله تعالى -، وابن السني - رحمه الله تعالى -، من حديث أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - ورمز السيوطي - رحمه الله تعالى - لصحته (¬3) - وأخرج أحمد - رحمه الله تعالى -، وأبو داود - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك ". وصححه ابن حبان - رحمه الله تعالى -، وابن خزيمة - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -. ¬

_ (¬1) بل هو ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (53) ، و " تخريج الأذكار " (1 / 218) . (¬2) في " نيل الأوطار " بزيادة: " وعافاني ". (ش) (¬3) ورموز السيوطي غير موثوقة، فتنبّه.

باب الوضوء

(4 - باب الوضوء) (الفصل الأول: فرائض الوضوء] ) ( [متى فُرض الوضوء؟] :) فُرض مع الصلاة قبل الهجرة بسنة، وهو من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم، لا لأنبيائهم. (1 -[التسمية إذا ذكر] :) (يجب على كل مكلَّف) : لمن أراد الصلاة وهو مُحْدِث أو جنب (أن يسمي) ؛ وجه وجوب التسمية ما ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه "؛ أخرجه أحمد - رحمه الله تعالى -؛ وأبو داود - رحمه الله تعالى -؛ وابن ماجه - رحمه الله تعالى -، والترمذي - رحمه الله تعالى -، في " العلل "، والدارقطني - رحمه الله تعالى -، وابن السكن - رحمه الله تعالى -، والحاكم - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -، وليس في إسناده ما يُسقطه عن درجة الاعتبار. وله طرق أخرى (¬1) من حديثه عند الدارقطني - رحمه الله تعالى - ¬

_ (¬1) جمعها أخونا الفاضل الشيخ أبو إسحاق الحُويني في جزء مفرد عنوانه: " كشف المخبوء بثبوت التسمية عند الوضوء "، وهو مطبوع.

والبيهقي - رحمه الله -. وأخرج نحوه أحمد - رحمه الله تعالى -، وابن ماجه - رحمه الله تعالى - من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، ومن حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وسهل بن سعد - رضي الله عنه - وأبي سبرة - رضي الله عنه -، وأم سبرة - رضي الله عنها -، وعلي - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -. ولا شك ولا ريب أنها جميعاً تنتهض للاحتجاج؛ بها، بل مجرد الحديث الأول ينتهض للاحتجاج لأنه حسن، فكيف إذا اعتضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه؟ { ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف، وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله، وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم، فضلاً عن الوجوب؛ فإنه أقل ما يستفاد منه (¬1) . ¬

_ (¬1) الحديث الأول ضعيف؛ لأنه من رواية يعقوب بن سلمة الليثي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة. ووقع الإسناد للحاكم في " المستدرك ": " يعقوب بن أبي سلمة "} وزعم أنه الماجشون؛ فصححه لذلك، وتعقبه الذهبي وغيره بأنه خطأ، والصواب: " يعقوب بن سلمة الليثي "! ولو سُلّم أنه الماجشون؛ فإن أباه أبا سلمة - واسمه دينار - مجهول الحال، وعلى كل فالحديث ضعيف. وباقي الأحاديث التي ذكرها الشارح لا تصلح للاحتجاج؛ لأنها ضعيفة جداً، ولذلك قال أحمد ابن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد. وليس لمن قال بموجب التسمية في الوضوء - على أنها شرط فيه - دليل صحيح، والحق أنها سنة. (ش) . قلت: ومناقشة هذا الكلام تراها في جزء " كشف المخبوء ... " الذي ذكرته آنفاً.

(إذا ذكر) : تقييد الوجوب بالذِّكر؛ للجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث: " من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه " (¬1) ؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله - من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وفي إسناده متروك. ورواه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وفي إسناده - أيضا - متروك. ورواه أيضا الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه ضعيفان. وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها، وليس فيها أيضا دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذِّكر، ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان، وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز، فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية، ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية، وبعد هذا كله: ففي التقييد بالذكر إشكال. قال في " الحجة البالغة ": قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا وضوء لمن لا يذكر الله " هذا الحديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه، وعلى تقدير صحته؛ فهو من المواضع التي اختلف فيها طريق التلقي من النبي [صلى الله عليه وسلم] فقد استمر المسلمون يحكون وضوء النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ¬

_ (¬1) انظر تعليق شيخنا على " المشكاة " (428) .

ويعلّمون الناس ولا يذكرون التسمية، حتى ظهر زمان أهل الحديث (¬1) ، وهو نص على أن التسمية ركن أو شرط، ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب (¬2) ؛ فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية، وحينئذ يكون صيغة: " لا وضوء " على ظاهرها. نعم؛ التسمية أدب كسائر الآداب - لقوله [صلى الله عليه وسلم]-: " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر " (¬3) ، وقياساً على مواضع كثيرة. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يكمل الوضوء، لكن لا أرتضي مثل هذا التأويل؛ فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ. انتهى. وأقول: قد تقرر أن النفي في مثل قوله: " لا وضوء ... " يتوجه إلى الذات إن أمكن، فإن لم يمكن؛ توجه إلى الأقرب إليها - وهو نفي الصحة -؛ فإنه أقرب المجازيْن، لا إلى الأبعد - وهو نفي الكمال -، وإذا توجه إلى الذات - أي: لا ذات وضوء شرعية، أو إلى الصحة -: دل على وجوب التسمية؛ لأن انتفاء التسمية قد استلزم انتفاء الذات الشرعية، أو انتفاء صحتها؛ فكان تحصيل ما يُحصِّل الذات الشرعية، أو صحتها واجباً، ولا يتوجه إلى نفي الكمال إلا لقرينة؛ لأن الواجب الحمل على الحقيقة، ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذات، ثم لا يحمل على أبعد المجازات إلا لقرينة. يمكن أن يقال: إن القرينة - ههنا - المسوِّغة لحمل النفي على المجاز الأبعد ¬

_ (¬1) ونِعْم الزمان هو! (¬2) أما هذا: فلا. (¬3) وهو حديث ضعيف من سائر طرقه؛ فانظر " الإرواء " (1) و (2) .

المضمضة والاستنشاق

هي ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من توضأ وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه "؛ وسنده ضعيف (¬1) . (2 -[المضمضة والاستنشاق] :) (ويتمضمض ويستنشق) : وجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله، وقد بين النبي [صلى الله عليه وسلم] ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا، ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق، فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغسله من جملة المضمضة والاستنشاق. وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني - رحمه الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالمضمضة والاستنشاق (¬2) . وثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أيضا - أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا توضأ أحدكم؛ فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر ". وثبت عند أهل " السنن " - وصححه الترمذي، رحمه الله تعالى - من حديث لقيط بن صبرة - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " ... وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً (¬3) ". ¬

_ (¬1) فلا قرينة - إذا -!! (¬2) وهو حديث معلول؛ فانظر " سنن البيهقي " (1 / 52) . (¬3) رواه أيضا الشافعي وأحمد وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم البيهقي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه أيضا البغوي وابن القطان. ورواه أيضا الدولابي بلفظ: " وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً ". قال ابن القطان: وهذا سند صحيح. ورجحه على الرواية الأخرى التي ليس فيها ذكر المضمضة. (ش)

وأخرج النسائي - رحمه الله تعالى - من حديث سلمة بن قيس - رضي الله تعالى عنه -: " إذا توضأت فانتثر ". وأخرجه الترمذي - رحمه الله تعالى - أيضاً. وفي رواية من حديث لقيط بن صَبِرة - رضي الله تعالى عنه - المذكور: " إذا توضأت فمضمض "؛ أخرجها أبو داود بإسناد صحيح. وقد صحح حديث لقيط - رضي الله تعالى عنه - الترمذي - رحمه الله تعالى -، والنووي - رحمه الله تعالى -، وغيرهما؛ ولم يأت من أعلّه بما يقدح فيه. وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد - رحمه الله تعالى -، وإسحاق - رحمه الله تعالى -، وبه قال ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى -، وحماد بن أبي سليمان - رحمه الله تعالى (¬1) -. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء، والمضمضة سنة فيهما. حكى هذا المذهب النووي - رحمه الله تعالى - في " شرح مسلم " عن أبي ثور - رحمه الله تعالى -، وأبي عبيد - رحمه الله تعالى -، وداود الظاهري، ¬

_ (¬1) من الأدلة القوية على وجوب المضمضة والاستنشاق؛ أن غسلهما داخل في غسل الوجه؛ لأنهما عضوان منه، وقد واظب عليهما النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فالتحق عمله بالأمر الوارد في القرآن بغسل الوجه بياناً له. قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": لم يحك أحد ممن وصف وضوءه -[صلى الله عليه وسلم]- على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق؛ بل ولا المضمضة؛ وهو يَرد على من لم يوجب المضمضة ". (ش) .

وابن المنذر - رحمه الله تعالى -، ورواية عن أحمد - رحمه الله تعالى -. وقد روى غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، والثوري - رحمه الله تعالى -، وزيد بن علي - رحمه الله تعالى -. وذهب مالك - رحمه الله تعالى -، والشافعي - رحمه الله تعالى -، والأوزاعي - رحمه الله تعالى -، والليث - رحمه الله تعالى -، والحسن البصري - رحمه الله تعالى -، والزهري - رحمه الله تعالى -، وربيعة - رحمه الله تعالى -، ويحيى بن سعيد - رحمه الله تعالى -، وقتادة - رحمه الله تعالى -، والحكم بن عتيبة - رحمه الله تعالى -، ومحمد بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -، إلى أنهما غير واجبين، واستدلوا على عدم الوجوب بحديث: " عشر من سنن المرسلين ... " - وهو حديث صحيح (¬1) -، ومن جملتها المضمضة والاستنشاق. ورد بأنه لم يرو بلفظ: " عشر من السنن "، بل بلفظ: " عشر من الفطرة ... " (¬2) ، وعلى فرض وروده بذلك اللفظ: فالمراد بالسنة الطريقة، وهي تعم الواجب، لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول، فإن ذلك اصطلاح حادث، وعرف متجدد لا تحمل عليه أقوال الشارع! وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: " المضمضة والاستنشاق سنة "؛ أخرجه الدارقطني - رحمه الله تعالى -، وإسناده ضعيف (¬3) . ¬

_ (¬1) لا؛ فقد رواه ابن عدي (3 / 13) بلفظ: " عشر من السنة ... "، بسند ضعيف. (¬2) رواه مسلم (261) عن عائشة. (¬3) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 77 - الطبعة الأولى) .

غسل الوجه

والمراد بالسنة في اصطلاح الشارع وأهل عصره: ما دل عليه دليل من قوله [صلى الله عليه وسلم] أو فعله أو تقريره، ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن، فهذه اللفظة أعم من المدعى، فإنها تطلق على الواجب كما تطلق على المندوب، فيقال مثلا: الدليل على هذا الحكم من السنة. ولا يقال: إن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية؛ لأن المراد بالسنة - كما عرفت - في لسان الشارع، ليس ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول؛ فتأمل! (3 -[غسل الوجه] :) (ثم يغسل جميع وجهه) : والمراد بالوجه ما يسمى وجهاً عند أهل الشرع واللغة. ووجوب غسل الوجه لا خلاف فيه في الجملة، وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة. (4 -[غسل اليدين مع المرفقين] :) (ثم يديه مع مرفقيه) : هو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا خلاف في ذلك، وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معهما، ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند الدارقطني - رحمه الله تعالى -، والبيهقي - رحمه الله تعالى -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أدار الماء على مرفقيه، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "؛ وفي إسناده ضعيفان هما: عباد بن يعقوب، والقاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر " إرواء الغليل " (85) .

مسح الرأس

ولكن يغني عن هذا الضعيف ما في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أنه توضأ ثم غسل يده، حتى شرع في العضد. ثم قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يتوضأ هكذا. وفي رواية الدارقطني - رحمه الله تعالى - من حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه غسل وجهه ويديه، حتى مس أطراف العضدين؛ قال الحافظ: وإسناده حسن. وأخرج البزار والطبراني (¬1) من حديث ثعلبة بن عباد، عن أبيه - مرفوعاً -: ثم غسل ذراعيه، حتى يسيل الماء على مرفقيه. وهذا بيان لما في القرآن، فأفاد أن الغاية داخلة فيما قبلها. (5 -[مسح الرأس] :) (ثم يمسح رأسه) : ولا خلاف فيه - في الجملة -، وإنما وقع الخلاف: هل المتعين مسح الكل؟ أم يكفي البعض؟ وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أم البعض، والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات، كما في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث المغيرة - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] توضأ، ومسح بناصيته وعلى العمامة. وأخرج أبو داود (¬2) - رحمه الله تعالى - من حديث أنس - رضي الله ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في " المجمع " (1 / 224) : " ورجاله موثقون ". (¬2) برقم (147) ؛ وفي سنده جهالة.

عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمر عليها [صلى الله عليه وسلم] ، فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان [صلى الله عليه وسلم] يداوم عليها - وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا -، وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن قوله - تعالى -: {وامسحوا برؤسكم} لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال؛ نحو: ضربت رأس زيد، وضربت برأسه، وضربت زيداً، وضربت يد زيد، فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة، وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس - لغة - حتى يقال: إنه - حقيقة - في جميعه، بل النزاع في إيقاع المسح عليه، وعلى فرض الإجمال: فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه؛ فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا، وأما اليدان والرجلان؛ فقد صرح فيهما بالغاية للمسح والغسل. فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به؛ قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب - أو بالثوب -، أو مسحت الحائط - أو بالحائط -، على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط، وإنكار مثل هذا مكابرة.

مسح الأذنين

وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " وغيرها؛ فليراجع. ( [مسح الأذنين] :) (مع أذنيه) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسحهما مع مسح رأسه، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] بلفظ: " الأذنان من الرأس " من طرق يقوي بعضها بعضا (¬1) . (ويجزئ مسح بعضه) قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: الفرض أدنى ما يطلق عليه اسم المسح. وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -: مسح ربع الرأس. وقال مالك: مسح جميع الرأس. في " سفر السعادة " (¬2) : وكان يمسح جميع رأسه أحيانا، وأحيانا يمسح على العمامة، وأحيانا يمسح على الناصية والعمامة، ولم يقتصر على مسح بعض الرأس أبدا، وكان يمسح الآذان ظاهرا وباطنا، ولم يثبت في مسح الرقبة حديث. انتهى. ¬

_ (¬1) بل كل طرقه ضعيفة، والضعيف لا حجة فيه وإن اعتضد بمئة ضعيف مثله؛ إلا ما كان ضعفه من قبل حفظ الراوي، فهذا يقويه ما يتابعه فيه غيره ممن هو مثله أو أقوى منه. (ش) . قلت: بل الحديث حسن، وطرقه ترفعه إلى الحسن؛ فانظر " السلسلة الصحيحة " (1 / 1 / 81 - 93) و (1 / 2 / 903 - 906) . (¬2) وهو كتاب نفيس جدا، وقد نشرناه بفضل الله وحسن توفيقه. (ش)

المسح على العمامة

( [المسح على العمامة] :) (والمسح على العمامة) أو غيرها مما هو على الرأس، فقد ثبت ذلك عنه [صلى الله عليه وسلم] من حديث عمرو بن أمية الضمري عند البخاري - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث بلال - رضي الله عنه - عند مسلم - رحمه الله تعالى - وغيره، ومن حديث المغيرة - رضي الله عنه - عند الترمذي - رحمه الله، وصححه -. وليس فيه المسح على الناصية، بل هو بلفظ: ومسح على الخفين والعمامة. وفي الباب أحاديث غير هذه: منها عن سلمان - رضي الله عنه - عند أحمد - رحمه الله تعالى -، وعن ثوبان - رضي الله عنه - عند أبي داود وأحمد - رحمه الله - أيضا. والحاصل: أنه قد ثبت المسح على الرأس وحده، وعلى العمامة وحدها، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت. وقد ورد في حديث ثوبان - رحمه الله - ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر، وهو عند أحمد - رحمه الله -، وأبي داود (¬1) - رحمه الله -: أنه [صلى الله عليه وسلم] بعث سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي [صلى الله عليه وسلم] شكوا إليه ما أصابهم من البرد، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين؛ وفي إسناده راشد بن سعد؛ ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5 / 277) ، وأبو داود (146) .

غسل الرجلين

قال الخلال في " علله ": إن أحمد - رحمه الله - قال: لا ينبغي أن يكون راشد ابن سعد سمع من ثوبان - رضي الله عنه - لأنه مات قديما (¬1) . (6 -[غسل الرجلين] :) (ثم يغسل رجليه) : وجهه ما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه؛ فإنها جميعها مصرحة بالغسل، وليس في شيء منها أنه مسح؛ إلا في روايات لا تقوم بمثلها الحجة، ويؤيد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للماسحين على أعقابهم: " ويل للأعقاب من النار " - كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما -. ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الرجلين، كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عند الدارقطني (¬2) - رحمه الله -. ويؤيده - أيضا - قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فمن زاد على هذا أو نقص (¬3) فقد أساء وظلم "؛ وهو حديث رواه أهل " السنن "، وصححه ابن خزيمة - رحمه الله -، ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه. وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعرابي: " توضأ كما ¬

_ (¬1) انظر " جامع التحصيل " (ص 174) . (¬2) في " سننه " (1 / 107) ، وقد ضعفه النووي في " المجموع " (1 / 417) . (¬3) زيادة: " أو نقص ": لا تصح؛ فانظر " فتح الباري " (1 / 233) ، و " عون المعبود " (1 / 229) .

أمرك الله " (¬1) ، ثم ذكر له صفة الوضوء؛ وفيها غسل الرجلين. وهذه أحاديث صحيحة معروفة، وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار (¬2) ؛ وقد ذهب إلى هذا الجمهور. قال النووي: ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع. وقال الحافظ - رحمه الله - في " الفتح ": إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - خلاف ذلك؛ إلا عن علي - رضي الله تعالى عنه -، وابن عباس - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك. وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله -، قال: اجتمع أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم]- رضي الله عنهم - على غسل القدمين. وقالت الإمامية (¬3) : الواجب مسحهما. وقال محمد بن جرير، والحسن البصري - رحمه الله -، والجبائي: إنه مخير بين الغسل والمسح. وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (861) عن رفاعة بن رافع بسند صحيح. وانظر " نصب الراية " (1 / 367) . (¬2) كما قال ابن زنجلة في " حجة القراءات " (ص 223) ، ثم قال: " كما يقال: هذا جحر ضب خرب ". (¬3) وهم الشيعة الجعفرية الإثنى عشرية {}

ولم يحتج من قال بوجوب المسح إلا بقراءة الجر؛ وهي لا تدل على أن المسح متعين؛ لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف، بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير، لو لم يرد عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ما يوجب الاقتصار على الغسل. أقول: الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح؛ لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر (¬1) . وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار، وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس، بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور انجر. وتعسف القائلون بالمسح، فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: {برؤسكم} (¬2) ، كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور. وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف، ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسما مجرورا في رواية ومنصوبا في أخرى مما لا يتعلق به الاختلاف، ووجد قبله منصوبا لفظا ومجرورا: لما شك أن النصب عطف على المنصوب والجر عطف على المجرور، وإذا تقرر هذا؛ كان الدليل القرآني قاضيا بمشروعية كل واحد منهما على انفراده، لا على مشروعية الجمع بينهما؛ وإن قال به قائل - فهو من الضعف بمكان؛ لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة -. ¬

_ (¬1) سيرجح المصنف - بعد أن الغسل - فقط - هو الواجب. وأما كلامه - هنا -: فمتعلق بالدلالة اللغوية. (¬2) هذا هو الصحيح من جهة العربية، وليس فيه تعسف. (ش) .

انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء؛ فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط؛ ولكن الرسول [صلى الله عليه وسلم] قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما، فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه [صلى الله عليه وسلم] ، وكلها مصرحة بالغسل، ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين، فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح؛ فالواجب الغسل بما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من البيان المستمر جميع عمره (¬1) . وإن كان ذلك لا يوجب الإجمال؛ فقد ورد في السنة الأمر بالغسل ورودا ظاهرا؛ ومنه الأمر بتخليل الأصابع؛ فإنه يستلزم الأمر بالغسل؛ لأن المسح لا تخليل فيه، بل يصيب ما أصاب، ويخطئ ما أخطأ. والكلام على ذلك يطول جدا. والحاصل: أن الحق ما ذهب إليه الجمهور؛ من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح (1) . قال في " الحجة البالغة ": ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء، فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية (¬2) ؛ فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول، وبين من أنكر غزوة بدر وأحد - مما هو كالشمس في رابعة النهار -. نعم؛ من قال بأن الاحتياط (¬3) الجمع بين الغسل والمسح، أو أن أدنى ¬

_ (¬1) انظر التعليق السابق. (¬2) على إحدى القراءتين. (¬3) وبابه واسع!!

شروط المسح على الخفين

الفرض المسح - وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه -؛ فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف جلية الحال. انتهى. قلت: ويدفعه ما تقدم من الدليل على عدم إجزاء المسح والجمع بينه وبين الغسل؛ فلا فائدة للتوقف في ذلك. (مع الكعبين) ؛ أي: مع القدمين للآية - وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم -؛ فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين، ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه [صلى الله عليه وسلم] مثل ما ثبت في المرفقين، وإذا تقرر أنه لا يتم الواجب إلا بغسلهما: ففي ذلك كفاية مغنية عن الاستدلال بدليل آخر. ( [شروط المسح على الخفين] :) (1 -[أن يلبسهما على طهارة] :) (وله المسح على الخفين) ، ويشترط في المسح عليهما: أن يكون أدخل رجليه فيهما وهما طاهرتان. قال الشافعي - رحمه الله -: يشترط كمال الوضوء عند اللبس. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: عند الحدث. ومسح أعلى الخف فرض، ومسح أسفله سنة عند الشافعي - رحمه الله -. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا يمسح إلا الأعلى. وبالجملة: فوجهه ما ثبت تواتراً عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من فعله وقوله.

وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: فيه أربعون حديثا، وكذلك قال غيره. وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله -: إنه رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] من الصحابة (رض) (¬1) أحد وأربعون رجلا. وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: أربعون رجلا. وقال ابن منده: إن الذين رووه من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ثمانون رجلا. ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك - رحمه الله -، أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة رضي الله عنهم اختلاف؛ لأن كل من روي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته. وقد ذكر أحمد - رحمه الله - أن حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - في إنكار المسح باطل. وكذلك ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس - رضي الله عنه - قد أنكره الحفاظ، ورووا عنهم خلافه. وكذلك ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سبق الكتاب الخفين؛ فهو منقطع. وقد روى عنه مسلم - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله - القول بالمسح ¬

_ (¬1) اختصار (رضي الله عنه) . (ش)

أن يكون المسح مؤقتا

عليهما بعد موت النبي [صلى الله عليه وسلم] . وقد روى الإمام المهدي (¬1) في " البحر " عن علي - رضي الله عنه - القول بمسح الخفين. وقد ثبت في " الصحيح " من حديث جرير - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] مسح على الخفين؛ وإسلام جرير - رضي الله تعالى عنه - كان بعد نزول المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع. وقد روى المغيرة - رضي الله عنه - عن النبي [صلى الله عليه وسلم] المسح على الخفين، وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك، وتبوك متأخرة عن المريسيع بالاتفاق. وقد ذكر البزار - رحمه الله - أن حديث المغيرة - رضي الله عنه - هذا رواه عنه ستون رجلا. وبالجملة: فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن يطول الكلام عليهما، ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع؛ اشتغل الناس بها، حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد. (2 -[أن يكون المسح مؤقتا] :) وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر، وبيوم وليلة للمقيم. قال ابن القيم - رحمه الله - في " إعلام الموقعين " (¬2) : سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ¬

_ (¬1) هو من أئمة الزيدية! وكتابه هو " البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار "، وانظر (1 / 70) - منه -. (¬2) وهو كتاب نادر المثال، وقد وفقنا الله لنشره، والحمد لله. (ش)

النية

عن المسح على الخفين؟ فقال: " للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوما "، وسأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أبي بن عمارة - رضي الله عنه -، فقال: يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: " نعم "، قال: يوما؟ قال: " ويومين "، قال: وثلاثة أيام؟ قال: " نعم، وما شئت ". ذكره أبو داود (¬1) - رحمه الله -. وطائفة قالت: هذا مطلق، وأحاديث التوقيت مقيدة، والمقيد يقضي على المطلق انتهى. وأما مسح الرقبة؛ فقد ورد من الروايات ما يصلح للتمسك به على مشروعية مسح الرقبة (¬2) ، وقد بسطه المجتهد الرباني في " شرح المنتقى " (¬3) ، وقد كاد يقع الإجماع بين أهل المذاهب على أنه بدعة. (3 -[النية] :) (ولا يكون وضوءاً شرعياً إلا بالنية لاستباحة الصلاة) ؛ لحديث: " إنما الأعمال بالنيات " وهو في " الصحيحين " وغيرهما، وورد من طرق بألفاظ. قال في " التلخيص ": لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة - رحمهم الله - من لم يخرجه؛ سوى مالك - رحمه الله -، فإنه لم يخرجه في " الموطأ "، وإن كان ابن دحية - رحمه الله - وهم في ذلك، وادعى أنه في " الموطأ " (¬4) . ¬

_ (¬1) (158) ، وابن ماجه (557) . وقد ضعفه أبو داود - عقب روايته -. (¬2) وقال ابن القيم في " زاد المعاد " (1 / 49) : " ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة ". انظر " السلسلة الضعيفة " (69) و (744) . (¬3) " نيل الأوطار " (1 / 163 - 164) . (¬4) بل هو في " الموطأ " (982 - رواية محمد بن الحسن الشيباني) .

فصل سنن الوضوء

قال الهروي: كتب هذا الحديث عن سبع مئة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد. قلت: تتبعته من الكتب والأجزاء، حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، هذا ما كنت وقفت عليه؛ ثم إن في " المستخرج لابن منده " - رحمه الله - عدة طرق، فضممتها إلى ما عندي، فزادت على ثلاث مئة طريق. انتهى. فإن كان المقدر عاما (¬1) فهو يفيد أنه لا يثبت العمل الشرعي إلا بها، وإن كان خاصا؛ فأقرب ما يقدر الصحة، وهي تفيد ذلك. قال في " الفتح ": " وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد، واختلفوا في الوسائل ". ومن ثم خالفت الحنفية - رحمهم الله - في اشتراطها للوضوء، ورد ابن القيم - رحمه الله - على الحنفية - رحمهم الله - بأحد وخمسين وجها في " إعلام الموقعين " فليرجع إليه. وقد نسب القول بفرضية النية إلى الشافعي - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -، والليث - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -. ( [فصل: سنن الوضوء] ) (1 -[التثليث] ) (ويستحب التثليث) : وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه ¬

_ (¬1) • أي: لا عمل إلا بالنية، ولما كان هذا متروك الظاهر، لأن الذوات غير منتفية -؛ قيده الشارع بالعمل الشرعي، وإن كان خاصاً بالأعمال - الأعمال الصالحة - كما يدل عليه سياق الحديث. (ن)

بيان حكم الترتيب

[صلى الله عليه وسلم] غسل كل عضو ثلاث مرات، وبيّن أن الواجب مرة واحدة. (في غير الرأس) : لأن الأحاديث الواردة بتثليث سائر الأعضاء وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس، ولا تقوم الحجة بما ورد في تثليثه (¬1) . ( [بيان حكم الترتيب] :) وأما الترتيب: فمن جملة ما استدل به القائل بوجوب الترتيب: أن الآية مجملة باعتبار أن (الواو) لمطلق الجمع على أي صفة كان؛ فبيّن النبي [صلى الله عليه وسلم] للأمة أن الواجب من ذلك هيئة مخصوصة هي المروية عنه، وهي مرتبة. وأيضا؛ الوضوء الذي قال فيه [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله الصلاة إلا به " كان مرتبا (¬2) ؛ والحديث المذكور - وإن كان في جميع طرقه مقال -؛ لكنها يقوي بعضها بعضا؛ ويؤيده ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم مرفوعا عن أبي هريرة: " إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم " (¬3) : قال ابن دقيق العيد: هو خليق بأن يصح. وقد حقق الكلام على هذا شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ". (2 -[إطالة الغرة والتحجيل] :) (وإطالة الغرة والتحجيل) : لثبوته في الأحاديث الصحيحة، كقوله [صلى الله عليه وسلم] : ¬

_ (¬1) قارن ب " نصب الراية " (1 / 34) للزيلعي. (¬2) قارن ب " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1 / 1 / 523 - 525) . (¬3) انظر " صحيح سنن ابن ماجه " (323) .

السواك

" إن أمتي يُدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء " (¬1) ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. (3 -[السواك] :) (وتقديم السواك استحباباً) : وجهه الأحاديث المتواترة من قوله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وليس في ذلك خلاف. قال في " الحجة ": " قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة "؛ معناه: لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطا للصلاة كالوضوء؛ وقد ورد بهذا الأسلوب أحاديث كثيرة جدا؛ وهي دلائل واضحة على أن لاجتهاد النبي [صلى الله عليه وسلم] مدخلاً في الحدود الشرعية، وأنها منوطة بالمقاصد، وأن رفع الحرج من الأصول التي بُني عليها الشرائع. وقول الراوي في صفة تسوكه [صلى الله عليه وسلم] : يقول: أع أع؛ كما يتهوع. أقول: ينبغي للإنسان أن يبلغ بالسواك أقاصي الفم، فيخرج بلاغم الحلق والصدر، والاستقصاء في السواك يذهب بالقُلاع ويصفي الصوت ويطيب النكهة ". انتهى. (4 -[غسل الكفين ثلاثاً] :) (وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل الشروع في غسل الأعضاء المتقدمة) : ¬

_ (¬1) رواه البخاري (136) ، ومسلم (246) . وأما ما بعده: فمدرج؛ فانظر " الضعيفة " (1030) .

فصل نواقض الوضوء

لحديث أوس بن أوس الثقفي، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] توضأ، فاستوكف ثلاثاً "؛ أي: غسل كفيه، أخرجه أحمد - رحمه الله -، والنسائي - رحمه الله -. وثبت في " الصحيحين " من حديث عثمان - رضي الله عنه -: " فأفرغ على كفيه ثلاث مرات يغسلهما ". وثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - يروونه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] . (فصل: [نواقض الوضوء] ) (1 -[خروج شيء من أحد السبيلين] :) (وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح) : فقد وردت الأدلة بذلك مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "، وقد فسره أبو هريرة - رضي الله عنه - لما قال له رجل: ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط. ومعنى الحدث أعم مما فسره به، ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ. ولا خلاف في انتقاض الوضوء بذلك. (2 -[الجماع] :) (وبما يوجب الغسل) في الجماع، ولا خلاف في انتقاضه به أيضا.

نوم المضطجع

(3 -[نوم المضطجع] :) (ونوم المضطجع) : وجهه أن الأحاديث الواردة بانتقاض الوضوء بالنوم كحديث: " من نام فليتوضأ " مقيدة بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع، وقد روي من طرق متعددة، والمقال الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها (¬1) ؛ وبذلك يكون الجمع بين الأدلة المختلفة. وفي ذلك ثمانية مذاهب استوفيناها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام "، واستوفاها الماتن في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار "، وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها، وترجيح ما هو الراجح. قال الشافعي - رحمه الله -: النوم ينقض الوضوء إلا نوم ممكِّن مقعدته. ¬

_ (¬1) • هذه الدعوى باطلة؛ فإن شرط انجبار الحديث بكثرة الطرق؛ أن لا يكون فيها متهم أو متروك؛ كما بينه النووي وغيره في (مصطلح الحديث) . ويدلك على ذلك أنه كم من حديث له من الطرق أكثر من هذا بكثير؛ ومع ذلك فقد ظلوا يحكمون عليها بالضعف؛ وهذا الحديث لا يوجد فيه هذا الشرط؛ على قلتها - أعني: طرقه -، وهي ثلاثة: الأول: حديث ابن عباس، وله أربع - بل خمس - علل بيناها في " الأحاديث الضعيفة " التي جردناها من " سنن أبي داود " رقم (26) . الثاني: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ قال الشوكاني في " النيل " (1 / 170) : " وفيه مهدي بن هلال؛ وهو متهم بوضع الحديث، ومن رواية عمر بن هارون البلخي؛ وهو متروك، ومن رواية مقاتل بن سليمان؛ وهو متهم ". الثالث: حديث حذيفة؛ أخرجه البيهقي (1 / 120) ، وقال: " ينفرد به بحر بن كنيز السقاء؛ وهو ضعيف ولا يحتج بروايته ". فمثل هذه الطرق لا ينجبر بها الحديث؛ بل تزيده وهنا على وهن. (ن) . قلت: وانظر " تمام المنة " (99) .

أكل لحم الإبل

وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً؛ لا وضوء عليه، حتى ينام مضطجعاً أو متكئاً ". كذا في " المسوى ". (4 -[أكل لحم الإبل] :) (وأكل لحم الإبل) : وجهه قوله [صلى الله عليه وسلم]- لما قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ - قال: " نعم "، وهو في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. وقد روي - أيضا - من طريق غيره. وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما مست النار. ولا يخفى أنه لم يصرح في شيء منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخاً. وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق بن راهويه - رحمه الله -، ويحيى بن يحيى - رحمه الله، وابن المنذر - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، وحكي عن أصحاب الحديث - رحمهم الله -، وحكي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - كما قال النووي رحمه الله. قال البيهقي - رحمه الله - حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي

- رحمه الله - أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي - رحمه الله -: قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وحديث البراء - رضي الله عنه -. قال في " الحجة ": " وأما لحم الإبل فالأمر فيه أشد، لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين - رضي الله عنهم - ولا سبيل إلى الحكم بنسخه، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج (¬1) ، وقال به أحمد (رح) (¬2) ، وإسحاق (رح) ؛ وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان. والله أعلم ". وقد أطال ابن القيم (رح) في " إعلام الموقعين " (¬3) في إثبات النقض به. أقول: الإنصاف في هذا أن لحوم الإبل ناقضة للوضوء، وحديث النقض من الصحة بمكان يعرفه من يعرف هذا الشأن: أخرجه مسلم و " أهل السنن "، وصححه جماعة من غيرهم؛ ولم يأت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يخالف هذا من قول أو فعل أو تقرير، وإلى هذا التخصيص ذهب جماعة من أهل العلم - كما تقدم -. ومن أراد الاطلاع على مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة؛ فهي مستوفاة في مؤلفات شيخنا العلامة الشوكاني. وأما حمل الوضوء على غسل اليد؛ فالواجب علينا حمل ألفاظ الشارع ¬

_ (¬1) أي: ذكر الأدلة، والترجيح بينها. (¬2) اختصار (رحمه الله) . (ش) (¬3) • (2 / 97 - 100) . (ن)

القيء

على الحقائق الشرعية إن وجدت، وهي ههنا موجودة؛ فإنه في - لسان الشارع وأهل عصره -؛ لغسل أعضاء الوضوء لا لغسل اليد فقط. ولم يصح من أحاديث الغسل قبل الطعام وبعده شيء (¬1) . (5 -[القيء] :) (والقيء) : وجهه ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه قاء فتوضأ (¬2) ؛ أخرجه أحمد (رح) ، و " أهل السنن " (رح) . قال الترمذي: هو أصح شيء في الباب. وصححه ابن منده (رح) . وليس فيه ما يقدح في الاحتجاج به، ويؤيده أحاديث، منها: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي؛ فلينصرف فليتوضأ "؛ وفي إسناده إسماعيل بن عياش؛ وفيه مقال (¬3) . وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، والمجموع ينتهض للاستدلال به. وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة (رح) ، وأصحابه (رح) . ¬

_ (¬1) انظر " السلسلة الضعيفة " (168) . (¬2) استحباباً، لا وجوباً؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كما في " الاختيارات العلمية " (16) . (¬3) انظر " نصب الراية " (1 / 38) .

وذهب الشافعي (رح) وأصحابه (رح) إلى أنه غير ناقض، وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين! ولا يخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة. وفي " الحجة البالغة ": قال إبراهيم (رح) بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير، والحسن (رح) بالوضوء من القهقهة في الصلاة، ولم يقل بذلك آخرون، وفي كل حديث لم يُجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه. والأصح في هذه أن من احتاط فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن لا: فلا سبيل عليه في صراح الشريعة. والدم السائل والقيء الكثير ملوثان للبدن مبلدان للنفس، والقهقهة في الصلاة خطيئة تحتاج إلى كفّارة، فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه، ولا عجب أن يأمر ويرغب فيه من غير عزيمة. وفي " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: خروج النجاسة من غير الفرجين لا يوجب الوضوء. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يوجبه بشرطه. انتهى (¬1) . ¬

_ (¬1) الأحاديث المروية في نقض الوضوء بالقيء ضعيفة، لا تصلح للاحتجاج، وكذلك ما ورد في النقض بخروج النجاسة من غير السبيلين. وأما أحاديث نقض الوضوء بالقهقهة؛ فإنها من أضعف الحديث، بل حكم كثير من الحفاظ بأنها موضوعة. والحق أن ليس شيء من هذا ناقضاً للوضوء. (ش)

القلس والرعاف

( [القلس والرعاف] :) (ونحوه) والمراد بنحو القيء: هو القلس والرعاف، والخلاف في القلس كالخلاف في القيء. قال الخليل (¬1) : هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه - وليس بقيء -. وفي " النهاية ": القلس ما خرج من الجوف، ثم ذكر مثل كلام الخليل. وأما الرعاف فقد ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة - رحمه الله -، وأبو يوسف - رحمه الله -، ومحمد - رحمه الله -، وأحمد بن حنبل - رحمه الله -، وإسحاق - رحمه الله -، وقيدوه بالسيلان. وذهب ابن عباس - رضي الله عنه -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله - وروي عن ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -، وأبي هريرة - رضي الله عنه -، وجابر بن زيد - رضي الله عنه -، وابن المسيب - رحمه الله -، ومكحول - رحمه الله -، وربيعة - رحمه الله - إلى أنه غير ناقض. وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال، وبالمعارضة بمثل حديث: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] احتجم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه؛ رواه الدارقطني (¬2) - رحمه الله -، وفي إسناده صالح بن مقاتل، وهو ضعيف. ويُجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه (¬3) ، وعن المعارضة بأنها غير ¬

_ (¬1) هو الفراهيدي؛ الإمام المشور. (¬2) (1 / 51) ، وضعفه النووي في " المجموع " (2 / 42) . (¬3) أما هذا: فلا!

صالحة للاحتجاج، وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض. في " المسوى " قال الشافعي - رحمه الله -: الرعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: ينقضان إذا كان الدم سائلاً. وقال مالك - رحمه الله -: الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا دم ولا من قيح يسيل من الجسد، ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم. (¬1) انتهى. أقول: قد اختلف أهل العلم في انتقاض الوضوء بخروج الدم، وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للاحتجاج بها، وقد تقرر أن كون الشيء ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للاحتجاج؛ وإلا وجب البقاء على الأصل؛ لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله، وإلا فليس بشرع. ومع هذا؛ فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يباشرون مع معارك القتال ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ما هو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس، فلو كان خروج الدم ناقضاً: لما ترك [صلى الله عليه وسلم] بيان ذلك مع شدة الاحتياج إليه، وكثرة الحامل عليه. ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل يدل على أنه ناقض، وغاية ما ¬

_ (¬1) وهذا هو الصواب، والله تعالى أعلم.

مس الذكر

هناك حديث إسماعيل بن عياش، وفيه من المقال ما لا يخفى. (6 -[مس الذكر] :) (ومس الذكر) : وقد دل على ذلك حديث بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها -، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ "؛ رواه أحمد - رحمه الله -، وأهل " السنن " - رحمهم الله -، ومالك - رحمه الله -، والشافعي - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، والحاكم - رحمه الله -، وابن الجارود. وصححه أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والدارقطني - رحمه الله -، ويحيى بن معين - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، والحازمي - رحمه الله -، وابن حبان - رحمه الله -، وابن خزيمة - رحمه الله -. قال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ منهم: جابر - رضي الله عنه -، وأبو هريرة - رضي الله عنه -، وأم حبيبة - رضي الله عنها -، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وزيد بن خالد - رضي الله عنه -، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وعائشة - رضي الله عنها -، وابن عباس - رضي الله عنهما -، ابن عمرو - رضي الله عنهما -، والنعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وأبي بن كعب، ومعاوية بن حيدة (¬1) - رضي ¬

_ (¬1) في الأصل: معاوية بن أبي حيدة؛ وهو خطأ. (ش)

الله عنه -، وقبيصة - رضي الله عنه -، وأروى بنت أُنيس (¬1) - رضي الله عنها - (¬2) . وحديث بسرة - رضي الله عنها - بمجرده أرجح من حديث طلْق بن علي - رضي الله عنه - عند أهل " السنن " - رحمهم الله - مرفوعاً، بلفظ: الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال [صلى الله عليه وسلم] : " إنما هو بضعة منك "؛ فكيف إذا انضم إلى حديث بسرة - رضي الله عنها - أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه؟ { ومن مال إلى ترجيح حديث طلق: فلم يأت بطائل} وقد تقرر في الأصول: أن رواية الإثبات أولى من رواية النفي، وأن المقتضي للحظر أولى من المقتضي للإباحة. قد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم، والأئمة - رحمهم الله -، ومالوا إلى العمل بحديث بسرة؛ لتأخر إسلامها. وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك. والحق الانتقاض. وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرج؛ وهو أعم من ¬

_ (¬1) هي غير معروفة، والإسناد إليها ضعيف. واختُلف فيها؛ فقال بعضهم: أروى؛ ولم يذكر اسم أبيها. وقال بعضهم: أروى بنت أنيس. وقال بعضهم: عن أبي أروى؛ فقط! (ش) (¬2) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 122 - 124) .

القُبُل والدُبُر، كما أخرجه ابن ماجه - رحمه الله - من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من مس فرجه فليتوضأ "، وصححه أحمد - رحمه الله -، وأبو زرعة - رحمه الله -، وقال ابن السكن - رحمه الله -: لا أعلم له علة. وأخرج الدارقطني - رحمه الله - من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً: " إذا مسّت إحداكن فرجها فلتتوضأ "؛ وفي إسناد عبد الرحمن بن عبد الله العمري؛ وفيه مقال (¬1) . وأخرج أحمد - رحمه الله -، والترمذي - رحمه الله -، والبيهقي - رحمه الله -، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ "، وفي إسناده بقية بن الوليد، ولكنه صرح بالتحديث (¬2) . قال في " المسوى ": قال الشافعي - رحمه الله -: يجب الوضوء على من مس الفرج، وشرطه أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: مس الفرج لا ينقض؛ واحتج بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! ". انتهى. قالوا: إن مس الفرج لما كانت حاجة الناس إليه عامة، والبلوى به دائمة: وجب أن ينقل شرعاً ثابتاً متواتراً مستقراً. ¬

_ (¬1) بل هو كذّاب، انظر " المجروحين " (2 / 53) لابن حبان. (¬2) فهو حسن؛ وقد نقل الحافظ في " التلخيص " (1 / 124) تصحيحه عن البخاري.

أقول: قد وقع في الأصول أن الحكم الذي تعم به البلوى لا بد أن يُنقل نقلاً مستفيضاً؛ والقائل بذلك بعض الحنفية. وخالفهم الجمهور لعموم الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد. وهذه القاعدة كثيراً ما ترى المشغوفين بمحبة ما ألفوه من مذاهب الأسلاف يدفعون بها الحجج الشرعية التي يوردها خصومهم { فإذا استدلوا لأنفسهم على إثبات حكم قد دأبوا عليه ودرجوا، وصار عندهم من المألوفات المعروفات: مالوا عن ذلك ولم يُعرِّجوا عليه، وهذا ستراه في غير موطن من كتب المتمذهبين، فإن كنت ممن لا تنفق عليه التدليسات، ولا يغره سراب التلبيسات: فلا تلعب بك الرجال من حال إلى حال بزخارف ما تنمقه من الأقوال. (فكن رجلا رِجْله في الثَّرى ... وهامة همته في الثُرَيّا) ولا حرج على المجتهد إذا رجح غير ما رجحناه؛ إنما الشأن في التكلم في مواطن الخلاف بما يتبرأ منه الإنصاف، اللهم} بصرنا بالصواب، واجعل بيننا وبين العصبية من لطفك أمنع حجاب. وفي " الحجة البالغة ": " موجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات: إحداها: ما اجتمع عليه جمهور الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، وتطابق فيه الرواية والعمل الشائع، وهو البول والغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها.

لمس المرأة لا ينقض الوضوء

الثانية: ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -، وتعارض فيه الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ كمس الذكر لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " من مس ذكره فليتوضأ "؛ قال به عمر وسالم وعروة وغيرهم - رضي الله عنهم -، ورده علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - وفقهاء الكوفة، ولهم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " هل هو إلا بضعة منك؟ ! "؛ ولم يجيء الثلج (¬1) بكون أحدهما منسوخاً. ( [لمس المرأة لا ينقض الوضوء] :) ولمس المرأة، قال به عمر وابن مسعود وإبراهيم - رضي الله عنهم -؛ لقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (¬2) ، ولا يشهد له حديث، بل يشهد حديث عائشة - رضي الله عنها - بخلافه، لكن فيه نظر؛ لأن في إسناده انقطاعاً (¬3) . وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر، ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض. والله تعالى أعلم. وبالجملة: فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات: آخذ به على ظاهره، وتارك له رأساً، وفارق بين الشهوة وغيرها. ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة ¬

_ (¬1) أي: الاطمئنان. (¬2) انظر كتاب " القراءات وأثرها في الأحكام " (1 / 419 - 425) للأخ الشيخ محمد عمر بازمول. (¬3) بل هو حسن؛ فانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (406) . ولفظه: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.

الوضوء مما مسته النار منسوخ

الجماع، أن مس الذكر فعل شنيع، ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء، فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة. والثالثة: ما وُجد فيه شبهة من لفظ الحديث؛ وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - على تركه. ( [الوضوء مما مسته النار منسوخ] :) كالوضوء مما مست النار؛ فإنه ظهر عمل النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والخلفاء، وابن عباس، وأبي طلحة وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - بخلافه، وبيّن جابر - رضي الله عنه - أنه منسوخ. قلت: " عامة أهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ، وتأول بعضهم على غسل اليد والفم، قال قتادة - رضي الله عنه -: من غسل فمه فقد توضأ ". كذا في " المسوى ".

باب الغسل

(5 - باب الغسل) ( [الفصل الأول: موجبات الغسل] ) (1 -[خروج المني] : وأصله تعميم البدن بالغسل:) (يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر) وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث: " الماء من الماء "، وأحاديث: " في المني الغسل "، وصدق اسم الجنابة على من كان كذلك؛ وقد قال الله - تعالى -: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ، والاطهار استيعاب جميع البدن، بالغسل (¬1) . كذا في " المسوى ". ولا أعلم في ذلك خلافاً، وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وكذلك بين من بعدهم: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج مني أم لا يجب إلا بخروج المني؟ والحق: الأول لحديث: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل "؛ أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرج نحوه مسلم، وأحمد، والترمذي - رحمهم الله تعالى، وصححه - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -. ¬

_ (¬1) في كل الطبعات: " فالغسل "!

فهذان الحديثان - وما ورد في معناهما - ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المني. ويدل على ذلك حديث أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه -، قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون: " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها. وأخرج مسلم (¬1) - رحمه الله تعالى - من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن رجلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل - وعائشة - رضي الله تعالى عنها - جالسة -؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل ". وقال في " الحجة البالغة ": " اختلف أهل الرواية هل يُحمل الإكسال - أي: الجماع من غير إنزال - على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة - أعني ما يكون معه الإنزال -؟ والذي صح رواية، وعليه جمهور الفقهاء: هو أن من جهد فقد وجب عليهما الغسل، وإن لم ينزل. واختلفوا في كيفية الجمع بين هذا الحديث، وحديث: " إنما الماء من الماء ": فقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: للاحتلام. ¬

_ (¬1) (برقم 350) . وانظر " سنن الدارقطني " (1 / 112) ، و " السلسلة الضعيفة " (976) ، وكتابي " دراسات علمية في صحيح مسلم " (123 - 125) .

التقاء الختانين

وفيه ما فيه {لأنه يأباه سبب ورود الحديث كما أخرجه مسلم. وقال أبي - رضي الله تعالى عنه -: كانت رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها. وقد روي (¬1) عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي بن كعب وأبي أيوب - رضي الله تعالى عنهم - فيمن جامع امرأته ولم يُمْن، قالوا: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره "، ورفع ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] . ولا يبعد عندي أن يُحمل ذلك على المباشرة الفاحشة؛ فإنه قد يطلق الجماع عليها. قلت: على هذا أكثر أهل العلم: أن غسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بإدخال الحشفة في الفرج، أو بخروج الماء الدافق من الرجل أو المرأة. (2 -[التقاء الختانين] :) (بالتقاء الختانين) وعلى هذا أكثر أهل العلم: أن من جامع امرأته فغيّب الحشفة؛ وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل. والختان: موضع القطع من ذكر الغلام، ونواة (¬2) الجارية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (179) ، ومسلم (347) عن زيد بن خالد الجهني. (¬2) كذا} والصواب: النوى؛ وهو ما يبقى من المخفض بعد ختان الجارية. انظر " لسان العرب المحيط " (3 / 752) .

انقطاع الحيض والنفاس

(3 -[انقطاع الحيض] ، 4 -[والنفاس] :) (وبانقطاع الحيض والنفاس) ولا خلاف في ذلك. وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة، وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بانقطاع النفاس. (5 -[الاحتلام مع وجود بلل] :) (و) كذلك وقع الإجماع على وجوبه (بالاحتلام) ؛ إلا ما يُحكى عن النخعي - رحمه الله تعالى -، ولكنه إنما يجب إذا وجد المحتلم بللاً. (مع وجود بلل) : كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ فقال: " يغتسل "، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - رحمهم الله - ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عبد الله بن عمر العمري؛ وفيه مقال خفيف (¬1) . وأخرج نحوه أحمد والنسائي - رحمهما الله - من حديث خولة بنت حكيم - رضي الله تعالى عنها -. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما - رحمهم الله تعالى - من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها -: أن أم سليم - رضي الله تعالى عنها - قالت: ¬

_ (¬1) هو حديث حسن، فانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (612) .

الموت

يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: " نعم؛ إذا رأت الماء ". وهذه الأحاديث ترد على من اعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك. والمراد من البلل المني، فإن رأى بللاً ولم يتيقن أنه مني؛ لم يجب الغسل عند أكثر أهل العلم. قال في " الحجة ": " أراد الحكم على البلل دون الرؤيا؛ لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس، ولا تأثير له، وتارة تكون قضاء شهوة، ولا تكون بغير بلل، فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل. وأيضا؛ فإن البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط، وأما الرؤيا فإنها كثيراً ما تُنسى ". انتهى. (6 -[الموت] :) (وبالموت) : المراد وجوب ذلك على الأحياء؛ إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن؛ أي: يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات. وقد حكى المهدي في " البحر " والنووي - رحمه الله -، الإجماع على وجوب غسل الميت، وناقش في ذلك بعض المتأخرين مناقشة واهية. وسيأتي الكلام على غسل الميت، وصفته وتفاصيله - إن شاء الله تعالى -.

إسلام الكافر

وفي " الحجة ": وأما غسل الميت: فلأن الرشاش ينتشر في البدن. وجلست عند محتضر، فرأيت أن الملائكة الموكلة بالقبض لها نكاية عجيبة في المحتضرين، ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتنبه النفس لمخالفها. (7 -[إسلام الكافر] :) (وبالإسلام) : وجهه ما أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، وابن خزيمة - رحمهم الله - عن قيس بن عاصم - رضي الله عنه -: أنه أسلم، فأمره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يغتسل بماء وسدر. وصححه ابن السكن - رحمه الله -. وأخرج أحمد وعبد الرزاق، والبيهقي، وابن خزيمة، وابن حبان - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ثمامة - رضي الله تعالى عنه - أسلم، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل " (¬1) . وأصله في " الصحيحين "، وليس فيهما الأمر بالاغتسال، بل فيهما أنه اغتسل. قال في " الحجة ": قال (¬2) لآخر: " ألق عنك شعر الكفر "؛ وسره أن يتمثل عنده الخروج من شيء، أصرح ما يكون، والله تعالى أعلم. انتهى. وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه - رحمهم الله -. ¬

_ (¬1) انظر " التلخيص الحبير " (2 / 68) . (¬2) أي: النبي [صلى الله عليه وسلم] . والحديث صحيح؛ فانظر " الإرواء " (79) .

الفصل الثاني كيفية الغسل

وذهب الشافعي - رحمه الله - إلى عدم الوجوب. والحق الأول. ويؤيده ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع، وقتادة الرهاوي - رضي الله عنه - كما أخرجه الطبراني - رحمه الله -، وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما أخرجه الحاكم - رحمه الله - في " تاريخ نيسابور "؛ وفي أسانيدها مقال (¬1) . ( [الفصل الثاني: كيفية الغسل] ) ( [تعريف الغسل] :) (والغسل الواجب هو أن يفيض الماء على جميع بدنه، أو ينغمس فيه) أقول: الغسل شرعاً ولغة هو ما ذُكر. وقد وقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل؛ ولكنه لا يخفى أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون دلك لا يسمى غسلاً، كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية، وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي: أنه [صلى الله عليه وسلم] أتبعه الماء ولم يغسله؛ وهو في " صحيح مسلم " - رحمه الله -، وغيره. ( [وجوب المضمضة والاستنشاق] :) (مع المضمضة والاستنشاق) : فقد ثبتا في الغسل من فعله [صلى الله عليه وسلم] ، ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء. ¬

_ (¬1) قال نحوه الحافظ في " التلخيص " (2 / 68) .

مندوبية الوضوء قبل الغسل ما عدا غسل القدمين

وفيهما وفي السواك إزالة المخاط والبَخر. (والدلك لما يمكن دلكه، ولا يكون شرعياً إلا بالنية لرفع موجبه) لما قدمناه في الوضوء. ( [مندوبية الوضوء قبل الغسل ما عدا غسل القدمين] :) (ونُدب) لا أنه وجب؛ لأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقدم. (تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين) : لما قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه كان [صلى الله عليه وسلم] إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على سائر جسده، ثم يغسل رجليه، وهو من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وورد في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ميمونة - رضي الله عنها - بلفظ: أنه [صلى الله عليه وسلم] أفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه، فغسل قدميه. وثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان لا يتوضأ بعد الغسل، كما أخرجه أحمد وأهل " السنن " - رحمهم الله -. وقال الترمذي - رحمه الله -: حسن صحيح.

يستحب التيامن

وأخرجه البيهقي - رحمه الله - أيضا بأسانيد جيدة. وقد روى ابن أبي شيبة - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، مرفوعاً وموقوفاً؛ أنه قال - لما سئل عن الوضوء بعد الغسل -: وأي وضوء أعم من الغسل؟ { (¬1) وروي عن حذيفة - رضي الله عنه -، أنه قال: أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه، حتى يتوضأ؟} (¬2) وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم، حتى قال أبو بكر ابن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث. وهكذا نقل الإجماع ابن بطّال - رحمه الله -. وتُعقِّب بأنه قد ذهب جماعة - منهم أبو ثور، وداود، وغيرهما - رحمهم الله - إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء. وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب: فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن؛ من غير تقديم. ( [يستحب التيامن] :) (ثم التيامن) : لثبوته عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، عموماً وخصوصاً: ¬

_ (¬1) وقد روي - بهذا اللفظ - مرفوعاً، وهو ضعيف! انظر " ضعيف الجامع الصغير وزيادته " (6115) . (¬2) انظر " مصنف ابن أبي شيبة " (1 / 68 و 69) .

فصل الأغسال المسنونة

فمن العموم ما ثبت في " الصحيح ": " أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله ". ومن الخصوص ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أنه بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر في الغسل. وقد ثبت من قوله ما يفيد ذلك؛ ولا خلاف في استحباب التيامن. (فصل: [الأغسال المسنونة] ) (1 -[غسل الجمعة] :) (ويُشرع) ؛ أي: الغسل (لصلاة الجمعة) لحديث: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول، ورواه عن نافع - رحمه الله - نحو ثلاث مئة نفس. ورواه من الصحابة - غير ابن عمر؛ رضي الله عنه - نحو أربعة وعشرين صحابياً. وقد ذهب إلى وجوبه جماعة. قال النووي - رحمه الله -: حُكي وجوبه عن طائفة من السلف - رحمهم الله -، حكوه عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال أهل الظاهر،

وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار - رضي الله عنه -، ومالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري، وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم. وذهب الجمهور إلى أنه مستحب، واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم بلفظ: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة (¬1) أيام " وبحديث سمرة - رضي الله عنه، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " من توضأ للجمعة؛ فبها ونِعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - رحمهم الله -، وفيه مقال مشهور، وهو عدم سماع الحسن - رحمه الله - من سمرة - رحمه الله - (¬2) ؛ وغير ذلك من الأحاديث، قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب. ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحاً لصرف الأمر؛ فهو لا يصلح لصرف مثل قوله [صلى الله عليه وسلم] : " حق (¬3) على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً؛ يغسل فيه رأسه وجسده "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وقد استوفى الماتن - رحمه الله - الكلام على حكم غسل الجمعة في " نيل ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في " الفتح ": " ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في " الصحيح " بلفظ: " من اغتسل "؛ فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب، فاحتاج إلى إعادة الوضوء ". انتهى (ش) . (¬2) ولكن له شواهد تحسنه؛ فانظر تعليق شيخا على " صحيح ابن خزيمة " (1757) . (¬3) قارن بالحديث الذي أورده شيخنا في " الصحيحة " (1796) وتفقه فيهما!

غسل العيدين

الأوطار "، فليرجع إليه. ولا يخفى أن تقييد الغسل بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة لا لليوم. (2 -[غسل العيدين] :) (وللعيدين) : فقد روي من فعله [صلى الله عليه وسلم] من حديث الفاكه بن سعد - رضي الله عنه -: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبزار، والبغوي (¬1) - رحمه الله -. وأخرج نحوه ابن ماجه (¬2) - رحمه الله - من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البزار (¬3) - رحمه الله - من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -. وفي أسانيدها ضعف، ولكنه يقوي بعضها بعضاً (¬4) ، ويقوي ذلك آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - جيدة (¬5) . أقول: قد روي في ذلك أحاديث لم يصح منها شيء، ولا بلغ شيء. ¬

_ (¬1) وهو حديث موضوع، انظر " الإرواء " (146) . وانظر " التلخيص الحبير " (2 / 80) ، و " الدراية " (1 / 5) . (¬2) وهو ضعيف جدا، وانظر " المرجع السابق ". (¬3) (برقم: 648 - " كشف الأستار ") وقد ضعفه الهيثمي في " المجمع " (2 / 198) . (¬4) قال البزار: " لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثاً صحيحاً ". (¬5) انظرها في رسالتي " أحكام العيدين في السنة المطهرة " (34 - 35) .

من غسل الميت

منها إلى رتبة الحسن لذاته ولا لغيره. وأما اعتبار كون المغتسل يصلي صلاة العيد بذلك الغسل - أي: من دون أن يتخلل بين الغسل وبين الصلاة شيء من الأحداث -: فلا أحفظ فيه حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا قول صحابي، وما أحسن الاقتصار على ما ثبت، وإراحة العباد مما لم يثبت (¬1) . (3 -[من غسل الميت] :) (ولمن غسل ميتاً) : وجهه ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - رحمهم الله - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ "، وقد روي من طرق، وأعل بالوقف، وبأن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - رحمه الله -. ولكنه قد حسنه الترمذي - رحمه الله -، وصححه ابن القطان - رحمه الله -، وابن حزم. وقد روي من غير طريق (¬2) . قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: هو - لكثرة طرقه - أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي - رحمه الله - على الترمذي رحمه الله تحسينه معترض. وقال الذهبي - رحمه الله -: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ¬

_ (¬1) إي والله! (¬2) فهو ثابت، وانظر " تهذيب السنن " (4 / 306) لابن القيم، و " أحكام الجنائز " (71) .

- رحمهم الله -. وذكر الماوردي - رحمه الله - أن بعض أصحاب الحديث - رحمهم الله - خرّج لهذا الحديث مئة وعشرين طريقا. وقد روي نحوه عن علي - رضي الله عنه - عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي - رحمهم الله -، وعن حذيفة - رضي الله عنه - عند البيهقي - رحمه الله -. قال ابن أبي حاتم - والدارقطني، رحمهما الله -: لا يثبت. وعن عائشة - رضي الله عنها - من فعله [صلى الله عليه وسلم] عند أحمد، وأبي داود - رحمهما الله -. وقد ذهب إلى الوجوب علي وأبو هريرة - رضي الله عنهما -، والإمامية. وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط. قالوا: وهذا الأمر المذكور في الحديث السابق مصروف عن الوجوب بحديث: " إن ميتكم يموت طاهراً؛ فحسبكم أن تغسلوا أيديكم " (¬1) ؛ أخرجه البيهقي، وحسنه ابن حجر - رحمهما الله -، ولحديث: كنا نغسل الميت؛ فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل؛ أخرجه الخطيب - رحمه الله -، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وصحح ابن حجر أيضا إسناده (¬2) ، ولما وقع من الفتيا من ¬

_ (¬1) والأرجح في هذا الحديث الوقف، وانظر التعليق الآتي. (¬2) انظر تحقيق ذلك كله في " أحكام الجنائز " (71 - 72) .

الإحرام

الصحابة - رضي الله عنهم - لأسماء بنت عميس - امرأة أبي بكر؛ رضي الله عنه - لما غسلته فقالت لهم: إن هذا يوم شديد البرد؛ وأنا صائمة؛ فهل علي من غسل؟ قالوا: لا. رواه مالك - رحمه الله - في " الموطأ " (¬1) . (4 -[الإحرام] :) (وللإحرام) : لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي [صلى الله عليه وسلم] تجرد لإهلاله واغتسل؛ أخرجه الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني - وحسنه الترمذي -، وضعفه العقيلي - رحمهم الله -. ولعل وجه التضعيف كون عبد الله بن يعقوب المدني (¬2) في إسناده. قال ابن الملقن في " شرح المنهاج ": لعل الترمذي - رحمه الله - حسنه؛ لأنه عرف عبد الله بن يعقوب؛ أي: عرف حاله. وفي الباب عن عائشة - رضي الله عنها - عند أحمد - رحمه الله -، وعن أسماء - رضي الله عنها - عند مسلم - رحمه الله -. وقد ذهب إلى استحباب غسل الإحرام الجمهور. وقال الحسن البصري - رحمه الله -، ومالك - رحمه الله -: إنه محتمل. ¬

_ (¬1) (1 / 223 - رواية يحيى الليثي) . وانظر " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 52) . (¬2) وليس فيه توثيق معتد به، ولكن روى عنه جماعة ثقات. والحديث شواهده عدة؛ كما ذكر المصنف - بعد -.

لدخول مكة

(5 -[لدخول مكة] :) (ولدخول مكة) المكرمة - حرسها الله تعالى -؛ لما أخرجه مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان لا يدخل مكة إلا بات بذي طُوى، حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه فعله. وأخرج البخاري - رحمه الله - معناه. قال في " الفتح ": قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء.

باب التيمم

(6 - باب التيمم) قال الله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ؛ وقد كثر الاختباط في تفسير هذه الآية، والحق أن قيد عدم الوجود راجع إلى قوله - تعالى -: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} . ( [الأسباب المبيحة للتيمم] :) فتكون الأعذار ثلاثة: السفر، والمرض، وعدم الوجود في الحضر، وهذا ظاهر على قول من قال: إن القيد إذا وقع بعد جُمل متصلة كان قيداً (¬1) لآخرها. وأما من قال: أنه يكون قيداً للجميع إلا أن يمنع مانع: فكذلك أيضا (¬2) ؛ لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض بعدم الوجود للماء، وهو: أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الباب - كالصوم -. ويؤيد هذا أحاديث التيمم الواردة مطلقة ومقيدة بالحضر. ¬

_ (¬1) وهو: {فلم تجدوا ماء} . (¬2) انظر - لزاماً - " السيل الجرار " (1 / 127) للشوكاني.

فإن قلت: ما المعتبر في تسويغ التيمم للمقيم؟ هل هو عدم الوجود عند إرادة الصلاة كما هو الظاهر من الآية؟ أم عدم الوجود مع طلب مخصوص - كما قيل: إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل -، أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم؟ قلت: الحق أن المعتبر هو ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة، وأراد المصلي القيام إليها، فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به، أو يغتسل في منزله ومسجده وما يقرب منهما: كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم. وليس المراد بعدم الوجود في ذلك أن لا يجده بعد الكشف والبحث وإحفاء (¬1) السؤال، بل المراد أن لا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه، فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة. والواجب حمل كلام الله على ذلك مع عدم وجود عرف شرعي (¬2) ، وقد وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ما يشعر بما ذكرناه؛ فإنه تيمم في المدينة من جدار؛ كما ثبت ذلك في " الصحيحين " من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة، فهذا - كما يدل على عدم وجوب الطلب - يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت. ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر، ثم وجدوا الماء، ¬

_ (¬1) شدته. (¬2) وهذه قاعدة مهمة من قواعد الشرع.

الخلاف في الصعيد الذي يتيمم به

فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فقال [صلى الله عليه وسلم] للذي لم يعد: " أصبت السنة "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد (¬1) ، فإنه يرد قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم، سواء كان مسافراً أو مقيماً. إذا تقرر لك هذا: استرحت عن الاشتغال بكثير من التفاريع المحررة في كتب الفقه؛ فإن هذه هي ثمرة الاجتهاد. فأي فرق بين من لا يفرق بين الغث والسمين من المجتهدين، وبين من هو في عداد المقلدين؟ ! ( [الخلاف في الصعيد الذي يتيمم به] :) قال في " القاموس ": والصعيد: التراب، أو وجه الأرض. انتهى. والثاني هو الظاهر من لفظ الصعيد؛ لأنه ما صعد؛ أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصفة لا تختص بالتراب، ويؤيد ذلك حديث: " جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "؛ وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره. وما ثبت في رواية بلفظ: " وتربتها طهوراً "؛ كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة؛ فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء،؛ لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية. ¬

_ (¬1) انظر " المشكاة " (533) ، و " التلخيص الحبير " (1 / 156) .

وهذا مفهوم لقب (¬1) لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام. وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ذكره: أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويؤيد هذا ما تقدم من تيممه [صلى الله عليه وسلم] من جدار. وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله - تعالى -: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} : فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذُكر، والضرورة تدفعه؛ فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجاً للنبات. قال الماتن في " شرح المنتقى " (¬2) : ومن الأدلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد، فالأمر بالتيمم منه وهو التراب، لكنه قال في " القاموس ": والصعيد: التراب أو وجه الأرض، وفي " المصباح ": الصعيد وجه الأرض؛ تراباً كان أو غيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله - تعالى -: {صعيدا طيبا} هو التراب، وفي كتاب " فقه اللغة " للثعالبي: الصعيد تراب وجه الأرض، ولم يذكر غيره، وفي " المصباح " - أيضا -: ويقال: الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي وجه الأرض، وعلى وجه الأرض، وعلى الطريق. ¬

_ (¬1) وهو من أضعف المفاهيم؛ كما قال الصنعاني في " إجابة السائل " (ص 245) . (¬2) " نيل الأوطار " (1 / 261) .

ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه [صلى الله عليه وسلم] من الحائط؛ فلا يتم الاستدلال. وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب الشافعي، وأحمد، وداود. وذهب مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يجزئ بالأرض وما عليها. قال: واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعاً بلفظ: " وجُعلت تربتها لنا طهوراً "، وهذا خاص؛ فينبغي أن يُحمل عليه العام. وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، فلا يتم الاستدلال. ورُدّ بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ: " التراب "؛ أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: " جُعل التراب لي طهوراً "؛ أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن (¬1) . وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول، ولم يقل به إلا الدقاق، فلا ينتهض لتخصيص المنطوق. ورُدّ بأن الحديث سيق لإظهار التشريف، فلو كان جائزاً بغير التراب لما اقتصر عليه؛ وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية. ¬

_ (¬1) انظر " صحيح ابن خزيمة " (264) والتعليق عليه.

ما يباح به التيمم

نعم؛ الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجداً دون الآخر، - كما سيأتي في حديث مسلم - يدل على الافتراق في الحكم. وأحسن من هذا أن قوله - تعالى - في آية المائدة: {منه} يدل على أن المراد التراب، وذلك لأن كلمة " مِن " للتبعيض (¬1) كما قال في " الكشاف ": أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن والتراب؛ إلا معنى التبعيض. انتهى. فإن قلت: سلمنا التبعيض، فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور. انتهى. ( [ما يباح به التيمم] :) (يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء) : لأن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنباً، وحكم الغسل لمن كان جنبا، يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه، ويستبيح به ما يستبيحه المغتسل بغسله، فيصلي به الصلوات المتعددة، ولا ينتقض بفراغ من صلاة، ولا بالاشتغال بغيره، ولا بخروج وقت على ما هو الحق. والخلاف في ذلك معروف. والأدلة الواردة لمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتاباً وسنة. قال في " الحجة ": ولم أجد في حديث صحيح تصريحاً بأنه يجب أن ¬

_ (¬1) ولكن؛ ليس دائماً، وتفصيل هذا في مظانّه.

يتيمم لكل فريضة، أو لا يجوز التيمم للآبق ونحوه، وإنما ذلك من التخريجات (¬1) ، وإنما لم يفرق بين بدل الغسل والوضوء، ولم يشرع التمرغ؛ لأن من حق ما لا يعقل - بادي الرأي - أن يجعل كالمؤثر بالخاصية دون المقدار، فإنه هو الذي اطمأنت نفوسهم به في هذا الباب، ولأن التمرغ فيه بعض الحرج، فلا يصلح رافعاً للحرج بالكلية. وفي معنى المرض البرد الضار - لحديث (¬2) عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. والسفر ليس بقيد، إنما هو صورة لعدم وجدان الماء، تتبادر إلى الذهن، وإنما لم يؤمر بمسح الرِّجْل بالتراب؛ لأن الرِّجل محل الأوساخ، وإنما يؤمر بما ليس حاصلاً ليحصل التنبيه به. انتهى. (أو خشي الضرر من استعماله) : لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني - رحمهم الله -، من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون له رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة؛ وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخبرناه بذلك؟ فقال: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ ! فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل ¬

_ (¬1) أي: التفريعات التي لا دليل عليها. (¬2) سيأتي - بعد -.

سائر جسده (¬1) ". وقد تفرد به الزبير بن خريق (¬2) - رحمه الله - وليس بالقوي، وقد صححه ابن السكن - رحمه الله -. وروي من طريق أخرى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقد ذهب إلى مشروعية التيمم بالعذر الجمهور. ¬

_ (¬1) • حديث جابر - هذا - ضعيف السند؛ كما ذكر المؤلف. لكن له شاهد من حديث ابن عباس، يرتقي به إلى درجة الحسن، فيصح أن يحتج به على مشروعية التيمم، لخوف الضرر من استعمال الماء. ولكن ليس في حديث ابن عباس: " ويعصب على جرحه ... " الخ؛ فهذه الزيادة من الحديث ضعيفة، فلا يحتج بها على مشروعية المسح على الجبيرة، وإن كان ورد في المسح عليها أحاديث أخرى؛ فإنها ضعيفة جداً، لا يصح أن يتقوى الحكم بها؛ لشدة ضعفها: خلافاً لما ذكره الشيخ سيد سابق في " فقه السنة "، وقد فصلت القول في ذلك في " تمام المنة في التعليق على فقه السنة ". نعم؛ صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه توضأ وكفه معصوبة، فمسح على العصائب، وغسل سوى ذلك؛ رواه البيهقي (1 / 328) . وقد دعم بعضهم المسح على الجبيرة؛ بالقياس على المسح على العمامة والخفين. فمن ظهر له قوة هذا القياس بالإضافة إلى أثر ابن عمر؛ مسح على الجبيرة. وإلا؛ فلا يشرع المسح؛ وهذا الذي أراه؛ لعدم قيام دليل تقوم به الحجة عندي. أما الحديث؛ فقد عرفت ضعفه، هو وما في معناه. وأما الأثر؛ فلا حجة فيه توجب العمل به. وأما القياس؛ فلا يجوز القول به في العبادات. والخلاصة: أن الجريح يكفيه أن يغسل سائر بدنه أو أعضائه، دون أن يمسح على الجبيرة، والله أعلم. (ن) قلت: انظر " تمام المنة " (ص 131) . وانظر تعليقي على " مفتاح دار السعادة " (1 / 368 - 370) لابن القيم. (¬2) • بالتصغير؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب ". (ن)

وذهب أحمد بن حنبل - رحمه الله -، وروي عن الشافعي - رحمه الله - في قول له - أنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر. ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما (¬1) ؟ {فإن هذا الحديث يؤيده قوله - تعالى -: {وإن كنتم مرضى} الآية. وكذلك حديث المسح على الجبائر (¬2) المروي عن علي - رضي الله عنه -. وكذلك حديث عمرو بن العاص: لما بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في غزوة ذات السلاسل، فاحتلم في ليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال: " يا عمرو} أصليت مع أصحابك وأنت جنب؟ "، فقال: ذكرت قوله الله - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} ، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يقل شيئاً. رواه أحمد، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، وأخرجه البخاري تعليقاً (¬3) . قال في " الحجة ": وكان عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - لا يريان التيمم عن الجنابة، وحملا الآية على اللمس (¬4) ، وأنه ينقض الوضوء، لكن حديث عمران وعمار يشهد بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) قارن ب " الإنصاف " (1 / 265) للمرداوي، و " مُغني المحتاج " (1 / 92) للشربيني. (¬2) هو في " سنن ابن ماجه " (657) ، وإسناده ضعيف. (¬3) انظر " الإرواء " (154) . (¬4) انظر " الأوسط " (2 / 15) لابن المنذر، و " تفسير القرطبي " (5 / 223) . وقال الترمذي في " سننه " (1 / 39) - ونقله الشوكاني في " نيل الأوطار " (1 / 322) -: " وقيل: إن عمر وعبد الله رجعا عن ذلك ". قلت: وهذا مروي في " الصحيحين "، وانظر " جامع الأصول " (7 / 252) .

أعضاء التيمم

( [أعضاء التيمم] :) (وأعضاؤه: الوجه ثم الكفان يمسحهما) ؛ أي: الوجه والكفين؛ لما ورد من الأحاديث الصحيحة قولاً وفعلاً، وقد أشار بالعطف ب (ثم) إلى الترتيب بين الوجه والكفين. وأما الاقتصار على الكفين: فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك: منها حديث عمار بن ياسر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره بالتيمم للوجه والكفين؛ أخرجه الترمذي وغيره - وصححه -. ومنها ما في " الصحيحين " من حديث عمار - أيضا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال له: " إنما كان يكفيك هكذا "، وضرب النبي [صلى الله عليه وسلم] بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه. وفي لفظ للدارقطني: " إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ". وقد ذهب إلى أنه يُقتصر من اليدين على الكفين عطاء، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث. هكذا في " شرح مسلم ". وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين. وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين. وقال الخطابي: إنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم مسح

كيفية التيمم

ما وراء المرفقين. والحق ما ذهب إليه الأولون؛ لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به، كحديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، مرفوعاً بلفظ: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين "؛ وفي إسناده علي بن ظبيان (¬1) ، قال الدارقطني: وثقه (¬2) يحيى بن [سعيد بن] القطان وهشيم وغيرهما، وقال الحافظ: هو ضعيف؛ ضعفه ابن القطان، وابن معين، وغير واحد. وأما ما ورد فيه لفظ اليدين - كما وقع في بعض روايات من حديث عمار -: فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين. واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضا بلفظ: ". . إلى الآباط "؛ وقد نسخ ذلك ما قال الشافعي. ( [كيفية التيمم] :) (مرة بضربة واحدة) : لأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة، ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح. وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور. وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين. ¬

_ (¬1) • بفتح المعجمة؛ ضعفه في " التقريب ". (ن) (¬2) كذا! والصواب: " وقفه "؛ كما في " السنن " (1 / 180) .

نواقض التيمم

وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاثة ضربات: ضربة للوجه، وضربة للكفين، وضربة للذراعين. (ناوياً مسمياً) لما تقدم في الوضوء؛ لأنه بدل عنه، وأدلة النية شاملة لكل عمل. ( [نواقض التيمم] :) (ونواقضه نواقض الوضوء) : لما ذكرنا من البدلية (¬1) ، ومن أثبت للتيمم شيئاً من النواقض لم يثبت في الوضوء؛ لم يقبل منه ذلك إلا بدليل، ولم نجد دليلاً تقوم به الحجة يصلح لذلك، فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء. وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم؛ فقد صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم، ثم وجدا الماء، أن الذي لم يعد أصاب السنة، والحديث معروف (¬2) . وأما قوله للذي أعاد: " لك الأجر مرتين "؛ فلكونه قد كرر العبادة معتقداً وجوب ذلك، فكان له الأجر الآخر لذلك. وليس المراد ههنا إلا الإجزاء وسقوط الوجوب، وقد أفاد ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " أصبت السنة "، مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة، والتعريض (¬3) ¬

_ (¬1) أي: في الحكم. (¬2) وقد تقدم. (¬3) الإشارة.

بأن ما عدا ذلك مخالف للسنة كما لا يخفى. وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله - ونحو ذلك -: فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء أو خشية الضرر من استعماله؛ فإن من تعذر عليه استعمال الماء؛ هو عادم للماء؛ إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه؛ فهو عادم، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء، وهكذا من كان ينجسه - ولا محالة - إذا استعمله، وهكذا من كان يحتاجه للشرب؛ فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء. وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم! فليس على ذلك دليل، بل الواجب استعمال الماء، وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير - كالنوم والسهو ونحوهما -؛ فلم يوجب الله - تعالى - عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله - تعالى -، وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت: فعليه الوضوء وقد باء بإثم المعصية. وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة: فليس على ذلك حجة نيرة.

باب الحيض والنفاس

(7 - باب الحيض والنفاس) ( [الفصل الأول: أحكام الحيض] ) ( [عدم وجود دليل بتحديد أقل الحيض وأكثره] :) (لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطهر) ؛ لأن ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما، فهو إما موقوف ولا تقوم به الحجة، أو مرفوع ولا يصح، فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه، بل المعتبر لذات العادة المتقررة هو العادة، وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم. ( [تعمل المرأة بعادتها] :) (فذات العادة المتقررة تعمل عليها) فقد صح في غير حديث اعتبار الشارع للعادة كحديث: " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة. وأخرج مسلم وغيره من حديثها - نحو ذلك -. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أم سلمة: " أنها استفتت النبي [صلى الله عليه وسلم] في امرأة تهراق الدم؟ فقال: " لتنتظر قدر الليالي

تعمل المرأة غير المعتادة بالقرائن المستفادة من الدم

والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر (¬1) فتدع الصلاة " وهو حديث صالح للاحتجاج به. وكذلك حديث زينب بنت جحش: " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في المستحاضة: " تجلس أيام أقرائها " أخرجه النسائي (¬2) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ( [تعمل المرأة غير المعتادة بالقرائن المستفادة من الدم] :) (وغيرها ترجع إلى القرائن) المستفادة من الدم؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إن كان دم الحيض فإنه أسود يُعرف (¬3) ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي؛ فإنما هو عِرْق " أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي، والحاكم، - أيضا - بزيادة: " فإنما هو داء عرَض، أو ركضة من الشيطان، أو عرق انقطع " (¬4) . ¬

_ (¬1) • قوله: " وقدرهن من الشهر "؛ هي زيادة في رواية لابن ماجه، وليست عند النسائي. (ن) قلت: وانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (561) ، و " المشكاة " (599) . (¬2) (برقم: 361) وسنده صحيح. (¬3) بضم الياء وكسر الراء، أي: له عرف أي: رائحة تعرفها النساء، ويروى بفتح الراء؛ أي: تعرفه النساء، وهو الأظهر. (ش) (¬4) هذه الرواية في " المستدرك " (1 / 175) من طريق أبي عاصم النبيل، وفي " الدارقطني " (ص 80) من طريق محمد بن بكر البرساني، وأبي عاصم - كلاهما -، عن عثمان بن سعد، عن ابن أبي مليكة، أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت ... الخ، وهي خالة ابن أبي مليكة؛ وهو إسناد صحيح؛ ظاهره الإرسال، وبذلك أعله الذهبي. وقد أخطأ المصنف [أي: مصنف " الأصل "] في " نيل الأوطار " خطأ غريباً، فقال: " وقد استنكر هذا الحديث أبو حاتم؛ لأنه من رواية عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، وجده لا يُعرف " اه. =

صفات دم الحيض

( [صفات دم الحيض] :) (فدم الحيض يتميز عن غيره، فتكون حائضا إذا رأت دم الحيض) أخرج أبو داود، والنسائي؛ من حديث فاطمة بنت أبي حبيش، أنه قال [صلى الله عليه وسلم] : " دم الحيض أسود يُعرف " صححه ابن حزم، وأخرج النسائي من حديث عائشة مرفوعاً - نحوه (¬1) -. وأخرج الطبراني، والدارقطني من حديث أبي أمامة مرفوعاً، بلفظ: " دم الحيض لا يكون إلا أسود " (¬2) ، فدلت هذه الأحاديث على أنه لا يقال للصفرة والكُدرة: دم حيض، ولا يعتد بها سواء كانت بين دمي حيض أو بعد دم الحيض، وليس التحيض بين دمي الحيض مع تخلل الصفرة والكدرة لأجلهما، بل لكون ما توسط بين دمي الحيض حيضا، كما لو لم يخرج دم أصلا بين دمي الحيض. ولا يعارض هذا ما أخرجه في " الموطأ " - وعلقه في " البخاري " -: أن ¬

_ = وليس لعدي في إسناده ذكر! بل هذا حديث آخر غيره. (ش) قلت: و " ركضة الشيطان ": إضراره بها، والمراد: أنه طريق يلبّس الشيطان عليها في أمر دينها وطهرها. كذا في " النهاية " (2 / 259) لابن الأثير. والأولى حمله - أيضا - على الحقيقة. (¬1) • قلت: حديث عائشة هو حديث فاطمة، لكن بعض الرواة رواه مرة عن عروة عن فاطمة، ومرة أدخل بينهما عائشة، كما بينت ذلك في " صحيح سنن أبي داود " رقم (284، 285) . (ن) (¬2) في " سنن الدارقطني " (ص 80) بهذا اللفظ، ورواه البيهقي (ج 1 ص 326) والدارقطني (ص 80) بلفظ: " ودم حيض أسود خاثر تعلوه حمرة "؛ واللفظان ضعيفان؛ فإنهما من رواية العلاء بن كثير - وهو ضعيف -، عن مكحول، عن أبي أمامة؛ ومكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئا؛ كما قال الدارقطني. (ش) قلت: وانظر " سنن الدارقطني " (1 / 218) ، و " مجمع الزوائد " (1 / 280) ؛ فقد ضعفاه.

تعريف المستحاضة وأحكامها

النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدِّرَجة فيها الصفرة والكدرة من دم الحيض ليسألنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء "؛ فإن هذا - مع كونه رأيا (¬1) منها - ليس بمخالف لما تقدم؛ لأنها لم تخبرهن بأن الصفرة والكدرة حيض، إنما أمرتهن بالانتظار إلى حصول دليل يدل على أنه قد انقضى الحيض، وهو خروج القصة، فمتى خرجت لم يخرج بعدها دم حيض، ولم تأمرهن بالانتظار ما دامت الصفرة والكدرة. وهذا واضح لا يخفى. ( [تعريف المستحاضة وأحكامها) :) (ومستحاضة) ؛ وهي التي يستمر خروج الدم منها. (إذا رأت غيره) تعمل على العادة المتقررة، فتكون فيها حائضاً تثبت لها فيه أحكام الحائض، وفي غير أيام العادة تكون طاهراً لها حكم الطاهر. ( [تُعامل المستحاضة كالطاهرة] :) (وهي كالطاهرة) كما أفادت ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة من غير ¬

_ (¬1) • قلت: لكن يشهد له مفهوم حديث أم عطية، قالت: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً، أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح، كما بينته في " صحيح أبي داود " رقم (325) ، فهو يدل بمفهومه على أنهن كن يعددن ذلك قبل الطهر - أي: في الحيض - حيضاً. وتأويل المصنف حديث عائشة بعيد جدا عن الحقيقة، بل هو صريح على أنها كانت ترى أن الحائض لا تطهر بانقطاع الدم الأسود عنها؛ بل لا بد من انقطاع الصفرة والكدرة؛ وإلا لما جاز أن تأمر بالانتظار، الذي يقضي بتضييع بعض الصلوات، لو كان الحيض هو الدم الأسود فقط، فتأمل. (ن) قلت: و (الدّرَجة) : هو أشبه بالوعاء الذي توضع فيه الأشياء؛ كما في " النهاية " (2 / 111) لابن الأثير. وانظر " تمام المنة " (ص 136) .

المستحاضة تتوضأ لكل صلاة

وجه، فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمبتدأة والملتبسة عليها عادتها؛ فإنها ترجع إلى التمييز، فإن دم الحيض أسود يُعرف - كما قال -[صلى الله عليه وسلم] فتكون إذا رأت دماً كذلك: حائضاً، وإذا رأت دماً ليس كذلك: طاهراً. وقد أطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل، وكثرت فيه التفريعات والتدقيقات، والأمر أيسر من ذلك. (وتغسل أثر الدم) لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث عائشة الثابت في " الصحيح ": " فاغسلي عنك الدم وصلي "، وقد ورد ما يفيد معنى ذلك من غير وجه. ( [المستحاضة تتوضأ لكل صلاة] :) (وتتوضأ لكل صلاة) وذلك هو الذي ورد من وجه معتبر (¬1) ، وإذا جمعت بين الصلاتين فأخرت الأولى إلى آخر وقتها، وقدمت الثانية في أول وقتها كان لها أن تصليهما بوضوء واحد. ولم يأت في شيء من الأحاديث الصحيحة إيجاب الغسل لكل صلاة، ولا لكل صلاتين، ولا في كل يوم، بل الذي صح إيجاب الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد، أو عند انقضاء ما يقوم مقام العادة من التمييز بالقرائن، كما في حديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ". وأما ما في " صحيح مسلم ": " أن أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة ": ¬

_ (¬1) كحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش؛ وقد رواه مسلم (333) .

أحكام الحائض

فلا حجة في ذلك؛ لأنها فعلته من جهة نفسها، ولم يأمرها النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، بل قال لها: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي "؛ فإن ظاهر هذه العبارة أنها تغتسل بعد المكث قدْر ما كانت تحبسها الحيضة، وذلك هو الغسل الكائن عند إدبار الحيضة، وليس فيه ما يدل على أنها تغتسل لكل صلاة. وقد ورد الغسل لكل صلاة من طرق لا تقوم بمثلها الحجة (¬1) ، لا سيما مع معارضتها لما ثبت في " الصحيح "، ومع ما في ذلك من المشقة العظيمة على النساء الناقصات العقول والأديان، والشريعة سمحة سهلة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، {فاتقوا الله ما استطعتم} . ( [أحكام الحائض] :) (والحائض لا تصلي ولا تصوم) لما ورد في ذلك من الأدلة الصحيحة؛ كحديث: " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ! "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد - وهو مجمع عليه -، وكان هذا شأن الحائض في زمن النبوة وأيام الصحابة فمن بعدهم، أنها تدع الصلاة والصوم أيام حيضتها، وتقضي الصوم لا الصلاة بعد طهرها. ولم يخالف في ذلك غير الخوارج (¬2) ، ولا ريب أن القضاء إن كان بدليل الأصل - كما ذهب إليه البعض - فلا وجوب للأصل ههنا، ولا دليل عليه في حال الحيض، وإن كان بدليل جديد غير دليل المقضي، فلم يقم في الصلاة ¬

_ (¬1) وقد جزم بذلك الإمام النووي في " المجموع " (2 / 536) . (¬2) وفي ذلك حديث عائشة المروي في " الصحيحين ". وانظر " إرواء الغليل " (200) لشيخنا، و " شرح الترمذي " (1 / 235) للشيخ أحمد شاكر.

الحائض لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر

وقام في الصيام، فطاح القياس وذهب الإلزام. ( [الحائض لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر] :) (و) أما كونها (لا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر) فذلك نص الكتاب العزيز؛ قال الله - تعالى - {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ، والأحاديث في ذلك كثيرة؛ منها قوله [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وهو في " الصحيح "، وهو مجمع على تحريم ذلك، ليس فيه خلاف. وتحريم الصلاة والصوم على الحائض كما تقدم، وكذلك وطؤها: هو إلى غاية هي الغسل بعد الطهر - كما صرحت بذلك الأدلة -. ( [الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة] :) (و) أما كونها (تقضي الصيام) فلحديث عائشة بلفظ: " فنؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وقد نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على ذلك، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة! ولا يقدح في إجماع الأمة مخالفة هؤلاء الذين هم كلاب النار (¬1) . (فصل: [أحكام النفساء] ) ( [أكثر النفاس أربعون يوماً ولا حد لأقله] :) ¬

_ (¬1) صح وصفهم بذلك في السنة؛ فانظر " ظلال الجنة بتخريج كتاب السنة " (904) و (905) لشيخنا.

أحكام النفساء كأحكام الحائض

(والنفاس أكثره أربعون يوماً) لحديث أم سلمة، قالت: " كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أربعين يوماً " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم (¬1) ، وللحديث طرق يقوي بعضها بعضاً. وإلى ذلك ذهب الجمهور. وقد قيل: إن أكثره ستون يوماً، وقيل: سبعون يوماً، وقيل: خمسون، وقيل: نيف وعشرون، والحق الأول، وهذا القدر هو أرجح ما قيل؛ لأن ما عداه خال عن الدليل. (و) أما كونه (لا حد لأقله) فلم يأت في ذلك دليل، بل ما دام الدم باقياً كانت المرأة نفساء، فإن انقطع قبل الأربعين اقتطع عنها حكم النفاس، فإن جاوز دمها الأربعين عاملت نفسها معاملة المستحاضة إذا جاوزت أيام العادة المتقررة. ( [أحكام النفساء كأحكام الحائض] :) (وهو) أي: النفاس (كالحيض) في تحريم الوطء وترك الصلاة والصيام، ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا تقضي النفساء الصلاة. في رواية لأبي داود من حديث أم سلمة، قالت: " كانت المرأة من نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بقضاء صلاة النفاس ". ¬

_ (¬1) • (1 / 175) ، وقال: " صحيح "، ووافقه الذهبي. (ن)

وقد تقدم الإجماع على ذلك في الحائض، وهو في النفاس إجماع كذلك. ولعل الخوارج يخالفون ههنا كما خالفوا هنالك! ولا يُعتد بهم.

الكتاب الثاني كتاب الصلاة

(الكتاب الثاني: كتاب الصلاة)

كتاب الصلاة

(2 - كتاب الصلاة) (1 - باب مواقيت الصلاة) قال الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} والأمر بمطلق الصلاة إنما يفيد الإتيان بها في زمان ومكان من دون تعيين؛ لأن مطلق الزمان والمكان من ضروريات الفعل. وأما الوقت الخاص الذي شرع الله فيه الصلاة، وكذلك كونها على هيئة مخصوصة مع شروط محصورة، فهذا لا دلالة للآية عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام (¬1) ، ولم يدل على ذلك إلا السنة الثابتة عنه [صلى الله عليه وسلم] قولاً وفعلاً، وليس في القرآن من ذلك إلا النادر القليل؛ كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} فإنه في هذه الآية ذكر الوضوء، وهو شرط من شروط الصلاة، وقيد الأمر به بالقيام إليها، فكان ذلك مقيداً لوجوب الفعل، ولا بد للشرطية من دليل أخص من ذلك، وقد ورد في السنة ما يفيد الشرطية، وكذلك ورد في القرآن ذكر بعض هيآت الصلاة؛ كالسجود والركوع، ولكن بدون ذكر صفة ولا عدد، ولا كون ذلك في الموضع الذي بينته السنة المطهرة. ( [بيان أول وقت الظهر وآخره] :) (أول وقت الظهر) تعيين أول الأوقات وآخرها قد ثبت في الأحاديث ¬

_ (¬1) هي دلالات منطقية عقلية مجردة.

الصحيحة من تعليم جبرائيل - عليه السلام - له [صلى الله عليه وسلم] ، ومن تعليمه [صلى الله عليه وسلم] لمن سأله، وغير ذلك من أقواله وأفعاله. (الزوال) أي: زوال الشمس، ويبين ذلك باخضرار الجدار إلى جهة الشرق، يعرفه كل ذي عينين. (وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال) فإن قلت: أخرج النسائي وأبو داود من حديث ابن مسعود: " كان قدر صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] [الظهر] في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام " (¬1) . قلت: إنهم حملوه على الإبراد (¬2) ؛ كما قاله ابن العربي المالكي في " القبس "، وتبعه الحافظ السيوطي، وأنه حديث قد قُدح فيه؛ فإنه من رواية عبيدة بن حميد الضبي الكوفي، عن أبي مالك سعد بن طارق، عن كثير بن مدرك، عن الأسود. وفي عبيدة وشيخه سعد خلاف، ففي " الميزان " في ترجمة سعد: " وثقه أحمد وابن معين، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه في القنوت ". وقد ضعف عبد الحق حديث تقدير صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالأقدام في الشتاء والصيف. والعجب من الحافظ ابن حجر في " التخليص " لم يتكلم على لفظ ¬

_ (¬1) الصواب أنه حديث صحيح؛ انظر الكلام عليه - رواية ودراية - في تعليق شيخنا على " المشكاة " (1 / 187) . (¬2) وليس الأمر كذلك!

بيان أول وقت العصر وآخره

الحديث ولا سنده! وذكر كلام ابن العربي وأبطله السيد محمد الأمير في " اليواقيت ". نعم؛ أيام الشتاء يحسن التأني بالظهر حتى يحصل ظن أن الشمس لو كانت في كبد السماء أن قد زالت، لأنه يدرك بالحس والمشاهدة إذا كانت من جهة الجنوب، لأن ظلها يزداد في جهة الشرق زيادة كثيرة، لكن لا إلى الحد الذي يقدّر بالأقدام، وغايته أن ينظر في أمارات تحصل الظن بالزوال، وأهل الأقدام ليس معهم إلا الظن لا غير، وليس أحد مخاطباً بظن غيره بل بظن نفسه، فتأمل. ( [بيان أول وقت العصر وآخره] :) (وهو أول وقت العصر) أي: صيرورة ظله مثله. قال ابن القيم: وأنهم كانوا يصلونها مع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة (¬1) . وقال أنس: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] العصر، فأتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله: إنا نريد أن ننحر جزوراً، وإنا نحب أن تحضرها، قال: " نعم "، فانطلق، وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس " (¬2) ، ومحال أن يكون هذا بعد المثلين. ¬

_ (¬1) رواه الجماعة - إلا الترمذي - من حديث أنس بن مالك. (ش) (¬2) رواه مسلم في " صحيحه ". (ش) .

وفي " صحيح مسلم " عنه: " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر " (¬1) ، ولا معارض لهذه السنن في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فرُدّت بالمجمل من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجيراً، فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ... " (¬2) الخ. ويا لله العجب {أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة،؟} وإنما يدل على أن من صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر، وهذا لا ريب فيه. انتهى. (وآخره) أي: آخر وقت العصر صيرورة ظله مثليه. قال الشافعي: " آخر الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثليه. وقيل: إلى أن تصفر الشمس، وآخر وقت الضرورة مغيب الشمس ". كذا في " المسوى ". وفي " الحجة البالغة ": وكثير من الأحاديث يدل على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس، وهو الذي أطبق عليه الفقهاء، فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي يستحب فيه، أو نقول: لعل الشرع نظر - أولاً - إلى المقصود من اشتقاق العصر، أن يكون الفصل بين كل صلاتين نحواً من ¬

_ (¬1) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مطولاً، وسيذكره الشارح في الكلام على آخر وقت العصر. (ش) (¬2) رواه البخاري (2268) عن ابن عمر. وانظر " الفتح " (2 / 40) ، و (4 / 446) .

ربع النهار، فجعل الأمد الآخر بلوغ الظل إلى المثلين، ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد. وأيضا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ الفيء الأصلي ورصده. وإنما ينبغي أن يُخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر، فنفث الله تعالى في روعه [صلى الله عليه وسلم] أن يجعل الأمد تغير قرص الشمس أو ضوئها، والله تعالى أعلم. (ما دامت الشمس بيضاء نقية) فإذا اصفرت خرج وقت العصر؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث، منها حديث ابن عمرو، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور (¬1) الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس ". أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود. ولا يخالف ما وقع في هذا الحديث - في آخر وقت العصر والعشاء - ما ورد في بعض الأحاديث " أن آخر وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه، وآخر وقت العشاء ذهاب ثلث الليل (¬2) "؛ فإن هذا الحديث قد تضمن زيادة غير منافية للأصل؛ لأن وقت اصفرار الشمس هو متأخر عن المثلين، إذ هي تبقى ¬

_ (¬1) بفتح الثاء المثلثة، وإسكان الواو، أي: ثورانه وانتشاره ومعظمه، وفي " القاموس " أنه حُمْرة الشفق الثائرة فيه. قاله المصنف [أي: مصنف " الأصل "] في " نيل الأوطار ". (ش) (¬2) ووقع في رواية عند البخاري (541) : " إلى شطر الليل ".

بيان أول وقت المغرب وآخره

بيضاء نقية بعد المثلين، وكذلك نصف الليل، وهو متضمن لزيادة غير منافية لما وقع في رواية بلفظ " ثلث الليل "، على أن الرواية المتضمنة للزيادتين هي أصح من الأخرى (¬1) . ( [بيان أول وقت المغرب وآخره] :) (وأول وقت المغرب غروب الشمس) أي: سقوط القرص، وهو وقت الاختيار الذي يجوز أن يصلى فيه من غير كراهية، والعمدة فيه حديثان: حديث جبرائيل (¬2) - عليه السلام -؛ فإنه صلى بالنبي [صلى الله عليه وسلم] يومين، وحديث بريدة (¬3) ؛ ففيه أنه [صلى الله عليه وسلم] أجاب السائل عنها - أي: عن الأوقات - بأن صلى يومين، والمفسر منهما قاض على المبهم، وما اختلف يتبع فيه حديث بريدة؛ لأنه مدني متأخر، والأول مكي متقدم، وإنما يتبع الآخر. كذا في " الحجة ". (وآخره ذهاب الشفق الأحمر) جميع كتب اللغة مصرحة بهذا، وجميع ¬

_ (¬1) اختار المصنف [أي: مصنف " الأصل "]- وتبعه الشارح - أن وقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية؛ وقد صح عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "، رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وهو نص صريح في أن آخر وقت العصر إلى غروب الشمس، وروى نحوه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه من حديث عائشة. وتأوله الشارح باختصاص هذا الوقت بالمضطرين، ولكن صنيعه في وقت الصبح هنا وجعل آخره طلوع الشمس - وهو في الحديث وارد مع العصر - يرد عليه؛ فإن حكمهما واحد في الحديث. نعم؛ يُكره التأخير إلى آخر الوقت لغير المضطر، ولكن هذا شيء، وخروج الوقت شيء آخر. (ش) . (¬2) انظر " الإرواء " (249) . (¬3) رواه مسلم (613) .

أشعار العرب ومن بعدهم، فمن زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة - أو لسان أهل الشرع - يطلق على البياض فعليه الدليل، ولا دليل. ولو فُرض وجود ما يدل على ذلك فلا يُنكر ندوره، كما لا ينكر أن الشائع في لسان العرب وأهل الشرع إطلاقه على الحمرة، والحمل على الأعم الأغلب هو الواجب، ولا يُحمل على النادر، فليس ههنا ما يسوغ اختلاف المذاهب. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق - كما في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمر - وقد تقدم -. وفي " صحيحه " - أيضا - عن أبي موسى، أن سائلا سأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن المواقيت؟ فذكر الحديث، وفيه: " فأمره، فأقام المغرب حين وجبت الشمس، فلما كان اليوم الثاني قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم قال: " الوقت ما بين هذين ". وهذا متأخر عن حديث جبرائيل - عليه السلام -؛ لأنه كان بمكة، وهذا قول وذلك فعل، وهذا يدل على الجواز، وذاك على الاستحباب، وهذا في " الصحيح " وذاك في " السنن "، وهذا يوافق قوله [صلى الله عليه وسلم] : " وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها " (¬1) ، وإنما خُص منه الفجر بالإجماع، فما عداها من الصلوات داخل في عمومه، والفعل إنما يدل على الاستحباب، فلا يعارض العام ولا الخاص. ¬

_ (¬1) هو معنى حديث رواه مسلم في " صحيحه " (311) . وانظر " نيل الأوطار " (1 / 413) .

بيان أول وقت العشاء وآخره

( [بيان أول وقت العشاء وآخره] :) (وهو) - أي: ذهاب الشفق وغروبه - (أول العشاء) للإجماع على دخوله بالشفق، والأحمر هو المتبادر منه؛ لأن وقت الاستحباب الذي يستحب أن يصلى فيه هو أوائل الأوقات؛ إلا العشاء. (وآخره نصف الليل) فالمستحب الأصلي تأخيرها، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء "، ولأنه أنفع في تصفية الباطن من الأشغال المنسية لذكر الله - تعالى -، وأقطع لمادة السمر بعد العشاء، لكن التأخير ربما يفضي إلى تقليل الجماعة، وتنفير القوم، وفيه قلب الموضوع، فلهذا كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كثر الناس عجّل، وإذا قلوا أخّر. كذا في " الحجة "، فهذه علامات، وكان المعلم لها جبرائيل - عليه السلام -، ثم محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للأمة. ( [بيان أول وقت الفجر وآخره] :) (وأول وقت الفجر إذا انشق الفجر) أي: ظهور الضوء المنتشر، وبينه [صلى الله عليه وسلم] أشفى بيان، فقال لهم: " أنه يطلع معترضاً في الأفق "، و " أنه ليس الذي يلوح بياضه كذنب السِّرحان (¬1) "، وهذا شيء تدركه الأبصار، وقال - تعالى -: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ، فجاء بلفظ التفعل، لإفادة أنه لا يكفي إلا التبين الواضح، أي: يتبين لكم شيئاً فشيئاً حتى يتضح؛ فإنه لا يتم تبينه وظهوره إلا بعد كمال ظهوره، فإنه يطلع - أولا - ¬

_ (¬1) السِّرحان هو: الذئب؛ والمراد ارتفاع نوره عموديا في السماء.

تباشير الضوء، ثم ذنب السِّرحان وهو الفجر الكذاب، ثم يتضح نور الصباح الذي أبداه بقدرته فالق الإصباح، ولذلك قال الشاعر: (وأزرق الصبح يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب) قال ابن القيم: " إن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يقرأ بالستين آية إلى المئة، ثم ينصرف منها والنساء لا يُعرفن من الغلس (¬1) ، وأن صلاته كانت في التغليس حتى توفاه الله - تعالى -، وأنه أسفر بها مرة واحدة، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية، فرُد ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " (¬2) ، وهذا - بعد ثبوته - إنما المراد به الإسفار بها دواماً، لا ابتداء، فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا، كما كان يفعله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فقوله موافق لفعله لا مناقض له، وكيف يُظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه؟ ! " انتهى. (وآخره طلوع الشمس) : ومما ينبغي أن يُعلم: أن الله - عز وجل - لم يكلف عباده في تعريف أوقات الصلوات بما يشق عليهم ويتعسر، فالدين يسر، والشريعة سمحة سهلة، بل جعل -[صلى الله عليه وسلم]- للأوقات علامات حسية يعرفها كل أحد، فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من أوائل أجزاء النهار يعرفه كل أحد، وقال في الظهر: " إذا دحضت الشمس " (¬3) ، إذا زالت الشمس، ¬

_ (¬1) الظلام. والحديث؛ رواه البخاري (1921) ، ومسلم (1097) . (¬2) حديث صحيح، انظر " إرواء الغليل " (258) . (¬3) هي رواية عند مسلم (606) عن جابر بن سمرة.

بيان استغناء الشريعة عن علم النجوم

وقال في العصر: " والشمس بيضاء نقية "، وقال في المغرب: " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا "، وقال في العشاء: من قدّر وقت صلاته بأنه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث الشهر، وورد التقدير بالشفق، وورد (¬1) التقدير بثلث الليل وبنصفه، فهذه العلامات لا تلتبس على أكمه. ( [بيان استغناء الشريعة عن علم النجوم] :) والنظر في النجوم - وإن كنت لا أظن ثبوت ذلك - هو النظر الذي يكون في الشمس والقمر والأظلة المقترنة بالنجوم، والمراد أنه يستدل على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا، كما يكون مثل ذلك في الشمس والقمر، لا أنه النظر المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم - المؤدي إلى الوقوع في مضايق عن الشريعة بمعزل -؛ فإن هذا علم نهى عنه الشارع، وحذر عن إتيان صاحبه، حتى جعل ذلك كفراً، فكيف يجعل طريقاً إلى أمر من أمور الشريعة ومهم من مهماتها؟ ! فمن ظن أن شيئا من علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح عليه (¬2) ؛ فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة، أو مغالط قد مالت نفسه إلى ما ¬

_ (¬1) هذا التقدير قدّره النعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وقد بينت في شرحي على " التحقيق " لابن الجوزي أنه تقدير لا يطابق كل شهر؛ فإن القمر يغيب ليلة ثالث الشهر في أوقات مختلفة باختلاف الأشهر، وقد يصل الفرق بين الليلة الثالثة من شهر وبين الليلة الثالثة من شهر آخر إلى نحو الساعتين، ولعل النعمان رأى النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى العشاء - لسقوط القمر لثالثه - مرات من غير تتبع ولا استقصاء، فظن أن هذا الوقت متحد في الليالي، ولم يلاحظ الفرق بينها. (ش) (¬2) يُنظر كلام الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه " فضل علم السلف على علم الخلف " (19 - 23) في تقسيم علم النجوم - بتحقيقي.

نهى عنه الشارع، وأراد أن يدفع عن نفسه القالة، فاعتل بأنه لم يتعلق بمعرفة ذلك إلا لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات الصلوات، وكثيرا ما نسمعه - من المشتغلين بذلك - يُدلي بهذه الحجة الباطلة، فيصدقه من لم يثبت قدمه في علم الشريعة المطهرة. ومن أعظم المروجات لهذه البلية ما وقع من جماعة من المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير المنازل، والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته، إلا تأنيس المنجمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحاصل الكلام: أن هذه تكاليف موجهة، كلف الله - تعالى - بها عباده، وعيّن أوقاتها تعييناً يعرفه العالم والجاهل، والقروي والبدوي، والحر والعبد، والذكر والأنثى على حد سواء، اشترك فيه كل هؤلاء، لا يحتاج معه إلى شيء آخر. (أمع الصبح للنجوم تجل ... أم مع الشمس للظلام بقاء) قال صاحب " سبل السلام ": التوقيت في الأيام والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة، فلا يمكن عالم من علماء الدنيا أن يدعي أن ذلك كان في عصره -[صلى الله عليه وسلم]-، أو عصر خلفائه الراشدين، وإنما هو بدعة لعلها ظهرت في عصر المأمون، حين أخرج كتب الفلاسفة وعرّبها، ومنها المنطق والنجوم؛ فإنه علم أولئك الذين قال الله - تعالى - فيهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} ،

فأقل أحوال المقرين على حساب المنازل القمرية أنهم مبتدعون، وكل بدعة ضلالة. ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين، فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك، ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل " الربع المجيَّب " (¬1) ونحوه؛ يدرِّسونه ويقرءونه ويعتمدونه، وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " علم لا ينفع وجهل لا يضر " (¬2) . وهو من علم أهل الكتاب، فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب سير الشمس، ولعله دخل على المسلمين من علم اليونان وأهل الكتاب، ومات رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ، وكان أهل بيته وأصحابه - رضي الله عنهم - على ذلك؛ لا يعرفون منازل الزيادة والنقصان، ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان، ولا شيئاً من هذه الأمور التي صار ذلك التكليف المؤقت عليها يدور ". انتهى (¬3) . ¬

_ (¬1) هو من فروع علم الفلك والهيئة. (¬2) ضعفه العراقي في " تخريج الإحياء " (1 / 30) . (¬3) يظهر أن صاحب " سبل السلام " - ومن بعده الشارح - لم يعرفا الفرق بين علم النجوم المنهي عنه - وهو دعوى معرفة الغيب بحسابها وما إلى ذلك -، وبين علم الفلك والميقات وتقدير منازل الشمس والقمر والنجوم، وهي من العلوم الصحيحة الثابتة ببراهين قطعية مبنية على الحساب الصحيح، وبه يعلم الكسوف والخسوف، ومواقيت الصلاة، والشهور، وغير ذلك. حقيقة؛ لم يكن في عصره [صلى الله عليه وسلم] ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولكنّا لا نسميه بدعة؛ لأن كل علم مستحدث ينفع الناس يجب تعلمه على بعض أفراد المسلمين؛ ليكون قوة لهم ترقى بها الأمة الإسلامية. وإنما البدعة ما يستحدثه الناس في أنواع العبادات فقط، وما كان في غير العبادات، ولم يخالف قواعد الشريعة؛ فليس بدعة أصلا، والله الموفق. (ش) قلت: هذه قيود جيدة من الشيخ شاكر - رحمه الله -.

وقت صلاة النائم أو الساهي عنها

( [وقت صلاة النائم أو الساهي عنها] :) (ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها) ؛ أي: وقت القضاء إذا ذكر، وقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة؛ كحديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره. وقد ورد المعنى من غير وجه، وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله - عز وجل - يقول في كتابه العزيز: {أقم الصلاة لذكري} ". قلت: وعلى هذا أهل العلم، وقاسوا المفوت قصداً على النائم (¬1) . كذا في " المسوى ". ( [المعذور إذا أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة] :) (ومن كان معذوراً) : لأن الأوقات للصلوات قد عينها الشارع، وحدد أوائلها وأواخرها بعلامات حسية، وجعل ما بين الوقتين لكل صلاة هو الوقت لتلك الصلاة، وجعل الصلاة المفعولة في غير هذه الأوقات المعينة صلاة المنافق وصلاة الأمراء الذين يميتون الصلاة، كقوله في حديث أنس - الثابت في " الصحيح " -، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله إلا قليلاً "، وكقوله -[صلى الله عليه وسلم]- لأبي ذر: " كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة - أو يؤخرون الصلاة عن ¬

_ (¬1) وهو قياس مع الفارق. وسيأتي البحث في هذه المسألة - بعد -.

من أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة

وقتها -؟ ! "، قلت: فما تأمرني؟ قال: " صلّ الصلاة لوقتها ... " الحديث؛ ونحو ذلك. وهكذا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، فكان ما ذكرناه دليلاً على أن إدراك الركعة في الوقت الخارج عن الأوقات المضروبة - كوقت طلوع الشمس وغروبها وطلوع الفجر - هو خاص بالمعذور، كمن مرض مرضاً شديداً لا يستطيع معه تأدية الصلاة، ثم شفي وأمكنه إدراك ركعة، وكالحائض إذا طهرت وأمكنها إدراك ركعة ونحو ذلك. ( [من أدرك ركعة في الوقت أدرك الصلاة] :) (وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها) ؛ أي: الصلاة، لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة، كحديث أبي هريرة أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس؛ فقد أدرك الصبح، ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. ونحو ذلك حديث عائشة عند " مسلم " وغيره، وقد ثبت من حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (¬1) ، وهذا يشمل جميع الصلوات لا يخص شيئاً منها. ¬

_ (¬1) لم يحرر المؤلف ولا الشارح آخر وقت العصر مع هذا الحديث باختلاف رواياته؛ فإن دعوى المؤلف أن إدراك ركعة من الصلاة إنما هو للمضطر؛ لا دليل عليها، بل الحديث عام في كل من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، والأحاديث الأخرى إنما تدل على النهي عن تأخير العصر إلى اصفرار الشمس، ولكنها لا تدل على أنه آخر وقتها. (ش)

وجوب المحافظة على الوقت

قلت: هذا الحديث يحتمل وجوها: أحدها من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت؛ فالجميع أداء وإلا فقضاء، وهو الأصح عند الشافعية. وقال أبو حنيفة بذلك في العصر خاصة (¬1) . وثانيها: من أدرك من المعذورين من الوقت ما يسع ركعة من الصلاة؛ فقد وجبت عليه تلك الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي. وثالثها: أن الجماعة تدرك بركعة، وهو وجه للشافعية. وقال أبو حنيفة: لو أدرك التشهد كان مدركاً للجماعة. كذا في " المسوى ". فمن صلى ركعة في الوقت، والباقي خارج الوقت؛ لا يكون عند الشافعي كمن صلى الكل خارج الوقت. وقال أبو حنيفة مثله؛ إلا في صلاة العصر خاصة. وقد رد ابن القيم على من قال بكونها خلاف الأصول، ورده بالمتشابه من نهيه [صلى الله عليه وسلم] عن الصلاة وقت طلوع الشمس أتم رد - في " إعلام الموقعين " -؛ فليرجع إليه. ( [وجوب المحافظة على الوقت] :) (والتوقيت واجب) : لما ورد في ذلك من الأوامر الصحيحة بتأدية الصلاة ¬

_ (¬1) لا دليل على التخصيص!

المتيمم والماسح على الجبيرة

لوقتها، والنهي عن فعلها في غير وقتها المضروب لها. (والجمع لعذر جائز) ؛ أي: بين الصلاتين إن كان صورياً (¬1) ، وهو فعل الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها، فليس بجمع في الحقيقة؛ لأن كل صلاة مفعولة في وقتها المضروب لها، وإنما هو جمع في الصورة، ومنه جمعه [صلى الله عليه وسلم] في المدينة المنورة من غير مطر ولا سفر - كما في " الصحيح " من حديث ابن عباس وغيره -؛ فإنه قد وقع التصريح في بعض الروايات بما يفيد ذلك، بل فسره من رواه بما يفيد أنه الجمع الصوري. وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة، فالمراد بالجمع الجائز للعذر هو جمع المسافر والمريض، وفي المطر، كما وردت بذلك الأدلة الصحيحة (¬2) . وقد اختلف في جواز الجمع بين الصلاتين لغير هذه الأعذار، أو مع عدم العذر. والحق عدم جواز ذلك، كما حققه المجتهد الرباني شيخنا العلامة محمد ابن علي الشوكاني في " الفتح الرباني "، وغيره من مؤلفاته المباركة عليها ولها وفيها. ( [المتيمم والماسح على الجبيرة] :) (والمتيمم وناقص الصلاة) : كمن به مرض يمنعه عن استيفاء بعض أركانها. ¬

_ (¬1) وفي كتابي " أحكام الشتاء " (45 - 94) بحث مطول في هذه المسألة؛ فلينظر. (¬2) انظر " السيل الجرار " (1 / 193) .

(أو الطهارة) : كمن في بعض أعضاء وضوئه ما يمنعه من غسله بالماء. (يصلون كغيرهم من غير تأخير) : وجهه أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أولها وآخرها، ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها، وأن صلاتهم لا تجزئ إلا في آخر الوقت. ولم يعول من أوجب التأخير على شيء تقوم به الحجة، بل ليس بيده إلا مجرد الرأي البحت، كقولهم: إن صلاتهم بدلية، ونحو ذلك! وهذا لا يغني من الحق شيئاً. أقول: لم يأت ما يدل على وجوب التأخير على من كان ناقص صلاة أو طهارة من كتاب ولا سنة، بل التيمم مشروع عند عدم الماء إذا حضر وقت الصلاة، وكذلك من كانت به علة لا يتمكن معها من استيفاء الطهارة أو الصلاة؛ جاز له أن يصلي إذا حضر وقت الصلاة كيف أمكن، وذلك هو المطلوب منه والواجب عليه، ولو كان التأخير واجباً على من كان كذلك؛ لبينه الشارع؛ لأنه من الأحكام التي تعم بها البلوى. ولا فرق بين من كان راجياً لزوال العلة في آخر الوقت، ومن كان آيساً من زوالها في الوقت، ومن زعم أنه يجب تأخير صلاة من الصلوات على فرد من أفراد العباد؛ لم يُقبل منه ذلك إلا بدليل. وأما ما يقال من أن الصلاة الناقصة أو الطهارة الناقصة بدل عن الصلاة الكاملة أو الطهارة الكاملة: فكلام لا ينفق في مواطن الخلاف، ولا تقوم بمثله الحجة على أحد.

بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة

على أن البدلية غير مسلَّمة، وعلى فرض تسليمها: فلا نسلم أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدَل إلى آخر الوقت، فإنهم يجعلون الظهر أصلا والجمعة بدلا، والجمعة مجزئة في أول وقت الظهر، بل لا يجزئ في ذلك الوقت غيرها لمن لم يكن معذوراً. ثم لو سلمنا أن البدل لا يجزئ إلا عند تعذر المبدل، فوقت التعذر هو وقت الصلاة مثلا، فإذا دخل أول جزء من أجزاء الوقت، والمبدل متعذر: كان البدل في ذلك الوقت مجزئا، ومن زعم غير هذا جاءنا بحجة. ( [بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة] :) (و) أما كون (أوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال، وبعد العصر حتى تغرب) : فلما ثبت في " الصحيح " عن جماعة من الصحابة مرفوعاً؛ من النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس (¬1) ، وعند الزوال، وورد في روايات أخر: النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات: وقت الطلوع، ووقت الزوال، ووقت الغروب. قال في " الحجة ": " الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر منها فليفعل " (¬2) ، غير أنه نهي عن خمسة أوقات: ثلاثة منها أوكد نهيا من الباقيين وهي الساعات الثلاث إذا طلعت الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف (¬3) للغروب حتى تغرب، لأنها أوقات صلاة المجوس. ¬

_ (¬1) قارن ب " الصحيحة " (200) و (314) . (¬2) انظر " صحيح الترغيب " (386) . (¬3) أي: تميل؛ والحديث في " صحيح مسلم " (831) عن عقبة بن عامر.

وأما الآخران فقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا صلاة بعد الصبح حتى تبزغ الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب " ولذلك صلى فيهما النبي [صلى الله عليه وسلم] تارة. وروي استثناء نصف النهار يوم الجمعة (¬1) . واستنبُط جوازها في الأوقات الثلاثة في المسجد الحرام من حديث: " يا بني عبد مناف! من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " (¬2) . وعلى هذا فالسر في ذلك أنهما (¬3) وقت ظهور شعائر الدين ومكانه فعارضا المانع (¬4) من الصلاة ". انتهى. وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب، وهي عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقاً، لا بما هو أعم منها من وجه، وأخص منها من وجه، كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد (¬5) ؛ فإنه من باب تعارض العمومين، والواجب المصير ¬

_ (¬1) انظر أدلة ذلك في " الأجوبة النافعة " (59 - 63) ، لشيخنا الألباني. (¬2) ليس المراد من هذا الحديث إباحة الصلاة في الأوقات المذكورة، بل هو نهي لبني عبد مناف من التعرض للمصلي في أي وقت شاء؛ لما كانوا يزعمون لأنفسهم من السلطان على البيت وعلى زائريه؛ فهو حَجْر عليهم، كفّ به أيديهم عن التعرض للناس، ولكنه لا يُفهم منه أن النهي عن الأوقات إنما هو في غير البيت؛ وهذا واضح لا يخفى على متأمل. (ش) قلت: وقد ذكر الحافظ في " الفتح (3 / 488 - 489) في المسألة أقوالاً عدة؛ فلينظر. (¬3) أي: الجمعة، والمسجد الحرام. (¬4) وهو التشبه بالكفار. (¬5) قارن ب " السيل الجرار " (1 / 189) .

إلى الترجيح، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به، وإن لم يمكن؛ وجب المصير إلى الترجيح بأمور خارجة، فإن تعذّر من جميع الوجوه؛ فالتخيير أو الاطراح في مادة. إذا تقرر هذا: فما عورضت به أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين المذكورين لا يصلح للمعارضة: أما حديث الرجلين اللذين أمرهما [صلى الله عليه وسلم] بالإعادة (¬1) ؛ فقد اختلفت الرواية؛ ففي بعض الروايات أنه قال: " هذه فريضة وتلك نافلة "، وفي بعضها عكس ذلك، وعلى الرواية الأولى: لا معارضة، وعلى الثانية: غاية ما هناك أن ذلك يكون مخصصا لأحاديث النهي بمثل حال الرجلين، وهو من دخل مسجد جماعة يصلون فيه فريضة في أحد الوقتين، فإنه يتنفل معهم. وحديث: أنه [صلى الله عليه وسلم] كان يصلي ركعتين بعد العصر (¬2) ؛ قد تبين في روايات الحديث الثابتة في الأمهات أنه وفد عليه وفد عبد القيس، فشغلوه عن ركعتي الظهر، فصلاهما بعد العصر، وكان هديه [صلى الله عليه وسلم] أنه إذا فعل شيئاً داوم عليه، حتى سألته بعض نسائه، وقالت: هل نقضيهما إذا فاتتانا؟ فقال: " لا " (¬3) . ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى حديث يزيد بن الأسود في الرجلين اللذين لم يصليا في ناحية المسجد ... فقال لهما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : ". . إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل: فليصل معه؛ فإنها له نافلة ". وهو حديث صحيح مخرج في " الإرواء " (2 / 315) بطرقه ورواياته وألفاظه. (¬2) تفصيل القول في هذه المسألة - بأدلتها، وشواهدها وطرق أحاديثها - في " سلسلة الأحاديث الصحيح " (6 / 2 / 1010 - 1014) . (¬3) • حديث معلول. (ن) قلت: وجزم بذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " (3 / 34) .

وقد ذكر من روى ذلك وما عليه شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " (¬1) . وأما حديث: " لا تمنعوا طائفاً ... ": فهو مع كونه غير صلاة - وإن كان مشبهاً بها؛ فليس المشبه كالمشبه به هو أيضا عام مخصص بأحاديث النهي، أو خاص بنوع من أنواع الصلاة وهو الطواف؛ فليعلم. ¬

_ (¬1) نيل الأوطار " (3 / 28 - 29) .

باب الأذان

(2 - باب الأذان) ( [حكم الأذان] :) أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام، وأشهر معالم الدين، فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله - سبحانه وتعالى - إلى أن مات رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : في ليل ونهار، وحضر وسفر، ولم يُسمع بأنه وقع الإخلال بها، أو الترخيص في تركها. (يشرع) : وقد اختلف في وجوبه، والظاهر الوجوب؛ لأمره [صلى الله عليه وسلم] بذلك في غير حديث. والحاصل: أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها؛ فإنها أشهر من نار على علم، وأدلتها هي الشمس المنيرة. ( [شروط المؤذن] :) (لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذناً) : وأما كون المؤذن مكلفا ذَكراً؛ فهذا هو الظاهر؛ لأن الأذان عبادة شرعية لا تجزئ إلا من مكلَّف بها، ولم يُسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع - الذي هو إعلام بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة - من امرأة قط. وأما أذان المرأة لنفسها، أو لمن يحضر عندها من النساء، مع عدم رفع

الأذان بالألفاظ المشروعة

الصوت رفعاً بالغاً: فلا مانع من ذلك، بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالأذان، ولم يأت ما تقوم به الحجة، لا في كون المؤذن طاهراً من الحدث الأكبر، ولا من الحدث الأصغر؛ لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح، وما هو موقوف على صحابي أو تابعي لا تقوم به الحجة. وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن؛ فقد كره النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يرد السلام وهو محدث حدثاً أصغر حتى توضأ - كما في رواية (¬1) -، وتيمم - كما في أخرى (¬2) -، والأذان أولى بذلك من مجرد السلام. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": وظاهر الأحاديث أنه لا يصح أذان غير المتوضئ. وقد ورد حديث يدل على اشتراط كون المؤذن متوضئاً، أخرجه الترمذي بلفظ: " لا يؤذن إلا متوضئ " (¬3) ، وقد أُعل بالانقطاع والإرسال، ويشهد له (¬4) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر "، أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. ( [الأذان بالألفاظ المشروعة] :) (ينادى بألفاظ الأذان المشروعة) : لإعلامهم بمواقيت الصلاة، وللتمسك ¬

_ (¬1) انظر " السلسلة الصحيحة " (834) . (¬2) رواه أبو داود (16) بسند صحيح. (¬3) ضعيف، كما في " الإرواء " (222) . (¬4) بل لا يشهد له!!

دخول الوقت شرط لصحة الأذان إلا في الفجر

بشعائر الإسلام، فقد كان الغزاة في أيام النبوة وما بعدها إذا جهلوا حال أهل القرية، تركوا حربهم حتى يحضر وقت الصلاة، فإن سمعوا أذاناً كفّوا عنهم، وإن لم يسمعوا قاتلوهم مقاتلة المشركين (¬1) . وأما غير أهل البلد، كالمسافر والمقيم بفلاة من الأرض؛ فيؤذن لنفسه ويقيم، فإن كانوا جماعة أذن لهم أحدهم وأقام. وألفاظ الأذان قد ثبتت في أحاديث كثيرة، وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص، وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي المزيد، فما ثبت من وجه صحيح مما فيه زيادة تعين قبوله، كتربيع الأذان وترجيع الشهادتين، ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى منها؛ لأنه لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح، كما وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من الأبواب، بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل، وهو مقدم على الترجيح، وقد وقع الإجماع على قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في الأصول، وأدلة إفراد الإقامة أقوى من أدلة تشفيعها، ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة من مخرج صالح للاعتبار، فكان العلم على أدلة التشفيع متعيناً. ( [دخول الوقت شرط لصحة الأذان إلا في الفجر] :) (عند دخول وقت الصلاة) : إلا الأذان للفجر قبل دخول وقتها؛ لما في " الصحيحين " من حديث سالم بن عبد الله، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أنه قال: " إن بلالا يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ". ¬

_ (¬1) كما رواه البخاري (610) ، و (371) ، ومسلم (1365) عن أنس.

وفي " صحيح مسلم " عن سمرة، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يغرنكم نداء بلال، ولا هذا البياض، حتى ينفجر الفجر "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث ابن مسعود، ولفظه: " لا يمنع أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن - أو ينادي - ليرجع قائمكم وينبه نائمكم ". قال مالك: لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر. فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات، وبحديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك؛ فإنها أصل بنفسها، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمة للسنة لكفى في رده، فكيف والفرق قد أشار إليه -[صلى الله عليه وسلم]-؟ ! وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة، التي لا تكون في غير الفجر، وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات؛ امتنع الإلحاق. وأما حديث حماد، عن أيوب (¬1) : فحديث معلول عند أئمة الحديث، لا تقوم به حجة. كذا في " إعلام الموقعين ". وقد أطال ابن القيم في تعليل هذا الحديث، والجواب عنه وعن غيره؛ فليرجع إليه. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ انظر " فتح الباري " (2 / 103) . وتكلم عليه - طويلاً - ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 396) .

متابعة السامع للمؤذن سنة

( [متابعة السامع للمؤذن سنة] :) (ويشرع للسامع أن يتابع المؤذن) : لما قد ثبت في " الصحيح " من حديث أبي سعيد، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا سمعتم النداء؛ فقولوا مثل ما يقول المؤذن ". وفي الباب عن جماعة من الصحابة بنحو هذا. وورد مفصلاً مبيناً من حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله - من قلبه - دخل الجنة "؛ أخرجه مسلم وغيره. وأخرج نحوه البخاري. وقد اختار بعض العلماء الجمع عند الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة، وهو جمع حسن (¬1) ؛ وإن لم يكن متعيناً. ¬

_ (¬1) ما هو الدليل على هذا الجمع؟ ! فإن قيل: حديث ". . فقولوا مثلما يقول "؛ قلت: هذا مجمل، وحديث عمر - المتقدم قريبا - مفصل مبين؛ فلا دليل.

الكلام على الإقامة

( [الكلام على الإقامة] :) (ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة) : أقول: قد ثبت تشفيع الأذان وإيتار الإقامة في " الصحيحين " وغيرهما. وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة. وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها، إلا التكبير في أولها وآخرها، و: قد قامت الصلاة، فإن ذلك يكون مثنى مثنى. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكل سنة، وأيها فعلها المؤذن والمقيم؛ فقد فعل ما هو حق وسنة. قال الماتن في " شرح المنتقى " - بعد ما ذكر اختلاف الناس في ذلك، وأطال في بيانه -: إذا عرفت هذا: تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها، وأحاديث إفراد الإقامة، وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في " الصحيحين "، لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة، فالمصير إليها لازم، لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها. انتهى. ثم اعلم أن هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعات، بل كل مصل عليه أن يؤذن ويقيم، لكن من كان في جماعة كفاه أذان المؤذن لها وإقامته. ثم الظاهر أن النساء كالرجال (¬1) ؛ لأنهن شقائقهم، والأمر لهم أمر لهن، ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن، فإن الوارد في ذلك في ¬

_ (¬1) وفي " صحيح مسلم " (534) ؛ أن ابن مسعود صلى وصاحبان له بغير أذان ولا إقامة.

أسانيده متروكون، لا يحل الاحتجاج بهم، فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك، وإلا فهن كالرجال.

باب شروط الصلاة

(3 - باب شروط الصلاة) (ويجب على المصلي تطهير ثوبه) : (1 -[طهارة الثوب] :) لنص القرآن: {وثيابك فطهر} ، ولقوله [صلى الله عليه وسلم] لمن سأله: هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله؟ فقال: " نعم؛ إلا أن يرى فيه شيئاً، فيغسله "، أخرجه أحمد وابن ماجه، ورجال إسناده ثقات. ومثله عن معاوية، قال: قلت لأم حبيبة: هل كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم يكن فيه أذى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ بإسناد رجاله ثقات. ومنها حديث خلعه [صلى الله عليه وسلم] النعل (¬1) ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، وله طرق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا. ومنها الأدلة المتقدمة في تعيين النجاسات. (2 -[طهارة البدن] :) (وبدنه) : لأنه أولى من تطهير الثوب، ولما ورد من وجوب تطهيره. ¬

_ (¬1) وهذا دليل على الوجوب، لا على الشرطية، ولو كان ذلك شرطاً؛ لكان نقضه مبطلاً للصلاة. وانظر كلام المصنف - بعد -.

طهارة المكان

(3 -[طهارة المكان] :) (ومكانه من النجاسة) : لما ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] من رش الذنوب على بول الأعرابي، ونحو ذلك. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة للصلاة، وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة، وذهب آخرون إلى أنه سنة، والحق الوجوب؛ فمن صلى ملابساً لنجاسة عامداً؛ فقد أخل بواجب، وصلاته صحيحة، والشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط - كما قرره أهل الأصول -؛ لا يصلح للدلالة عليها إلا ما كان يفيد ذلك، مثل نفي القبول، أو نحو: لا صلاة لمن صلى في مكان متنجس، أو النهي عن الصلاة في المكان المتنجس؛ لدلالة النهي على الفساد (¬1) . وأما مجرد الأمر فلا يصلح لإثبات الشروط؛ اللهم إلا على قول من قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فليكن هذا منك على ذُكْر، فإنك إن تفطنت له رأيت العجب في كتب الفقه، فإنهم كثيراً ما يجعلون الشيء شرطاً، ولا يستفاد من دليله غير الوجوب، وكثيراً ما يجعلون الشيء واجباً، ودليله يدل على الشرطية، والسبب الحامل على ذلك: عدم مراعاة القواعد الأصولية والذهول عنها. والحاصل: أن ما دل على الشرطية دل على الوجوب وزيادة، وهو تأثير بطلان المشروط، وما دل على الوجوب لا يدل على الشرطية؛ لأن غاية ¬

_ (¬1) ليس هذا دائماً؛ انظر تفصيل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك في " مجموع الفتاوى " (29 / 284) .

ستر العورة

الواجب أن تاركه يُذم، وأما أنه يستلزم بطلان الشيء الذي ذلك الواجب جزء من أجزائه، أو عارض من عوارضه: فلا. فمن حكم على الشيء بالوجوب، وجعل عدمه موجباً للبطلان، أو حكم على الشيء بالشرطية، ولم يجعل عدمه موجباً للبطلان: فقد غفل عن هذين المفهومين. وفي المقام أدلة مختلفة ومقالات طويلة، ليس هذا محل بسطها. (4 -[ستر العورة] :) (وستر عورته) : لقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} ؛ قلت: الزينة: ما وارى عورتك ولو عباءة، قاله مجاهد، والمسجد: الصلاة، ولما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الأمر بسترها في كل الأحوال، كما في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها "، قلت: فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: " الله - تبارك وتعالى - أحق أن يُستحيا منه "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وعلقه البخاري، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم. ومن ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] لعلي: " لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والبزار؛ وفي إسناده مقال (¬1) . ¬

_ (¬1) هو ضعيف جدا، وانظر " الإرواء " (269) .

ولكنه يعضده حديث محمد بن [عبد الله بن] جحش، قال: مر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على معمر؛ وفخذاه مكشوفتان، فقال: " يا معمر! غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة "، أخرجه أحمد، والبخاري في " صحيحه " تعليقاً، وأخرجه - أيضا - في " تاريخه "، والحاكم في " المستدرك ". وروى الترمذي، وأحمد من حديث ابن عباس مرفوعاً: " الفخذ عورة ". وأخرج نحوه مالك في " الموطأ "، وأحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -، وعلقه البخاري. وقد عارض أحاديث: " الفخذ عورة " أحاديث أخر، وليس فيها إلا أنه [صلى الله عليه وسلم] كشف عن فخذه يوم خيبر أو في بيته، ولا يصلح ذلك لمعارضة ما تقدم. وورد في الركبة ما يفيد أنها تُستر، وما يخالف ذلك. وأما والمرأة؛ فورد حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم؛ وقد روي موقوفاً ومرفوعاً من حديث عائشة، ومن حديث أبي قتادة. ومما يفيد وجوب ستر العورة: أحاديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتق المصلي منه شيء، وفي بعضها: " فليخالف بين طرفيه "، وفي بعضها: " وإن كان ضيقا فاتزر به "، وكلها في " الصحيح "، ولكن ليس فيها ما يستفاد منه الشرطية التي صرح بها جماعة من المصنفين. وحديث الخمار إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية: فهو خاص

أشياء ورد النهي عنها في الصلاة

بالمرأة، وقد عرفت مما سلف أن الذي يستلزم عدمه عدم الصلاة - أي: بطلانها - هو الشرط أو الركن، لا الواجب، فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة، أو صلى بثياب متنجسة؛ كانت صلاته باطلة: فهو مطالب بالدليل، ولا ينفعه مجرد الأوامر بالستر أو التطهير؛ فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب. ( [أشياء ورد النهي عنها في الصلاة] :) (1 -[اشتمال الصماء] :) (ولا يشتمل الصماء) : لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يشتمل الصماء "، وهو في " الصحيحين ". وفي لفظ فيهما: " ... وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى؛ إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه ". وأخرج نحوه الجماعة من حديث أبي سعيد. واشتمال الصماء: هو أن يجلل جسده بالثوب، لا يرفع منه جانباً، ولا يبقى ما يخرج منه يده. (2 -[السدل] :) (ولا يسدل) : لحديث النهي عن السدل في الصلاة؛ وهو عند أحمد وأبي داود، والترمذي، والحاكم في " المستدرك "، وفي الباب عن جماعة من الصحابة.

الإسبال

والسدل: هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، بل يلتحف به، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك. (3 -[الإسبال] :) (ولا يسبل) : لما ورد من الأحاديث الصحيحة من النهي عن إرسال الإزار، والمراد بالإسبال: أن يرخي إزاره حتى يجاوز الكعبين. (4 -[كفت الثوب أو الشعر] :) (ولا يكفت) : لأنه قد ورد النهي عن أن يكفت الرجل ثوبه أو شعره، أما كفت الثوب: فكمن يأخذ طرف ثوبه، فيغرزه في حجزته أو نحو ذلك، وأما كفت الشعر: فنحو أن يأخذ منه خصلة مسترسلة، فيكفتها في شعر رأسه، أو يربطها بخيط إليه، أو نحو ذلك. (5 -[لبس ثوب الحرير] :) (ولا يصلي في ثوب حرير) : والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها يدل على المنع من لبس ثوب الحرير الخالص. وأما المشوب: فالمذاهب في ذلك معروفة؛ فبعض الأحاديث يدل على أنه إنما يحرم الخالص لا المشوب، كحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود (¬1) ، قال: إنما نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن الثوب المصمت من القز. قال ابن عباس: أما السدي والعلم؛ فلا نرى به بأسا. ¬

_ (¬1) وإسناده صحيح.

لبس ثوب الشهرة

وبعضها يدل على المنع، كما وردت في حلة السيراء؛ فإنه غضب لما رأى عليا قد لبسها، وقال: " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمراً بين النساء "، وهو في " الصحيح ". والسيراء - قد قيل -: إنها المخلوطة بالحرير لا الحرير الخالص، وقيل: إنها الحرير الخالص المخطط، وقيل غير ذلك. ولكنه قد ورد في طريق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة؛ فأخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجه (¬1) ، والدورقي هذا الحديث بلفظ: قال علي: أُهدي إلي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حلة مسيرة؛ إما سَداها وإما لُحمتها "؛ فذكر الحديث. (6 -[لبس ثوب الشهرة] :) (ولا ثوب شهرة) : لحديث: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا؛ ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي؛ بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر. وهذا الوعيد يدل على أن لبسه محرم في كل وقت، فوقت الصلاة أولى بذلك. وأما الثوب المصبوغ بالصفرة والحمرة: فالأدلة في ذلك متعارضة؛ فلهذا لم نذكره، وقد أفرده الماتن برسالة مستقلة. ¬

_ (¬1) انظر " صحيح ابن ماجه " (2897) .

لبس الثوب المغصوب

(7 -[لُبس الثوب المغصوب] :) (ولا مغصوب) : لكونه ملك الغير، وهو حرام بالإجماع. (8 -[استقبال عين الكعبة للمشاهد وجهتها للغائب بعد التأكد] :) (وعليه استقبال عين الكعبة إن كان مشاهداً لها أو في حكم المشاهد) وجوباً؛ لأنه قد تمكن من اليقين، فلا يُعدل عنه إلى الظن. والأحاديث المتواترة مصرحة بوجوب الاستقبال، بل هو نص القرآن الكريم: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} ؛ وعلى ذلك أجمع المسلمون، وهو قطعي من قطعيات الشريعة. (وغير المشاهد) ، ومن في حكمه (يستقبل الجهة بعد التحري) : لأن ذلك هو الذي يُمكنه ويدخل تحت استطاعته، ولم يكلفه الله - تعالى - ما لا يطيق، كما صرح بذلك في كتابه العزيز، وقد جعل النبي [صلى الله عليه وسلم] بين المشرق والمغرب قبلة؛ كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي، وابن ماجه. ومثل ذلك ورد عن الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم -، وقد استقبل النبي [صلى الله عليه وسلم] الجهة بعد خروجه من مكة المكرمة، وشرع للناس ذلك. أقول: استقبال القبلة هو من ضروريات الدين، فمن أمكنه استقبال القبلة تحقيقاً: فذلك الواجب عليه، مثل القاطن حولها المشاهد لها، من دون قطع مسافة، ولا تجشم مشقة، ومن لم يكن كذلك: ففرضه استقبال الجهة، وليس المراد من تلك الجهة الكعبة على الخصوص، بل المراد ما أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] من كون بين المشرق والمغرب قبلة.

فمن كان في جهات اليمن وعرف جهة المشرق وجهة المغرب؛ توجه بين الجهتين، فإن تلك الجهة هي القبلة. وكذلك من كان بجهة الشام؛ يتوجه بين الجهتين من دون إتعاب للنفس في تقدير الجهات؛ فإن ذلك مما لم يرد به الشرع ولا كُلّف به العباد. والمحاريب (¬1) المنصوبة في المساجد والمشاهد المعمورة في بلاد المسلمين، الذين لهم عناية بأمر الدين؛ مغنية عن التكلف، وكذلك إخبار العدول المرضيين كافة، فإن من قال: هذه جهة القبلة، أو عمّر محراباً يأوي إليه الناس؛ لا شك أنه قد بلغ من التحري ما يبلغه من أراد تأدية صلاة أو صلوات في مكان من الأمكنة؛ لأن معرفة الجهة التي عرفناك بها من السير ما تراد لمعرفته لكون الجهات الأربع معلومة لكل عاقل. وقد يعرض اللبس في بعض المواطن على بعض الأفراد؛ إما لعدم ظهور ما يهتدي به في ظلمة الليل، أو حيلولة جبال عالية في أرض عالية لا يعرفها، مع تلون طرقها التي قد سلكها، فهذا فرضه أن يمعن النظر في تعريف الجهة، فإذا أعوزه الأمر توجه حيث شاء، هذا في الفرائض، وأما النوافل فقد خفف الشارع فيها وسوغ تأديتها على ظهر الراحلة إلى جهة القبلة وغير جهتها، بل سوّغ تأدية الفريضة في الأرض الندية على ظهر الراحلة، كما تجد ذلك في " المنتقى " و " شرحه ". فهذا خلاصة ما تعبدنا الله به في أمر القبلة، وهو يغنيك عن التفريعات الطويلة والتهويلات المهيلة في كتب الفقه. ¬

_ (¬1) المحاريب المجوفة في جدار القبلة من المحدثات؛ فانظر " السلسلة الضعيفة " (1 / 447) . وللسيوطي رسالة بعنوان " إتحاف الأريب بحدوث بدعة المحاريب "؛ وهي مطبوعة.

باب كيفية الصلاة

(4 - باب كيفية الصلاة) ( [كيفية الصلاة النبوية] :) وهي - على ما تواتر عنه [صلى الله عليه وسلم] ، وتوارثته الأمة -: أن يتطهر، ويستر عورته، ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه، ويتوجه إلى الله - تعالى - بقلبه، ويخلص له العمل، ويقول: " الله أكبر "؛ بلسانه، ويقرأ فاتحة الكتاب، ويضم معها - إلا في ثالثة الفرض ورابعته (¬1) - سورة من القرآن، ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه، حتى يطمئن راكعاً، ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائماً، ثم يسجد على الآراب السبعة: اليدين والرجلين والركبتين والوجه، ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالساً، ثم يسجد ثانيا كذلك، فهذه ركعة، ثم يقعد على رأس كل ركعتين ويتشهد، فإن كان آخر صلاته؛ صلى على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ودعا أحب الدعاء إليه، وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين، فهذه صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمداً من غير عذر في فريضة، وصلاة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة، وهي من ضروريات الملة. نعم؛ اختلف الفقهاء في أحرف منها؛ هل هي أركان الصلاة، لا يعتد ¬

_ (¬1) ويجوز ذلك - أحياناً -؛ انظر " صفة صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] " (113) لشيخنا.

النية شرط للصلاة

بها بدونها، أو واجباتها التي تنقص بتركها، أو أبعاض يُلام على تركها، وتجبر بسجدة السهو،؟ كذا في " الحجة البالغة ". ( [النية شرط للصلاة] :) (لا تكون شرعية إلا بالنية) : لقوله - تعالى -: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} . وروى مالك بإسناده - في غير رواية يحيى بن يحيى (¬1) -، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إنما الأعمال بالنيات ". قلت: وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم. وعندي: أن المقدر في حديث " إنما الأعمال بالنية ": إن كان الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة - أو ما يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك الصلاة شرعية إلا به -: فالنية في مثل الصلاة شرط من شروطها،؛ لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة، وهذه خاصة الشروط. وإن كان المقدّر الكمال أو ما يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية بدونه: فليست النية بواجبة؛ فضلا عن أن تكون شرطا، لكن قد عُرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى الأول؛ لكون الحصر في " إنما " في معنى (ما الأعمال إلا بالنية) ، وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا؛ كما تقرر في علمي المعاني والأصول، والنفي يتوجه إلى المعنى الحقيقي، وهو الذات الشرعية، وانتفاؤها ممكن؛ لأن الموجود في الخارج ذات غير شرعية، وعلى فرض وجود ¬

_ (¬1) هي رواية محمد بن الحسن الشيباني؛ فانظر " موطأه " (983) .

فروض الصلاة تنقسم إلى واجبات وأركان وشروط

مانع عن التوجه إلى المعنى الحقيقي؛ فلا ريب أن الصحة أقرب إلى المعنى الحقيقي من الكمال؛ لاستلزامها لعدم الاعتداد بتلك الذات، وترجيح أقرب المجازيٍ ن متعيِّن. فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط للصلاة؛ أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها. والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره. ( [فروض الصلاة تنقسم إلى واجبات وأركان وشروط] :) (وأركانها كلها مفترضة) : لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها، وتُعدم الصورة المطلوبة بعدمها، وتكون ناقصة بنقصان بعضها، وهي: القيام، فالركوع، فالاعتدال، فالسجود، فالاعتدال، فالسجود، فالقعود للتشهد. وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها، وكان يجعلها قريبا من السواء، - كما ثبت في " الصحيح " عنه -. أقول: وجملة القول في هذا الباب: إنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول، وإرجاع فرع الشيء إلى أصله، أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام: - واجبات: كالتكبير، والتسليم، والتشهد. - وأركان: كالقيام، والركوع، والاعتدال، والسجود، والاعتدال،

والسجود، والقعود للتشهد. - وشروط: كالنية، والقراءة. أما النية: فلما قدمنا. وأما القراءة: فلورود ما يدل على شرطيتها؛ كحديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وحديث: " لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، ونحوها، فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى صحتها؛ أفاد الشرطية؛ إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط، وأصرح من مطلق النفي: النفي المتوجه إلى الإجزاء. والحاصل: أن شروط الشيء يقتضي عدمها عدمه، وأركانه كذلك؛ لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع، وما كان كذلك لا يجزئ؛ إلا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة، كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد، وإن كان الحق خلاف ما قال. وأما الواجبات: فغاية ما يستفاد من دليلها - وهو مطلق الأمر -: أن تركها معصية، لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها. إذا تقرر هذا: لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها، والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور، وهو الحق. وحقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، والمدح على الفعل، والذم على الترك: لا يستلزمان البطلان؛ بخلاف الشرط، فإن حقيقته ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت.

قعود التشهد الأوسط من سنن الصلاة

فاحفظ هذا التحقيق؛ تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفا للتأصيل، وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب، وكثيرا ما تجد العارف بالأصول، إذا تكلم في الفروع؛ ضاقت عليه المسالك، وطاحت عنه المعارف، وصار كأحد الجامدين على علم الفروع؛ إلا جماعة منهم، {وقليل ما هم} ، {وقليل من عبادي الشكور} . ( [قعود التشهد الأوسط من سنن الصلاة] :) (إلا قعود التشهد الأوسط) : لكونه لم يأت في الأدلة ما يدل على وجوبه بخصوصه، كما ورد في قعود التشهد الأخير؛ فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير. فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء، كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة، ولم يذكر فيه التشهد الأخير. قلت: لا تقوم الحجة بمثل ذلك، ولا يثبت به التكليف العام، والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء؛ فقد وردت به الأوامر، وصرح الصحابة بافتراضه، وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء " إيضاحا حسنا؛ فلتراجع. ( [الاستراحة من سنن الصلاة] :) (والاستراحة) : لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها (¬1) ، وذكرها في حديث ¬

_ (¬1) انظر حديث مالك بن الحويرث في " صحيح البخاري " (823) .

تكبيرة الإحرام من واجبات الصلاة

المسيء وهم، كما صرح بذلك البخاري (¬1) . ( [تكبيرة الإحرام من واجبات الصلاة] :) (ولا يجب من أذكارها) : أي: الصلاة (إلا التكبير) ؛ لقوله تعالى: {وربك فكبر} ، ولقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المسيء: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر "، ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير. أقول: تعيين التكبير للدخول في الصلاة؛ محكم صريح؛ لقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يقبل الله صلاة أحدكم، حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر " (¬2) ، وبما تقدم من النصوص، وهي نصوص في غاية الصحة، فردت بالمتشابه من قوله - تعالى - {وذكر اسم ربه فصلى} . ( [مشروعية رفع اليدين] :) قال في " الحجة ": فإذا كبر يرفع يديه إلى أذنيه ومنكبيه، وكل ذلك سنة. انتهى. ¬

_ (¬1) انظر " صحيح البخاري " (6251) ، و " فتح الباري " (2 / 279 و 302) . (¬2) هو قطعة من حديث رفاعة بن رافع بن مالك الزرقي في قصة المسيء صلاته؛ رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم. وليس فيه التصريح بلفظ: " الله أكبر ". ورواه الطبراني في " الكبير " بلفظ: " لا تتم صلاة لأحد من الناس، حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر ". قال في " مجمع الزوائد ": " ورجاله رجال الصحيح ". (ش)

أقول: إن الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواترا لا ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة، واختصت باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها، ومعهم من الصحابة جماهير، ونقل جماعة من الحفاظ أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة، بل اتفقوا عليه. والحاصل: أنه قد نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا إلينا أعداد ركعات الصلاة، فإن لم يثبت بمثل ما ورد فيها مشروعيتها؛ فليس في الدنيا مشروع؛ لأن كثيرا مما وقع الإطباق على مشروعيته، وصار من قطعيات المرويات؛ لم يبلغ ما بلغ إليه نقل الرفع، وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه السنة، لا من قوله [صلى الله عليه وسلم] ، ولا من فعله، ولا عن أصحابه؛ من أقوالهم، ولا من أفعالهم، وقد درج عليها خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وأما حديث البراء، قال: رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا افتتح الصلاة؛ رفع يديه ثم لم يعد: فهو قد تضمن إثبات الرفع عند الافتتاح، ولفظ: ثم لم يعد: قد اتفق الحفاظ عل أنه مدرج من قول يزيد بن أبي زياد، وقد رواه عنه بدونها جماعة من الأئمة منهم: شعبة، والثوري، وخالد الطحان، وزهير، وغيرهم، ومع هذا؛ فالحديث - من أصله - قد أطبق الأئمة على تضعيفه. وكما ثبت الرفع عند الافتتاح: ثبت عند الركوع، وعند الاعتدال منه؛ بأحاديث تقارب أحاديث الرفع عند الافتتاح. وكذلك ثبت الرفع عند القيام من التشهد الأوسط؛ بأحاديث صحيحة؛ كما سيأتي بيانه.

قراءة الفاتحة في كل ركعة شرط للصلاة

( [قراءة الفاتحة في كل ركعة شرط للصلاة] :) (والفاتحة في كل ركعة) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المسيء: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "، وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود: " ثم أقرأ بأم القرآن "، وكذلك في لفظ منه لأحمد، وابن حبان؛ بزيادة: " ثم اصنع ذلك في كل ركعة " - بعد قوله: " ثم اقرأ بأم القرآن " -، فكان ذلك بيانا ل " ما تيسر ". وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء كأحاديث: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وهي صحيحة. ويدل على وجوبها في كل ركعة: ما وقع في حديث المسيء؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] وصف له ما يفعل في كل ركعة، وقد أمره بقراءة الفاتحة، فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة، كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في كل ركعة، بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه [صلى الله عليه وسلم] ، فإنه قال للمسيء: " ثم افعل ذلك في الصلاة كلها "؛ وهو في " الصحيح " من حديث أبي هريرة، قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة، لا في جملة الصلاة، فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة. قال في " الحجة ": وما ذكره النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ الركنية، كقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وقوله: " لا يجزيء صلاة الرجل، حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود "، وما سمى الشارع الصلاة به؛ فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة. انتهى. ( [قراءة الفاتحة ولو مؤتما] :) (ولو كان مؤتما) : فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم؛ لما ورد من

الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام؛ كحديث: " لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب "، ونحوه، ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة على كل مصل. قال في " الحجة البالغة ": " وإن كان مأموما؛ وجب عليه الإنصات والاستماع، فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة، وإن خافت فله الخيرة، فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام. وهذا أولى الأقوال عندي، وبه يجمع بين أحاديث الباب ". انتهى. وفي " تنوير العينين " (¬1) دلائل الجانبين فيه قوية، لكن يظهر بعد التأمل في الدلائل؛ أن القراءة أولى من تركها، فقد عولنا فيه على قول محمد؛ كما نقل عنه صاحب " الهداية "، وتركنا الكلام. وقال ابن القيم في " الأعلام ": ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة الفاتحة فرضا؛ بالمتشابه من قوله - تعالى -: {فاقرؤا ما تيسر منه} ، وليس ذلك في الصلاة، وإنما يدل على قيام الليل، وبقوله للأعرابي: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن "؛ وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة، وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسيء في قراءتها، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها، فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه، فلا يترك الصريح. انتهى. ¬

_ (¬1) سيأتي - من كلام المصنف - أنه للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي. وانظر " الثقافة الإسلامية في الهند " (104 و 119) .

وقال في " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء " (¬1) : روى البيهقي عن يزيد بن شريك، أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب، فقلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت ". قلت: روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر الكوفيين: أن المأموم لا يقرأ شيئا. والجمع - أن القبيح - في الأصل - أن ينازع الإمام في القرآن، وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك، ثم إن اشتغال المأموم بمناجاة ربه مطلوب، فتعارضت مصلحة ومفسدة، فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا تخدشها مفسدة فليفعل، ومن خاف المفسدة ترك، والله تعالى أعلم. انتهى. أقول: الأوجه هو الإتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام، كما تشهد له أدلة السنة الصريحة من دون تعارض، والأمر بالإنصات في قوله - تعالى -: {أنصتوا} عام يتناول فاتحة الكتاب وغيرها، وكذلك حديث: " وإذا قرأ فأنصتوا " - وإن كان فيه مقال (¬2) ؛ لا ينتهض معه للاستدلال، وعلى فرض انتهاضه؛ فغاية ما فيه أنه اقتضى أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على المؤتم، ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها. وأما حديث: " خلطتم علي ": فلا يشك عارف أن خلط المؤتم على ¬

_ (¬1) لولي الله الدهلوي؛ وهو مطبوع باللغة الفارسية. وانظر " السنن الكبرى " (2 / 167) للبيهقي. (¬2) والصواب صحته؛ انظر تعليقي على " علل أحاديث صحيح مسلم " (رقم 10) لابن عمار الشهيد.

التشهد الأخير من واجبات الصلاة

إمامه إنما يكون إذا قرأ المؤتم جهرا، وأما إذا قرأ سرا فلا خلط، وكذلك المنازعة لا تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم. وأما حديث جابر في هذا الباب: فهو من قوله، ولم يرفعه إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]- كما في " الترمذي " " والموطأ " وغيرهما -، وقول الصحابي لا تقوم به حجة (¬1) ، فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة المؤتم خلف الإمام حال قراءته؛ إلا الآية الكريمة، وحديث: " إذا قرأ فأنصتوا "، وهما عامان كما عرفت، يتناولان فاتحة الكتاب وغيرهما، والعام معرض للتخصيص، والمخصص ههنا موجود، وهو حديث عبادة بن الصامت، وهو حديث صحيح. وبناء العام على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول، فلا معذرة عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام، ولا سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في كل ركعة من ركعات صلاته (¬2) . ( [التشهد الأخير من واجبات الصلاة] :) (والتشهد الأخير) : واجب؛ لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة، وألفاظه معروفة، وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة، وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر. والحق الذي لا محيص عنه: أنه يجزئ للمصلي أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من مخرج صحيح، وأصحها التشهد الذي علمه ¬

_ (¬1) بل هو حجة عدم وجود المخالف؛ وأثر جابر المذكور صحيح سنده - كما في " السلسلة الضعيفة " (2 / 420) - ولفظه: " من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل؛ إلا وراء الإمام ". (¬2) المسألة فيها خلاف كبير جدا بين العلماء قديما وحديثا.

ذكر ألفاظ التشهد

النبي [صلى الله عليه وسلم] ابن مسعود، وهو ثابت في " الصحيحين " وغيرهما من حديثه، بلفظ: " التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله "، وفي بعض ألفاظه: " إذا قعد أحدكم فليقل ... ". ( [ذكر ألفاظ التشهد] :) قال في " الحجة البالغة ": وجاء في التشهد صيغ، أصحها تشهد ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -، ثم تشهد ابن عباس، وعمر - رضي الله تعالى عنهما - وهي كأحرف القرآن؛ كلها كاف وشاف. انتهى. قلت: اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود، والشافعي تشهد ابن عباس، ومالك تشهد عمر، واختلافهم في المختار لا في الإجزاء. كذا في " المسوى ". وأما الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] التي يفعلها المصلي في التشهد: فقد وردت بألفاظ، وكل ما صح منه أجزأ، ومن أصح ما ورد؛ ما ثبت في " الصحيح " بلفظ: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد "؛ وزاد في " الحجة ": " اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " انتهى. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": وما ينبغي أن يعلم: أن التشهد وألفاظ الصلاة

على النبي [صلى الله عليه وسلم] وآله - عليهم السلام -؛ كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر. وتخصيص بعضها دون بعض - كما يفعله بعض الفقهاء - قصور باع وتحكم محض، وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بإجزاء غيره: فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات، وهو من صنيع المهرة بعلم الاستدلال والأدلة. انتهى. وقال في موضع آخر: التشهدات الثابتة عنه [صلى الله عليه وسلم] موجودة في كتب الحديث، فعلى من رام التمسك بما صح عنه [صلى الله عليه وسلم] أن ينظرها في دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة، ويختار أصحها ويستمر عليها، أو يعمل تارة بهذا وتارة بهذا؛ مثلا يتشهد في بعض الصلوات بتشهد ابن مسعود، وفي بعضها بتشهد ابن عباس، وفي بعضها بتشهد غيرهما، فالكل واسع، والأرجح هو الأصح، لكن كونه الأصح؛ لا ينافي إجزاء الصحيح. انتهى. قلت: عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة، وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في باب التشهد، وأن التشهد الأول ليس محلا لها. وذهب الشافعي - وحده - إلى وجوبها في التشهد الأخير، فإن لم يصل لم تصح صلاته (¬1) ، وإلى استحبابها في التشهد الأول. ¬

_ (¬1) هذا هو الحق؛ فإن الله - تعالى - أمرنا بالصلاة على النبي بقوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} ، وسأله الصحابة عن الصلاة التي أمروا بها عليه؟ فعلمهم صيغة الصلاة المعروفة على اختلاف رواياتها، ففهموا - إذا - من الآية أن الأمر بالصلاة عليه إنما هو عقيب التشهد، وأقرهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على ذلك، وواظبوا عليه، وكان الوحي ينزل بين أظهرهم، وتلقينا ذلك بالتواتر العملي عنهم، فكان سؤالهم وبيانه لهم، ثم مواظبتهم على ما أمروا؛ تفسيرا للأمر الوارد في القرآن وهو من أقوى الأدلة على الوجوب. (ش)

وجوب التعوذ من أربع

( [وجوب التعوذ من أربع] :) وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع؛ كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ". وورد نحو ذلك من حديث عائشة، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد، ثم يتخير المصلي بعد ذلك من الدعاء أعجبه، كما أرشد إلى ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . قال في " الحجة ": وورد في صيغ الدعاء في التشهد: " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ". وورد: " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ". ( [التسليم من واجبات الصلاة] :) (والتسليم) : وهو واجب؛ لكون النبي [صلى الله عليه وسلم] جعله تحليل الصلاة، فلا تحليل لها إلا به، فأفاد ذلك وجوبه، وإن لم يذكر في حديث المسيء. قال في " الحجة ": " وجب أن لا يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو

أحسن كلام الناس، أعني: السلام، وأن يوجب ذلك ". انتهى. قال ابن القيم: " إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي [صلى الله عليه وسلم] التي رواها خمس عشرة نفسا من الصحابة: أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: " السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله "؛ منهم عبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن سمرة، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، ووائل بن حجر، وأبو مالك الأشعري، وعدي بن عميرة الحضرمي، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رمثة، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها، واردة في تسليمة واحدة ". انتهى. وقد أطال في الجواب عنها إلى خمسة أوراق (¬1) ، فليرجع إليه. قلت: وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله، واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ رواه أبو داود، والترمذي، ولفظه: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يسلم عن يمينه: " السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر "، رواه النسائي، وأحمد، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم. وفي الباب عن سهل بن سعد، وحذيفة، ومغيرة بن شعبة، وواثلة بن ¬

_ (¬1) كذا {} والصواب: خمس أوراق ... وللمصنف - رحمه الله - من هذا الوهم كثير.

الأسقع، ويعقوب بن الحصين (¬1) . ووقع في " صحيح ابن حبان " من حديث ابن مسعود زيادة: " وبركاته "، وهي عند ابن ماجة أيضا، وعند أبي داود أيضا في حديث وائل بن حجر. فالعجب من ابن الصلاح؛ كيف يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث؛ إلا في رواية وائل بن حجر؟ {كذا في " التلخيص ". وقال مالك: يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة: السلام عليكم؛ لا يزيد على ذلك، ويستحب للمأموم أن يسلم ثلاثا: عن يمينه، وعن شماله، وتلقاء وجهه؛ يردها على إمامه. كذا في " المسوى ". أقول: وورود التسلمية الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه زيادة عليها، وهي أحاديث التسليمتين؛ لما عرفناك غير مرة أن الزيادة التي لم تكن منافية يجب قبولها، فالقول بتسليمتين إعمال لجميع ما ورد، بخلاف القول بتسليمة فإنه إهدار لأكثر الأدلة بدون مقتض. وأما كون التسليم واجبا أو غير واجب فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء، وأنه لا وجوب لغير ما لم يذكر فيه؛ إلا أن يثبت إيجابه بعد تاريخ حديث المسيء إيجابا، لا يمكن صرفه بوجه من الوجوه (¬2) . ¬

_ (¬1) انظر " التلخيص الحبير " (1 / 271) . (¬2) لا نسلم هذا؛ فإن حديث المسيء اختلفت رواياته كثيرا، وهو حديث صحيح، وبعض الرواة يزيد فيه ما تركه غيره، وقد يصح دليل على بعض الواجبات في الصلاة، وهي زيادة من ثقة، فتكون مقبولة، ولعلنا لم نطلع على جميع ألفاظ حديث المسيء} أو لعل بعض الرواة نسي منه شيئا! فلا يجوز رد ما يصح دليله بهذا الحصر. (ش)

وجوب الطمأنينة في الصلاة

( [وجوب الطمأنينة في الصلاة] :) وأما الطمأنينة في حال الركوع والسجودين: فلا خلاف في ذلك. وأما في حال الاعتدال من الركوع وبين السجدتين: فخالف في ذلك قوم، والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في الموطنين؛ بل المشروع إطالتهما، وقد ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] ما يدل على ذلك، كما في حديث البراء: أنه حزر أركان صلاته [صلى الله عليه وسلم] ، وعد من جملتها الاعتدال من الركوع، والاعتدال بين السجدتين، فوجدها قريبا من السواء؛ وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما يلبث في الركوع والسجود، وثبت أنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقف في اعتداله من الركوع كاعتداله من السجود، حتى يظن من رآه أنه قد نسي؛ لإطالته لهما، وثبت من أدعية فيهما ما يدل على طولهما. فالحاصل: أن أصل الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين: ركن من أركان الصلاة لا تتم بدونه. وأما طول اللبث زيادة عن الاطمئنان: فمن السنن المؤكدة؛ لأنه لم يذكر في حديث المسيء، وقد صارت هذه السنة متروكة في الاعتدال إلى غاية؛ بل صار الاطمئنان فيهما مما يقل وجوده، وما أحق من نازعته نفسه إلى اتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلا من ركوعه، ومعتدلا من سجوده، ويدعو بالأدعية المأثورة فيهما، ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه في الركوع والسجود {فذلك هو السنة التي لا يجهل ورودها إلا جاهل} والله المستعان.

سنن الصلاة

( [سنن الصلاة] :) (وما عدا ذلك فسنن) : لأنه لم يرد فيها ما يفيد وجوبها من أمر بالفعل، أو نهي عن الترك، غير مصروفين عن المعنى الحقيقي، أو وعيد شديد يفيد الوجوب، ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء؛ إلا على وجه لا تقوم به الحجة، أو تقوم به، وقد ورد ما يفيد أنه غير واجب. والحاصل: أن مرجع واجبات الصلاة كلها هو حديث المسيء، فما ذكره [صلى الله عليه وسلم] فيه كان واجبا، وما لم يذكره فليس بواجب، لكن قد تشعبت روايات حديث المسيء، وثبت في بعضها ما لم يثبت في البعض الآخر، فعلى من أراد تحقيق الحق؛ أن يجمع طرقه الصحيحة (¬1) ، ويحكم بوجوب ما اشتملت عليه، أو شرطيته، أو ركنيته؛ بحسب ما يقتضيه الدليل، وما خرج عنه خرج عن ذلك. وقد جمع ما صح من طرقه شيخنا الحافظ الرباني العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " في موضع واحد منه؛ فمن رام ذلك فليرجع إليه (¬2) . ( [الرفع في المواضع الأربعة] :) (وهي الرفع في المواضع الأربعة) ؛ أي: عند تكبيرة الإحرام، وعند ¬

_ (¬1) وقد جمع طرقه أخونا الفاضل الشيخ محمد عمر بازمول - حفظه الله - في جزء مفرد. (¬2) ثم ما يؤمننا أن تكون هناك روايات فيه لم نطلع عليها، فقدت فيما فقد من كتب العلم، أو نسيها الرواة فلم يذكروها. والحق ما قلناه: أنه لا عبرة بالحصر الذي فيه؛ لأجل هذا الاحتمال، فإن صح الدليل على شيء آخر؛ وجب الأخذ به. (ش)

الركوع، وعند الاعتدال من الركوع، هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة، والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة، فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة. أما عند التكبير فقد روي ذلك عن النبي [صلى الله عليه وسلم] نحو خمسين رجلا من الصحابة، منهم العشرة المبشرة بالجنة، ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء. وقال الشافعي: روى الرفع جمع من الصحابة، لعله لم يرد قط حديث بعدد أكثر منهم. وقال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يرفع يديه. وقال البخاري في " جزء رفع اليدين ": روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة. وسرد البيهقي في " السنن " وفي " الخلافيات " أسماء من روى الرفع؛ نحوا من ثلاثين صحابيا. وقال الحسن، وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يرفعون أيديهم، ولم يستثن أحدا منهم. كذا في " التلخيص ". وقال النووي في " شرح مسلم ": إنها أجمعت على ذلك عند تكبيرة

الإحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك، وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري، وأبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابوري، والأوزاعي، والحميدي، وابن خزيمة (¬1) . وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه: فقد رواه زيادة على عشرين رجلا من الصحابة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] . وقال محمد بن نصر المروزي: إنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة. وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة: فهو ثابت في " الصحيح " من حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، وصححه أيضا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-. وفي " حجة الله البالغة ": فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه، وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، وهو من الهيئات التي فعلها النبي [صلى الله عليه وسلم] مرة وتركها أخرى، والكل سنة، وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة، وأهل الكوفة، ولكل واحد أصل أصيل، والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سنة، ¬

_ (¬1) وهو ظاهر كلام الشافعي في " الأم " في كتاب " اختلاف مالك والشافعي ". وسيذكره الشارح نقلا عن ابن الجوزي في آخر المسألة. (ش)

ونظيره الوتر بركعة واحدة، أو بثلاث، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع؛ فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت، غير أنه لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور، أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده، وهو قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة "؛ ولا يبعد أن يكون ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ظن أن السنة المتقررة آخرا هو تركه لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدىء به في الصلاة، أو لما تلقن من أنه فعل ينبيء عن الترك، فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة، ولم يظهر له أن تجديد التنبيه لترك ما سوى الله - تعالى - عند كل فعل أصلي من الصلاة مطلوب. والله - تعالى - أعلم. قوله: لا يفعل ذلك في السجود؛ أقول: القومة شرعت فارقة بين الركوع والسجود، فالرفع معها رفع للسجود، فلا معنى للتكرار. انتهى بحروفه. وفي " التكميل " للشيخ رفيع الدين الدهلوي - ولد صاحب " الحجة البالغة " -: اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة (¬1) ، مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب، ولا بيان فضيلة، ولا نهي الصحابة عنه قط، وعلى أنه ثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] فعله مدة، إلا أنه زاد ابن مسعود، فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ ! فلم يرفع يديه إلا في أول مرة، وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا، وإنما أراد تركه آخرا، كما يشعر به بعض ما ينقل عنه أن آخر الأمرين ترك الرفع، ولا يدرى مدة الترك، فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف، فظن قوم أن سنيته كانت بمجرد الفعل، فبطلت ¬

_ (¬1) أي: تكبيرة الإحرام.

بالترك، وقوم أن الترك بعذر، وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام للفرض بالعذر؛ فهي - إذا - باقية، فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه، وإن منعه بعض المتعصبة؛ إذ ليس مما يخالف أفعال الصلاة؛ لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين، فلا نكير على فاعله لأحد، بل في بقاء سنيته بناء على الظن، فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان، وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة، ولم يتعرض [صلى الله عليه وسلم] لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام؛ حيث قال: " ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ ! "؛ وهو [صلى الله عليه وسلم] كان يرى خلفه كما يرى أمامه، فثبت بقاء سنيته. وتركه [صلى الله عليه وسلم] أحيانا؛ كما رواه ابن مسعود، والبراء بن عازب، وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده. ولم يبلغ أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - خبر هذا الجمع، إنما روى له الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -، فرجح عليه أبو حنيفة حمادا، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود: بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ، فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر؛ حيث لم يرفع إلا في التحريمة؛ بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وما يذكر (¬1) عن الشافعي من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد. انتهى. وفي " تنوير العينين " للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي - حفيد ¬

_ (¬1) • يشير به إلى ضعف هذه الرواية، وقد صرح الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية ببطلان ذلك، فلا يركن إليها. (ن)

صاحب " حجة الله البالغة " -: " إن رفع اليدين عند الافتتاح، والركوع، والقيام منه، والقيام إلى الثالثة سنة غير مؤكدة من سنن الهدى، فيثاب فاعله بقدر ما فعل، إن دائما فبحسبه، وإن مرة فبمثله، ولا يلام تاركه وإن تركه مدة عمره. وأما الطاعن العالم بالحديث - أي: من ثبت عنده الأحاديث المتعلقة بهذه المسالة -: فلا إخاله إلا فيمن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ونريد بسنة الهدى ههنا فعل غير فرض، وغير مختص بالنبي -[صلى الله عليه وسلم]- فعله هو والخلفاء الراشدون - رضي الله تعالى عنهم -، أو أمروا به وأقروا عليه؛ قربة، ولم ينسخ ولم يترك بالإجماع، وبغير المؤكدة: ما فعلوه مرة وتركوه أخرى. فبقولنا: فعل؛ خرج به عدم الرفع، فإن العدم ليس بفعل، نعم؛ إذا كان العدم مستمرا في زمان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- والخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم -، فقطعه يكون بدعة، وليس في مفهوم البدعة إزالة السنة حتى يلزم كون العدم سنة، بل مفهومها فعل لم يفهم في زمنهم. وبقولنا: غير فرض؛ خرجت الفرائض كلها. وبقولنا: غير مختص؛ خرجت النوافل المختصة به -[صلى الله عليه وسلم]-؛ كالوصال في الصوم. وبقولنا: لم ينسخ؛ خرجت السنن المنسوخة؛ كالقيام للجنازة. وبقولنا: لم يترك بالإجماع؛ خرجت السنن المتروكة به كالرفع بين السجدتين. انتهى.

وفيما لا بد منه أن رفع اليدين عند الإمام الأعظم ليس بسنة، ولكن أكثر الفقهاء والمحدثين يثبتونه. انتهى. وفي " سفر السعادة ": إن الأخبار والآثار التي رويت في هذا الباب تبلغ إلى أربع مئة. انتهى. قال شارحه الشيخ عبد الحق الدهلوي: " إن الرفع وعدم الرفع كلاهما سنة ". انتهى. وقد مر الجواب عنه. وفي " سفر السعادة " - العربي (¬1) -: " وقد ثبت رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة، ولكثرة رواته؛ شابه المتواتر، فقد صح في هذا الباب أربع مئة خبر وأثر؛ رواه العشرة المبشرة، ولم يزل على هذه الكيفية حتى رحل عن هذا العالم، ولم يثبت غير هذا. انتهى بعبارته. ونقل ابن الجوزي في " نزهة الناظر للمقيم والمسافر "، عن المزني، أنه قال: سمعت الشافعي يقول: لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في رفع اليدين في افتتاح الصلاة، وعند الركوع، والرفع من الركوع أن يترك الاقتداء بفعله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وهذا صريح في أنه يوجب ذلك ". انتهى. وبالجملة: فقد ثبت رفع اليدين في المواضع الأربعة المذكورة بروايات صحيحة ثابتة، وآثار مرضية راجحة، ومذاهب حقة صادقة عن النبي - ¬

_ (¬1) أي: النسخة العربية، لا الأردية!

الضم

[صلى الله عليه وسلم]-، وعن كبراء الصحابة، وعظماء العلماء والفقهاء والمجتهدين، بحيث لا يشوبها نسخ ولا تعارض، حتى ادعى بعضهم التواتر، ولا أقل من أن تكون مشهورة. كذا في " التنوير ". 2 -[الضم] : (والضم) لليدين؛ أي: اليمنى على اليسرى حال القيام، إما على الصدر، أو تحت السرة، أو بينهما؛ بأحاديث تقارب العشرين في العدد، ولم يعارض هذه السنن معارض، ولا قدح أحد من أهل العلم بالحديث في شيء منها، وقد رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] نحو ثمانية عشر صحابياً، حتى قال ابن عبد البر: إنه لم يأت فيه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] خلاف. وفي " تنوير العينين ": " إن وضع اليد على الأخرى أولى من الإرسال؛ لأن الإرسال لم يثبت عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، ولا عن أصحابه، بل ثبت الوضع بروايات صحيحة ثابتة عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وعن أصحابه - رضي الله تعالى عنهم -، كما روى مالك في " الموطأ "، والبخاري في " صحيحه " عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة "؛ قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] . وروى الترمذي عن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه، قال الترمذي: وفي الباب عن وائل بن حجر، وغطيف بن الحارث، وابن عباس، وابن مسعود، وسهل بن سعد. قال أبو عيسى: حديث هلب حديث حسن.

والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] والتابعين ومن بعدهم: يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة. ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة. ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم ". انتهى. وكذلك أخرج مسلم عن وائل بن حجر، وابن مسعود. والنسائي عن وائل بن حجر. والبخاري، والحاكم عن علي. وابن أبي شيبة عن غطيف بن الحارث، وقبيصة بن هلب عن أبيه، ووائل بن حجر، وعلي، وأبي بكر الصديق، وأبي الدرداء، أنه قال: من أخلاق النبيين: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وعن الحسن، أنه قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة " (¬1) . وهكذا أخرج عن أبي مجلز، وأبي عثمان النهدي، ومجاهد، وأبي الجوزاء. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (1 / 390) ؛ وهو ضعيف - لإرساله -، وفيه يوسف بن ميمون، وهو ضعيف.

وأما ما روي من الإرسال عن بعض التابعين - من نحو الحسن، وإبراهيم، وابن المسيب، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، كما أخرجه ابن أبي شيبة -: فإن بلغ عندهم حديث الوضع؛ فمحمول على أنه لم يحسبوه سنة من سنن الهدى، بل حسبوه عادة من العادات، فمالوا إلى الإرسال؛ لأصالته مع جواز الوضع، فعملوا بالإرسال بناء على الأصل؛ إذ الوضع أمر جديد يحتاج إلى الدليل، وإذ لا دليل لهم؛ فاضطروا إلى الإرسال، لا أنه ثبت عندهم الإرسال، وإلى ذلك يشير قول ابن سيرين حيث سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله؟ قال: إنما فعل ذلك من أجل الدم. كما أخرج ابن أبي شيبة. وأما ما أخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه! فهي رواية شاذة مخالفة لما روى الثقات عنه. كما أخرج أبو داود عن زرعة بن عبد الرحمن، قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة. وإن سُلّم كونها صحيحة؛ فهذه فعله، والفعل لا عموم له، ورواية الوضع عنه مرفوعة لأنه نسبه إلى السنة، وقول الصحابي: من السنة؛ في حكم الرفع، كما حُقق في كتب أصول الحديث. ومع هذا لعله لم ير الوضع من سنن الهدى، وفهم الصحابي ليس بحجة - كما مضى -، لا سيما إذا كان مخالفاً لأجله الصحابة، كأميري المؤمنين أبي بكر الصديق، وعلي المرتضى، وابن عباس، وابن مسعود، وسهل بن سعد، ونحوهم.

على أنها مخالفة للأحاديث المرفوعة المشهورة، وأعمال الصحابة المستفيضة في باب الوضع، فينبغي أن لا يعوّل عليها، وتسقط على الاعتبار ولا يلتفت إليها. وأما مالك بن أنس: فقد اضطربت الروايات عنه: فالمدنيون من أصحابه رووا عنه أمر الوضع مطلقاً، سواء كان في الفرض أو النفل، كما يشهد به حديث " الموطأ " عن سهل بن سعد، وأثره عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري. والمصريون من أصحابه رووا عنه الإرسال في الفرض والوضع في النفل. وعبد الرحمن بن القاسم روى عنه الإرسال مطلقاً. وروى أشهب عنه إباحة الوضع. وتلك الروايات - أي: روايات المصريين وابن القاسم عنه - وإن عمل بها المتأخرون من المالكية، لكنها روايات شاذة مخالفة لرواية جمهور أصحابه، فلا تخرق الإجماع والاتفاق، ولا تصادم ما ادعينا من الإطباق، ولكونها شاذة أولها ابن الحاجب في " مختصره في الفقه " بالاعتماد على الأرض إذا رفع رأسه من السجدة ونهض إلى القيام. ووضع اليدين تحت السرة وفوقها متساويان؛ لأن كلا منهما مروي عن أصحاب النبي -[صلى الله عليه وسلم]-:

أخرج أبو داود، وأحمد، وابن أبي شيبة عن علي (¬1) : السنة وضع الكف في الصلاة تحت السرة. رواه رزين وغيره. في " سفر السعادة ": وضع الكف تحت الصدر في " صحيح ابن خزيمة ". قال الترمذي: رأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم؛ كما ذكرناه سابقا. وقال الشيخ ابن الهمام: " ولم يثبت حديث صحيح يوجب (¬2) العمل في كون الوضع تحت الصدر، وفي كونه تحت السرة، والمعهود من الحنفية هو كونه تحت السرة، وعن الشافعية تحت الصدر، وعند أحمد قولان كالمذهبين، والتحقيق المساواة بينهما؛ كما ذكرنا سابقا، والله - تعالى - أعلم بأحكامه ". انتهى. وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " بعد تخريج الأخبار والآثار في وضع اليمنى على اليسرى: رُدّت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحب إليّ! ولا أعلم شيئاً ردت به سواه. انتهى. ¬

_ (¬1) هو ضعيف - كما ستأتي الإشارة إليه -. (¬2) • أقول: بلى، قد ورد ما يدل صريحاً على أن السنة الوضع على الصدر؛ عند الإمام أحمد بسند قوي، كما ذكره العلامة المحقق عبد العظيم آبادي في " غنية الألمعي "، وغيره في غيره، فيجب المصير إليه، وأما قول علي المذكور؛ فضعيف باتفاق المحدثين، فلا يعتمد عليه. (ن) أقول: قوة سنده بالشواهد، وللسندي رسالة بعنوان " فتح الغفور في تحقيق وضع اليدين عند الصدور "، وهي مطبوعة.

التوجه بعد تكبيرة الإحرام

وفي " حاشية الشفاء ": " ومن الغرائب أنها صارت في هذه الديار، وفي هذه الأعصار - عند العامة ومن يشابههم، ممن يظن أنه قد ارتفع عن طبقتهم - من أعظم المنكرات، حتى إن المتمسك بها يصير في اعتقاد كثير في عداد الخارجين عن الدين، فترى الأخ يعادي أخاه، والوالد يفارق ولده، إذا رآه يفعل واحدة منها - أي: من هذه السنن -، وكأنه صار متمسكاً بدين آخر، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل النفس، أو يعق أحد أبويه، أو يشهد الزور، أو يحلف الفجور: لم يجر بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسك بهذه السنن أو ببعضها، لا جرم هذه علامات آخر الزمان، ودلائل حضور القيامة وقرب الساعة ". انتهى. والإشارة بقوله: " بهذه السنن "؛ إلى رفع اليدين في المواضع الأربعة، وضم اليدين في الصلاة. قال: وأعجب من فعل العامة الجهلة وأغرب: سكوت علماء الدين وأئمة المسلمين عن الإنكار على من جعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتلاعب بالدين وبسنة سيد المرسلين. انتهى. (3 -[التوجه بعد تكبيرة الإحرام] :) (والتوجه) : فقد وردت فيه أحاديث بألفاظ مختلفة، ويجزئ التوجه بواحد منها، إذا خرج من مخرج صحيح، وأصحها الاستفتاح المروي من حديث أبي هريرة، وهو في " الصحيحين " وغيرهما، بل قد قيل: إنه تواتر لفظاً، وهو: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب،

اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ". قال في " الحجة ": " وقد صح في ذلك صيغ منها: " اللهم باعد بيني. . " إلى آخره، ومنها: " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا، شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " (¬1) ومنها: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك "، ومنها: " الله أكبر كبيراً - ثلاثاً -، والحمد لله كثيراً - ثلاثاً -، وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - ". والأصل في الاستفتاح حديث علي - في الجملة -، وأبي هريرة، وعائشة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم، وحديث عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة، وثوبان، وكعب بن عجرة في سائر المواضع، وغير هؤلاء ". انتهى ملخصاً. قلت: ذهب الشافعي في دعاء الافتتاح إلى حديث علي - رضي الله تعالى عنه -: " إني وجهت وجهي ... " الخ. وأبو حنيفة إلى حديث عائشة: " سبحانك اللهم وبحمدك ... " الخ. وقال مالك: لا نقول شيئاً من ذلك. ¬

_ (¬1) الوارد في الحديث في التوجه: " وأنا من المسلمين "؛ لأن حكاية لفظ الآية غير مراد؛ فإن إبراهيم قال: {وأنا أول المسلمين} ، ولكن لا يقولها كل فرد منهم. (ش) قلت: انظر تعليق شيخنا على هذا في " صفة الصلاة " (92) ، وترجيحه الجواز.

التعوذ قبل القراءة

ومعنى قوله عندي؛ أنه ليس بسنة لازمة. وأشار البغوي إلى أن الاختلاف في أذكار الصلاة من دعاء الافتتاح، وذكر الركوع والسجود، وما بعد التشهد - بين الأئمة - من الاختلاف المباح. فذكر كل أصح ما عنده، وليس أحد ينكر ما عند الآخر. (بعد التكبيرة) : لأنه لم يأت في ذلك خلاف عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، بل كل من روى عنه الاستفتاح روى أنه بعد التكبيرة، ولم يأت في شيء أنه توجه قبلها، وقد أوضح ذلك العلامة الشوكاني في " حاشية الشفاء ". وأما ما يتوجه به: فهو الذي ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]- وفيه الصحيح والأصح، والوقوف على ذلك ممكن بالنظر في مختصر من مختصرات الحديث، وسبحان الله وبحمده {ما فعلت هذه المذاهب بأهلها؟} (4 -[التعوذ قبل القراءة] :) (و) أما (التعوذ) : فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يفعله بعد الاستفتاح قبل القراءة؛ ولفظه: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "؛ كما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " من حديث أبي سعيد الخدري. قال في " الحجة ": ثم يتعوذ؛ لقوله - تعالى -: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ، وفي التعوذ صيغ؛ منها: " أعوذ بالله من

الشيطان الرجيم "، ومنها: " أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم " (¬1) ، ثم يبسمل سرا؛ لما شرع الله - تعالى - لنا من تقديم التبرك باسم الله - تعالى - على القراءة، ولأن فيه احتياطاً، إذ قد اختلفت الرواية؛ هل هي آية من الفاتحة أم لا؟ فقد صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه كان يفتتح الصلاة؛ أي: القراءة ب {الحمد لله رب العالمين} ، ولا يجهر ب {بسم الله الرحمن الرحيم} . انتهى. أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات: الأولى: في كونها قرآنا في كل سورة أم لا؟ الثانية: في قراءتها في الصلاة، أو سرا في السرية وجهراً في الجهرية؟ ولأهل العلم في كل طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة، والقراء؛ منهم من يقرؤها في أول كل سورة، ومنهم من لا يقرؤها. وقد أورد شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. والحاصل: أن الحق ثبوت قراءتها، وأنها آية من كل سورة، وأنها تُقرأ في الصلاة؛ جهراً في الجهرية وسرا في السرية، وأحاديث عدم سماع جهره [صلى الله عليه وسلم] بها؛ وإن كانت صحيحة؛ فالجمع بينها وبين أحاديث الجهر ممكن؛ بأن يُحمل نفي من نفى على أنه عرض له مانع من سماعها، فإن وقت قراءة ¬

_ (¬1) وورد - أيضا -: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ". أما هاتان الصيغتان فلا دليل عليهما! وانظر " صفة الصلاة " (ص 95) .

التأمين

الإمام لها وقت اشتغال المؤتم بالدخول في الصلاة، والإحرام والتوجه، وتكبير القائمين إلى الصلاة، ورواة الإسرار هم مثل أنس وعبد الله بن مغفل، وهم - إذ ذاك - من صغار الصحابة، قد لا يقفون في الصفوف المتقدمة لأنها موقف كبار الصحابة، كما ورد الدليل بذلك. وعلى كل تقدير: فالمثبت مقدم على النافي، وأحاديث الجهر و - إن كانت غير سليمة من المقال -؛ فهي قد بلغت في الكثرة إلى حد يشهد بعضها لبعض، مع كونها معتضدة بالرسم في المصاحف، وهو دليل علمي - كما قاله العضد وغيره -، فقد وافقت سائر الآيات القرآنية في ذلك، فالظاهر مع من قال بأن صفتها وصفة سائر الآيات متفقة. وأما ما في " تنوير العينين " من أن ترك الجهر بالتسمية أولى من الجهر بها؛ لأن رواية ترك جهره أكثر وأوضح من جهره (¬1) . انتهى: فقد دفعه ما تقدم آنفاً. (5 -[التأمين] :) (و) أما (التأمين) : فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثاً، وربما تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمّن إمامه، كما في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " إذا أمّن الإمام فأمنوا "؛ فيكون ما في المتن مقيدا بغير المؤتم إذا أمّن إمامه. وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم. ¬

_ (¬1) هذا هو الصواب، فانظر تعليقات شيخنا الألباني على " التنكيل " (1 / 146 - 147) للمعلمي.

ومما يؤكد مشروعيته: أن فيه إغاظة لليهود؛ لما أخرجه أحمد، وابن ماجه (¬1) ، والطبراني من حديث عائشة مرفوعاً: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: آمين ". قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " السنة المحكمة الصحيحة؛ الجهر بآمين في الصلاة؛ كقوله في " الصحيحين ": " إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له "، ولولا جهره بالتأمين؛ لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين. وأصرح من هذا؛ حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حُجْر بن عنبس، عن وائل بن حجر، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا قال: {ولا الضالين} ؛ قال: " آمين "، ورفع بها صوته. وفي لفظ: وطول بها؛ رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح. وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث، فقال: وخفض بها صوته. وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان؛ فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل في هذا الباب؛ أصح من حديث شعبة، وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال: عن حجر أبي العنبس {وإنما كنيته: أبو السكن، وزاد فيه: عن علقمة ابن وائل} وإنما هو: حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر؛ ليس فيه: علقمة، ¬

_ (¬1) • (ج 1 ص 281) ، وكذا ذكره البخاري في " الأدب المفرد " (ص 144) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث: ثنا حماد بن سلمة: ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عنها. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم. (ن)

قراءة سورة أو آية مع الفاتحة

وقال: وخفض بها صوته، والصحيح: أنه جهر بها. قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة، إذا اختلفا؟ فقال: القول قول سفيان ... ، إلى قوله: " فرُد هذا كله بقوله - تعالى -: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} ، والذي نزلت عليه هذه الآية؛ هو الذي رفع صوته بالتأمين، والذين أمروا بها؛ رفعوا به أصواتهم، ولا معارضة بين هذه الآية والسنة بوجه ما ". اه. ثم أطال ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة وتقريرها، تركنا ذكرها مخافة الإطالة. وفي " تنوير العينين " يظهر - بعد التعمق في الروايات والتحقيق - أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه، لأن رواية جهره أكثر وأوضح من خفضه اه. (6 -[قراءة سورة أو آية مع الفاتحة] :) (وقراءة غير الفاتحة معها) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقرأ في الظهر؛ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب. وورد ما يُشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين، كحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره أن يخرج، فينادي: " لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد "، أخرجه أحمد، وأبو داود؛ وفي إسناده مقال!

ولكنه قد أخرج مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً "؛ وقد أعلها البخاري في " جزء القراءة " (¬1) . وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ: أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة ب {الحمد} وسورة "؛ وهو حديث ضعيف. وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير تقييد، بل مجرد الآية الواحدة يكفي، وأما زيادة على ذلك - كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأولتين -؛ فليس بواجب، فيكون ما في المتن مقيداً بما فوق الآية. قال في " الحجة البالغة ": " ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من القرآن ترتيلا، يمد الحروف، ويقف على رؤوس الآي، يخافت في الظهر والعصر، ويجهر الإمام في الفجر والمغرب والعشاء، ويقرأ في الفجر ستين آية إلى مئة؛ تداركاً لقلة ركعاته بطول قراءته، وفي العشاء {سبح اسم ربك الأعلى} ، ¬

_ (¬1) انظر (رقم: 6) - منه -، و " التلخيص الحبير " (1 / 231) ، و " فتح الباري " (2 / 243) - كلاهما للحافظ ابن حجر -.

التشهد الأوسط

{والليل إذا يغشى} ومثلهما، وحُمل الظهر على الفجر، والعصر على العشاء، وفي بعض الروايات: الظهر على العشاء، والعصر على المغرب، وفي بعضها: وفي المغرب بقصار المفصل؛ لضيق الوقت ". انتهى. (7 -[التشهد الأوسط] :) (و) أما (التشهد الأوسط) : فلم يرد فيه ألفاظ تخصه، بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير، ولكنه يسرع بذلك. وفي " حاشية الشفاء " للشوكاني - رحمه الله -: " وأما ما يقال فيه؛ فهو ما يقال في التشهد الأخير سواء بسواء؛ إلا ما ورد تخصيصه بالآخر؛ فيختص به، وظاهر الأدلة الواردة في التشهد شامل للتشهدين جميعاً، إلا أنه ينبغي تخفيفه كما ورد الدليل بذلك، وأقل ما يقال فيه تشهد ابن مسعود، ويُضم إليه الصلاة على النبي وآله [صلى الله عليه وسلم] بأخصر لفظ، فهذا لا ينافي التخفيف المشروع ". انتهى. وقد روى أحمد، والنسائي من حديث ابن مسعود قال: إن محمداً قال: " إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه؛ فليدع به ربه - عز وجل - "، ورجاله ثقات. وأخرجه الترمذي بلفظ: علمنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا قعدنا في الركعتين.

فالتقييد بالقعود في كل ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط، ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقد شرعها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في التشهد مقترنة بالسلام على النبي [صلى الله عليه وسلم] ، كما ورد بلفظ: قد علمنا كيف السلام عليك؛ فكيف الصلاة؟ وهو في " الصحيحين " من حديث كعب ابن عجرة. وفي رواية من حديث ابن مسعود: فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجباً ولا قعوده لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] تركه سهوا، فسبَّح الصحابة، فلم يعد له، بل استمر وسجد للسهو، فلو كان واجباً؛ لعاد له عند ذهاب السهو بوقوع التنبيه من الصحابة؛ فلا يقال: إن سجود السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير الواجب! لأنا نقول: محل الدليل ههنا هو عدم العود لفعله بعد التنبيه على السهو. أقول: لا ريب أنه [صلى الله عليه وسلم] لازم التشهد الأوسط، ولم يثبت في حديث من الأحاديث الحاكية لفعله [صلى الله عليه وسلم] أنه تركه مرة واحدة، ولكن هذا القدر لا يثبت به الوجوب، وإن كان بيانا لمجمل واجب، وانضم إليه حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي "؛ لأن الاقتصار في حديث المسيء على بعض ما كان يفعله دون بعض يشعر بعدم وجوب ما لم يذكر فيه، وأحاديث التشهد الصحيحة التي فيها لفظ " قولوا " - وإن كان أصل الأمر للوجوب -؛ لكنه مصروف عن حقيقته بحديث المسيء. ويشكل على ذلك قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا

التشهد ... الحديث؛ فإن هذه العبارة تدل على أن التشهد من المفترضات، ويمكن أن يقال: إن فهم ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه من مجالات الاجتهادات، واجتهاده ليس بحجة على أحد (¬1) ، وأيضا: بعض التشهد تعليم كيفية، وتعليم الكيفيات - وإن كان بلفظ الأمر - لا يدل على وجوبها، وما نحن بصدده من ذلك؛ فإنه وقع في جواب: كيف نصلي عليك؟ وإنما كان كذلك؛ لأن جواب السائل عن الكيفية يكون بالأمر، وإن كانت غير واجبة إجماعاً، تقول: كيف أغسل ثوبي وأحمل متاعي: فيقول المسؤول: افعل كذا؛ غير مريد لإيجاب ذلك عليك، بل لمجرد التعليم للهيئة المسؤول عنها ب (كيف؟) ؛ فلا بد أن يكون الشيء المسؤول عن كيفيته قد وجب بدليل آخر غير تعليم الكيفية (¬2) . وقد وقع في بعض طرق حديث المسيء ذكر للتشهد فراجعه في الموطن، فإن صحت تلك الطرق؛ كانت هي المفيدة للوجوب، أما حديث: " إذا أحدث المصلي بعد آخر سجدة ": فليس مما تقوم به الحجة؛ فليعلم. ¬

_ (¬1) أما احتجاج الشارح بحديث المسيء صلاته: فقد بينا آنفا أنه لا يمنع من وجوب ما يدل الدليل على وجوبه، فالأحاديث التي فيها: " قولوا " تدل على الوجوب قطعا، ولا تصرف عن الوجوب. وأما دعواه أن قول ابن مسعود: قبل أن يفرض علينا التشهد فهم من ابن مسعود! فإنه مغالطة واضحة، بل هو دليل صريح، وإخبار منه على أن التشهد فرض عليهم. وبناء الفعل لما لم يسم فاعله لا ينفي فهم المراد، وهو الشارع الذي إذا فرض عليهم شيئا وجبت طاعته. (ش) (¬2) وقد وجب المسؤول عن كيفيته بدليل آخر، وهو الأمر بالصلاة عليه في القرآن، واستفهموا عن بيان هذا الأمر المجمل، فبين لهم، فصار تفسيراً للأمر الأول ملحقاً به، واجباً طاعته، والله الموفق. (ش)

الأذكار الواردة في الصلاة

(8 -[الأذكار الواردة في الصلاة] :) (و) أما (الأذكار الواردة في كل ركن) : فكثيرة جدا: منها تكبير الركوع والسجود، والرفع والخفض، كما دل عليه حديث ابن مسعود، قال: رأيت النبي [صلى الله عليه وسلم] يكبر في كل رفع وخفض، وقيام وقعود. وأخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه -. وأخرج نحوه البخاري، ومسلم من حديث عمران بن حصين. وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث؛ إلا عند الارتفاع من الركوع؛ فإن الإمام والمنفرد يقولان: " سمع الله لمن حمده "، والمؤتم يقول: " اللهم ربنا {ولك الحمد " (¬1) ؛ وهو في " الصحيح " من حديث أبي موسى. قال في " حاشية الشفاء ": الظاهر من الأدلة أن الإمام والمنفرد يجمعان بين السمعلة والحمدلة، فيقولان: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا} ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه "، وأما المؤتم ففيه احتمال (1) ، وقد أوضحت الصواب فيه في " شرح المنتقى ". انتهى. قال ابن القيم في " الإعلام ": السنة الصريحة في قول الإمام: " ربنا! لك الحمد "؛ كما في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا ¬

_ (¬1) بل الصواب أن يقول المؤتم - أيضا -: سمع الله لمن حمده. وانظر رسالة " دفع التشنيع في محل التسميع " للسيوطي، و " صفة الصلاة " (135 - 136) لشيخنا.

قال: " سمع الله لمن حمده "؛ قال: " اللهم ربنا {لك الحمد ". وفيهما - أيضا - عنه: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: " سمع الله لمن حمده " حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: " ربنا} لك الحمد ". وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا {لك الحمد ": فرُدّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا} لك الحمد ". انتهى. وأما ذكر الركوع فهو: " سبحان ربي العظيم "؛ وذكر السجود: " سبحان ربي الأعلى "، ويدعو بعد ذلك بما أحب من المأثور وغيره، وأقل ما يستحب من التسبيح في الركوع والسجود ثلاث؛ لحديث ابن مسعود: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات؛ فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات؛ فقد تم سجوده، وذلك أدناه "، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ وفي إسناده انقطاع. وأما ذكر الاعتدال: فقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عباس: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: " اللهم ربنا! لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ".

الاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة

وأما الذكر بين السجدتين: فقد روى الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - من حديث ابن عباس: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقول بين السجدتين: " اللهم! اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني ". أقول: قد بين لنا [صلى الله عليه وسلم] كيفية تسبيح الركوع والسجود بيانا شافيا، نقله لنا عنه الذين نقلوا إلينا سائر الأحكام الشرعية، فقالوا: كان يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، وفي سجوده: " سبحان ربي الأعلى "، وكذلك أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] قولاً. وأما التقييد بعدد مخصوص: فلم يرد ما يدل عليه؛ إنما كان الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير مختلفة، والتطويل في الصلاة من السنن الثابتة؛ ما لم يكن المصلي إماماً لقوم؛ فإنه يصلي بهم صلاة أخفهم كما أرشد إليه -[صلى الله عليه وسلم]-. (9 -[الاستكثار من الدعاء بخيري الدنيا والآخرة] :) (و) الأحاديث في الأذكار الكائنة في الصلاة كثيرة جدا، فينبغي (الاستكثار من الدعاء) في الصلاة. (بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد) : والأوْلى أن يأتي بهذه الأذكار قبل الرواتب؛ فإنه جاء في بعض الأذكار ما يدل على ذلك، كقوله: " من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله ... " (¬1) الخ، وكقول الراوي: كان إذا سلم من صلاته يقول بصوته ¬

_ (¬1) انظر " تمام المنة " (228 - 229) .

الأعلى: لا إله إلا الله ... " الخ، قال ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- بالتكبير (¬1) . وفي بعضها ما يدل ظاهراً كقوله: " دبر كل صلاة ". وأما قول عائشة: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: " اللهم أنت السلام ... " الخ فيحتمل وجوها ذكرتها في " شرح بلوغ المرام ". وبالجملة: فالأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن؛ من قرأ منها شيئا فاز بالثواب الموعود. وهذا الباب يحتمل البسط، وليس المراد هنا إلا الإشارة إلى ما يُحتاج إليه. وقد ذكر الماتن هذه المسائل والأذكار في " شرح المنتقى "، وأورد كل ما يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. ¬

_ (¬1) يُحمل هذا على التعليم؛ فانظر " فتح الباري " (2 / 325 - 326) .

باب متى تبطل الصلاة وعمن تسقط

(5 - باب متى تبطل الصلاة؟ وعمن تسقط؟) ( [الفصل الأول] ) ( [ما لا يجوز في الصلاة] :) (1 -[الكلام] :) (وتبطل الصلاة بالكلام) : لحديث زيد بن أرقم في " الصحيحين " وغيرهما، قال: كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل منا صاحبه حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} ؛ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وهكذا حديث ابن مسعود في " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " إن في الصلاة لشغلا ". وفي رواية لأحمد، والنسائي، وأبي داود، وابن حبان في " صحيحه ": " إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإنه أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة ". ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته، وإنما الخلاف في كلام الساهي، ومن لم يعلم بأنه ممنوع. فأما من لم يعلم؛ فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلمي الثابت في

" الصحيح " أنه لا يعيد، وقد كان شأنه [صلى الله عليه وسلم] أن لا يحرج على الجاهل، ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال، بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه، وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء. وأما كلام الساهي والناسي؛ فالظاهر أنه لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال الصلاة. قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة، وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام ثم نسخ. وفيه بحث؛ لأن تحريم الكلام كان بمكة، وهذه القصة بالمدينة. وقال الشافعي: كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكلام العامد يبطلها ولو قل، وتأويل الحديث عنده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان ناسيا، بانيا كلامه على أن الصلاة تمت وهو نسيان، وكلام ذي اليدين على توهم قصر الصلاة؛ فكان حكمه حكم الناسي، وكلام القوم كان جوابا للرسول، وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة. وقال مالك: إن كان كلام العمد يسيرا لإصلاح الصلاة لا يبطل، مثل أن يقال: لم تكمل، فيقول: قد أكملت، وحديث: نهينا عن الكلام، و: " لا تكلموا ": خص منه هذا النوع من الكلام. كذا في " المسوى ". أقول: أما فساد صلاة من تكلم ساهيا؛ فلا أعرف دليلا يدل عليه؛ إلا عموم حديث النهي عن الكلام، وهو مخصص بمثل حديث تكلمه [صلى الله عليه وسلم] بعد أن سلم على ركعتين، كما في حديث ذي اليدين، فإنه تكلم في تلك الحال

الاشتغال بما ليس منها

ساهيا عن كونه مصليا، وهو المراد بكلام الساهي؛ لأن المراد إصدار الكلام من غير قصد. فإن قيل: إن ثم فرقا بين من تكلم وهو داخل الصلاة لم يخرج منها، وبين من تكلم وقد خرج منها ساهيا؛ فإن الأول أوقع الكلام حال الصلاة، والآخر أوقعه خارجها، واعتداده بما قد فعله قبل الخروج ساهيا؛ لا يوجب كونه بعد الخروج قبل الرجوع في الصلاة؛ وأدل دليل على ذلك: تكبيره للدخول بعد الخروج سهوا. فيقال: الأدلة الواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك العموم، فاقتضى ذلك أن المفسد هو كلام العامد لا كلام الساهي. وأما عدم أمره لمعاوية بن الحكم بالإعادة - كما في الحديث -: فيمكن أن يكون لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام الساهي، ويمكن أن يكون الجهل عذرا بمجرده. (2 -[الاشتغال بما ليس منها] :) (وبالاشتغال بما ليس منها) : وذلك مقيد بأن يخرج به المصلي عن هيئة الصلاة، كمن يشتغل مثلا بخياطة، أو نجارة، أو مشي كثير، أو التفات طويل، أو نحو ذلك. وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة المطلوبة من المصلي قد صارت بذلك الفعل متغيرة عما كانت عليه، حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده مصليا. أقول: اختلفت أنظار أهل العلم في تعريف الفعل الكثير المفسد للصلاة

والمبطل لها، والذي أراه طريقا إلى معرفة الفعل الكثير؛ أن ينظر المتكلم في ذلك إلى ما صدر منه [صلى الله عليه وسلم] من الأفعال، مثل حمله لأمامة بنت أبي العاص، وطلوعه ونزوله في المنبر وهو في حال الصلاة، ونحو ذلك مما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] ؛ لا لإصلاح الصلاة، فيحكم بأنه غير كثير، وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة؛ مثل خلعه [صلى الله عليه وسلم] للنعل، وإذنه بمقاتلة الحية - وما أشبه ذلك -؛ ينبغي الحكم بأنه غير كثير بالأولى، وما خرج عن الواقع من أفعاله، والمسوغ بأقواله، فهو فعل غير مشروع، ورجع في كونه مفسدا وغير مفسد إلى الدليل، فإن ورد ما يدل على أحد الطرفين كان العمل عليه، وإن لم يرد فالأصل الصحة، والفساد خلاف الأصل، لا يصار إليه إلا لقيام دليل يدل على الفساد، ولكنه إذا صدر من المصلي من الأفعال - التي لمجرد العبث - ما يخرج به عن هيئة من يؤدي هذه العبادة؛ مثل أن يشتغل بعمل من الأعمال التي لا مدخل لها في الصلاة، ولا في إصلاحها؛ نحو حمل الأثقال، والخياطة، والنسخ ونحو ذلك: فهذا غير مصل. فإذا قال قائل بفساد صلاته؛ فهو من حيث إنه قد فعل ما ينافي الصلاة. وأما الاستدلال بحديث: " اسكنوا في الصلاة ": فهو - مع كونه لا يفيد إلا الوجوب، والواجب لا يستلزم عدمه فساد ما هو واجب فيه -: مخصص بجميع ما فعله [صلى الله عليه وسلم] ، أو أذن به، أو قرره. وما خرج عن ذلك؛ ففعله غير جائز، بل يجب تركه فقط؛ فمن تركه كان ممدوحا، ومن فعله كان مذموما.

ومن قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده (¬1) ، والنهي يقتضي الفساد - كما هو مذهب طائفة من أهل الأصول -: فغاية ما هناك أن ذلك الفعل الذي فعله ولم يتركه - كما يجب عليه - فاسد، وأما كون الصلاة التي فعل فيها ذلك الفعل فاسدة؛ فشيء آخر. قال مجد الدين الفيروزآبادي في " الصراط المستقيم ": " ولسماع بكاء الطفل كان يخفف الصلاة، وأحيانا كان يتعلق به وهو في الصلاة طفل فيحمله على عاتقه، وأحيانا كان يأتي الحسين وهو في السجود، فيركب على ظهره المبارك، فيطيل السجود لأجله، وأحيانا كانت عائشة تأتي وهو في الصلاة؛ وقد غلق الباب، فيخطو ليفتح الباب لها، وأحيانا كان يسلم عليه وهو في الصلاة، فيجيب بالإشارة باسطا يده، وقد يومئ برأسه المبارك، وكانت عائشة نائمة تجاه صلاته، فكان عند السجود يضع يده على رجلها؛ لتخلي مكان السجود بضم رجلها، وكان قد يصل إلى آية السجدة على المنبر، فيهبط إلى الأرض ليسجد ثم يصعد، واختصم وليدتان من بني عبد المطلب، فتصارعتا، فلما دنتا منه أمسكهما بيده وفرق بينهما (¬2) ، وكان يبكي في الصلاة كثيرا، ويتنحنح أحيانا لحاجة، ويصلي منتعلا وغير منتعل، وقال: " صلوا في نعالكم خلافا لليهود ". اه. قال في " الحجة البالغة ": " إن النبي [صلى الله عليه وسلم] قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للمشروع، وقرر على أشياء، فذلك وما دونه لا يبطل الصلاة. والحاصل من الاستقراء: أن القول اليسير - مثل: ألعنك بلعنة الله، ¬

_ (¬1) هو مذهب الجمهور؛ فانظر " إرشاد الفحول " (101) . (¬2) انظر " صحيح سنن النسائي " (727) .

ويرحمك الله، وياثكل أماه {وما شأنكم تنظرون إلي؟} والبطش اليسير مثل وضع صبية من العاتق ورفعها، وغمز الرجل، ومثل فتح الباب، والمشي اليسير؛ كالنزول من درج المنبر إلى مكان - ليتأتى منه السجود في أصل المنبر -، والتأخر من موضع الإمام إلى الصف، والتقدم إلى الباب المقابل ليفتح، والبكاء خوفا من الله - تعالى -، والإشارة المفهمة، وقتل الحية والعقرب، واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق -: لا يفسد، وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه - إذا لم يكن بفعله، أو كان لا يعلمه - لا يفسد ". اه. قلت: اتفقوا على أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة. في " العالمكيرية " (¬1) : إن حمل صبيا أو ثوبا على عاتقه؛ لم تفسد صلاته، وإن حمل شيئا يتكلف في حمله؛ فسدت. وفي " المنهاج ": الكثرة بالعرف، فالخطوتان والضربتان قليل، والثلاث كثير، وتبطل بالوثبة الفاحشة، لا الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أصابعه في سبحة، أو حك - في الأصح -. وفي " العالمكيرية ": لو فتح على غير إمامه تفسد؛ إلا إذا عنى به التلاوة دون التعليم، وإن فتح على إمامه؛ فالصحيح لا تفسد بحال. وفي " المنهاج ": " لو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم، ك {يا يحيى خذ الكتاب} ، قصد معه قراءة؛ لم تفسد، وإلا بطلت "؛ كذا في " المسوى ". ¬

_ (¬1) هي " الفتاوى الهندية " المعروفة في مذهب أبي حنيفة. (ش)

ترك شرط أو ركن عمدا

(3 -[ترك شرط أو ركن عمدا] :) (وبترك شرط) : كالوضوء، فلأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط. (أو ركن) : لكون ذهابه يوجب خروج الصلاة عن هيئتها المطلوبة. (عمدا) ، وإذا ترك الركن فما فوقه سهوا فعله، وإن كان قد خرج عن الصلاة، كما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- في حديث ذي اليدين؛ فإنه سلم على ركعتين ثم أخبر بذلك، فكبر وفعل الركعتين المتروكتين. وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات؛ فلا تبطل به الصلاة؛ لأنه لا يؤثر عدمه في عدمها، بل حقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة. والحاصل: أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، نحو أن يقول الشارع: من لم يفعل كذا فلا صلاة له، أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة، أو بعدم القبول أو الأجر، أو يثبت عنه النهي عن الإتيان بالمشروط بدون الشرط؛ لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق. وأما كون الشيء واجبا: فهو يثبت بمجرد طلبه من الشارع، ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون الشيء واجبا، فتدبر هذا؛ تسلم من الخبط والخلط.

الفصل الثاني على من تجب الصلوات الخمس وعمن تسقط

( [الفصل الثاني: على من تجب الصلوات الخمس؟ وعمن تسقط؟] ) ( [تجب الصلاة على المكلف] :) (ولا تجب) الصلوات المكتوبة الخمس (على غير مكلف) : لأن خطاب التكليف لا يتناول غير مكلف، ولا خلاف في ذلك في الواجبات الشرعية. وأما ما ورد من تعويد الصبيان وتمرينهم: فالخطاب في ذلك للمكلفين، والوجوب عليهم لا على الصغار. ( [عمن تسقط الصلاة؟] :) (1 -[عن العاجز عن الإشارة] :) (وتسقط عمن عجز عن الإشارة) : لأن إيجابها على المريض مع بلوغه إلى ذلك الحد؛ هو من تكليف ما لا يطاق، ولم يكلف الله - تعالى - أحدا فوق طاقته. (2 -[عن المغمى عليه حتى خرج وقتها] :) (و) كذلك (عمن أغمي عليه حتى خرج وقتها) : فلا وجوب عليه؛ لأنه غير مكلف في الوقت. ( [كيف يصلي المريض؟] :) (ويصلي المريض قائما ثم قاعدا ثم على جنب) : لحديث عمران بن

حصين عند البخاري، وأهل " السنن "، وغيرهم قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- عن الصلاة؟ فقال: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب "؛ وقد نطق بمضمون ذلك القرآن الكريم. وإذا تعذر على المصلي صفة من صفات صلاة العليل الواردة؛ أتى بالصلاة على صفة أخرى مما ورد، ثم يفعل ما قدر عليه ودخل تحت استطاعته: {فاتقوا الله ما استطعتم} ، " وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".

باب صلاة التطوع

(6 - باب صلاة التطوع) ( [دليل مشروعية سنة الظهر والعصر] :) (هي: أربع قبل الظهر، وأربع بعده، وأربع قبل العصر) : لما ثبت في ذلك من حديث أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من صلى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعا بعدها؛ حرمه الله على النار "؛ رواه أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان -. قال في " سفر السعادة ": وكان يفصل بين هذه الأربع بتسليمتين. قال أمير المؤمنين علي: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يصلي قبل الظهر أربع ركعات، يفصل بينهن بالتسليم (¬1) على الملائكة المقربين، ومن معهم من المسلمين والمؤمنين؛ رواه أحمد، والترمذي - محسنا -. اه. وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمر، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان وابن خزيمة -. ( [دليل مشروعية سنة المغرب] :) (وركعتان بعد المغرب) : قال في " سفر السعادة ": وفي سنة المغرب سنتان: ¬

_ (¬1) وهي زيادة لا تصح؛ فانظر " تمام المنة " (239 - 240) .

دليل مشروعية سنة العشاء والفجر

إحداهما: أن لا يتكلم بينهما وبين الفريضة؛ لما في الحديث: " من صلى ركعتين بعد المغرب - قال مكحول: يعني قبل أن يتكلم -: رُفعت صلاته في عليين " (¬1) . الثانية: أن تكون في البيت: دخل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مسجد بني الأشهل وصلى المغرب، فلما فرغ رأى أهل المسجد اشتغلوا بصلاة السنة، فقال: " هذه صلاة البيوت " (¬2) ، وفي لفظ ابن ماجه: " اركعوا هاتين في بيوتكم " (¬3) . حاصله: أن عادة حضرة سيدنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : أنه كان يصلي جميع السنن في بيته؛ إلا أن يكون بسبب، وكان يقول: " أيها الناس! صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة " اه. وقال - أيضا -: وكان الصحابة يصلون قبل المغرب ركعتين، ولم يمنعهم [صلى الله عليه وسلم] من ذلك، وثبت في " الصحيحين "؛ أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " صلوا قبل المغرب "، وقال في الثالثة: " لمن شاء "؛ كراهة أن يتخذها الناس سنة، فصلاتها مندوبة مستحبة، لكن لا تبلغ درجة الرواتب. اه. ( [دليل مشروعية سنة العشاء والفجر] :) (وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر، قال: حفظت عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- ¬

_ (¬1) حديث ضعيف لإرساله؛ رواه أبو داود في " المراسيل " (73) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (2 / 198) . (¬2) رواه أبو داود (1300) ، والنسائي (3 / 198) بسند في جهالة. (¬3) هو عام في الصلوات كلها؛ وانظر " صحيح سنن ابن ماجه " (956) .

ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة ". وأخرج - نحوه - مسلم في " صحيحه "، وأحمد، والترمذي - وصححه - من حديث عبد الله بن شقيق. وأخرج - نحوه - مسلم، وأهل " السنن " من حديث أم حبيبة. ولا ينافي هذا ما تقدم من الدليل الدال على مشروعية أربع قبل الظهر وأربع بعده؛ لأن هذه زيادة مقبولة. وثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر. وثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديثها: " أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها ". وفيهما أحاديث كثيرة. قال في " سفر السعادة ": وكان يحافظ على ركعتي الفجر؛ بحيث إنه كان يواظب عليهما في السفر أيضا، ولم يرو أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى في السفر شيئا من السنن الرواتب؛ إلا سنة الفجر وصلاة الوتر. وللعلماء في أفضلية سنة الفجر وصلاة الوتر قولان: قال بعضهم: سنة الفجر آكد.

دليل مشروعية سنة الضحى

وقال بعضهم: بل الوتر. وكما أن الوتر واجب عند البعض؛ كذا سنة الفجر تجب عند البعض (¬1) . وقال بعض المشايخ: سنة الفجر ابتداء العمل، والوتر ختم العمل، فلا جرم صرفنا العناية لشأنهما، ولهذا السبب شُرع فيهما قراءة سورة الإخلاص، وسورة {قل يا} (¬2) ؛ لاشتمالهما على توحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، كما بيناه في كتاب " حاصل كورة الخلاص في فضائل سورة الإخلاص " (¬3) . اه. ( [دليل مشروعية سنة الضحى] :) (وصلاة الضحى) ؛ والأحاديث فيها متواترة عن جماعة من الصحابة. وأقلها ركعتان،؛ كما في حديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، وأكثرها اثنتا عشرة ركعة؛ كما دلت على ذلك الأدلة. وفي " الحجة البالغة ": وللضحى ثلاث درجات: أقلها ركعتان، وفيها أنها تجزي عن الصدقات الواجبة على كل سلامي ابن آدم. وثانيتها: أربع ركعات، وفيها عن الله - تعالى -: " يا ابن آدم {اركع لي أربع ركعات من أول النهار؛ أكفك آخره ". وثالثها: ما زاد عليها؛ كثماني ركعات وثنتي عشرة. ¬

_ (¬1) ولا دليل على ذلك. (¬2) يعني: {قل يا أيها الكافرون} ، وهذا اختصار غريب لا معنى له} . (ش) (¬3) هو للفيروزأبادي؛ كما في " كشف الظنون " (1 / 624) لحاجي خليفة.

سنة صلاة الليل

وأكمل أوقاته؛ حين يرتحل النهار وترمض الفصال (¬1) . اه. ( [سنة صلاة الليل] :) (وصلاة الليل) ؛ والأحاديث فيها صحيحة متواترة، لا يتسع المقام لبسطها: قال - تعالى -: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا} ، وقال [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا بالليل والناس نيام ". وكانت العناية بصلاة التهجد أكثر، فبين [صلى الله عليه وسلم] فضائلها، وضبط آدابها وأذكارها، قال: " عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، مكفرة للسيئات، منهاة عن الإثم " (¬2) ؛ وغير ذلك. (وأكثرها ثلاث عشرة ركعة) ، وقد كان -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي صلاة الليل على أنحاء مختلفة، فتارة يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر بركعة، وتارة يصلي أربعا أربعا، وتارة يجمع بين زيادة على الأربع، وذلك كله سنة ثابتة. قال في " الحجة البالغة ": صلاها النبي [صلى الله عليه وسلم] على وجوه، والكل سنة. قال في " المنح " (¬3) : " قالت عائشة: ولا أعلم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح ". اه. ¬

_ (¬1) " ترمض " - بفتح الميم -: من باب " تعب "، و " الفصال "؛ جمع فصيل، وهو ولد الناقة؛ والمراد: إذا وجد الفصيل حر الشمس من الرمضاء. (ش) . قلت: وقد صح حديث: " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال "؛ فانظر " الصحيحة " (1164) . (¬2) حديث حسن؛ ينظر له " الإرواء " (452) . (¬3) اسمه: " منح المنة "؛ سيورد ذكره المصنف - بعد -.

سنة الوتر

( [سنة الوتر] :) (يوتر في آخرها بركعة) : إما منفردة أو منضمة إلى شفع قبلها. قال ابن القيم: " ووردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة، كحديث أم سلمة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يوتر بسبع وبخمس، لا يفصل بسلام ولا كلام؛ رواه أحمد، وكقول عائشة: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن " متفق عليه، وكحديث عائشة: أنه يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخذه اللحم؛ أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأول "، وفي لفظ عنها: فلما أسن وأخذه اللحم؛ أوتر بسبع ركعات، لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، وفي لفظ: صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن. وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها، فرُدّت بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلاة الليل مثنى مثنى "؛ وهو حديث صحيح، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس، وسنته كلها حق يصدق بعضها بعضا، فالنبي [صلى الله عليه وسلم] أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها: " مثنى مثنى "، ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة: فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة عما قبلها، وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة،؛ كان الوتر

بيان وقت الوتر

اسم الركعة المفصولة وحدها، كما قال [صلى الله عليه وسلم] : " صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة؛ توتر له ما قد صلى "، فاتفق فعله [صلى الله عليه وسلم] وقوله، وصدق بعضه بعضا ". اه. والحق أن الوتر سنة، هو أوكد السنن، بينه علي، وابن عمر، وعبادة ابن الصامت، وإليه ذهب أكثر العلماء، إلا أبا حنيفة خاصة؛ فإنه واجب على الصحيح عنده، وثلاث ركعات لا يزيد ولا ينقص! قال في " المسوى ": " وأقل الوتر ركعة في قول أكثرهم، وأكثره إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، وأدنى الكمال ثلاث، وما زاد فهو أفضل ". اه. وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا صلاها ثلاثا؛ يقرأ في الأولى ب {سبح اسم ربك الأعلى} ، وفي الثانية ب {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الثالثة ب {قل هو الله أحد} والمعوذتين. ( [بيان وقت الوتر] :) أقول: دلت الأخبار على أن وقت الوتر بعد الفراغ من العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر، وهذا هو عين ما أفتى به أبو موسى، وفتواه هي الثابتة عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ أخرجه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أوتروا قبل أن تصبحوا ". وأخرج ابن حبان عنه [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " إذا طلع الفجر؛ فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر ".

والأحاديث في الباب كثيرة، والأحاديث الثابتة في إيتاره [صلى الله عليه وسلم] بركعة أكثر من أن تحصى، فهي صالحة لتخصيص ما هو من العمومات في أعلى طبقة، فكيف بما لا صحة له قط؟ {وحديث البتيراء لم يصح (¬1) . والذي ينبغي التعويل عليه في دفع الوجوب؛ الأحاديث المصرحة بأن الوتر غير واجب. والوتر عبارة عن آخر صلاة الليل؛ وقد ثبت في ذلك صفات متعددة بأحاديث صحيحة - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك -. والحاصل: أن لصلاة الليل - باعتبار وترها - ثلاث عشرة صفة، كما ذكر ذلك ابن حزم في " المحلى "، فالقول بأن الوتر ثلاث ركعات فقط لا يجوز أن يكون الإيتار بغيرها} ضيق عطن، وقصور باع، ولمثل هذا صار أكثر فقهاء العصر لا يعرفون الوتر إلا بأنها ثلاث ركعات بعد صلاة العشاء، حتى إن كثيراً منهم يكون له قيام في الليل وتهجد، فتراه يصلي الركعات المتعددة ويظن أن الوتر شيء قد فعله، وأنه لا يتعلق له بهذه الصلاة التي يفعلها في الليل، وهو لا يدري أن الوتر هو ختام صلاة الليل، وأنه لا صلاة بعده إلا الركعتان المعروفتان بسنة الفجر، وكثيرا ما يقع الإنسان في الابتداع وهو يظن أنه في الاتباع! والسبب عدم الشغل بالعلم وسؤال أهل الذكر. وأما ما روي عن الحسن البصري، أنه قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن (¬2) : ¬

_ (¬1) انظر " نيل الأوطار " (3 / 32) . (¬2) هو في " مصنف ابن أبي شيبة " (2 / 294) بسند صحيح.

سنة تحية المسجد

فإن أراد أن الإجماع وقع على هذا القدر، وأنه لا يجوز الإيتار بغيره: فهو من البطلان بمكان لا يخفى على عارف، فهذه الدفاتر الإسلامية الحاكية لمذاهب الصحابة الذين أدركهم الحسن البصري، ولمذاهب التابعين الذين هو واحد منهم، قاضية بخلاف هذه الحكاية، وهي بين أيدينا. وإن أراد أن هذه الصفة هي إحدى صفات الوتر: فنحن نقول بموجب ذلك، فقد روي الإيتار بثلاث، ولكنه روي النهي عن الإيتار بثلاث (¬1) كما أوضح ذلك الماتن رحمه الله - في " شرح المنتقى "، فتعارضت رواية الثلاث ورواية النهي. والعالم بكيفية الاستدلال لا يخفى عليه الصواب، وقد تقدم أن حديث البتيراء لا أصل له (¬2) ، على أن النسخ لا يتم ادعاؤه إلا بعد معرفة التاريخ؛ لأن الناسخ لا يكون إلا متأخرا بإجماع المسلمين القائلين بثبوت أصل النسخ في هذه الشريعة المطهرة، فدعوى النسخ بمجرد الاحتمال مجازفة عظيمة، ولا سيما إذا كان المدعي لذلك لم يتعب نفسه في علوم السنة المطهرة. ( [سنة تحية المسجد] :) (وتحية المسجد) : لحديث " إذا دخل أحدكم المسجد؛ فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "؛ أخرجه الجماعة من حديث أبي قتادة، وفي ذلك أحاديث كثيرة. ¬

_ (¬1) كمثل المغرب، وإلا: فلا وانظر " صلاة التراويح " (84 و 97) لشيخنا. (¬2) هو له أصل، لكن بغير صحة!

صلاة الاستخارة

وقد وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد، وذهب أهل الظاهر إلى أنهما واجبتان، وذلك غير بعيد (¬1) ، وقد حقق الماتن المقام في " شرح المنتقى "، وفي رسالة مستقلة. ( [صلاة الاستخارة] :) (و) صلاة (الاستخارة) ، وفيها أحاديث كثيرة منها: حديث جابر عند البخاري وغيره؛ بلفظ: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها؛ كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا همّ أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم {إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم،؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم} إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به - قال -، ويسمي حاجته ". قال في " الحجة البالغة ": وعندي أن إكثار الاستخارة في الأمور ترياق مجرب بتحصيل شبه الملائكة، وضبط النبي [صلى الله عليه وسلم] آدابها ودعاءها، فشرع ركعتين، وعلّم: اللهم! إني أستخيرك ... الخ. اه. ¬

_ (¬1) بل هو الصواب - إن شاء الله -.

صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة

( [صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة] :) (وركعتان بين كل أذان وإقامة) : لحديث: " بين كل أذانين صلاة "، قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: " لمن شاء "؛ وهو حديث صحيح. والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة تغليبا؛ كالقمرين والعمرين.

باب صلاة الجماعة

(7 - باب صلاة الجماعة) ( [حكم صلاة الجماعة] :) (هي من آكد السنن) وأعظم الشعائر الإسلامية وأفضل القرب الدينية؛ لما ورد فيها من الترغيبات، حتى إنه [صلى الله عليه وسلم] صرح بأنها تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة؛ كما في " الصحيحين "، ووقع منه الإخبار بأنه قد هم بأن يحرق على المتخلفين دورهم. قال ابن القيم: ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة، فترك الصلاة في الجماعة هو من الكبائر. اه. ولازمها [صلى الله عليه وسلم] من الوقت الذي شرعها الله - تعالى - فيه إلى أن قبضه الله - تعالى - إليه، ولم يرخص [صلى الله عليه وسلم] في تركها لمن سمع النداء، فإنه سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: " هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم، قال: " فأجب "، وكل ما ذكرناه ثابت في " الصحيح ". وثبت في " الصحيح " أيضا عن ابن مسعود، أنه قال: " لقد رأيتنا؛ وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ". قال ابن القيم: وهذا فوق الكبيرة. اه.

" ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف " (¬1) . أقول: أما كونها فريضة متحتمة؛ فالأدلة متعارضة، ولكن ههنا طريقة أصولية يجمع بها بين هذه الأدلة؛ وهي أن أحاديث أفضلية الجماعة مشعرة بأن صلاة المنفرد مجزئة، وهي أحاديث كثيرة؛ مثل حديث: " الذي ينتظر الصلاة مع الإمام؛ أفضل من الذي يصلي وحده ثم ينام "؛ وهو في " الصحيح ". ومنه حديث المسيء صلاته - المشهور -؛ فإنه أمره بأن يعيد الصلاة منفردا. ومنه حديث: " ألا رجل يتصدق على هذا؟ " عند أن رأى رجلا يصلي منفردا. ومن ذلك أحاديث التعليم لأركان الإسلام؛ فإنه لم يأمر من علمه بأن لا يصلي إلا في جماعة، مع أنه قال لمن قال له؛ لا يزيد على ذلك ولا ينقص: " أفلح - وأبيه (¬2) - إن صدق ". ونحو ذلك من الأدلة؛ فالجميع صالح لصرف: " فلا صلاة له "؛ الواقع في الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة إلى نفي الكمال، لا إلى نفي الصحة. ¬

_ (¬1) وهذا تتمة أثر ابن مسعود المذكور - قبل -، وهو في " صحيح مسلم " (257) . (¬2) وهذه زيادة شاذة؛ فانظر تعليق شيخنا على " مختصر صحيح مسلم " (21) للمنذري.

وأما ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الهم بتحريق المتخلفين: فهو وإن لم يكن قولا ولا فعلا ولا تقريرا، لكنه لا يكون ما يهم به إلا جائزا، ولا يجوز التحريق بالنار لمن ترك ما لم يفرض عليه: فالجواب عنه قد بسطه شيخنا العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى ". قال في " الحجة البالغة ": لما كان في شهود الجماعة حرج للضعيف، والسقيم، وذي الحاجة: اقتضت الحكمة أن يرخص في تركها عند ذلك؛ ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط. فمن أنواع الحرج؛ ليلة ذات برد ومطر، ويستحب عند ذلك قول المؤذن: ألا صلوا في الرحال (¬1) . ومنها حاجة يعسر التربص بها كالعشاء إذا حضر؛ فإنه ربما يتشوف إليه، وربما يضيع الطعام. وكمدافعة الأخبثين؛ فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة، مع ما به من اشتغال النفس. ولا اختلاف بين حديث: " لا صلاة بحضرة الطعام "، وحديث: " لا تؤخر الصلاة لطعام ولا غيره " (¬2) ؛ إذ يمكن تنزيل كل واحد على صورة أو معنى، والمراد نفي وجوب الحضور؛ سدا لباب التعمق، وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أمن شر التعمق، وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين، ¬

_ (¬1) انظر كتابي " أحكام الشتاء في ضوء السنة المطهرة " (41 - 44) . (¬2) رواه أبو داود (3758) بسند ضعيف؛ فانظر " المشكاة " (1071) .

ما القدر الذي تنعقد به صلاة الجماعة

أو التأخير إذا كان تشوف إلى الطعام أو خوف ضياع، وعدمه - إذا لم يكن كذلك - مأخوذ من حال العلة. ومنها ما إذا كانت خوف فتنة؛ كامرأة أصابت بخورا، ولا اختلاف بين قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها "، وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن؛ إذ المنهي عنه الغيرة التي تنبعث من الأنفة دون خوف الفتنة، والجائز ما فيه خوف الفتنة، وذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " الغيرة غيرتان ... " (¬1) الحديث، وحديث عائشة: أن النساء أحدثن ... الحديث. ومنها الخوف والمرض، والأمر فيهما ظاهر، ومعنى قوله [صلى الله عليه وسلم] للأعمى: " أتسمع النداء؟ ... " الخ: أن سؤاله كان في العزيمة، فلم يرخص له. ( [ما القدر الذي تنعقد به صلاة الجماعة؟] :) (وتنعقد باثنين) ، وليس في ذلك خلاف، وقد ثبت في " الصحيح " من حديث ابن عباس: أنه صلى بالليل مع النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وحده، وقام (¬2) عن يساره، فأداره إلى يمينه. ( [يزداد ثواب الجماعة بازدياد العدد] :) (وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر) : لأنه قد ثبت عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " صلاة الرجل مع ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2659) وغيره، وهو حديث حسن، انظر " الإرواء " (1999) . (¬2) في الأصل: " وقعد "، وهو خطأ؛ فإن الحديث في " الصحيحين " وغيرهما: فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه. (ش)

تصح إمامة المفضول للفاضل

الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، وصححه ابن السكن، والعقيلي، والحاكم. ( [تصح إمامة المفضول للفاضل] :) (ويصح بعد (¬1) المفضول) : لأنه -[صلى الله عليه وسلم]- قد صلى بعد أبي بكر، وبعد غيره من الصحابة؛ كما في " الصحيح "، ولعدم وجود دليل يدل على أنه يكون الإمام أفضل، والأحاديث التي فيها: " لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه " (¬2) ، ونحوها: لا تقوم بها الحجة، وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة؛ فليس فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في دينه، وليس فيها المنع من إمامة المفضول. وقد عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر، وخلف من قال: لا إله إلا الله؛ وهي ضعيفة، وليست بأضعف مما عارضها { ¬

_ (¬1) استعمل المؤلف " بعد " بمعنى وراء، وتبعه الشارح، وهو استعمال لا نرى مانعا منه؛ فإن المأموم يتبع الإمام في أفعال الصلاة، ويفعلها بعده، ولكني لم أجد هذا الاستعمال في كتب اللغة ولا غيرها. (ش) (¬2) قال الشوكاني في " النيل " (3 / 163) : " قد ثبت في كتب جماعة من أئمة أهل البيت؛ كأحمد ابن عيسى، والمؤيد بالله، وأبي طالب، وأحمد بن سليمان، والأمير الحسين وغيرهم، عن علي - عليه السلام - مرفوعا - ". قلت: قوله: " ثبت " بمعنى: ورد} {فكان ماذا؟} فأين صحته الإسنادية؟ !

الأولى أن يكون الإمام من الخيار

والأصل أن الصلاة عبادة تصح تأديتها خلف كل مصل، إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة، وإن كان الإمام غير متجنب للمعاصي، ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه غيره، ولهذا إن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة والعلم والسن، ولم يعتبر الورع والعدالة، فقال: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا " أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود. وفي حديث مالك بن الحويرث: " وليؤمكما أكبركما "، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وقد استخلف النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم، وهو أعمى. والحاصل: أن الشارع اعتبر الأفضلية في القراءة، والعلم بالسنة، وقدم الهجرة، وعلو السن، فلا ينبغي للمفضول في مثل هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه، ولا اعتبار بالفضل في غير ذلك. ( [الأولى أن يكون الإمام من الخيار] :) (والأولى أن يكون الإمام من الخيار) : لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اجعلوا أئمتكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم "، رواه الدارقطني (¬1) . ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ انظر " الضعيفة " (1822) .

وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي، عنه [صلى الله عليه وسلم] : " إن سركم أن تقبل صلاتكم؛ فيؤمكم خياركم؛ فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم " (¬1) . قال في " منح المنة ": وكان [صلى الله عليه وسلم] يجيز إمامة الأرقاء، وكان سالم - مولى أبي حذيفة - يصلي بالمهاجرين الأولين لما نزلوا بقباء (¬2) لكونه أكثرهم قرآنا، وكان [صلى الله عليه وسلم] يقول: " صلوا خلف كل بر وفاجر " (¬3) ، وكانت الصحابة يصلون خلف الحجاج (¬4) ، وقد أحصي الذين قتلهم من الصحابة والتابعين، فبلغوا مئة ألف وعشرين ألفا. اه. أقول: الأحاديث الواردة - في الصلاة خلف كل بر وفاجر، وما قابلها من الأحاديث المقتضية للمنع من الصلاة خلف الفاجر، ومن كان ذا جرأة -: لم يبلغ منها شيء إلى حد يجوز العمل عليه، فوجب الرجوع إلى الأصل. وأما عدم اعتبار قيد العدالة: فلعدم ورود دليل يدل عليه. وأما كون الصلاة خلف كامل العدالة، واسع العلم، كثير الورع؛ أفضل وأحب: فلا نزاع في ذلك؛ إنما النزاع في كون ذلك شرطا من شروط الجماعة، مع أنه قد ثبت ما يدل على عدم الاعتبار، مثل حديث: " يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فعلى أنفسهم " - أو كما قال -، وهو حديث صحيح. ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق (1823) . (¬2) في " المصباح ": " موضع بقرب مدينة النبي [صلى الله عليه وسلم] من جهة الجنوب، نحو ميلين، وهو بضم القاف؛ يقصر ويمد، ويصرف ولا يصرف ". (ش) (¬3) حديث ضعيف؛ رواه الدارقطني (2 / 57) ، وفي سنده متروك. (¬4) انظر " شرح العقيدة الطحاوية " (479) لابن أبي العز الحنفي.

والحاصل: أن الدين يسر، وقد جاءنا [صلى الله عليه وسلم] بالشريعة السمحة السهلة، ولم يأمرنا بالكشف عن الحقائق، وسن لنا أن نصلي بعد من كان بالنسبة إلى الواحد منا في الحضيض، باعتبار المزايا الموجبة للفضل، فإنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بعد أبي بكر، وعتاب بن أسيد (¬1) ، وهما بالنسبة إليه لا يعدان شيئا. ولا ريب أن الذي ينبغي تقديمه لمثل هذه العبادة، ليكون وافد المؤتمين به إلى الله: هو من أرشد إليه [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " يؤم القوم أقرأهم ... " إلى آخر الحديث. إنما الشأن فيمن يلعب به الشيطان في الوسوسة المفضية إلى إساءة الظن بأئمة الصلاة المتبعين للسنة، فيوقع في قلبه العداوة لكل واحد منهم، بمجرد خيالات مختلة وضلالات مضلة، فيقول له: هذا العالم لا يصلح للإمامة لكونه كذا {وهذا الفاضل لا يصلح لها لكونه كذا} (¬2) ثم ينقله من درجة إلى درجة، ومن واحد إلى واحد، حتى لا يجد على ظهر البسيطة من يصلح لإمامة الصلاة {فهذا مخدوع؛ قد لعب به الشيطان كيف يشاء، حتى أحرمه (¬3) فضيلة الجماعة التي هي من أعظم شعائر الإسلام، وأجل أسباب الأجور، ومع هذا؛ فهو قد أوقعه في ورطة أخرى، وهي حمل جميع المسلمين على غير السلامة، فصار ظالما لكل واحد منهم مظلمة يستوفيها منه بين يدي الجبار. ¬

_ (¬1) انظر " الإصابة " (4 / 211) لابن حجر. (¬2) ومن أشباه هؤلاء - اليوم - الطاعنون بعلمائنا، ومشايخنا وكبرائنا؛ ممن لا يساوون - بجنبهم - وزن ريشة} ! (¬3) حرمه الشيء - من باب ضرب -: منعه منه، ويتعدى لمفعولين. قال في " المصباح ": " وأحرمته؛ لغة فيه ". (ش)

الرجل يؤم النساء لا العكس

وقد ينضم إلى هذه المصائب أن هذا الذي صار في يد الشيطان يلعب به كيف يشاء؛ قد يعتقد الفضل في نفسه، وأن الإمامة لم تكن تصلح إلا له، ولم يكن يصلح إلا لها، فيجتنب الجماعة ولا يقتدي بأحد من المسلمين، بل يجمع له جماعة يكون إمامهم، فهو أشقى ممن قبله؛ لأنه اعتقد أنه لم يبق في أرض الله من عباده الصلحاء سواه، فلا حياه الله ولا بياه! ( [الرجل يؤم النساء، لا العكس] :) (ويؤم الرجل بالنساء، لا العكس) : لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما: أنه صف هو واليتيم وراء النبي [صلى الله عليه وسلم] ، والعجوز من ورائهم. وقد أخرج الإسماعيلي (¬1) عن عائشة، أنها قالت: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا رجع من المسجد صلى بنا. وقد كانت النساء يصلين خلفه [صلى الله عليه وسلم] في مسجده. وليس في صلاة النساء خلف الرجل مع الرجال نزاع، وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط، ومن زعم أن ذلك لا يصح؛ فعليه الدليل. وأما عدم صحة إمامة المرأة بالرجل؛ فلأنها عورة، وناقصة عقل ودين، والرجال قوامون على النساء، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، كما ثبت في " الصحيح "، ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته. ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن حجر في " التلخيص " (2 / 38) ؛ وذكر أنه: " غريب ". قلت: أي ضعيف.

يؤم المفترض بالمتنفل والعكس

( [يؤم المفترض بالمتنفل، والعكس] :) (والمفترض بالمتنفل، والعكس) : لحديث معاذ: أنه كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وهذا دليل على جواز ذلك؛ لأنه كان متنفلا وهم مفترضون؛ لما في بعض الروايات من تصريح معاذ بأنه كان يصلي بقومه متنفلا، وهذه الزيادة المصرحة بالمطلوب - وإن كان فيها مقال معروف (¬1) - لكنها معتضدة بما عرف من حرص الصحابة على الأوفر أجرا، والأكمل ثوابا، ولا شك أن الصلاة خلفه [صلى الله عليه وسلم] أفضل وأكمل وأتم. وأما الجواب عن حديث معاذ؛ بأنه حكاية فعل: فساقط لاستلزامه لبطلان قسم من أقسام السنة المطهرة، وهو قسم الأفعال الذي دارت عليه رحى بيانات القرآن، وجماهير من أحكام الشريعة. مع أن هذا الاعتذار غير نافع ههنا؛ لأن الحجة هي تقريره [صلى الله عليه وسلم] لمعاذ ولقومه على ذلك، لا نفس فعل معاذ حتى يعتذر عنه بذلك! وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة: فكلام صحيح، ولكن الحجة ليست فعل معاذ؛ بل تقريره [صلى الله عليه وسلم]- كما عرفت -. وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى. والحاصل: أن الأصل صحة الاقتداء من كل مصل بكل مصل، فمن ¬

_ (¬1) قارن ب " الفتح " (2 / 192) .

تجب متابعة الإمام في غير مبطل

زعم أن ثمّ مانعاً في بعض الصور؛ فعليه الدليل، فإن نهض به صح ما يقوله، وإن لم ينهض به بطل. وأما صلاة المتنفل بعد المتنفل؛ فكما فعله [صلى الله عليه وسلم] في صلاة الليل، وصلى معه ابن عباس، وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك، والكل ثابت في " الصحيح ". ( [تجب متابعة الإمام في غير مبطل] :) (وتجب المتابعة في غير مبطل) : لحديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه " وهو ثابت في " الصحيح " من حديث أبي هريرة، وأنس، وجابر، وثابت خارج " الصحيح " عن جماعة من الصحابة. وورد الوعيد على المخالفة، كحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أما يخشى أحدكم - إذا رفع رأسه قبل الإمام - أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يحول صورته صورة حمار؟ ! - "؛ أخرجه الجماعة. ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته، نحو أن يتكلم الإمام، أو يفعل أفعالاً تخرجه عن صورة المصلي، ولا خلاف في ذلك. قال في " المسوى ": هو كذلك عند الجمهور؛ أنه يجب اتباع الإمام في جميع الحالات، وقوله: " إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً " منسوخ (¬1) . ¬

_ (¬1) دعوى النسخ هنا لا دليل عليها أصلا؛ بل قد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة مرفوعا: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا "، وكان ذلك إذ قام وراءه قوم يصلون، وهو يصلي جالسا، فأشار إليهم؛ أن اجلسوا. =

ومعنى: كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر - على الصحيح -: أنه كان ¬

_ = وفيهما عن أنس مرفوعا أيضا: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ... ، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون ". وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر: اشتكى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا، فرآنا قياما، فأشار إلينا، فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: " إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا: ائتموا بأئمتكم؛ إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا "؛ وهو معنى قد يكون متواترا في السنة. وممن قال بصلاة المأموم قاعدا: جابر، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قهد من الصحابة. وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي، وابن المنذر، وداود، وابن أبي شيبة، والبخاري، ومحمد بن نصر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومن تبعهم من أهل الحديث. وادعى مخالفوهم النسخ بصلاته [صلى الله عليه وسلم] في مرض موته بالناس قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما؛ رواه البخاري، ومسلم وغيرهما من حديث عائشة. وهذا فعل محتمل أن يكون لبدئهم الصلاة قائمين خلف إمام صلى بهم قائما - وهو أبو بكر -، فلم يجز لهم أن يرجعوا إلى القعود، وقد انعقدت صلاتهم بالقيام. ثم إن روايات الحديث مختلفة في أنه كان إماما، أو صلى خلف أبي بكر: فقد روى ابن خزيمة في " صحيحه " عن عائشة، قالت: من الناس من يقول: كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ومنهم من يقول: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] المقدم. والروايات في هذا متضاربة، وهي تدل على أن عائشة سمعت بهذا من الصحابة، فاختلفوا عليها، ولم تشاهد بنفسها، فمرة تحزم، ومرة تشك ولا يُترك المحكم الثابت بأشد تأكيد؛ بفعل غير متيقن صفته؛ والأمر بالجلوس منصوص على سببه؛ وهو النهي التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم، وهذا سبب لا يزول فرضه عن الناس، فقد جاء الإسلام قاضيا على هذه الرسوم التي أضعفت تلك الأمم. وقد فعل الصحابة ذلك بعد رسول الله: فصلى جابر وهو مريض جالسا، وصلوا معه جلوسا، كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وكذلك أسيد بن حضير، وقيس بن قهد. وأما حديث " لا يؤمّن أحد بعدي جالسا "؛ فإنه حديث ضعيف جدا} ودعوى الخصوصية لا تثبت إلا بدليل صحيح. والحق أن الإمام إذا صلى جالسا لمرض؛ وجب على المقتدين الصلاة جلوسا، كما أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . (ش) أقول: وانظر تعليق شيخنا على " مختصر صحيح البخاري " (1 / 177) .

لا يؤم رجل قوما يكرهونه

مسمعا لمن خلفه. في " العالمكيرية ": إذا رفع المقتدي رأسه من الركوع والسجود قبل الإمام ينبغي أن يعود، ولا يصير ركوعين وسجودين. قلت: عامة أهل العلم على أن هذا الفعل منهي عنه، وصلاته مجزئة، وأكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود. ( [لا يؤم رجل قوما يكرهونه] :) (ولا يؤم الرجل قوما هم له كارهون) : لحديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من يقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً، ورجل اعتبد محررة "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه؛ وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه ضعف (¬1) . وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون "، وقد حسنه الترمذي، وضعفه البيهقي (¬2) . قال النووي في " الخلاصة ": والأرجح قول الترمذي. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا. ¬

_ (¬1) انظر " اللآلئ المصنوعة " (2 / 11) للسيوطي، والتعليق على " المشكاة " (1123) . (¬2) والصواب ثبوته؛ فانظر التعليق على " المشكاة " (1122) .

أقول: ظاهر الأحاديث الواردة في الترهيب عن ذلك؛ أنه لا فرق بين كون الكارهين من أهل الفضل أو من غيرهم، فيكون مجرد حصول الكراهة عذرا لمن كان يصلح للإمامة في تركها. وغالب الكراهات الكائنة بين هذا النوع الإنساني - خصوصا في هذه الأزمنة - راجعة إلى أغراض دنيوية { والراجع هنا إلى أغراض دينية أقل قليل، ومع كونه كذلك؛ فغالبه صادر عن اعتقادات فاسدة، وخيالات مختلفة، كما يقع بين المتخالفين في المذاهب، فإن العصبية الناشئة بينهم تعمي بصائرهم عن الصواب، فلا يقيم أحدهم للآخر وزنا، ولا ينظر إليه إلا بعين السخط لا بعين الرضا، فيرى محاسنه مساوئ كائنة ما كانت. وقد تقع هذه العداوة بين أهل مذهب واحد؛ باعتبار الاختلاف في كون أحدهم من المشتغلين بالدين والعلم، والآخر من الجهلة المتهتكين. وكثيرا ما ترى أرباب المعاصي إذا رأوا أرباب الدين والعلم تضيق بهم الأرض بطولها والعرض، ولا يطيقونهم بغضا (¬1) . فإن كان ثَمّ دليل يدل على تخصيص الكراهة بما كان منها راجعاً إلى ما هو مختص بالله - عز وجل -، كمن يكره إنسانا لكونه مكبا على المعاصي، أو متهاونا بما أوجبه الله عليه: فهذه الكراهة هي الكبريت الأحمر} لا توجد حقيقتها إلا عند أفراد من العباد. ¬

_ (¬1) صدق المؤلف - والله -.

من أم فليخفف

وإن لم يوجد دليل يخصص الكراهة بذلك: فالأولى لمن عرف أن جماعة من الناس يكرهونه - لا لسبب، أو لسبب ديني -: أن لا يؤمهم؛ وأجره في الترك يفضل أجره في الفعل. ( [من أمّ فليخفف] :) (ويصلي بهم صلاة أخفهم) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه؛ فليطول ما شاء ". وفي الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف. قال في " الحجة ": وكان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يطول ويخفف على ما يرى من المصلحة الخاصة بالوقت، واختار بعض السور في بعض الصلوات لفوائد، من غير حتم ولا طلب مؤكد، فمن اتبع فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، وقصة معاذ في الإطالة مشهورة. انتهى حاصله. وأما ارتفاع الإمام عن المأموم: فلا يضر؛ قدر القامة ولا فوقها، لا في المسجد ولا في غيره، من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض، والبعد والحائل، ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة؛ فعليه الدليل. ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة: أنه أم الناس بالمدائن على دكان ... الحديث؛ أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.

لا يؤم الرجل في سلطانه

وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. ورواه أبو داود من وجه آخر؛ وفيه: قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا أمّ الرجل القوم: فلا يقم أرفع من مقامهم - أو نحو ذلك - ... " الحديث، وفي إسناده الرجل المجهول. ورواه البيهقي أيضا. ففي هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه؛ لحديث صلاته [صلى الله عليه وسلم] على المنبر كما في " الصحيحين " وغيرهما. ومن قال: إنه [صلى الله عليه وسلم] فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث: فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره. ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي [صلى الله عليه وسلم] . وقد جمع الماتن - رحمه الله تعالى - في هذا البحث رسالة مستقلة؛ جوابا عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها. ( [لا يؤم الرجل في سلطانه] :) (ويقدم السلطان ورب المنزل) : لما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعاً: " لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه "، وفي لفظ: " لا يؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه ". وورد تقييد جواز ذلك بالإذن.

الترتيب في الأحق بالإمامة

وفي لفظ لأبي داود " لا يُؤم الرجل في بيته ". وأخرج أحمد وأبو داود: والترمذي، والنسائي عن مالك بن الحويرث، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " من زار قوما فلا يؤمهم، ليؤمهم رجل منهم ". ( [الترتيب في الأحق بالإمامة] :) (والأقرأ، ثم الأعلم، ثم الأسن) : لما في حديث أبي مسعود بلفظ: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة؛ فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً "، وهو في " الصحيح ". وإنما لم يذكر الهجرة في المتن؛ لأنه لا هجرة بعد الفتح، كما في الحديث الصحيح. ( [اختلال صلاة الإمام عليه فقط] :) (وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه، لا على المؤتمين به) : لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " يصلون بكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم "، أخرجه البخاري وغيره. وأخرج ابن ماجه من حديث سهل بن سعد نحوه. ( [بيان موقف المؤتمين] :) (وموقفهم) ، أي: المؤتمين (خلفه) ؛ أي: خلف الإمام (إلا الواحد فعن

إمامة النساء وسط الصف

يمينه) : لحديث جابر بن عبد الله: أنه صلى مع النبي [صلى الله عليه وسلم] فجعله عن يمينه، ثم جاء آخر، فقام عن يسار النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأخذ بأيديهما، فدفعهما حتى أقامهما خلفه. وهو في " الصحيح ". وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة؛ يقف الواحد عن يمين الإمام، والإثنان فما زاد خلفه. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك. وقال سعيد بن المسيب: إنه مندوب فقط. وروي عن النخعي: أن الواحد يقف خلف الإمام. ( [إمامة النساء وسط الصف] :) (وإمامة النساء وسط الصف) : لما روي من فعل عائشة: أنها أمّت النساء فقامت وسط الصف؛ أخرجه عبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي، وابن أبي شيبة، والحاكم (¬1) . وروي مثل ذلك عن أم سلمة؛ أخرجه الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني. ¬

_ (¬1) • وابن سعد (8 / 355) ، عن سفيان، عن ميسرة، عن ريطة الحنفية، قالت: أمَّتنا عائشة في الصلاة، فقامت وسطنا، ثم روى (8 / 356) نحوه، عن عمار الدهني، عن حجيرة، عن أم سلمة. (ن) . قلت: وانظر " تمام المنة " (ص 153 - 155) .

قال ابن القيم: في " المسند " و " السنن " (¬1) من حديث عبد الرحمن بن خلاد، عن أم ورقة بنت الحارث: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها. قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا. ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله [صلى الله عليه وسلم] : " تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ": لكفى. وأخرج البيهقي بسنده عن عائشة: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " لا خير في جماعة النساء؛ إلا في صلاة أو جنازة " (¬2) . والاعتماد على ما تقدم. فرُدّت هذه السنن بالمتشابه من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "، رواه البخاري. وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء. وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة: فلا تدخل في هذا. ومن العجب: أن من خالف هذه السنة جوّز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين {فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم، ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن؟} انتهى حاصله. ¬

_ (¬1) حديث حسن؛ انظر " إرواء الغليل " (2 / 255) . (¬2) وهو حديث ضعيف؛ انظر " العلل المتناهية " (2 / 416) .

بيان ترتيب المؤتمين

( [بيان ترتيب المؤتمين] :) (وتقدم صفوف الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء) : لحديث أبي مالك الأشعري: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يجعل الرجال قدّام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان. أخرجه أحمد. وأخرج بعضه أبو داود؛ وفي إسناده شهر بن حوشب (¬1) . ويؤيده ما في " الصحيحين " من حديث أنس: أنه قام هو واليتيم خلف النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ وأم سليم خلفهم. (و) أما كون (الأحق بالصف الأول) هم (أولو الأحلام والنهى) : فلحديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في " الصحيح " أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي (¬2) ، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يحب أن يليه المهاجرون والأنصار؛ ليأخذوا عنه. قال في " الحجة ": ولئلا يشق على أولي الأحلام تقديم من دونهم عليهم. انتهى. ¬

_ (¬1) شهر من حوشب: ضعيف. (ش) (¬2) " السلسلة الصحيحة " (1409) .

على المؤتمين تسوية الصفوف

( [على المؤتمين تسوية الصفوف] :) (و) أما كون الأمر (على الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل) (¬1) : فلما رواه أبو داود (¬2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وسِّطوا الإمام، وسدوا الخلل ". وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ". وعنه أيضا في " الصحيحين ": كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر، فيقول: " تراصوا واعتدلوا ". وثبت في " الصحيح " من حديث نعمان بن بشير، أنه قال -[صلى الله عليه وسلم]-: " عباد الله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ". قلت: وهو قول أهل العلم؛ أن تسوية الصفوف سنة. ( [إتمام الصف الأول، ثم الذي يليه] :) (وأن يتموا الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم كذلك) : لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أمره -[صلى الله عليه وسلم]- بإتمام الصف الأول، ثم الذي يليه، ثم كذلك. ¬

_ (¬1) الخلل - بفتحتين -: الفرجة بين الشيئين، والجمع خلال، مثل جبل وجبال؛ قاله في " المصباح ". (ش) . (¬2) • أخرجه في الصفوف (ج 1 / ص 109) من طريق يحيى بن بشير بن خلاد، عن أمه، وهما مجهولان؛ كما قال ابن القطان - على ما في " فيض القدير " -؛ فالحديث غير صحيح. (ن)

فالسنة أن لا يقف المؤتم في الصف الثاني؛ وفي الصف الأول سعة، ثم لا يقف في الصف الثالث؛ وفي الصف الثاني سعة، ثم كذلك. وورد أيضا أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل. وأما الاعتداد بالركعة التي لحق الإمام فيها راكعا: ففيه خلاف لجماعة من الأئمة، والحق عدم الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة الفاتحة (¬1) ، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليرجع إلى: " شرح المنتقى "، و " طيب النشر "، و " السيل الجرار " و " حاشية الشفاء "، و " الفتح الرباني "، و " دليل الطالب "، فالمسألة من المعارك. وأما جعل ما أدركه مع الإمام: أول صلاته؛ فهذا هو الحق، فالهيئة المشروعة في الصلاة لا تتغير بتقديم أو تأخير؛ بل الأصل الأصيل البقاء على الصفة المشروعة، فيفعل الداخل مع الإمام - بعد أن فاته بعض الركعات - ما يفعله لو كان داخلا معه في الابتداء، أو كان منفرداً. وحديث " فاقضوا " - وإن كان صحيحاً - فحديث " أتموا " أصح منه (¬2) . ¬

_ (¬1) كان الأولى بهذه المسألة أن تذكر عند الكلام على وجوب قراءة الفاتحة، انظر " نيل الأوطار " (2 / 240 - 243) . والذي نراه: أن إدراك الركعة كاف: لحديث أبي هريرة مرفوعاً: " إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود؛ فاسجدوا ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة؛ فقد أدرك الصلاة "؛ رواه الحاكم في " المستدرك " (1 / 216 - 273) وصححه، ووافقه الذهبي. (ش) قلت: وانظر " السلسلة الصحيحة (رقم 230) و (1188) ، و " الإرواء " (496) . (¬2) انظر " الفتح " (2 / 118) .

وقد أمكن الجمع؛ بحمل معنى القضاء على التمام؛ لأنه أحد معانيه (¬1) ، ولكن يترك المؤتم مخالفة إمامه في الأركان، فلا يقعد في موضع ليس بموضع قعود للإمام، وإن كان موضع قعود له، ولا يدع القعود في موضع قعود للإمام، وإن لم يكن موضع قعود له؛ لأن الاقتداء والمتابعة لازمان في صلاة الجماعة، وتركهما يخرج الصلاة عن كونها صلاة جماعة، وقد ورد الأمر بالمتابعة في الأركان بيانا لقوله: " لا تختلفوا على إمامكم "، ولم يرد الأمر بذلك في الأذكار. ¬

_ (¬1) بل إن الأصل في معنى القضاء هو الإتمام: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} . (ش)

باب سجود السهو

(8 - باب سجود السهو) سنّ رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- فيما إذا قصّر الإنسان في صلاته؛ أن يسجد سجدتين تداركاً لما فرّط، ففيه شبه القضاء وشبه الكفارة، والمواضع التي ظهر فيها النص أربعة؛ وسيأتي. قال في " سِفر السعادة ": " من جملة منن الحق - تعالى - ونعمه على الأمة المحمدية: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يسهو في الصلاة، لتقتدي الأمة به في التشريع، وإذ ذاك يقول: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني " وقال: " إنما أَنسى أو أُنسى لأسُنّ " (¬1) ؛ يعني: لأسُنّ ما شُرع في جبر ذلك ". انتهى. ( [ما هو سجود السهو؟] :) (هو سجدتان قبل التسليم أو بعده) ، ووجه التخيير: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صح عنه أنه سجد قبل التسليم، وصح عنه أنه سجد بعده. أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل التسليم: فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: " إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين! فليجعلها ¬

_ (¬1) حديث لا أصل له؛ فانظر " السلسلة الضعيفة " (رقم: 101) ، و " شرح الزرقاني على الموطإ " (1 / 205) .

واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا {فليجعلها ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا} فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس - قبل أن يسلم - سجدتين ". وفي الباب أحاديث: منها ما هو في " الصحيح "؛ كحديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا! فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ". ومنها ما هو في غير " الصحيحين ". وأما ما صح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم: فكحديث ذي اليدين الثابت في " الصحيحين "؛ فإن فيه أنه -[صلى الله عليه وسلم]- سجد بعد ما سلم. وحديث ابن مسعود وهو في " الصحيحين " وغيرهما مرفوعا بلفظ: " إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين ". وحديث المغيرة بن شعبة: أنه صلى بقوم، فترك التشهد الأوسط، فلما فرغ من صلاته، سلم ثم سجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع بنا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-. رواه أحمد والترمذي - وصححه -. وحديث ابن مسعود الثابت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال:

" لا؛ وما ذاك؟ ! " فقالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم، وتارة بعده: تدل على أنه يجوز جميع ذلك. ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه الشارع، فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم، ويسجد بعد التسليم فيما أرشد فيه إلى السجود بعد التسليم، وما عدا ذلك؛ فهو بالخيار، والكل سنة. قال في " سفر السعادة ": وسجد للسهو قبل السلام في بعض المواضع، وبعده في بعضها، فجعله الإمام الشافعي في كل حال قبل السلام. والإمام أبو حنيفة جعله بعد السلام في كل حال. وقال الإمام مالك: يسجد لسهو النقصان قبل السلام، ولسهو الزيادة في الصلاة بعد السلام، وإن اجتمع سهوان، أحدهما زائد والآخر ناقص؛ يسجد لهما قبل السلام. " وقال الإمام أحمد: يسجد قبل السلام في المحل الذي سجد فيه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قبل السلام، وما عداه يسجد للسهو بعد السلام. وقال داود الظاهري: لا يسجد للسهو إلا في هذه المواطن الخمس التي سجد فيها رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، ولو سها في غيرها

لا يسجد للسهو، ولم يعرض له -[صلى الله عليه وسلم]- الشك في الصلاة، لكن قال: " من شك فليبن على اليقين "، ولم يعتبر الشك، ويسجد للسهو قبل السلام. وقال الإمام أبو حنيفة: إن كان له ظن بنى علي غالب ظنه، وإن لم يكن له ظن بنى على اليقين. وقال الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد: بنى على اليقين مطلقا. انتهى. ولا يشك منصف أن الأحاديث الصحيحة مصرحة بأنه كان يسجد في بعض الصلوات قبل السلام، وفي بعضها بعد السلام، فالجزم بأن محلهما بعد السلام فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة، لا لموجب إلا لمجرد مخالفتها لما قاله فلان أو فلان! كما أن الجزم بأن محلهما قبل التسليم فقط طرح لبعض الأحاديث الصحيحة لمثل ذلك. والمذاهب في المسألة منتشرة؛ قد بسطها الماتن في " شرح المنتقى ". والحق عندي: أن الكل جائز وسنة ثابتة، والمصلي مخير بين أن يسجد قبل أن يسلم: أو بعد أن يسلم، وهذا فيما كان من السهو غير موافق للسهو الذي سجد له [صلى الله عليه وسلم] قبل السلام أو بعده. وأما في السهو الذي سجد له [صلى الله عليه وسلم] : فينبغي الاقتداء به في ذلك، وإيقاع السجود في المواضع الذي أوقعه فيه -[صلى الله عليه وسلم]- مع الموافقة في السهو، وهي مواضع محصورة مشهورة، يعرفها من له اشتغال بعلم السنة المطهرة.

بم يكون سجود السهو

( [بم يكون سجود السهو؟] :) (و) أما كون سجود السهو (بإحرام وتشهد وتحليل) : فقد ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه كبّر وسلّم؛ كما في حديث ذي اليدين الثابت في " الصحيح "، وفي غيره من الأحاديث. وأما التشهد: فلحديث عمران بن حصين: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- صلى بهم، فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم. أخرجه أبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين (¬1) . وقد روي نحو ذلك من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة. ( [أسباب سجود السهو] :) (1 -[لترك مسنون] :) (و) أما كونه (يشرع لترك مسنون) : فلحديث سجوده -[صلى الله عليه وسلم]- لترك التشهد الأوسط، ولحديث: " لكل سهو سجدتان " (¬2) ، ¬

_ (¬1) في " المستدرك " (جزء 1 / 323) ، ووافقه الذهبي في " مختصره " على تصحيحه. (ش) قلت: وفي " الإرواء " (403) ما يبين ضعفه وشذوذه. (¬2) • أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن ثوبان. قال البيهقي في " المعرفة ": " انفرد به إسماعيل بن عياش؛ وليس بقوي "، وقال الذهبي: قال الأثرم: " هذا منسوخ ". وقال ابن عبد الهادي كابن الجوزي - بعدما عزياه لأحمد -: " إسماعيل بن عياش مقدوح فيه؛ فلا حجة فيه "، وقال ابن حجر: " في سنده اختلاف ". كذا في " الفيض "؛ ثم قال: " فرمز المؤلف لحسنه غير حسن ". (ن) قلت: والصواب أن الحديث ثابت، وهو ما انتهى إليه شيخنا منذ سنوات؛ فانظر " الإرواء " (2 / 47) .

والكلام فيه معروف. ونحو ذلك إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهوا؛ لأنه قد ثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان، كما في حديث أبي سعيد الثابت في " الصحيح "، ولا يكون الترغيم إلا مع السهو؛ لأنه من قبل الشيطان. وأما مع العمد: فهو من قبل المصلي، وقد فاته ثواب تلك السنة. قلت: مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن من سلم من ركعتين ساهيا أتم وسجد سجدتين، وهو في مذهب أبي حنيفة خاص بمن سلم على رأس الركعتين على ظن أنهما أربعة، فلو سلم على رأسهما على ظن أنهما جمعة أو على أنه مسافر؛ فإنه يستقبل الصلاة. كذا في " العالمكيرية " في فصل المفسدات. واستخرج له الشافعي علة، وهي فعل شيء يبطل الصلاة، عمده دون سهوه. أقول ما وقع من اصطلاح الفقهاء على تسميته هيئة؛ هو لا يخرج به عن كونه مندوبا، وتخصيص وجوب السجود للسهو بترك ما كان مسنونا دون ما كان مندوبا لا دليل عليه، ولا سيما وهذه الأسماء إنما هي اصطلاحات حادثة. وإلا؛ فالمسنون والمندوب إليه معناهما - لغة - أعم من معناهما اصطلاحا، وأيضا الفرق بين المسنون والمندوب إنما هو اصطلاح لبعض أهل الأصول دون جمهورهم. وغاية ما هناك: أن المسنون هو المندوب المؤكد، وصدق اسم السهو على

لزيادة ركعة

ترك المندوب كصدقه على ترك المسنون، فيندرج تحت حديث: " لكل سهو سجدتان "، وتحقق الزيادة والنقص حاصل لكل واحد منهما، فمدعي التفرقة بينهما مطالب بالدليل (¬1) . ولا ريب أن بعض ما عدوه من الهيئات لا يتحقق، مثل ترك نصب القدم، وترك وضع اليدين. (2 -[لزيادة ركعة] :) (و) أما كونه يشرع (للزيادة ولو ركعة سهوا) : فللحديث المتقدم، وما دون الركعة بالأولى. قال في " المسوى ": " عند الحنفية: إن سها عن القعدة الآخرة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة؛ ما لم يسجد، وتشهد ثم سجد للسهو، وإن قيد الخامسة بالسجدة بطل فرضه، ولو قعد في الرابعة ثم قام ولم يسلم؛ عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة، وسلم وسجد للسهو، وإن قيدها بالسجدة تم فرضه؛ فيضم إليها ركعة أخرى لتكونا تطوعا، فإن لم يضم وقطع الصلاة لم يلزمه القضاء؛ لأنه إنما شرع ظنا. وعند الشافعية: في أية حالة ذكر أنها خامسة؛ قعد وألغى الزائد، وراعى ترتيب الصلاة مما قبل الزائد، ثم سجد للسهو، وفي معنى الركعة عنده الركوع والسجود. ويتجه على مذهب الحنفية أن يقال في حديث ابن مسعود: إنه حكاية ¬

_ (¬1) هذا هو الحق الذي لا محيد عنه.

عند الشك في العدد

حال؛ فلعله قام بعد القعدة ولم يضم السادسة؛ لبيان أنه غير واجب ". انتهى. (3 -[عند الشك في العدد] :) (و) أما (للشك في العدد) : ففيه الأحاديث المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على اليقين وسجد للسهو. قال في " الحجة البالغة ": " وهو الأول من المواضع الأربع التي ظهر فيها النص، وفي معناه الشك في الركوع والسجود. والثاني: زيادة الركعة كما سبق، وفي معناه زيادة الركن. والثالث: أنه [صلى الله عليه وسلم] سلم من ركعتين، فقيل له في ذلك؟ فصلى ما ترك وسجد سجدتين، وأيضا روي أنه سلم وقد بقي عليه ركعة بمثله، وفي معناه أن يفعل سهوا ما يبطل عمده. الرابع: أنه [صلى الله عليه وسلم] قام من الركعتين - كما مر -، وفي معناه ترك التشهد في القعود، وقوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا قام الإمام من الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائما فليجلس، وإن استوى قائما؛ فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو ". أقول: في الحديث دليل على أن من كان قريب الاستواء؛ ربما يستوي؛ فإنه لا يجلس؛ خلافا لما عليه العامة " (¬1) . انتهى. وفي " المسوى ": " اختلفوا في ذلك: ¬

_ (¬1) انظر " السلسلة الصحيحية " (321) .

متابعة الإمام في سجود السهو

فعند الشافعية: إذا شك في صلاته بنى على اليقين؛ وهو الأقل؛ سواء كان شك في ركعة أو ركن. وعند الحنفية: إن كان ذلك أول مرة سها؛ يستقبل الصلاة، وإن كان يعرض له كثيرا؛ بنى على أكبر رأيه؛ لحديث ابن مسعود: " إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب ". وقال أحمد: يطرح الشك؛ إما بأخذ الأقل وإما بالتحري، فإن اختار الأول؛ سجد قبل السلام، وإن اختار الثاني؛ سجد بعده ". انتهى. ( [متابعة الإمام في سجود السهو] :) (وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم) : لأن ذلك من تمام الصلاة، ولأنه كان يسجد الصحابة إذا سجد النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقد ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق.

باب القضاء للفوائت

(9 - باب القضاء للفوائت) ( [الاختلاف في قضاء الفوائت المتروكة] :) (إن كان الترك عمدا - لا لعذر - فدين الله تعالى أحق أن يقضى) : وقد اختلف أهل العلم في قضاء الفوائت المتروكة لا لعذر: فذهب الجمهور إلى وجوب القضاء. وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا قضاء على العامد غير المعذور، بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة، وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية. ولم يأت الجمهور بدليل يدل على ذلك، ولم أجد أنا دليلا لهم من كتاب ولا سنة؛ إلا ما ورد في حديث الخثعمية؛ حيث قال لها النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " فدين الله أحق أن يقضى "، وهو حديث صحيح، وفيه من العموم الذي يفيده المصدر المضاف ما يشمل هذا الباب؛ فهذا الدليل ليس بأيدي الموجبين سواه (¬1) . وقد اختلف أهل الأصول: هل القضاء يكفي فيه دليل وجوب المقضي؟ ¬

_ (¬1) وهو كاف تماما للدلالة على وجوب القضاء. (ش) قلت: انظر لمناقشة هذا الدليل - وهو أقوى أدلة الموجبين -: كتاب " النصوص الشرعية الثابتة في قضاء الصلاة الفائتة " (ص 209 - 210) للشيخ محمد نسيب الرفاعي - رحمه الله -.

أم لا بد من دليل جديد يدل على وجوب القضاء؟ والحق أنه لا بد من دليل جديد؛ لأن إيجاب القضاء هو تكليف مستقل غير تكليف الأداء، ومحل الخلاف هو الصلاة المتروكة لغير عذر عمدا. وأقول: حكمه ما في الأحاديث الصحيحة: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فمن فعل ذلك؛ فقد عصم دمه وماله إلا بحقه "، ومن لم يفعل فلا عصمة لدمه وماله؛ بل نحن مأمورون بقتاله، كما أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، والمقاتلة تستلزم القتل، ثم التوبة مقبولة، فتارك الصلاة إن تاب وأناب؛ وجب علينا أن نخلي سبيله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فمن علمنا أنه ترك صلاة من الصلوات الخمس؛ وجب علينا أن نؤذنه بالتوبة، فإن فعل فذاك، وإن لم يفعل قتلناه؛ حكم الله {ومن أحسن من الله حكما} . وأما إطلاق اسم الكفر عليه؛ فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وتأويلها لم يوجبه الله علينا؛ ولا أذن لنا فيه (¬1) . ومن غرائب بعض الفقهاء التردد في إطلاق اسم الفسق عليه، معللا ذلك بأن التفسيق لا يجوز إلا بدليل قطعي! مع أنه يرمي بالكفر من خالفه في أدنى معتقداته التي لم يأذن الله لنا باعتقادها، فضلا عن التكفير بها، والله المستعان. وأما كيفية القضاء؛ فأقول: لا شك أن تقديم المقضية على المؤداة، ¬

_ (¬1) انظر رسالة " حكم تارك الصلاة " (ص 40 - 41) لشيخنا الألباني - حفظه الله تعالى -.

وجوب الإيمان بالصلاة المتروكة لعذر

وتقديم الأولى من المقضيات على الأخرى: هو الأولى والأحب، ولو لم يرد في ذلك إلا فعله [صلى الله عليه وسلم] في يوم الخندق؛ لكان فيه كفاية. وإنما الشأن في كون ذلك متحتما لا يجوز غيره. ( [وجوب الإيمان بالصلاة المتروكة لعذر] ) (وإن كان) ؛ أي: الترك (لعذر) : من نوم، أو سهو، أو نسيان، أو اشتغال بملاحمة القتال مع عدم إمكان صلاة الخوف والمسايفة (فليس بقضاء) ، بل تجب تأدية تلك الصلاة المتروكة عند زوال العذر، وذلك وقتها، وفعلها فيه أداء، كما يفيد ذلك أحاديث: " من نام عن صلاة أو سها عنها؛ فوقتها حين يذكرها " (¬1) - وقد تقدمت في أول كتاب الصلاة -؛ وفي ذلك خلاف. والحق أن ذلك هو وقت الأداء، لا وقت القضاء؛ للتصريح منه [صلى الله عليه وسلم] أن وقت الصلاة المنسية، أو التي نام عنها المصلي؛ وقت الذكر. وأما المتروكة لغير نوم وسهو، كمن يترك الصلاة لاشتغاله بالقتال - كما سبق -؛ فقد شغل النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر، وما صلوهما إلا بعد هوي (¬2) من الليل، كما أخرجه أحمد، والنسائي من حديث أبي سعيد. وهو في " الصحيحين " من حديث جابر. ¬

_ (¬1) انظر " إرواء الغليل " (263) ؛ ففيه تخريج دقيق لألفاظه ورواياته. (¬2) الهوي - بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء المثناة التحتية -: الحين الطويل من الزمان، أو الساعة الممتدة من الليل، وقيل: هو خاص بالليل. وحكى فيه ابن سيده ضم الهاء أيضا. (ش)

وليس فيه ذكر الظهر، بل العصر فقط، ولذلك قال الماتن: (بل أداء في وقت زوال العذر، إلا صلاة العيد) المتروكة لعذر؛ وهو عدم العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد. (ففي ثانيه) ؛ أي: تفعل في اليوم الثاني، ولا تفعل في يوم العيد بعد خروج الوقت، إذا حصل العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد؛ لحديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أنه غم عليهم الهلال، فأصبحوا صياما، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في " صحيحه "، وصححه ابن المنذر، وابن السكن، وابن حزم، والخطابي، وابن حجر في " بلوغ المرام " (¬1) . أقول: وأما الكافر إذا أسلم: فلا يجب عليه القضاء على كل حال؛ لأن القائل بأنه غير مخاطب بالشرعيات ينفي عنه الوجوب حال الكفر، والقائل أنه مخاطب؛ يجعل الخطاب باعتبار الثواب والعقاب، لا باعتبار وجوب الأداء أو القضاء، فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف. والظاهر أن المرتد حكمه حكم غيره من الكفار في عدم وجوب القضاء؛ لأن الدليل يصدق عليه كما يصدق على غيره من الكفار. ¬

_ (¬1) انظر " صحيح أبي داود " (1026)

باب صلاة الجمعة

(10 - باب صلاة الجمعة) ( [الجمعة فريضة من فروض الأعيان] :) (تجب على كل مكلف) : لأن الجمعة فريضة من فرائض الله - تعالى -، وقد صرح بذلك كتاب الله - عز وجل -، وما صح من السنة المطهرة، كحديث أنه [صلى الله عليه وسلم] هم بإحراق من يتخلف عنها (¬1) ، وهو في " الصحيح " من حديث ابن مسعود، وكحديث أبي هريرة: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين "؛ أخرجه مسلم وغيره. ومن ذلك حديث حفصة مرفوعا: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم "؛ أخرجه النسائي بإسناد صحيح. وحديث طارق بن شهاب: " الجمعة حق واجب على كل مسلم "؛ أخرجه أبو داود وسيأتي. وقد واظب عليها النبي [صلى الله عليه وسلم] من الوقت الذي شرعها الله - تعالى - فيه إلى أن قبضه الله - عز وجل -. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين. ¬

_ (¬1) هذه رواية مسلم، وفي رواية للشيخين: " الجماعة "؛ عامة. وانظر " صحيح الترغيب " (413) .

وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الأمة. وقال ابن قدامة في " المغني ": أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وإنما الخلاف: هل هي من فروض الأعيان؟ أو من فروض الكفايات؟ ومن نازع في فرضية الجمعة فقد أخطأ ولم يصب. قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على فرضية الجمعة، وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان، واتفقوا على أنه لا جمعة في العوالي، وأنه يشترط لها الجماعة، وأن الوالي إن حضر فهو الإمام، ثم اختلفوا في الوالي، وشرط الموضع، والجماعة. قال الشافعي: كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا أحرارا مقيمين؛ تجب عليهم الجمعة، ولا تنعقد إلا بأربعين رجلا كذلك، والوالي ليس بشرط. وقال أبو حنيفة: لا جمع إلا في مصر جامع أو في فنائه، وتنعقد بأربعة، والوالي شرط. وقال مالك: إذا كان جماعة في قرية، بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه؛ وجبت عليهم الجمعة. وفي " مختصر ابن الحاجب ": لا تجزيء الأربعة ونحوها، ولا بد من قوم تتقرى بهم القرية، ولا يشترط السلطان على الأصح. قال في " العالمكيرية ": القروي إذا دخل المصر، ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول الوقت، أو بعد دخوله؛ لا جمعة عليه " (¬1) . انتهى. ¬

_ (¬1) انظر تحرير هذا وتحقيقه في رسالة " الأجوبة النافعة " (ص 76 - 81) لشيخنا.

لا تجب الجمعة على المرأة والعبد والمسافر والمريض

( [لا تجب الجمعة على المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض] :) (إلا المرأة، والعبد، والمسافر، والمريض) : لحديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة؛ إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض " أخرجه أبو داود (¬1) من حديث طارق بن شهاب، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وقد أخرجه الحاكم من حديث طارق، عن أبي موسى. قال الحافظ: وصححه غير واحد. وفي حديث أبي هريرة وحديث جابر: ذكر المسافر. وفي الحديثين مقال معروف. والغالب أن المسافر لا يسمع النداء، وقد ورد أن الجمعة على من سمع النداء، كما في حديث ابن عمرو عند أبي داود (¬2) . قال في " المسوى ": " واتفقوا على أنه لا جمعة على مريض، ولا مسافر، ولا امرأة، ولا عبد، وأنه إن صلاها منهم أحد سقط الفرض، وعلى أنه إن أم مريض أو مسافر جاز. وفي " المنهاج ": وتصح خلف العبد، والصبي، والمسافر - في الأظهر -، إذا تم العدد بغيره. ¬

_ (¬1) " الإرواء " (592) ، وهو حديث صحيح. (¬2) " الإرواء " (593) ، وهو حديث حسن.

الجمعة لا تخالف الصلوات إلا في مشروعية الخطبة قبلها

وفيه أيضا: ولا جمعة على معذور مرخص [له] في ترك الجماعة. وفي " العالمكيرية ": " المطر الشديد والاختفاء من السلطان الظالم؛ مسقط ". قال في " المنح ": " وكان -[صلى الله عليه وسلم]- يرخص في تركها وقت المطر، ولو لم يبتل أسفل النعلين (¬1) ، وكان يرخص في السفر يوم الجمعة لا سيما للجهاد ". انتهى. ( [الجمعة لا تخالف الصلوات إلا في مشروعية الخطبة قبلها] :) (وهي كسائر الصلوات لا تخالفها) : لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها في غير ذلك. وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل: إنه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم، والمصر الجامع، والعدد المخصوص! فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها؛ فضلا عن وجوبها؛ فضلا عن كونها شروطا، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة؛ فقد فعلا ما يجب عليهما. فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط (¬2) ، ولولا حديث طارق بن شهاب - المذكور قريبا - من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة، ومن عدم إقامتها في زمنه [صلى الله عليه وسلم] في غير جماعة: لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات. ¬

_ (¬1) انظر كتابي " أحكام الشتاء " (ص 99 - 102) . (¬2) انظر " الأجوبة النافعة " (ص 91) - للمناقشة والترجيح -.

وأما ما يروى من: " أربعة إلى الولاة ... ": فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة (¬1) ، ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة، حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله، وإنما هو من كلام الحسن البصري. ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله - تعالى - عليهم في الأسبوع، وجعلها شعارا من شعائر الإسلام، وهي صلاة الجمعة؛ من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائغة، والاجتهادات الداحضة (¬2) : قضى من ذلك العجب. فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وإن من فاتته لم تصح جمعته؛ وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها من عضد بعض (¬3) ، أن " من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته "، ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة. وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام { وقائل يقول: بأربعة} وقائل يقول: بسبعة { وقال يقول: بتسعة} وقائل يقول: باثني عشر! ¬

_ (¬1) " نصب الراية " (3 / 326) (¬2) أي: الباطلة. (ش) (¬3) انظر طرق الحديث وألفاظه من " إرواء الغليل " (622) ، وهو حديث صحيح.

وقائل يقول: بعشرين { وقائل يقول: بثلاثين} وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين { وقائل يقول: بخمسين} وقائل يقول: لا تنعقد إلا بسبعين { وقائل يقول: فيما بين ذلك} وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد { وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع} وحدّه بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف { وآخر قال أن يكون فيه جامع وحمام} وآخر قال: أن يكون فيه كذا وكذا { وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم، فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه؛ لم تجب الجمعة ولم تشرع. ونحو هذه الأقوال، التي عليها أثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله - تعالى - ولا في سنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة الجمعة، أو فرضا من فرائضها، أو ركنا من أركانها. فيا لله العجب} ما يفعل الرأي بأهله، ومن يخرج من رؤوسهم من

الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم، وما يخبرونه في أسمارهم من القصص والأحاديث الملفقة، وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل؟ ! يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة، وكل متصف بصفة الإنصاف، وكل من ثبت قدمه، ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال. ومن جاء بالغلط؛ فغلطه رد عليه مضروب به في وجهه، والحكم بين العباد هو كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله -[صلى الله عليه وسلم]- كما قال - سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} . فهذه الآيات ونحوها تدل أبلغ دلالة، وتفيد أعظم فائدة؛ أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله، وحكم الله هو كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله - تعالى - هو سنته؛ ليس غير ذلك، ولم يجعل الله - تعالى - لأحد من العباد - وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ، وجمع منه ما لا يجمع غيره -، أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، والمجتهد - وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل -؛ فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان. وإني - كما علم الله - لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين، وتصديره في كتب الهداية، وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به، وهو على شفا جرف هار، ولم يختص هذا بمذهب من المذاهب، ولا بقطر من الأقطار، ولا

مشروعية الخطبتين

بعصر من العصور، بل تبع فيه الآخر الأول كأنه أخذه من أم الكتاب، وهو حديث خرافة، وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الإشارة إليها؛ بلا برهان، ولا قرآن، ولا شرع، ولا عقل! والبحث في هذا يطول جدا (¬1) . قال الماتن - رحمه الله -: وقد جمعت فيه مصنفين؛ مطولا ومختصراً، ولله الحمد. ( [مشروعية الخطبتين] :) (إلا في مشروعية الخطبتين قبلها) : لأن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- سنّ في الجمعة خطبتين يجلس بينهما، وما صلى بأصحابه جمعة من الجمع إلا وخطب فيها. إنما دعوى الوجوب إن كانت بمجرد فعله المستمر: فهذا لا يناسب ما تقرر في الأصول، ولا يوافق تصرفات الفحول، وسائر أهل المذهب المنقول، وأما الأمر بالسعي إلى ذكر الله: فغايته أن السعي واجب، وإذا كان هذا الأمر مجملا فبيانه واجب، فما كان متضمنا لبيان نفس السعي إلى الذكر: يكون واجبا؛ فأين وجوب الخطبة (¬2) ؟ ¬

_ (¬1) ما قاله الشارح هنا جيد، ولكن رأيه في جواز صلاة الجمعة من اثنين بدون خطبة لا نراه حقا؛ فإن وجوبها معلوم من الدين ضرورة، لم يخالف فيه أحد، ولم تذكر في القرآن إلا إجمالا، ولكن تواتر العمل بها وبصفتها من عصر النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى الآن، والأحاديث الصحيحة بينت هذه الصفة تفصيلا، فلم يصلها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مرة بدون خطبتين، وبغير جمع الحاضرين ممن يسعه حضورها، وهذه المواظبة الدقيقة لا يصح حملها إلا على أنها بيان لهذا الواجب، يلحق به في الوجوب. (ش) (¬2) وجوب الخطبتين - كما قلنا - ظاهر، من المواظبة على الفعل الذي هو بيان لصفة هذه الصلاة الواجبة؛ وهذا ظاهر مطابق لقواعد الأصول، ودقائق الشريعة المطهرة. (ش)

فإن قيل: إنه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى؛ فيقال: ليس السعي لمجرد الخطبة، بل وإليها وإلى الصلاة، ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة، فلا تتم هذه الأولوية. وهذا النزاع في نفس الوجوب، وأما في كون الخطبة شرطا للصلاة؛ فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى على عارف؛ فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في عدم المشروط، فهل من دليل يدل على أن عدم الخطبة يؤثر في عدم الصلاة؟ (¬1) ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده -[صلى الله عليه وسلم]- من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت. وأما اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسول الله، أو قراءة شيء من القرآن، فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته -[صلى الله عليه وسلم]- لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم. ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ، دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه -[صلى الله عليه وسلم]-، وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً ويقول مقالا، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله. وما أحسن هذا وأولاه! ولكن ليس هو المقصود؛ بل المقصود ما بعده، ¬

_ (¬1) هذه الصلاة وجبت بهذه الصفة التي واظب عليها رسول الله، فمن قصّر بها عما كان عليه العمل؛ فإنه لم يؤد ما وجب عليه، وهو واضح في الشرطية. (ش)

وقت الجمعة وقت الظهر

ولو قال قائل: إن من قام في محفل من المحافل خطيباً ليس له باعث على ذلك؛ إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولاً، بل كل طبع سليم يمجه ويرده. إذا تقرر هذا: عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب؛ فقد فعل الأمر المشروع؛ إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية: كان أتم وأحسن (¬1) . ( [وقت الجمعة وقت الظهر] :) (ووقتها وقت الظهر) : لكونها بدلا عنه، وقد ورد ما يدل على أنها تجزئ قبل الزوال كما في حديث أنس: أنه كان -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي الجمعة، ثم يرجعون إلى القائلة يقيلون. وهو في " الصحيح ". ومثله من حديث سهل بن سعد في " الصحيحين ". وثبت في " الصحيح " من حديث جابر: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان يصلي الجمعة، ثم يذهبون إلى جمالهم، فيريحونها حين تزول الشمس. وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل؛ وهو الحق. ¬

_ (¬1) هذا جيد جدا؛ وهو المعقول من شرع الخطبتين في الجمعة. (ش)

حكم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة

وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت الظهر! ( [حكم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة] :) (وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس) ؛ إلا إذا كان إماماً، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها إلا بتخط، كما نقله المحلي عن " الروضة "؛ لحديث عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ والنبي [صلى الله عليه وسلم] يخطب، فقال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " اجلس فقد آذيت "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره. ولحديث أرقم بن أبي الأرقم المخزومي، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام؛ كالجارّ قُصبه (¬1) في النار "؛ أخرجه أحمد، والطبراني في " الكبير "، وفي إسناده مقال. (¬2) وفي الباب أحاديث: منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي، وابن ماجه، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة؛ اتخذ جسرا إلى جهنم "، قال الترمذي: حديث غريب (¬3) ، والعمل عليه عند أهل العلم. ¬

_ (¬1) القصب - بضم القاف وإسكان الصاد المهملة -: اسم للأمعاء كلها، وجمعه أقصاب. (ش) (¬2) قال ابن حجر في " الإصابة " (جزء 1: ص 26) : " قال الدارقطني في " الأفراد ": تفرد به هشام بن زياد، وقد ضعفوه ". (ش) (¬3) وهو ضعيف: انظر التعليق على " المشكاة " (1392) .

الإنصات حال الخطبتين واجب

وفي " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ": ومنها: تخطي رقاب الناس يوم الجمعة؛ كذا عده الشيخ شمس الدين ابن القيم من الكبائر، وقد صرح النووي وغيره بأنه حرام. انتهى. قلت: وفي الباب عن عثمان وأنس - أيضا -. ( [الإنصات حال الخطبتين واجب] :) (وأن ينصت حال الخطبتين) : لحديث أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت؛ والإمام يخطب؛ فقد لغوت "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث علي، قال: من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت؛ كان عليه كفل (¬1) من الوزر، ومن قال: صه؛ فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، ثم قال: هكذا سمعت نبيكم [صلى الله عليه وسلم] . وفي إسناده مجهول. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. أقول: وحاصل ما يستفاد من الأدلة: أن الكلام منهي عنه حال الخطبة نهيا عاما، وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في صلاة التحية؛ من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء، والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحة (¬2) ، ¬

_ (¬1) يعني: ضعفا؛ أي: يضاعف عليه الإثم. (ش) (¬2) ليس هذا تخصيصا؛ بل هذا باب، وذاك باب؛ فإن النهي عن الكلام إنما هو نهي عن محادثة غيره، لئلا يلغو، وأما الذكر الذي في الصلاة؛ فهو شيء آخر. (ش)

فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية، إن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة، والوفاء بما دلت عليه الأدلة؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] أمر سُليكا الغطفاني - لما وصل إلى المسجد حال الخطبة، فقعد ولم يصل التحية - بأن يقوم فيصلي، فدل هذا على كون ذلك من المشروعات المؤكدة، بل من الواجبات، كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني في رسالة مستقلة، وبينت أنا في " دليل الطالب إلى أرجح المطالب " وجوب صلاة التحية. ومن جملة مخصصات صلاة التحية حديث: " إذا جاء أحدكم والإمام يخطب؛ فليصل ركعتين "، وهو حديث صحيح متضمن للنص في محل النزاع. وأما ما عدا صلاة التحية؛ من الأذكار، والأدعية، والمتابعة للخطيب في الصلاة على النبي [صلى الله عليه وسلم] : فلم يأت ما يدل على تخصيصها من ذلك العموم (¬1) . والمتابعة في الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم]- وإن وردت بها أدلة قاضية بمشروعيتها -: فهي أعم من أحاديث منع الكلام حال الخطبة من وجه، وأخص منها من وجه؛ فيتعارض العمومان، وينظر في الراجح منهما، وهذا إذا كان اللغو المذكور في حديث: " ومن لغا فلا جمعة له " يشمل جميع أنواع الكلام (¬2) . وأما إذا كان مختصا بنوع منه (¬3) - وهو ما لا فائدة فيه -: فليس فيه ما يدل على منع الذكر والدعاء والمتابعة في الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم] . ¬

_ (¬1) أي: هي داخلة في النهي عن أن تقال أو تذكر. (¬2) هذا هو الصواب - إن شاء الله -، فقول المسلم لأخيه: صه؛ هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومع ذلك سماه [صلى الله عليه وسلم] : (لغواً) ؛ فكيف بغيره مما هو مثله أو دونه؟ ! (¬3) ولا دليل على التخصيص.

وأما حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام يخطب؛ فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام ": فقد أخرجه الطبراني في " الكبير " عن ابن عمر، وفي سنده ضعف، كما قاله صاحب " مجمع الزوائد "، فلا تقوم به الحجة. ولكنه قد روي ما يقويه: فأخرج أبو يعلى، والبزار عن جابر (¬1) ، قال: قال سعد بن أبي وقاص لرجل: لا جمعة لك، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " لم يا سعد؟ ! "، فقال: لأنه تكلم وأنت تخطب، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " صدق سعد "؛ وفي إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف عند الجمهور. وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة. وقد ذكر العلامة الشوكاني في " شرح المنتقى " أحاديث تفيد معنى هذا الحديث؛ فليراجع. ويقويها ما يقال: إن المراد باللغو المذكور في الحديث التلفظ، وإن كان أصله ما لا فائدة فيه؛ بقرينة أن قول من قال لصاحبه: أنصت؛ لا يعد من اللغو؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سماه النبي [صلى الله عليه وسلم] لغوا. ويمكن أن يقال: إن ذلك الذي قال: أنصت؛ لم يؤمر في ذلك الوقت بأن يقول هذه المقالة؛ فكان كلامه لغوا حقيقة من هذه الحيثية. ¬

_ (¬1) وقد حسنه - لشواهده - شيخنا في " الصحيحة " (تحت حديث 2251) .

يندب التبكير للجمعة

( [يُندب التبكير للجمعة] :) (ونُدب له التبكير) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح؛ فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية؛ فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة؛ فكأنما قرب كبشا أقرن (¬1) ، ومن راح في الساعة الرابعة؛ فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة؛ فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ". وفي الباب أحاديث في مشروعية التبكير. قال في " المسوى شرح الموطأ ": " الأصح أن هذه الساعات ساعات لطيفة بعد الزوال (¬2) ، لا الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار ". انتهى. ( [يُندب التطيب والتجمل للجمعة] :) (والتطيب والتجمل) : لحديث أبي سعيد، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " على كل مسلم الغسل يوم الجمعة، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه "؛ أخرجه أحمد وأبو داود. وهو في " الصحيحين " بلفظ: " الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبا إن وجد ". وأخرج أحمد، والبخاري وغيرهما من حديث سلمان الفارسي، قال: ¬

_ (¬1) الأقرن: ذو القرون؛ وهو خير مما لا قرن له. (ش) (¬2) لا دليل على هذا المعنى!

يندب الدنو من الإمام

قال النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يروح إلى المسجد، ولا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت للإمام إذا تكلم: إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى ". وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة، حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له، ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يصلي: كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى "؛ ورجال إسناده ثقات (¬1) . وفي الباب أحاديث. ( [يندب الدنو من الإمام] :) (والدنو من الإمام) : لحديث سمرة عند أحمد، وأبي داود، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها " وفي إسناده انقطاع (¬2) . وفي الباب أحاديث. ومن جملة ما يشرع يوم الجمعة الغسل، وقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل. ¬

_ (¬1) وإسناده حسن؛ كما قال شيخنا في تعليقه على " صحيح ابن خزيمة " (1775) . (¬2) انظر تخريج الحديث وتصحيحه في " السلسلة الصحيحة " (365) لشيخنا.

من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها

( [من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها] :) (ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها) : لحديث: " من أدرك ركعة من صلاة الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته ". فهذا - وإن كان فيه مقال - غايته الإعلال بالإرسال، فقد ثبت رفعه من طريق جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة؛ فإنه روي عنه من ثلاث عشرة طريقا، ومن ثلاث طرق (¬1) عن ابن عمر، وبعضها يؤيد بعضا، فهي لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن أبي هريرة، وقال فيها: " على شرط الشيخين ". (¬2) فالعجب من أن يُؤْثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب، ويدعم بتلك العصا التي لا يأخذها إلا الزمن، أو من ضاقت عليه المسالك، فيقال: ولم يرد خلافه عن أحد من الصحابة! والحال أن أول المخالفين له رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ بعموم قوله وخصوصه. والحاصل: أن الحديث له طرق كثيرة يصير بها حسنا لغيره، وقد قدمنا ¬

_ (¬1) سبق التنبيه على الأخطاء اللغوية في تراكيب الأعداد، فلا أعيد. (¬2) رواه الحاكم في " المستدرك " (جزء 1: ص 291) من طريق الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بلفظ: " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة؛ فقد أدرك الصلاة ". ومن طريق أسامة بن زيد الليثي، وصالح بن أبي الأخضر، عن الزهري ... بهذا الإسناد بلفظ: " من أدرك من الجمعة ركعة؛ فليصل إليها أخرى ". وصححها كلها على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في " مختصره ". (ش)

صلاة الجمعة يوم العيد رخصة

أنها كسائر الصلوات، وليست الخطبة شرطا من شروط الجمعة حتى يتوقف إدراك الصلاة على إدراك الخطبة، فمن زعم أن صلاة الجمعة تختص بحكم يخالف سائر الصلوات؛ فعليه الدليل. وقد أوضح الماتن المقال في أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام، مشتملة على ما يحتاج إليه في هذا البحث؛ فليرجع إلى ذلك فهو مفيد جدا. ( [صلاة الجمعة يوم العيد رخصة] :) (وهي في يوم العيد رخصة) : لحديث زيد بن أرقم، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى العيد في يوم جمعة، ثم رخص في الجمعة، فقال: " من شاء أن يجمع فليجمع "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وصححه علي بن المديني (¬1) . وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال: " قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة؛ وإنا مجمعون " (¬2) ؛ وقد أعل بالإرسال، وفي إسناده أيضا بقية بن الوليد. وفي الباب أحاديث عن ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما. ¬

_ (¬1) وصححه الحاكم على شرط الشيخين (جزء 1: ص 288) ، ووافقه الذهبي. (ش) (¬2) صححه الحاكم على شرط مسلم، وقال: " فإن بقية بن الوليد لم يختلف في صدقه إذا روى عن المشهورين "، ووافقه الذهبي. وبقية بن الوليد ثقة؛ إلا أنه كثير التدليس، وقد صرح هنا بالتحديث، فقال: " ثنا شعبة ". (ش) قلت: وانظر أحكام العيدين " (ص 217) للفريابي، وتعليق الأخ الشيخ مساعد الراشد عله.

وظاهر أحاديث الترخيص يشمل من صلى العيد ومن لم يصل (¬1) بل روى النسائي، وأبو داود أن ابن الزبير في أيام خلافته لم يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد، فقال ابن عباس لما بلغه ذلك: أصاب السنة؛ وفي إسناده مقال (¬2) . أقول: الظاهر أن الرخصة عامة للإمام وسائر الناس، كما يدل على ذلك ما ورد من الأدلة. وأما قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ونحن مجمعون ": فغاية ما فيه أنه أخبرهم بأنه سيأخذ بالعزيمة، وأخذه بها لا يدل على أن لا رخصة في حقه، وحق من تقوم بهم الجمعة؛ وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته - كما تقدم -، ولم ينكر عليه الصحابة ذلك. ¬

_ (¬1) لا؛ ليس هذا هو الظاهر والله تعالى أعلم. (¬2) وهو عنعنة ابن جريج؛ ولكنه صرح بالتحديث في رواية عبد الرزاق في " المصنف " (3 / 303) .

باب صلاة العيدين

(11 - باب صلاة العيدين) ( [صلاة العيدين سنة] :) قد اختلف أهل العلم: هل صلاة العيد واجبة أم لا؟ والحق الوجوب؛ لأنه [صلى الله عليه وسلم] مع ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها، كما في حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] للناس أن يغدوا إلى مصلاهم، بعد أن أخبره الركب برؤية الهلال، وهو حديث صحيح. وثبت في " الصحيح " من حديث أم عطية، قالت: أمرنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن نُخرج في الفطر والأضحى العواتق (¬1) والحُيّض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. فالأمر بالخروج يقتضي الأمر بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب (¬2) ، والرجال أولى من النساء بذلك؛ لأن الخروج وسيلة إليها، ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه، بل ثبت الأمر القرآني بصلاة العيد؛ كما ذكره أئمة التفسير في قوله - تعالى -: {فصل لربك وانحر} ؛ فإنهم قالوا: المراد صلاة العيد. ¬

_ (¬1) يعني: الشواب من النساء. (ش) (¬2) هو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى، انظر " تقريب الوصول إلى علم الأصول " (ص 87) .

صلاة العيد ركعتين

ومن الأدلة على وجوبها: أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجباً. ( [صلاة العيد ركعتين] :) (هي ركعتان) : يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ عند إرادة التخفيف: {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك} ، وعند الإتمام: {ق} و {اقتربت الساعة} . وعند الشافعي: تشرع صلاة العيد جماعة للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر، ولا يخطب المنفرد، ويخطب إمام المسافرين. وعند أبي حنيفة: تجب صلاة العيد على كل من تجب عليه صلاة الجمعة، ويشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة. كذا في " المسوى " وغيره. ( [التكبير في الركعة الأولى سبع، وفي الثانية خمس قبل القراءة] :) (في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس كذلك) : لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كبّر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة؛ سبعا في الأولى وخمسا في الثانية؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه. وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذه. قال العراقي: إسناده صالح. ونقل الترمذي في " العلل " - المفردة - عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح.

وفي رواية لأبي داود، والدارقطني: " التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخيرة، والقراءة بعدهما كلتيهما "؛ وإسناد الحديث صالح، وقد صححه البخاري. وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كبّر في العيدين! في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة؛ وقد حسنه الترمذي، وأُنكر عليه تحسينه؛ لأن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده؛ وهو متروك. قال النووي: لعله اعتضد بشواهد وغيرها. انتهى. قال العراقي: إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري، فقد قال في كتاب " العلل " المفردة: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول. انتهى. وقد أخرجه ابن ماجه بدون ذكر القراءة. وأخرجه الدارقطني، وابن عدي، والبيهقي؛ وفي إسناده كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده. قال الشافعي، وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب. وقال ابن حبان: له نسخة موضوعة، عن أبيه، عن جده. وأخرج ابن ماجه من حديث سعد القرظ (¬1) المؤذن: أن رسول الله ¬

_ (¬1) هو سعد بن عائذ - مولى عمار بن ياسر -؛ كان تاجرا في القرظ - بفتح القاف والراء -؛ وهو ثمر السنط، وجعله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مؤذنا بقباء، وتوارث بنوه الأذان إلى زمن مالك وبعده. (ش)

-[صلى الله عليه وسلم]- كان يكبّر في العيدين؛ في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة. قال العراقي: وإسناده ضعيف. وفي الباب أحاديث تشهد لذلك، والجميع يصلح للاحتجاج به. وفي المسألة عشرة مذاهب؛ هذا أرجحها (¬1) . قال في " الحجة ": يكبر في الأولى سبعا قبل القراءة، والثانية خمسا قبل القراءة ". وعمل الكوفيين؛ أن يكبر أربعا كتكبير الجنائز في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها، وهما سنتان وعمل الحرمين أرجح ". انتهى. أقول: الذي دلت عليه الأدلة؛ أن يكون التكبير مقدما على القراءة في الركعتين، كما ثبت ذلك من فعله -[صلى الله عليه وسلم]- في حديث عمرو بن عوف المزني المتقدم (¬2) ، ولم يأت من قال بمشروعية تقديم القراءة في الركعتين، أو تأخيرها في الأولى وتقديمها في الثانية بحجة قط. ثم اعلم أن الحافظ قال في " التلخيص ": قوله: ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة؛ روي مثل ذلك عن ابن مسعود قولا وفعلا. قلت: رواه الطبراني والبيهقي موقوفاً؛ وسنده قوي، وفيه عن حذيفة. ¬

_ (¬1) انظر " المجموع " (5 / 19) للنووي. (¬2) سبق أنه حديث ضعيف جدا. (ش)

الخطبة بعد صلاة العيد

وأبي موسى مثله، وعن عمر أنه كان يرفع يديه في التكبيرات؛ رواه البيهقي؛ وفيه ابن لهيعة. واحتج ابن المنذر والبيهقي بحديث روياه من طريق بقية (¬1) ، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه في الرفع عند الإحرام والركوع والرفع منه، وفي آخره: يرفعهما في كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع ". انتهى قال في " شرح المنتقى ": " والظاهر عدم وجوب التكبير - كما ذهب إليه الجمهور -؛ لعدم وجدان دليل يدل عليه ". انتهى. والحاصل: أنه سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا. قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا. قالوا: وإن تركه لا يسجد للسهو. وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه يسجد للسهو. والحق الأول. ( [الخطبة بعد صلاة العيد] :) (ويخطب بعدها) ؛ يأمر بتقوى الله - تعالى - ويُذكِّر ويعظ، لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يخرج يوم ¬

_ (¬1) الحديث صحيح؛ ولكنه مسوق في الصلاة العادية، لا في صلاة العيد! فانظر - لزاماً - " الأرواء " (64) ، و " تمام المنة " (ص 348) .

التجمل بالثياب في العيد مستحب

الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس؛ والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثا (¬1) أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف ". وفي الباب من حديث جابر عند مسلم وغيره. وأول من خطب قبل الصلاة في العيد، مروان، وأنكر عليه ذلك. وأخرج النسائي، وابن ماجة، وأبو داود من حديث عبد الله بن السائب، قال: شهدت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] العيد فلما قضى الصلاة قال: " إنا نريد أن نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب " (¬2) . ( [التجمل بالثياب في العيد مستحب] :) (ويستحب) في العيد (التجمل) بالثياب، فقد ثبت في " الصحيحين ": أن عمر وجد حلة في السوق من إستبرق (¬3) تباع، فأخذها، فأتى بها النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: يا رسول الله! ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد، فقال: " إنما هذه لباس من لا خلاق (¬4) له ". ¬

_ (¬1) يعني: يرسل جيشا إلى غزو أو غيره. (ش) (¬2) في " نيل الأوطار ": " قال أبو داود: هو مرسل، وقال النسائي: هذا خطأ، والصواب أنه مرسل ". (ش) قلت: انظر تصحيحه - والأدلة عليه - في " الإرواء " (3 / 96 - 98) . (¬3) هو ما غلظ من الديباج والحرير. (ش) (¬4) الخلاق: النصيب. (ش)

السنة صلاة العيدين في المصلى

وأخرج الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس برد حبرة (¬1) في كل عيد. وشيخ الشافعي ضعيف، ولكنه قد تابعه سعيد بن الصلت، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس ... بمثله. أخرجه الطبراني (¬2) . وأخرج ابن خزيمة (¬3) عن جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس البرد الأحمر في العيدين وفي الجمعة. ( [السنة صلاة العيدين في المصلى] :) (والخروج إلى خارج البلد) : لمواظبته [صلى الله عليه وسلم] على ذلك (¬4) ، وصلى بهم [صلى الله عليه وسلم] صلاة العيد في المسجد لمطر وقع؛ كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم؛ وفي إسناده مجهول. ( [يستحب مخالفة الطريق] :) (ومخالفة الطريق) : لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا كان يوم العيد خالف الطريق (¬5) . ¬

_ (¬1) بوزن عنبة: نوع من برود اليمن. (ش) (¬2) انظر " مجمع الزوائد " (2 / 198) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 81) . (¬3) (برقم 1766) ، وفي سنده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف. (¬4) ولشيخنا الألباني رسالة خاصة في هذه المسألة. (¬5) هذا حديث جابر. وأما حديث أبي هريرة: فقد رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، ولفظه: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج منه. (ش)

يستحب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى

وأخرج أبو داود، وابن ماجة نحوه من حديث ابن عمر. وفي الباب أحاديث غير ما ذكر. ( [يستحب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى] :) (والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى) : لما ثبت في " الصحيح " من حديث أنس، قال: كان النبي [صلى الله عليه وسلم] لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا. وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث بريدة، قال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع. زاد أحمد: فيأكل من أضحيته. وفي الباب أحاديث. ( [بيان أول وقت صلاة العيدين] :) (ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال) : لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في " كتاب الأضاحي " (¬1) من حديث جندب، قال: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يصلي بنا يوم الفطر؛ والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح ". ¬

_ (¬1) وفي إسناده معلى بن هلال؛ وهو كذاب. كذا في " التلخيص الحبير " (2 / 83) ، و " إتحاف السادة المتقين " (3 / 392) للزبيدي.

بيان آخر وقت صلاة العيدين

وأخرج أبو داود، وابن ماجة (¬1) من حديث عبد الله بن بسر - صاحب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا فرغنا ساعتنا هذه؛ وذلك حين التسبيح - أي: حين وقت صلاة العيد -. وأخرج الشافعي - مرسلا -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران، أن عجل الأضحى وأخر الفطر. وفي إسناده إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي؛ وهو ضعيف. وقد وقع الإجماع على ما أفادته الأحاديث؛ وإن كانت لا تقوم بمثلها الحجة (¬2) . ( [بيان آخر وقت صلاة العيدين] :) وأما آخر وقت صلاة العيدين: فزوال الشمس. وإذا كان الغدو من بعد طلوع الشمس إلى الزوال - كما قال بعض أهل العلم -: فحديث أمره [صلى الله عليه وسلم] للركب أن يغدوا إلى مصلاهم يدل على ذلك. قال في " البحر ": وهي من بعد انبساط الشمس إلى الزوال. ولا أعرف فيه خلافا. ¬

_ (¬1) وهو حديث صحيح. (¬2) انظر " الموعظة الحسنة " (43 - 44) للمؤلف، و " زاد المعاد " (1 / 442) ، و " الفتح " (2 / 457) .

لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين

( [لا أذان ولا إقامة لصلاة العيدين] :) (ولا أذان فيها ولا إقامة) : لما ثبت في " الصحيح " من حديث جابر بن سمرة قال: صليت مع النبي [صلى الله عليه وسلم] غير مرة ولا مرتين بغير أذن ولا إقامة. وثبت في " الصحيحين " عن ابن عباس، أنه قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. وفي الباب أحاديث. وأما تكبير أيام التشريق: فلا شك في مشروعية مطلق التكبير في الأيام المذكورة، ولم يثبت تعيين لفظ مخصوص، ولا وقت مخصوص، ولا عدد مخصوص، بل المشروع الاستكثار منه دبر الصلوات وسائر الأوقات. فما جرت عليه عادة الناس اليوم - استنادا إلى بعض الكتب الفقهية - من جعله عقب كل صلاة فريضة ثلاث مرات، وعقب كل صلاة نافلة مرة واحدة، وقصر المشروعية على ذلك فحسب! ليس عليه أثارة من علم فيما أعلم، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة؛ أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى. وأما صفة التكبير: فأصح ما ورد فيه؛ ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان، قال: كبروا، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا. قال في " شرح المنتقى " - نقلا عن " الفتح " -: وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك؛ لا أصل لها. انتهى.

قال الشوكاني: " والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام؛ كما تدل على ذلك الآثار (¬1) " انتهى. ¬

_ (¬1) وفي رسالتي " أحكام العيدين في السنة المطهرة " بيان واسع فيما يتعلق بذلك وغيره.

باب صلاة الخوف

(12 - باب صلاة الخوف) (وقد صلاها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على صفات مختلفة) ؛ قيل: على ستة عشر، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: أقل من ذلك. وقد صح منها أنواع: (1 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعتين بسلام] :) فمنها: أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بكل طائفة ركعتين، فكان للنبي [صلى الله عليه وسلم] أربع، وللقوم ركعتان. وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث جابر. (2 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة] :) ومنها: أنه صلى بكل طائفة ركعة؛ فكان له ركعتان، وللقوم ركعة. وهذه الصفة أخرجها النسائي بإسناد رجاله ثقات. (3 -[اشتراك الطائفتين مع الإمام، وتقدم الثانية، وتأخر الأولى، والسلام جميعا] :) ومنها: أنه صلى بهم جميعا، فكبر وكبروا، وركع وركعوا، ورفع

صلاة الإمام بكل طائفة ركعة وقضاء كل طائفة ركعة

ورفعوا، ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي [صلى الله عليه وسلم] السجود والصف الذي يليه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، وفعلوا كالركعة الأولى، ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدما، والمقدم مؤخرا، ثم سلم النبي [صلى الله عليه وسلم] وسلموا جميعا. وهذه الصفة ثابتة في " صحيح مسلم " وغيره من حديث جابر، ومن حديث أبي عياش الزرقي عند أحمد، وأبي داود، والنسائي. (4 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، وقضاء كل طائفة ركعة] :) ومنها: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- صلى بإحدى الطائفتين ركعة؛ والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة. وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث ابن عمر. (5 -[اشتراك الطائفتين مع الإمام في القيام والسلام] :) ومنها: أنها قامت مع النبي -[صلى الله عليه وسلم]- طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى القبلة، فكبر فكبروا جميعا: الذين معه والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد، فسجدت التي تليه؛ والآخرون قيام مقابل العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت

صلاة الإمام بكل طائفة ركعة وانتظاره لقضاء كل طائفة ركعة

مقابل العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا؛ ورسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قاعد ومن معه، ثم كان السلام؛ فسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- ركعتان، وللقوم لكل طائفة ركعتان. وهذه الصفة أخرجها أحمد، والنسائي، وأبو داود. (6 -[صلاة الإمام بكل طائفة ركعة، وانتظاره لقضاء كل طائفة ركعة] :) ومنها: أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى بطائفة ركعة، وطائفة وجاه العدو، ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم. وهذه الصفة ثابتة في " الصحيحين " من حديث سهل بن أبي حثمة. وإنما اختلفت صلاته [صلى الله عليه وسلم] في الخوف؛ لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. (وكلها مجزئة) : لأنها وردت على أنحاء كثيرة، وكل نحو روي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فهو جائز، يفعل الإنسان ما هو أخف عليه، وأوفق بالمصلحة حالتئذ؛ كذا في " الحجة ". أقول: من زعم من أهل العلم أن المشروع من صلاة الخوف ليس إلا صفة من الصفات الثابتة دون ما عداها: فقد أهدر شريعة ثابتة، وأبطل سنة

قائمة بلا حجة نيرة، وغالب ما يدعو إلى ذلك ويوقع فيه: قصور الباع، وعدم الاعتناء بكتب السنة المطهرة. فالحق الحقيق بالقبول: جواز جميع ما ثبت من الصفات. وقد ذكر هنا صاحب " المنتقى " أنواعا هي حاصل ما ذكره المحدثون مما بلغ إلى رتبة الصحيح، وثم صفات أخر ليست ببالغة إلى تلك الرتبة. فإن قلت: ما الحكمة في وقوع هذه الصلاة على أنواع مختلفة؟ قلت: أمران: الأول: اقتضاء الحادثة لذلك، والمقتضيات مختلفة؛ ففي بعض المواطن تكون بعض الصفات أنسب من بعض؛ لما يكون فيها من أخذ الحذر، والعمل بالحزم ما يناسب الخوف العارض، فقد يكون الخوف في بعض المواطن شديدا والعدو متصلا أو قريبا، وفي بعض المواطن قد يكون الخوف خفيفا والعدو بعيدا، فتكون هذه الصفة أولى بهذا الموطن، وهذه أولى بهذا الموطن. الأمر الثاني: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- فعلها متنوعة إلى تلك الأنواع لقصد التشريع وإرادة البيان للناس. وأما صلاة المغرب: فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر. ووقع الخلاف: هل الأولى أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين، والثانية ركعة أو العكس؟

الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإيماء

ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-. وقد روي (¬1) أن عليا - رضي الله تعالى عنه - صلاها ليلة الهرير (¬2) . واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال؛ والظاهر أن الكل جائز، وإن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات، فهو: صواب؛ قياسا على فعله في غيرها، وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض؛ كما سبق. ( [الصلاة في شدة الخوف وما يباح فيها من كلام وإيماء] :) (وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراجل والراكب - ولو إلى غير القبلة - ولو بالإيماء -) ؛ ويقال لصلاة الخوف عند التحام القتال: صلاة المسايف. أخرج البخاري عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ: فإن كان خوف أشد من ذلك: صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . ¬

_ (¬1) • رواها البيهقي (3 / 252) معلقا، فقال: " ويذكر عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا - رضي الله عنه - صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير. (ن) (¬2) • بفتح الهاء؛ قال النووي في " تهذيب الأسماء " (2 / 181) : " وهي حرب جرت بينه وبين الخوارج، وكان بعضهم يهر على بعض؛ فسميت بذلك، وقيل: هي ليلة صفين بين علي ومعاوية - رضي الله تعالى عنهما - ". (ن) قلت: وانظر " القاموس المحيط " (ص 640) .

وهو في " مسلم " من قول ابن عمر؛ بنحو ذلك. وقد رواه ابن ماجة عن ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] وصف صلاة الخوف وقال: " فإن كان خوف أشد من ذلك: فرجالا وركبانا ". وأخرج أحمد، وأبو داود - بإسناد حسن (¬1) - عن عبد الله بن أنيس، قال: بعثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: " اذهب فاقتله "، قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي، أوميء إيماء نحوه، فلما دنوت منه ... الحديث. ومن البعيد؛ أن لا يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم] بذلك، ولو أنكره لذكر ذلك. ¬

_ (¬1) بل هو ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (589) .

باب صلاة السفر

(13 - باب صلاة السفر) ( [وجوب القصر في السفر] :) (يجب القصر) : لحديث عائشة الثابت في " الصحيح "، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال (¬1) : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين؛ فزيدت في الحضر، وأقرت في السفر ". فهذا يشعر بأن صلاة السفر باقية على الأصل، فمن أتم؛ فكأنه صلى في الحضر الثنائية أربعا، والرباعية ثمانيا عمدا. وثبت أيضا في " الصحيح " أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته ". وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] يقتصر في جميع أسفاره على القصر. قلت: اتفقت الأمة على جواز القصر في السفر. واختلف المفسرون في قوله - تعالى -: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح} : أنزلت في السفر؛ وقيد الخوف اتفاقي؟ أو في الخوف وقيد السفر اتفاقي؟ والمراد في القصر؛ الإيماء في الركوع والسجود؟ ¬

_ (¬1) هذا خطأ فاحش؛ فإن الحديث المذكور إنما هو من قول عائشة غير مرفوع، وهي تحكي كيف فرضت الصلاة. (ش)

فذهب إلى الأول جماعات من المفسرين. وإلى الثاني يشير قول ابن عمر، ويدل عليه بناء قوله - تعالى -: {وإذا كنت فيهم} على آية القصر من غير ذكر الخوف ثانيا. ثم مذهب الأكثرين أن القصر واجب. وقال الشافعي: " إن شاء أتم، وإن شاء قصر؛ والقصر أفضل ". كذا في " المسوى ". أقول: الحق وجوب القصر، والأحاديث مصرحة بما يقتضي ذلك، وأما ما يروى عن عائشة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] كان يقصر في الصلاة ويتم، ويفطر ويصوم: فلم يثبت؛ كما صرح به جماعة من الحفاظ (¬1) . وكذلك ما روي عنها: أنها فعلت ذلك ولم ينكر عليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة بما تسقط به حجيته (¬2) . وكذلك ما روي من أن عثمان أتم الصلاة بمنى! فلا حجة في ذلك، وقد صح إنكار بعض الصحابة عليه، واعتذاره عن ذلك؛ فلم يبق في المقام ما يوجب التردد. والظاهر من الأدلة في القصر والإفطار: عدم الفرق بين من سفره في ¬

_ (¬1) المطلع على إسناد الحديث وما قيل فيه؛ لا يجد مناصا من القول بأنه حديث حسن صالح للاحتجاج، إن لم يكن صحيحا. انظر " نيل الأوطار " (جزء 3: ص 248 - 250) . (ش) قلت: رواه الدارقطني (2 / 189) ، وأعله الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام " (ص 85 - 86) . (¬2) انظر " زاد المعاد " (1 / 473) .

وجوب القصر لمن خرج من بلده قاصدا للسفر دون بريد

طاعة، ومن سفره في معصية، لا سيما القصر؛ لأن صلاة المسافر شرعها الله كذلك، فكما أن الله شرع للمقيم صلاة التمام - من غير فرق بين من كان مطيعا ومن كان عاصيا بلا خلاف -: كذلك شرع للمسافر ركعتين من غير فرق. وأدلة القصر متناولة للعاصي تناولا زائدا على تناول أدلة الإفطار له؛ لأن القصر عزيمة، وهي لم تشرع للمطيع دون العاصي، بل مشروعة لهما جميعا، بخلاف الإفطار؛ فإنه رخصة للمسافر، والرخصة تكون لهذا دون هذا في الأصل، وإن كانت هنا عامة، وإنما المراد بطلان القياس، والركعتان في السفر تمام غير قصر. ومعناه عند الحنفية: أنه لا يكون فرض المسافر غير ركعتين، وإن صلى أربعا ولم يقعد للتشهد بطلت صلاته، وإن قعد أتمها أربعا والأخريان نفل. وعند الشافعية: أن المسافر إذا قصر في السفر؛ فليس عليه ما تركه إذا صار مقيما بخلاف الصوم، فإنه يعيد ما أفطر إذا صار مقيما. ( [وجوب القصر لمن خرج من بلده قاصدا للسفر دون بريد] :) وإيجاب القصر (على من خرج من بلده قاصدا للسفر وإن كان دون بريد) (¬1) وجهه أن الله - تعالى - قال: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم ¬

_ (¬1) • قال في " النهاية ": و " البريد ": كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل، وأصلها: " بريده دم " أي: محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، كالعلامة لها، فأعربت، وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السكتين " بريدا "، والسكة؛ موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت، أو قبة، أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان - وقيل: أربعة - ". والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع ". وفي " المنجد ": أن الفرسخ ثمانية كيلو مترات تقريبا. (ن)

جناح أن تقصروا من الصلاة} ، والضرب في الأرض يصدق على كل ضرب، لكنه خرج الضرب - أي: المشي - لغير السفر؛ لما كان يقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر. ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا، ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل يعد في مسيره إليه مسافرا: قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد. ولم يأت من اعتبر البريد، واليوم، واليومين، والثلاثة، وما زاد على ذلك بحجة نيرة، وغاية ما جاءوا به حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم "، وفي رواية: " يوما وليلة "، وفي رواية: " بريدا " (¬1) ، وليس في هذا الحديث ذكر القصر، ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين (¬2) . وأحسن ما ورد في التقدير: ما رواه شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنسا عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال - أو ثلاثة فراسخ -: صلى ركعتين - والشك من شعبة -. أخرجه مسلم وغيره. فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون ¬

_ (¬1) هي عند أبي داود، ولكنها شاذة؛ فانظر " ضعيف سنن أبي داود " (379) . (¬2) • ولذلك قال ابن التركماني في " الجوهر النقي " (3 / 138) - وهو حنفي المذهب -: " ففي الاستدلال بهذا الحديث نظر، والذي استدل به أهل المذهب هو قوله - عليه السلام -: " يمسح المسافر ثلاثة أيام "؛ سيق لبيان الرخصة للمسافر، فيعم جميع المسافرين، فلو ثبت السفر في أقل من ثلاثة أيام؛ لم يعم الرخصة للجميع ". (ن)

محرم: هو كونه [صلى الله عليه وسلم] سمى ذلك سفرا. قلت: تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا، فقد سمى النبي [صلى الله عليه وسلم] مسافة الثلاث سفرا، كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث؛ باعتبار اختلاف الرواية، وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا. فإن قلت: أخرج الدارقطني، والبيهقي، والطبراني من حديث ابن عباس أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " يا أهل مكة! لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " (¬1) . قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة؛ فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر؛ وهو متروك. (2) قال الماتن: وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي. وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام. وفي " العالمكيرية ": الصحيح أنه لا يشترط سير كل اليوم إلى الليل، فلو بكر في كل يوم ومشى إلى الزوال ثم نزل؛ يصير مسافرا. وقال الشافعي: أربعة برد. وقال مالك: وذلك أحب ما سمعت يقصر فيه الصلاة إلي، وتفسيرها ستة عشر فرسخا. ¬

_ (¬1) بضم العين وإسكان السين المهملتين: على مرحلتين من مكة. (ش) (2) وقد كذبه الثوري. (ش)

ويتجه على هذا أن قولهما متقاربان. قال الأوزاعي: عامة الفقهاء يقولون: مسيرة يوم تام، وإنما يحل القصر إذا خرج من بيوت القرية. قال العلماء: إذا جاوز عمران المصر: قصر. أقول: مسألة أقل السفر قد اضطربت فيها الأقوال، وطال فيها النزاع، وتشعبت فيها المذاهب، وليس في ذلك شيء يستند إليه؛ إلا مجرد قول الرواة: قصر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في كذا؛ من دون بيان لمقدار يرجع إليه. وأصرح ما في ذلك؛ ما قاله بعض الرواة: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقصر إذا سافر ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ؛ هكذا على الشك! مع أنه لم يبين مقدار المسافة التي هي انتهاء سفره، وغاية ما وقع التعويل عليه أحاديث: " لا يحل لامرأة ... " كما تقدم، والمعمول عليه ههنا رواية البريد؛ لأن ما فوقها يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب. لكن؛ لا ملازمة بين اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على غيرها من المسافرين؛ لأن علة مشروعية المحرم غير علة مشروعية القصر، فلم يبق في المسألة ما يصلح للاستناد إليه، فوجب الرجوع إلى ما يصدق عليه مسمى الضرب في الأرض على وجه يخالف ما يفعله المقيم من ذلك، وهو يصدق على من أراد سفرا زائدا على الميل، لا ما كان ميلا فما دون، فقد يتردد المقيم في الجوانب المقاربة لبلد إقامته، وقد كان -[صلى الله عليه وسلم]- يخرج

مدة القصر للمتردد

إلى البقيع لزيارة الأموات ولا يقصر، وإن كان هذا لا يتم الاحتجاج به إلا بعد تسليم أنه خرج إلى هنالك، وحضر وقت الصلاة فصلى تماما {وهو ممنوع، فالتعويل في استثناء الميل هو ما قدمنا، وفيه ما فيه، لولا أنه أوجب الرجوع إليه البقاء على الأصل، والفرار من التحكمات التي لا ترجع إلى شيء؛ كما يقول بعض أهل العلم: إن مسافة القصر ما بين الشام والعراق} ونحو ذلك. فالحاصل: أن الواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعا أو لغة أو عرفا لأهل الشرع، فما كان ضربا في الأرض يصدق عليه أنه سفر؛ وجب فيه القصر. وأما ما رواه سعيد بن منصور (¬1) : أنه كان -[صلى الله عليه وسلم]- إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة؛ فهو أيضا لا ينفي السفر فيما دون ذلك. ( [مدة القصر للمتردد] :) (وإذا أقام ببلد مترددا قصر إلى عشرين يوما) ثم يتم، وجهه أن من حط رحله بدار إقامة؛ فقد ذهب عنه حكم السفر، وفارقته المشقة، فلولا أن الشارع سمى من أقام كذلك مسافرا، فقال: " أتموا يا أهل مكة! فإنا قوم سفر " (¬2) : لما كان حكم السفر ثابتا له، فالواجب الاقتصار في القصر مع الإقامة على المقدار ¬

_ (¬1) وابن أبي شيبة (2 / 442) ، وابن عدي (6 / 1734) . وفي إسناده أبو هارون العبدي: متروك، وهشيم: مدلس. (¬2) ضعيف مرفوعا، وصحيح - عن عمر - موقوفا: " التلخيص الحبير " (1 / 252) .

أقصى مدة يقصر فيها المسافر إذا أقام

الذي سوغه الشارع، وما زاد عليه؛ فللمسافر حكم المقيم، يجب عليه أن يتم صلاته؛ لأنه مقيم لا مسافر، وقد أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بمكة في غزوة الفتح؛ قيل: ثماني عشرة ليلة، وقيل: تسع عشرة ليلة، وقيل: أقل من ذلك، وفي " صحيح البخاري " وغيره: تسع عشرة ليلة. وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث جابر، قال: أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. وأخرجه أيضا ابن حبان، والبيهقي، وصححه ابن حزم، والنووي (¬1) ؛ فوجب علينا أن نقتصر على هذا المقدار ونتم بعد ذلك. ولله در الحبر ابن عباس {ما أفقهه وما أفهمه للمقاصد الشرعية} فإنه قال فيما رواه عنه البخاري وغيره: لما فتح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- مكة: أقام فيها تسع عشرة، يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة؛ قصرنا، وإن زدنا أتممنا ". وأقول: هذا هو الفقه الدقيق، والنظر المبني على أبلغ تحقيق، ولو قال له جابر: أقمنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتبوك عشرين ليلة نقصر الصلاة؛ لقال بموجب ذلك. قال الماتن: وفي المسألة مذاهب؛ هذا أرجحها لدي. انتهى. ( [أقصى مدة يقصر فيها المسافر إذا أقام] :) أقول: الظاهر فيمن أقام ببلد وحط الرحل يوما بعد يوم، وليلة بعد ¬

_ (¬1) انظر " الإرواء " (574) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 45) .

ليلة: أنه لا يقصر الصلاة؛ لأنه غير مسافر، فلو لم يرد الدليل الدال على أن من أقام عازما على السفر؛ كان له حكم المسافر: لم يثبت القصر في حقه، فينبغي أن يقتصر على ما ورد ولا يجاوز، أما مع التردد وعدم العزم على إقامة أيام معينة: فلا يزال يقصر المسافر حتى يبلغ مدة إقامته مقدار المدة التي أقامها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمكة بعد الفتح، وأكثر ما قيل: عشرون ليلة، وقد روي أنه أقام في غزوة تبوك بمكان نحو ذلك، وروي أكثر. فإن قيل: إن الاقتصار على مقدار إقامته [صلى الله عليه وسلم] ، وعدم تجويز القصر فيما زاد عليها؛ لا يصلح للتمسك به؛ لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على قصر الجواز على تلك المدة، ومن أين لنا أنه لو عرض له ما يوجب إقامته فوق تلك المدة لما قصر الصلاة، بل كان يتمها؟ فيقال: هذا صحيح، ولم نقل: إن هذا الفعل يدل بمجرده على ذلك، بل قلنا: إن من حط رحله بمحل؛ فالظاهر أنه في ذلك الوقت غير مسافر فيما كان من الإقامة زائدا على ما يعتاده المسافرون؛ من الإراحة لأنفسهم ودوابهم يوما أو بعض يوم، وليلة أو بعض ليلة، فإذا سمي بعد إقامته أياما مسافرا؛ فهذه التسمية غير مناسبة لما هو الظاهر، فوجب الاقتصار على مقدار المدة التي أقامها الشارع وقصر الصلاة فيها، وقال: " إنا قوم سفر "، ومن زعم جواز القصر فيما زاد عليها؛ فعليه الدليل. وأما إذا نوى إقامة أيام معينة: فقد وقع الاضطراب في ذلك؛ فقيل: أربعة أيام، فإن نوى إقامة أكثر منها قصر، واستدل هذا القائل بإقامته [صلى الله عليه وسلم] في مكة في حجة الوداع أربعة أيام يقصر الصلاة، ووجه الاستدلال بهذا؛ كالوجه

مدة القصر لمن عزم على إقامة أربع

الذي ذكرناه مع التردد سواء بسواء، وهو أشف ما قيل. وغاية ما تمسك به أهل الأقوال الآخرة: ما روي عن جماعة من الصحابة من الاجتهادات المختلفة، ولا حجة في ذلك، وما يقال من: أنها بمنزلة المرفوع لكونها ليست من مسارح الاجتهاد {فمردود على أن التقدير بالأربع مع كونه أشف ما قيل - كما ذكرنا -؛ يمكن أن يقال عليه: إنما يتم الاستدلال به بعد ثبوت أنه [صلى الله عليه وسلم] عزم على إقامة الأربع، ولم ينقل ذلك} ويمكن أن يجاب بأن أعمال الحج لا يمكن الإتيان بها في دون تلك المدة، فالعزم على الإقامة قدرها لا بد منه. وأما ما روي عن أنس، أنه قال: أقمنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] عشرا؛ فهو محمول على جميع أيام الإقامة بمكة ونواحيها، وأما نفس الإقامة بمكة؛ فليست إلا أربعة أيام؛ فليعلم. ( [مدة القصر لمن عزم على إقامة أربع] :) (وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها) : وجهه ما عرفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة المسافر؛ إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع، ويجب الاقتصار عليه، وقد ثبت عنه مع التردد ما قدمنا ذكره. وأما مع عدم التردد، بل العزم على إقامة أيام معينة: فالواجب الاقتصار على ما اقتصر عليه -[صلى الله عليه وسلم]- مع عزمه على الإقامة في أيام الحج؛ فإنه ثبت في " الصحيحين ": أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم

الثامن، ثم خرج إلى منى، فلما أقام النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة - مع كونه لا يفعل ذلك إلا عازما على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج -: كان ذلك دليلا على أن العازم على إقامة مدة معينة؛ يقصر إلى تمام أربعة أيام، ثم يتم، وليس ذلك لأجل كون النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لو أقام زيادة على الأربع لأتم؛ فإنا لا نعلم ذلك، ولكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم على إقامة مدة معينة لا يقصر إلا بإذن، كما أن المتردد كذلك، ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك، ولا ثبت عن الشارع غيره. قال الشافعي: لو نوى إقامة أربعة أيام بموضع؛ انقطع سفره بوصوله. قال في " المنهاج ": ولا يُحسب منها يوما دخوله وخروجه على الصحيح. وقال أبو حنيفة: لا يزال على حكم السفر، حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يوما. وقول أكثر أهل العلم: إنه يقصر أبدا ما لم يجمع إقامة (¬1) . واختلف أصحاب الشافعي في حكاية مذهبه. وحكاية البغوي: أنه إذا لم يجمع الإقامة، فزاد مكثه على أربعة أيام وهو عازم على الخروج أتم؛ إلا أن يكون في خوف أو حرب فيقصر. وقد قصر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عام الفتح ¬

_ (¬1) أي: يعزم على الإقامة. (ش)

للمسافر الجمع تقديما أو تأخيرا بأذان وإقامتين

بحرب هوازن تسعة عشر أو ثمانية عشر يوما. وله قول آخر موافق للجمهور. قال الماتن: " واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب؛ هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان، وقد اضطربت فيها المذاهب اضطراباً شديداً، وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا ". انتهى. ( [للمسافر الجمع تقديما أو تأخيرا بأذان وإقامتين] :) (وله الجمع تقديما وتأخيرا) : وجهه ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أنس، قال: " كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل؛ صلى الظهر ثم ركب. وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني - وحسنه الترمذي - من حديث معاذ (¬1) : أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس؛ أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر؛ يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس؛ صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار ". وأخرج أحمد من حديث ابن عباس نحوه؛ وزاد: المغرب والعشاء. وأخرجه أيضا البيهقي، والدارقطني، وصحح إسناده ابن العربي، ¬

_ (¬1) انظر " الإرواء " (578) ، وهو حديث صحيح.

وتُعقِّب بأن في إسناده من لا يحتج بحديثه. وللحديثين طرق يقوي بعضها بعضا، وليس فيها من المقال ما يبطل الاحتجاج بمجموعها. ومن الجمع بين المغرب والعشاء: حديث ابن عمر الثابت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كان إذا جد به السير؛ أخر المغرب حتى يغيب الشفق، ثم يجمع بينها وبين العشاء. قال ابن القيم: " وكل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها، فرُدّت بأنها أخبار آحاد وأوقات الصلوات ثابتة بالتواتر، كحديث إمامة جبريل - عليه السلام - للنبي [صلى الله عليه وسلم] ، وقوله للسائل عن المواقيت، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات، مجمع عليها بين الأمة، وأحاديث الجمع غير صريحة؛ لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل وفي الوقت، فكيف يترك المبين للمجمل؟ ! والجواب أن يقال: الجميع حق، والذي وقت هذه المواقيت وبينها بفعله وقوله؛ هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله، فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها؛ فأحاديث الجمع مع أحاديث الأفراد، بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات، فالسنة يبين بعضها بعضا، لا يرد بعضها ببعض. ومن تأمل أحاديث الجمع: وجدها كلها صريحة في جمع الوقت، لا في جمع الفعل، وألفاظ السنة الصريحة ترده ".

كذا في " إعلام الموقعين ". قال في " المسوى ": أكثر أهل العلم على جواز الجمع في السفر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما. وقالت الحنفية: لا يجوز، ومعنى الحديث عندهم: أن يؤخر إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها، ويعمل الأخرى في أول وقتها، فيحصل الجمع صورة (¬1) ، رووا ذلك عن علي، وسعد بن أبي وقاص. وأما الجمع للحاج فمتفق عليه ". انتهى. (بأذان وإقامتين) : لثبوت ذلك في " الصحيحين " في جمع مزدلفة. ¬

_ (¬1) انظر الرد على ذلك في كتابي " أحكام الشتاء " (ص 77) .

باب صلاة الكسوفين

(14 - باب صلاة الكسوفين) ( [صلاة الكسوفين سنة] :) وهي صلاة الآيات (وهي سنة) . قال الماتن في " شرحه ": أي: لعدم ورود ما يفيد الوجوب، ومجرد الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونا. انتهى. وزاد في " السيل الجرار ": " اعلم أنه قد اجتمع ههنا في صلاة الكسوف الفعل والقول، ومن ذلك قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما كذلك؛ فافزعوا إلى المساجد "، وفي رواية: " فصلوا وادعوا "، والظاهر الوجوب؛ فإن صح ما قيل من وقوع الإجماع على عدم الوجوب؛ كان صارفا؛ وإلا فلا ". انتهى (¬1) . قال في " الحجة البالغة ": " قد صح عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه صلاها جماعة، ¬

_ (¬1) • قلت: ولا تصح دعوى الإجماع هذه، فقد ترجم أبو عوانة في " صحيحه " (2 / 366) : " بيان وجوب صلاة الكسوف "، ثم ساق فيه بعض الأحاديث المتضمنة للأمر بها، وقد ذكر الحافظ اختلاف العلماء في حكمها، قال (2 / 421) : " فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في " صحيحه " بوجوبها، ولم أره لغيره؛ إلا ما حكي عن مالك، أنه أجراها مجرى الجمعة، ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها، وكذا نقل بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة ". (ن) قلت: وانظر " تمام المنة " (ص 261) .

أصح ما ورد في صفة صلاة الكسوفين

وأمر أن ينادى بها: أن الصلاة جامعة، وجهر بالقراءة، فمن اتبع فقد أحسن، ومن صلى صلاة معتدا بها في الشرع؛ فقد عمل بقوله [صلى الله عليه وسلم] : " فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا ". انتهى. ورجح ابن القيم الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف لحديث عائشة في " صحيح البخاري ": أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ قراءة طويلة، يجهر بها في صلاة الكسوف. وأما قول سمرة: صلى بنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في كسوف، ولم نسمع له صوتا. فقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. ( [أصح ما ورد في صفة صلاة الكسوفين] :) (وأصح ما ورد في صفتها ركعتان؛ في كل ركعة ركوعان) : لثبوت ذلك في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة، وابن عمر، وابن عباس (وورد ثلاثة) ركوعات في ركعة: فثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وغيره. ومن حديث ابن عباس عند الترمذي - وصححه -. ومن حديث عائشة عند أحمد، والنسائي. (و) ورد (أربعة) في كل ركعة؛ لما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديث ابن عباس.

القراءة بين الركوعين

(و) ورد (خمسة) ركوعات في كل ركعة؛ أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي بن كعب. قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف، تكرار الركوع في كل ركعة؛ لحديث عائشة، وابن عباس، وجابر، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري؛ كلهم روى عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- تكرار الركوع في الركعة الواحدة، والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددا، وأجل، وأخص برسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الذين لم يذكروه ". انتهى. ( [القراءة بين الركوعين] :) (يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل ركعة ركوع) فقط في " صحيح مسلم " من حديث سمرة (¬1) . وأخرجه أبو داود، وأحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه ابن عبد البر والحاكم من حديث النعمان بن بشير. ¬

_ (¬1) • ليس لسمرة حديث في " مسلم "؛ وكأن الشوكاني سها فتبعه عليه المؤلف؛ فإن هذا الخطأ وقع في " الدراري المضية " للشوكاني (1 / 214) وكأنه أراد أن يقول: ابن سمرة - وهو عبد الرحمن -، فسها وقال: " سمرة "، وحديث عبد الرحمن هذا؛ في مسلم (3 / 35 - 36) ، بلفظ: فقرأ سورتين، وركع ركعتين. وهذا اللفظ ليس صريحا فيما ذكره المؤلف، فقد تأوله البيهقي وغيره بأن مراده بذلك في كل ركعة، انظر (ص 25) من رسالتنا في " الكسوف ". وبعد كتابة ما تقدم؛ رأيت الشوكاني قد وقع في هذا الخطأ في كتابه " نيل الأوطار " أيضا، وصرح فيه (3 / 281) بأن في الحديث الجملة التي نقلتها عن مسلم آنفا. (ن)

وأخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث قبيصة (¬1) . قلت: وأجاب ابن القيم عن هذه الروايات من ثلاثة أوجه: أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصح إسنادا، وأسلم من العلة والاضطراب، ولا سيما حديث عبد الله بن عمرو الذي في " الصحيحين "، وهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع، فلم يبق إلا حديث سمرة ونعمان؛ وليس منهما شيء في " الصحيح ". والثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر، وأحفظ وأجل من سمرة ونعمان بن بشير؛ فلا ترد روايتهم بها. الثالث: أنها متضمنة لزيادة؛ صح الأخذ بها. انتهى. وأقول: قد رويت هذه الصلاة من فعله -[صلى الله عليه وسلم]- على أنواع: - ركعتين كسائر الصلوات في كل ركعة ركوع واحد. - وركوعين في كل ركعة. - وثلاثة وأربعة وخمسة كما تقدم. والكل سنّة؛ أيها فعل المكلف؛ فقد فعل ما شرع له، واختيار الأصح منها على الصحيح هو دأب الراغبين في الفضائل، العارفين بكيفية الدلائل. ¬

_ (¬1) انظر لفظه، والكلام عليه بعد صفحتين.

ماذا يندب عند الكسوفين

وقد أورد على هذه الروايات المنسوبة إلى فعله -[صلى الله عليه وسلم]- إشكال، هو: أنه لم يصلها -[صلى الله عليه وسلم]- غير مرة واحدة، فكيف تشعبت الروايات إلى هذه الصفات. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة؛ ذكرها الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ". وقد ثبت الجهر بالقراءة وثبت الإسرار، والجهر أصح. والقيام بهذه السنة جماعة أفضل، وليست الجماعة شرطا فيها؛ لما في الأحاديث الصحيحة بلفظ: " فصلوا "، ولما في حديث قبيصة الهلالي يرفعه: أنه -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة "؛ أخرجه أحمد، والنسائي (¬1) . ( [ماذا يندب عند الكسوفين؟] :) (ونُدب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار) : لحديث أسماء: " فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا "؛ وهو في " الصحيحين ". وفي حديث أبي موسى بلفظ: " فإذا رأيتم شيئا من ذلك؛ فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره "؛ وهو في " الصحيحين " أيضا. وفي حديث المغيرة: " فإذا رأيتموهما؛ فادعوا الله وصلوا، حتى تنجلي "؛ وهو أيضا في " الصحيحين ". ¬

_ (¬1) هو حديث ضعيف؛ انظر - له - " الإرواء " (3 / 131) ، و " تمام المنة " (263) .

باب صلاة الاستسقاء

(15 - باب صلاة الاستسقاء) قال في " الحجة " (¬1) : " وقد استسقى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته؛ أن خرج بالناس إلى المصلى، متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا، فصلى لهم ركعتين جهر بهم فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو، ورفع يديه وحوّل رداءه ". انتهى. ( [متى تسن صلاة الاستسقاء؟ وكم عدد ركعاتها؟] :) وهذه الصلاة مسنونة (تسن عند الجدب) : لعدم ورود ما يدل على الوجوب. (ركعتان بعدهما خطبة) لكونه [صلى الله عليه وسلم] خرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر ... الحديث بطوله، وفيه الدعاء وتحويل الرداء؛ وهو في " سنن أبي داود ". وأخرجه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، وصححه ابن السكن (¬2) . وأخرج أحمد، وابن ماجه (¬3) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: ¬

_ (¬1) • (2 / 20) . (ن) (¬2) • وسيأتي من المؤلف أن إسناده صحيح. (ن) قلت: انظر " التلخيص الحبير " (716) . (¬3) وهو حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف سنن ابن ماجه " (1268) .

خرج النبي [صلى الله عليه وسلم] يوما يستسقي، فصلى بنا ركعتين، بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله - عز وجل -، وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه؛ فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن. وفي الباب أحاديث بمعنى ما ذكر، وهي متضمنة للدعاء برفع الجدب وبنزول المطر، وتحويل الأردية؛ من الإمام وغيره. وروى سعيد بن منصور في " سننه " (¬1) : أن عمر استسقى، فلم يزد على الاستغفار. قال أبو حنيفة: لا تسن الصلاة في الاستسقاء. وقال الشافعي: ثبت من حديث عبد الله بن زيد، وابن عباس، أنه [صلى الله عليه وسلم] صلى. وروي ذلك من حديث جعفر بن محمد: عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وأبي بكر، وعمر (¬2) . قال في " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء ": " الأوجه عندي: أن من دعا ولم يصل؛ فقد أصاب أصل الاستسقاء، وقد فعل ذلك النبي [صلى الله عليه وسلم] وعمر، ومن صلى ودعا؛ فقد أصاب الأكمل الأفضل؛ فإن الدعاء أرجى في حرمة الصلاة، وقد ثبت عن النبي [صلى الله عليه وسلم] وعمر ". انتهى. وقد كان [صلى الله عليه وسلم] يرفع يديه في الاستسقاء، حتى يُرى بياض إبطيه، وكان الصحابة فمن بعدهم يستسقون بأهل الصلاح، ولا سيما من كان من قرابة النبي ¬

_ (¬1) ضعيف؛ انظر " الإرواء " (673) . (¬2) نقل الشوكاني في " نيل الأوطار " (4 / 38) ترجيح الدارقطني إرساله.

ماذا تتضمن الخطبة

[صلى الله عليه وسلم] ؛ كما فعل عمر؛ فإنه استسقى بالعباس (¬1) - رضي الله تعالى عنهما -. ( [ماذا تتضمن الخطبة؟] :) (تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة، والزجر عن المعصية، ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار والدعاء برفع الجدب) : لأن روح هذه الصلاة، وأساسها، وعمادها الذي لا تقوم بدونه: هو الاستكثار من الاستغفار قبلها وبعدها، وإخلاص التوبة من الذنوب التي يقارفها الإنسان، والخروج من التبعات والظلامات في الدماء والأموال والأعراض، وذلك غير مختص بفرد من الأفراد، بل يفعله كل أحد، ويشرع للإمام - أو من يقوم مقامه - أن يخطب الناس، ويذكرهم بما يفعلونه من الأسباب الموجبة للرحمة، وقد روي عنه [صلى الله عليه وسلم] أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعدها؛ فالكل سنة. ومن جملة أدعيته [صلى الله عليه وسلم] : " اللهم {أغثنا، اللهم} أغثنا "؛ كما في " الصحيحين " من حديث أنس. ومن أدعيته [صلى الله عليه وسلم] : " اللهم! اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً (¬2) مَريعاً (¬3) طبقاً (¬4) غدقاً (¬5) عاجلاً غير رائث (¬6) "، وهذا لفظ ابن ماجه من حديث ابن عباس. ¬

_ (¬1) انظر فائدة مهمة حول هذا الأثر في رسالة " التوسل أنواعه وأحكامه " (ص 51 - 57) لشيخنا. (¬2) هو المحمود العاقبة. (ش) (¬3) بفتح الميم وبضمها مع كسر الراء فيهما: هو الذي يأتي بالريع؛ يعني: الزيادة. (ش) (¬4) هو المطر العام؛ كما في " القاموس ". (ش) (¬5) الغدق: الماء الكثير. (ش) (¬6) الريث: الإبطاء، والرائث: المبطئ. وإسناد هذا الحديث ثقات، كما قال المؤلف [الماتن] في " نيل الأوطار ". (ش) قلت: ورجح شيخنا في " الإرواء " (1 / 145 - 146) ضعفه.

ما يصنع المصلون بأرديتهم

وهذه الألفاظ ثابتة من رواية غيره من الصحابة في غير " سنن ابن ماجه " (¬1) . ومنها: " اللهم {أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء؛ أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين "؛ وهو في " سنن أبي داود " بإسناد صحيح (¬2) من حديث عائشة. ومن دعائه: " اللهم} اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت " (¬3) ؛ إلى غير ذلك. ( [ما يصنع المصلون بأرديتهم؟] :) (ويحولون جميعا أرديتهم) : لما روي في ذلك - ما تقدم - من جعل الأيمن أيسر والأيسر أيمن. وروي: أنه قلبه ظهرا لبطن وحول الناس معه؛ أخرجه أحمد (¬4) من حديث عبد الله بن زيد؛ وأصله في " الصحيح ". ¬

_ (¬1) عن جابر عند أبي داود؛ كما في تعليق شيخنا على " المشكاة " (1507) . (¬2) (برقم: 1173) ؛ وفي سنده يونس بن يزيد الأيلي؛ ثقة إلا في حديثه عن الزهري؛ وهذا منه! (¬3) رواه أبو داود (1176) بسند حسن؛ كما في " المشكاة " (1506) . (¬4) • بسند حسن؛ لكنه شاذ كما بينته في " الضعيفة " (5629) . (ن) قلت: إنما الشاذ منه تحويل الناس معه؛ فانظر " تمام المنة " (ص 264) .

الكتاب الثالث كتاب الجنائز

(الكتاب الثالث: كتاب الجنائز)

كتاب الجنائز

(3 - كتاب الجنائز) (الفصل الأول: أحكام المحتضر) ( [دليل مشروعية زيارة المريض] :) (من السنة عيادة المريض) : لأن الأحاديث في مشروعيتها متواترة، وقد جعلها الشارع من حقوق المسلم على المسلم. ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس ". وزاد مسلم: " النصيحة ". وزاد البخاري من حديث البراء: " نصر المظلوم، وإبرار القسم ". ( [تلقين المحتضر] :) (وتلقين المحتضر) ؛ وهو في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة. (الشهادتين) : فوجب أن يحث على الذكر، والتوجه إلى الله - تعالى -؛

توجيه المحتضر للقبلة

لتفارق نفسه وهي في غاشية من الإيمان، فيجد ثمرتها في معاده. ودليله حديث أبي سعيد الثابت في " الصحيح "، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ". وفي الباب أحاديث. ( [توجيه المحتضر للقبلة] :) (وتوجيهه) (¬1) إلى القبلة؛ لحديث عبيد بن عمير، عن أبيه، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال - وقد سأله رجل عن الكبائر؟ - فقال: " هن تسع: الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام: قبلتكم أحياء وأمواتا "؛ أخرجه أبو داود (¬2) ، والنسائي، والحاكم. ¬

_ (¬1) • ليس في الأحاديث الآتية ما يصلح أن يشهد له؛ فإن قصة البراء فيها ضعف وإرسال كما يأتي. وقد نقل ابن الحاج في " المدخل " (3 / 229 - 230) عن مالك؛ أن توجيه المحتضر إلى القبلة لم يكن من عمل الناس، وكره أن يعمل ذلك استنانا. (ن) قلت: وفرق بين توجيه الميت، وتوجيه المحتضر، فتأمل. (¬2) • رواه أبو داود في (الوصايا) (2 / 13) والنسائي (تحريم الدم) (2 / 165) مختصرا، والحاكم في (التوبة) (4 / 259 - 260) - بتمامه؛ كأبي داود -، وكذا البيهقي (3 / 408 - 409) ؛ من طريق عبد الحميد بن سنان، عن عبيد، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. وهذا منه أمر عجيب؛ فإن ابن سنان هذا قد أورده الذهبي في " الميزان "، وقال: لا يُعرف، قال البخاري: في حديثه نظر "؛ يعني: هذا الحديث. ولا يُغتر بقول المنذري في " الترغيب " (1 / 266) : " ورواته ثقات "؛ لأن عمدته في توثيق ابن سنان هذا؛ إنما هو ابن حبان؛ فقد أورده في " الثقات "؛ وهو تساهل منه؛ كما هو معروف، وقد نص على ذلك ابن حجر في مقدمة " اللسان ". (ن) قلت: ثم رجح شيخنا حسنه في بحث دقيق - له - في الإرواء " (690) ، فانظره.

وقد أخرج البغوي في " الجعديات " (¬1) من حديث ابن عمر نحوه؛ وفي إسناده أيوب بن عتبة، وهو ضعيف. وقد استدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها؛ لقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " قبلتكم أحياء وأمواتا "، وفيه نظر؛ لأن المراد بقوله: " أحياء " عند الصلاة، وبقوله: " أمواتا " في اللحد، والمحتضر حي غير مصل، فلا يتناوله الحديث، وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي، وعدم اختصاصه بحال الصلاة! وهو خلاف الإجماع. والأوْلى الاستدلال بما رواه الحاكم، والبيهقي، عن أبي قتادة: أن البراء بن معرور أوصى أن يُوجَّه إلى القبلة إذا احتضر، فقال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " أصاب الفطرة ". (¬2) ¬

_ (¬1) (برقم: 3426) . وانظر " التلخيص الحبير " (2 / 101) ، " ونصب الراية " (2 / 252) . (¬2) قال المصنف في " نيل الأوطار " بعد ذكره: " وقد ذكر هذا الحديث في " التلخيص "، وسكت عنه ". وهو في " المستدرك " للحاكم (1 / 353) من حديث يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه. قال الحاكم: " هذا حديث صحيح ... ولا أعلم في توجه المحتضر إلى القبلة غير هذا الحديث "، وصححه أيضا الذهبي. والذي أراه أنه حديث مرسل؛ لأن يحيى رواه عن أبيه، وأبوه تابعي. وبعد البحث؛ تبين لي أن الخطأ إنما هو من الناسخين؛ فقد وجدت الحديث في " السنن الكبرى " للبيهقي: رواه عن الحاكم بإسناده، وفيه: " عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه ". فالحديث - إذن - من حديث أبي قتادة، وليس حديثا مرسلا؛ والحمد لله. (ش) • قلت: وهو في " البيهقي " (3 / 384) كما نقله المعلق؛ فالحديث مرسل، وفيه نعيم بن حماد؛ وهو ضعيف. ولا يخفى أنه لا فرق بين هذه العبارة، وبين التي نقلها عن " المستدرك "، ولعل الصواب: " عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن أبي قتادة "؛ وهكذا على الصواب، ذكره الزيلعي في " نصب الراية " (2 / 252) ، معزواً للحاكم. (ن)

تغميض عيني المحتضر إذا مات

وقد اختلف في الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها، فقيل: يكون مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه، وقيل: على جنبه الأيمن؛ وهو الأولى. أقول: وهو الصفة التي يوجه عليها في قبره، والصفة التي أمر -[صلى الله عليه وسلم]- النائم أن ينام عليها. ومن ذلك فعل البتول - رضي الله عنها (¬1) -، ولا وجه لاختيار الاستلقاء، إلا وهم أنه أكمل. ( [تغميض عيني المحتضر إذا مات] :) (وتغميضه إذا مات) : لحديث شداد بن أوس عند أحمد، وابن ماجة، والحاكم (¬2) ، والطبراني، والبزار، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إذا حضرتم موتاكم؛ فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا؛ فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت ". وأخرج مسلم في " صحيحه ": أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ¬

_ (¬1) • قلت: هذا لم يثبت؛ ففي إسناد الرواية محمد بن إسحاق، وقد عنعنه، رواه عنه الإمام أحمد (6 / 461) ، وقد ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات "، وقال: " لا يصح، وكيف يصح الغسل للموت قبل الموت؟ ! هذا لا يصح إضافته إلى فاطمة وعلي؛ بل ينزهان عن مثل هذا " اه. " لآلي " (2 / 228) وقد تعقب بما لا يشفي؛ والله أعلم. (ن) (¬2) • في " المسند " (4 / 125) ، و " السنن " (1 / 444) ، و " المستدرك " (1 / 352) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وفيه نظر؛ لأن مداره على قزعة بن سويد، وقد ضعفه غير واحد، وجزم الحافظ بضعفه، وفي " الزوائد ": " إسناده حسن ". قلت: وهو بمعنى حديث مسلم بعده؛ فإن فيه: " فقولوا خيرا؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". (ن)

قراءة يس عند المحتضر

دخل على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر ". ( [قراءة يس عند المحتضر] :) (وقراءة يس عليه) : لحديث: " اقرأوا على موتاكم {يس} "؛ أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان - وصححه - من حديث معقل بن يسار مرفوعا؛ وقد أعل (¬1) . وقد أخرج نحوه صاحب " مسند الفردوس " من حديث أبي الدرداء، وأبي ذر. وأخرج نحوه أيضا أبو الشيخ في " فضل القرآن " من حديث أبي ذر وحده (¬2) . قال ابن حبان في " صحيحه ": المراد بقوله: " اقرأوا على موتاكم {يس} ": من حضرته المنية لا الميت، وكذلك: " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ". ( [المبادرة بتجهيز الميت] :) (والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته) : لما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن وحوح (¬3) : أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ¬

_ (¬1) وصححه ابن حبان. (ش) قلت: والصواب ضعفه، وانظر " أحكام الجنائز " (13) . (¬2) انظر رسالتي " القول المبين في ضعف حديثي التلقين، و: اقرؤوا على موتاكم {يس} ". (¬3) • بالتصغير، " وحوح " بمهلتين، على وزن جعفر، والحديث لا يصح؛ لأنه من طريق سعيد بن عثمان البلوي، عن عزرة - وفي رواية: عروة - بن سعيد الأنصاري، عن أبيه؛ وثلاثتهم مجاهيل. والحديث رواه البيهقي أيضا (3 / 386) . (ن)

المبادرة بقضاء دين الميت

يعوده، فقال: " إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت؛ فآذنوني به وأعجلوا (¬1) ؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله ". وأخرج أحمد، والترمذي (¬2) من حديث علي مرفوعا بلفظ: " ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفأ ". وأما إذا كان يظن أنه لم يمت؛ فلا يحل دفنه حتى يقع القطع بالموت؛ كصاحب البرسام وغيره. ( [المبادرة بقضاء دين الميت] :) (والقضاء لدينه) : لحديث امتناعه -[صلى الله عليه وسلم]- من الصلاة على الميت الذي عليه دين، حتى التزم بذلك بعض الصحابة؛ والحديث معروف (¬3) ، وحديث: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وحسنه - من حديث أبي هريرة. ( [تسجية الميت] :) (وتسجيته) : لما وقع من الصحابة من تسجية رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عند موته ببرد حبرة، وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة. ¬

_ (¬1) في " نيل الأوطار ": " وعجلوا ". (ش) (¬2) وقد ضعفه شيخنا في تعليقه على " المشكاة " (605) . (¬3) وصحح سنده شيخنا في تعليقه على " المشكاة " (2915) .

جواز تقبيل الميت

وذلك لا يكون إلا بجري العادة بذلك في حياته -[صلى الله عليه وسلم]-. ( [جواز تقبيل الميت] :) (ويجوز تقبيله) : لتقبيله -[صلى الله عليه وسلم]- لعثمان بن مظعون وهو ميت، كما في حديث عائشة عند أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -. وفي " الصحيح " من حديثها، وحديث ابن عباس: أن أبا بكر قبل النبي [صلى الله عليه وسلم] بعد موته. ( [على المريض أن يحسن الظن بربه] :) (وعلى المريض أن يحسن الظن بربه) ، والأحاديث في ذلك كثيرة، ولو لم يكن منها إلا حديث النهي عن أن يموت الميت؛ إلا وهو حسن الظن بربه (¬1) ، وحديث المريض الذي زاره النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: " كيف تجدك؟ " فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: " ما اجتمعا في قلب امريء في مثل هذا الموطن؛ إلا دخل الجنة " (¬2) . - أو كما قال -. ( [على المريض أن يتوب من ذنوبه] :) (ويتوب إليه) ، والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في ذلك لا يتسع ¬

_ (¬1) وفي " صحيح مسلم " (2877) عن جابر - مرفوعا -: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ". (¬2) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (3436) .

على المريض أن يتخلص مما عليه من حقوق وأقله بالوصية

المقام لبسطها. وفي " الصحيحين ": " أن الله يفرح بتوبة عبده "، وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق. ( [على المريض أن يتخلص مما عليه من حقوق، وأقله بالوصية] :) (ويتخلص عن كل ما عليه) ، ووجوب ذلك معلوم. وإذا أمكن - بإرجاع كل شيء لمن هو له؛ من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك -: فهو الواجب. وإن لم يكن في الحال: فالوصية المفصلة هي أقل ما يجب. وورد الأمر بالوصية، وأنه لا يحل لأحد أن يبيت إلا ووصيته عند رأسه؛ كما في الأحاديث الصحيحة.

فصل غسل الميت

(2 - فصل: غسل الميت) ( [وجوب غسل الميت على الأحياء] :) (ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء) ؛ وهو مجمع عليه، كما حكى ذلك النووي، والمهدي في " البحر ". ومستند هذا الإجماع أحاديث الأمر بالغسل والترغيب فيه، كالأمر منه [صلى الله عليه وسلم] بغسل الذي وقصته (¬1) ناقته، وبغسل ابنته زينب؛ وهما في " الصحيح ". ( [القريب أولى بغسل قريبه] :) (والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه) : لحديث: " ليليه أقربكم إن كان يعلم، فإن لم يكن يعلم؛ فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة "؛ أخرجه أحمد (¬2) ، والطبراني، وفي إسناده جابر الجعفي، والحديث إن كان لا يصلح للاحتجاج به، ولكن للقرابة مزية وزيادة حنو وشفقة، توجب كمال العناية، ولا شك أنها وجه مرجح؛ مع علم القريب بما يحتاج إليه في الغسل. ( [أحد الزوجين أولى بالآخر] :) (وأحد الزوجين بالآخر) أولى؛ لقوله [صلى الله عليه وسلم] لعائشة: " ما ضرك لو مت ¬

_ (¬1) الوقص: الكسر. (ش) (¬2) • " المسند " (6 / 120، 122) . (ن)

قبلي فغسلتك وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك؟ {" أخرجه أحمد، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وفي إسناده محمد بن إسحاق، ولم ينفرد به؛ فقد تابعه عليه صالح بن كيسان (¬1) . وأصل الحديث في " البخاري " (¬2) بلفظ: " ذاك لو كان وأنا حي؛ فأستغفر لك وأدعو لك ". وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما غسل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلا نساؤه "؛ أخرجه أحمد وابن ماجة وأبو داود (¬3) . وقد غسلت الصديق زوجته أسماء - كما تقدم في الغسل لمن غسل ميتا -؛ وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه (¬4) . وغسل علي فاطمة؛ كما رواه الشافعي، والدارقطني، وأبو نعيم، والبيهقي بإسناد حسن. ¬

_ (¬1) • عند أحمد والنسائي؛ كذا في " التلخيص " (5 / 125) . قلت: وهو عند أحمد (6 / 144) بلفظ: دخل علي رسول الله في اليوم الذي بريء فيه، فقلت: وارأساه} فقال: " وددت أن ذلك كان وأنا حي؛ فهيأتك ودفنتك ... " الحديث، وسنده صحيح على شرطهما، لكن ليس فيه ذكر الغسل كما ترى؛ فليس يصح كونه متابعا لابن إسحاق؛ إلا إن كانت رواية النسائي صريحة في ذلك، ولم أقف عليها في " سننه الصغرى "، فالظاهر أنها في " الكبرى " له. (ن) قلت: هو في " السنن الكبرى " (7079 - 7081) . (¬2) • في " المرضى ". (ن) (¬3) صحيح؛ انظر " أحكام الجنائز " (ص 49) . (¬4) رواه البيهقي في " السنن الكبرى " (4 / 397) ، وضعفه؛ لكن: ذكر أن له شواهد. والله أعلم.

غسل الميت ثلاثا أو خمسا أو أكثر

وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. قال في " المسوى ": " اتفقوا على جواز غسل المرأة زوجها، واختلفوا في غسل الزوج امرأته. قالت الحنفية: لا يجوز، فإن لم يكن إلا الزوج يممها. وقال الشافعي: يجوز؛ لما مر ". ( [غسل الميت ثلاثا أو خمسا أو أكثر] :) (ويكون الغسل ثلاثا أو خمسا أو كثر بماء وسدر) (¬1) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] للنسوة الغاسلات لابنته زينب: " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك - إن رأيتن - بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورا "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث أم عطية. وفي لفظ لهما أيضا: " اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك؛ إن رأيتن ". وفيه دليل على تفويض عدد الغسلات إلى الغاسل. قال في " الحجة ": " إنما أمر بالسدر وزيادة الغسلات؛ لأن المريض مظنة الأوساخ والرياح المنتنة ". اه. (وفي الآخرة كافور) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " واجعلن في الآخرة كافورا "، كما ¬

_ (¬1) السدر: ورق النبق. (ش)

تقديم الميامن في غسل الميت

سبق، وإنما أمر بالكافور في الآخرة؛ لأن من خاصيته أن لا يسرع التغير فيما استعمل [فيه] . ويقال: من فوائده أنه لا يقرب منه حيوان مؤذ. ( [تقديم الميامن في غسل الميت] :) (وتقدم الميامن) : ليكون غسل الموتى بمنزلة غسل الأحياء، وليحصل إكرام هذه الأعضاء. ودليله قوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث أم عطية هذا: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ". قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس الميت ثلاث ضفائر، كقوله في " الصحيحين " في غسل ابنته: " اجعلوا رأسها ثلاثة قرون "، قالت أم عطية: ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها، ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها. فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا {وإنما يرسل شعرها شقتين على ثديها} ! وسنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أحق بالاتباع. اه. ( [الشهيد لا يغسل] :) (ولا يغسل الشهيد) : بل يدفن في ثيابه ودمائه؛ تنويها بما فعل، وليتمثل صورة بقاء عمله بادي الرأي، وهذا هو الحق؛ لما ثبت في شهداء أحد أنه

-[صلى الله عليه وسلم]- أمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، وهو في " الصحيح ". وما قيل بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال: فمردود بما عند أحمد (¬1) في هذا الحديث عنه [صلى الله عليه وسلم] ، أنه قال في قتلى أحد: " لا تغسلوهم؛ فإن كل جرح أو كل دم؛ يفوح مسكا يوم القيامة ". وأخرج أبو داود عن جابر، قال: رمي رجل بسهم في صدره - أو في حلقه -، فمات؛ فأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وإسناده على شرط مسلم. وعن ابن عباس عند أبي داود، وابن ماجة، قال: أمر النبي [صلى الله عليه وسلم] بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم؛ وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي، وقد تكلم فيه جماعة، وفيه أيضا عطاء بن السائب؛ وفيه مقال (¬2) . وفي الباب أحاديث. وبالجملة: فقد جرت السنة في الشهيد أن لا يغسل، ولم يرو أنه [[صلى الله عليه وسلم]] غسل شهيدا؛ وبه قال الجمهور. وأما من أطلق عليه اسم الشهيد - كالمطعون والمبطون (¬3) والنفساء ونحوهم -: فقد حكى في " البحر " الإجماع على أنهم يغسلون. ¬

_ (¬1) في " المسند " (3 / 299) ؛ وسنده صحيح؛ كما في " الإرواء " (3 / 164) . (¬2) ضعيف؛ " الإرواء " (709) . (¬3) • أي: الذي يموت بمرض بطنه؛ كالاستسقاء ونحوه. " نهاية ". وقيل: أراد هنا النفاس؛ وهو أظهر؛ قاله السيوطي في " حاشيته على النسائي " (ن) قلت: والمقصود الشهادة الحكمية لا الحقيقية.

فصل تكفين الميت

(3 - فصل: تكفين الميت) ( [تكفين الميت واجب ولو لم يملك غير الكفن] :) (ويجب تكفينه) : الأصل في التكفين التشبه بحال النائم المسجى بثوبه. أكمله في الرجل: إزار وقميص وملحفة أو حلة، وفي المرأة: هذه مع زيادة ما؛ لأنها يناسبها زيادة الستر. (بما يستره) : لأمره -[صلى الله عليه وسلم]- بإحسان الكفن؛ كما في حديث: " إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه "؛ وهو في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي قتادة (¬1) ، والكفن الذي لا يستر ليس بحسن (¬2) . (ولو لم يملك غيره) ؛ أي: الكفن؛ لأمره -[صلى الله عليه وسلم]- بتكفين مصعب بن عمير في النمرة (¬3) التي لم يترك غيرها؛ كما في ¬

_ (¬1) • إنما هو عند مسلم (3 / 50) من حديث جابر. وأما حديث أبي قتادة؛ فرواه الترمذي، وابن ماجة. (ن) (¬2) • بل هو الذي ورد الحديث بسببه كما في " المسند " (3 / 295) عن جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] خطب يوما، فذكر رجلا من أصحابه قبض؛ فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلا، فزجر النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه؛ إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إذا كفن ... " الحديث، وهو صحيح على شرط مسلم. (ن) (¬3) النمرة - بفتح النون وكسر الميم -: شملة فيها خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف يلبسها الأعراب. قاله في " القاموس ". (ش)

جواز الزيادة في الكفن مع القدرة من دون مغالاة

" الصحيحين " وغيرهما من حديث خباب بن الأرت. ( [جواز الزيادة في الكفن مع القدرة من دون مغالاة] :) (ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة) : لما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- في كفن ابنته؛ فإنه كان يناول النساء ثوبا ثوبا؛ وهو عند الباب، فناولهن الحقو (¬1) ، ثم الدرع، ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر؛ أخرجه أحمد (¬2) ، وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية. وقد كفن -[صلى الله عليه وسلم]- في ثلاثة اثواب سحولية (¬3) جدد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة؛ أدرج فيها إدراجا "؛ وهو في " الصحيحين ". وأخرج أبو داود (¬4) من حديث علي (¬5) : " لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سريعا ". ¬

_ (¬1) • معقد الإزار. (ن) (¬2) • في " المسند " (6 / 380) ، ومن طريقه أبو داود، وأخرجه البيهقي (6 / 4 - 7) ، وإسناده لا يصح، فيه نوح بن حكيم الثقفي؛ وهو مجهول، كما في " التقريب ". وقال المنذري في " مختصره " (2028) : " ليس بمشهور ". (ن) (¬3) بفتح السين وضمها؛ نسبة إلى سحول؛ قرية باليمن. قال ابن الأعرابي وغيره: هي ثياب بيض نقية، لا تكون إلا من القطن. (ش) (¬4) • في " سننه " (2 / 61 - 62) ، وعنه البيهقي (3 / 403) ؛ وفيه عمرو أبو مالك الجنبي؛ وهو ابن هشام؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب ". (ن) (¬5) • مرفوعا. (ن)

أقول: أراد العدل بين الإفراط والتفريط، وأن لا ينتحلوا عادة الجاهلية في المغالاة. والحاصل: أنه لا ريب في مشروعية الكفن للميت، ولا شك في عدم وجوب زيادة على الواحد، ولم يثبت عنه [صلى الله عليه وسلم] كون الكفن على صفة من الصفات، أو عدد من الأعداد؛ إلا ما كان منه [صلى الله عليه وسلم] في تكفين ابنته أم كلثوم. وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال - لكنه لا يخرج به عن حد الاعتبار. فغاية ما يقال: إنه يستحب أن يكون كفن المرأة على هذه الصفة (¬1) ، وأما كفن الرجل؛ فلم يثبت عنه إلا الأمر بالتكفين في الثوب الواحد، كما في قتلى أحد، وفي الثوبين؛ كما في المحرم الذي وقصته ناقته. وليس تكثير الأكفان والمغالاة في أثمانها بمحمود؛ فإنه لولا ورود الشرع به: لكان من إضاعة المال؛ لأنه لا ينتفع به الميت، ولا يعود نفعه على الحي، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال: " إن الحي أحق بالجديد (¬2) "؛ لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: " إن هذا خلق " (¬3) . ¬

_ (¬1) • فيه أن الاستحباب حكم شرعي، وهو لا يثبت بمثل هذا الحديث الضعيف، فتأمل! لا سيما وهو بظاهره أقرب إلى المغالاة منه إلى العدل. (ن) (¬2) • أخرجه البيهقي (3 / 399) عن عائشة: لما اشتد مرض أبي بكر بكيت ... فأفاق. . ثم قال: أي يوم توفي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ قالت: فقلت: يوم الاثنين، فقال: فأي يوم هذا؟ قلت: يوم الاثنين ... قالت: وقال: في كم كفنتم رسول الله؟ قال - كذا -: كنا كفناه في ثلاثة أثواب سحولية بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وبه درع زعفران أو مشق، واجعلوا معه ثوبين جديدين، فقالت عائشة: فقلت: إنه خلق، فقال لها: الحي أحوج إلى الجديد من الميت؛ إنما هو للمهلة. وإسناده صحيح. (ن) (¬3) بفتح اللام؛ وهو الثوب البالي. (ش)

الشهيد يكفن في ثيابه التي قتل فيها

والأولى أن يكون الكفن من الأبيض؛ لحديث: " البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، والشافعي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن القطان. وفي معناه أحاديث أخر عن عمران، وسمرة، وأنس، وابن عمر، وأبي الدرداء. ( [الشهيد يكفن في ثيابه التي قتل فيها] :) (ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها) : فقد كان ذلك صنعه -[صلى الله عليه وسلم]- في الشهداء المقتولين معه. وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة من حديث ابن عباس، قال: أمر رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يوم أحد بالشهداء؛ أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وقال: " ادفنوهم بدمائهم وثيابهم " (¬1) . وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن ثعلبة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال يوم أحد: " زملوهم في ثيابهم " (¬2) . ( [تطييب بدن الميت وكفنه سنة] :) (وندب تطييب بدن الميت وكفنه) : لحديث جابر عند أحمد، والبيهقي (¬3) ، ¬

_ (¬1) ضعيف؛ " الإرواء " (709) . (¬2) خرجه شيخنا في " أحكام الجنائز " (ص 80 - طبعة المعارف) ، ولكن من غير تصحيح. (¬3) • في " سننه الكبرى " (3 / 405) ، وإسناده صحيح على شرط مسلم، لكن نقل البيهقي عن

والبزار - بإسناد رجاله رجال الصحيح -، قال: " قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا أجمرتم الميت؛ فأجمروه (¬1) ثلاثا ". ولقوله [صلى الله عليه وسلم] في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: " ولا تمسوه بطيب "؛ وهو في " الصحيح " من حديث ابن عباس؛ فإن ذلك يشعر أن غير المحرم يطيب، ولا سيما مع تعليله [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " فإنه يبعث ملبيا ". قال في " الحجة ": " فوجب المصير إليه ". وإلى هذه النكتة أشار النبي [صلى الله عليه وسلم] بقوله: " الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها (¬2) ". وأما ما قيل: تتبع بالطيب مساجده {} فلعل وجه ما قاله ابن مسعود ومن بعده، تكريم هذه الأعضاء لكون الاعتماد عليها في أشرف طاعات الله وهي الصلاة، ولم يرد في ذلك من المرفوع شيء، ولكنه يحسن لستر ما لعله يظهر من روائح الميت التي يتأذى بها المتولون لتجهيزه. ¬

_ ابن معين، أنه قال: تفرد برفعه يحيى بن آدم. وهذا لا يضر؛ فإن يحيى بن آدم ثقة حافظ فاضل، كما في " التقريب ". وأخرجه البخاري (3 / 196 - 197) ، وأحمد (6 / 45) ، وابن سعد في " الطبقات " (3 ق / ص 139) ببعض اختصار، ولفظ الكتاب من البخاري. وفي رواية أحمد، وابن سعد: أفلا تجعلها جددا كلها؟ فقال: لا. قال الحافظ: " وظاهره أن أبا بكر كان يرى عدم المغالاة في الأكفان، ويؤيده قوله بعد ذلك: إنما هو للمهلة "، ثم ذكر حديث علي عند أبي داود، وقال: " ولا يعارضه حديث جابر في الأمر بتحسين الكفن؛ فإنه يجمع بينهما بحمل التحسين على الصفة، وحمل المبالغة على الثمن، وقيل: التحسين حق الميت، فإذا أوصى بتركه اتبع؛ كما فعل الصديق " (ن) (¬1) الإجمار: التبخير بالبخور. (ش) (¬2) " الصحيحة " (1671) .

فصل صلاة الجنازة

(4 - فصل صلاة الجنازة) ( [الصلاة على الجنازة فرض كفاية] :) (وتجب الصلاة على الميت) : لأن اجتماع أمة من المؤمنين شافعين للميت؛ له تأثير بليغ في نزول الرحمة عليه. والصلاة على الأموات ثابتة ثبوتا ضروريا من فعله [صلى الله عليه وسلم] وفعل أصحابه، ولكنها من واجبات الكفاية؛ لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته [صلى الله عليه وسلم] ولا يؤذونه (¬1) ؛ كما في حديث السوداء التي كانت تقم (¬2) المسجد، فإنه لم يعلم النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا بعد دفنها، فقال لهم: " ألا آذنتموني؟ ! "؛ وهو في " الصحيح "، وامتنع من الصلاة على من عليه دين، وأمرهم بأن يصلوا عليه. ( [يقف الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة] :) (ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة) : لحديث أنس بن مالك: أنه صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة، فصلى عليها، فقام وسطها، فسئل عن ذلك، وقيل له: هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، وابن ماجة. ¬

_ (¬1) أي: لا يعلمونه. (ش) (¬2) تقم؛ أي: تجمع القمامة؛ وهي الكناسة. (ش)

التكبير أربعا أو خمسا على الجنازة

ولفظ أبي داود: " هكذا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يصلي على الجنازة كصلاتك؛ يكبر عليها أربعا، ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟ قال: نعم. وفي " الصحيحين " من حديث سمرة، قال: صليت وراء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في الصلاة وسطها ". والخلاف في المسألة معروف، وهذا هو الحق. أقول: الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] ؛ أنه كان يقف مقابلا لرأس الرجل، ولم يثبت عنه غير ذلك. وأما المرأة؛ فروي أنه كان يقوم مقابلا لوسطها، وروي أنه كان يقوم مقابلا لعجيزتها، ولا منافاة بين الروايتين، فالعجيزة يصدق عليها أنها وسط. وإيثار ما ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند أئمة الفن، الذين هم المرجع لغيرهم؛ واجب. ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة - أو من غيرهم - على قول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وفعله، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى. ( [التكبير أربعا أو خمسا على الجنازة] :) (ويكبر أربعا أو خمسا) : لورود الأدلة بذلك. أما الأربع فثبتت ثبوتا متواترا من طريق جماعة من الصحابة: أبي

هريرة، وابن عباس، وجابر، وعقبة بن عامر، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم -. وأما الخمس؛ فثبتت في " الصحيح " من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا؛ وإنه كبر على جنازة خمسا، فسألته؟ فقال: كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يكبرها "؛ أخرجه مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ". وأخرج أحمد عن حذيفة: أنه صلى على جنازة، فكبر خمسا، ثم التفت، فقال: ما نسيت ولا وهمت، ولكن كبرت كما كبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، صلى على جنازة فكبر خمسا؛ وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري؛ وهو ضعيف. وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة: فذهب الجمهور إلى أنه أربع، وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس. وقال القاضي عياض: اختلفت الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع. قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع؛ على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم؛ فشذوذ لا يلتفت إليه (¬1) . اه. وهذه الدعوى مردودة؛ فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى ¬

_ (¬1) انظر مناقشة ذلك في " أحكام الجنائز " (ص 143 - 147) لشيخنا.

الآن، ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية؛ إلا أن يصح ما رواه ابن عبد البر في " الاستذكار " من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وسبعا وثمانيا، حتى جاء موت النجاشي، فخرج فكبر أربعا، ثم ثبت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- على أربع، حتى توفاه الله - تعالى - (¬1) . على أن استمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه [صلى الله عليه وسلم] من الخمس؛ ما لم يقل قولا يفيد ذلك. وقد أخرج الطبراني في " الأوسط " (¬2) عن جابر مرفوعا: " صلوا على موتاكم بالليل والنهار، والصغير والكبير، والدنيء والأمير؛ أربعا "؛ وفي إسناده عمرو بن هشام البيروتي؛ تفرد به عن ابن لهيعة، وما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت! وقد روى البخاري عن علي: أنه كبر على سهل بن حنيف ستا، وقال: إنه شهد بدرا. وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة، أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا. ¬

_ (¬1) وطرقه - كلها - ضعيفة؛ انظر " أحكام الجنائز " (ص 145) ، و " الاستذكار " (8 / 239) . (¬2) (برقم: 1295 - " مجمع البحرين ") وضعفه الهيثمي في " المجمع " (3 / 35) . وأوله في " سنن ابن ماجة " (1522) بنفس الإسناد.

بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة وسورة

( [بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة وسورة] :) (ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة) : لحديث ابن عباس عند البخاري وأهل " السنن ": أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنه من السنة. ولفظ النسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر، فلما فرغ قال: سنة وحق. وروى الشافعي في " مسنده " عن أبي أمامة بن سهل: أنه أخبره رجل من أصحاب النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: أن السنة في الصلاة على الجنازة؛ أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرا في نفسه؛ قال في " الفتح ": وإسناده صحيح. وقد أخرجه عبد الرزاق، والنسائي بدون قوله: بعد التكبيرة، ولا قوله: ثم يسلم سرا في نفسه. قال في " الحجة ": " ومن السنة قراءة الفاتحة؛ لأنها خير الأدعية وأجمعها، علمها الله - تعالى - عباده في محكم كتابه " أهـ. والحاصل: أن الموطن موطن دعاء، لا موطن قراءة قرآن، فيتوجه الاقتصار على ما ورد وهو الفاتحة وسورة، ويكون ذلك بعد التكبيرة الأولى، ويشتغل فيما بعدها بمحض الدعاء.

الأدعية المأثورة في الصلاة على الميت

( [الأدعية المأثورة في الصلاة على الميت] :) (ويدعو بين التكبيرات بالأدعية المأثورة) : منها ما أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، قال: كان النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إذا صلى على جنازة قال: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم {من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ". زاد أبو داود، وابن ماجه: " اللهم} لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده ". وأخرجه أيضا النسائي، وابن حبان، والحاكم، قال: وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه. وأخرج هذا الشاهد الترمذي، وأعله بعكرمة بن عمار. وأخرج مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك، قال: سمعت النبي -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر، وعذاب النار ". وقد وردت أدعية متنوعة في أحاديث صحيحة؛ هي أولى من الاستحسانات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم من عند أنفسهم، فإنهم لم يقصدوا أنها أولى من الثابت عنه [صلى الله عليه وسلم] ، ولكن فن الرواية هم عنه بمعزل، فضاقت عليهم المسالك؛ وهي واسعة.

قال في " الحجة البالغة ": ومن دعاء النبي [صلى الله عليه وسلم] على الميت: " اللهم {إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك؛ فقه من فتنة القبر وعذاب النار؛ وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم} اغفر له وارحمه؛ إنك أنت الغفور الرحيم " (¬1) . وأما الصلاة على الجنائز في المساجد: فغاية ما استدل به من قال بالكراهة؛ ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من صلى على جنازة في المسجد؛ فلا شيء عليه " (¬2) . وأخرجه ابن ماجه بلفظ: " فليس له شيء ". وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأجوبة: منها: أنه ضعيف؛ كما قاله جماعة من الحفاظ؛ فإن في إسناده صالحاً - مولى التوأمة - (¬3) . ومنها: أن الذي في النسخ المشهورة الصحيحة من " سنن أبي داود " بلفظ: " فلا شيء عليه " كما تقدم. وعلى فرض ثبوت الرواية باللفظ الآخر؛ فيجب تأويلها؛ لما ثبت من صلاته [صلى الله عليه وسلم] على ابني بيضاء في المسجد. ¬

_ (¬1) حديث صحيح؛ انظر " أحكام الجنائز " (ص 158) . (¬2) هذه الرواية ضعيفة، والتي تليها هي الصحيحة؛ فانظر تفصيل ذلك - رواية ودراية - في " الصحيحة " (2351) . (¬3) بل الحديث ثابت؛ فانظر التعليق السابق.

بل أخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة (¬1) : أن الصحابة صلوا على أبي بكر وعمر في المسجد. وأما إنكار من أنكر على عائشة (¬2) فلا حجة فيه، ولا سيما وقد انقطع عند أن قامت عليه الحجة. وأما الصلاة على الجنازة فرادى؛ فأقول: الاستدلال ممن قال باشتراط التجميع فيها بأنه [صلى الله عليه وسلم] ما صلى على جنازة إلا في جماعة: لا تتم به الحجة؛ لأن الأصل في كل صلاة مشروعة أن تكون كالصلوات الخمس في إجزائها فرادى كما تجزئ جماعة. ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل. ولو كان فعلها منه [صلى الله عليه وسلم] في جماعة تقوم به الحجة؛ للزم في صلاة الفرائض الخمس أن لا تصح إلا جماعة؛ لأنه [صلى الله عليه وسلم] لم يؤدها إلا جماعة. إذا تقرر هذا: فالاقتصار في الاستدلال لصحة صلاة الجنازة فرادى على ما ذكرناه مغن عن غيره؛ فإن تحقيق إجماع الصحابة على تجويز الصلاة عليه [صلى الله عليه وسلم] عند موته فرادى (¬3) ممنوع؛ لأنهم قد تفرقوا بعض تفرق في تلك الحال، وإن كان الباقون في المدينة جمهورهم وأكابرهم. ثم لو فرض الإجماع على ذلك: فهو إجماع سكوتي، وانتهاضه ¬

_ (¬1) في " المصنف " (3 / 364) . (¬2) كما في " صحيح مسلم " (973) في قصة جنازة سعد. (¬3) انظر " مختصر الشمائل المحمدية " (333) لشيخنا.

لا يصلى على الغال

للاحتجاج فيه ما لا يخفى على عارف بالأصول. ثم هذا مبني على صدور ذلك، ولم يرد إلا بإسناد ضعيف أنهم فعلوا ذلك. وأما ما يقال: إنه [صلى الله عليه وسلم] أوصاهم بأن يصلوا عليه فرادى، ففي إسناده عبد المنعم بن إدريس؛ وهو - كما قيل - كذاب، وصرح بعض الحفاظ بأن الحديث موضوع. ( [لا يصلى على الغال] :) (ولا يصلى على الغال) (¬1) : لامتناعه [صلى الله عليه وسلم] في غزاة خيبر من الصلاة على الغال (¬2) ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. ¬

_ (¬1) هو الذي سرق من الغنيمة قبل قسمها. (ش) (¬2) • في " المسند " (4 / 114) ، و (5 / 192) ، وهو في " السنن " في " الجهاد "؛ إلا النسائي ففي " الجنائز " (1 / 278) ، ومالك أيضا في " الجهاد " (2 / 14) بإسناد صحيح: أن رجلا من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؟ فقال: " صلوا على صاحبكم "، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله "، ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود؛ لا يساوي درهمين. قلت: وإذا كان هذا لفظ الحديث، وفيه أمره - عليه السلام - أصحابه بالصلاة على الغال؛ فالاستدلال به حينئذ على ترك الصلاة ليس بالصواب، بل الحديث يدل على عكس ما ذهب إليه المصنف - رحمه الله -، فالحق قوله في " نيل الأوطار " (4 / 40) تحت هذا الحديث: " فيه جواز الصلاة على العصاة، وأما ترك النبي [صلى الله عليه وسلم] للصلاة عليه؛ فلعله للزجر عن الغلول، كما امتنع من الصلاة على المديون، وأمرهم بالصلاة عليه ". (ن) قلت: وفي " الإرواء " (726) - كذلك - تضعيفه. ولكن؛ ورد في " أحكام الجنائز " (ص 103) - وهي من أحدث وآخر تآليف الشيخ - أن للحديث شاهدين.

لا يصلى على قاتل نفسه

( [لا يصلى على قاتل نفسه] :) (وقاتل نفسه) : لحديث جابر بن سمرة عند مسلم، وأهل " السنن ": أن رجلا قتل نفسه بمشاقص (¬1) ، فلم يصل عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] . ( [لا يصلى على الكافر] :) (والكافر) ، وذلك هو المعلوم منه [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإنه لم ينقل عنه أنه صلى على كافر، وقد صرح بذلك القرآن الكريم، قال الله - عز وجل - {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} . ( [لا يصلى على الشهيد] :) (والشهيد) ، وقد اختلفت الروايات في ذلك، وقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لم يصل على شهداء أحد. وأخرجه أيضا أهل " السنن ". وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم من حديث أنس أنه [صلى الله عليه وسلم] لم يصل عليهم. أقول: لا يشك من له أدنى إلمام بفن الحديث؛ أن أحاديث الترك أصح إسنادا وأقوى متنا، حتى قال بعض الأئمة: إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه، لكن الجهة التي جعلها المجوزون وجه ترجيح وهي الإثبات؛ لا ريب أنها من المرجحات الأصولية؛ ¬

_ (¬1) جمع مشقص - كمنبر -: نصل عريض أو طويل، أو سهم فيه ذلك. (ش)

يصلى على القبر وعلى الغائب

إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي؛ لأن الترجيح فرع المعارضة. والحاصل: أن أحاديث الإثبات مروية من طرق متعددة؛ لكنها جميعا متكلم عليها. وقد أطال الماتن الكلام على هذا في " شرح المنتقى "، وسرد الروايات المختلفة واختلاف أهل العلم في ذلك؛ فليرجع إليه؛ فإن هذا المقام من المعارك. ( [يصلى على القبر وعلى الغائب] :) (ويصلى على القبر وعلى الغائب) : لحديث - أنه -[صلى الله عليه وسلم]- انتهى إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعا؛ وهو في " الصحيحين " من حديث ابن عباس. وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد؛ وهو أيضا في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة. وصلى على قبر أم سعد، وقد مضى لذلك شهر؛ أخرجه الترمذي (¬1) . وصلى على النجاشي هو وأصحابه؛ كما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، وأبي هريرة، وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بالمدينة. ¬

_ (¬1) (رقم 1038) بسند مرسل!

والخلاف في الصلاة على القبر والغائب (¬1) معروف؛ ولم يأت المانع بشيء يُعتد به. أقول: الأدلة ثابتة في الصلاة على القبر ثبوتا لا يقابله أهل العلم بغير القبول. أما فيمن لم يصل عليه؛ فالأمر أوضح من أن يخفى، ولا تزال الصلاة مشروعة عليه؛ ما علم الناس أنه لم يصل عليه أحد. وأما فيمن قد صُلي عليه: فلمثل حديث السوداء المتقدم، ومعلوم أن الميت لا يدفن في عصره [صلى الله عليه وسلم] بدون صلاة عليه. وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقا: فأشف ما استدلوا به؛ ما روي عنه [صلى الله عليه وسلم] في حديث السوداء المذكور، أنه قال: " إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم " (¬2) . قالوا: فهذا يدل على اختصاصه [صلى الله عليه وسلم] بذلك. وتُعقِّب بأنه [صلى الله عليه وسلم] لم ينكر على من صلى معه على القبور، ولو كان خاصا به لأنكر عليهم. وأجيب عن هذا التعقب؛ بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للاستدلال به على الفعل أصالة. ¬

_ (¬1) ولكن بشرط التأكد - أو غلبة الظن - أنه لم يصل عليه في البلد الذي مات فيه، وانظر " أحكام الجنائز " (ص 118 - 119) . (¬2) انظر ما سيأتي - بعد -.

وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة؛ بأنها مدرجة في هذا الحديث، كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد (¬1) . على أنه يمكن الجواب بأن كون الله ينور القبور بصلاة رسوله [صلى الله عليه وسلم] عليها لا ينفي مشروعية الصلاة من غيره تأسيا به، لا سيما بعد قوله [صلى الله عليه وسلم] : " صلوا كما رأيتموني أصلي ". قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " رُدت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها "، وهذا حديث صحيح، والذي قاله هو الذي صلى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الآخر؛ فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان؛ بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه؛ فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين. ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض، وبين كونه في بطنها؛ بخلاف سائر الصلوات؛ فإنها لم تشرع في القبور، ولا إليها؛ لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد. وقد لعن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من فعل ذلك، فأين ما لعن فاعله وحذر منه، وأخبر أن أهله شرار الخلق - كما قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة ¬

_ (¬1) الزيادة في " صحيح مسلم " (957) ، وأصله في " صحيح البخاري " (1337) بدونها! وانظر مناقشة المسألة وتحقيقها في " الفصل للوصل المدرج في النقل " (2 / 613) للخطيب، و " السنن الكبرى " (4 / 47) للبيهقي، و " الفتح " (1 / 553) للحافظ ابن حجر.

وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " - إلى ما فعله [صلى الله عليه وسلم] مراراً متكررة؟ ! وبالله التوفيق ".

المشي بالجنازة

(5 - المشي بالجنازة) ( [المشي بالجنازة سريعا] :) (ويكون المشي بالجنازة سريعاً) : لحديث أبي بكرة عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والحاكم، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا (¬1) . وأخرج البخاري في " تاريخه " (¬2) ، قال: أسرع النبي [صلى الله عليه وسلم] ، حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة؛ قربتموها إلى الخير، وإن كان غير ذلك؛ فشر تضعونه عن رقابكم ". وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب، وقال ابن حزم بوجوبه (¬3) . وذهب بعض أهل العلم إلى أن المستحب التوسط؛ لحديث أبي موسى، قال: مرت برسول الله [صلى الله عليه وسلم] جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله ¬

_ (¬1) الرمل - بفتح الميم -: المشي مسرعا مع هز المنكبين. (ش) قلت: وقد صححه النووي في " المجموع " (5 / 272) . (¬2) (7 / 402) بسند حسن. (¬3) انظر " المحلى " (5 / 154) - له -.

[صلى الله عليه وسلم] : " عليكم القصد "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والبيهقي؛ وفي إسناده ضعف. وأخرج الترمذي، وأبو داود من حديث ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن المشي خلف الجنازة؟ فقال: " ما دون الخبب؛ فإن كان خيرا عجلتموه، وإن كان شرا؛ فلا يبعد إلا أهل النار "؛ وفي إسناده مجهول (¬1) . ولا يخفاك أن حديث أبي موسى لا يصلح للاحتجاج به، على فرض عدم وجود ما يعارضه، فكيف وقد عارضه ما هو في " الصحيحين " بلفظ الأمر؟ ! وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع، لأن الخبب هو ضرب من العدو، وما دونه إسراع. أقول: والحق هو القصد في المشي، فالأحاديث المصرحة بمشروعية الإسراع؛ ليس المراد بها الإفراط في المشي الخارج عن حد الاعتدال، والأحاديث التي فيها الإرشاد إلى القصد؛ ليس المراد بها الإفراط في البطء، فيجمع بين الأحاديث بسلوك طريقة وسطى بين الإفراط والتفريط، يصدق عليها أنه إسراع بالنسبة إلى الإفراط في البطء، وأنها قصد بالنسبة إلى الإفراط في الإسراع، فيكون المشروع دون الخبب، وفوق المشي الذي يفعله من يمشي في غير مهم. ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي، وأبو داود (¬2) عن ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- عن المشي خلف ¬

_ (¬1) " ضعيف سنن ابن ماجة " (322) . (¬2) وقد ضعفاه.

المشي مع الجنازة سنة

الجنازة؟ فقال: ما دون الخبب. وقد ضعفه جماعة بأبي ماجد المذكور في إسناده، قيل: إنه مجهول، وقيل: منكر الحديث، والراوي عنه يحيى الجابري؛ وهو ضعيف. وأخرج أحمد، والنسائي، والحاكم عن أبي بكرة، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا " (¬1) ؛ فمعنى: نكاد نرمل؛ أي: نقارب الرمل. ( [المشي مع الجنازة سنة] :) (والمشي معها) سنة، وهو ظاهر لأنه -[صلى الله عليه وسلم]- كان يمشي مع الجنائز هو وأصحابه، كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي، والأحاديث الآتية في التقدم والتأخر على الجنازة، ولحديث أبي هريرة الثابت في " الصحيح ": " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا ... " الحديث. ( [حمل الجنازة سنة] :) (والحمل لها سنة) : لحديث ابن مسعود، قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها؛ فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع؛ أخرجه ابن ماجة، وأبو داود الطيالسي، والبيهقي من رواية أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عنه (¬2) . ¬

_ (¬1) هذا الحديث وحديث ابن مسعود كررهما الشارح في هذه المسألة بدون مناسبة! فقد ذكرهما أولا وتكلم عنهما. (ش) (¬2) أبو عبيدة لم يسمع من أبيه؛ وهو معروف. (ش) قلت: وبهذا جزم شيخنا في " أحكام الجنائز " (ص 121) .

المتقدم على الجنازة والمتأخر عنها سواء

وفي الباب عن جماعة من الصحابة (¬1) ، والأحاديث يقوي بعضها بعضا، ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل. ( [المتقدم على الجنازة والمتأخر عنها سواء] :) (والمتقدم عليها والمتأخر عنها سواء) : لما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره: أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح (¬2) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وابن حبان - وصححه أيضا -، والحاكم - وقال: على شرط البخاري (¬3) - من حديث المغيرة: أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها؛ قريبا منها؛ عن يمينها أو عن يسارها ". ولفظ أبي داود: " والماشي يمشي خلفها، وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها قريبا منها ". وفي لفظ لأحمد، والنسائي، والترمذي: " الراكب خلف الجنازة، ¬

_ (¬1) أين؟! (¬2) • قلت: الذي في " صحيح مسلم " (3 / 60) وغيره عن جابر بن سمرة، قال: أتي النبي [صلى الله عليه وسلم] بفرس معرورى، فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح، ونحن نمشي حوله. فأنت ترى أن الحديث ورد في الانصراف من الجنازة، لا في اتباعها، فما أبعد ما استدل به المؤلف عليه} (ن) قلت: والفرس المعرورى، هو: العاري عن السرج. (¬3) • ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وقد خرجته في " التعليقات الجياد " (ج 3 / فصل 26 / ص 20 - 27) ، ولم أجد عندهم الرواية الأولى باللفظ الذي أورده المؤلف، فلعله عند ابن حبان. ومعناه عند أبي داود وغيره. (ن)

الركوب مع الجنازة مكروه

والماشي حيث شاء منها ". وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان - وصححه - من حديث ابن عمر: أنه رأى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل، وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل. أقول: فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل: فأقل الأحوال أن يكون مساويا للمشي خلفها في الفضيلة، ولم يأت حديث صحيح ولا حسن؛ أن المشي خلف الجنازة أفضل، وأقوال الصحابة مختلفة، فالحق أن ذلك سواء. ولا ينافيه رواية من روى أنه -[صلى الله عليه وسلم]- مشى أمامها أو خلفها؛ فذلك سواء؛ لأن المشي مع الجنازة إنما يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها، وقد أرشد إلى ذلك النبي -[صلى الله عليه وسلم]- كما تقدم، فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه. قال في " الحجة ": " وهل يمشي أمام الجنازة أو خلفها؟ وهل يحملها أربعة أو اثنان؟ وهل يسل من قبل رجليه، أو من القبلة؟ المختار: أن الكل واسع، وأنه قد صح في الكل حديث أو أثر " (¬1) أه. ( [الركوب مع الجنازة مكروه] :) (ويكره الركوب) : لحديث ثوبان، قال: خرجنا مع رسول الله - ¬

_ (¬1) وفي " أحكام الجنائز " (ص 94 و 190) اختيار في هذه المسألة وترجيح.

[صلى الله عليه وسلم]- فرأى ناسا ركبانا، فقال: " ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب "؛ أخرجه ابن ماجة، والترمذي (¬1) . وأخرج أبو داود (¬2) من حديث ثوبان - أيضا -: أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أتي بدابة وهو مع جنازة، فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة، فركب، فقيل له؟ ! فقال: " إن الملائكة كانت تمشي، فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت ". وقد خرج -[صلى الله عليه وسلم]- مع جنازة ابن الدحداح ماشيا، ورجع على فرس؛ كما في حديث جابر بن سمرة عند الترمذي - وقال: صحيح -. ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله: " الراكب خلف الجنازة؛ لأنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز مع الكراهة، أو المراد بأن كون الراكب خلفها ¬

_ (¬1) ابن ماجة (1 / 450) ، والترمذي (2 / 138) بشرح " التحفة " من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن ثوبان. وكذا أخرجه الحاكم (1 / 356) ، والبيهقي (4 / 230) ، وقد سكتوا عنه؛ إلا أن الترمذي قال: " قد روي موقوفا ". قلت: أخرجه كذلك البيهقي أيضا، وقال: إنه أصح، وكذا قال البخاري. قلت: ومداره - مرفوعا وموقوفا - على أبي بكر هذا؛ وهو ضعيف، كما قال في " التحفة "، لكن ذكر البيهقي أن ثور بن زيد رواه عن راشد بن سعد، عن ثوبان موقوفا، وهو يرجح الموقوف، كما قال البيهقي. (ن) (¬2) في " السنن " (4 / 64) ، وكذا البيهقي (4 / 23) ، وكذا الحاكم (1 / 335) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ثوبان، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. (ن) قلت: وهو كما قالا.

يحرم النعي على الميت

أن يكون بعيدا على وجه لا يكون في صورة من يمشي مع الجنازة. ( [يحرم النعي على الميت] :) (ويحرم النعي) : لحديث حذيفة عند أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى عن النعي (¬1) . وحديث ابن مسعود، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " إياكم والنعي؛ فإن النعي عمل الجاهلية "؛ أخرجه الترمذي؛ وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور، وليس بالقوي. وفي الباب أحاديث. والذي في " الصحاح " و " القاموس " و " النهاية " وغيرها من كتب اللغة: أن النعي: الإخبار بموت الميت، فظاهره تحريم ذلك، وإن لم يصحبه ما يستنكر كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. ولكنه قد ثبت أنه [صلى الله عليه وسلم] نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه؛ أي: أخبرهم، وأخبر بقتلى مؤتة، وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد: " ألا أخبرتموني بموتها؟ ! "؛ فدلت هذه الأحاديث على جواز الإعلام بمجرد الموت؛ لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة، والمنع منه لغير ذلك. ¬

_ (¬1) انظر " صحيح سنن ابن ماجة " (1203) .

تحرم النياحة على الميت

( [تحرم النياحة على الميت] :) (والنياحة) : لحديث: " من نيح عليه يعذب (¬1) بما نيح عليه "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث المغيرة. وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء، وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وفي " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: " الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ". وأخرج أحمد، ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري: " النائحة - إذا لم تتب قبل موتها - تقام يوم القيامة؛ وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب ". وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ: أنا بريء مما بريء منه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بريء من الصالقة (¬2) ، والحالقة، والشاقة ". ¬

_ (¬1) • أي: يتألم ويتوجع، قال شيخ الإسلام في تفسير حديث أبي ذر - بعد أن قرر أن ليس على أحد من وزر غيره شيء، وأنه لا يستحق إلا ما سعاه -، قال: (2 / 209 - من المجموعة المنيرية) : " وإن ظن بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول! فليس كذلك؛ إذ ذلك النائح يعذب بنوحه، لا يحمل الميت وزره، ولكن الميت يناله ألم من فعل هذا كما يتألم الإنسان من أمور خارجة عن كسبه، وإن لم يكن جزاء الكسب والعذاب أعم من العقاب، كما قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " السفر قطعة من العذاب ". وانظر تفصيل هذا البحث في " تهذيب السنن " لابن القيم (4 / 290) ، وقد صرح فيه بخطأ تفسير هذا الحديث على هذا الوجه، فراجعه؛ فإنه مفيد. (ن) (¬2) • صلق يصلق صلقا: رفع صوته عند المصيبة. " المعجم المدرسي ". (ن)

يحرم اتباع الجنازة بنار

أقول: الأحاديث في هذا الباب قد اختلفت، فمنها ما فيه الإذن بمطلق البكاء، ومنها ما فيه النهي عن مطلق البكاء، ووردت أحاديث مصرحة بالنهي عن النوح، كما تقدم بعض ذلك؛ ولم يأت ما يدل على جوازه. واختلف الناس في الجمع بين الأحاديث، فالذي يترجح: الجزم بتحريم نفس النوح؛ لأنه أمر زائد على البكاء. وأما ما لا يستطاع دفعه من دمع العين، وما عجز الطبع عن كتمه من الصوت فلا مانع منه، وعليه تحمل أحاديث الإذن بالبكاء، وفيها ما يرشد إلى هذا؛ فليعلم. ( [يحرم اتباع الجنازة بنار] :) (واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور) : لحديث أبي بردة، قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت، فقال: لا تتبعوني بمجمر، قالوا: أو سمعت فيه شيئا؟ ! قال: نعم، من رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-؛ أخرجه ابن ماجة؛ وفي إسناده مجهول (¬1) . وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية. وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم] ¬

_ (¬1) • قلت: كلا؛ ليس فيه مجهول؛ بل رجاله معروفون، كلهم ثقات؛ غير أن أبا حريز - واسمه عبد الله بن حسين - تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه، ولذلك قال في " الزوائد ": " إسناده حسن ". وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه مالك في " الموطأ "، وأبو داود، والحديث في " ابن ماجة (1 / 453) ، و " البيهقي " (3 / 395) ؛ ثم تبين لي أن الشارح تبع الشوكاني في " نيل الأوطار " في هذا الوهم؛ فانظر (4 / 63) . (ن)

السنة أن لا يقعد المتبع للجنازة حتى توضع

قال: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ". ( [السنة أن لا يقعد المتبع للجنازة حتى توضع] :) (ولا يقعد المتبع لها حتى توضع) : لحديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن اتبع؛ فلا يجلس حتى توضع "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة نحوه. وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعدا، كحديث: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، حتى تخلفكم أو توضع "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره. وأخرج مسلم من حديث علي، قال: قام النبي -[صلى الله عليه وسلم]-؛ يعني: في الجنازة؛ ثم قعد. وفي رواية من حديثه، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس؛ رواه أحمد، وابن ماجة، وأبو داود، وابن حبان. وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار من حديث عبادة بن الصامت: أن يهوديا قال - لما كان النبي [صلى الله عليه وسلم] يقوم للجنازة -: هكذا نفعل، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اجلسوا وخالفوهم "؛ وفي إسناده بشر بن أبي رافع، وليس

القيام للجنازة منسوخ

بالقوي - كما قال الترمذي -، وقال البزار: تفرد به بشر وهو لين. فأفاد ما ذكرناه: ( [القيام للجنازة منسوخ] :) (أن القيام لها) إذا مرت (منسوخ) ، وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض: فمحكم لم ينسخ (¬1) . قال القاضي عياض: ذهب جمع من السلف إلى أن الأمر بالقيام منسوخ بحديث علي هذا. أقول: وهذا الحديث - بلفظ: ثم قعد -؛ لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره [صلى الله عليه وسلم] لنا بالقيام، وعلل ذلك بأن الموت فزع، وقام لجنازة، فقيل: إنها جنازة يهودي! فقال: " أليست نفسا؟ " (¬2) ؛ فغاية ما يدل عليه قعوده - من بعد - هو أن القيام ليس بواجب عليه، وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلا - لم يظهر منه التأسي به فيه، وكان ذلك مخالفا لما قد أمر به الأمة أو نهاها عنه -؛ فإنه يكون مختصا به، ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله (¬3) . ¬

_ (¬1) • قلت: بل هو منسوخ أيضا؛ بما أخرجه الطحاوي من طريق إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزرقي، عن أبيه، قال: شهدت جنازة بالعراق، فرأيت رجالا قياما ينتظرون أن توضع، ورأيت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشير إليهم؛ أن اجلسوا؛ فإن النبي [صلى الله عليه وسلم] قد أمرنا بالجلوس بعد القيام، وسنده حسن، كما ذكرت في " التعليقات الجياد " (3 / 30 - 31) . وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه، كما ذكره النووي، ونقلت كلامه هناك؛ فراجعه. (ن) (¬2) رواه البخاري (1312) ، ومسلم (961) . (¬3) كلا؛ بل فعله [صلى الله عليه وسلم] يجب التأسي به مطلقا فيما كان من الشرائع، والخصوصية لا تثبت إلا بدليل صريح. (ش)

ولفظ: أمرنا بالجلوس (¬1) ؛ إن بلغ إلى حد الاعتبار صلح للنسخ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت المتقدم - وفيه ما تقدم -، والمقام عندي من المضايق. ¬

_ (¬1) • قلت: سنده حسن كما بينته في المصدر السابق، فهو صالح للاحتجاج به. (ن) قلت: وانظر " أحكام الجنائز " (ص 78)

فصل دفن الميت

(6 - فصل: دفن الميت) ( [مواراة الميت ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا] :) (ويجب دفن الميت) ، أي: مواراة جيفته (في حفرة) قبر؛ بحيث لا تنبشه السباع، و (تمنعه من السباع) ، ولا تخرجه السيول المعتادة. ولا خلاف في ذلك، وهو ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا. وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " احفروا وأعمقوا وأحسنوا "؛ أخرجه النسائي (¬1) ، والترمذي - وصححه -. ( [جواز الضرح واللحد، مع أن اللحد أولى] :) (ولا بأس بالضرح، واللحد أولى) : لأن اللحد أقرب من إكرام الميت، وإهالة التراب على وجهه - من غير ضرورة - سوء أدب. ودليله حديث: أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح، وأن أبا طلحة كان يلحد "، وقد أخرجه ابن ماجة (¬2) من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (1 / 283) ، والترمذي (3 / 36 - بشرح " التحفة ") ، والبيهقي - أيضا - (4 / 34) من حديث هشام بن عامر؛ وذكر فيه خلافا لا يضر - إن شاء الله تعالى -. ثم الحديث وارد في شهداء أحد؛ وفيه: " ادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر ". (ن) (¬2) (1 / 498) ، وكذا البيهقي (3 / 407) ، وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس. (ن)

وأخرج أحمد، وابن ماجة من حديث أنس، قال: لما توفي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان رجل يلحد وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا له "، وإسناده حسن (¬1) . فتقريره [صلى الله عليه وسلم] للرجلين في حياته 0 هذا يلحد وهذا يضرح -؛ يدل على أن الكل جائز. وأما أولوية اللحد: فلحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : اللحد لنا والشق لغيرنا "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن السكن؛ مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر؛ وهو ضعيف. وأخرج أحمد، والبزار، وابن ماجة من حديث جرير نحوه، وفيه عثمان ابن عمير؛ وهو ضعيف (¬2) . وقد ذهب إلى ذلك الأكثر. وحكى النووي في " شرح مسلم " (¬3) اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق. وعلى كل حال: اللحد أولى للخروج من الريبة، وإن كان المقام مقام احتمال. ¬

_ (¬1) • وهو كما قال، وصححه في " الزوائد "، وأخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (4 / 45) . وله شاهد من حديث عائشة عند ابن ماجة (1 / 472) ، وصححه البوصيري، وهو خطأ؛ فإن فيه رجلا مجهولا؛ وهو عبيد بن طفيل المقريء. (ن) (¬2) قلت: فهو يقويه؛ وانظر " أحكام الجنائز " (ص 145) . (¬3) وعبارته في " المجموع " (7 / 287) : " وأجمع العلماء ... ".

كيف يدخل الميت في قبره

( [كيف يدخل الميت في قبره؟] :) (ويدخل الميت من مؤخر القبر) : لحديث عبد الله بن يزيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجلي القبر، وقال: هذا من السنة؛ أخرجه أبو داود (¬1) وأخرج ابن ماجة (¬2) من حديث أبي رافع، قال: سل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] سعد بن معاذ سلا. وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس، وأبو بكر النجاد (¬3) من حديث ابن عمر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سل من قبل رأسه سلا. وقد روى البيهقي من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وبريدة: أنهم أدخلوا النبي [صلى الله عليه وسلم] من جهة القبلة (¬4) ؛ وقد ضعفها البيهقي. ولا يعارض السنة ما وقع من بعض الصحابة عند دفنه [صلى الله عليه وسلم] ( [كيف يوضع الميت في قبره؟] :) (ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلا) ؛ وهو مما لا أعلم فيه خلافا. ¬

_ (¬1) • ومن طريقه أخرجه البيهقي (4 / 54) ، وقال: " إسناد صحيح، وقد قال: هذا من السنة؛ فصار كالمسند " (ن) (¬2) (برقم 1551) ، وفي سنده مندل العنزي؛ وهو ضعيف. (¬3) • اسمه أحمد بن سليمان البغدادي، ولد سنة (253) هـ، ومات سنة (348) هـ، وهو من الرواة عن أبي داود، ترجمه الذهبي في " تذكرته " (3 / 79 - 81) . (ن) قلت: وفي سند الشافعي إبهام، ولم أقف على سند النجاد. (¬4) • وقد ذكر الشافعي في " الأم " (1 / 241) أن هذا غير ممكن؛ لأن قبر النبي [صلى الله عليه وسلم] كان عن يمين الداخل إلى البيت لاصقا بالجدار، وقد ألحد له [صلى الله عليه وسلم] تحته، وهو قبلة البيت؛ فهو مانع من إدخاله [صلى الله عليه وسلم] من جهة القبلة. (ن)

يستحب لكل حاضر الحثو ثلاثا

( [يستحب لكل حاضر الحثو ثلاثا] :) (ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات) : لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا؛ أخرجه ابن ماجة، وأبو داود؛ وإسناده صحيح، لا كما قال أبو حاتم (¬1) { وأخرج البزار، والدارقطني من حديث عامر بن ربيعة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] حثى على قبر عثمان بن مظعون - ثلاثا - (¬2) . وفي الباب غير ذلك. ( [لا يرفع القبر زيادة على شبر] :) (ولا يرفع القبر زيادة على شبر) : لحديث علي عند مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ": أنه بعثه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه، ولا قبرا مشرفا إلا سواه. وفي " مسلم " - أيضا - وغيره - من حديث جابر: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] نهى أن يبنى على القبر. وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي من حديث جعفر بن محمد، عن ¬

_ (¬1) في " العلل " (1 / 348) ؛ حيث أعله بالإرسال} وهذا منه قول مرجوح. (¬2) • وفيه ضعف كما بينته في " التعليقات الجياد " (3 / 34) ، لكن مجموع ما ورد في الباب صالح للاحتجاج به. (ن)

أبيه: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] رش على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء، ورفعه شبرا (¬1) . أقول: الأحاديث الصحيحة وردت بالنهي عن رفع القبور، وقد ثبت من حديث أبي الهياج ما تقدم، فما صدق عليه أنه قبر مرفوع أو مشرف - لغة -: فهو من منكرات الشريعة التي يجب على المسلمين إنكارها وتسويتها؛ من غير فرق بين نبي وغير نبي، وصالح وطالح، فقد مات جماعة من أكابر الصحابة في عصره [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يرفع قبورهم، بل أمر عليا بتسوية المشرف منها، ومات -[صلى الله عليه وسلم]- ولم يرفع قبره أصحابه، وكان من آخر قوله: " لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، ونهى أن يتخذوا قبره وثنا. فما أحق الصلحاء والعلماء أن يكون شعارهم هو الشعار الذي أرشدهم إليه -[صلى الله عليه وسلم]-! وتخصيصهم بهذه البدعة المنهي عنها؛ تخصيص لهم بما لا يناسب العلم والفضل؛ فإنهم لو تكلموا لضجوا من اتخاذ الأبنية على قبورهم وزخرفتها؛ ¬

_ (¬1) • قلت: هو مرسل؛ وفيه عند البيهقي (3 / 411) إبراهيم بن محمد - وهو الأسلمي -؛ وهو مكشوف الحال، كما قال ابن التركماني، لكن أخرجه البيهقي أيضا من طريق أخرى، عن جعفر مرسلا؛ إلا أنه ذكر أن ذلك فعل بقبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ ورجاله ثقات، وقد وصله ابن حبان في " صحيحه "، فأسنده من هذا الوجه عن جابر كما في " التلخيص " (5 / 224) . (فائدة) : وهل يسطح القبر أو يسنم؟ فيه خلاف؛ والصواب الثاني، وفي ذلك أثران ظاهرهما التعارض، وقد ذهب إلى كل واحد منهما بعض، والحق أنه لا تعارض؛ كما أشار إلى ذلك ابن القيم في " الزاد "، وبيناه في " التعليقات الجياد " (3 / 37) . (ن)

لأنهم لا يرضون بأن يكون لهم شعار من مبتدعات الدين ومنهياته، فإن رضوا بذلك في الحياة - كمن يوصي من بعده أن يجعل على قبره بناء، أو يزخرفه -؛ فهو غير فاضل، والعالم يزجره علمه عن أن يكون على قبره ما هو مخالف لهدي نبيه -[صلى الله عليه وسلم]-. فما أقبح ما ابتدعه جهلة المسلمين من زخرفة القبور وتشييدها {وما أسرع ما خالفوا وصية رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند موته، فجعلوا قبره على هذه الصفة التي هو عليها الآن} وقد شد من عضد هذه البدعة؛ ما وقع من بعض الفقهاء من تسويغها لأهل الفضل، حتى دونوها في كتب الهداية، والله المستعان { ومثل هذا التسويغ: الكتب على القبور بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة (¬1) ؛ كأنه لم يكف الناس ابتداعهم في مطعمهم ومشربهم وملبوسهم وسائر أمور دنياهم، فجعلوا على قبورهم شيئا من هذه البدع؛ لتنادي عليهم بما كانوا عليه حال الحياة، وتغالوا في ذلك حتى جعلوه مختصا بأهل العلم والفضل؛ اللهم غفرا} ¬

_ (¬1) روى الحاكم في " المستدرك " (جزء 1 ص 370) من حديث جابر: نهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن تجصيص القبور، والكتاب فيهما، والبناء عليها، والجلوس عليها، ثم قال: " هذه الأسانيد صحيحة؛ وليس العمل عليها؛ فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف ". قال الذهبي عقبه: " قلت: ما قلت طائلا! ولا نعلم صحابيا فعل ذلك؛ وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي ". (ش) قلت: وانظر - للفائدة - " أحكام الجنائز " (ص 263) .

زيارة القبور مشروعة للرجال والنساء

وما جعلوه وجها لرفع القبور - وهو تمييزها لأجل الزيارة -: فهذا ممكن بوضع حجر على القبر، أو بوضع قضيب، أو نحو ذلك، لا بتشييد الأبنية، ورفع الحيطان والقبب، وتزويق الظاهر والباطن. ( [زيارة القبور مشروعة للرجال والنساء] :) (والزيارة للموتى مشروعة) ، أي: زيارة القبور؛ لحديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه؛ فزوروها فإنها تذكر الآخرة "، أخرجه الترمذي - وصححه -؛ وهو في " صحيح مسلم ". وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة بنحو ذلك. وفي الباب أحاديث. وقد قيل باختصاص ذلك بالرجال؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لعن زوارات القبور؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة، والترمذي - وصححه -، وابن حبان في " صحيحه ". وفي الباب عن حسان بن ثابت عند أحمد، وابن ماجة، والحاكم. وعن ابن عباس عند أحمد، وأهل " السنن "، والحاكم، والبزار؛ بإسناد فيه صالح - مولى التوأمة -؛ وهو ضعيف. وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز، وهي تقوي المنع من الزيارة.

وروى الأثرم في " سننه "، والحاكم (¬1) من حديث عائشة: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] رخص لهن في زيارة القبور. وأخرج ابن ماجة عنها مختصرا: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] رخص في زيارة القبور. فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله [صلى الله عليه وسلم] : " فزوروها "؛ كما سبق، فلا يكون في ذلك حجة؛ لأن الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص. لكنه يؤيد ما روته عائشة: ما في " صحيح مسلم " عنها، أنها قالت: يا رسول الله {كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين ... " الحديث. وروى الحاكم: أن فاطمة - رضي الله تعالى عنها - كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة (¬2) . ويجمع بين الأدلة: بأن المنع لمن كانت تفعل في الزيارة ما لا يجوز من نوح ونحوه، والإذن لمن لم تفعل ذلك. ¬

_ (¬1) • أخرجه في (الجنائز) (ج 1 / ص 376) عن عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين} من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم؛ كان نهى، ثم أمر بزيارتها. سقط تصحيحه من " المستدرك "! وقال الذهبي: " صحيح ". (ن) قلت: وانظر " أحكام الجنائز " (ص 230) ؛ ففيه فائدة زائدة. (¬2) رواه الحاكم (جزء 1: ص 377) من طريق سليمان بن داود، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، وقال: " رواته عن آخرهم ثقات ". قال الذهبي: " هذا منكر جدا، وسليمان ضعيف ". (ش)

أقول: استدلوا للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة، وغير خاف على عارف بالأصول؛ أن الأحاديث الواردة في النهي للنساء عن الزيارة، والتشديد في ذلك، حتى لعن [صلى الله عليه وسلم] من فعلت ذلك؛ بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن اتباع الجنائز (¬1) ، فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأولى، وشدد في ذلك حتى قال للبتول - رضي الله عنها -: " لو بلغت معهم - يعني: أهل الميت - الكدى؛ ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " (¬2) ؛ فهذه الأحاديث مخصصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة. لكنه يشكل على ذلك أحاديث أخر: منها: حديث عائشة المتقدم: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] علمها كيف تقول إذا زارت القبور (¬3) . ومنها: ما أخرجه البخاري: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] مر بامرأة تبكي على قبر، ولم ينكر عليها الزيارة. ¬

_ (¬1) • قلت: لكن في " البخاري " وغيره: أنه لم يعزم عليهن، فقول المؤلف: إن زيارتهن ممنوعة بالأولى؛ غير مسلم، وبيانه ليس هذا محله. (ن) قلت: فانظر " أحكام الجنائز " (ص 90) . (¬2) رواه الحاكم (جزء 1: ص 374) ، ولم يذكر فيه أن المرأة فاطمة، بل أبهم المرأة. ونسبه الشوكاني في " نيل الأوطار " جزء (1: ص 160 - طبعتنا) لأبي داود. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (ش) • قلت: وليس كما قالا؛ بل إن الذهبي في بعض كتبه مال إلى أن الحديث موضوع، وقد تكلمت على ذلك مفصلا في " التعليقات " (3 / 55 - 57) . (¬3) • قلت: وكذا حديثها عند الحاكم (1 / 376) . وهذا هو الحق؛ كما بينته في " التعليقات " (3 / 53 - 57) . (ن)

كيف يقف الزائر للقبور

قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث؛ إنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لما تقتضيه الصيغة من المبالغة - يعني: لفظ " زوارات " -. قال: ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج. ( [كيف يقف الزائر للقبور؟] :) (ويقف الزائر مستقبلا للقبلة) : لحديث: أنه جلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مستقبل القبلة لما خرج إلى المقبرة؛ أخرجه أبو داود (¬1) من حديث البراء، وهو [صلى الله عليه وسلم] خرج في هذا الحديث مع جنازة؛ فأفاد مشروعية قعود من خرج مع الجنازة مستقبلا حتى يدفن، وكذلك مشروعية الاستقبال للزائر؛ لكونه قد خرج إلى المقبرة كما يخرج من معه جنازة، وقعد كما يقعد. ( [ماذا يقول الزائر للقبور؟] :) وقد كان [صلى الله عليه وسلم] يقول عند الزيارة: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين {وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية "؛ فينبغي للزائر أن يقول كذلك. وقال في " الحجة ": وفي رواية " السلام عليكم يا أهل القبور} يغفر الله لنا ولكم، وأنتم سلفنا ونحن بالأثر (¬2) "؛ والله - تعالى - أعلم. ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 69) بإسناد صحيح، وأخرجه النسائي أيضا، وابن ماجة. وقد أعله بعضهم بما لا يضر، كما بينه ابن القيم في " التهذيب " (4 / 337) . (ن) (¬2) رواه الترمذي (1053) ؛ وفي سنده قابوس بن أبي ظبيان؛ والراجح ضعفه.

يحرم اتخاذ القبور مساجد

( [يحرم اتخاذ القبور مساجد] :) (ويحرم اتخاذ القبور مساجد) ، الأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما، ولها ألفاظ منها: " لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وفي لفظ: " قاتل الله اليهود ... " الحديث. وفي لفظ: " لا تتخذوا قبري مسجدا ". وفي آخر: " لا تتخذوا قبري وثنا ". واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. (¬1) وفي " مسلم ": " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها " (¬2) . قال البيضاوي: " وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا لتعظيم له، ولا لتوجه نحوه: فلا يدخل في ذلك الوعيد " {انتهى. وتعقبه في " سبل السلام " وقال: قوله: لا لتعظيم له} يقال: اتخاذ ¬

_ (¬1) • يستفاد من هذا الحديث مسائل فقهية مهمة، بينتها بتفصيل في " التعليقات " (3 / 42) . (ن) (¬2) • هذه الزيادة ليست في " صحيح مسلم " (3 / 62) ، ولا عند غيره - كأصحاب " السنن " الثلاثة وغيرهم -؛ وقد خرجت الحديث في " السترة " من كتاب " صفة صلاة النبي [صلى الله عليه وسلم] ". وقد تبين لي سبب وهم المؤلف، وبيان ذلك لا يتسع له المقام. (ن)

يحرم زخرفة القبور

المسجد بقربه، وقصد التبرك به تعظيم له، ثم أحاديث النهي مطلقة، ولا دليل على التعليل بما ذكر، والظاهر أن العلة سد الذريعة، والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان التي تعظم الجمادات التي لا تسمع، ولا تنفع، ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها، الملعون فاعله، ومفاسد ما بني على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقد أخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة عن ابن عباس: لعن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم] زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (¬1) "؛ وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة. انتهى. ( [يحرم زخرفة القبور] :) (وزخرفتها) : لحديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ما أمرت بتشييد المساجد "؛ أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان. قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى (¬2) . والتشييد: رفع البناء وتزيينه بالشيد، وهو الجص، والحديث ظاهر في الكراهة، أو التحريم؛ لقول ابن عباس: كما زخرفت اليهود والنصارى؛ فإن التشبه بهم محرم؛ وذلك أنه ليس المقصود من بناء المساجد إلا أن تكن الناس ¬

_ (¬1) والحديث ضعيف؛ وستأتي إشارة شيخنا لتضعيفه. (¬2) • وهم الشارح - رحمه الله -، فرجع الضمير إلى " المساجد "؛ وهو خطأ؛ بدليل السياق، وبدليل قوله - بعد -: " وتسريجها "؛ فهنا لا يحتمل إرجاع الضمير إلا إلى " المساجد "؛ فتدبر. (ن)

من الحر والبرد، وتزيينه يشغل القلوب عن الإقبال على الطاعة، ويذهب الخشوع الذي هو روح جسم العبادة، والقول بأنه يجوز تزيين المحراب باطل! قال المهدي في " البحر ": إن تزيين الحرمين لم يكن برأي ذي حل وعقد ولا سكوت رضا - أي: من العلماء -؛ وإنما فعله أهل الدول الجبابرة، من غير مؤاذنة لأحد من أهل الفضل، وسكت المسلمون والعلماء من غير رضا. وهو كلام حسن. وفي قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " ما أمرت ": إشعار بأنه لا يحسن؛ فإنه لو كان حسنا لأمره الله - تعالى - به -[صلى الله عليه وسلم]-. وأخرج البخاري من حديث ابن عمر: أن مسجده -[صلى الله عليه وسلم]- كان على عهده مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدرانه بالأحجار المنقشة، والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. قال ابن بطال: وهذا يدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر - رضي الله تعالى عنه - مع كثرة الفتوحات في أيامه، وكثرة المال عنده؛ لم يغير المسجد عما كان عليه، وإنما احتاج إلى تجديده؛ لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم قال عند عمارته: أكن

يحرم تسريج القبور

الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، ثم كان عثمان المال في زمنه أكثر، فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك أنكر بعض الصحابة عليه. وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك، وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك؛ خوفا من الفتنة؛ فتأمل. ( [يحرم تسريج القبور] :) (وتسريجها) : لحديث: " لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وفي إسناده أبو صالح باذام، وفيه مقال. (¬1) وأخرج أحمد، ومسلم، وأهل " السنن " عن جابر، قال: نهى النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. وزاد الترمذي: وأن يكتب عليه، وأن يوطأ - وصححه -. وأخرج النهي عن الكتابة - أيضا - النسائي. وقال الحاكم: إن الكتابة - وإن لم يخرجها مسلم -: فهي على شرطه. ( [يحرم القعود على القبور] :) (والقعود عليها) : لما أخرجه مسلم، وأحمد، وأهل " السنن " من حديث ¬

_ (¬1) • وقد بينت ذلك في " التعليقات الجياد " (3 / 53) . (ن)

يحرم سب الأموات

أبي هريرة، (¬1) قال: " لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر ". (¬2) وأخرج أحمد بإسناد صحيح، (¬3) عن عمرو بن حزم، قال: رآني رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- متكئا على قبر، فقال: " لا تؤذ صاحب هذا القبر ". قال في " الحجة البالغة ": ومعنى: أن لا يقعد عليه؛ قيل: أن يلازمه المزورون، وقيل: أن يطأوا القبور، وعلى هذا؛ فالمعنى إكرام الميت، فالحق التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك، وبين الإهانة وترك الموالاة به. ( [يحرم سب الأموات] :) (وسب الأموات) : لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا "؛ أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة. وأخرج أحمد، والنسائي من حديث ابن عباس: " لا تسبوا أمواتنا؛ فتؤذوا أحياءنا "؛ وفي إسناده صالح بن نبهان؛ وهو ضعيف، ولكنه يشهد له ما ورد بمعناه من حديث سهل بن سعد، والمغيرة (3) . ¬

_ (¬1) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن هذا الحديث من كلام أبي هريرة، وليس كذلك؛ بل هو حديث مرفوع. وقوله: وأهل " السنن "؛ يشمل الترمذي، وليس كذلك؛ فإنه لم يروه: انظر " نيل الأوطار " (جزء 4: ص 135) . (ش) • قلت: وقد خرجناه في " التعليقات " (3 / 57) . (ن) (¬2) • وهو كما قال - تبعا للحافظ -؛ وقد خرجته في " الصحيحة " (2960) . (¬3) فهو حسن بشواهده.

التعزية مشروعة بألفاظ مأثورة

أقول: أما السباب للأموات من الشافعين لهم، القائمين بالصلاة عليهم: فما لهذا حمل الحاملون الجنازة إليهم؛ فإذا كان لا يستجيز الدعاء للميت، كمن يكون - مثلا - معلوم النفاق؛ فيدعو المصلي لنفسه، ولسائر المسلمين إذا ألجأته الضرورة إلى الصلاة عليه، و " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "؛ و " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس (¬1) . قال بعض المقصرين لرجل من أهل العلم: ألا تلعن فلانا؟ {قال: وهل تعبدنا الله بذلك؟} قال: نعم، قال: فمتى عهدك بلعن الشيطان وفرعون؛ فإنهما من رؤوس هذه الطائفة التي زعمت أن الله تعبدك بلعنها؟ قال: لا أدري {قال: لقد فرطت فيما تعبدك الله به، وتركت ما هو أحق بما تفعل} فعرف ذلك المقصر خطأه (¬2) . ( [التعزية مشروعة بألفاظ مأثورة] :) (والتعزية مشروعة) : لحديث: " من عزى مصابا فله مثل أجره "، أخرجه ابن ماجة، والترمذي، والحاكم من حديث ابن مسعود، وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم (¬3) . ¬

_ (¬1) قوله: " طوبى لمن ... "؛ لفظ حديث لا يثبت؛ وإن كان معناه صحيحا؛ فانظر " العلل المتناهية " (2 / 344) . وما قبله: حديثان صحيحان. (¬2) أقول: وهذا حال الغلاة الجدد؛ الذين لا ينقطع إطلاق القول بالتكفير عن ألسنتهم { ألا ساء ما يزرون، وباطل ما كانوا يصنعون} ! (¬3) • وقد ذكر له الحافظ في " التلخيص " (5 / 251 - 252) متابعين، قال: " وكلهم أضعف منه بكثير، وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل، فقد ذكرها صاحب " الكمال " من طريق وكيع عنه، ولم أقف على إسنادها بعد "؛ ثم ذكر له ثلاثة شواهد منها حديث عمرو بن حزم الذي بعده. (ن)

وأخرج ابن ماجة من حديث عمرو بن حزم، عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة؛ إلا كساه الله - عز وجل - من حلل الكرامة يوم القيامة "؛ ورجال إسناده ثقات (¬1) . وأخرج الشافعي من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لما توفي رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- وجاءت التعزية؛ سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب "؛ وفي إسناده القاسم بن عبيد الله بن عمرو؛ وهو متروك (¬2) . وأخرج البخاري، ومسلم من حديث أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فأرسلت إليه إحدى بناته؛ تدعوه وتخبره أن صبيا لها - أو ابنا لها - في الموت، فقال للرسول: " ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب ". فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في " الصحيح "، ولا يعدل عنها إلى ¬

_ (¬1) • وكذا قال في " النيل " (4 / 81) إلا أنه استثنى، فقال: " إلا قيسا أبا عمارة؛ ففيه لين ". فترك المصنف لهذا ليس من الأمانة العلمية في شيء { ثم إن في الحديث انقطاعا أو إرسالا؛ بينته في " معجم الحديث " - لنا -. (ن) (¬2) • قلت: لكن أخرجه الحاكم (ج 3 / ص 57) من طريق أخرى، وقال: " صحيح "، ووافقه الذهبي، وفي رواية: أن القائل هم الملائكة، وذكر له الحاكم شاهدا من حديث أنس، وفيه أن القائل هو الخضر - عليه السلام -} ولكنه منكر، وفي إسناده عباد بن عبد الصمد، قال فيه الذهبي: واه، قال البخاري: منكر الحديث، ووهاه ابن حبان، وقال أبو حاتم: ضعيف جدا ". وفي سند الرواية الأولى عند الحاكم خالد بن إسماعيل، وهو كذاب؛ كما قاله الذهبي نفسه في " الميزان "، وانظر " التعليقات " (3 / 67) . (ن)

إهداء الطعام لأهل الميت مشروع

غيرها (¬1) . ( [إهداء الطعام لأهل الميت مشروع] :) (وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت) : لحديث عبد الله بن جعفر، قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل؛ قال النبي [صلى الله عليه وسلم] : " اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ فقد أتاهم ما يشغلهم "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه ابن السكن، وحسنه الترمذي. (¬2) وأخرج نحوه أحمد، والطبراني، وابن ماجة من حديث أسماء بنت عميس - أم عبد الله بن جعفر -. وأخرج أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح (¬3) من حديث جرير، قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. ولا يعارض هذا ما قد ثبت (¬4) عن النبي -[صلى الله عليه وسلم] وشرف وكرم -. ¬

_ (¬1) لماذا لا يعدل عنها إلى غيرها؟ {هل ورد الأمر بها والنهي عما عداها؟} نعم؛ إن اتباع الوارد أفضل، ولكن هذا لا يمنع إباحة التعزية بكل ما يراه الإنسان نافعا لتخفيف المصاب؛ على أن لا يقول ما يغضب الرب، ولا يخالف المشروع. (ش) قلت: كمثل قولهم: " البقية في حياتك " {} (¬2) • قلت: وهو حسن لغيره - هو وحديث أسماء الذي بعده -، وقد تكلمت عليهما في " التعليقات " (3 / 71) . (ن) (¬3) • قلت: وهو على شرط الشيخين، ولم أجده في " مسند أحمد " كما ذكرت في " التعليقات " (3 / 71) . ثم وجدته في " المسند " برقم (6905) ، أورده في مسند أنس، على خلاف العادة. (ن) (¬4) لعله - رحمه الله - يريد حديث: " اصنعوا لآل جعفر طعاما ... " - المتقدم -؛ فهو - حقا - لا يعارضه.

الكتاب الرابع كتاب الزكاة

(الكتاب الرابع: كتاب الزكاة)

كتاب الزكاة

(4 - كتاب الزكاة) ( [الزكاة ركن من أركان الإسلام] :) وهي فريضة من فرائض الدين، وركن من أركانه، وضروري من ضرورياته؛ ولكنها لا تجب إلا فيما أوجب فيه الشارع الزكاة من الأموال، وبينه للناس؛ فإن ذلك هو بيان لمثل قوله: {خذ من أموالهم صدقة} و {آتوا الزكاة} ، كما بين للناس قوله - تعالى -: {أقيموا الصلاة} ما شرعه الله - تعالى - من الصلوات التي بينها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للناس. قال الماتن: وقد توسع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها، بل صرح النبي -[صلى الله عليه وسلم]- في بعض الأموال بعدم الوجوب، كقوله: " ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة ... " (¬1) . وقد كان للصحابة أموال وجواهر، وتجارات وخضراوات، ولم يأمرهم -[صلى الله عليه وسلم]- بتزكية ذلك، ولا طلبها منهم، ولو كانت واجبة في شيء من ذلك؛ لبين للناس ما نزل إليهم، فقد أوردنا في هذا المختصر ما تجب فيه، وأشرنا إلى أشياء من الأموال التي لا زكاة فيها، مما قد جعله بعض أهل العلم من الأموال التي تجب فيها الزكاة؛ كما ستسمع ذلك. ا. هـ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1463) ، ومسلم (982) .

تجب الزكاة على المالك المكلف

(تجب في الأموال التي ستأتي) - ببيانها عن قريب -. واجتمعت الأمة على أن منع الزكاة كبيرة. قال في " العالمكيرية ": " هي فريضة محكمة، يكفر جاحدها، ويقتل مانعها ". قال مالك: الأمر عندنا: أن كل من منع فريضة من فرائض الله - تعالى -، فلم يستطع المسلمون أخذها: كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه، وبلغه (¬1) أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال: " لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه "؛ كذا في " المسوى ". ( [تجب الزكاة على المالك المكلف] :) (إذا كان المالك مكلفا) : اعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها؛ فإذا راجع الإنصاف، ووقف حيث أوقفه الحق؛ علم أن هذا هو الحق. وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام، ودعائمه وقوائمه، ولا خلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان - التي الزكاة خامستها - على غير مكلف، فإيجاب الزكاة عليه؛ إن كان بدليل: فما هو؟ ! فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة. كما يروى عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-: أنه أمر ¬

_ (¬1) وهو متفق عليه بين الشيخين.

اختلاف الصحابة بوجوب الزكاة في مال اليتيم

بالاتجار في أموال الأيتام؛ لئلا تأكلها الزكاة، فلم يصح ذلك في شيء مرفوعا إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فليس مما تقوم به الحجة (¬1) . ( [اختلاف الصحابة بوجوب الزكاة في مال اليتيم] :) وأما ما روي عن بعض الصحابة: فلا حجة فيه أيضا، وقد عورض بمثله؛ كما روى البيهقي (¬2) عن ابن مسعود قال: من ولي مال يتيم، فليحص عليه السنين، فإذا رفع إليه ماله؛ أخبره بما فيه من الزكاة؛ فإن شاء زكى، وإن شاء ترك. وروي نحو ذلك عن ابن عباس. وإن قال قائل: إن الخطاب في الزكاة عام، كقوله: {خذ من أموالهم} ، ونحوه: فذلك ممنوع، وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب، وهم المكلفون، وأيضا؛ بقية الأركان - بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف -: الخطابات بها عامة للناس، والصبي من جملة الناس، فلو كان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين؛ لكان العموم في غيرها كذلك، وأنه باطل بالإجماع، وما استلزم الباطل باطل. مع أن تمام الآية - أعني: قوله - تعالى -: {خذ من أموالهم صدقة} يدل على عدم وجوبها على الصبي؛ وهو قوله: {تطهرهم وتزكيهم بها} ؛ فإنه لا معنى لتطهير الصبي والمجنون، ولا لتزكيته، فما جعلوه مخصصا لغير المكلفين ¬

_ (¬1) انظر " الإرواء " (788) . (¬2) في " السنن الكبرى " (4 / 108) ، وضعفه.

الراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات

في سائر الأركان الأربعة؛ لزمهم أن يجعلوه مخصصا في الركن الخامس - وهو الزكاة -. وبالجملة: فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة، لا يحللها إلا التراضي، وطيبة النفس، أو ورود الشرع كالزكاة، والدية، والأرش، والشفعة، ونحو ذلك، فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله - سيما من كان قلم التكليف عنه مرفوعا -؛ فعليه البرهان. والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع، حتى يزحزحه عنه الدليل. ولم يوجب الله - تعالى - على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من مالهما، ولا أمره بذلك، ولا سوغه له، بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب، وترجف لها الأفئدة. ( [الراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات] :) أقول: وأما اشتراط الإسلام: فالراجح أن الكفار مخاطبون بجميع الشرعيات، لكنه منع صحتها منهم مانع الكفر، فليس الإسلام شرطا في الوجوب، بل الكفر مانع عن الصحة، والمكلف مخاطب برفع الموانع التي لا يجزيء عنه ما وجب عليه مع وجودها؛ فخذ هذه قاعدة كلية في كل باب من الأبواب التي يجعلون الإسلام فيها شرطا للوجوب. واما اشتراط الحرية: فلا ريب أن هذا الاشتراط؛ إنما يتم على قول من قال: إن العبد لا يملك، وهي مسألة قد تعارضت فيها الأدلة بما لا يتسع المقام لبسطه.

وهذه شرطية حقيقية عند القائل بعدم تملك العدم؛ لأنه لا يجب على العبد أن يسعى في تحرير نفسه لتجب عليه الزكاة؛ لما تقرر أن تحصيل شرط الواجب ليجب: لا يجب، فلا وجوب على العبد حال العبودية، بخلاف الكافر؛ فإن الوجوب ثابت عليه في حال كفره، ولكنه لا تتم تأدية الواجب؛ إلا بإزالة المانع؛ وهو الكفر، وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه. ومن ههنا يتبين لك الفرق بين هاتين القاعدتين: فالاولى: تستعمل قبل وجوب ذلك الواجب على الشخص. والثانية: بعد وجوبه عليه مع مانع يمنعه عنه. ومما ينبغي أن يجعل شرطا في وجوب الزكاة: التكليف - كما فعل الماتن - رحمه الله -، مع أنها مشروعة للتطهرة والتزكية؛ كما نطق بذلك القرآن، وهما لا يكونان لغير المكلفين، فمن أوجب على الصبي زكاة في ماله - تمسكا بالعمومات -؛ فليوجب عليه بقية الأركان الأربعة تمسكا بالعمومات! وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحرمة: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه "، ولا سيما أموال اليتامى؛ فإن القوارع القرآنية، والزواجر الحديثية - فيها - أظهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فلا يأمن ولي اليتيم - إذا أخذ الزكاة من ماله - من التبعة؛ لأنه أخذ شيئا لم يوجبه الله على المالك، ولا على الولي، ولا على المال: أما الأول: فلأن المفروض؛ أنه صبي لم يحصل له ما هو مناط التكاليف

الشرعية، وهو البلوغ. وأما الثاني: فلأنه غير مالك للمال؛ والزكاة لا تجب على غير مالك. وأما الثالث: فلأن التكاليف الشرعية مختصة بهذا النوع الإنساني، لا تجب على دابة ولا جماد؛ والله أعلم.

باب زكاة الحيوان

(1 - باب زكاة الحيوان) ( [تجب الزكاة في الأنواع الثلاثة من الحيوانات] :) (إنما تجب منه في النعم) ، أي: الماشية، وهي في أكثر البلدان الإبل، والبقر، والغنم، ويجمعها اسم الأنعام. وأما الخيل فلا تكثر صرمها (¬1) ، ولا تناسل نسلا وافرا؛ إلا في أقطار يسيرة، كتركستان؛ كذا في " الحجة ". (وهي الإبل والبقر والغنم) : " فتؤخذ من كل صرمة من الإبل ناقة، ومن كل قطيع من البقر بقرة، ومن كل ثلة من الغنم شاة مثلا، ثم يعرف كل واحد من هذه بالمثال، والقسمة، والاستقراء؛ ليتخذ ذلك ذريعة إلى معرفة الحدود الجامعة المانعة ... "؛ كذا في " الحجة ". وكونها لا تجب في غير الثلاثة الأنواع من الحيوانات: فلأن الذي بين للناس ما نزل إليهم لم يوجبها عليهم في غيرها. وأما ما ورد من ذكر حق الله - تعالى - في الخيل؛ فالمراد به الجهاد. ¬

_ (¬1) جمع صرمة - بكسر الصاد وإسكان الراء -؛ في " اللسان ": " يقال للقطعة من الإبل: صرمة، إذا كانت خفيفة ". ولا أدري وجها للشارح في استعمالها في الخيل؟ ! (ش)

فصل نصاب الإبل

(1 - فصل: [نصاب الإبل] ) (إذا بلغت الإبل خمسا ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض (¬1) أو ابن لبون (¬2) ، وفي ست وثلاثين ابنة لبون (¬3) ، وفي ست وأربعين (¬4) حقة، وفي إحدى وستين جذعة (¬5) ، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة) . ( [التفصيل في بيان نصاب الإبل] :) هذا التفصيل في فرائض الصدقة؛ هو الثابت في حديث أنس: أن أبا بكر كتب لهم أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- على المسلمين، ثم ذكر فيه ما يجب في كل عدد - كما في هذا المختصر -، ثم قال فيه: فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات؛ فمن بلغت عنده صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة؛ فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده، ¬

_ (¬1) • اسم للنوق الحوامل، واحدتها خلفة، وبنت المخاض، وابن المخاض: ما دخل في السنة الثانية؛ لأن أمه قد لحقت بالمخاض - أي: الحوامل - وإن لم تكن حاملا: " نهاية ". (ن) (¬2 - 3) • ابن اللبون، وبنت اللبون: هما - من الإبل - ما أتى عليه سنتان، ودخل في الثالثة، فصارت أمه لبونا - أي: ذات لبن -؛ لأنها تكون قد حملت حملا آخر ووضعته. (ن) (¬4) • والحق: هو الذي دخل في السنة الرابعة. (ن) (¬5) • والجذع من الإبل؛ ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز؛ ما دخل في السنة الثانية، ومن الضأن؛ ما تمت له سنة. (ن)

وعنده ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين؛ إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده إلا حقة؛ فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده ابنة لبون، وعنده ابنة مخاض؛ فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين؛ إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض، وليس عنده إلا ابن لبون ذكر؛ فإنه يقبل منه، وليس معه شيء، ومن لم تكن معه إلا أربع من الإبل؛ فليس شيء إلا أن يشاء ربها. وقد أخرج هذا الحديث أحمد، والنسائي، وأبو داود. وأخرجه - أيضا - البخاري مفرقا في " صحيحه ". قال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء، ولم يخالفه أحد، وصححه ابن حبان وغيره. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي نحو ما اشتمل عليه المختصر من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قد كتب الصدقة، ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، فأخرجها أبو بكر، فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده، فعمل بها، قال: فلقد هلك عمر يوم هلك؛ وإن ذلك لمقرون بوصيته ... ثم ذكر الحديث. قال في " الحجة ": وقد استفاض ذلك من رواية أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وعمرو بن حزم، وغيرهم، بل صار متواترا بين المسلمين. انتهى.

فصل نصاب البقر

(2 - فصل: نصاب البقر) (ويجب في ثلاثين من البقر تبيع (¬1) أو تبيعة، وفي أربعين مسنة (¬2) ثم كذلك (¬3)) : يدل على ذلك ما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - (¬4) من حديث معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، فإذا زادت على الأربعين؛ فلا شيء في الزائد، حتى يبلغ سبعين وفيها تبيع ومسنة إلى ثمانين، وفيها مسنتان، ثم كذلك. وقال ابن عبد البر في " الاستذكار ": لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقرة على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه. (3 - فصل: [نصاب الغنم] ) (ويجب في أربعين من الغنم شاة، إلى مائة وإحدى وعشرين وفيها شاتان، إلى مائتين وواحدة وفيها ثلاث شياة، إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها أربع، ثم في كل مائة شاة) : هذا التفصيل هو الثابت في حديث أنس، وحديث ابن عمر - اللذين تقدم تخريجهما في باب زكاة الإبل -، وقد وقع الإجماع على ذلك. ¬

_ (¬1) • ولد البقر أول سنة. (ن) (¬2) • هي التي دخلت في السنة الثالثة. (ن) (¬3) • وهذا الحكم في البقر، وكذا الإبل إذا كانت سائمة تتخذ للنسل والنماء، وأما إذا كانت للتجارة؛ فالحكم فيها كسائر أموال التجارة، وأما إذا كانت عوامل؛ فلا صدقة فيها، كما فصله أبو عبيد، ونقلناه في " التعليقات " (3 / 93) . (ن) (¬4) • وهو كما قالا، وقد تكلمت عليه في " التعليقات " (3 / 89) . (ن)

فصل في الجمع والتفريق والأوقاص

(4 - فصل: في الجمع والتفريق، والأوقاص) ( [لا يجوز الجمع بين مفترق، ولا التفريق بين مجتمع] :) (ولا يجمع بين مفترق من الأنعام ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) : لنهيه [صلى الله عليه وسلم] عن ذلك، كما في كتاب أبي بكر المحكي عن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- وقد تقدمت الإشارة إليه -، وكذلك في حديث ابن عمر حاكيا لكتاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- في ذلك، كما سبقت الإشارة إليه، وكذلك وقع التصريح بالنهي عن ذلك في غير الحديثين المذكورين؛ فإن فيه النهي كذلك. ومعنى التفريق بين مجتمع؛ أن يكون لثلاثة أنفار - لكل واحد أربعون شاة - فإذا لم يجمعوها كان على كل واحد شاة، وإذا جمعوها لم يجب فيها إلا شاة. وصورة الجمع بين مفترق، أن يكون لرجلين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة، ونحو ذلك من الصور. وهذا على اعتبار المسرح والمراح والخلطة، وإن اختلف المالكون، كما دلت على ذلك الأدلة. ( [لا شيء فيما دون النصاب] :) (ولا شيء فيما دون الفريضة) ، ولا خلاف في ذلك (ولا في الأوقاص) ؛

تراجع الخليطين بالسوية

وهي ما بين الفريضتين، فلا خلاف في ذلك أيضا؛ إلا في رواية عن أبي حنيفة. وفي حديث معاذ عند أحمد وغيره: أن الأوقاص لا فريضة فيها. ( [تراجع الخليطين بالسوية] :) (وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية) : لما وقع في الكتابين المذكورين من قوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وما كان من خليطين؛ فإنهما يتراجعان بالسوية ". والمراد: أنهما إذا خلطا ما يملكانه من المواشي فبلغت النصاب؛ أخرجا زكاة تلك الماشية المخلوطة، وكان على كل واحد بحساب ماشيته. وصورة ذلك: أن يكون لكل واحد منهما عشرون شاة، فيأخذ المصدق - من الأربعين - شاة من ملك أحدهما، فيرجع على صاحبه بنصف قيمتها. وهذا على أن مجرد خلط الشريكين بملكيهما يصيرهما بمنزلة الماشية المملوكة لرجل واحد، وهو الحق كما دلت على ذلك الأدلة. ( [الأنواع التي نهي المصدق عن أخذها] :) (ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار ولا عيب ولا صغيرة ولا أكولة ولا ربى ولا ماخض، ولا فحل غنم) : لما في كتاب أبي بكر بلفظ: " ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس ". وفي كتاب عمر المحكي عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]-:

" لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب ". وفي حديث عبد الله بن معاوية الغاضري - مرفوعا - بلفظ: " ولا تعطي الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط (¬1) اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم "؛ أخرجه أبو داود، والطبراني بإسناد جيد. وأخرج مالك في " الموطأ "، والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي: أن عمر بن الخطاب نهى المصدق أن يأخذ الأكولة، والربى، والماخض، وفحل الغنم. وقد روى ذلك عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- ابن أبي شيبة في " مسنده ". والهرمة: الكبيرة التي سقطت أسنانها. وذات العوار: - بفتح العين المهملة وضمها -؛ قيل: هي العوراء، وقيل: هي المعيبة. وقد شمل قوله: " ولا عيب " كل ما فيه عيب يعد عند العارفين بالمواشي نقصا؛ فإنه لا يخرج في الصدقة، فتدخل في ذلك الدرنة - بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون -؛ وهي: الجرباء. والشرط اللئيمة: هي صغار المال وشراره. ¬

_ (¬1) الشرط - بفتح الشين والراء -: هي صغار المال وشراره. ووقع في الأصل: " الشرطة " بالهاء في آخره، وهو خطأ. (ش)

واللئيمة: البخيلة باللبن وغيرها. وأما الأكولة: فهي - بفتح الهمزة وضم الكاف -؛ العاقر من الشاة. والربى: - بضم الراء وتشديد الباء الموحدة -؛ الشاة التي تربى في البيت للبنها. والماخض: الحامل (¬1) . وفحل الغنم: هو الذي ينزو عليها؛ لأن المالك يحتاج إليه، وإن لم يكن من الخيار. ¬

_ (¬1) هي الحامل التي أخذها المخاض لتضع؛ والمخاض: الطلق عند الولادة. (ش)

باب زكاة الذهب والفضة

(2 - باب زكاة الذهب والفضة) ( [النصاب والحول شرطان لوجوب زكاة الذهب والفضة] :) لا خلاف في وجوب الزكاة في الذهب ولا الفضة مع النصاب والحول، ولهذا قال الماتن - رحمه الله -: (إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر) ؛ وذلك لأن الكنوز أنفس المال، يتضررون بإنفاق المقدار الكثير منها، فمن حق زكاته أن يكون أخف الزكوات، والذهب محمول على الفضة. (نصاب الذهب عشرون دينارا، ونصاب الفضة مائتا درهم) : لحديث علي، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة؛ من كل أربعين درهما درهما، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين؛ ففيهما خمسة دراهم "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وفي لفظ: " وليس فيما دون المائتين زكاة "؛ وفي إسناده مقال، وقد حسنه ابن حجر، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه (¬1) . وأخرج أحمد، ومسلم من حديث جابر، قال: قال رسول الله - ¬

_ (¬1) وتصحيحه هو الصواب؛ فأسانيده جيدة، وانظر " مسند أحمد " (914)

[صلى الله عليه وسلم]-: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة ". وأخرجه أحمد، والبخاري من حديث أبي سعيد. وأخرج أبو داود من حديث علي، قال: إذا كان لك مائتا درهم، وحال عليها الحول؛ ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني: في الذهب -، حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول؛ ففيها نصف دينار "؛ وفي إسناده مقال، ولكنه حسنه الحافظ ابن حجر، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه - كالحديث الأول - (¬1) . وقد وقع الإجماع على أن نصاب الفضة مئتا درهم، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حبيب الأندلسي، والخمس الأواقي المذكورة في الحديث: هي مئتا درهم؛ لأن وزن كل أوقية أربعون درهما. وذهب إلى أن نصاب الذهب عشرون دينارا الجمهور. وقد روي عن الحسن وطاوس ما يخالف ذلك؛ وهو مردود. وذهب إلى اعتبار الحول الأكثر. وذهب ابن عباس، وابن مسعود، وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال؛ تمسكا بما دل على مطلب الوجوب؛ وهو ¬

_ (¬1) انظر " نيل الأوطار " (4 / 138) .

الأدلة في زكاة الحلي متعارضة

إهمال للقيد. ( [الأدلة في زكاة الحلي متعارضة] :) (ولا شيء فيما دون ذلك) : قال في " الحجة ": " وهل في الحلي زكاة؟ الأحاديث فيه متعارضة، وإطلاق الكنز عليه بعيد، ومعنى الكنز حاصل، والخروج من الاختلاف أحوط ". وفي " الموطأ " (¬1) : كانت عائشة تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحلي؛ فلا تخرج من حليهن الزكاة. قال مالك: من كان عنده تبر أو حلي - من ذهب أو فضة - لا ينتفع به للبس؛ فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، بوزن فيؤخذ ربع عشره؛ إلا أن ينقص من وزن عشرين دينارا عينا، أو مئتي درهم، فإن نقص من ذلك؛ فليس فيه زكاة. وإنما تكون الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس، فأما التبر والحلي المكسور، الذي يريد أهله صلاحه ولبسه؛ فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على اهله فيه زكاة (¬2) . قال مالك: ليس في اللؤلؤ، ولا في المسك، ولا في العنبر زكاة. ¬

_ (¬1) (1 / 250) بسند صحيح. وانظر " آداب الزفاف " (260 - 261) لشيخنا. (¬2) بل الصواب أن الزكاة على الحلي - سواء أكان للزينة أم لا - واجبة كل عام مرة. وللتفصيل موضع آخر.

لا تجب الزكاة في الجواهر

قلت: قال به الشافعي في أظهر قوليه، وخصه بالمباح. وأما المحظور - كالأواني وكالسوار والخلخال للرجل -: فتجب فيه الزكاة بكل حال. وعند الحنفية: تجب في الحلي إذا كان من ذهب أو فضة، دون اللؤلؤ ونحوه. ( [لا تجب الزكاة في الجواهر] :) (ولا زكاة في غيرهما من الجواهر) كالدر، والياقوت، والزمرد، والألماس (¬1) واللؤلؤ، والمرجان ونحوها؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والبراءة الأصلية مستصحبة، وقد تقدم في أول كتاب الزكاة ما يفيد هذا. أقول: ليس من الورع ولا من الفقه؛ أن يوجب الإنسان على العباد ما لم يوجبه الله عليهم؛ بل ذلك من الغلو المحض، والاستدلال بمثل: {خذ من أموالهم صدقة} ؛ يستلزم وجوب الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدق عليه اسم المال، ومنه الحديد، والنحاس، والرصاص، والثياب، والفراش، والحجر، والمدر، وكل ما يقال له: مال؛ على فرض أنه ليس من أموال التجارة، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين، وليس ذلك لورود أدلة تخصص الأموال المذكورة من عموم: {خذ من أموالهم} ، حتى يقول قائل: إنها تجب زكاة؛ ما لم يخصه دليل؛ لبقائه تحت العموم، بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده؛ هو أموال مخصوصة، وأجناس معلومة، ولم يوجب عليهم ¬

_ (¬1) صوابه: " الماس "؛ فإدخال الألف واللام عليه خطأ؛ لأنه معرف، وأصله: " ماس "، ثم دخل عليه حرف التعريف. (ش)

حكم الزكاة في أموال التجارة

الزكاة في غيرها. فالواجب حمل الإضافة في الآية الكريمة على العهد؛ لما تقرر في علم الأصول والنحو والبيان: أن الإضافة تنقسم إلى الأقسام التي تنقسم إليها اللام، ومن جملة أقسام اللام: العهد، بل قال المحقق الرضي: إنه الأصل في اللام. إذا تقرر هذا: فالجواهر، واللآليء، والدر، والياقوت، والزمرد، والعقيق، واليسر، وسائر ما له نفاسة وارتفاع قيمة: لا وجه لإيجاب الزكاة فيه، والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة؛ ليس عليه أثارة من علم {ولو كان ذلك صحيحا؛ لكان في المصنوعات من الحديد - كالسيوف والبنادق ونحوها -، ما هو أنفس وأعلى ثمنا، ويلحق بذلك الصين، والبلور، واليشم، وما يتعسر الإحاطة به من الأشياء التي فيها نفاسة، وللناس إليها رغبة. فما أحسن الإنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع، وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان} على أن الآية التي أوقعت كثيرا من الناس في إيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله - وهي {خذ من أموالهم} - قد ذكر أئمة التفسير؛ أنها في صدقة النفل، وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها. ( [حكم الزكاة في أموال التجارة] :) (وأموال التجارة) لما قدمنا من عدم قيام دليل يدل على ذلك، وقد كانت التجارة في عصره -[صلى الله عليه وسلم]- قائمة في أنواع مما يتجر

به، ولم ينقل عنه ما يفيد ذلك. وأما ما أخرجه أبو داود، والدارقطني، والبزار من حديث جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يأمرنا بأن نخرج الزكاة فيما نعد ": فقال ابن حجر في " التلخيص ": إن في إسناده جهالة. وأما ما رواه الحاكم، والدارقطني عن عمران - مرفوعاً - بلفظ: " في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته " - بالزاي المعجمة (¬1) - فقد ضعف الحافظ في " الفتح " جميع طرقه، وقال في واحدة منها: هذا إسناد لا بأس به. ولا يخفاك أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى. على أنه قد قال ابن دقيق العيد: إن الذي رآه في " المستدرك " في هذا الحديث: " البر " - بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة -، قال: والدارقطني رواه بالزاي، لكن من طريق ضعيفة، وهذا مما يوجب الاحتمال، فلا يتم الاستدلال، فلو فرضنا أن الحاكم قد صحح إسناد هذا الحديث - كما قال المحلي في " شرح المنهاج " -؛ لكان مجرد الاحتمال مسقطا للاستدلال، فكيف إذا قد عورض ذلك التصحيح بتضعيف الحفاظ لما صححه الحاكم؛ مع تأخر عصرهم عنه واستدراكهم عليه؟ ! ¬

_ (¬1) انظر - لمزيد من التحقيق - " تمام المنة " (ص 363) ، و " السلسلة الضعيفة " (1178) .

ويؤيد عدم الوجوب: ما ثبت عنه -[صلى الله عليه وسلم]- في " الصحيح " من حديث أبي هريرة: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه "؛ وظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في جميع الأحوال. وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة، وهذا النقل ليس بصحيح، فأول من يخالف في ذلك الظاهرية، وهم فرقة من فرق الإسلام. أقول: وأما الاستدلال بقوله -[صلى الله عليه وسلم]-: " وأما خالد؛ فقد حبس أدراعه وأعتده (¬1) في سبيل الله ": فلا تقوم به الحجة؛ إلا إذا كانت المطالبة له بزكاة ذلك الذي حبسه مع كونه للتجارة، فعرّفهم النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أنها قد صارت محبسة، وأنه لا زكاة فيها بعد التحبيس، وليس الأمر كذلك، بل الظاهر أنهم لما أخبروا النبي -[صلى الله عليه وسلم]- بأن خالدا امتنع من الزكاة رد عليهم بذلك. والمراد: أن من بلغ في التقرب إلى الله إلى هذا الحد - وهو تحبيس أدراعه وأعتده -؛ يبعد كل البعد أن يمتنع من تأدية ما أوجبه الله عليه من الزكاة، مع كونه قد تقرب بما لا يجب عليه، فلا يكون في ذلك دليل على وجوب زكاة التجارة. وأما الاستدلال بقول عمر (¬2) ؛ فهو (¬3) ممن لا يقول بحجية قول ¬

_ (¬1) العتاد - بفتح العين والتاء وبعدها ألف -: آلة الحرب من السلاح والدواب وغيرها؛ جمعه: أعتد - بضم التاء، ويجوز كسرها -. (ش) (¬2) انظره في " الإرواء " (828) - مضعفا -. (¬3) أي: ابن حزم، والظاهرية.

لا تجب الزكاة في المستغلات

الصحابي، ولكنه إذا وافق قول الصحابي ما يعتقده؛ ضم إليه دعوى الإجماع السكوتي مجازفة. إذا تقرر هذا: علمت أنه لا دليل يدل على وجوب زكاة التجارة، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يقوم دليل ينقل عنها. وأما ما حكاه ابن المنذر من الإجماع على زكاة التجارة: فلا أدري كيف تجاسر على هذا؟ ولو سلمناه لما قامت به حجة؛ إلا على من يقول بحجية الإجماع. وقد عرفت ما هو الصواب في هذا الباب في كتابنا " حصول المأمول من علم الأصول " (¬1) . وقد حقق الماتن - رحمه الله - المقام في كتابه " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول "؛ فليراجع. ( [لا تجب الزكاة في المستغلات] :) (والمستغلات) : كالدور التي يكريها مالكها، وكذلك الدواب ونحوها؛ لعدم الدليل - كما قدمنا -، وأيضا حديث: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه "؛ يتناول هذه الحالة، أعني: حالة استغلالهما بالكراء لهما، وإن كان لا حاجة إلى الاستدلال؛ بل القيام مقام المنع يكفي. أقول: هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة؛ ¬

_ (¬1) وهو تحت الطبع - بتحقيقي.

باعتبار ما لهم من المناقب (¬1) ؛ فإن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق - كالدور، والعقار، والدواب ونحوها - بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها - مما لم يُسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فضلا أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة، وقد كانوا يستأجرون، ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم، ولم يخطر ببال أحدهم أنه يخرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره أو عقاره أو دوابه {وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث، من أهل المئة الثالثة، فقال بذلك من قال بدون دليل؛ إلا مجرد القياس على أموال التجارة، وقد عرفت الكلام في الأصل؛ فكيف يقوم الظل والعود أعوج؟} مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه؛ منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع؛ فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين. وأما العمومات التي أوردوها؛ فهي عن الدلالة على المطلوب بمراحل، والأمر أوضح من أن تُستغرق الأوقات في إبطاله ودفعه. وأما ما زعموه من أن الموجب أولى من المسقط: فذلك - على عدم تسليمه - إنما هو بعد الاتفاق على أن الموجب والمسقط اجتمعا في أمر قد قضى الشرع بالوجوب في أصله، والأمر ههنا بالعكس؛ فإن الشرع لم يوجب في أعيان الدور والعقار - التي هي أصل الاستغلال - شيئا، ثم أين هذا الموجب؟ وما هو؟ ¬

_ (¬1) هذا هو سبيل الحق مع أهل الحق.

باب زكاة النبات

(3 - باب زكاة النبات) ( [تجب الزكاة في الأصناف الخمسة من النبات] :) (يجب العُشر في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب) : وجوب الزكاة من هذه الأجناس، لشمول الأدلة الصحيحة لها، وللتنصيص عليها في حديث أبي موسى ومعاذ، حين بعثهما -[صلى الله عليه وسلم]- إلى اليمن، يعلمان الناس أمر دينهم، فقال: " لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر "، أخرجه الحاكم، والبيهقي (¬1) ، والطبراني. قال البيهقي: رواته ثقات؛ وهو متصل. وأخرج الطبراني عن عمر، قال: إنما سن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها. وأخرج ابن ماجه، والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، بلفظ: إنما سن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب - زاد ابن ماجه -، والذرة؛ وفي ¬

_ (¬1) • في " سننه " (4 / 125) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقد تكلمنا عليه في " التعليقات " (3 / 107 - 108) . (ن) قلت: انظر " الإرواء " (801) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 166) .

ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بالمسني فنصف العشر

إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي (¬1) ؛ وهو متروك. وأخرج البيهقي من طريق مجاهد، قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي -[صلى الله عليه وسلم]- إلا في خمسة ... فذكرها (¬2) . وأخرج أيضا من طريق الحسن، فقال: لم يفرض الصدقة النبي [صلى الله عليه وسلم] إلا في عشرة ... فذكر الخمسة المذكورة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة. وأخرج أيضا عن الشعبي، أنه قال: كتب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى أهل اليمن: " إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب "؛ قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة، وهي يؤكد بعضها بعضا، ومعها حديث أبي موسى، ومعها قول عمر، وعلي، وعائشة: ليس في الخضروات زكاة (¬3) . انتهى. ( [ما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بالمسني فنصف العشر] :) (وما كان يسقى بالمسني منها ففيه نصف العشر) : وجهه حديث جابر، عن النبي ¬

_ (¬1) بتقديم الراء على الزاي؛ وفي الأصل: بتقديم الزاي على الراء! وهو خطأ. (ش) (¬2) • قلت: هو مع إرساله لا يصح؛ لأنه من رواية عتاب الجزري - صدوق يخطئ -، عن خصيف - وهو سيئ الحفظ خلط بآخره، كما في " التقريب " -، وفي الطريق التي بعدها عن الحسن: عمرو بن عبيد؛ وهو متروك: على أن راويه عنه - وهو ابن عيينة - شك؛ فقال: أراه قال: " والذرة "، لكنه في رواية أخرى عنه قال: " السلت " ولم يذكر الذرة. والسلت: ضرب من الشعير، كما في " النهاية ". فذكر (الذرة) منكر لضعف أسانيدها، ومخالفتها لحديث أبي موسى الصريح في أنها أربع، وبالذرة تصير خمسا. (ن) (¬3) السانية - وجمعها السواني -: ما يسقى عليه الزرع والحيوان من بعير وغيره. (ش)

[صلى الله عليه وسلم] ، قال: " فيما سقت الأنهار والغيم عشر، وفيما سقي (¬1) بالسانية نصف العشر "؛ رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، قال (¬2) : " الأنهار والعيون ". وأخرج البخاري، وأحمد، وأهل " السنن " من حديث ابن عمر، أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " فيما سقت السماء والعيون - أو كان عثريا - العشر، وفيما يسقى بالنضح نصف العشر "؛ فإن الذي هو أقل تعانيا وأكثر ريعا أحق بزيادة الضريبة، والذي هو أكثر تعانيا وأقل ريعا أحق بتخفيفها. والعثري - بفتح العين المهملة والمثلثة وكسر الراء المهملة -: هو الذي يشرب بعروقه، وقيل: الذي في سواقي العيون ونحوها. والحق وجوب الزكاة من العين، ولا يسوغ إخراج القيمة إلا لعذر مسوع، لحديث: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر "؛ أخرجه أبو داود، والحاكم - وصححه على شرط الشيخين (¬3) - ¬

_ (¬1) وقد صح مرفوعا؛ فانظر " الإرواء " (801) . (¬2) لعله: " وقال ". (ش) . (¬3) رواه الحاكم في " المستدرك " (جزء 1: ص 388) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين، إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل؛ فإني لا أتقنه ". قال الذهبي: " لم يلقه ". وقال ابن حجر في " التلخيص ": " لم يصح؛ لأنه ولد بعد موته، أو في سنة موته، أو بعد موته بسنة ". (ش)

نصاب النبات خمسة أوسق

وأما قول معاذ؛ فهو فعل صحابي لا حجة فيه، على أنه منقطع كما صرح بذلك الحفاظ (¬1) . وأما الاعتذار عن الحديث بأنه لا ظاهر له؛ فهذه إحدى العصي التي يتوكأ عليها المقلدة! ( [نصاب النبات خمسة أوسق] :) (ونصابها خمسة أوسق) : لحديث أبي سعيد في " الصحيحين " وغيرهما عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ". وفي رواية لأحمد، وابن ماجه (¬2) : أن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " الوسق ستون صاعا ". وفي رواية لأحمد، وأبي داود: " الوسق ستون مختوما " (¬3) . قال في " الحجة البالغة ": " وإنما قُدر من الحب والتمر خمسة أوسق؛ ¬

_ (¬1) هو قوله لأهل اليمن: ائتوني بكل خميس ولبيس، آخذه منكم مكان الصدقة؛ رواه البخاري معلقا، والبيهقي، وهو منقطع أيضا. (ش) (¬2) • رواه هو (1 / 562) ، وأبو داود (1 / 244) ، وأحمد (3 / 59) ، وأبو عبيد (رقم 1586) بالرواية الثانية، ورجال إسنادها ثقات، غير أن أبا داود أعله بالانقطاع بين أبي البختري، وأبي سعيد الخدري، والرواية الثانية عند ابن ماجه بسند ضعيف. (ن) قلت: انظر طرقه - وتضعيفه - في " الإرواء " (803) . (¬3) هذه الرواية نرى أنها خطأ؛ فإن المختوم؛ هو صاع اتخذه الحجاج، وقال لأهل المدينة: إني قد اتخذت لكم مختوما على صاع عمر بن الخطاب. (ش)

لأنها تكفي أهل بيت إلى سنة، وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة، وثالث - خادم أو ولد بينهما -، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل، أو مد من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار؛ كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم " انتهى. قال ابن القيم (¬1) : " وقد رُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله: " فيما سقت السماء العشر، وما سقي بنضح أو غرب (¬2) ؛ فنصف العشر "، قالوا: وهذا يعم القليل والكثير، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدم الأحوط وهو الوجوب {فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا، ولا تعارض بينهما بحمد الله - تعالى - بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: " فيما سقت السماء العشر "، إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب. وأما مقدار النصاب؛ فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم - الذي لا يحتمل غير ما أُوِّل عليه البتة - إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلق فيه بعموم، لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين، كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص؟} ". انتهى. ¬

_ (¬1) • في " الإعلام " (2 / 409 - 410) . (ن) (¬2) • الدلو العظيمة. (ن)

أقول: الأحاديث القاضية بإيجاب العشر أو نصف العشر تقتضي التسوية بين القليل والكثير. وأحاديث: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق " تقتضي اختصاص الوجوب بمقدار معلوم، هو الخمسة الأوسق، وعدم الوجوب فيما دونها. فالأحاديث الأولة (¬1) عامة لقليل ما أخرجت الأرض من الأنواع المخصوصة ولكثيره، والأحاديث الثانية خاصة ببعض ذلك الخارج دون بعض، مصرحة بنفي الوجوب عن دون الخمسة الأوسق بمنطوقها، مثبتة لوجوبها في الخمسة فصاعدا بمفهومها، وهي أحاديث صحيحة، فإهمالها - مع كونها خاصة، والرجوع إلى العامة - خارج عن سنن الإنصاف، ولم يكن بيد من أهملها شيء يدفعها؛ إلا مجرد تكليف العباد بما هو أشق الشكوك، كشكوك الموسوسين في الطهارة. وهذا رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يقول: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة "؛ ثبت هذا عنه في حديث واحد، فكان على من أوجب الزكاة فيما دون خمسة أوسق أن يوجبها فيما دون خمس أواق وخمس ذود؛ بل يوجبها فيما دون الأربعين من الغنم، والثلاثين من البقر، تمسكا بالعمومات القاضية بوجوب أصل الزكاة في الأموال، فإنه لا فرق بينها وبين حديث: ¬

_ (¬1) بفتح الواو المشددة؛ قال ثعلب: " هن الأولات دخولا والآخرات خروجا، واحدتها الأولة والآخرة "، ثم قال: " ليس هذا من أصل الباب؛ إنما أصل الباب الأول والأولى، كالأطول والطولى "؛ قاله في " اللسان ". (ش)

" فيما أخرجت الأرض العشر " (¬1) ، وليست المكيلات بالشك أولى من غيرها، والله المستعان. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض (¬2) ، والمقام وإن كان حقيقا بأن يقع الإجماع عليه، لكن الخلاف لجماعة من العلماء أشهر من نار على علم، وكيف خفي على ابن المنذر مذهب أبي حنيفة - رحمه الله -، وهو متداول عند جميع أهل المذاهب، حتى قال ابن العربي المالكي: " إن أقوى المذاهب وأحوطها للمساكين مذهب أبي حنيفة، وهو التمسك بالعموم "؟ {انتهى. وهذه غفلة من مثل هذا الحافظ، ناشئة عن الوسوسة التي قدمنا لك ذكرها، فإن الشارع أشفق بفقراء أمته من كل أحد، وأي قوة وأحوطية في شيء مخالف لنصه الصريح} ؟ وكيف يخفى على عالم أن هذه - الشفقة التي هي المستندة لهذه المقالة - مستلزمة لظلم الأغنياء وأخذ أموالهم بدون طيبة من أنفسهم وأكلها بالباطل، وسيوف السلاطين تابعة لأقلام العلماء، فإذا أجبروا أهل الأموال على تسليم زكاة دون الخمسة الأوسق استناداً إلى قول من قال بذلك بمجرد الشك، والشفقة على الفقراء لا لما يقتضيه الاجتهاد؛ فهم شركاء في هذه المظلمة، التي هي محض أكل أموال الناس بالباطل. وما أحسن الوقوف على الحدود الشرعية، والمشي على الطريقة النبوية! ¬

_ (¬1) رواه البخاري في التاريخ الكبير " (2 / 145) . (¬2) انظر " السيل الجرار " (2 / 42) .

لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل والبغال والحمر

فذلك هو الورع الخالص، وخير الهدي هدي محمد -[صلى الله عليه وسلم]-. ( [لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل والبغال والحمر] :) (ولا شيء فيما عدا ذلك) ؛ قال المجد في " الصراط المستقيم ": " ولم يكن من العادة النبوية أخذ الزكاة من الخيل، والرقيق، والبغال، والحمر، والبقول، والبطيخ، والخيار، والعسل، والفواكه التي لا تدخل المكيال ولا تصلح للادخار؛ إلا الرطب والعنب، فإنه كان يأخذ الزكاة منهما، لا يفرق بين الرطب واليابس ". انتهى. ( [لا زكاة في الخضراوات] :) (كالخضراوات وغيرها) : حديث الخضراوات أخرجه الدارقطني، والحاكم، والأثرم في " سننه ": أن عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- كان يقول: " ليس في ذلك صدقة "؛ وهو مرسل قوي (¬1) . وقد أخرجه الدارقطني، والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ؛ بلفظ: وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقصب؛ فعفو عفا عنه رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-. ¬

_ (¬1) انظر " تنقيح التحقيق " (2 / 1402) ، و " فوائد تمام " (524 - ترتيبه) .

قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع (¬1) . وروى الترمذي بعضه من حديث موسى بن طلحة، عن معاذ. وقد رواه ابن عدي من وجه آخر عن أنس. والدارقطني من حديث علي، ومن حديث محمد بن جحش، ومن حديث عائشة. ورواه أيضا البيهقي عن علي وعمر موقوفا. [و] في طرق حديث الخضروات مقال، لكنه روي من طرق كثيرة يشهد بعضها لبعض؛ فينتهض للاحتجاج به، وإذا انضم إلى ما تقدم في وجوب الزكاة في تلك الأجناس الأربعة، أو الخمسة؛ انتهض الجميع للاحتجاج بلا شك ولا شبهة. وقد رويت تلك الروايات بلفظ الحصر على تلك الأجناس كما سبق، وكان ذلك هو البيان منه -[صلى الله عليه وسلم]- لما أنزله الله - تعالى -، فلا تجب في غير ذلك من النباتات. وقد ذهب إلى ذلك الحسن البصري، والحسن بن صالح، والثوري، والشعبي. وأيضا: يمكن الجمع بطريق أخرى، وهي: أن هذه الأدلة المذكورة هنا مخصصة لعمومات القرآن والسنة، وذلك واضح، ولا يصح جعل ذلك من ¬

_ (¬1) " التلخيص الحبير " (رقم 838) .

باب التنصيص على بعض أفراد العام؛ لما في ذلك من الحصر تارة، والنفي لما عدا ما ذُكر أخرى. أقول: العمومات الشاملة للخضراوات كقوله - تعالى -: {وآتوا حقه يوم حصاده} ، وقوله: {خذ من أموالهم صدقة} ، وقوله [صلى الله عليه وسلم] : " فيما سقت السماء العشر "؛ قد خُصصت بمخصصات كثيرة، منها: حديث الأوساق، ومنها: الأحاديث القاضية بأن الزكاة لا تجب إلا في الأربعة الأنواع: الشعير، والحنطة، والتمر، والزبيب، هذا في الأشياء التي تنبت على وجه الأرض، وفيما عداها السوائم الثلاث والذهب والفضة؛ والواجب بناء العام على الخاص، كما هو إجماع من يُعتد به من أهل العلم، فلا وجوب فيما عدا هذه الثلاثة الأمور، سواء كان من الخضراوات أو غيرها. بل قد ورد في الخضراوات بخصوصها ما يدل على عدم وجوب الزكاة فيها من طرق يشهد بعضها لبعض، كما أوضح ذلك الماتن في " شرح المنتقى ". فليكن هذا البحث منك على ذُكر؛ فإن الاحتجاج بمثل هذه العمومات قد كثر في أهل العلم مع عدم الالتفات إلى الأدلة الخاصة، والذهول عن وجوب بناء العام على الخاص. والحاصل: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد بين للناس ما نُزّل إليهم، ففرض على الأمة فرائض في بعض أملاكهم، ولم يفرض عليهم في البعض الآخر، ومات على ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول، فمن زعم أنها تجب الزكاة في غير ما بينه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] متمسكا بالعمومات القرآنية؛ كان محجوجا بما ذكرناه، هذا على فرض أنه لم يثبت عنه إلا مجرد

تجب الزكاة في العسل

البيان من دون ما يفيد عدم الوجوب في البعض المسكوت عنه، فكيف وقد ثبت عنه ما يفيد ذلك؟ ! كحديث أبي موسى، ومعاذ، عند الحاكم والبيهقي والطبراني: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم؛ قال: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر "؛ قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل (¬1) . وأخرج الطبراني عن عمر، قال: إنما سن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها. ونحوه عن جماعة من الصحابة، وفي بعضها ذكر الذرة (¬2) ، ولكن من طريق لا تقوم بمثلها الحجة. ( [تجب الزكاة في العسل] :) (ويجب في العسل العشر) : وجهه حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] : أنه أخذ من العسل العشر؛ أخرجه ابن ماجه. وقال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث، وابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب. ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرو بن شعيب. ¬

_ (¬1) " السلسلة الصحيحة " (879) . (¬2) انظر " تمام المنة " (ص 369) .

يجوز تعجيل الزكاة

ومثله حديث أبي سيارة عند أحمد، وابن ماجه، وأبي داود (¬1) ، والبيهقي، قال: قلت: يا رسول الله! إن لي نحلا، قال: فأد العشور؛ وهو منقطع. وأخرج الترمذي عن ابن عمر: أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال في العسل: " في كل عشرة أزقاق زق؛ وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً، بلفظ: " أدوا العشر في العسل "، وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف. والجميع لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به (¬2) . وفي العسل أحاديث أخرى لم ينتهض شيء منها للاحتجاج به، وقد جمعها الماتن في " شرح المنتقى "؛ فليراجع. ( [يجوز تعجيل الزكاة] :) (ويجوز تعجيل الزكاة) : لحديث علي: أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي [صلى الله عليه وسلم] في تعجيل صدقته قبل أن تحل؟ فرخص له في ذلك "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وقد قيل: إنه مرسل (¬3) . وقد روي عن علي بلفظ آخر من طريق أخرى؛ أخرجها البيهقي، أن ¬

_ (¬1) هو الطيالسي؛ والحديث في " مسنده " (1214) . وهو حديث حسن؛ كما في " صحيح ابن ماجه " (1476) . (¬2) انظر توجيه هذه المسألة - فقهيا - في " تمام المنة " (ص 374) . (¬3) انظر " صحيح ابن ماجه " (1452) .

توزع زكاة كل محلة على فقرائها

النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنا كنا احتجنا، فأسلفنا العباس صدقة عامين؛ ورجاله ثقات؛ إلا أن فيه انقطاعاً. وفي " الصحيح " من حديث أبي هريرة، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال في زكاة العباس: " هي عليّ ومثلها معها "؛ لما قيل: إنه منع من الصدقة، وقد قيل: إنه كان تسلف منه صدقة عامين، فدل على أنه يجزئ عن المعجل أن يسقط الوجوب عند الاتصاف به، ولا شك أن التعجل لا يكون تعجيلا إلا إذا كان قبل الوجوب. ( [توزع زكاة كل محلة على فقرائها] :) (وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم) : وجهه حديث أبي جحيفة، قال: قدم علينا مصدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت غلاما يتيما، فأعطاني منها قلوصا؛ أخرجه الترمذي - وحسنه -. وحديث عمران بن حصين: أنه استُعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ ! أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ووضعناه حيث كنا نضعه؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه. وعن طاوس، قال: كان في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف؛ فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته؛ أخرجه الأثرم، وسعيد بن منصور بإسناد صحيح (¬1) . ¬

_ (¬1) جزم في " تمام المنة " (ص 385) بانقطاعه.

تجزئ الزكاة وإن دفعت لسلطان جائر

وفي " الصحيحين " عن معاذ: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما بعثه إلى اليمن قال له: " خذها من أغنيائهم، وضعها في فقرائهم ". ( [تجزئ الزكاة وإن دفعت لسلطان جائر] :) (ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرا) : لحديث ابن مسعود في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله {فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". وأخرج مسلم، والترمذي - وصححه - من حديث وائل بن حُجر، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟} فقال: " اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا وعليكم ما حُملتم ". وأخرج أبو داود من حديث جابر بن عتيك (¬1) - مرفوعاً - بلفظ: " سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون؛ فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم ". وأخرج الطبراني (¬2) عن سعد بن أبي وقاص - مرفوعاً -: " ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس ". ¬

_ (¬1) في الأصل: " جابر بن عبيد "، وهو خطأ. (ش) قلت: والحديث ضعيف؛ كما في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر ". (¬2) في " الأوسط " (1369) ، وضعفه الهيثمي في " المجمع " (3 / 80) .

وفي الباب آثار عن الصحابة؛ حتى أخرج البيهقي عن عمر، أنه قال: ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمر؛ وإسناده صحيح. وأخرج أحمد (¬1) من حديث أنس: أن رجلا قال لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] : إذا أديت الزكاة إلى رسولك؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال: " نعم، إذا أديتها إلى رسولي؛ فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها ". وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة: إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك، فإن اعتدى عليك؛ فوله ظهرك ولا تلعنه وقل: اللهم {إني أحتسب عندك ما أخذ مني. وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة الجمهور، وأن الدفع إلى السلطان أو بأمره يجزي المالك، وإن صرفها في غير مصرفها، سواء كان عادلاً أو جائراً. أقول: لا ريب أن مجموع الأدلة يقتضي أن أمر الزكاة إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ فإن قوله - تعالى -: {خذ من أموالهم} خطاب له، إن سُلم أنه في صدقة الفرض، وقد تقدم ما فيه. وأنص من الآية على المطلوب حديث: " أمرت أن آخذها من أغنيائكم "، وأحاديث بعثه [صلى الله عليه وسلم] للسعاة، وأمره لهم بأخذ الصدقات. ¬

_ (¬1) (3 / 136) ، والحاكم (2 / 360 - 361) - وصححه على شرط الشيخين، ووافق الذهبي -. وفي سعيد بن أبي هلال كلام؛ في ضبطه، وفي سماعه من أنس}

ومن ذلك الأدلة الواردة في الاعتداد بما أخذه سلاطين الجور، فإنها متضمنة لوجوب الدفع إليهم، والاجتزاء بما دفع إليهم: ومن ذلك حديث: " من أعطاها مؤتجرا فله أجره، ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله " (¬1) . ومنها الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب طاعة أولي الأمر. ولكن لا يخفى أن مجموع هذه الأدلة وإن أفاد أن للأئمة والسلاطين المطالبة بالزكاة وقبضها، ووجوب الدفع إليهم عند طلبهم لها؛ فليس فيها ما يدل على أن رب المال إذا صرفها في مصرفها قبل أن يطالبه الإمام بتسليمها لا تجزئه، ولا يجوز له ذلك؛ لأن الوجوب على أرباب الأموال، والوعيد الشديد لهم، والترغيب تارة والترهيب أخرى، لمن عليه الزكاة إذا لم يخرجها، يستفاد من مجموعه أن لهم ولاية الصرف. أما مع عدم الإمام: فظاهر. وأما مع وجوده من غير طلب منه: فكذلك أيضا، ويؤيد ذلك حديث: " أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله "؛ فإنه [صلى الله عليه وسلم] أجاب بذلك على من قال له: إن خالداً منع من تسليم الزكاة. وأما مع المطالبة من الإمام؛ فالظاهر أنه لا يجوز لرب المال الصرف؛ لأنه عصيان لمن أمر الله بطاعته، ولكن؛ هل يجزئه ذلك أم لا؟ ¬

_ (¬1) صحيح؛ " المشكاة " (64) .

الظاهر الإجزاء؛ لأنه لا ملازمة بين كونه عاصيا لأمر الإمام، وبين عدم الإجزاء، ومن زعم ذلك طولب بالدليل. فإن قيل: الدليل ما تقدم من قوله [صلى الله عليه وسلم] : " ... ومن منعها فإنا نأخذها وشطر ماله ": فيقال: الحديث - على ما فيه من المقال - لا يصلح للاستدلال به على هذا؛ لأن المراد أنه منع الزكاة؛ ولم يسلمها إلى الإمام، ولا صرفها في مصارفها، كما هو مدلول المنع الواقع على ضمير الزكاة في الحديث، كما في أحاديث الوعيد لمانع الزكاة، فإن المراد به المانع لها عن الإخراج مطلقاً. ومما يؤيد ثبوت الولاية لرب المال قوله - تعالى -: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} ؛ ففي هذه الآية أعظم متمسك وأوضح مستند، ومن زعم أنها في صدقة النفل بدليل السياق؛ فلم يصب؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول. نعم؛ تطبيق الأدلة الواردة منه [صلى الله عليه وسلم] على من بعده من الأئمة والسلاطين حتى يكون لهم مثل الذي له في أمر الزكاة؛ يحتاج إلى فضل نظر، ولا يقنع الناظر بمجرد الإجماع السكوتي الواقع من الناس بعد عصره [صلى الله عليه وسلم] . وأما قتال الصحابة لمانعي الزكاة؛ فلكونهم ارتدوا بذلك، وصمموا على منع إخراجها، وقد أمر [صلى الله عليه وسلم] أمته بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويفعلوا سائر أركان الإسلام. وأعظم ما يُستأنس به ما ورد في طاعة السلاطين؛ وإن ظلموا، وأن

دفعها إليهم من الطاعة لهم؛ كما في حديث ابن مسعود، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها "، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم "، أخرجه الشيخان وغيرهما. وعن وائل بن حُجر، قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم؟ قال: " اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم "، أخرجه مسلم وغيره. وفي الباب أحاديث كثيرة، وهي تفيد وجوب طاعتهم فيما طلبوا إذا كان في معروف غير معصية، وطلبهم للزكاة من المعروف إذا كانوا يجعلونها في أمر غير معصية الله، والأمر بالطاعة فرع ثبوت الولاية، وثبوتها يستلزم الإجزاء، وقد ذهب إلى هذا الجمهور من الصحابة فمن بعدهم. ويؤيد ذلك حديث جابر بن عتيك عند أبي داود مرفوعاً بلفظ " سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون؛ فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم ". وأخرج الطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا: " ادفعوا إليهم؛ ما صلوا الخمس ". ويغني عن جميع هذا؛ التكليف بطاعة سلاطين الجور ما أقاموا الصلاة، وفي بعض الأحاديث الأمر بالطاعة للظلمة ما لم يظهروا كفرا؛ فمن طلب الزكاة منهم؛ لم تتم الطاعة له التي كلفنا الله بها إلا بالدفع إليه، والله أعدل

أن يجمع على رب المال في ماله زكاتين: زكاة للظالم المأمور بطاعته، وزكاة أخرى تصرف إلى غيره.

باب مصارف الزكاة

(4 - باب مصارف الزكاة) ( [مصارف الزكاة ثمانية] :) (هي ثمانية كما في الآية) الكريمة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} ؛ فإنها تضمنت الثمانية الأنواع، الذين هم مصارف الزكاة. وقد أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: أتيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك "؛ وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وفيه مقال (¬1) . قال في " المسوى ": الفقير: هو - عند الشافعي - من لا مال له، ولا حرفة تقع منه موقعا. وعند أبي حنيفة من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب، أو قدر نصاب ¬

_ (¬1) انظر " الضعيفة " (1320) ، و " الإرواء " (859) ، و " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " (75) .

غير تام وهو مستغرق في الحاجة. والمسكين: هو - عند الشافعي - من له مال أو حرفة تقع منه موقعاً، ولا يغنيه. وعند أبي حنيفة: من لا شيء له، فيحتاج إلى المسألة لقوته، أو ما يواري بدنه. والعامل: له مثل عمله سواء كان فقيرا أو غنيا؛ وعليه أهل العلم. والمؤلفة قلوبهم قسمان: من أسلم ونيته ضعيفة، أو له شرف يُتوقع بإعطائه إسلام غيره، فيُعطون من الزكاة - على الأصح من مذهب الشافعي -. وقال أبو حنيفة: سقط سهمهم لغلبة الإسلام. والرقاب: هم المكاتبون؛ عند الشافعية والحنفية. والغارم: هو - عند أبي حنيفة - من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه، أو كان له مال على الناس لا يمكنه أخذه. وعند الشافعي قسمان: من استدان لنفسه في غير معصية، والأظهر اشتراط الحاجة، أو استدان لإصلاح البين ويعطى مع الغنى. وسبيل الله: غزاة لا فيء لهم، ويشترط فقرهم عند أبي حنيفة. وعند الشافعي: يعطون مع الغنى. وابن السبيل: هو الغريب المنقطع عن ماله عند الحنفية، أو منشئ سفر،

أو مجتاز له حاجة عند الشافعية. وشرط هؤلاء الأصناف الإسلام عند أهل العلم. وعند الشافعي: يجب استيعاب الأصناف الثمانية إن كان هناك عامل؛ وإلا فاستيعاب السبعة، وتجب التسوية بين الأصناف لا بين آحاد الصنف. وعند أبي حنيفة: لو صرف الكل إلى صنف واحد أو شخص واحد؛ يجوز. قال مالك: الأمر عندنا في قسم الصدقات: أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي، فأي الأصناف كانت الحاجة فيه والعدد: أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي، وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام، فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك، وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم. انتهى. قال الماتن: " وقد أطال أئمة التفسير والحديث والفقه الكلام على الأصناف الثمانية، وما يعتبر في كل صنف، والحق أن المعتبر صدق الوصف شرعا، أو لغة؛ فمن صدق عليه أنه فقير كان مصرفا، وكذلك سائر الأوصاف، وإذا لم يكن للوصف حقيقة شرعية؛ وجب الرجوع إلى مدلوله اللغوي، وتفسيره به؛ فما وقع من الشروط والاعتبارات المذكورة لأهل العلم؛ إن كانت داخلة في مدلول الوصف لغة أو شرعاً أو لدليل يدل على ذلك؛ كانت معتبرة، وإلا فلا اعتبار لشيء منها ". انتهى.

الكلام على الفقير والمسكين

( [الكلام على الفقير والمسكين] :) أقول: الواجب الجزم بأن الفقير من ليس بغني، والغني قد ثبت في الشريعة المطهرة تعريفه، كما أخرجه أهل " السنن " من حديث ابن مسعود مرفوعاً: أنه قيل: يا رسول الله! وما الغنى؟ قال: " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب "، فمن لم يملك هذا المقدار فهو فقير؛ لأنه إذا ارتفع عنه اسم الغنى ثبت له الفقر؛ إذ النقيضان لا يرتفعان، كما لا يجتمعان، ولا بد من كونه يملك معها ما لا بد منه من ملبوس وفراش ومسكن، حاصله ما تدعو الضرورة إليه؛ لأن من المعلوم أنه -[صلى الله عليه وسلم]- لم يرد بذلك المقدار قيمة ما يلبسه ويسكنه، ويلحق بذلك ما لا يتم له القيام بالأمور الدينية أو الدنيوية بدونه، كآلة الجهاد للمجاهد، وكتب العلم للعالم، وآلة الصناعة للصانع؛ فمن ملك مما هو خارج عن هذه الأمور ما يساوي خمسين درهماً؛ كان كمن ملك الخمسين أو قيمتها من الذهب فيكون غنيا، ومن لم يملك ذلك المقدار فهو فقير تحل له الزكاة، والمصير إلى ما قررناه متحتم. والحق أن الفقير والمسكين متحدان، يصح إطلاق كل واحد من الاسمين على من لم يجد فوق ما تدعو الضرورة إليه خمسين درهما، وليس في قوله - تعالى -: {كانت لمساكين} ما ينافي هذا؛ لأن ملكهم لها لا يخرجهم عن صدق اسم الفقر والمسكنة عليهم، لما عرفت من أن آلات ما تقوم به المعيشة مستثناة، والسفينة للملاح كدابة السفر لمن يعيش بالمكاراة، والضرب في الأرض. وليس في الآية الكريمة ما يدل على أن صدقة كل إنسان تُصرف في كل

صنف من الأصناف الثمانية، بحيث يحصل لكل صنف مقدار معين، وهذا أوضح. ثم أقول: كتاب الله وسنة رسوله مصرحان بأن الفقير يُعطى من الزكاة، وليس فيهما التقييد بمقدار معين، وليس المعتبر إلا اتصاف المصرف وهو الفقير والمسكين، ومن كان الفقر شرطا للصرف فيه بصفة الفقر أو المسكنة؛ فمن صرف إليه في تلك الحال فقد صرف إلى مصرف شرعي، وإن أعطاه مالا جما، وأنصباء متعددة؛ فهو إنما اتصف بصفة الغني بعد الصرف إليه، وذلك غير ضائر للصارف ولا مانع من الإجزاء. ومن زعم أنه لا يجوز إلا دون النصاب؛ فعليه الدليل الصالح لتقييد ما كان مطلقا من الأدلة وتخصيص ما كان عاما، وليس هناك إلا مجرد تخيلات فاسدة، لم تُبن على أساس صحيح. وأما الغارم؛ فظاهر إطلاق الآية يشمل من عليه دين، سواء كان غنيا أو فقيرا، مؤمنا أو فاسقا، في طاعة أو معصية. أما عدم الفرق بين الغني والفقير؛ فليس فيه إشكال؛ لدخولهما تحت الآية، ولاستثناء الغارم من حديث: " لا تحل الصدقة لغني ". وما سلكه صاحب " المنار " من التخصيص والتعميم، فوهم منشؤه تجريد النظر إلى لفظ " غني " من غير نظر إلى تمام الحديث المشتمل على استثناء خمسة، أحدهم الغارم. وأما عدم الفرق بين المؤمن والفاسق؛ فلإطلاق الآية، لا سيما إذا كان

ما استدانه الفاسق في غير سرف ولا معصية، فلا معنى لاشتراط الإيمان. وأما عدم الفرق بين الدين في طاعة أو معصية؛ فلتناول الإطلاق له، وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة فله حكمه. نعم؛ إذا كانت الإعانة له تستلزم إغراءه على المعاصي، ووقوعه فيما يحرم عليه؛ فلا ريب أنه ممنوع لأدلة أخرى، وأما إذا لزمه الدين في السرف والمعصية، ثم تاب وأقلع وطلب أن يعان من الزكاة على القضاء؛ فالظاهر عدم المنع. وأما سبيل الله؛ فالمراد هنا الطريق إليه - عز وجل -، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل - لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به؛ بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله - عز وجل -؛ هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية، حيث لم يصح النقل هنا شرعاً. وأما اشتراط الفقر في المجاهد؛ ففي غاية البعد! بل الظاهر إعطاؤه نصيبا وإن كان غنيا، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يأخذون من أموال الله - عز وجل - التي من جملتها الزكاة في كل عام، ويسمون ذلك عطاء، وفيهم الأغنياء والفقراء، وكان عطاء الواحد منهم يبلغ إلى ألوف متعددة، ولم يسمع من أحد منهم أنه لا نصيب للأغنياء في العطاء، ومن زعم ذلك فعليه الدليل. فإن قال: الدليل حديث: " إن الصدقة لا تحل لغني "؛ قلنا: أصناف مصارف الزكاة ثمانية، أحدها الفقير، فمن لم يكن فيه إلا كونه فقيرا بدون

ممن يشملهم سبيل الله

اتصافه بوصف آخر من أوصاف أصناف مصارف الزكاة؛ فلا ريب أنه إذا صار غنيا لم تحل له. وأما من أخذها بمسوغ آخر غير الفقر، وهو كونه مجاهداً أو غارماً أو نحوهما؛ فهو لم يأخذها لكونه فقيرا حتى يكون الغنى مانعا؛ بل أخذها لكونه مجاهدا أو غارما أو نحوهما، فتدبر هذا؛ فهو مفيد. ( [ممن يشملهم سبيل الله] :) ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية؛ فإن لهم في مال الله نصيبا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء (¬1) ؛ بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين، وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم، والأمر في ذلك مشهور، ومنهم من كان يأخذ زيادة على مئة ألف درهم. ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة، وقد قال -[صلى الله عليه وسلم]- لعمر لما قال له يعطي ¬

_ (¬1) لا دليل على ذلك - فيما أرى - إلا محض الاجتهاد. ولو كانت {في سبيل الله} عامة؛ لكان ما قبلها داخلا فيها، ولكن المراد خصوص الجهاد في سبيل الله، والله أعلم. ولا يقال: إن هذا من باب عطف العام على الخاص؛ لأن شرط ذلك؛ أن يكون العام مذكوراً آخر، غير معطوف عليه؛ وليس الأمر كذلك ههنا؛ فإنه ذكر {سبيل الله} معطوفا ومعطوفا عليه؛ فثبت أن المراد به المعنى الخاص لا العام؛ فتنبه!

من هو أحوج منه: " ما آتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف، ولا سائل فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك "، كما في " الصحيح "؛ والأمر ظاهر. وأما ابن السبيل؛ فإذا كان فقيرا لا يملك شيئا في وطنه ولا في غيره؛ فلا نزاع في أنه يعان على سفره بنصيب غير النصيب الذي يأخذه لأجل فقره، وإن كان غنيا في وطنه، وفي المحل الذي يريد السفر منه؛ فلا نزاع أنه لا يأخذ شيئا لكونه ابن السبيل. وإن كان غنيا في وطنه، ولم يتمكن من ماله في المحل الذي يريد السفر منه؛ فإن كان لا يمكنه القرض؛ فلا ريب أنه يعان على سفره؛ لأنه كالفقير لعدم إمكان انتفاعه بماله بوجه من الوجوه، وإن كان يمكنه القرض فهذا محل النزاع. وأما صرف الزكاة كلها في صنف واحد؛ فهذا المقام خليق بتحقيق الكلام: والحاصل: أن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم، واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية، ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم؛ بل المعنى أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف؛ من وجب عليه شيء من جنس الصدقة ووضعه في جنس الأصناف، فقد فعل ما أمره الله به، وسقط عنه ما أوجبه الله عليه، ولو قيل: إنه يجب على المالك إذا حصل له شيء تجب فيه الزكاة تقسيطه على جميع الأصناف الثمانية - على فرض وجودهم جميعا -؛ لكان

ذلك مع ما فيه من الحرج والمشقة مخالفا لما فعله المسلمون؛ سلفهم وخلفهم، وقد يكون الحاصل شيئا حقيرا، لو قسط على جميع الأصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له - ولو كان نوعا واحدا فضلا أن يكون عددا -. إذا تقرر لك هذا: لاح لك عدم صلاحية ما وقع منه -[صلى الله عليه وسلم]- من الدفع إلى سلمة بن صخر (¬1) من الصدقات للاستدلال. ولم يرد ما يقتضي إيجاب توزيع كل صدقة صدقة على جميع الأصناف. وكذلك لا يصلح للاحتجاج حديث أمره [صلى الله عليه وسلم] لمعاذ أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن، ويردها في فقرائهم؛ لأن تلك - أيضا - صدقة جماعة من المسلمين، وقد صرفت في جنس الأصناف. وكذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من هذه الصدقة، فقال له رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك "؛ لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي؛ وقد تكلم فيه غير واحد. ¬

_ (¬1) كان قد ظاهر من امرأته في رمضان، ثم واقعها ليلا ولم يجد كفارة، فأمره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فيأخذها منه ويؤدي ما عليه من الكفارة؛ انظر " نيل الأوطار " (جزء 7 ص 50 - 53) . (ش) قلت: وانظر " إرواء الغليل " (7 / 177) .

تحرم الزكاة على بني هاشم ومواليهم

وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج؛ فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها، كما هو ظاهر الآية التي قصدها -[صلى الله عليه وسلم]-، ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها، وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له؛ لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره، وهو خلاف الإجماع من المسلمين. وأيضا؛ لو سلم ذلك؛ لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام، لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط؛ بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات وإعطاء بعضهم بعضا آخر. نعم؛ إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الأقطار، وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية؛ كان لكل صنف حق في مطالبته بما فرضه الله، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية، ولا تعميمهم بالعطاء؛ بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يعطي بعضهم دون بعض، إذا رأى في ذلك صلاحا عائدا على الإسلام وأهله. مثلا: إذا جمعت لديه الصدقات وحضر الجهاد، وحقت المدافعة عن حوزة الإسلام من الكفار أو البغاة؛ فإن له إيثار صنف المجاهدين بالصرف إليهم، وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إذا اقتضت المصلحة إيثار غير المجاهدين. ( [تحرم الزكاة على بني هاشم ومواليهم] :) (وتحرم على بني هاشم) ، وبنو عبد المطلب مثلهم. أقول: الأحاديث القاضية بتحريم ذلك عليهم قد تواترت تواترا معنويا،

ولم يأت من خادع نفسه بتسويغها بشيء ينبغي الالتفات إليه، بل مجرد هذيان هو عن الحق بمعزل، واحتج لعدم التحريم بحديث: " إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم "، قال: فإذا منعوا ذلك حلت لهم الزكاة، وفي إسناده حسين بن قيس الرحبي؛ الملقب بحنش (¬1) . قال الهيثمي: وفيه كلام كثير، وقد وثقه أبو محصن (¬2) . وقال في " خلاصة البدر المنير ": ضعفوه. وليس في هذا - مع كونه أشف ما جاء به هو وغيره ممن ترخص في هذا الأمر - ما يدل على الحل؛ لأنهم إذا منعوا ما يحل لهم؛ لم يحل لهم ما حرم عليهم، فما وزان هذا إلا وزان قول القائل: لا يحل الزنا؛ لأن في النكاح ما يغني عنه {فهل يقول من له أدنى تمسك بالعلم: إنه إذا لم يقدر على النكاح حل له الزنا؟} وأما التعليل للتحريم بالتهمة له -[صلى الله عليه وسلم]-، وقد زالت بموته، فحلت لقرابته، كما رواه عن أبي حنيفة - رحمه الله -: فمجرد تخمين لا مستند له، وتخيل لا مرشد إليه، ولو كان الأمر كذلك؛ لكانت التهمة في الخمس وصفي الغنيمة أدخل وأشد؛ والله المستعان. (ومواليهم) : لحديث أبي هريرة مرفوعا وفيه: " إنا لا نأكل الصدقة "، وفي ¬

_ (¬1) قال النسائي: ليس بثقة. (ش) قلت: انظر " مجمع الزوائد " (3 / 91) ، و " خلاصة البدر المنير " (1847) ، و " المعجم الكبير " (11543) . (¬2) هو الراوي عنه في بعض رواياته! وانظر " تهذيب الكمال " (6 / 467) .

لفظ: " إنا لا تحل لنا الصدقة "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وفي حديث أبي رافع: " إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وابن حبان، وابن خزيمة - وصححاه أيضا -. وفي رواية لأحمد (¬1) ، والطحاوي من حديث الحسن بن علي: " لا تحل لآل محمد الصدقة ". وفي حديث المطلب بن ربيعة، أنه [صلى الله عليه وسلم] قال: " إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس "؛ وهو في " صحيح مسلم ". وفي الباب أحاديث. قال في " الحجة البالغة ": " إنما كانت أوساخا؛ لأنها تكفر الخطايا، وتدفع البلايا، وتقع فداء عن العبد في ذلك، فيتمثل في مدارك الملأ الأعلى أنها هي، فتدرك بعض النفوس العالية أن فيها ظلمة، وقد يشاهد أهل المكاشفة (¬2) تلك الظلمة، وكان سيدي الوالد - قدس سره - يحكي ذلك من نفسه (2) . وأيضا؛ المال الذي يأخذه الإنسان من غير مبادلة عين أو نفع، ولا يراد به احترام وجهه؛ فيه ذلة ومهانة، ويكون لصاحب المال عليه فضل ومنة؛ وهو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " اليد العليا خير من اليد السفلى "؛ فلا جرم أن التكسب بهذا النوع شر وجوه المكاسب، لا يليق بالمطهرين المنوه بهم في الملة ". اهـ. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1 / 200) بسند صحيح. (¬2) هذا نفس تصوف لا دليل عليه {}

تحرم الزكاة على الأقوياء المكتسبين

قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة. وكذا حكى الإجماع [أبو طالب - من أهل البيت -؛ كما حكى ذلك عنه في " البحرش، وكذا حكاه] (¬1) ابن رسلان في " شرح السنن ". وقد وقع الخلاف في (الآل) الذين تحرم عليهم الصدقة على أقوال؛ أظهرها أنهم بنو هاشم، وحكم مواليهم حكمهم في ذلك. أقول: الحق تحريم الزكاة أجمع على بني هاشم، سواء كانت الزكاة منهم، أو من غيرهم، وما استروح إليه من قال بجواز صدقة بعضهم لبعض من حديث العباس بن عبد المطلب، أنه قال: قلت: يا رسول الله {إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: " نعم "، أخرجه الحاكم (¬2) : فليس بصالح للاحتجاج به لما فيه من المقال، حتى قيل: إنه اتهم بعض رواته، كما حققه صاحب " الميزان "، وقد عرفت عموم أحاديث التحريم، فلا يجوز تخصيصها بمخصص غير ناهض. ( [تحرم الزكاة على الأقوياء المكتسبين] :) (و) تحرم (على الأغنياء والأقوياء المكتسبين) : وجهه ما في الأحاديث ¬

_ (¬1) • من " الدراري المضية " (2 / 16) . (ن) (¬2) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن الحاكم رواه في " المستدرك "} وليس كذلك. ذكر المؤلف في " نيل الأوطار " أن الحاكم أخرجه في " النوع السابع والثلاثين " من " علوم الحديث " بإسناد كله من بني هاشم (جزء 4 ص 241) . (ش) قلت: وهو فيه، لكن؛ في " النوع التاسع والثلاثين " (ص 175) . وسهل تصحيف " التاسع " إلى: " السابع "!

الصحيحة الثابتة عن جماعة أنها " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي ". وفي لفظ لأحمد، وأهل " السنن " من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار مرفوعا: " ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب ". وفي بعض الأخبار. " ولا لذي مرة قوي ". والمرة - بكسر الميم وتشديد الراء -: القوة وشدة العقل؛ كذا قال الجوهري. قال في " الحجة البالغة ": " وجاء في تقدير الغنية المانعة من السؤال؛ أنها أوقية، أو خمسون درهما، وجاء أيضا أنها ما يغديه أو يعشيه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا؛ لأن الناس على منازل شتى، ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه، فمن كان كاسبا بالحرفة؛ فهو معذور حتى يجد آلات الحرفة، ومن كان زارعا حتى يجد آلات الزرع، ومن كان تاجرا حتى يجد البضاعة، ومن كان على الجهاد مسترزقا بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، فالضابط فيه: أوقية، أو خمسون درهما، ومن كان كاسبا بحمل الأثقال في الأسواق، أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك؛ فالضابط فيه: ما يغديه ويعشيه ". أه. في " الموطأ " (¬1) من حديث عطاء بن يسار، أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل ¬

_ (¬1) (1 / 268) مرسلا. ووصله أبو داود (1636) بسند صحيح. وانظر " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 125) .

الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله (¬1) ، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني ". قال في " المسوى ": " لا خلاف في صورة تبدل الأيدي، وكذا في العامل وابن السبيل، وأما الغارم والغازي؛ فتحل الصدقة لهما وإن كانا غنيين عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تحل إلا إذا كانا فقيرين. وظاهر الآية مع الشافعي؛ لأن الله - تعالى - جعلهما قسيمي الفقير والمسكين. وعند الحنفية: تحل الصدقة لمن ليس عنده نصاب غير مستغرق في حاجته، فلو ملك نصابا غير نام، لكنه غير مستغرق لم تحل له، ولو ملك نصبا كثيرة - إلا أنها مستغرقة - حلت له، ولا يحل السؤال إلا لمن لا يملك قوت يومه بعد ستر بدنه؛ كذا في " العالمكيرية ". قال في " شرح السنة ": إذا رأى الإمام السائل جلدا قويا، وشك في أمره؛ أنذره وأخبره بالأمر، فإن زعم أنه لا كسب له، أو له عيال لا يقوم كسبه بكفايتهم قبل منه وأعطاه ". أقول: يمكن أن يطبق بين الأحاديث باختلاف الأحوال، والأصل اعتبار معنى الحاجة والاستغناء بالكسب المتيسر، فالأوقية تمنع السؤال لمن كان حاله مثل حال المهاجر في زمان النبي -[صلى الله عليه وسلم]-، كانوا مرتزقين من الفيء دفعة بعد دفعة، وفي الفيء قلة، والاحتطاب مانع من ¬

_ (¬1) • أي: اشتراها بماله من المتصدق عليه، وهذا قريب في المعنى من الفقرة التي بعدها. (ن)

صرف الصدقة في ذوي الأرحام أفضل

السؤال لمن كان قويا حاذقا في الاحتطاب، أو أراد أن يسأل غير الإمام؛ وعلى هذا القياس غيرهما ". اه. أقول: قد قدمنا ما هو الحق في تفسير الغنى المانع من أخذ الزكاة، وقدمنا - أيضا - ما هو الحق في بعض الأصناف الثمانية من عدم اشتراط الفقر كالمجاهد ونحوه. ( [صرف الصدقة في ذوي الأرحام أفضل] :) ثم اعلم أن الأدلة طافحة بأن الصرف في ذوي الأرحام أفضل؛ من غير فرق بين الصدقة الواجبة والمندوبة، كما يدل على ذلك ترك الاستفصال في مقام الاحتمال (¬1) ، فإنه ينزل منزلة العموم. على أنه قد ورد التصريح في حديث أبي سعيد عند البخاري، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال لامرأة: " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم ". وثبت عند البخاري، وأحمد عن معن بن يزيد، قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-، فقال: " لك ما نويت يا يزيد {ولك ما أخذت يا معن} ". وهذه الأدلة إنما هي تبرع من القائل بالجواز والإجزاء، وإلا فهو قائم مقام المنع من كون القرابة أو وجوب النفقة مانعين، ولم يأت القائل بذلك بدليل ينفق في محل النزاع، على فرض أنه لم يكن بيد القائل بالجواز إلا ¬

_ (¬1) وهذا من القواعد الأصولية المهمة.

الكلام في الجزية والعشور على أهل الذمة

التمسك بالأصل، فكيف والأدلة عموما وخصوصا ناطقة بما ذهبوا إليه؟ ! ( [الكلام في الجزية والعشور على أهل الذمة] :) وأما أهل الذمة؛ فالذي ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وشرعه؛ هو أخذ الجزية من أهل الذمة بدلا عن دمائهم، وصالح بعض أهل الذمة على شيء معلوم يسلمونه في كل سنة، وهو الجزية أيضا، فقد تكون الجزية مضروبة على كل فرد من أفراد أهل الذمة كذا، وقد تكون مضروبة على الجميع بمقدار معين. وأما الاستئناس لقول عمر - رضي الله عنه - بكونه بمشاورة الصحابة؛ فليس ذلك مستلزما لكونه إجماعا، وليس الحجة إلا إجماعهم، وليس فيه حجة على ثبوت مثل هذا التكليف الشاق على أهل الذمة، ولم يثبت هذا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . وأما حديث: " ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى ": فهذا الحديث هو أشف ما يستدل به على المطلوب، وقد أخرجه أبو داود من طرق وفي بعضها مقال. وأخرجه أحمد، والبخاري في " التاريخ "، وساق الاضطراب في سنده (¬1) ، وقال: لا يتابع عليه، والراوي له عن النبي [صلى الله عليه وسلم] رجل بكري، وهو مجهول، ولكن جهالة الصحابي غير قادحة، كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني، في الرسالة التي سماها " القول المقبول في رد المجهول من غير صحابة الرسول ". ¬

_ (¬1) ضعفه ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 353) .

وفي بعض ألفاظ هذا الحديث عند أبي داود: " الخراج "، مكان: " العشور "؛ ولكن إنما يتم الاستدلال بهذا الحديث على المطلوب؛ لو كان المراد به هو نصف عشر ما يتجرون به كما زعموه، وليس كذلك؛ بل فيه خلاف. فقال في " القاموس ": " عشّرهم يُعشّرهم عشراً، وعُشوراً: أخذ عشر أموالهم ". اه. وقال في " النهاية ": " العشور جمع عشر؛ يعني: ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات، والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد، فإن لم يصالحوا على شيء، فلا تلزمهم إلا الجزية. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة؛ أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة، ومنه: " احمدوا الله إذ رفع عنكم العشور " (¬1) ؛ يعني: ما كانت الملوك تأخذه منهم. ومنه أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا؛ أي: لا يؤخذ عشر أموالهم (¬2) . اه كلام " النهاية ". ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3 / 197) ، وأحمد (1 / 190) عن سعيد بن زيد بسند ضعيف. (¬2) معنى: " لا يحشروا "؛ أي: لا يندبون إلى المغازي، ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم. وأما: " لا يُجبوا "؛ فإنه بضم الياء وفتح الجيم وتشديد الباء المضمومة، وأصل التجيبة أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود. والمراد بقولهم: لا يجبوا: أنهم لا يصلون. ولفظ الحديث يدل على الركوع؛ لقوله في جوابهم: ولا خير في دين ليس فيه ركوع. اه ملخصا من " النهاية ". (ش)

وقال الخطابي مثل ما نقله صاحب " النهاية " في أول كلامه. فحصل من جميع هذا أن العشور إما العشر، أو المال المصالح به، أو ما يؤخذ من تجار أهل الذمة إن أخذوا من تجارنا، أو ما يأخذه الملوك من الجبايات والضرائب، أو الخراج كما في بعض روايات الحديث، ومع هذا الاحتمال لا ينتهض للاستدلال به. والحاصل: أن الأصل في أموال الناس - مسلمهم وكافرهم - التحريم: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ؛ فلا بد من دليل يدل على تحليل المطلوب؛ لأنه خارج عن الأقسام المسوغة؛ إذ ليس بجزية، ولا مال صلح، ولا خراج، ولا معاملة، ولا زكاة؛ لعدم صحتها منهم؛ لأن الكفر مانع. وأظهر ما يقال في معنى العشور؛ أحد أمرين: إما الخراج؛ لأن بعض ألفاظ الحديث يفسر بعضا، أو الضرائب التي تضرب عليهم - كالجزية ومال الصلح -، فيكون المراد أن المسلمين ليس عليهم الخراج؛ أي: لا يوضع في أموالهم ابتداء، وليس عليهم ضريبة في رقابهم أو أموالهم كاليهود، وحينئذ لم يبق ما يصلح للتمسك به على جواز أخذ نصف عشر أموال تجار أهل الذمة. ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى العشور: ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية " (¬1) ؛ فيمكن أن يكون مفسرا لحديث: " ليس على المسلمين عشور "، ولم يثبت عن النبي ¬

_ (¬1) ضعيف؛ فانظر " الإرواء " (1257) .

-[صلى الله عليه وسلم]- تقدير ما يؤخذ من أهل الذمة؛ إلا ما في حديث معاذ: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، والحاكم. وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال (¬1) - فهو لا يخرج به عن صلاحيته للاستدلال، فالوقوف على هذا المقدار متعين لا تجوز مجاوزته. وأما النقص منه - إذا رآه الإمام أو المسلمون - فلا بأس به؛ لأن الجزية حق لهم؛ يجوز لهم الاقتصار على بعض ما وجب. والظاهر أنه لا فرق بين الغني والفقير والمتوسط في أنهم يستوون في جواز أخذ هذا المقدار منهم؛ لأن الجزية لما كانت عوضا عن الدم كان ذو المال كمن لا مال له. وأما من ذهب إلى أنه يجب على الفقير نصف ما على المتوسط، وعلى المتوسط نصف ما على الغني، وجعلوا الغني من يملك ألف دينار أو ما يساويها، ويركب الخيل، ويتختم الذهب، والمتوسط دونه، تمسكا بما روي عن علي؛ أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى الفقراء اثني عشر: فهذا - مع كونه غير مرفوع إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]- لا تقوم به الحجة؛ لأن في إسناده أبا خالد الواسطي؛ ولا يحتج بحديثه إذا كان مرفوعاً، فكيف إذا كان موقوفاً؟ ! وكذلك لا تقوم الحجة بما أخرجه في " الموطأ " عن عمر: أنه كان يأخذ ¬

_ (¬1) ولكن له طرقا وشواهد؛ فانظر " الإرواء " (795) .

على أهل الذهب من أهل الذمة الجزية أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما؛ لأنه فعل صحابي لا يصلح للاحتجاج به، فالاقتصار على ما في حديث معاذ متحتم. ويؤيده ما أخرجه البيهقي (¬1) عن أبي الحويرث - مرسلاً -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صالح أهل أيلة وكانوا ثلاث مئة رجل على ثلاث مئة دينار. وأما ما روي عن الشافعي، قال: سمعت بعض أهل العلم من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار: فهذا - مع كونه ليس بمرفوع ولا موقوف ولا معلوم قائله - لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن المأخوذ من أهل نجران إنما كان صلحا بمقدار من المال على جميعهم، ومحل النزاع ما يضرب على كل فرد ابتداء. ثم نقول: أموال أهل الحرب على أصل الإباحة، يجوز لكل أحد أخذ ما شاء منها كيف شاء قبل التأمين لهم، فيجوز للسلطان أن يأذن لهم بدخول بلاد المسلمين والتجارة فيها على ما شاء من قليل أو كثير، يأخذه من أموالهم؛ إنما الشأن في أخذ مثل ذلك من المسلمين الذين يسافرون للتجارة من أرض إلى أرض، فيأخذ منهم أهل الأرض التي يصلون إليها شطرا من أموالهم من غير نظر إلى كون ذلك زكاة تجارة ولا غيرها؛ بل لا يعتبرون في استحلال أخذه؛ إلا مجرد خروجهم من سفائن البحر، أو وصولهم من البر إلى حدود الأرض التي يخرجون إليها، فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس من غير شك ولا شبهة، وقد حققت المقام في " إكليل الكرامة "؛ فليراجع. ¬

_ (¬1) في " السنن الكبرى " (9 / 195) ، وفي " معرفة السنن والآثار " (13 / 374) ؛ من طريق الشافعي في " الأم " (4 / 179) ؛ وفي سنده - فوق إرساله! - إبراهيم بن محمد - شيخ الشافعي -، وهو متروك.

باب صدقة الفطر

(5 - باب صدقة الفطر) ( [مقدار صدقة الفطر] :) (هي صاع من القوت المعتاد عن كل فرد) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: فرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير؛ على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير من المسلمين "، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وفي " صحيح مسلم "، وغيره: " ليس على المسلم في عبده صدقة؛ إلا صدقة الفطر ". وأخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر، قال: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بصدقة الفطر عن الصغير، والكبير، والحر، والعبد؛ عمن تمونون ". وأخرج نحوه الدارقطني من حديث علي؛ وفي إسناده ضعف؛ وله طرق. والخطابات في إخراجها على من ليس بمكلف؛ إنما هي كائنة مع المكلفين (¬1) . ¬

_ (¬1) لعل صحة الجملة: " والخطابات في إخراجها عمن ليس بمكلف إنما هي كائنة على المكلفين "؛ ليستقيم المعنى. (ش)

وقد ذهب الجمهور إلى أنها صاع من البر وغيره. وذهب بعض الصحابة إلى أن الفطرة من البر نصف صاع، وقد حكاه ابن المنذر عن علي، وعثمان، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وابن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر؛ بأسانيد صحيحة، كما قال الحافظ، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقد تمسكوا بحديث ابن عباس مرفوعا: " صدقة الفطر: مدّان من قمح "؛ أخرجه الحاكم (¬1) . وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعاً. وفي الباب أحاديث تعضد ذلك، ولكن ليس هذا بإجماع من الصحابة، حتى يكون حجة. وقد أخرج ابن خزيمة، والحاكم في " صحيحيهما " (¬2) : أن أبا سعيد قال لما ذكروا عنده صدقة رمضان: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: صاع تمر، أو صاع حنطة، أو صاع شعير، أو صاع أقط "، ولكن هذا - مع كونه غير مصرح باطلاع رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- على ذلك ولا تقريره -: قد قال ابن خزيمة: ذكر ¬

_ (¬1) في " المستدرك " (1 / 140) ، والبيهقي في " سننه " (4 / 172) . وضعفه ابن عبد الهادي في " تنقيح التحقيق " (2 / 1473) . (¬2) وصف " المستدرك " ب " الصحيح ": فيه توسع { والحديث في " صحيح مسلم " (985) } !

الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم! ؟ وكذلك قال أبو داود. وقد روى الحاكم (¬1) من حديث ابن عباس، والترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً أيضا: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمر صارخا بمكة ينادي: " إن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم؛ صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو مملوك، حاضر أو باد: مُدّان من قمح، أو صاع من شعير، أو تمر ". وأخرج نحوه الدارقطني من حديث عصمة بن مالك بلفظ: " مدان من قمح "؛ وفي إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف. ويؤيده ما عند أبي داود، والنسائي عن الحسن - مرسلا - بلفظ: فرض رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- هذه الصدقة: صاعا من تمر، أو من شعير، أو نصف صاع من قمح. وأخرج أيضا أبو داود (¬2) من حديث عبد الله بن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير بلفظ: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " صدقة الفطر صاع من بر، أو قمح عن كل اثنين ". وأخرج سفيان الثوري في " جامعه " عن علي موقوفا بلفظ: نصف صاع بر. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (667) ، والدارقطني (2 / 141) ، وهو - أيضا - ضعيف. وانظر " نصب الراية " (2 / 420) ، و " الكامل " (3 / 346) ، و " التلخيص الحبير " (2 / 183) . (¬2) (برقم: 1620) ، وابن خزيمة (2410) ، وحسنه شيخنا.

وهذه الروايات متعاضدة صالحة لتخصيص لفظ الطعام على فرض شموله للبر، كما قال بذلك بعض أهل العلم. قال في " المسوى ": في الحديث: " صدقة الفطر فريضة "؛ وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: واجبة. وفيه: أنه لا يشترط لها النصاب؛ بل هي فريضة على الغني والفقير، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من يملك نصابا، وإن لم يكن ناميا. وفيه: أنها تجب على الصغير والمجنون ومن لم يطق الصوم، وعليه أكثر أهل العلم. وفيه: أنها تجب عن الرقيق - مطلقا - سواء كانوا للتجارة، أو للخدمة، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب عن رقيق التجارة. وفيه: أنها لا تجب عن العبد الكافر، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب عنه. وفيه: أنه لا يجوز إخراج الدقيق والسويق ولا الخبز ولا القيمة؛ وعليه الشافعي.

وقت إخراج صدقة الفطر

وقال أبو حنيفة: يجوز كل ذلك. وفيه: أنه لا يجوز أقل من صاع من أي جنس أخرج، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز من البر نصف صاع. وفيه: أن الواجب مقدر بصاع النبي -[صلى الله عليه وسلم]-؛ وهو خمسة أرطال وثلث بالرطل العراقي، وقدرها بالقدح المصري: قدحان. وقال أبو حنيفة: بصاع الحجاز، وهو ثمانية أرطال. وقال الشافعي: تجب فطرة المرأة على زوجها. وقال أبو حنيفة: لا تجب عليه ". ( [وقت إخراج صدقة الفطر] :) (والوجوب على سيد العبد ومنفق الصغير ونحوه، ويكون إخراجها قبل صلاة العيد) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: " أن رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ". فيه دليل على وجوب الإخراج في ذلك الوقت. وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم - وصححه - عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: " فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها

من الذي لا تجب عليه صدقة الفطر

بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات " (¬1) ، وهذا يدل على أنها لا تجزئ بعد الصلاة؛ لأنها حينئذ صدقة كسائر الصدقات التي يتصدق بها الإنسان، وليست بزكاة الفطر. قال في " المسوى ": " السنة عند أهل العلم: أن يُخرج صدقة الفطر يوم العيد قبل الخروج إلى الصلاة، ولو عجلها بعد دخول رمضان يجوز، ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر عند بعضهم. وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس ". وفي " سفر السعادة ": " وظاهر هذه الأحاديث أنها بعد الصلاة لا تجزئ ". اه. ( [من الذي لا تجب عليه صدقة الفطر؟] :) (ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته فلا فطرة عليه) : لأنه إذا أخرج قوت يومه، أو بعضه كان مصرفا لا صارفا؛ لقوله [صلى الله عليه وسلم] : " أغنوهم في هذا اليوم "، أخرجه البيهقي، والدارقطني من حديث ابن عمر (¬2) . فإذا ملك زيادة على قوت يومه؛ أخرج الفطرة إن بلغ الزائد قدرها. ويؤيده تحريم السؤال على من ملك ما يغديه ويعشيه، كما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث سهل ابن الحنظلية مرفوعاً؛ لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيا ولا فقيرا. ¬

_ (¬1) سنده حسن؛ كما في " الإرواء " (843) . (¬2) حديث ضعيف؛ كما في " الإرواء " (844) .

وقد أخرج أحمد، وأبو داود عن عبد الله بن ثعلبة، قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " صدقة الفطر صاع تمر، أو صاع شعير عن كل رأس، أو صاع بر أو قمح بين اثنين: صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى ". وقد وقع الخلاف في تقدير ما يعتبر في وجوب زكاة الفطر: فقيل: ملك النصاب، وقيل: قوت عشر. أقول: التقدير بقوت عشرة أيام محض رأي؛ ليس عليه أثارة من علم، وليس هو أيضا على أسلوب مناسب باعتبار محض الرأي، فإن الرأي إذا لم يكن له علة معقولة، سائغة في العقل، مقبولة في الطبع؛ فهو مردود عند أهل الرأي! وقد ورد ما يدل على أن الفقير كالغني في الفطرة؛ ففي حديث ابن أبي صعير (¬1) عند أبي داود بلفظ: " غني أو فقير "، ويؤيده حديث ابن ثعلبة (1) المتقدم؛ لأن المراد أن الله يرد عليه من العوض خيرا مما أخرج. وقال مالك، والشافعي، وعطاء، وأحمد بن حنبل، وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يومه وليلته. والظاهر: أن من وجد ما يكفيه ومن يعول ليوم الفطر، ووجد صاعا ¬

_ (¬1) بضم الصاد وفتح العين المهملتين؛ وهو عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير - ويقال: ابن صعير، ويقال: ثعلبة بن عبد الله بن صعير -. ومن هذا؛ تعرف خطأ الشارح في قوله: " ويؤيده حديث ابن ثعلبة المتقدم "؛ فإن الحديثين هما حديث واحد، ولكنه وهم رحمه الله. (ش)

مصرف صدقة الفطر مصرف الزكاة

زائدا على ذلك أخرجه؛ لحديث: " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم "، أخرجه البيهقي، والدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً. وأخرجه ابن سعد أيضا في " الطبقات " (¬1) من حديث عائشة وأبي سعيد. فظاهر قوله: " أغنوهم ": أنهم يصيرون أغنياء إذا نالوا ما يكفيهم في يومهم، والمراد أنهم أغنياء عن الطواف، وأن الغني في الفطرة من استغنى عن الطواف في يومه، والفقير من افتقر إلى الطواف في يومه، فيكون الوجوب متحتما على من وجد ما يغنيه في يومه؛ مع زيادة قدر ما يجب عليه من الفطرة، ويكون مصرفها من لم يجد ذلك، لا كما قالوا: إن مصرفها مصرف الزكاة! ( [مصرف صدقة الفطر مصرف الزكاة] :) (ومصرفها مصرف الزكاة) : لكونه -[صلى الله عليه وسلم]- قد سماها زكاة، كقوله: " فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة "، وقول ابن عمر: إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أمر بزكاة الفطرة - وقد تقدما -، ولكنه ينبغي تقديم الفقير للأمر بإغنائهم في ذلك اليوم، فما زاد صُرف في سائر الأصناف. وقال في " سفر السعادة ": وكان يخص المساكين بهذه الصدقة، ولا يقسمها على الأصناف الثمانية، ولم يرد بذلك أمر أيضا، وبه قال بعض العلماء، ويجوز الصرف للأصناف الثمانية، بل خُص بها المساكين. انتهى. ¬

_ (¬1) (1 / 248) وفي سنده الواقدي؛ وهو متروك.

الكتاب الخامس كتاب الخمس

(الكتاب الخامس: كتاب الخمس)

كتاب الخمس

(5 - كتاب الخمس) ( [يجب الخمس فيما يُغنم في القتال وفي الركاز] :) (يجب فيما يُغنم في القتال) وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله - تعالى - في كتاب الجهاد والسير. ولا فرق بين الأراضي والدور المأخوذة من الكفار وبين المنقولات؛ فإن الجميع مغنم في القتال. وأما الفيء - وهو ما أُخذ بغير قتال -: فحكمه مذكور في قوله - تعالى -: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} ، والمراد بقوله - تعالى -: {من شيء} ما بينه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، لا كل ما يطلق عليه اسم الغنيمة، بل ما غُنم بالقتال - كما في " النهاية " وغيرها -؛ ولو بقي على عمومه، لاستلزم وجوب الخمس في الأرباح والمواريث ونحوهما، وهو خلاف الإجماع، وما استلزم الباطل باطل. (وفي الركاز) الخمس؛ لأنه يشبه الغنيمة من وجه، ويشبه المجان، فجُعلت زكاته خمساً، لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: " العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ".

اختلاف العلماء في تعريف الركاز

( [اختلاف العلماء في تعريف الركاز] :) والرِّكاز - بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي -: قال مالك والشافعي: الركاز دفن الجاهلية. وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما: إن المعدن ركاز. وخالفهم في ذلك الجمهور، فقالوا: لا يقال للمعدن: ركاز، واحتجوا بما وقع في هذا الحديث من التفرقة بينهما بالعطف، وأن ذلك يدل على المغايرة. وفي " القاموس " تفسير الركاز بالمعدن ودفين الجاهلية. وقال صاحب " النهاية ": إن الركاز يقع عليهما، وإن الحديث ورد في الدفين. هذا معنى كلامه. قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " وفي قوله: " المعدن جبار " قولان: أحدهما: أنه إذا استأجر من يحفر له معدنا، فسقط عليه فقتله؛ فهو جبار؛ ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: " البئر جبار، والعجماء جبار ". والثاني: أنه لا زكاة فيه، ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: " وفي الركاز الخمس "، ففرق بين المعدن والركاز، فأوجب الخمس في الركاز؛ لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب، وأسقطها عن المعدن؛ لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه، والله - تعالى - أعلم ". اه.

قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولون: إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دِفن الجاهلية؛ ما لم يُطلب بمال، ولم يُتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤنة، فأما ما طُلب بمال، وتُكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة؛ فليس بركاز. قال في " المسوى ": " هو أظهر أقوال الشافعي في تفسير الركاز، وله قول: إن المعدن من الركاز أو بمنزلة الركاز، وعليه أبو حنيفة. والمراد بالركاز على أظهر أقوال الشافعي: هو الدفين الجاهلي من النقد. وأما الإسلام؛ فإن عُلم مالكه فله؛ وإلا فلقطة، وإنما يملكه الواجد، وتجب فيه الزكاة إذا وُجد في موات أو ملك أحياء، فإن وجد في ملك شخص فللشخص، أو في مسجد أو شارع؛ فلقطة. قال مالك: المعدن بمنزلة الزرع، يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع، يؤخذ منه إذا خرج من المعدن من يومه ذلك، ولا يُنتظر به الحول، كما يؤخذ من الزرع إذا حُصد العشر ولا يُنتظر به أن يحول عليه الحول. قلت: وبه قال الشافعي في أظهر أقواله، ولم يوجب في غير الذهب والفضة. وقال الشافعي - في حديث معادن القبلية (¬1) في قول آخر -: ليس هذا مما ¬

_ (¬1) القبلية - بفتح القاف والباء الموحدة -: ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام. (ش) قلت: يريد حديث إقطاع النبي [صلى الله عليه وسلم] لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية. وهو في " سنن أبي داود " (3062) بسند ضعيف جدا! وفي " صحيح ابن خزيمة " (2323) بسند ضعيف.

لا يجب الخمس في غير الغنائم والركاز

يثبته أهل الحديث، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ إلا إقطاعه. وأما الزكاة فليست مروية عنه، كذا روى عنه البيهقي في " سننه ". أقول: ولو كانت الزكاة مروية؛ فليس ذلك نصا في ربع العشر، بل يحتمل معنيين آخرين: أحدهما: يؤخذ منه الخمس وهو زكاة، وهو قول للشافعي، والحصر بالنسبة إلى الكل. والثاني: إذا ملكه وحال عليه الحول؛ تؤخذ منه الزكاة؛ وهو قول جمع من المحدثين ". انتهى. ( [لا يجب الخمس في غير الغنائم والركاز] :) (ولا يجب فيما عدا ذلك) : لعدم الإيجاب الشرعي، والبقاء تحت البراءة الأصلية. وقال أبو حنيفة: الخمس في كل جوهر ينطبع كالحديد والنحاس. أقول: إن إيجاب الزكاة في جميع المعادن، ومجاوزة ذلك إلى صيد البر والبحر والمسك والحطب والحشيش - كما فعله كثير من المصنفين -: ليس بصواب؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك، والأصل في أموال العباد التي قد دخلت في أملاكهم بوجه من الوجوه المقتضية للملك؛ هو الحرمة، ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بطيبة من نفس مالكها: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، وإلا كان أكلا بالباطل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} .

مصرف الغنائم والركاز

والمتيقن وجوب الخمس في الغنيمة من القتال، وفي معدن الذهب والفضة؛ لما أخرجه البيهقي (¬1) في حديث الركاز بزيادة: قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ ! قال: " الذهب والفضة التي خلقت في الأرض يوم خُلقت "، وهو - وإن كان في إسناده سعيد بن أبي سعيد المقبري -: فهو لا يقصر عن صلاحية حديثه للتفسير؛ فليعلم. ( [مصرف الغنائم والركاز] :) (ومصرفه) ؛ أي: مصرف الزكاة عند الشافعي، ومصرف خمس الفيء عند أبي حنيفة. (من في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} ) ؛ وكفى بها دليلا على ذلك. وفي " حجة الله البالغة ": " يوضع سهم الرسول [صلى الله عليه وسلم] بعده في مصالح المسلمين؛ الأهم فالأهم، وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب، الفقير منهم والغني، والذكر والأنثى، وعندي أنه يخير الإمام في تعيين المقادير، وكان عمر - رضي الله تعالى عنه - يزيد في فرض آل النبي [صلى الله عليه وسلم] من بيت المال، ويعين المدين منهم، والناكح، وذا الحاجة، وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له، وسهم الفقراء والمساكين لهم، يفوض كل ذلك إلى الإمام، يجتهد في الفرض، وتقديم الأهم فالأهم، ويفعل ما أدى إليه اجتهاده، ¬

_ (¬1) في " السنن الكبرى " (4 / 152) ، وضعفه شيخنا ف " ضعيف الجامع " (3163) ، والمناوي في " فيض القدير " (4539) .

ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين، يجتهد الإمام أولا في حال الجيش، فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له. وأما الفيء؛ فمصرفه ما بين الله - تعالى -: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} إلى قوله: {رءوف رحيم} ، ولما قرأها عمر قال: هذه استوعبت المسلمين؛ فيصرفه إلى الأهم فالأهم، ويُنظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة. واختلفت كيفية قسمة الفيء: فكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظا. وكان أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - يقسم للحر والعبد؛ يتوخى كفاية الحاجة. ووضع عمر الديوان على السوابق والحاجات، فالرجل وقِدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته. والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف: أن يُحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد، فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته ". انتهى حاصله. [انتهى المجلد الأول من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، ويتلوه: المجلد الثاني - منه -، وأوله: 6 - كتاب الصيام]

الكتاب السادس كتاب الصيام

(الكتاب السادس: كتاب الصيام)

كتاب الصيام

(6 - كتاب الصيام) (1 - أحكام الصيام) (الفصل الأول: وجوب صوم رمضان) ( [صيام رمضان ركن من أركان الدين] :) (يجب صيام رمضان) وهو ركن من أركان الدين، وضروري من ضرورياته. ( [يجب صوم رمضان برؤية الهلال من عدل أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما] :) (لرؤية هلاله من عدل) : لصيامه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر أنه رآه، أخرجه أبو داود، والدارمي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -. وصححه أيضا ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه (¬1) . ¬

_ (¬1) • حديث صحيح. (ن)

وأخرج أهل " السنن "، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم من حديث ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان -، فقال: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ "، قال: نعم، قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ "، قال: نعم، قال: " يا بلال! أذن في الناس؛ فليصوموا غدا " (¬1) . وأخرج الدارقطني، والطبراني من طريق طاوس، قال: شهدت المدينة؛ وبها ابن عمر وابن عباس، فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته؟ فأمراه أن يجيزه، وقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة الرجلين. قال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر الأيلي؛ وهو ضعيف. وقد ذهب إلى العمل بشهادة الواحد: ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، والشافعي في أحد قوليه. قال النووي: وهو الأصح. وذهب مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري إلى أنه يعتبر اثنان، ¬

_ (¬1) • هذا الحديث صححه جماعة، وأعله الترمذي والنسائي بالإرسال؛ وهو الصواب، كما بينته في الفصل الثالث من " التعليقات الجياد " (ج 3) . وله شاهد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه المحاملي في (الثاني من الرابع) من " الأمالي " (ق 41 / 2) ، وسنده حسن بل صحيح؛ فقد أخرجه من طريقين، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن الرجل. (ن)

واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وفيه: " فإن شهد شاهدان مسلمان؛ فصوموا وأفطروا "، أخرجه أحمد، والنسائي. وفي حديث أمير مكة الحارث بن حاطب، قال: عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية؛ فإن لم نره وشهد شاهدا عدل؛ نسكنا بشهادتهما "؛ أخرجه أبو داود، والدارقطني، وقال: هذا الإسناد متصل صحيح. وغاية ما في الحديثين: أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد، ولكن أحاديث قبول الواحد أرجح من هذا المفهوم، وقد حققه الماتن - رحمه الله - في كتابه " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال ". ويؤيد وجوب العمل بخبر الواحد: الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد على العموم؛ إلا ما خصه دليل، فمحل النزاع مندرج تحت العموم بعد التنصيص عليه بما في حديث الأعرابي، وبما في حديث ابن عمر. وأما التأويل باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل قبل شهادة ابن عمر؛ فلو كان مجرد هذا الاحتمال قادحا في الاستدلال؛ لم يبق دليل شرعي إلا وأمكن دفعه بمثل هذا التأويل الباطل. في " المسوى ": اختلفوا في هلال رمضان: فقيل: يثبت بشهادة الواحد، وعليه أبو حنيفة، وقيل: لا بد من عدلين، وعليه مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين؛ أظهرهما الأول، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة.

يصام رمضان ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال

وقال أبو حنيفة في الصحو: لا بد من جمع كثير. وفي " العالمكيرية ": إذا رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده؛ لا يصام به ولا يفطر، وهو من الليلة المستقبلة. وفي " الأنوار ": وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة ". (أو إكمال عدة شعبان) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم؛ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وفي " الحجة البالغة ": لما كان وقت الصوم مضبوطا بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال، وهو تارة ثلاثون يوما، وتارة تسع وعشرون: وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل، وأيضا مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق والمحاسبات النجومية، بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ". انتهى. ( [يصام رمضان ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال] :) (ويصوم ثلاثين يوما ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها) : وجهه ما ورد من الأدلة الصحيحة أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين يوما، كحديث أبي هريرة المذكور، ومثله في " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر، ومن حديث ابن

عباس عند أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه -، ومن حديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والدارقطني بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأحاديث؛ وفيها التصريح بإكمال العدة ثلاثين يوما؛ في بعضها عدة شعبان، وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين. قال في " الحجة ": " قوله - صلى الله عليه وسلم -: " شهرا عيد لا ينقصان؛ رمضان وذو الحجة " (¬1) قيل: لا ينقصان معا، وقيل: لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة وعشرين، وهذا الآخر أقعد بقواعد التشريع، كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك ". انتهى. أقول: يمكن أن يقال: إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصص بالشهرين المذكورين، وما ورد في خصوص شهر رمضان، مما يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين؛ فيمكن أن يقال فيه: إن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يوما. قال بعض المحققين: التكليف الشهري علق معرفة وقته برؤية الهلال دخولا وخروجا، أو إكمال العدة ثلاثين يوما، فهل في الأكوان أوضح من هذا البيان؟ ! والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة. انتهى. أقول: إن الرؤية التي اعتبرها الشارع في قوله: " صوموا لرؤيته " هي ¬

_ (¬1) هذا لفظ الترمذي، ورواه البخاري بلفظ: " شهران لا ينقصان - شهرا عيد -: رمضان، وذو الحجة "؛ انظر " فتح الباري " (جزء 4 ص 87 - 89) . (ش)

اختلاف مذاهب العلماء في المطلع

الرؤية الليلية لا الرؤية النهارية، فليست بمعتبرة، سواء كانت قبل الزوال أو بعده، ومن زعم خلاف هذا؛ فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل. واحتجاج من احتج برؤية الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رأوه بالأمس باطل، كاحتجاج من احتج على وجوب الإتمام بقوله - تعالى -: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} ، وكلا الدليلين لا دلالة لهما على محل النزاع: أما الأول: فإنهم إنما أخبروا عن الرؤية في الوقت المعتبر، وذلك مرادهم بلفظ: أمس، كما لا يخفى على عالم. وأما الثاني: فالمراد به وجوب إتمام الصيام إلى الوقت الذي يسوغ فيه الإفطار؛ تعيينا لوقته الذي لا يكون صوما بدونه. والحاصل: أن المجادلة عن هذا القول الفاسد - وهو الاعتداد برؤية الهلال نهارا - يأباه الإنصاف. وإن قال المتحذلق: إن الاعتبار بالرؤية؛ وقد وقعت؛ لحديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته "، والاعتبار بعموم اللفظ، ونحو ذلك من المجادلات التي لا يجهل صاحبها أنه غالط أو مغالط، ولو كان هذا صحيحا لوجب الإفطار عند كل رؤية للهلال في أي وقت من أوقات الشهر، وهو باطل بالضرورة الدينية. ( [اختلاف مذاهب العلماء في المطلع] :) (وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة) : وجهه الأحاديث المصرحة

وجوب تبييت النية قبل الفجر في صوم الفرض

بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان؛ كان ذلك رؤية لجميعهم. وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره: أنه استهل عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة، فأخبر بذلك ابن عباس، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وله ألفاظ -: فغير صحيح؛ لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه، ظنا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل؛ وهذا خطأ في الاستدلال، أوقع الناس في الخبط والخلط، حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب. وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سماها " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال ". قال في " المسوى ": " لا خلاف في أن رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر. والأقوى - عند الشافعي -: يلزم حكم البلد القريب دون البعيد. وعند أبي حنيفة: يلزم مطلقا ". ( [وجوب تبييت النية قبل الفجر في صوم الفرض] :) (وعلى الصائم النية قبل الفجر) : لحديث حفصة، عن النبي -

صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن حبان - وصححاه -، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفا، فالرفع زيادة يتعين قبولها، على ما ذهب إليه أهل الأصول، وبعض أهل الحديث. وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، وخالفهم آخرون، واستدلوا بما لا تقوم به الحجة (¬1) . أما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائما أن يتم صومه في يوم عاشوراء؛ فغاية ما فيه: أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار؛ كان ذلك عذرا له عن التبييت (¬2) . وأما حديث: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ذات يوم، فقال: " هل عندكم من شيء؟ "، فقالوا: لا، فقال: " فإني إذن صائم ": فذلك في صوم التطوع. قال في " المسوى ": قال الشافعي: يشترط للفرض التبييت، ويصح النفل بنيته قبل الزوال. وقال أبو حنيفة: يكفي في الفرض والنفل أن ينوي قبل نصف النهار، ولا بد في القضاء والكفارات من التبييت. أقول: وأما أنه يجب تجديد النية لكل يوم؛ فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشيء، أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر، ولا ريب أن من ¬

_ (¬1) • وانظر تفصيل ذلك في " التعليقات " (4 / 32 - 34) . (ن) (¬2) أمر صلى الله عليه وسلم في عاشوراء من أصبح صائما أن يتم صومه، ومن أصبح مفطرا أن يمسك بقية يومه، وهذا حديث خاص بعاشوراء، ثم نسخ وجوب صومه؛ فلا يستدل به على ما قاله الشارح. (ش)

فصل مبطلات الصوم

قام في وقت السحر، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به، في غير أيام الصوم؛ فقد حصل له القصد المعتبر؛ لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضرورة، إذا لم يكن ثم عذر مانع عن الأكل والشرب غير الصوم، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد؛ إلا إذا كان مجنونا أو ساهيا أو نائما، كمن ينام يوما كاملا. وإذا تقرر هذا؛ فمجرد القصد إلى السحور قائم مقام تبييت النية عند من اعتبر التبييت، ومجرد الإمساك عن المفطرات وكف النفس عنها في جميع النهار يقوم أيضا مقام النية عند من لم يعتبر التبييت، ومن قال: إنه يجب في النية زيادة على هذا المقدار؛ فليأت بالبرهان؛ فإن مفهوم النية لغة وشرعا لا يدل على غير ما ذكرناه، وهكذا سائر العبادات؛ فإن مجرد قصدها كاف من غير احتياج إلى زيادة على ذلك. مثلا؛ يكفي في نية الوضوء مجرد دخول المكان المعتاد لذلك، والاشتغال بغسل الأعضاء المخصوصة على الصفة المشروعة، وكذلك في الصلاة؛ يكفي الدخول في المحل الذي تقام فيه، والتأهب لها، والشروع فيها على الصفة المشروعة، فإن القصد والإرادة لازمان لهذه الأفعال؛ لعدم صدور مثل ذلك من العقلاء؛ لمجرد اللعب والعبث. (2 - فصل مبطلات الصوم) ( [يبطل الصوم بالأكل والشرب عمدا] :) (يبطل بالأكل والشرب) عمدا، لا خلاف في ذلك، وأما مع النسيان؛

يبطل الصوم بالجماع عمدا

فلا؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم، فأكل وشرب؛ فليتم صومه؛ فإنما الله أطعمه وسقاه ". وفي لفظ للدارقطني بإسناد صحيح: " فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه ". وفي لفظ آخر للدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم: " من أفطر يوما من رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة "؛ وإسناده صحيح أيضا؛ قاله الحافظ ابن حجر (¬1) . وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: " من أكل في شهر رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ". قال ابن حجر: وإسناده وإن كان ضعيفا؛ لكنه صالح للمتابعة، فأقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا، فيصلح للاحتجاج به. انتهى. وقد ذهب إلى العمل بهذا: الجمهور، وهو الحق، ومن قابل هذه السنة بالرأي الفاسد؛ فرأيه رد عليه، مضروب في وجهه. ( [يبطل الصوم بالجماع عمدا] :) (و) هكذا (الجماع) ؛ لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد، ¬

_ (¬1) • في " بلوغ المرام "، وسبقه إلى ذلك غيره. وتردد النووي بين تصحيحه وتحسينه، والحق أنه حسن الإسناد، والأول صحيحه؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 26) . (ن)

يبطل الصوم بالقيء عمدا

وأما إذا وقع مع النسيان؛ فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيا، وتمسك بقوله في الرواية الأخرى " من أفطر يوما من رمضان ناسيا؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة "، وبعضهم منع من الإلحاق. أقول: إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف، وقد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله {قال: " وما أهلكك؟} "، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأمره بالكفارة. وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: " وصم يوما مكانه "؛ وهذه الزيادة مروية من أربع طرق، ويقوي بعضها بعضا. ويدل على تحريم الوطء للصائم واجبا: مفهوم قوله - سبحانه - {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} . ( [يبطل الصوم بالقيء عمدا] :) (والقيء عمداً) : لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ذرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا؛ فليقض "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم - وصححه -. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام؛ وفيه نظر؛ فإن ابن مسعود، وعكرمة، وربيعة قالوا: إنه لا يفسد الصوم، سواء كان غالبا أو مستخرجا؛ ما لم يرجع منه شيء باختياره، واستدلوا بحديث:

يحرم الوصال

" ثلاث لا يفطّرن: القيء، والحجامة (¬1) ، والاحتلام "، أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف. وعلى فرض صلاحيته للاستدلال؛ فلا يعارض حديث أبي هريرة؛ لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد. أقول: حديث أبي هريرة المتقدم هو في عدة من كتب الحديث، وله طرق مختلفة ينتهض معها للاستدلال (¬2) ، وفيه الفرق بين المتعمد للقيء وغير المتعمد، ولا يعارض هذا حديث أبي سعيد المتقدم؛ لأنه عام مخصص بحديث الفرق بين المتعمد وغير المتعمد، فيكون معناه: أن القيء إذا وقع من غير اختيار الصائم بل ذرعه؛ كان غير مفطر، وهذا الجمع لا بد منه. ويؤيده حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر (¬3) ؛ فإن بعض الحفاظ فسره بأنه استقاء، والمراد بالاستقاء؛ تعمد القيء؛ كما صرح به أهل العلم. ( [يحرم الوصال] :) (ويحرم الوصال) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ كما في حديث أبي هريرة، وابن عمر، وعائشة؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. ¬

_ (¬1) • هذا الذي استقر عليه الشرع، وإن كان قد صح: " أفطر الحاجم والمحجوم ": فإنه منسوخ؛ كما بينته في " التعليقات " (4 / 33 - 34) . (ن) (¬2) • قلت: لا سيما وأن أحدها صحيح على شرط الشيخين؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 27) . (ن) (¬3) • صححه غير واحد، لكن في سنده اختلاف أشار إليه الحافظ وغيره، كما ذكرنا في " التعليقات " (4 / 28) . (ن) قلت: وجزم الشيخ - أخيرا - بصحته في " تمام المنة " (ص 111) ، و " الإرواء " (تحت حديث 111) .

كفارة من أفطر عمدا

وفي الباب أحاديث. ( [كفارة من أفطر عمدا] :) (وعلى من أفطر عمدا كفارة ككفارة الظهار) : لحديث المجامع في رمضان؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " هل تجد ما تعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال: " فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ "، قال: لا، ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: " تصدق بهذا "، قال: فهل على أفقر منا؟ ! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، وقال: " اذهب فأطعمه أهلك "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، وعائشة. وقد قيل: إن الكفارة لا تجب على من أفطر عامدا بأي سبب، بل بالجماع فقط، ولكن الرجل إنما جامع امرأته؛ فليس في الجماع في نهار رمضان إلا ما في الأكل والشرب؛ لكون الجميع حلالا لم يحرم إلا لعارض الصوم. وقد وقع في رواية من هذا الحديث: أن رجلا أفطر؛ ولم يذكر الجماع (¬1) . ¬

_ (¬1) إذا صح الحديث؛ فهو مجمل، وقد بينته الروايات الأخرى: أنه أفطر بالجماع. ثم إن قياس الأكل والشرب على الجماع غير صحيح، والقياس في العبادات باطل أصلا، وليس للقائلين بوجوب الكفارة على المفطر بغير الجماع دليل صحيح، والأصل عدم الوجوب إلا بدليل. فالحق أن الكفارة لا تجب إلا على من أفطر بالجماع فقط؛ كما ذهب إليه الشافعي وغيره من أهل العلم. (ش)

تعجيل الفطر وتأخير السحور مندوب

أقول: إذا ورد ما يدل على وجوب مثل كفارة الظهار، وورد ما يدل على أنه يجزئ أقل منها،؛ كان ورود الأقل رخصة لمن لا يجد مثل كفارة الظهار، وهذا ظاهر لا لبس فيه. ( [تعجيل الفطر وتأخير السحور مندوب] :) (ويُندب تعجيل الفطر وتأخير السحور) : لحديث سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وعن أبي ذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال أمتي بخير؛ ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر " (¬1) ؛ أخرجه أحمد، وفي إسناده سليمان بن عثمان، قال أبو حاتم: مجهول. وقد ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث زيد بن ثابت: أنه كان بين تسحره صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة؛ قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. وفي الباب أحاديث كثيرة. (3 - قضاء الصوم:) ( [من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء] :) (يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي) كالمسافر والمريض، وقد ¬

_ (¬1) • يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا - معشر الأنبياء - أُمرنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة "؛ رواه ابن حبان، والضياء بسند صحيح. (ن)

الفطر للمسافر رخصة

صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} . وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة؛ وقد تقدم ذكره؛ والنفساء مثلها. ( [الفطر للمسافر رخصة] :) (والفطر للمسافر ونحوه رخصة؛ إلا أن يخشى التلف، أو الضعف عن القتال؛ فعزيمة) ، الأحاديث في ذلك كثيرة: منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "؛ لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر؛ وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب؛ فإنه عند أبي داود، والحاكم - وصححه -: أنه قال: ربما صادفني هذا الشهر - يعني: رمضان -: وأما حديث: أنه قيل له صلى الله عليه وسلم: إن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفاره، فقال: " أولئك العصاة ": فذاك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أمرهم بالإفطار في ذلك اليوم بخصوصه، فسماهم عصاة؛ لمخالفة أمره، لا لمجرد الصوم في السفر. وأما حديث: " ليس من البر الصيام في السفر " - وهو متفق عليه -: ففي

رواية زادها النسائي في هذا الحديث: " عليكم برخص الله التي رخص لكم؛ فاقبلوا " (¬1) ؛ فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزيمة، وهو المطلوب. وأما ما روي بلفظ: " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ": فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف، ولا حجة في ذلك. وفي " الصحيحين " من حديث أنس: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم وغيره (¬2) عن حمزة بن عمرو الأسلمي: أنه قال: يا رسول الله {أجد مني قوة على الصوم، فهل علي جناح؟ فقال: هي رخصة من الله - تعالى -، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم؛ فلا جناح عليه ". وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا؟} "، فقالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ". وأخرج مسلم (¬3) ، وأحمد، وأبو داود من حديث أبي سعيد، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم "، فكانت رخصة؛ فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: " إنكم ¬

_ (¬1) هذه الزيادة رواها أيضا الشافعي، وقال ابن القطان: " إسنادها حسن متصل ". (ش) (¬2) • انظر " التعليقات الجياد " (4 / 16) . (ن) (¬3) • انظر تخريجه منا في " التعليقات الجياد " (4 / 14) . (ن)

من مات وعليه صوم صام عنه وليه

مصبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم؛ فأفطروا "، فكانت عزيمة، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر. وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر: الجمهور. وروي عن بعض الظاهرية - وهو محكي عن أبي هريرة -: أن الفطر في السفر واجب، وأن الصوم لا يجزئ. والمراد ب (نحو المسافر) : الحبلى والمرضع؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي - من حديث أنس بن مالك الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله - عز وجل - وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم ". ( [من مات وعليه صوم صام عنه وليه] :) (ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "؛ وقد زاد البزار لفظ: " إن شاء ". قال في " مجمع الزوائد ": " وإسناده حسن " (¬1) . وبه قال أصحاب الحديث، وبعض الشافعية، وأبو ثور، والأوزاعي، ¬

_ (¬1) • قلت: وليس كذلك؛ لأنه تفرد بها ابن لهيعة - كما في " الفتح " (4 / 157) -، وقد صرح بضعفها في " التلخيص "، فقال (6 / 457) : " وهي ضعيفة؛ لأنها من طريق ابن لهيعة ". وقوله: " صام "؛ خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم، وهو للوجوب عند بعض أهل الظاهر - خلافا للجمهور -، وإلى ذلك ذهب الشارح - رحمه الله -. (ن)

وأحمد بن حنبل. قال البيهقي في " الخلافيات ": " هذه السنة ثابتة، لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها ". وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه. وقال في " الحجة ": ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه " وقوله فيه أيضا: " فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا "؛ إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئا. قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (¬1) : " وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليه "، فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقالت: يصام عنه النذر والفرض. وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يصام عنه نذر ولا فرض. وفصلت طائفة، فقالت: يصام النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه، والإمام أحمد وأصحابه؛ وهو الصحيح؛ لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة؛ فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يسلم أحد عن أحد؛ فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه، ولا يزكي عنه؛ إلا إذا كان معذورا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر ¬

_ (¬1) (3 / 554) . (ن)

يكفر الكبير العاجز عن الأداء والقضاء

في رمضان لعذر، فأما المفطر من غير عذر أصلا (¬1) ؛ فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله - تعالى - التي فرّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي، فلا ينفع توبة أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض الله - تعالى - التي فرط فيها حتى مات، والله - تعالى - أعلم. أقول: الظاهر - والله أعلم - أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم، سواء أوصى أو لم يوص، كما هو مدلول الحديث، ومن زعم خلاف ذلك؛ فليأت بحجة تدفعه (¬2) . ( [يكفّر الكبير العاجز عن الأداء والقضاء] :) (والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين) : لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في " الصحيحين " وغيرهما، قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وأخرج هذا الحديث أحمد، وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم؛ وزاد: ¬

_ (¬1) • فإذا كان المفطر لعذر شرعي - كمرض -؛ أفلا يصوم عنه وليه؟ الظاهر من كلام ابن القيم أنه يصوم؛ وهو الأقرب إلى عموم الحديث، والله أعلم. (ن) قلت: وانظر في تفصيل المسألة - هذه وغيرها - كلام شيخنا في " تمام المنة " (ص 427 - 428) ، و " أحكام الجنائز " (ص 213 - 216 - المعارف) . (¬2) سياق الأحاديث الواردة في الصيام عن الميت؛ يدل على إباحة ذلك للولي برا بالميت، لا وجوبا على الولي. ويقوي هذا الظاهر رواية البزار التي ذكرها الشارح، وفيها زيادة: " إن شاء "، ولم يرد في شيء من السنة ما يدل على الوجوب، فمن ادعاه طولب بالدليل؛ لأن الأصل براءة الذمة، وأن المكلف غير ملزم بأداء ما ثبت في ذمة غيره إلا بدليل صريح، والله أعلم. (ش)

ثم أنزل الله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. وأخرج البخاري عن ابن عباس، أنه قال: ليست هذه الآية منسوخة: هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. وأخرج أبو داود، عن ابن عباس، أنه قال: أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا؛ ويطعما كل يوم مسكينا. وأخرج الدارقطني، والحاكم - وصححاه - عن ابن عباس، أنه قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليه. وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن، مع ما فيه من الإشعار بالرفع؛ فكان ذلك دليلا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم. أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك؛ لأن قوله - تعالى -: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ؛ إن كانت منسوخة - كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم: أنها كانت في أول الإسلام، فكان من أراد أن يفطر يفتدي؛ حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله - تعالى - {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، ومثل ذلك روي عن معاذ ابن جبل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، ومثله عن ابن عمر؛ أخرجه البخاري -:

فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف. وإن كانت محكمة - كما رواه أبو داود عن ابن عباس -: فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقا غير معذور، ووجوب الفدية عليه، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون. وأما قول ابن عباس المتقدم: فكلام غير مناسب لمعنى الآية؛ لأنها في المطيقين، لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أُثبتت للحبلى والمرضع، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما. فعلى كل حال؛ ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه، وهو محل النزاع، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله، ولا في سنة رسوله: فليس في غيرهما أيضا ما يدل على ذلك، فالحق عدم وجوب الإطعام، وقد ذهب إليه جماعة من السلف؛ منهم: مالك، وأبو ثور، وداود. وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان - وعليه رمضان أو بعضه، ولم يقضه -؛ لأنه لم يثبت في ذلك شيء صح رفعه، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم، وليس بحجة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدا من عباده، والبراءة الأصلية مستصحبة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، وقد ذهب إلى هذا النخعي؛ وأبو حنيفة، وأصحابه. وأما التفريق في قضاء رمضان: فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قضاء رمضان؟ فقال:

" إن شاء فرقه، وإن شاء تابعه "؛ وفي إسناده سفيان بن بشر؛ وقد ضعفه بعضهم. وقال ابن الجوزي: ما علمنا أحدا طعن فيه، ثم صحح الحديث. ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير: قوله - تعالى -: {فعدة من أيام أخر} ؛ وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعا ومتفرقا؛ لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة، والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف. وأما ما يروى من أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان عليه صوم من رمضان فليسرده، ولا يقطعه " - كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة -: ففي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، وقد ضعفه جماعة من الأئمة؛ وقال البيهقي: لا يصح، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن. وأما ابن القطان فقال: لم يأت من ضعفه بحجة (¬1) . انتهى. ولكنه - مع ذلك - لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية، فضلا عما عضدها. ¬

_ (¬1) قال ابن القطان: " والحديث حسن ". وقال ابن حجر: " قد صرح ابن أبي حاتم عن أبيه؛ أنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن "؛ نقله الشوكاني (جزء 4 ص 317 في " نيل الأوطار ") . وعبد الرحمن هذا؛ قال أحمد: " ليس به بأس ". قال الذهبي: " ومن مناكيره: عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: " من كان عليه صوم رمضان؛ فليسرده ولا يقطعه "؛ أخرجه الدارقطني " اه. (ش)

باب صوم التطوع

(2 - باب صوم التطوع) (الفصل الأول: ما يستحب صيامه) (1 -[صيام ستة أيام من شوال] :) (يستحب صيام ست من شوال) : لحديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال؛ فذاك صيام الدهر "، أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي أيوب. وفي الباب أحاديث. قال في " الحجة البالغة ": " والسر في مشروعيتها: أنها بمنزلة السنن الرواتب في الصلاة، تكمل فائدتها بالنسبة إلى أمزجة لم تتام فائدتها بهم، وإنما خص في بيان الفضيلة التشبه بصوم الدهر؛ لأن من القواعد المقررة أن الحسنة بعشر أمثالها، وبهذه الستة يتم الحساب ". انتهى. أقول: ظاهر الحديث أنه يكفي صيام ست من شوال، سواء كانت من أوله، أو من أوسطه، أو من آخره، ولا يشترط أن تكون متصلة به لا فاصل بينها وبين رمضان؛ إلا يوم الفطر، وإن كان ذلك هو الأولى؛ لأن الاتباع - وإن صدق على جميع الصور -؛ فصدقه على الصورة التي لم يفصل فيها بين رمضان وبين الست إلا يوم الفطر الذي لا يصح صومه؛ لا شك أنه أولى.

صيام تسع ذي الحجة

وأما أنه لا يحصل الأجر إلا لمن فعل كذلك فلا؛ لأن من صام ستا من آخر شوال؛ فقد أتبع رمضان بصيام ست من شوال بلا شك، وذلك هو المطلوب. (2 -[صيام تسع ذي الحجة] :) (وتسع ذي الحجة) : لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث حفصة عند أحمد، والنسائي، قالت: أربع لم يكن يدعهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر. وأخرجه أبو داود بلفظ: كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل كل شهر، وأول اثنين من الشهر والخميس (¬1) . وقد أخرج مسلم عن عائشة، أنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائما في العشر قط. وفي رواية: لم يصم العشر قط. وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم. وآكد التسع يوم عرفة. ¬

_ (¬1) • هذا لفظ أبي داود، وأخرجه النسائي بلفظ: ثم الخميس، ثم الخميس؛ مرتين، وإسناده صحيح. وقد وقع في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلاف، بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 38) ؛ ورجحت فيه ما علقته هنا من رواية النسائي. (ن)

صيام شهر المحرم

وقد ثبت في " صحيح مسلم " وغيره من حديث أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوم يوم عرفة يكفّر سنتين؛ ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفّر سنة ماضية ". (3 -[صيام شهر المحرم] :) (و) أما صيام شهر (محرم) : فلحديث أبي هريرة عند مسلم، وأحمد، وأهل " السنن ": أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ فقال: " شهر الله المحرم ". وآكده يوم عاشوراء؛ لما ورد فيه من الأحاديث الثابتة في " الصحيحين "، وغيرهما عن جماعة من الصحابة: أنه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، ثم قال: " هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر؛ وقد تقدم أنه يكفر سنة ماضية. وثبت في " مسلم " (¬1) ، وغيره: أنه لما أمر بصيامه؛ قالوا: يا رسول الله! إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: " إذا كان العام المقبل - إن شاء الله -؛ صمنا التاسع "، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وعليه أهل العلم، واستحب أكثرهم أن يصوم التاسع والعاشر. وفي " العالمكيرية ": ويكره صوم يوم عاشوراء مفردا. انتهى. وفي الباب أحاديث أخرى أوردها الشيخ عبد الحق الحنفي الدهلوي في ¬

_ (¬1) • (3 / 150) . (ن)

صيام شهر شعبان

" ما ثبت من السنة في أيام السنة ". أقول: أما شهر المحرم؛ فلا ريب أنه قد خصه دليل صحيح ناطق؛ بأنه أفضل الصيام المتطوع به، ولم يعارضه في هذه الأفضلية إلا ما قيل في صوم يوم عرفة، وقد ذكر الجمع الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ". (4 -[صيام شهر شعبان] :) (وشعبان) : لحديث أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان؛ يصل به رمضان "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي (¬1) -. وفي " الصحيحين " من حديث عائشة: ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان؛ كان يصومه إلا قليلا؛ بل كان يصومه كله. وفي لفظ: وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. (5 -[صيام الاثنين والخميس] :) (والاثنين والخميس) : لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس؛ أخرجه أحمد، والترمذي - وصححه -، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان - وصححه -. وأخرج نحوه أبو داود من حديث أسامة بن زيد. ¬

_ (¬1) • (2 / 51) ، قلت: وسنده صحيح على شرطهما. (ن)

صيام أيام البيض

وأخرجه أيضا النسائي، وفي إسناده مجهول؛ مع أنه قد صححه ابن خزيمة. وأخرج أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعرض الأعمال كل اثنين وخميس، فأحب أن يُعرض عملي؛ وأنا صائم ". وفي " صحيح مسلم ": أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وأنُزل علي فيه ". (6 -[صيام أيام البيض] :) (وأيام البيض) : لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله ". وأخرج أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان - وصححه - من حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صمت من الشهر ثلاثة؛ فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة ". وفي الباب أحاديث. قال في " الحجة البالغة ": " وقد اختلفت الرواية في اختيار تلك الأيام؛ فورد: " يا أبا ذر! ... " إلخ. وورد: كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء، والأربعاء، والخميس.

صوم يوم وإفطار يوم أفضل التطوع

وورد: من غرة كل شهر ثلاثة أيام. وورد: أنه أمر أم سلمة بثلاثة أولها الاثنين والخميس. ولكل وجه ". انتهى. (7 -[صوم يوم وإفطار يوم أفضل التطوع] :) (وأفضل التطوع؛ صوم يوم وإفطار يوم) : لحديث عبد الله بن عمرو في " الصحيحين " وغيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صم في كل شهر ثلاثة أيام "، قلت: فإني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني، حتى قال: " صم يوما، وأفطر يوما؛ فإنه أفضل الصيام، وهو صوم أخي داود - عليه السلام - ". قال في " الحجة البالغة ": " واختلفت سنن الأنبياء - عليهم السلام - في الصوم، فكان نوح - عليه السلام - يصوم الدهر، وكان داود - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يوما، وكان عيسى - عليه السلام - يصوم يوما ويفطر يومين أو أياما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ولم يكن يستكمل صيام شهر؛ إلا رمضان، وذلك أن الصيام ترياق، والترياق لا يستعمل إلا بقدر المرض، وكان قوم نوح - عليه السلام - شديدي الأمزجة، حتى روي عنهم ما روي، وكان داود - عليه السلام - ذا قوة ورزانة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " وكان لا يفر إذا لاقى "، وكان عيسى - عليه السلام - ضعيفا في بدنه، فارغا لا أهل له ولا مال، فاختار كل واحد ما يناسب الحال، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم عارفا بفوائد الصوم والإفطار، مطلعا على مزاجه وما يناسبه، فاختار بحسب مصلحة الوقت ما شاء ".

الفصل الثاني ما يكره صومه

( [الفصل الثاني: ما يكره صومه] ) (1 -[صوم الدهر] :) (ويُكره صوم الدهر) : لحديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صام من صام الأبد "؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما. وأخرج أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، والبيهقي، وابن أبي شيبة من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من صام الدهر؛ ضُيقت عليه جهنم هكذا "؛ وقبض كفه. ولفظ ابن حبان: " ضُيقت عليه جهنم هكذا "؛ وعقد تسعين (¬1) ؛ ورجاله رجال الصحيح. وهذه الأحاديث من أعظم الأدلة الدالة على أن صوم الدهر مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نزّل صوم صائم الدهر منزلة العدم في الحديث الأول؛ وفي رواية: " لا صام من صام الدهر ولا أفطر "؛ والحديث صحيح. ويؤيده ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم لابن عمرو لما أراد أن يصوم الدهر، وقال له: " لا تفعل "، وقال لما بلغه عن المتكلفين في العبادة، أنهم سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم؟ فاستقلوها، فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أقوم ولا أنام، وقال الثالث: لا أنكح النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما أنا: فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني ". ¬

_ (¬1) • انظر تخريجه في " التعليقات " (4 / 36 - 37) . (ن)

إفراد يوم الجمعة

وأما تقريره صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو، قال له: يا رسول الله! إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: " إن شئت " - كما أخرجه الشيخان وغيرهما -: فليس فيه دليل على صوم الدهر؛ لأن السرد يصدق بصوم أيام متتابعة، وإن كانت بعض سنة، فضلا عن أكثر منها. ومن جملة الوعيد لمن صام الدهر: حديث أبي موسى المتقدم، وهذا وعيد شديد، ومن زعم أنه ترغيب في صوم الدهر؛ فلم يصب (¬1) . (2 -[إفراد يوم الجمعة] :) (وإفراد يوم الجمعة) : لحديث جابر في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم الجمعة. وفي رواية: أن يفرد بصوم. وفي الصحيحين " من حديث أبي هريرة: " لا تصوموا يوم الجمعة؛ إلا وقبله يوم أو بعده يوم ". وفي لفظ لمسلم: " ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم ". وفي الباب أحاديث. قال الشافعي: يكره إفراد الجمعة. وفي " العالمكيرية ": يستحب صوم يوم الجمعة بانفراده. ¬

_ (¬1) • وقد بينت وجه ذلك في " التعليقات " (4 / 37) . (ن)

إفراد يوم السبت

أقول: الأحاديث واردة بالنهي عنه، وحقيقة النهي التحريم؛ إذا لم يصم يوما قبله ولا يوما بعده. وما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يصومه؛ لا يصلح لجعله قرينة صارفة؛ لوجهين: الأول: أنه لم ينقل أنه كان يصومه منفردا؛ بل الظاهر أنه كان يصومه على غير الصفة التي نهانا عنها. الثاني: أن فعله لا يعارض قوله الخاص بالأمة؛ كما تقرر في الأصول، وعلى فرض عدم الاختصاص لقوله بالأمة بل شموله له ولهم: فهو مخصص له من العموم، وذلك لا يصلح قرينة صارفة للنهي عن معناه الحقيقي. (3 -[إفراد يوم السبت] :) (ويوم السبت) : لحديث الصماء بنت بسر عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وصححه ابن السكن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصوموا يوم السبت؛ إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر؛ فليمضغه ". ( [الفصل الثالث: ما يحرم صومه] ) (1 -[صوم العيدين] :) (ويحرم صوم العيدين) : لحديث أبي سعيد في " الصحيحين "، وغيرهما،

صوم أيام التشريق

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر. وقد أجمع المسلمون على ذلك. (2 -[صوم أيام التشريق] :) (وأيام التشريق) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصوم فيها، كما ثبت ذلك من طريق جماعة من الصحابة. وقد سرد أحاديثه الماتن في " شرح المنتقى ". (3 -[استقبال رمضان بيوم أو يومين] :) (واستقبال رمضان بيوم أو يومين) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما؛ فليصمه ". ويؤيده حديث أبي هريرة أيضا عند أصحاب " السنن " - وصححه ابن حبان، وغيره (¬1) - مرفوعا بلفظ: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ". وفي الباب أحاديث. والخلاف طويل مبسوط في المطولات. أقول: وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصحابة إلى الآن، ¬

_ (¬1) • وهو الحق، وإن كان منكرا عند أحمد، وابن معين؛ فإن سنده صحيح على شرط مسلم، كما ذكرته في " التعليقات " (4 / 35) . (ن)

وقد صارت مركزا من المراكز التي يتغالى الناس في أمرها إثباتا ونفيا، ولم يحتج أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه. وأما ما احتجوا به من العمومات الدالة على مشروعية مطلق الصوم واستحبابه: فنحن نقول بموجبها، ونقول: هي مخصصة بأحاديث أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم لرؤية الهلال، والإفطار لرؤيته، أو إكمال العدة كما صح في جميع دواوين الإسلام، وبأحاديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وهو في " الصحيح "؛ بل ورد النهي عن صوم النصف الأخير من شعبان. وقال عمار: من صام يوم الشك؛ فقد عصى أبا القاسم؛ وهو صحيح. بل قال ابن عبد البر: لا يختلفون في رفعه. ولعل مراده أن له حكم الرفع، لا أن القائل له هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصص قط. ومن نظر إلى ما يقع من عوام المسلمين - بل ومن بعض خواصهم في هذه الأعصار من التجاري على الصوم والإفطار بمجرد الشكوك والخيالات، التي هي عن الشريعة بمعزل -: قضى العجب، وبكى على الدين، وانتظر القيامة.

باب الاعتكاف

(3 - باب الاعتكاف) ( [مشروعية الاعتكاف] :) (يشرع) : لا خلاف في مشروعية الاعتكاف، وقد كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة. ( [يصح الاعتكاف في كل وقت في المساجد] :) (ويصح في كل وقت في المساجد) : لأنه ورد الترغيب فيه، ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين. وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: " فأوف بنذرك ". وأما كونه لا يكون إلا في المساجد؛ فلأن ذلك هو معنى الاعتكاف شرعا؛ إذ لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفا شرعا. وقد ورد ما يدل على ذلك؛ كحديث: " لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة "؛ أخرجه ابن أبي شيبة (¬1) ، وسعيد بن منصور من حديث حذيفة. ¬

_ (¬1) • عزوه لابن أبي شيبة خطأ، كما يتبين من مراجعة " نيل الأوطار " (4 / 269 - المطبعة العثمانية) . ثم إن في الاستدلال به على ما أورده المؤلف نظرا؛ لأن لفظه كما في المصدر المذكور: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة - أو قال: في مسجد جماعة - "؛ فهذا الشك مما يضعف الاحتجاج، كما قال الشوكاني فيه. (ن)

أفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

قال في " المسوى ": " الاعتكاف جائز في كل مسجد، فإن لم يكن المسجد جامعا: فالخروج للجمعة واجب عليه، فإذا خرج يبطل اعتكافه عند الشافعي، فيحتاج إلى نية جديدة لما يستقبله إن كان تطوعا، ولا يبطل عند أبي حنيفة كما لو خرج لقضاء الحاجة ". أقول: لا ريب أن مسمى الاعتكاف الشرعي لا يحصل إلا إذا كان في المسجد، ولهذا لم تختلف الأمة في اعتبار ذلك؛ إلا ما يروى عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي؛ فإنه أجازه في كل مكان. وإنما اختلفوا هل يجزىء الاعتكاف في كل مسجد؟ أم في الثلاثة المساجد فقط؟ أم في المسجد الحرام فقط؟ والظاهر أنه يجزىء في كل مسجد؛ قال - تعالى -: {وأنتم عاكفون في المساجد} ؛ ولا حجة في قول عائشة، ولا في قول حذيفة (¬1) في هذا الباب. ( [أفضل الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان] :) (وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه) : أفضل وآكد؛ لكونه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها؛ ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر، ولا على اشتراط الصيام؛ إلا من قول عائشة. وحديث نذر عمر - المتقدم - يرده. ¬

_ (¬1) قول عائشة سيأتي في الكلام على خروج المعتكف؛ وهو حديث صحيح مرفوع حكما. وقول حذيفة سبق قريبا، وهو حديث مرفوع أيضا. (ش)

وكذلك حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على المعتكف صيام؛ إلا أن يجعله على نفسه " (¬1) ، أخرجه الدارقطني، والحاكم، وقال: " صحيح الإسناد "، ورجح الدارقطني، والبيهقي وقفه. وبالجملة: فلا حجة إلا في الثابت من قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم، بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر. وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعا من حديث: " ولا اعتكاف إلا بصوم ". ورواه غيره من قولها، ورجح ذلك الحفاظ. أقول: اعلم أن كون الشيء شرطا لشيء آخر، أو ركنا له أو فرضا من فروضه: لا يثبت إلا بدليل؛ لأنه حكم شرعي أو وضعي، ولم يأت ما يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم، بل ثبت الترغيب منه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف؛ ولم ينقل إلينا أنه اعتبر ذلك، ولو كان معتبرا؛ لبينه للأمة. وأما اعتكافه صلى الله عليه وسلم في صومه: فلا يستلزم أن يكون الاعتكاف كذلك؛ لأنه أمر اتفاقي، ولو كان ذلك معتبرا؛ لكان اعتكافه في مسجده معتبرا؛ فلا يصح من أحد الاعتكاف في غيره، وأنه باطل. وأما قول عائشة المتقدم: فظاهر هذا السياق أن لفظ: " ولا اعتكاف إلا بصوم "؛ ليس من بيان السنة المذكورة في أول كلامها، بل ابتداء كلام منها، فقد أخرجه النسائي؛ ولم يذكر فيه قولها: من السنة. ¬

_ (¬1) هو حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع " (4896) .

وكذلك أخرجه أيضا من حديث مالك؛ وليس فيه ذلك. وقال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: من السنة. وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها: لا يخرج، وما عداه ممن دونها. وكذلك رجح ذلك البيهقي (¬1) ؛ كما ذكره ابن كثير في " إرشاده ". ومما يؤيد هذا: حديث: " من اعتكف فواق ناقة "، وكذلك حديث: " ليس على المعتكف صيام "؛ وفيهما مقال أوضحه الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى ". وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، أنه اعتكف عشرا من شوال، ولم ينقل عنه أنه صامها، بل روي (¬2) عنه أنه اعتكف العشر الأول من شوال، ولا يخفى أن يوم الفطر من جملتها، وليس بيوم صوم. فالحق عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف لما تقدم، ولما ثبت: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال: " أوف بنذرك "؛ وهو متفق عليه. وفي رواية لمسلم: " يوما " مكان: " ليلة ". وما في " الصحيحين " أرجح مما في أحدهما؛ إذا لم يمكن الجمع. ¬

_ (¬1) • وتبعه الحافظ في " بلوغ المرام "، كما ذكرته في " التعليقات " (4 / 43) . (ن) (¬2) • قوله: " روي " تساهل من المؤلف - رحمه الله -؛ لأن هذه الرواية في " صحيح مسلم " (3 / 175) ، وفي " البيهقي " (4 / 315) و " أبي داود " (1 / 386) . (ن)

استحباب الاجتهاد في العمل في العشر الأواخر من رمضان

وقد جمع ابن حبان، وغيره بأنه نذر اعتكاف ليلة ويوم. وفي رواية أبي داود، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " اعتكف وصم "؛ ولكن في إسناده عبد الله بن بديل، وهو ضعيف، وقد ذكر ابن عدي، والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار. وقال الحافظ في " الفتح ": إن رواية من روى: " يوما " شاذة. وإذا عرفت ما تقدم من عدم انتهاض ما احتجوا به على شرطية الصوم؛ فالحق الحقيق بالقبول: أن الاعتكاف يكون ساعة فما فوقها. بل حديث: " من اعتكف فواق ناقة "؛ يدل على أنه يكون أقله لحظة مختطفة، وهذا الحديث - وإن لم يكن صالحا للاحتجاج به -: فالأصل عدم التقدير بوقت معين، والدليل على مدعي ذلك. ثم كون اليوم الكامل شرطا للصوم لا يستلزم أن يكون شرطا للاعتكاف؛ لأنه يمكن الاعتكاف بعض اليوم مع الصوم لكل اليوم، فاليوم شرط الصوم لا شرط الاعتكاف؛ على تسليم أن الصوم شرط. ( [استحباب الاجتهاد في العمل في العشر الأواخر من رمضان] :) (ويستحب الاجتهاد في العمل فيها) : لحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله، وأيقظ أهله، وشد المئزر؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما.

مشروعية قيام ليالي القدر

( [مشروعية قيام ليالي القدر] :) (وقيام ليالي القدر) : لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ". وفي تعيين ليلة القدر أحاديث مختلفة، وأقوال جاوزت الأربعين؛ ذكرتها في " مسك الختام شرح بلوغ المرام " بالفارسية؛ وقد استوفاها الماتن في " نيل الأوطار ". وفي " حاشية الشفاء " للماتن: " أقول: في تعيينها مذاهب يطول تعدادها، وقد بسطتها في " شرح المنتقى "، فكانت سبعة وأربعين قولا، وذكرت أدلتها، وبينت راجحها من مرجوحها، ورجحت أنها في أوتار العشر الأواخر؛ لما ذكرته هنالك ". انتهى. قال في " الحجة البالغة ": إن ليلة القدر ليلتان: إحداهما: ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، وفيها نزل القرآن جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك نجما نجما، وهي ليلة في السنة، ولا يجب أن تكون في رمضان، نعم؛ رمضان مظنة غالبة لها، واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن. والثانية: يكون فيها نوع من انتشار الروحانية، ومجيء الملائكة إلى الأرض، فيتفق المسلمون فيها على الطاعات، فتتعاكس أنوارهم فيما بينهم،

ويتقرب منهم الملائكة، ويتباعد منهم الشياطين، ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر، تتقدم وتتأخر فيها، ولا تخرج منها، فمن قصد الأولى قال: هي في كل سنة، ومن قصد الثانية قال: هي في العشر الأواخر من رمضان (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها؛ فليتحرها في السبع الأواخر "، وقال: " أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين "، فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين. واختلاف الصحابة فيها مبني على اختلافهم في وجدانها. ومن أدعية من وجدها: " اللهم {إنك عفو تحب العفو؛ فاعف عني ". وفي " المسوى ": " اختلفوا في [أي] ليلة هي أرجى؟ والأقوى أنها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدم وتتأخر. وقول أبي سعيد: إنها ليلة إحدى وعشرين. وقال المزني، وابن خزيمة: إنها تنتقل كل سنة ليلة؛ جمعا بين الأخبار. قال في " الروضة ": وهو قوي. ومذهب الشافعي أنها لا تلزم ليلة بعينها. ¬

_ (¬1) هذا خيال غريب من صاحب " الحجة البالغة "، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وما أظن أحدا قاله قبله، والعبرة في هذه الأمور بالنقل؛ لا بالتخيل والأوهام} (ش)

لا يخرج المعتكف إلا لحاجة

وفي " المنهاج ": وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والثالث والعشرين. وعن أبي حنيفة: أنها في رمضان، لا يدرى أية ليلة هي؟ وقد تتقدم وتتأخر. وعندهما كذلك؛ إلا أنها متعينة لا تتقدم ولا تتأخر ". ( [لا يخرج المعتكف إلا لحاجة] :) (ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة) : لما ثبت من حديث عائشة في " الصحيحين "، عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان؛ إذا كان معتكفا. وأخرج أبو داود، عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه؛ وفي إسناده ليث بن أبي سليم. قال الحافظ: والصحيح عن عائشة من فعلها؛ أخرجه مسلم وغيره، وقال: صح ذلك عن علي. وأخرج أبو داود عن عائشة أيضا، قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة؛ إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. وأخرجه أيضا النسائي؛ وليس فيه: قالت: السنة.

قال أبو داود: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: قالت: السنة. وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها: لا يخرج، وما عداه ممن دونها (¬1) . قال في " المسوى ": اتفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول، ولا يفسد به اعتكافه، ولا يخرج للأكل والشرب، ويجوز غسل الرأس، وترجيل الشعر، وما في معناه. وأكثرهم على أنه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض، وصلاة الجنازة؛ إلا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارا. وإن شرط في اعتكافه الخروج لشيء من هذا؛ جاز له أن يخرج عند الشافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة؛ كذا في " شرح السنة ". ¬

_ (¬1) سبق أن نقل كلام أبي داود والدارقطني؛ فلا داعي لتكراره. وانفراد عبد الرحمن بن إسحاق بزيادة قول عائشة: السنة؛ لا يضر؛ فإنه ثقة تقبل زيادته، ومثل هذا؛ حكمه أن يكون مرفوعا عند أهل العلم بالحديث. (ش)

الكتاب السابع كتاب الحج

(الكتاب السابع: كتاب الحج)

كتاب الحج

(7 - كتاب الحج) (1 - باب: أحكام الحج) (الفصل الأول: وجوب الحج) ( [تعريف الحج] :) أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى قوله - تعالى -: {ولله على الناس حج البيت} : قصد البيت، والقصد لا إجمال فيه، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني مناسككم "؛ فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله، والأمر يفيد الوجوب، فتكون المناسك التي بينها - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ولا يخرج عن الوجوب منها؛ إلا ما خصه دليل. ( [لا دليل على اختلال الحج باختلال بعض المناسك إلا الوقوف بعرفة] :) وأما كونه لا يصح الحج إلا بفعل جميع المناسك، أو يختل باختلال بعضها: فلا دليل على ذلك؛ لأن الذي يؤثر عدمه في العدم، هو الشرط لا الواجب، وليس في أدلة مناسك الحج ما يفيد تأثير عدمه في عدم الحج؛ إلا الوقوف بعرفة، ولا ريب أنه نسك من مناسك الحج يختص بمزية لا توجد في غيره من المناسك؛ لحديث: " الحج عرفة، من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ".

أخرجه أحمد، وأصحاب " السنن "، والحاكم، والبيهقي، وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن نعيم الدؤلي. وأخرج من تقدم ذكره من حديث عروة بن مضرس: " من صلى معنا هذه الصلاة - يعني: صلاة يوم النحر -، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه ". وصحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ؛ كالحاكم، والدارقطني، وابن العربي (¬1) . وفي رواية من حديث عبد الرحمن المذكور: " من جاء عرفة قبل أن يطلع الفجر؛ فقد أدرك الحج ". وفي رواية لأبي نعيم: " ومن لم يدرك جمعا؛ فلا حج له ". فهذه الروايات تدل على أن الوقوف بعرفة ركن من الأركان التي لا يتم الحج بدونها. وههنا بحث؛ وهو أن الاستدلال ببعض أفعاله على الوجوب، وبعضها على الندب تحكم، وكذلك القول بأن بعضها نسك، وبعضها غير نسك، والظاهر أن جميع أفعاله الصادرة عنه في حجته مناسك؛ لأنه لم يبين لنا أن النسك هو هذا الفعل دون هذا، ولكن لا بد أن تكون الأفعال مقصودة لذاتها؛ كالإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي، ورمي الجمار، لا ما كان غير مقصود لذاته، كالمبيت بمنى ليالي الرمي، أو كان بسبب غير الحج؛ كجمع الصلاتين في مزدلفة، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) • انظر تخريجه في " التعليقات " (4 / 144) . (ن)

دليل وجوب الحج على المكلف المستطيع فورا

وقد زعم الجلال في " ضوء النهار " أن من زعم أن حجه صلى الله عليه وسلم مجمل بين بفعله فقد أسرف في الجهل، قال: " لأن اسم الحج ومسماه ظاهران "، ثم قال: " إن تلك التي فعلها صلى الله عليه وسلم إنما هي أفعال، وهي لا تدل على الوجوب، حتى يعلم أنه فعلها على وجه الوجوب، وإلا فالظاهر القربة فقط، وهي لا تستلزم الوجوب ولا الشرطية ". انتهى. ولعله لم يخطر بباله - حال تحرير هذا البحث - حديث: " خذوا عني مناسككم "، وهو حديث صحيح في " مسلم " وغيره، ولا ريب أنه يفيد وجوب مناسك الحج كما قدمنا. ( [دليل وجوب الحج على المكلف المستطيع فورا] :) (يجب على كل مكلف مستطيع) : لنص الكتاب العزيز: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ؛ وعليه إجماع الأمة؛ قالوا: الحج فريضة محكمة يكفر جاحدها، وقالوا: الحر المكلف القادر، إذا وجد الزاد والراحلة وأمن الطريق؛ يلزمه الحج؛ كذا في " المسوى ". أقول: حديث تفسيره صلى الله عليه وسلم للسبيل بالزاد والراحلة فيه مقال، ولكنه قد روي من طريق جماعة من الصحابة، وفي جميع الطرق علل، لا تمنع تقوية بعضها لبعض، ويشد من عضدها حديث: " من وجد زادا وراحلة "؛ وهو مروي من طريق ثلاثة من الصحابة، وفي جميعها مقال. فالحاصل: أن مجموع ما ورد في تفسير السبيل بالزاد والراحلة، وترتيب الوجوب عليها؛ ينتهض للاحتجاج به على ذلك، فلا وجوب على من لم يجد الراحلة، كما أنه لا وجوب على من لم يجد الزاد، ولا وجه لقصر

السبيل على الزاد والراحلة، بل السلامة من المرض والأمن هما من السبيل، وكذلك المحرم للمرأة؛ لدلالة الدليل على ذلك. ثم التحقيق: أن الشروط تنقسم إلى قسمين: شرط يتعلق بالفاعل، وشرط يتعلق بالفعل: فالأول: يتوقف عليه تعلق الخطاب به. والثاني: يتوقف عليه كونه مطلوبا من فاعله. والأول - أيضا - هو الذي يقال له: شرط الإيجاب، وشرط الطلب. والثاني: هو الذي يقال له: شرط الواجب، وشرط المطلوب. وإيضاح هذا: أن التكليف والإسلام والحرية؛ شروط متعلقة بالفاعل، والزاد، والراحلة، والأمن، والمحرم؛ شروط متعلقة بالفعل، فجعل بعض شروط الفعل للوجوب، وبعضها للأداء؛ غير موافق لعقل ولا نقل، وأنت خبير بأن المرأة منهية عن السفر بدون محرم، كما ثبت النهي عن ذلك في " الصحيح "، ولم يثبت النهي عن الحج لمن لم يجد الراحلة مثلا، بل كان الإيجاب متعلقا بوجودها، وهذا يقتضي أن تحصيل المحرم أهم من تحصيل الراحلة؛ لأن السفر بدون محرم حرام، كما يقتضيه النهي بحقيقته، وكما يقتضيه لفظ: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام - أو يوما، أو ليلة، أو بريدا - بدون محرم "؛ على اختلاف الروايات. ولم يرد ما يدل على تحريم السفر بدون الراحلة، فإيجاب الوصية بالحج على من ماتت ولها زاد وراحلة وليس لها محرم، دون من ماتت ولها زاد

ومحرم وليس لها راحلة: ليس بمناسب؛ فإن فاقدة المحرم لم تستطع إلى الحج سبيلا؛ كفاقدة الراحلة وزيادة. ومعنى كون الشيء شرطا لتأدية شيء آخر: أن التأدية بدونه لا تصح، وهذا يعود إلى شرط الصحة، وهم لا يريدون هذا، بل معنى شرط الأداء عندهم: أن يكون المكلف قد كملت له شروط الصحة والوجوب، ولم يبق إلا التأدية؛ وهي مشروطة بشرط، وهذا اصطلاح قليل الثمرة، غاية ما فيه؛ أن من مات وقد كملت له شروط الصحة والوجوب، ولم يبق إلا شرط الأداء؛ وجب عليه الإيصاء بالحج، وقد تقدم ما هو الحق في ذلك. (فوراً) : لحديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له "؛ أخرجه أحمد. وأخرج أحمد - أيضا -، وابن ماجه من حديث ابن عباس، عن الفضل - أو أحدهما عن الآخر - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة "؛ وفي إسناده إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل، وهو صدوق ضعيف الحفظ. وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وسعيد بن منصور، والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا: " من لم يحبسه مرض، أو حاجة ظاهرة، أو مشقة ظاهرة، أو سلطان جائر، فلم يحج؛ فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا "؛ وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وشريك، وفيهما ضعف. وأخرجه الترمذي من حديث علي مرفوعا: " من ملك زادا وراحلة تبلغه

إلى بيت الله ولم يحج؛ فلا عليه أن يموت نصرانيا، أو يهوديا؛ وذلك لأن الله - تعالى - قال في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ". قال الترمذي: غريب، وفي إسناده مقال والحديث يضعف، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول. وقال العقيلي: لا يتابع عليه. وقد روي من طريق ثالثة من حديث أبي هريرة عند ابن عدي بنحوه. وروى سعيد بن منصور في " سننه " عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين؛ وأخرجه أيضا البيهقي. وقد ذهب إلى القول بالفور: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد: إنه على التراخي. قال في " حجة الله البالغة " - تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من ملك زادا وراحلة ... " الخ -: " أقول: ترك ركن من أركان الإسلام يشبه بالخروج عن الملة، وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني، وتارك الصلاة بالمشرك؛ لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون، ومشركو العرب يحجون ولا يصلون.

دليل وجوب العمرة

والمصلحة المرعية في الحج إعلاء كلمة الله، وموافقة سنة إبراهيم - عليه السلام -، وتذكر نعمة الله عليه ". انتهى. ( [دليل وجوب العمرة] :) وفي بعض نسخ المتن: (وكذلك العمرة؛ وما زاد فهو نافلة) ، وفي حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ". قلت: الحج المبرور: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم. ( [من منكرات الحج تضييع الصلاة] :) وفي " تنبيه الغافلين " للشيخ محيي الدين بن إبراهيم النحاس؛ في ذكر منكرات الحجاج: " وأعظمها فتنة، وأجلها مصيبة، وأكثرها وجودا وبلية: هو تضييع أكثرهم الصلاة في الحج، وكثير منهم لا يتركونها؛ بل يضيعون أوقاتها، ويجمعونها على غير الوجه الشرعي، وذلك حرام بالإجماع، ومن تحقق أن ذلك نصيبه في حجه؛ حرم عليه الحج، رجلا كان أو امرأة. قال ابن الحاج: وقد قال علماؤنا في المكلف: إذا علم أنه تفوته الصلاة الواحدة إذا خرج إلى الحج؛ فقد سقط الحج عنه.

الفصل الثاني وجوب تعيين نوع الحج بالنية

وقد سئل (¬1) مالك في الذي يركب البحر ولا يجد موضعا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه (¬2) : أيجوز له الحج؟ فقال - رحمه الله -: أيركب حيث لا يصلي؟ {ويل لمن ترك الصلاة} ويل له { وأما النساء؛ فلا يمكن إحداهن الصلاة في وقتها المشروع إلا في النادر الذي لا حكم له، وسبب هذا المنكر العظيم أمراء الحاج وتهاونهم في الإنكار، وخوف المصلي من فوات الرفقة، ومشقة اللحوق بهم، فالواجب على الأمراء أن يقفوا بالحج في أوقات الصلاة إذا دخلت عليهم وهم مسافرون، ويتفقدوا من لم يصل من الجمّالين وغيرهم، ويشددوا عليهم في أمر الصلاة، ويمنعوا من يتقدم منهم قبل الصلاة، فإن لم يفعلوا؛ كان إثم من ترك الصلاة كذلك في أعناقهم، ومن تركها تهاونا وكسلا ولم يعلموا به؛ فإثمه في عنق نفسه، وحكمه مذكور في كتب الفقه ". انتهى حاصله (¬3) . (الفصل الثاني: وجوب تعيين نوع الحج بالنية) ( [تعيين نوع الحج بالنية واجب] :) ¬

_ (¬1) • بحثت عنه في مظانه من " الموطإ " و " المدونة "؛ فلم أقف عليه. (ن) (¬2) • فيه إشارة إلى أن صلاة من سجد على ظهر أخيه - ولو لزحام - غير صحيحة عند مالك، وهو مذهبه؛ ففي " المدونة " (1 / 147) : " وقال مالك: إن زحمه الناس فلم يستطع السجود إلا على ظهر أخيه؛ أعاد الصلاة، قيل له: أفي الوقت وبعد الوقت؟ قال: يعيد ولو بعد الوقت ". (ن) (¬3) في هذا الكلام شيء من الخلط؛ فإن تارك الصلاة آثم بلا خلاف، ولكن. . هل هذا يسقط عنه الحج؟ وهل تمسكهم بكلمة مالك التي ذكرها الشارح له وجه؟ إن مالكا ينعى على [من] ركب حيث لا يصلي، وهو تعليم منه - رحمه الله -، وإرشاد إلى أن الواجب على المسلم أن يتحرى في ركوبه وحله وترحاله إمكان تأدية الصلاة، ولم يرد - قط - بهذا أن فريضة الحج تسقط حينئذ؛ أعاذه الله من سوء الفهم} (ش)

(ويجب تعيين نوع الحج بالنية) : لأن المناسك - على ما استفاض من الصحابة، والتابعين، وسائر المسلمين - أربعة: حج مفرد، وعمرة مفردة، وتمتع، وقران: (من تمتع) : وهو أن يحرم الآفاقي بالعمرة في أشهر الحج، فيدخل مكة ويتم عمرته ويخرج من إحرامه، ثم يبقى حلالا حتى يحج، وعليه أن يذبح ما استيسر من الهدي. (أو قران) : وهو أن يحرم الآفاقي بالحج والعمرة معا، ثم يدخل مكة ويبقى على إحرامه حتى يفرغ من أفعال الحج، وعليه أن يطوف طوافا واحدا، ويسعى سعيا واحدا - في قول -، وطوافين وسعيين، ثم يذبح ما استيسر من الهدي، فإذا أراد أن ينفر من مكة؛ طاف للوداع. (أو إفراد) ؛ أي: حج مفرد أو عمرة مفردة، فالحج لحاضر مكة أن يحرم منها، ويجتنب في الإحرام الجماع ودواعيه، والحلق، وتقليم الأظفار، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، والتطيب، والصيد، ويجتنب النكاح على قول، ثم يخرج إلى عرفات، ويكون فيها عشية عرفة، ثم يرجع منها بعد غروب الشمس، ويبيت بمزدلفة، ويدفع منها قبل شروق الشمس، فيأتي منى، ويرمي العقبة الكبرى، ويهدي إن كان معه، ويحلق أو يقصر، ثم يطوف للإفاضة في أيام منى، ويسعى بين الصفا والمروة. وللآفاقي أن يحرم من ميقات. فإن دخل مكة قبل الوقوف؛ طاف للقدوم ورمل فيه، وسعى بين الصفا والمروة، ثم بقي على إحرامه حتى يقوم بعرفة، ويرمي ويحلق، ويطوف، ولا رمل ولا سعي حينئذ.

والعمرة: أن يحرم من الحل، فإن كان آفاقيا فمن الميقات، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر. وبالجملة: فتعيين نوع الحج بالنية؛ لما تقدم في الوضوء. وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل "، قالت: وأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وأهلّ به ناس معه، وأهلّ معه ناس بالعمرة والحج، وأهلّ ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة. وفي " البخاري " من حديث جابر: أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته. وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر، قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة -. وقد وقع الخلاف في المحل الذي أهل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب اختلاف الرواة؛ فمنهم من روى أنه أهل من المسجد، ومنهم من روى أنه أهلّ حين استقلت به راحلته، ومنهم من روى أنه أهلّ لما علا شرف البيداء، وقد جمع بين ذلك ابن عباس، فقال: إنه أهلّ في جميع هذه المواضع، فنقل كل راو ما سمع. قال في " الحجة البالغة ": " وبين ابن عباس أن الناس كانوا أتوه أرسالا، فأخبر كل واحد بما رآه ".

التمتع أفضل أنواع الحج

( [التمتع أفضل أنواع الحج] :) (والأول) ؛ أي: التمتع (أفضلها) ؛ أي: الأنواع الثلاثة. واعلم أن هذه المسألة قد طال فيها النزاع، واضطربت فيها الأقوال، فمنهم من قال بأن أفضل الأنواع القران؛ لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على ما هو الصحيح، وإن كان قد ورد ما يدل على أنه حج إفرادا، لكن الأحاديث الصحيحة الثابتة في " الصحيحين " وغيرهما من طرق عديدة؛ مصرحة بأنه أهل بحج وعمرة، فلو لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن غير ما فعله أفضل مما فعله؛ لكان القران أفضل الأنواع، لكنه ورد ما يدل على ذلك. ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس! أحلوا؛ فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم "، قال: فأحللنا، حتى وطئنا النساء، وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر؛ أهللنا بالحج. وثبت مثل ذلك في حديث جماعة من الصحابة بألفاظ: منها: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سُقت الهدي، ولجعلتها عمرة ". وقد ذهب إلى هذا جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ كمالك وأحمد، وهو الحق؛ لأنه لم يعارض هذه الأدلة معارض، وقد أوضح فيها صلى الله عليه وسلم أن نوع التمتع أفضل من النوع الذي فعله، وهو القران. وقد أوضح الماتن حجج الأقوال، وما احتج به كل فريق في " شرح المنتقى "، والعبد الضعيف في " شرح بلوغ المرام "، وكذلك أوضح الماتن فيه؛

توضيح ما يتعلق بحج الرسول صلى الله عليه وسلم

أن حجه - صلى الله عليه وسلم - كان قرانا. أقول: قد روى الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا من الصحابة. وأما قول أبي ذر؛ فليس بحجة على أحد؛ لأنه رأي صحابي فيما للاجتهاد فيه مسرح. والحاصل: أن هذا البحث يطول الكلام عليه جدا، فمن رام العثور على الصواب؛ فعليه ب " شرح المنتقى "، أو ب " الهدي النبوي " للحافظ ابن القيم - رحمه الله -. قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " أفتى صلى الله عليه وسلم بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتما، ولم ينسخه شيء بعده، وهو الذي ندين الله به؛ أن القول بوجوبه أقوى وأصح من القول بالمنع منه. وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: " من لم يكن أهدى؛ فليهل بعمرة، ومن أهدى؛ فليهل بحج ثم مع عمرة ". وأما ما فعله هو: فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضع وعشرين رواية عن ستة وعشرين نفسا من أصحابه، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله؛ كأنه رأي عين؛ وبالله التوفيق ". ( [توضيح ما يتعلق بحج الرسول صلى الله عليه وسلم] :) فإن قيل: كيف وقع اختلاف بين الصحابة - رضي الله تعالى

عنهم - في صفة حجته صلى الله عليه وسلم؛ وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قصة واحدة؟ قلت: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث؛ فمن مجد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر. قال: وأوسعهم في ذلك نفسا؛ أبو جعفر الطحاوي الحنفي، فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة، وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم. قال القاضي عياض: وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم، واخترناه من اختياراتهم، مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة؛ ليدل على جواز جميعها، ولو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ، فأضيف الجميع إليه، وأخبر كل واحد بما أمره به، وأباحه له، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما لأمره وإما لتأويله عليه. انتهى. أقول: إنما ذكر المختلفون في أفضل الأنواع نوع حجته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يقولون: إن النوع الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لنفسه لا يكون إلا فاضلا، ولا سيما والتلبية كانت عن وحي من الله - عز وجل -؛ كما في حديث: أنه نزل جبريل فقال: " قل: لبيك بحجة وعمرة ".

وقد اختلف في نوع حجته صلى الله عليه وسلم، والحق أنه قران كما قرر الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، ولكنه قال بعد ذلك: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "، يعني: كما فعل أصحابه صلى الله عليه وسلم عن أمره، وهذا الحديث متفق على صحته كما تقدم، فدل على أن التمتع أفضل من القران بلا ريب. ولا اعتبار بقول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك تطييبا لقلوب أصحابه؛ حيث حجوا تمتعا لعدم الهدي؛ لأن المقام مقام تشريع، لا مقام جبر خواطر، وتطييب قلوب، فالحق أن التمتع أفضل. وأما أنه متعين لا يجوز غيره - كما رجحه ابن القيم - رحمه الله -، وأطال الكلام في تقريره -؛ فلا (¬1) . قال في " التكميل ": " اختلفوا في نسك النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان مفردا للحج، أو قارنا، أو متمتعا سائق الهدي؟ ووجه التطبيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جمع الناس، وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة؛ كان لا ينوي إلا الحج، فلما بات بذي الحليفة في العقيق؛ أُمر بالقران، فقال: " لبيك بحجة وعمرة "، فلما دخل مكة، وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وعرف أنه في آخر عمره ولا يعيش إلى قابل؛ أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه، فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة، وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما سقت الهدي، وأحللت مع الناس كما حلوا "، فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة، وقارنا بحسب تلبيته من ¬

_ (¬1) • التمتع أفضل فقط؛ ولا يتعين. (ن) قلت: ويُنظر كتاب " حجة النبي صلى الله عليه وسلم " (ص 10 - 20) لشيخنا؛ لتحرير المسألة

العقيق؛ حيث أُمر: " صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة "، وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة، ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية، نعم؛ عُرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى، فكان قارنا حقيقة، مفردا في أول الأمر، متمتعا في آخره ". انتهى. قال في " المسوى ": " والتحقيق في هذه المسألة: أن الصحابة لم يختلفوا في حكاية ما شاهدوه من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أحرم من ذي الحليفة، وطاف أول ما قدم، وسعى بين الصفا المروة، ثم خرج يوم التروية إلى منى، ثم وقف بعرفات، ثم بات بمزدلفة، ووقف بالمشعر الحرام، ثم رجع إلى منى، ورمى، ونحر، وحلق، ثم طاف طواف الزيارة، ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة؛ وإنما اختلفوا في التعبير عما فعل باجتهادهم وآرائهم. فقال بعضهم: كان ذلك حجا مفردا، وكان الطواف الأول للقدوم، والسعي لأجل الحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه قصد الحج. وقال بعضهم: كان ذلك تمتعا بسوق الهدي، وكان الطواف الأول للعمرة، كأنهم سموا طواف القدوم والسعي بعده عمرة، وإن كان للحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنه كان متمتعا بسوق الهدي. وقال بعضهم: كان ذلك قرانا، والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين. وهذا الاختلاف سبيله سبيل الاختلاف في الاجتهاديات. أما أنه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة - سواء قيل بالتمتع أو القران -؛ فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة، بل ثبت عن جابر أنه لم يسع بعده ". انتهى.

قال النووي في " شرح صحيح مسلم ": " وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه؛ فأخذ بالأفضل، فأحرم مفردا للحج، وبه تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الروايات بأنه كان متمتعا؛ فمعناها: أمر به، وأما الروايات بأنه كان قارنا؛ فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه، بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم، وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية؛ إلا من كان معه هدي، وكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه هدي في آخر إحرامهم قارنين؛ يعني: أنهم أدخلوا العمرة على الحج؛ وفعل ذلك مواساة لأصحابه، وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج، لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج؛ ولم يمكنه التحلل معهم بسبب الهدي، واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره، وقد اتفق جمهور العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة، وشذ بعض الناس فمنعه ". انتهى. (ويكون الإحرام) ؛ وهو في الحج والعمرة بمنزلة التكبير في الصلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم، وضبط عزيمة الحج بفعل ظاهر، وفيه جعل النفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة، وأنواع التجمل، وفيه تحقيق معاناة التعب والتشعث والتغير لله. أقول: وليس في إيجاب الإحرام - على غير من دخل لأحد النسكين - دليل. أما الآية - أعني: قوله - تعالى -: {وإذا حللتم فاصطادوا} -؛ فإنها بيان لما حرمه عليهم من الصيد حال الإحرام، في قوله تعالى -: {إلا ما يتلى

الإحرام من المواقيت المكانية المحددة

عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} - وقد عُلم أنه لا إحرام إلا لأحد النسكين -، ثم أخبرهم بإباحة الصيد لهم إذا حلوا. وأما قول ابن عباس؛ فاجتهاد منه، وليس ذلك من الحجة في شيء، والمقام مقام اجتهاد، ولهذا خالفه ابن عمر، فجاوز الميقات غير محرم، كما روى ذلك عنه مالك في " الموطإ ". وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم، ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بإحرام، كقصة الحجاج بن علاط، وكذلك قصة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل الحج، فجاوز الميقات غير مريد للحج ولا للعمرة، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح يجب العمل به. وقد ذهب إلى جواز المجاوزة من غير إحرام - لغير الحاج والمعتمر - ابن عمر والشافعي في أخير قوليه. وأما إيجاب الدم على من جاوز - معللا ذلك بأنه ترك نسكا -: ففاسد؛ فإن الإحرام ليس بنسك لغير من أراد الحج أو العمرة، على أنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من ترك نسكا فعليه دم "؛ وإنما روي ذلك عن ابن عباس؛ كما في " الموطإ ". ( [الإحرام من المواقيت المكانية المحددة] :) (من المواقيت المعروفة) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما، قال: وقّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا

يحرم من كان دون المواقيت من مكانه

الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، قال: " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن؛ لمن كان يريد الحج والعمرة ". وفائدة التأقيت: المنع عن تأخير الإحرام، فلو قدم عليها جاز. أقول: قال قوم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت لأهل العراق ذات عرق، وإنما وقته عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قلت: قد ذهب إلى هذا طاوس، ورواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس، وإليه ذهب جماعة من الشافعية - كالغزالي والرافعي والنووي وغير هؤلاء -، ووجه ذلك؛ ما قاله ابن خزيمة وابن المنذر من أنه لم يصح أنه - صلى الله عليه وسلم - وقّت ذات عرق لأهل العراق في حديث صحيح. قال الحافظ في " الفتح ": " لعل من قال: إنه غير منصوص؛ لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق من طرقه لا تخلو عن مقال، لكن الحديث بمجموع طرقه يقوى ". انتهى. وقد ذكر الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى " من روى حديث توقيت ذات عرق لأهل العراق من الصحابة، ومجموع ما رووه لا يخرج عن حد الحسن لغيره، وهو مما تقوم به الحجة. ( [يحرم من كان دون المواقيت من مكانه] ) (ومن كان دونها فمهله) من (أهله) وكذلك (حتى أهل مكة) يهلون منها.

ومثله في " الصحيحين " أيضا من حديث ابن عمر. وفي رواية من حديثه لأحمد: أنه قاس الناس ذات عرق بقرن. وفي " البخاري " من حديثه: أن عمر قال لأهل البصرة والكوفة: انظروا حذو قرن من طريقكم، قال: فحد لهم ذات عرق. في " المسوى ": " وميقات المكي للحج جوف مكة، وللعمرة الحل. في " العالمكيرية ": والتنعيم أفضل. وفي المنهاج ": أفضل بقاع الحل الجعران (¬1) ، ثم التنعيم، ثم الحديبية ". وأما الغسل للإحرام: ففيه حديث خارجة بن زيد - حسنه الترمذي، وضعفه العقيلي -. وأما حديث جابر في ولادة أسماء وغسلها: فهو صحيح، ولكنه قد قيل: إن أمرها بذلك ليس للإحرام؛ بل لقذر النفاس، وكذلك أمره للحائض. وقد أخرج الحاكم، والبيهقي من حديث ابن عباس: أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل ولبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم أحرم بالحج؛ وفي إسناده يعقوب بن عطاء، وهو ضعيف. والحديث محتمل؛ فيمكن أن يكون الغسل للإحرام، ويمكن أن يكون ¬

_ (¬1) بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء - وقد تكسر العين وتشدد الراء -؛ وهو موضع قريب من مكة؛ قاله في " النهاية ". (ش)

لغيره، كإذهاب وعثاء السفر، أو التبرد أو نحوهما. ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من الناس أن يغتسل للإحرام؛ إلا ما وقع منه الأمر للحائض والنفساء دون غيرهما، فدل ذلك على أن اغتسالهما للقذر، ولو كان للإحرام؛ لكان غيرهما أولى بذلك منهما، فمع الاحتمال في فعله - وعدم صدور الأمر منه -؛ لا تثبت المشروعية أصلا. وأما إزالة التفث (¬1) قبل الإحرام: فلم يرد في هذا شيء يصلح لإثبات مثل هذا الحكم الشرعي؛ وهو الاستحباب. وأما ما قيل من أنه يقاس على تطييبه صلى الله عليه وسلم: فقياس فاسد، ولا سيما وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى ترك الشعر والبشر بعد رؤية هلال ذي الحجة لمن أراد أن يضحي؛ كما في " صحيح مسلم "، وسائر " السنن " من حديث أم سلمة؛ والحاج أولى بهذه السنة من غيره؛ لأنه في شغل شاغل عن ذلك. وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عمر: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من الحاج يا رسول الله؟ ! قال: " الشعث التفل (¬2) ". وقد كان ابن عمر إذا أفطر من رمضان وهو عازم على الحج في ذلك العام؛ لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا؛ حتى يحج كما في " الموطإ ". ¬

_ (¬1) بفتح التاء والفاء وآخره ثاء مثلثة: هو ما يفعله المحرم بالحج إذ حل؛ كقص الشارب والأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقا؛ قاله في " النهاية ". (ش) (¬2) • هو الذي ترك استعمال الطيب؛ من التفل؛ وهي الريح الكريهة. (ن)

الفصل الثالث فصل محظورات الإحرام

والحاصل: أن التساهل في الأحكام الشرعية بلا دليل - بل إثبات ما قام الدليل على خلافه -: ليس من دأب أهل الإنصاف. ( [الفصل الثالث: فصل محظورات الإحرام] ) (1 -[لباس المخيط] :) (ولا يلبس المحرم القميص) : الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك: أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة، والثاني ستر عورة، وترك الأول تواضع لله، وترك الثاني سوء أدب؛ كذا في " الحجة ". (ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس، ولا زعفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا تنتقب (¬1) المرأة، ولا تلبس القفازين، وما مسه الورس والزعفران) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم؟ فقال: " لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس (¬2) ، ولا زعفران، ولا الخفين؛ إلا أن لا يجد نعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ". قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم. ¬

_ (¬1) • وأما سدلها على وجهها فجائز، وهو غير التنقب، والتسوية بينهما خطأ؛ كما بينه ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 269) . (ن) (¬2) بفتح الواو وإسكان الراء وآخره سين: هو نبت أصفر؛ يصبغ به. (ش)

التطيب ابتداء

وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يجد نعلين؛ فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا؛ فليلبس سراويل ". وفي " الصحيحين " نحوه من حديث ابن عباس. وأخرج أحمد، والبخاري، والنسائي، والترمذي - وصححه - من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ". زاد أبو داود، والحاكم، والبيهقي: " وما مس الورس والزعفران من الثياب ". والقفاز - بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي -: ما تلبسه المرأة في يدها، فتغطي أصابعها وكفها عند معاناة شيء. (2 -[التطيب ابتداء] :) (ولا يتطيب ابتداء) ، ويجوز له أن يستمر على الطيب الذي كان على بدنه قبل الإحرام؛ فذلك هو الراجح؛ جمعا بين الأدلة. وقد أوضح الماتن ذلك في " شرح المنتقى "، و " حاشية الشفاء " وغيرهما. قال صاحب " سبل السلام " في " منسكه ": " ولما أراد الإحرام اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بذريرة وطيب فيه مسك في يديه ورأسه، حتى كان وبيص (¬1) المسك يُرى في مفارقه ولحيته صلى الله عليه وسلم، ثم استدامه ولم يغسله ". انتهى. ¬

_ (¬1) بفتح الواو وكسر الباء؛ وهو البريق. (ش)

الأخذ من الشعر والبشرة إلا لعذر

(3 -[الأخذ من الشعر والبشرة إلا لعذر] :) (ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر) : لحديث كعب بن عجرة في " الصحيحين " وغيرهما، قال: كان بي أذى من رأسي، فحُملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل بتناثر على وجهي، فقال: " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى! أتجد شاة؟ "، قلت: لا، فنزلت الآية {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} ، قال: " هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين - نصف صاع -؛ طعاما لكل مسكين ". وقد تقدم الكلام على إزالة التفث؛ فليراجع. (4 -[الجدال والرفث والفسق] :) (ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل) : لنص القرآن الكريم: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} ؛ وهذه الأمور لا تحل للحلال، ولكنها مع الإحرام أغلظ. وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من حج ولم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ". قال الحافظ المنذري: الرفث يطلق ويراد به الجماع، ويطلق ويراد به الفحشاء، ويطلق ويراد به خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق به الجماع. وقد نُقل [أن] معنى هذا الحديث كل واحد من هذه الثلاثة عن جماعة من العلماء.

قلت: فيحرم الجميع. وقال مالك: الرفث إصابة النساء، والله - تعالى - أعلم؛ قال الله - تعالى -: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} . والفسوق الذبح للأنصاب، والله - تعالى - أعلم؛ قال - تعالى: {أو فسقا أهل لغير الله به} . والجدال في الحج: أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح (¬1) ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، فكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب، ويقول هؤلاء: نحن أصوب، فقال الله - تعالى -: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} ؛ فهذا الجدال في الحج، فيما نُرى، والله - تعالى - أعلم. وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة: فإن كان الدليل (¬2) على هذا ¬

_ (¬1) بضم القاف وفتح الزاي: هو القرن الذي يقف عنده الإمام بالمزدلفة، ولا ينصرف - للعدل والعلمية؛ كعمر -؛ قاله في " النهاية ". (ش) (¬2) • قلت: قد نقل الحافظ في " الفتح " (4 / 42) الإجماع على إفساد الحج والعمرة بالجماع، وسبقه إلى ذلك ابن حزم في " مراتب الإجماع " (ص 42) ، وقيده بأن يكون ذاكرا؛ ما لم يقدم المعتمر مكة، ولم يأت وقت الوقوف بعرفة للحاج. ولم يتعقبه شيخ الإسلام بشيء؛ فالظاهر صحة هذا الإجماع، فإذا صح؛ فهو الدليل على الفاسد، والله أعلم. وذكر ابن تيمية في رسالة " الصيام " (ص 28) أنه لا يبطل بفعل شيء من المحظورات؛ لا ناسيا ولا مخطئا؛ لا الجماع ولا غيره؛ قال: " وهو أظهر قولي الشافعي ". (ن)

الفساد أقوال الصحابة؛ فمع كون الروايات عنهم إنما هي بطريق البلاغ - كما ذكره مالك في " الموطإ "، وليس ذلك بحجة لو كان في المرفوع فضلا عن الموقوف -: فقد عرفت غير مرة أن قول الصحابي ليس بحجة؛ إنما الحجة في إجماعهم عند من يقول بحجية الإجماع. وأما الاستدلال على ذلك بما أخرجه أبو داود في " المراسيل " بإسناد رجاله ثقات: أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " اقضيا نسككما، واهديا هديا ": فالمرسل لا حجة فيه على ما هو الحق (¬1) . وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} : فعلى تسليم أن الرفث هو الجماع؛ غاية ما يدل عليه المنع منه، لا أنه يفسد الحج، وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج؛ ولا قائل بذلك (¬2) . والمروي في هذا الحديث المرسل هو إيجاب الهدي عليهما، والهدي يصدق على الشاة والبقرة والبدنة، ولا وجه لإيجاب أشد ما يطلق عليه اسم الهدي. ولا حجة فيما رواه في " الموطإ " عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل واقع أهله وهو بمنى قبل أن يفيض؟ فأمره أن ينحر بدنة؛ ولا يصح تقييد المطلق به ولا تفسير المجمل. ¬

_ (¬1) انظر " المراسيل " (ص 148 - 149) لأبي داود، وتعليق محققه عليه. (¬2) • لعل مستنده في ذلك قول ابن حزم في " المراتب " (ص 43) : " واتفقوا أنه من جادل في الحج؛ أن حجه لا يبطل، ولا إحرامه "، ولكن ابن حزم - رحمه الله - خالف هذا الإجماع الذي نقله هو في كتابه " المحلى "، حيث قال فيه (7 / 196) : " والجدال بالباطل وفي الباطل؛ عمدا ذاكرا لإحرامه؛ مبطل لإحرامه وللحج؛ لقوله تعالى: {فلا رفث} الآية ". (ن)

النكاح والإنكاح

فالحاصل: أن البراءة الأصلية مستصحبة، ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تقوم به الحجة، وليس ههنا ما هو كذلك، فمن وطئ قبل الوقوف أو بعده، قبل الرمي أو قبل طواف الزيارة: فهو عاص يستحق العقوبة، وتغفر له بالتوبة، ولا يبطل حجه، ولا يلزمه شيء، ومن زعم غير هذا؛ فعليه الدليل المرضي، فليس بين أحد وبين الحق عداوة. ( [النكاح والإنكاح] :) (ولا ينكح ولا يُنكح ولا يخطب) : لحديث عثمان - الثابت في " مسلم " وغيره -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب " (¬1) . وفي الباب أحاديث. وأما ما في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم: فقد عارضه ما في " صحيح مسلم " وغيره من حديث ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. وما أخرجه أحمد، والترمذي - وحسنه (¬2) - من حديث أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا، وكان أبو رافع السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة. وهما أعرف بذلك. ¬

_ (¬1) هو من حديث ابن عباس. (ش) (¬2) • ورجاله رجال مسلم، وأخرجه ابن حبان في " صحيحيه "، كما ذكرت في " الروض النضير "، عند حديث ابن عباس رقم (467) . (ن)

قتل الصيد

وعلى فرض صحة خبر ابن عباس ومطابقته للواقع: فلا يعارض الأحاديث المصرحة بالنهي، بل يكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قرر الماتن في مؤلفاته: أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا خالف ما أمر الأمة به أو نهاهم عنه؛ يكون مختصا به. قال في " الحجة البالغة ": " اختار أهل الحجاز من الصحابة والتابعين والفقهاء أن السنة للمحرم أن لا ينكح ولا يُنكح، واختار أهل العراق أنه يجوز له ذلك، ولا يخفى عليك أن الأخذ بالاحتياط أفضل. وعلى الأول: السر فيه أن النكاح من الارتفاقات المطلوبة أكثر من الصيد، ولا يقاس الإنشاء على الإبقاء؛ لأن الفرح والطرب إنما يكون في الابتداء، ولذلك يضرب بالعروس المثل في هذا الباب دون البقاء ". انتهى. (6 -[قتل الصيد] :) (ولا يقتل صيدا) : فإن الله - تعالى - حرم على المحرم صيد البر ما دام حرما. والمراد من الصيد عند الشافعي: كل صيد مأكول بري، فذبح الأنعام ليس منه، وكذا ما ليس بمأكول، وكذا الصيد البحري (¬1) . وعند أبي حنيفة: غير المأكول قد يكون صيدا. ( [بيان جزاء قتل الصيد] :) (ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل) : لما ورد ¬

_ (¬1) • ونقل ابن حزم (ص 4) الإجماع على هذا: أن للمحرم أن يتصيد في البحر ما شاء من سمكه. (ن)

بذلك القرآن الكريم: {ومن قتله منكم متعمدا (¬1) فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} . أقول: ههنا أمران: أحدهما: اعتبار المماثلة، الثاني: حكم العدلين. وظاهره أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما؛ لأنه قال: {يحكم به} ؛ أي: بالمماثل. وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل؛ إلا لغلط أو طرو شبهة؛ بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف؛ والواقع بخلافه. ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف؛ لا يكون ذلك الحكم لازما للخلف، بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد. إذا تقرر لك هذا: فاعلم أن جعل الظبي مشبها بالشاة دون التيس؛ مخالف للمشاهد المحسوس؛ فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته، ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته، وكذلك الحمامة؛ فإنها لا تشبه الشاة في شيء من الأوصاف، وكذلك سائر الطيور ليس بمشابه للشاة في شيء. ¬

_ (¬1) • قال أبو عمر: فدخل فيه قتل الخطأ؛ قياسا عند الجمهور إلا من شذ؛ كذا في " إعلام الموقعين " (1 / 247) . (ن)

الأكل مما صيد لأجله

وإذا صح عن بعض السلف أنه حكم في شيء منها بشاة؛ فذلك غير لازم لنا؛ لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل، كما صرح به القرآن الكريم. (7 -[الأكل مما صيد لأجله] :) (ولا يأكل ما صاده غيره) : لحديث الصعب بن جثامة في " الصحيحين " وغيرهما: أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا (¬1) وهو بالأبواء أو بودان (¬2) ، فرده عليه، فلما رأى في وجهه؛ قال: " إنا لم نرده عليك؛ إلا أنا حرم ". وأخرج مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم. وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من صيده الذي صاده وهو حلال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم محرما، فأكل عضد حمار الوحش الذي صاده. وجمع بين حديث الصعب وحديث أبي قتادة المتفق عليه؛ بأنه صلى الله عليه وسلم إنما امتنع من أكل صيد الصعب لكونه صاده لأجله، وأكل من صيد أبي قتادة لكونه لم يصده لأجله، فلو كان صيد الحلال حراما على المحرم لما أكل منه صلى الله عليه وسلم، وقرر الصحابة على الأكل منه، فهذا يدل على جواز أكل المحرم لصيد الحلال. ¬

_ (¬1) • وكان مذبوحا؛ كما في بعض الروايات الصحيحة، وقد ذكرتها في " التعليقات الجياد " (4 / 81 - 82) . (ن) (¬2) الأبواء - بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة -: جبل. وودان - بفتح الواو وتشديد الدال وآخره نون -: موضع بقرب الجحفة. (ش)

جواز أكل صيد الحلال إذا لم يصده لأجل المحرم

ويدل على ذلك أيضا حديث جابر عند أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم؛ ما لم تصيدوه أو يُصد لكم "؛ وهذا الحديث وإن كان فيه مقال (¬1) ؛ فهو لا يقدح في انتهاضه للاستدلال، وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه. ( [جواز أكل صيد الحلال إذا لم يصده لأجل المحرم] :) (إلا إذا كان الصائد حلالا، ولم يصده لأجله) ، ولا بد من ضبط الصيد؛ فإن الإنسان قد يقتل ما يريد أكله، وقد يقتل ما لا يريد أكله، وإنما يريد به التمرن بالاصطياد، وقد يقتل ويريد أن يدفع شره عنه، أو عن أبناء جنسه، وقد يذبح بهيمة الأنعام. فأيها الصيد؟ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المحرّم منه ما صاده المحْرم أو صيد لأجله، وما لم يكن كذلك فإنه حلال، كما أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صيد البر حلال لكم؛ ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ". وفي لفظ: " أو يصد لكم ". فما ورد من الأحاديث في ذلك تحريما وتحليلا: حمل على ذلك التفصيل. ¬

_ (¬1) • وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ وقد وهما كما بينته في " التعليقات " (4 / 83) . (ن)

قطع شجر الحرم إلا الإذخر

(8 -[قطع شجر الحرم إلا الإذخر] :) (ولا يعضد (¬1) من شجر الحرم إلا الإذخر (¬2)) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرام؛ لا يعضد شجره، ولا يُختلى خلاه (¬3) ، ولا يُنفَّر صيده، ولا تُلتقط لقطته إلا لمعرّف "، قال العباس: إلا الإذخر؛ فإنه لا بد لهم منه؛ فإنه للقيون (¬4) والبيوت؟ فقال: " إلا الإذخر ". وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة. ( [يجوز للمحرم قتل الفواسق] :) (ويجوز له قتل الفواسق الخمس) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور. وفي " الصحيحين " أيضا من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الدواب؛ ليس في قتلهن جناح ". ¬

_ (¬1) بضم الياء وإسكان العين وفتح الضاد؛ أي: لا يقطع. (ش) (¬2) بكسر الهمزة وإسكان الذال وكسر الخاء: هو نبت معروف عند أهل مكة، طيب الرائحة، ينبت في السهل والحزن، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب، ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور. (ش) (¬3) الخلا - بفتح الخاء مقصور -: هو الرطب من النبات. واختلاؤه قطعه واحتشاشه. (ش) (¬4) جمع قين؛ وهو الحداد. (ش)

صيد المدينة وشجره كحرم مكة

وفي " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر زيادة: " الحية ". وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد بإسناد فيه ليث بن أبي سليم. قال البغوي: " اتفق أهل العلم على أنه يجوز للمحرم قتل هذه الأعيان المذكورة في الخبر، ولا شيء عليه في قتلها. وقاس الشافعي عليها كل حيوان لا يؤكل لحمه، فقال: لا فدية على من قتلها في الإحرام أو الحرم ". ( [صيد المدينة وشجره كحرم مكة] :) (وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة) : لحديث علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرم؛ ما بين عير إلى ثور "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وفي " الصحيحين " أيضا من حديث عباد بن تميم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ". وفي الباب أحاديث في " الصحيحين " وغيرهما عن جماعة من الصحابة. قال ابن القيم: " ورُدت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول ومعارضتها بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا عمير! ما فعل النُّغير (¬1) ". ¬

_ (¬1) النغير؛ تصغير النغر - بضم النون وفتح الغين -؛ وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار، ويجمع على نغران - بكسر النون وإسكان الغين - قاله في " النهاية ". وظاهر الحديث لا يحتمل ما زعمه ابن القيم، ولا معارضة فيه لحديث تحريم حرم المدينة؛ بل الوجه الصحيح فيه؛ هو الوجه الثالث، والأوجه الباقية لا دليل عليها، ولا معنى لها. (ش)

من قطع شجر المدينة أو خبطه سلب

ويالله العجب {أي الأصول التي خالفتها هذه السنن، وهي من أعظم الأصول؟ فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته لهذه الأصول؟} ونحن نقول: معاذ الله {أن نرد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدا. وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه، قد ذهب إلى كل منها طائفة: أحدها: أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة؛ فيكون منسوخا. الثاني: أن يكون متأخرا عنها معارضا لها؛ فيكون ناسخا. الثالث: أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود. الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رخص لأبي بردة في التضحية بالعناق دون غيره. فهو متشابه كما ترى، فكيف يجعل أصلا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا؟} ". انتهى. ( [من قطع شجر المدينة أو خبطه سلب] :) (إلا أن من قطع شجره أو خبطه كان سلبه حلالا لمن وجده) : لحديث سعد ابن أبي وقاص: أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا، أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد، فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم؛ أخرجه مسلم، وأحمد.

صيد وج وشجره حرام

وفي لفظ لأحمد، وأبي داود، والحاكم - وصححه -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من رأيتموه يصيد فيه شيئاً؛ فلكم سلبه ". أقول: عندي أنه لا يجب على من قتل صيدا - أو قطع شجرا من حرم المدينة -، لا جزاء ولا قيمة، بل يأثم فقط، ويكون لمن وجده يفعل ذلك أخْذ سلبه؛ ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شيء؛ إلا مجرد الإثم. وأما من كان محرما: فعليه الجزاء الذي ذكره الله - عز وجل - إذا قتل صيدا، وليس عليه شيء في شجر مكة؛ لعدم ورود دليل تقوم به الحجة. وما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الدوحة الكبيرة: " إذا قُطعت من أصلها؛ بقرة ": لم يصح. وما يروى عن بعض السلف لا حجة فيه. والحاصل: أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد وقطع الشجر، وبين وجوب الجزاء أو القيمة؛ بل النهي يفيد بحقيقته التحريم، والجزاء والقيمة لا يجبان إلا بدليل، ولم يرد دليل إلا قول الله - تعالى -: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية؛ وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط؛ فلا يجب غيره. ( [صيد وجّ وشجره حرام] :) (ويحرم صيد وجّ) - بفتح الواو وتشديد الجيم -: اسم واد بالطائف (وشجره) : لحديث الزبير، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

" إن صيد وج وعضاهه (¬1) حرام؛ محرم لله - عز وجل - "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والبخاري في " تاريخه "، وحسنه المنذري (¬2) ، وصححه الشافعي. وأخرج أبو داود من حديث الزبير بن العوام بلفظ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صيد وجّ محرم "، وحسنه الترمذي (¬3) ، وصححه الشافعي. ¬

_ (¬1) بكسر العين؛ وهو كل شجر يعظم، وله شوك. (ش) (¬2) • كذا قال، وسبقه إلى ذلك الشوكاني في " نيل الأوطار " (5 / 29) ، فقال: " الحديث سكت عنه أبو داود، وحسنه المنذري "، وهذا خطأ في النقل، فلم يحسنه المنذري في " مختصر السنن "، بل فحوى ما نقله عن الأئمة حول الحديث؛ أنه يذهب إلى تضعيفه، فقال (2 / 442) ما نصه: " في إسناده محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي وأبوه، فأما محمد؛ فسئل عنه أبو حاتم الرازي؟ فقال: ليس بالقوي، وفي حديثه نظر. وذكره البخاري في " تاريخه الكبير "، وذكر له هذا الحديث؛ وقال: لم يتابع عليه. وذكر أباه، وأشار إلى هذا الحديث، وقال: لم يصح حديثه. وقال البستي: عبد الله بن إنسان؛ روى عنه ابنه محمد ولم يصح حديثه ". فقد نقل عن هؤلاء الأئمة تضعيفهم لهذا الحديث، ولم يتعقبهم بشيء، فدل على موافقته لهم في ذلك، وهو الحق؛ خلافا لما قال الشارح؛ فإن علته واضحة، وهو عبد الله بن إنسان هذا؛ فإنه لم يوثقه أي إنسان؛ حاشا ابن حبان، حيث ذكره في " الثقات "، ومع ذلك فقد قال فيه: " كان يخطئ "، مع أنه ليس له إلا هذا الحديث، وقد ضعفه هو نفسه، كما سبق نقله عن المنذري، فأين الحديث الذي لم يخطئ فيه؟ {ولذلك قال الحافظ في " التقريب " أنه " لين الحديث "، وصرح ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 35) بأن الحديث ضعيف، أورده في أحاديث قدمها الشافعي على القياس مع ضعفها. لكن الذهبي ذكر في " الميزان " أن الشافعي صحح هذا الحديث؛ فلا أدري هل أخذ ذلك من نص للشافعي في تصحيحه، أم استلزم ذلك من احتجاجه به أو إيراده له؟} فإن كان هذا؛ فالتصريح بأن الشافعي صححه؛ لا يخفى ما فيه؛ فتأمل! (ن) (¬3) • هذا خطأ؛ فالحديث لم يروه الترمذي، ولا نقل أحد عنه تحسينه فيما علمت، فالظاهر أنه تحرف على الناسخ أو الطابع من " المنذري "، وحينئذ؛ فهذا تكرار من المؤلف لا فائدة فيه، وطالما فعل ذلك فيما سلف. =

الفصل الرابع فصل ما يجب عمله أثناء الطواف

وقد ذهب إلى ما في الحديث: الشافعي؛ وهو الحق. ولم يأت من قدح في الحديث بما يصلح للقدح المستلزم لعدم ثبوت التكليف بما تضمنه. ( [الفصل الرابع: فصل ما يجب عمله أثناء الطواف] ) [طواف القدوم سبعة أشواط] : (وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم) : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المسجد الحرام؛ بدأ بالطواف ولم يصل تحية المسجد؛ فإن تحية المسجد الحرام الطواف بالبيت. قد استفاض عن الصحابة أن أول شيء كانوا يبدأون به الطواف بالبيت، ثم لا يحلون؛ رواه الشيخان. ولا يسن طواف القدوم لمن أحرم من مكة؛ وعليه أهل العلم. في " المنهاج ": يختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف. (سبعة أشواط) : الأقرب - والله أعلم -: أن الطواف يوافق الصلاة، فمن شك: هل طاف ستة أشواط أو سبعة أشواط؟ فليطرح الشك وليتحر الصواب، ¬

_ = ثم إن هذا اللفظ الذي نسبه إلى أبي داود وحده؛ ليس هو في " سننه "، بل عنده اللفظ الأول (1 / 317) ، وهو في " المسند " (رقم 1416) ، وقد صرح شارحه الشيخ أحمد محمد شاكر بأن إسناده صحيح، وهو خطأ بين؛ سببه اعتماده على توثيق ابن حبان الذي اشتهر بتساهله في التوثيق، وقد بينت هذا الخطأ؛ فيما علقته على تعليقه في هذا الموضع.

فإن أمكنه ذلك عمل عليه، وإن لم يمكنه فليبن على الأقل، كما ورد بذلك الدليل الصحيح. وشرع الطواف في الأصل؛ لإغاظة المشركين كما في حديث ابن عباس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم (¬1) حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم؛ متفق عليه. وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول؛ خب (¬2) ثلاثا، ومشى أربعا. وفي لفظ: رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا. وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن عمر، أنه قال: فيم الرملان الآن، والكشف عن المناكب وقد أطى (¬3) الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ! ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذهب الجمهور إلى فرضية الطواف للقدوم. ¬

_ (¬1) بتخفيف الهاء، وقد يستعمل رباعيا، ومعناه: أضعفتهم. (ش) (¬2) الخب - بفتح الخاء -: هو إسراع المشي مع تقارب الخطى؛ كالرمل - بفتح الميم -. (ش) (¬3) أصله: وطئ، فأبدلت الواو همزة؛ كما في: وقت وأقت؛ ومعناه: مهد وثبت. (ش)

يرمل الحاج في الثلاثة الأولى من الطواف

وقال أبو حنيفة: سنة. وروي عن الشافعي أنه كتحية المسجد. والحق الأول؛ لقوله - تعالى -: {وليطوفوا بالبيت العتيق} . ( [يرمل الحاج في الثلاثة الأولى من الطواف] :) (يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي) : قال في " الحجة ": " وأول طواف بالبيت رمل واضطباع (¬1) ، وبعده سعي بين الصفا والمروة، وكان عمر أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما، ثم تفطن إجمالا أن لهما سببا آخر غير منقض، فلم يتركهما ". ( [يقبل الحاج الحجر الأسود] :) (ويقبل الحجر الأسود) : لما في " الصحيحين " من حديث عمر: أنه كان يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنقع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك. وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي هذا الحجر يوم القيامة؛ له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق ". ¬

_ (¬1) هو افتعال من الضبع - بإسكان الباء -؛ وهو العضد؛ وهو أن يدخل إزاره تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على منكبه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفا. (ش)

وفي الباب أحاديث. وأما الابتداء بالحجر: فلأنه وجب عند التشريع أن يعين محل البداية وجهة المشي، والحجر أحسن مواضع البيت؛ لأنه نازل من الجنة، واليمين أيمن الجهتين. (أو يستلمه) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في استلامه ثلاث صفات: أحدها: تقبيله، وثانيها: أنه وضع يده عليه ثم قبلها، وثالثها: أنه يشير إليه بالمحجن (¬1) . ولم يقل: طوافي لكذا، ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله كثير ممن لا علم عنده، وذلك من البدع المنكرة. (بمحجن ويقبل المحجن) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي الطفيل، وزاد: ويقبل المحجن. (ونحوه) ؛ أخرج أحمد من حديث عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر؛ فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلة فاستلمه؛ وإلا فاستقبله وهلل وكبر "؛ وفي إسناده مجهول (¬2) . ¬

_ (¬1) بكسر الميم، وإسكان الحاء، وفتح الجيم، وآخره نون: هو عصا محنية الرأس. (ش) (¬2) صححه شيخنا في " مناسك الحج والعمرة " (ص 21) .

ويستلم الحاج الركن اليماني

( [ويستلم الحاج الركن اليماني] :) (ويستلم الركن اليماني) : لما أخرج أحمد، والنسائي عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا "؛ وفي إسناده عطاء بن السائب (¬1) . وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين. وأخرج البخاري في " تاريخه "، وأبو يعلى من حديث ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني؛ وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز؛ وهو ضعيف (¬2) . وأخرج أحمد، وأبو داود من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني، ويضع خده عليه. قال صاحب " سبل السلام " (¬3) : " وكان يقول عند استلامهما: " بسم الله والله أكبر "، وكان كلما أتى الحجر يقول: " الله أكبر ". ولم يحفظ له دعاء معين في الطواف؛ إلا أنه أخرج أبو داود، وابن ¬

_ (¬1) • قلت: ولا يضر هنا؛ لأن من رواة الحديث عنه - عند أحمد (رقم 5621) - الثوري؛ وهو قد روى عن عطاء قبل اختلاطه؛ فالحديث صحيح. (ن) (¬2) • وقد أخرجه من طريقه غير المذكورين، كما بينته في " التعليقات " (4 / 106) . (ن) (¬3) • قلت: تبع في ذلك العلامة ابن القيم في " الزاد "، وقد بينت في " التعليقات الجياد " أن رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح، وإنما صح موقوفا على ابن عمر. (ن)

القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد

حبان (¬1) : أنه يقول بين الركنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ، وفي الطواف: " اللهم! قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائب لي بخير "، أخرجه الحاكم. وفي " مصنف ابن أبي شيبة ": " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ". والموضع موضع دعاء، فيختار فيه ما شاء ". انتهى. قلت: إنما خص الركنين اليمانيين بالاستلام - كما ذكره ابن عمر - من أنهما باقيان على بناء إبراهيم دون الركنين الآخرين، فإنهما من تغيرات الجاهلية، وإنما اشترط له شروط الصلاة كما ذكره ابن عباس؛ لأن الطواف يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره، فحمل عليها. ( [القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد] :) (ويكفي القارن طواف واحد، وسعي واحد) : لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على الأصح، واكتفى بطواف واحد للقدوم، وبسعي واحد، ولا دليل على وجوب طوافين وسعيين. وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأة طواف واحد وسعي واحد "؛ وقد حسنه الترمذي. أقول: الأدلة القاضية بأن الواجب على القارن ليس إلا طواف واحد ¬

_ (¬1) • في سنده عبيد - مولى السائب -؛ وفيه جهالة، كما بينته في " التعليقات " (4 / 105) . (ن)

وسعي واحد: ثابتة قولا وفعلا: أما القول: فحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرن بين حجه وعمرته؛ أجزأه لهما طواف واحد "؛ أخرجه أحمد، وابن ماجة. وأخرجه أيضا الترمذي بلفظ: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا "، وقال " " هذا حديث حسن ". وأخرجه أيضا سعيد بن منصور بنحو لفظ الترمذي. وأما إعلال الطحاوي لهذا الحديث بالوقف: فقد رده غيره من الحفاظ؛ لأن الطحاوي قال: إن الدراوردي أخطأ في رفعه، وإنه موقوف، فأجابوا عنه بأن الدراوردي صدوق، وأن رفعه حجة (¬1) . ومن القول؛ حديث طاوس عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " يسعك طوافك لحجك وعمرتك "، أخرجه أحمد، ومسلم. وأخرج أيضا مسلم من طريق مجاهد عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " يجزي عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ". وأما أحاديث الفعل: فأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة: أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا. ¬

_ (¬1) • قد خرجت حديثه في " التعليقات " (4 / 71) . وأخرجه ابن الجارود في " المنتقى " (رقم 460) ، وعزاه المعلق عليه لمسلم؛ فوهم. (ن)

وأخرج مسلم، وأبو داود عن جابر: أنه لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا. وأخرج البخاري عن ابن عمر: أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا؛ بعد أن قال: إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس: أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا. واستدل القائلون بأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين بفعل علي - رضي الله عنه -، وقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا؛ أخرجه عبد الرزاق، والدارقطني، وغيرهما (¬1) . وقد روي نحوه عن ابن مسعود، وابن عمر بأسانيد في بعضها متروك، وفي البعض الآخر ضعيف. حتى قال ابن حزم: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء. وتعقب بأن حديثي علي وابن مسعود (¬2) ؛ لا بأس بإسناديهما، ولهذا رجح البيهقي وغيره المصير إلى الجمع: أنه طاف طواف القدوم، وطواف الإفاضة، قال: وأما السعي فلم يثبت فيه شيء. ¬

_ (¬1) • وفيه رجل مجهول؛ كما بينته في " التعليقات الجياد " (4 / 63) (ن) (¬2) • يعني الموقوفين، وقد تكلمت عليهما، وبينت أن الأول منهما صحيح الإسناد في " التعليقات " (4 / 71 - 72) . (ن)

وجوب الوضوء وستر العورة أثناء الطواف

وقد حكى الحافظ في " الفتح " أنه روى جعفر الصادق عن أبيه: أنه كان يحفظ عن علي للقارن طوافا واحدا؛ خلاف ما يقوله أهل العراق. والحاصل: أن الجمع بما تقدم - إن اندفع به النزاع - فالمراد؛ وإلا وجب المصير إلى التعارض والترجيح، ولا يشك عالم بالحديث أن أدلة الطواف الواحد والسعي الواحد أرجح. ( [وجوب الوضوء وستر العورة أثناء الطواف] :) (ويكون حال الطواف متوضئا ساتر العورة) : لما في " الصحيحين " من حديث عائشة: أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم؛ أنه توضأ، ثم طاف بالبيت. وفيهما أيضا من حديث أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يطوف بالبيت عريان ". في " شرح السنة ": عند الشافعي لا يجزىء الطواف إلا بما يجزىء به الصلاة؛ من الطهارة عن الحدث والنجاسة، وستر العورة، فإن ترك شيئا منها؛ فعليه الإعادة (¬1) . قال في " الأنوار ": ولو أحدث في الطواف عمدا؛ توضأ وبنى، ولا ¬

_ (¬1) • وذهب أكثر السلف إلى أنه لا يشترط للطواف شروط الصلاة؛ وهو مذهب أبي حنيفة وغيره. قال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (2 / 453) : " وهذا القول هو الصواب "، ثم أفاض في التدليل لذلك؛ فراجعه! (ن)

يجب الاستئناف وإن طال الفصل. والكلام في الطواف مباح، ويستحب أن لا يتكلم؛ إلا بذكر الله أو حاجة أو علم. وقال أبو حنيفة: إذا طاف جنبا أو محدثا وفارق مكة؛ لا تلزمه الإعادة وعليه دم. وفي " العالمكيرية ": " أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد من المناسك؛ فالطهارة ليست من شرطها، كالسعي، والوقوف بعرفة، وكل عبادة في المسجد؛ فالطهارة من شرطها كالطواف ". أقول: أما فرضية الوضوء للطواف أو شرطيته - كما زعمه البعض -: فغاية ما في ذلك حديث: أنه توضأ صلى الله عليه وسلم ثم طاف، وهذا مجرد فعل لا ينتهض للوجوب، وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك، حتى يقول: إنه بيان لقوله: " خذوا عني مناسككم ". فإن قيل: إنه شرط النسك أو فرضه؛ فيكون من جملة بيان المناسك؛ فيجاب بأن هذه مصادرة على المطلوب؛ لأن كونه شرطا أو فرضا هو محل النزاع، ومع هذا ففعله للوضوء يحتمل أن يكون لما يتعقب الطواف من الصلاة، ولا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يدخل المسجد إلا متوضئا في غير الحج، فملازمته لذلك في الحج أولى. وأما منعه صلى الله عليه وسلم للحائض أن تطوف بالبيت: فليس فيه دليل على أن المنع لها لكون الطهارة شرطا أو فرضا للطواف؛ لاحتمال أن يكون المنع لها لكون

يحرم الطواف على الحائض

الطواف من داخل المسجد، وهي ممنوعة من المساجد، ولو سلم فغايته أن الطهارة من الحيض هي الشرط، لا الوضوء. وأما حديث: " الطواف بالبيت صلاة ": فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب (¬1) ؛ وهو ضعيف؛ فليس التشبيه بمقتض لمساواة المشبه للمشبه به في جميع الأوصاف، بل الاعتبار التشابه في أخص الأوصاف؛ وليس هو الوضوء. ( [يحرم الطواف على الحائض] :) (والحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف) طواف القدوم وكذا طواف الوداع (بالبيت) : لحديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الحائض تقضي المناسك كلها؛ إلا الطواف "؛ أخرجه أحمد. وأخرج نحوه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر. ولحديث عائشة أيضا في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما حاضت: " افعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت، حتى تغتسلي (¬2) ". ¬

_ (¬1) • قلت: القول في هذا كالقول في سابقه؛ فإن من الرواة عنه - لهذا الحديث - سفيان أيضا عند البيهقي (5 / 87) . نعم؛ اختلف عليه فيه: فرواه عنه جماعة موقوفا على ابن عباس، ورواه آخرون عنه مرفوعا، ويرجحه أن منهم سفيان. ويؤيده أن له طريقين آخرين عن ابن عباس، وشاهدا من حديث ابن عمر؛ خرجهما الزيلعي في " نصب الراية " (3 / 58) ، وآخر في " المسند " (3 / 414، 4 / 64، 5 / 377) . (ن) (¬2) • وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا؛ بأن تتأخر حتى تطهر؛ لذهاب رفقتها وعدم انتظارهم إياها؛ في بحث له طويل نفيس، راجعه في " الفتاوى " (2 / 436 - 456) . (ن) قلت: والأصل الطهارة، والله أعلم.

يسن الذكر بالمأثور أثناء الطواف

( [يسن الذكر بالمأثور أثناء الطواف] :) (ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور) : لحديث عبد الله بن السائب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم؛ لأنه دعاء جامع نزل به القرآن، وهو قصير اللفظ يناسب تلك الفرصة القليلة. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " وكل به - يعني: الركن اليماني - سبعون ملكا، فمن قال: اللهم {إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ؛ قالوا: آمين "؛ أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهشام بن عمار؛ وهما ضعيفان (¬1) . وأخرج ابن ماجه أيضا من حديثه أنه سمعه يقول: " من طاف بالبيت سبعا، ولا يتكلم إلا بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله: محيت عنه عشر سيئات، وكتب له عشر حسنات، ورفع له بها عشر درجات "، وفي إسناده من تقدم في الحديث الأول (¬2) . ¬

_ (¬1) • إطلاق القول على هشام بن عمار بالضعف؛ خطأ بين؛ لأن الرجل في نفسه ثقة، روى له البخاري، لكنه كان قد تغير في آخر عمره، فالأحسن ما قاله الشوكاني فيه عند هذا الحديث (5 / 40) : " وهو ثقة تغير بآخرة "، وكأن الشارح - رحمه الله - اختصر كلامه هذا؛ فأخل. وأحسن من ذلك قول الحافظ في " التقريب ": " صدوق مقرئ؛ كبر فصار يتلقن؛ فحديثه القديم أصح ". (ن) قلت: وانظر " المشكاة " (2590) ؛ فهو فيه مضعفا. (¬2) هو تمام الحديث السابق؛ فتنبه}

صلاة ركعتين في مقام إبراهيم بعد الطواف

وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصححه - (¬1) من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة؛ لإقامة ذكر الله - تعالى - ". وفي الباب أحاديث. ( [صلاة ركعتين في مقام إبراهيم بعد الطواف] :) (وبعد فراغه يصلي ركعتين) : وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: هما واجبتان. (في مقام إبراهيم ثم يعود إلى الركن فيستلمه) : لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى إلى مقام إبراهيم؛ قرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ؛ فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب، و {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} ، ثم عاد إلى الركن، فاستلمه. قلت: وجهر فيهما بقراءته نهارا، فالجهر فيهما السنة؛ ليلا ونهارا، فلما ¬

_ (¬1) • بقوله (2 / 105) : " هذا حديث حسن صحيح "، وفيه نظر؛ لأن في سنده - عنده وعند أبي داود (1 / 296) - عبيد الله بن أبي زياد - وهو القداح - وفيه كلام واختلاف، وفي " التقريب " أنه " ليس بالقوي ". ثم قد خالفه من هو أوثق منه: فرواه عن شيخه القاسم، عن عائشة؛ فلم يرفعه، وكذلك رواه حسين المعلم، عن عطاء، عن عائشة موقوفا؛ انظر " سنن البيهقي " (5 / 145) . والحديث رواه أحمد أيضا (6 / 64، 75، 139) ، وراجع " تاريخ بغداد " (11 / 331 - 332) . (ن)

الفصل الخامس وجوب السعي بين الصفا والمروة

فرغ منهما؛ أتى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله. ( [الفصل الخامس: وجوب السعي بين الصفا والمروة] ) ( [وجوب السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط] :) (ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيا بالمأثور) ؛ والسعي واجب؛ لقوله - تعالى -: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} ؛ وعليه أهل العلم؛ إلا أنه عند الشافعي من الأركان؛ فلا يجبر بالدم. وذهب الجمهور إلى أنه فرض. وعند أبي حنيفة: من الواجبات، وعلى من تركه دم؛ كذا في " المسوى ". والسعي هو النسك الثالث؛ لأن النسك الأول الإحرام، والثاني الطواف؛ كما تقدم. ودليله ما أخرج أحمد، والشافعي، من حديث حبيبة بنت أبي تجزأة (¬1) ، ¬

_ (¬1) وحبيبة بنت أبي تجزأة - بضم التاء وسكون الجيم -: صحابية؛ كذا ضبطه " القاموس " في باب الزاي. وقال ابن حجر في " الفتح " (جزء 3 ص 323) : " بكسر المثناة وسكون الجيم، بعدها راء، ثم ألف ساكنة ثم هاء؛ وهي إحدى نساء بني عبد الدار ". وقال في " الإصابة " (جزء 8 ص 47) : " ضبطها الدارقطني بفتح المثناة من فوق، وقال أيضا: حبيبة - بفتح أوله -؛ وقيل: بالتصغير ". (ش)

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي "؛ وفي إسناده عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف. وله طريق أخرى في " صحيح ابن خزيمة "، و " الطبراني " عن ابن عباس. وأخرج أحمد نحوه من حديث صفية بنت شيبة (¬1) . وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من طوافه؛ أتى الصفا، فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو. وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر. وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دنا من الصفا قرأ: " {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ؛ أبدأ بما بدأ الله به "، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، قال: " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا؛ مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا. ويجوز السعي راكبا، وماشيا - وهو أفضل -، وعليه أهل العلم. ¬

_ (¬1) • وعنها أخرجه البيهقي (5 / 97) أيضا؛ وسنده صحيح. (ن)

المتمتع بعد السعي يصبح حلالا

( [المتمتع بعد السعي يصبح حلالا] :) (وإذا كان متمتعا صار بعد السعي حلالا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج) : لقول عائشة حاكية لحجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأما من أهل بالعمرة؛ فأحلوا حين طافوا بالبيت، وبالصفا والمروة؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. وفيهما أيضا من حديث جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا، ثم أقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية؛ فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم لها متعة ". وفي لفظ لمسلم من حديثه أيضا، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، فأهللنا من الأبطح. أقول: الإهلال هو رفع الصوت بلفظ: لبيك بحجة وعمرة، والظاهر من الأدلة؛ أنه لا يجب إلا نية الإحرام بالحج، وليس وراء ذلك أمر آخر هو الإحرام؛ بل هو مجرد النية. وأما اشتراط كونها مقارنة لتلبية أو تقليد؛ فلم يدل عليه دليل؛ بل التلبية ذكر مستقل وسنة منفردة، وكذلك التقليد للهدي، ولا كلام في ثبوت مشروعيتهما، وأما أنهما شرط لنية الإحرام بالحج؛ فلا، ومن ادعى ذلك؛ فعليه البرهان.

الفصل السادس مناسك الحج

( [الفصل السادس: مناسك الحج] ) ( [التوجه إلى عرفات صبح يوم التاسع] ) ( [ويصلي: الظهر والعصر جمع تقديم مع خطبة] :) (ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبرا، ويجمع العصرين) الظهر والعصر (فيها ويخطب) : لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس وهو على راحلته خطبة بديعة؛ قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، وغير ذلك من الأحكام، وكانت خطبة واحدة، لم تكن خطبتين يجلس بينهما. وقال في " الحجة ": " إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها، ولا يسعهم جهلها؛ لأن اليوم يوم اجتماع، وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه الأحكام، التي يراد تبليغها إلى جميع الناس ". انتهى. ( [الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة ويصلي المغرب والعشاء جمع تأخير] :) (ثم يفيض من عرفة ويأتي المزدلفة ويجمع فيها بين العشاءين) المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ولا يسبح (¬1) ههنا؛ كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. ( [المبيت في المزدلفة ويصلي الفجر فيها] :) (ثم يبيت بها) : قال النحاس: إن كثيرا من الحجاج لا يقف بالمزدلفة، ¬

_ (¬1) أي: لا يصلي نافلة. (ش)

الوقوف في المشعر مع ذكر الله

وإن وقف فلا يبيت، وهذه بدعة يجب على الأمير، ومن قدر أن يمنع منها؛ لأن من ترك المبيت بالمزدلفة وجب عليه إراقة دم في الأظهر. وذهب ابن خزيمة، وجماعة من العلماء إلى أن المبيت بها ركن. فعلى هذا إذا تركه فسد (¬1) حجه، ولا يجبر بدم ولا بغيره، وشرط المبيت أن يكون في ساعة من النصف الثاني من الليل، فلو رحل قبله لم يسقط عنه الدم، ولو عاد إليها قبل الفجر سقط. انتهى. (ثم يصلي الفجر) حتى يتبين له الصبح بأذان وإقامة. ( [الوقوف في المشعر مع ذكر الله] :) (ويأتي المشعر) الحرام. تركهم السنة في الوقوف بالمشعر الحرام بدعة أيضا، ويستقبل القبلة. (فيذكر الله عنده) ويدعوه ويكبره ويهلله ويوحده. أقول: وما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا؛ لأنه - مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم ومندرجا تحت قوله: " خذوا عني مناسككم " - فيه ¬

_ (¬1) • والدليل ما أخرجه الترمذي - وقال: " حسن صحيح " - مرفوعا: " من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه ". وهذا مذهب ابن عباس، وابن الزبير، وغيرهما، وتمام البحث انظره في " زاد المعاد " (ج 1 / ص 314) ؛ وقد ذكرت في " التعليقات " عليه (4 / 145) ما يستفاد منه أن الحديث ليس دليلا على ذلك؛ بدليل ذكر الصلاة فيه؛ فإن هذا ليس ركنا اتفاقا؛ فراجعه. (ن)

ترمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس

أيضا النص القرآني بصيغة الأمر: {فاذكروا (¬1) الله عند المشعر الحرام} . (ويقف به) ؛ والوقوف هو النسك الرابع من مناسك الحج. (إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن محسر) ؛ وهو محل هلاك أصحاب الفيل، وبرزخ بين المزدلفة ومنى ليس من هذه ولا هذه، فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن، ويهرب من الغضب. ( [ترمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس] :) (ثم يسلك الطريق الوسطى) بين الطريقين (إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة) ؛ مثل حصى الخذف. (ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس) ؛ وإنما كان رمي الجمار يوم الأول غدوة، وفي سائر الأيام عشية؛ لأن من وظيفة الأول النحر والحلق والإفاضة، وهي كلها بعد الرمي، ففي كونه غدوة توسعة. وأما سائر الأيام: فأيام تجارة وقيام أسواق، فالأسهل أن يجعل ذلك بعد ¬

_ (¬1) • أي: اذكروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام - ويسمى جمعا -؛ لأنه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها - أي: دنا منها -، وبه سميت المزدلفة. ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها؛ لأنهم يزدلفون إلى الله - أي: يتقربون بالوقوف فيها -. وسمي مشعرا؛ من الشعار وهو العلامة؛ لأنه معلم للحج، والصلاة، والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج، ووصف بالحرام لحرمته؛ كذا في " تفسير القرطبي " (2 / 421) . (ن)

الترخيص للضعفاء بالرمي بعد منتصف ليلة النحر

ما يفرغ من حوائجه، وأكثر ما كان الفراغ في آخر النهار. ( [الترخيص للضعفاء بالرمي بعد منتصف ليلة النحر] :) (إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك) . ( [يحلق رأسه أو يقصره] :) (ويحلق رأسه) (¬1) : فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة (أو يقصره) ؛ وهو النسك الخامس. (فيحل له كل شيء إلا النساء، ومن حلق، أو ذبح، أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج) . ( [المبيت بمنى ليالي التشريق] ) (ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق) ؛ وهو النسك السادس. والحاصل: أن المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته؛ إنما هو لأجل الرمي المشروع؛ لأنه فعل، والزمان والمكان من ضرورياته، فالحق ما قاله الحنفية وبعض الشافعية؛ من عدم وجوبه في نفسه (¬2) . ¬

_ (¬1) • أي: الرجل، والمرأة تقصر فقط؛ لقوله عليه السلام: " ليس على النساء الحلق؛ إنما على النساء التقصير "؛ وهو حديث صحيح الإسناد، كما بينته في " التعليقات (4 / 167) . (ن) (¬2) • قلت: هذا خلاف ما سبق تقريره من المصنف؛ أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج الوجوب، وما ذكره هنا من الدليل على أن المبيت غير واجب؛ إنما هو رأي لا دليل عليه من السنة، بل السنة تخالفه وتشهد لهذا الأصل، وهو ما صححه الترمذي وغيره عن عاصم بن عدي: أن رسول

يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بسبع حصيات بالترتيب

( [يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بسبع حصيات بالترتيب] :) (ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات مبتدئا بالجمرة الدنيا، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة) : لما أخرج أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني من حديث عبد الرحمن بن يعمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى: " الحج عرفة ". وأخرج أحمد، وأبو داود عن ابن عمر، قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة، حتى أتى عرفة، فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذين ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر؛ راح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة. وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر، قال: لما كان يوم التروية؛ توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش ¬

_ الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى ... الحديث، وقد خرجته وصححته في " التعليقات " (7 / 4) . وفي " البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته. قال الحافظ: " وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التيسير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها؛ لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور ". ونقله الشوكاني في " النيل " (5 / 68) ، لكنه لم يعزه إليه؛ فدل على أنه يرى الوجوب خلافا للشارح؛ وهو الحق! (ن)

أنه واقف عند المشعر الحرام؛ كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء (¬1) ؛ فرُحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ". وفي " صحيح مسلم " من حديث أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عشية عرفة، وغداة جمع للناس حين دفعوا: " عليكم السكينة "؛ وهو كاف ناقته، حتى دخل محسرا. وفي حديث جابر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئا، ثم اضطجع، حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا (¬2) ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع ¬

_ (¬1) اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ش) (¬2) • يعني: وأسرع السير؛ كما جاء مصرحا به في بعض الأحاديث، كما أشرت إلى ذلك في " التعليقات " (4 / 150) . قال في " الزاد " (1 / 315) : " وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه؛ فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه - أي: أعيى - وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر، وديار ثمود؛ فإنه تقنع بثوب، وأسرع السير ". (ن)

حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف؛ رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر. وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر، قال: رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد؛ فإذا زالت الشمس. وفيهما أيضا من حديث ابن مسعود: أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة. وفي رواية: حتى انتهى إلى جمرة العقبة. وفي " الصحيحين " (¬1) وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: أنا ممن قدّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله. وفيهما (¬2) أيضا من حديث عائشة، قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة (¬3) ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل. وفي الباب أحاديث. وفي " صحيح مسلم "، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: " خذ "، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. ¬

_ (¬1) • رواه البخاري (3 / 414) . (ن) (¬2) • رواه البخاري (3 / 415 - 416) . (ن) (¬3) بفتح الثاء المثلثة، وكسر الباء الموحدة؛ أي: بطيئة الحركة؛ لعظم جسمها. (ش)

وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم {اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول الله} وللمقصرين؟ {قال: " اللهم} اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول الله {وللمقصرين؟} قال: " اللهم {اغفر للمحلقين "، قالوا: يا رسول الله} وللمقصرين؟ {قال: " وللمقصرين ". وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رميتم الجمرة؛ فقد حل لكم كل شيء؛ إلا النساء " (¬1) . وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأتاه رجل يوم النحر، وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله} حلقت قبل أن أرمي؟ قال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج "، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي؟ فقال: " ارم ولا حرج ". وفي رواية فيهما: فما سئل عن شيء؛ إلا قال: " افعل ولا حرج ". وأخرج أحمد من حديث علي، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن أنحر؟ قال: " انحر ولا حرج "، ثم أتاه آخر فقال: إني أفضت ¬

_ (¬1) • قلت: تبع الشارح - في عزوه لأبي داود - الشوكاني في " النيل " (5 / 60) ، وأنا فتشت عنه في " سننه "، فلم أجده من حديث ابن عباس، وإنما رواه (1 / 310) من حديث عائشة؛ وأعله بالانقطاع. ويبدو لي أنه ليس عنده من حديث ابن عباس؛ فإن الزيلعي في " نصب الراية " (3 / 81) لم يعزه إلا للنسائي، وابن ماجه، وهو في " المسند " (رقم 2090) ؛ وهو منقطع أيضا، لكن أحدهما يقوي الآخر؛ سيما وقد جاء من حديث أم سلمة بسند حسن - إن شاء الله تعالى -؛ فراجع " نصب الراية ". (ن)

قبل أن أحلق؟ قال: " احلق - أو قصر - ولا حرج ". وفي لفظ للترمذي - وصححه -، قال: إني أفضت قبل أن أحلق؟ وفي " الصحيحين " وغيرهما عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير؟ فقال: " لا حرج ". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم من حديث عائشة، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات؛ يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة لا يقف عندها. وعن ابن عباس، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -. وفي " البخاري " عن ابن عمر، قال: كنا نتحين؛ فإذا زالت الشمس رمينا. وأخرج الترمذي - وصححه - من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها، ذاهبا وراجعا. وفي لفظ عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا، وسائر ذلك ماشيا، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ أخرجه أحمد، وأبو داود. وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، وابن عمر: أن العباس استأذن

تستحب الخطبة يوم النحر

النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته؟ فأذن له. وفي " البخاري "، و " أحمد " من حديث ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل (¬1) ، فيقوم مستقبل القبلة طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث عاصم ابن عدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر. وأخرج أحمد (¬2) ، والنسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست حصيات، ولم يعب بعضهم على بعض؛ ورجاله رجال الصحيح. ( [تستحب الخطبة يوم النحر] ) (ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم) بعد الزوال خطبتين خفيفتين ¬

_ (¬1) • أي: يقصد السهل من الأرض. (ن) (¬2) • في " المسند " (رقم 1439) ؛ وسنده صحيح على شرط الشيخين. لكن الحديث لا يكون دليلا بمجرد ترك إنكار الصحابة على بعضهم بعضا؛ إلا أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على شيء من ذلك وقرره؛ كذا في " النيل " (5 / 70) . ثم الحديث في " النسائي " (2 / 51) ، ورواه البيهقي أيضا (5 / 149) ؛ وأعله ابن التركماني بالانقطاع بين مجاهد وسعد؛ فراجع. (ن)

تستحب الخطبة في وسط أيام التشريق

قائما، والأخيرة أخف، ويجلس بينهما كالجمعة (¬1) ؛ يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثاني، وإذا زالت الشمس اغتسل، إن أحب. (يوم النحر) : لحديث الهرماس بن زياد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود (¬2) . وأخرج نحوه أبو داود (¬3) أيضا من حديث أبي أمامة. وأخرج نحوه هو، والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التيمي. وأخرجه البخاري (¬4) ، وأحمد من حديث أبي بكرة، وفيه أنه قال: " فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بدلكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ {"، قالوا: نعم، قال: " اللهم} اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب؛ فربّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض ". ( [تستحب الخطبة في وسط أيام التشريق] :) (و) يستحب الخطبة (في وسط أيام التشريق) : لحديث سراء بنت نبهان، ¬

_ (¬1) • لم أجد هذا منصوصا عليه في شيء من الأحاديث التي وقفت عليها؛ ويؤيد ذلك أن البيهقي لما عقد بابا خاصا لخطبة العيدين، والجلوس بين الخطبتين؛ لم يسق لذلك حديثا؛ بل قال: " قياسا على خطبتي الجمعة ". (ن) (¬2) • وسنده صحيح؛ كما في " التعليقات " (4 / 153) . (ن) (¬3) • والبيهقي (5 / 140) ؛ وانظر " التعليقات " (4 / 154) . (ن) (¬4) • انظر " التعليقات " (4 / 152) ، وهو في " البخاري " (2 / 191 - طبع دار الطباعة العامرة) . (ن)

طواف الإفاضة ركن

قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الرؤوس (¬1) ، فقال: " أي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " أليس أوسط أيام التشريق؟ ! "؛ أخرجه أبو داود، ورجاله رجال الصحيح (¬2) . وأخرج نحوه أحمد من حديث أبي بصرة؛ ورجاله رجال الصحيح. وأخرج نحوه أبو داود عن رجلين من بني بكر. فتضمنت حجته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث خطب: يوم عرفة، ويوم النحر، وثاني أيام التشريق. قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء ": " الخطب المشروعة في الحج أربع؛ كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة؛ وقد بيناها في " شرح المنتقى " (¬3) ؛ فليرجع إليه ". انتهى. ( [طواف الإفاضة ركن] :) (ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر) : لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. ¬

_ (¬1) سمي بذلك لأنهم كانوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي. (ش) (¬2) • وحسنه الحافظ في " بلوغ المرام ". (ن) (¬3) • تقدمت الثلاث؛ والرابعة؛ يوم السابع من ذي الحجة، وقد عقد لها البيهقي بابا؛ فانظر " سننه " (5 / 111) . (ن)

وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر نحوه (¬1) . والمراد بقوله: أفاض؛ أي: طاف طواف الإفاضة. قال النووي: وقد أجمع (¬2) العلماء أن هذا الطواف - وهو طواف الإفاضة - ركن من أركان الحج، لا يصح إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق، فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه، ولا دم عليه بالإجماع. قال صاحب " سبل السلام ": " طواف الزيارة - ويقال له: طواف الصدر، ويسمى طواف الإفاضة -؛ طاف صلى الله عليه وسلم ولم يطف غيره، ولم يسع (¬3) ، وتضمنت حجته رفع يديه للدعاء ست مرات: الأولى: على الصفا، الثانية: على المروة، الثالثة: بعرفة، الرابعة: بمزدلفة، الخامسة: عند الجمرة الأولى، السادسة: عند الجمرة الثانية ". انتهى. أقول: الأدلة تدل على عدم وجوب طواف الزيارة على التعيين، فضلا عن كونه ركنا من أركان الحج التي لا يصح بدونها، فعلى المجتهد أن يبحث ¬

_ (¬1) • قلت: لكن فيه أنه صلى الظهر بمكة، وقد اختلف في التوفيق بينهما: فقيل: إنه صلى إماما في الموضعين. وقيل: إنه صلى في منى مع أصحابه متنفلا. ولم يرتض ذلك ابن القيم؛ بل رجح حديث ابن عمر؛ لأنه متفق عليه. انظر " الزاد " (1 / 326 - 327) ، و " النيل " (5 / 61) . (ن) (¬2) • نقل هذا الإجماع الإمام المهدي في " البحر "؛ كما في " النيل ". قلت: ونقله أيضا ابن حزم في " المراتب " (ص 49) ، وأقره ابن تيمية. (ن) (¬3) • يعني: لأنه كان - عليه السلام - قارنا؛ وإلا فقد طاف طواف القدوم وأيضاً، وكذا طواف الوداع. (ن)

عن المسائل التي قلد فيها الآخر الأول، وجعل عليها سورا لا يستطيع صعوده من كان هيابا للقيل والقال، ومخبوطا بأسواط آراء الرجال، وهو دعوى الإجماع؛ فإن ما كان كذلك؛ قل أن يكشف عن أصله ومستنده؛ إلا من كان من الأبطال المؤهلين للنظر في الدلائل، الفارقين بين العالي منها والسافل؛ {وقليل ما هم} ؛ بل هم أقل من القليل، والله المستعان. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما من حديث عائشة: أنه قال لها: " طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة؛ يكفيك لحجك وعمرتك ". وأخرج الشيخان (¬1) وغيرهما من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من أحرم بالحج والعمرة؛ أجزأه طواف واحد وسعي واحد "؛ واللفظ للترمذي. وهذا يدل على أن الواجب ليس إلا طواف واحد لا ثلاثة: طواف القدوم، والزيارة، والوداع. ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: أنه حج، فطاف بالبيت ولم يطف طوافا غير ذلك (¬2) . ¬

_ (¬1) • ليس هو في " الصحيحين " مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هو في " مسلم " (4 / 51) موقوف على ابن عمر، وسأذكر لفظه قريبا، وهو في " البخاري " بنحوه. وأما المرفوع؛ فهو عند الترمذي وغيره، وقد تقدم. (ن) (¬2) • لقد تتبعت ألفاظ هذا الحديث في " البخاري " (3 / 389 - 433، 4 / 4 - 5، 9 - 10) ، و " مسلم " (4 / 51 - 52) ، فلم أر فيهما هذا اللفظ الذي أورده الشارح، وكأنه نقله بالمعنى! وهو تساهل منه، لا سيما وقد زاد فيه - بناء على فهمه -: ولم يطف طوافا غير ذلك؛ ولا أصل لهذه الزيادة عندهما. والناظر في ألفاظهما بتأمل؛ يتبين له خلاف ما قاله الشارح؛ ذلك لأن ابن عمر كان قارنا، كما =

طواف الوداع واجب

( [طواف الوداع واجب] : ¬

_ = قال في رواية لهما: إني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتى حل منها بحجة يوم النحر - زاد مسلم -، وكان يقول: من جمع بين الحج والعمرة؛ كفاه طواف واحد، ولم يحل حتى يحل منهما جميعا. فأنت ترى أنه ليس فيه نفي طواف الإفاضة والوداع، بل قصده بيان أن القارن يكتفي أن يطوف لقدومه طوافا واحدا لحجه وعمرته. نعم؛ في بعض الروايات عنه ما يدل - بظاهره - على ما ذهب إليه الشارح، وهو قوله بعد قول نافع: فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم؛ حتى كان يوم النحر؛ فنحر، وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الحافظ (4 / 5) : " وهذا ظاهره أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل ". قلت: لكن هذا الظاهر غير مراد من الحديث، والدليل قوله فيه: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه من المعلوم أنه عليه السلام كان في حجه قارنا، وأنه طاف لذلك طوافا واحدا، ثم طاف طواف الإفاضة، ثم طواف الوداع؛ كما ورد عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عمر نفسه، في " البخاري " (3 / 424 - 426) وغيره. [فإذا حمل] قوله في الحديث: كذلك فعل رسول الله على اكتفائه بطوافه الأول عن ما بعده من الإفاضة والوداع - كما فهم الشارح واستشكله الحافظ -؛ تناقض حديثاه، وذا لا يجوز؛ فوجب حمله على معنى لا يختلف مع حديثه الآخر، وليس هو إلا ما ذكرناه من اكتفائه لقدومه بطواف لحجه وعمرته، لا الاكتفاء به عما بعده من الطواف. وبعد؛ فإن البحث يحتمل الزيادة، ولكن المجال ضيق، فنكتفي بهذا. ولا بد من التنبيه على أمرين آخرين: الأول: أن احتجاج المؤلف بحديث عائشة؛ هو مثل احتجاجه بحديث ابن عمر؛ أعني أن عائشة كانت قارنة، وأيضا فإنها كانت حائضا حين قدمت مكة، فلم تستطع أن تطوف حتى قضت مناسكها كلها؛ كما في " البخاري " وغيره، فلا يقاس بها الرجال، والنساء الطاهرات؛ كما لا يخفى. والأمر الآخر: أنه قد فاته الدليل على وجوب طواف الزيارة؛ وهو قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} ؛ وهو طواف الإفاضة؛ كما جزم به الشوكاني في " النيل "، (5 / 61) وكذا ابن كثير وغيره. (ن)

(وإذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع) : لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد؛ حتى يكون آخر عهده بالبيت ". وفي لفظ للبخاري، ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. وفي الباب أحاديث. وإلى وجوب طواف الوداع: ذهب الجمهور. وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو سنة، لا شيء في تركه. قال في " الحجة ": " والسر فيه تعظيم البيت أن يكون هو الأول، وهو الآخر، تصويرا لكونه هو المقصود من السفر، وموافقة لعادتهم في توديع الوفود ملوكها عند النفر ". وقال في " سبل السلام ": " ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الوداع ليلا سحرا، ولم يرمل في هذا الطواف، وصلى الفجر بالحرم، وقرأ ب {الطور} ، ثم نادى بالرحيل، فارتحل راجعا إلى المدينة، فلما أتى ذا الحليفة بات بها، فلما رأى المدينة كبر ثلاثا، وقال: " لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم دخلها نهارا ". انتهى.

الفصل السابع أفضل أنواع الهدي

( [الفصل السابع: أفضل أنواع الهدي] ) (1 -[البدنة] :) (والهدي) : لقوله - تعالى - {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} ، واتفق أهل العلم على أن الهدي مستحب للحاج المفرد والمعتمر المفرد، وواجب على المتمتع والقارن، وعلى من وجب عليه جزاء العدوان على الإحرام، ويعتبر في الهدايا ما يعتبر في الضحايا. (أفضله البدنة) : لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي البدن، ولأنها أنفع للفقراء. (2 -[البقرة] ، 3 -[الشاة] :) (ثم البقرة ثم الشاة) : لأن البقرة أنفع بالنسبة إلى الشاة؛ وهذا إذا كان الذي يهدي البدنة والبقرة واحدا. أما إذا كانوا جماعة بعدد ما تجزئ عنه البدنة والبقرة؛ فقد وقع الخلاف، هل الأفضل سُبع البدنة أو البقرة، أم الشاة عن الواحد؟ والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء. ( [البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة] :) (وتجزئ البدنة والبقرة عن سبع) : لحديث جابر في " الصحيحين " وغيرهما، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك

في الإبل والبقر؛ كل سبعة منا في بدنة. وفي لفظ لمسلم: فقيل لجابر: أيُشترك في البقر ما يُشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن. وأخرج أحمد، وابن ماجه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر ولا أجدها؛ فأشتريها؟ فأمره صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن؛ ورجاله رجال الصحيح (¬1) . ولا يعارض هذا حديث ابن عباس عند أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه (¬2) - قال: كنا في سفر، فحضر الأضحى، فذبحنا البقرة عن سبعة، والبعير عن عشرة. وكذلك لا يعارضه ما في " الصحيحين " من حديث رافع بن خديج: أنه صلى الله عليه وسلم قسم، فعدل (¬3) عشرا من الغنم ببعير: لأن تعديل البدنة بسبع شياه هو في الهدي، وتعديلها بعشر هو في الأضحية والقسمة. ¬

_ (¬1) • قلت: ومع ذلك؛ فإن سنده غير صحيح؛ فإنه من رواية ابن جريح؛ قال: قال عطاء الخراساني، عن ابن عباس. وهذا منقطع بين ابن جريج وعطاء، وبين هذا وابن عباس؛ فإنه لم يسمع منه، وابن جريج مدلس ولم يصرح بالسماع. والحديث في " السنن " (2 / 274 - 275) ، و " المسند " (رقم 2840، 2853) . (ن) (¬2) • قلت: وسنده صحيح؛ كما بينته في " التعليقات " (4 / 160) . (ن) (¬3) العدل والتعديل بين الشيئين: التسوية. (ش)

يجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه

وقد ذهب الجمهور إلى أن عدل البدنة في الهدي سبع شياه. وادعى الطحاوي وابن رشد (¬1) أنه إجماع؛ ولا تصح هذه الدعوى فالخلاف مشهور. ( [يجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه] :) (ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه) : لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة (¬2) ، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل هو وعلي من لحمها، وشربا من مرقها؛ أخرجه أحمد، ومسلم. وفي " الصحيحين " من حديث عائشة: أنه دخل عليها يوم النحر بلحم بقر، فقالت: ما هذا؟ فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. قال النووي: " وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة ". انتهى. والظاهر أنه لا فرق بين هدي التطوع وغيره؛ لقوله - تعالى -: {فكلوا منها} . ( [يجوز للمهدي أن يركب على هديه] :) (ويركب عليه) ، أي: المهدي على هديه؛ لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها "، ¬

_ (¬1) • في " البداية " (1 / 347) ، وراجع " التعليقات " (4 / 158) . (ن) (¬2) البضعة - بفتح الباء لا غير -: هي القطعة من اللحم. (ش)

يندب إشعار الهدي وتقليده

فقال: إنها بدنة؟ قال: " اركبها "، قال: إنها بدنة؟ قال: " اركبها ". وفيهما نحوه من حديث أبي هريرة. وأخرج أحمد، ومسلم من حديث جابر: أنه سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهرا ". ( [يندب إشعار الهدي وتقليده] :) (ويندب له إشعاره وتقليده) (¬1) : لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته، فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين. قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " قالوا: إنها خلاف الأصول؛ إذ الإشعار مثلة، ولعمر الله؛ إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة {وما ضرها ذلك شيئا، والمثلة المحرمة هي العدوان، لا يكون عقوبة، ولا تعظيما لشعائر الله، فأما شق صفحة سنام البعير المستحب أو الواجب ذبحه، ليسيل دمه قليلا، فيظهر شعار الإسلام، وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله وفق الأصول؛ وأي كتاب أو سنة حرم ذلك حتى يكون خلافا للأصول؟} وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياس على وجه الأرض؛ فإنه قياس ما يحبه الله ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى عنه؛ ولو لم يكن في حكمة الإشعار ¬

_ (¬1) • انظر " التعليقات " (4 / 52 - 53) . (ن)

بيان حكم من بعث بهديه

إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها، وعلم الناس بأن هذه قرابين الله - عز وجل - تساق إلى بيته، تذبح له، ويتقرب بها إليه عند بيته، كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته، عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها، فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده، وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار، ليعلو دينه على كل دين: فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها؛ ولله الحمد ". ( [بيان حكم من بعث بهديه] :) (ومن بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم) : لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهدي من المدينة، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم. أقول: هذا آخر كلام الماتن على أحكام الحج. ( [بيان حكم الحج عن الميت] :) وأما الحج عن الميت والاستئجار له؛ فاعلم أن الحج من الواجبات المتعلقة ببدن المكلف، والظاهر في الواجبات البدنية أنها لا تلزم بعد رفع قلم التكليف، وانتقال المكلف من هذه الدار التي هي دار التكاليف إلى دار الآخرة؛ لأنه لم يبق من طلب منه الفعل، فمن قال: إنه يلزم الميت الإيصاء بشيء من الواجبات البدنية بأن يفعل عنه غيره بعد موته؛ لم يقبل إلا بدليل. أو قال: من تبرع عن ميت بفعل واجب بدني أجزأه؛ لم يقبل ذلك منه إلا بدليل.

وقد ورد الدليل في أمور، منها الصوم؛ لحديث: " من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه "، ولكن ليس في هذا الحديث وجوب على الميت، بل الإيجاب على الولي (¬1) ، وغاية ما يستفاد من قوله: " صام عنه "؛ أنه يجزىء ذلك الصوم عن الميت. وأما الحج؛ فلم يرد ما يدل على وجوب الوصية على الميت به، بل ورد ما يدل على وقوع الحج من القريب عن قريبه الميت؛ كما في حديث من نذرت أخته أن تحج، فماتت قبل أن تحج (¬2) ، وكذلك ورد ما يدل على وقوع الحج من الولد لأبيه، إذا كان في الحياة عاجزا عن الإتيان بالفريضة؛ كما في خبر الخثعمية. ¬

_ (¬1) وليس فيه أيضا إيجاب على الولي كما قدمنا. (ش) • ولكن الحديث الذي أفاده ذلك ضعيف؛ كما قدمناه أيضا (ص 23) . (ن) (¬2) • روى البخاري (11 / 495) ، والبيهقي (5 / 179) من حديث ابن جبير، عن ابن عباس، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كان عليها دين؛ أكنت قاضيه؟ "، قال: نعم، قال: " فاقض لله؛ فهو أحق بالقضاء ". لكن ذكر الأخت في الحديث شاذ؛ ففي رواية أخرى للبخاري (4 / 52) وغيره من هذا الوجه: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت ... الحديث. قال الحافظ تحت هذه الرواية: " كذا رواه أبو بشر، عن سعيد بن جبير، من رواية أبي عوانة عنه، وسيأتي في (النذور) من طريق شعبة، عن أبي بشر، بلفظ: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن أختي نذرت ... ، فإن كان محفوظا؛ احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها ... ". ثم إن في الحديث اختلافا آخر؛ وهو: هل السائل والمسؤول عنه رجل أو امرأة؟ وقد ساق الحافظ طرق الحديث وألفاظه، وبين ما فيها من الاختلاف، ثم قال: " والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق: أن السائل رجل، وكانت ابنته معه، فسألت أيضا، والمسؤول عنه؛ أبو الرجل وأمه معا ". (ن)

وأما إيجاب الوصية بالحج، أو أنه يجزىء من كل أحد عن كل ميت: فلا دليل على ذلك فيما أعلم. نعم؛ إذا أوصى بالحج بنصيب من ماله؛ فقد جعل الله له ثلث ماله في آخر عمره يتصرف به كيف يشاء؛ ما لم يكن ضرارا؛ فالموصي بالحج كأنه أوصى بنصيب من ماله المأذون له بالتصرف في ثلثه، فيجب امتثال وصيته. وأما كون ذلك يسقط الواجب على الميت؛ فمحل تردد عندي، ولا سيما إذا كان الذي حج عنه ليس من قرابته (¬1) ؛ فإن القرابة لها تأثير في القيام ببعض الواجبات البدنية من الحي عن الميت؛ كما في حديث: " صام عنه وليه "، وكما في حديث الذي نذرت أخته أن تحج. وأما حديث: " حج عن نفسك، ثم عن شبرمة " (¬2) : فهو - وإن كان في بعض " السنن " -؛ لكن لم يصرح فيه بأن الملبي عن شبرمة كان أجنبيا عنه، بل ورد في رواية: وهو أخ له أو صديق؛ ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال. وفي لفظ؛ أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من شبرمة؟ "، قال: أخ لي أو قريب لي؛ وقد أخرج هذه الرواية البيهقي. والظاهر: أن اعتناءه به، وتلبيته عنه، وطيبة نفسه بأن يكون حجه له؛ ¬

_ (¬1) • قلت: ولا سيما إذا كان المحجوج عنه مقصرا في حياته؛ أعني أنه استطاع أن يحج، ولم يحج. (ن) (¬2) • قلت: هذا الحديث قد اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، والحق؛ أنه صحيح لطرقه وشواهده؛ وقد جمعتها في رسالة. (ن)

للقرابة بينهما؛ إذ من البعيد أن يفعل ذلك لغير من بينه وبينه قرابة؛ ثم ليس في الحديث أن شبرمة هذا قد كان مات إذ ذاك. وأما ما رواه الثعلبي في " تفسيره " بلفظ: " من أوصى بحجة؛ كانت أربع حجج، وحجة للذي كتبها "؛ فمع كونه غير مرفوع؛ لا يدرى كيف إسناده؟ والثعلبي ليس من أهل الرواية، فقد روى في " تفسيره " الموضوعات. وقد أخرج البيهقي مثل ما ذكره عن جابر مرفوعا، كما ذكره صاحب التخريج؛ فينظر في سنده؛ فما أظنه يصح (¬1) . والحاصل: أن هذا البحث طويل الذيول، متشعب الحجج والنقول، فمن رام العثور على الصواب؛ فعليه ب " الفتح الرباني فتاوى الشوكاني "، و " دليل الطالب على أرجح المطالب "؛ لهذا العبد الضعيف. وليس مقصودنا هنا إلا التنبيه على الحق الحقيق بالقبول؛ وإن أباه أكثر العقول. وحديث: " فدين الله أحق أن يقضى "؛ ليس المراد به دفع الأجرة لمن ¬

_ (¬1) • قلت: قد أصاب - رحمه الله -؛ فإنه عند البيهقي (5 / 180) من طريق أبي معشر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر؛ بلفظ آخر؛ وقال: " أبو معشر - هذا -؛ نجيح السندي: مدني ضعيف ". وفيه علة أخرى؛ من أجلها أورده ابن الجوزي في " الموضوعات "، ولكنها في الحقيقة ليست بعلة؛ انظر كلامنا على الحديث: " إن الله يدخل بالحجة الواحدة. . " في كتابي " معجم الحديث ". وقد رواه البيهقي من حديث أنس أيضا، ولفظه أقرب إلى لفظ الثعلبي، وصرح بضعف إسناده؛ وقد أوردته في الكتاب المشار إليه، فأغنى عن إعادته. (ن)

يحج، بل المراد أن الحج عن الوالد يصح من الولد؛ كما يصح منه قضاء الدين. ولا يرد على هذا أن اللفظ عام والاعتبار به؛ لأنا نقول: العموم ليس هو إلا باعتبار فعل فريضة الحج، لا باعتبار دفع المال لمن يحج؛ فهذا لم يرد به دليل، فعرفت بهذا أن ما يوصي به الميت من أجرة من يحج عنه؛ يكون خارجا من ثلثه المأذون به له. وأما من قال بوجوب الوصية على من لم يحج؛ فكان قياس قوله؛ أن تكون الأجرة الموصى بها من رأس المال؛ لأن وجوب الوصية فرع وجوب الأجرة في مال الموصي، ولا فرق بين وجوب مثل الأجرة من ماله، وبين وجوب مثل الزكاة. وأما ما يذكرونه من الفرق بين ما يتعلق بالمال ابتداء وانتهاء، وبين ما يتعلق بالبدن ابتداء وبالمال انتهاء: فشيء لا مستند له، ولا معول عليه.

باب العمرة المفردة

(2 - باب العمرة المفردة) وقد تقدمت صفتها. ( [يحرم للعمرة من الميقات] :) (يحرم لها من الميقات) ، أي: كالتنعيم؛ لأن الإحرام لها كالإحرام للحج، وقد تقدمت الأدلة في ذكر المواقيت؛ فإنها للحج والعمرة. ( [من كان في مكة يحرم للعمرة من الحل] :) (ومن كان في مكة خرج إلى الحل) : لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج عائشة إلى التنعيم، فتحرم للعمرة منه. (ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر) ، ولا خلاف في ذلك. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة: أنه أمر من لم يكن معه هدي بالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، فمن فعل ذلك؛ فقد حل الحل كله؛ فواقعوا النساء بعد ذلك.

العمرة مشروعة في جميع أيام السنة

( [العمرة مشروعة في جميع أيام السنة] :) (وهي مشروعة) : في " العالمكيرية ": العمرة عندنا سنة، وليست بواجبة. وللشافعي قولان: أظهرهما أنها فرض، والثاني: سنة. أقول: ولم يأت من قال بوجوبها بدليل ينتهض للوجوب، بل كل ما روي في ذلك متكلم عليه، مع أنه معارض بأحاديث أوردها من قال بعدم الوجوب مصرحة بذلك، وهي لا تخلو عن مقال. والواجب العمل على البراءة الأصلية، حتى يرد ناقل ينقل عنها، ولم يأت إلا ما يفيد مطلق المشروعية، لا المقيدة بالوجوب. فالحق ما قاله من ذهب إلى عدم الوجوب. (في جميع السنة) : لحديث عائشة عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال. وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة؛ إلا التي اعتمر مع حجته. ومن ذلك عمرة عائشة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم؛ فإن ذلك كان مع حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أهل الجاهلية يحرمون العمرة في أيام الحج، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم واعتمر، وأمر بالعمرة فيها.

وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عمرة في رمضان تعدل حجة ". أقول: ثبت اعتماره صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج، بل روي أن عمَرَه كلها كانت في أشهر الحج، وإنما فعل ذلك لقصد الرد على المشركين؛ فإنهم كانوا يرونها في أشهر الحج من أفجر الفجور. وأما تعليل بعض الفقهاء للكراهة بأن العمرة تشغل عن أعمال الحج: فليست أعمال الحج بمستغرقة لشوال والقعدة وبعض الحجة؛ بل هي في بعض أيام ذي الحجة؛ فما بال من ذهب إلى كراهة العمرة في أشهر الحج، وخالف هدي محمد صلى الله عليه وسلم؟ ! والحاصل: أن هذا ونحوه صنيع من لا يدري بالمدارك؛ خفيها وجليها، والله المستعان. ومن أراد الاطلاع على تفصيل أحكام الحج والعمرة على الوجه الثابت المأثور: فليرجع إلى منسكنا " رحلة الصديق إلى البيت العتيق "، وإلى كتابنا " مسك الختام شرح بلوغ المرام ".

الكتاب الثامن كتاب النكاح

(الكتاب الثامن: كتاب النكاح)

كتاب النكاح

(8 - كتاب النكاح) ( [الفصل الأول: أحكام الزواج] ) ( [تعريف النكاح] :) قال الزمخشري في " الكشاف ": " النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له، ونظيره تسمية الخمر إثما؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم ". انتهى. ولا ينافي هذا كثرة ورود النكاح في القرآن بمعنى العقد؛ حتى قال في " الكشاف ": " إنه لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد؛ لأن الكثرة ليست من خواص الحقيقة، ولا مخرجة للمجاز عن كونه مجازا، كما تقرر في موضعه ". على أن دعوى الكلية التي ذكرها صاحب " الكشاف " ممنوعة؛ فإن قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} لا يصح أن يراد به العقد؛ كما دل عليه الدليل من السنة، وذهب إليه جماهير الأمة، وكذلك ما ورد في كتاب الله من ألفاظ النكاح للمملوكات لا يكون إلا للوطء؛ إذ لا عقد هناك.

لمن يشرع الزواج

وبالجملة؛ فمعنى النكاح حقيقة: الوطء، ومجازا: العقد؛ كما صرح به الزمخشري، وهو أقعد بمعرفة اللغة من غيره؛ لا سيما التمييز بين المعاني الحقيقية والمجازية؛ فإنه المرجوع إليه في ذلك دون غيره ممن صارت مؤلفاتهم الآن متداولة بين أهل هذه العصور؛ كما لا يخفى على فطن. ( [لمن يشرع الزواج؟] ) (يشرع لمن استطاع الباءة) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء (¬1) ". والمراد بالباءة: النكاح. والأحاديث الواردة في الترغيب في النكاح كثيرة. وقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} . ¬

_ (¬1) الباءة: الجماع؛ يعني: من استطاع منكم الجماع؛ لقدرته على مؤنه - وهي مؤن النكاح -؛ فليتزوج. والوجاء - بكسر الواو -: الوجء؛ وهو أن ترض أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي؛ قاله في " اللسان ". (ش)

على من يجب الزواج

( [على من يجب الزواج؟] :) (ويجب على من خشي الوقوع في المعصية) ؛ لأن اجتناب الحرام واجب، وإذا لم يتم الاجتناب إلا بالنكاح كان واجبا. وعلى ذلك تحمل الأحاديث المقتضية لوجوب النكاح؛ كحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما، أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلي ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ ! لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وأخرج ابن ماجة، والترمذي من حديث الحسن، عن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل. قال الترمذي: إنه حسن غريب. قال: وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن، عن سعد ابن هشام، عن عائشة. ويقال: كلا الحديثين صحيح. انتهى. وفي سماع الحسن عن سمرة مقال معروف. وأخرج النهي عن التبتل: أحمد، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أنس.

التبتل حرام

وأخرج ابن ماجة من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " النكاح من سنتي؛ فمن لم يعمل بسنتي فليس مني ". ( [التبتل حرام] :) (والتبتل غير جائز) : لما تقدم. وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون. وكانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك النكاح، وهذا باطل؛ لأن طريقة الأنبياء - عليهم السلام - التي ارتضاها الله تعالى للناس: هي إصلاح الطبيعة، ودفع اعوجاجها، لا سلخها عن مقتضياتها. (إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه) ؛ لما ثبت في الكتاب العزيز من النهي عن مضارة النساء، والأمر بمعاشرتهن بالمعروف، فمن لا يستطيع ذلك؛ لم يجز له أن يدخل في أمر يوقعه في حرام. وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في العزبة والعزلة. ( [الأحكام الخمسة تعتري الزواج] :) أقول: الحاصل أن من كان محتاجا إلى النكاح، أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج؛ فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوبا؛ للأدلة الواردة فيها. ومن لم يكن محتاجا إليه، ولا كان فعله أولى له - كالحصور والعنين -؛

الصفات التي ينبغي توفرها في الزوجة

فقد يكون في حقه مكروها؛ إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات؛ من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله، أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم على المعصية، وأما إذا كان في غنية، بحيث لا يشتغل عن الطاعات، وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع، ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة؛ فالظاهر أنه مباح، وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل، فثم أدلة أخرى تقتضيها، وقواعد كلية؛ ولو قيل: إنه لا يكون في تلك الصورة مباحا؛ بل مكروها - لما ورد في العزبة والعزلة آخر الزمان -؛ لم يكن بعيدا من الصواب. ( [الصفات التي ينبغي توفرها في الزوجة] :) (وينبغي أن تكون المرأة ودودا) ، لأن تواد الزوجين به تتم المصلحة المنزلية، وكثرة النسل بها تتم المصلحة المدنية والملية. وود المرأة لزوجها دال على صحة مزاجها، وقوة طبيعتها، مانع لها من أن يطمح بصرها إلى غيره، باعث على تجملها بالامتشاط وغير ذلك، وفيه تحصين فرجه ونظره. (ولودا) ؛ لحديث أنس عند أحمد (¬1) وابن حبان - وصححه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ". وأخرج نحوه أحمد من حديث ابن عمر، وفي إسناده جرير بن عبد الله ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3 / 158 - 245) ؛ وسنده حسن. (ن)

العامري، وقد وثق، وفيه ضعف. وأخرج نحوه أبو داود (¬1) ، والنسائي، وابن حبان، من حديث معقل بن يسار. (بكرا) : لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " تزوجت بكرا أم ثيبا؟ "، قال: ثيبا. قال: " فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ ! ". (ذات جمال) ؛ فإن الطبيعة البشرية راغبة في الجمال، وكثير من الناس تغلب عليهم الطبيعة. والجمال وما يشبهه من الشباب مقصد من غلب عليه حجاب الطبيعة. (وحسب) ؛ يعني: مفاخر آباء المرأة؛ فإن التزوج في الأشراف شرف وجاه. (ودين) ؛ أي: عفة عن المعاصي، وبعدها عن الريب، وتقربها إلى بارئها بالطاعات. والدين مقصد من تهذب بالفطرة؛ فأحب أن تعاونه امرأته في دينه، ورغب في صحبة أهل الخير. (ومال) ؛ بأن يرغب في المال، ويرجى مواساتها معه في مالها، وأن يكون أولاده أغنياء؛ لما يجدون من قبل أمهم. ¬

_ (¬1) • وكذا الحاكم (2 / 162) - وصححه -، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)

والمال والجاه مقصد من غلب عليه حجاب الرسم. ووجهه ما في " الصحيحين "، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك ". وفي " صحيح مسلم " وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المرأة تنكح على دينها، ومالها، وجمالها؛ فعليك بذات الدين تربت يداك ". قال في " الحجة ": " قال صلى الله عليه وسلم: " خير النساء اللاتي ركبن الإبل؛ نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده " (¬1) . أقول: يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبيلة؛ عادات نسائها صالحة؛ فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان، وبمنزلة الأمر المجبول هو عليه. وبين أن نساء قريش خير النساء؛ من جهة أنهن أحنى إنسان على ولد في صغره، وأرعاه على الزوج في ماله ورقيقه، ونحو ذلك. وهذان من أعظم مقاصد النكاح، وبهما انتظام تدبير المنزل، وإن أنت فتشت حال الناس اليوم في بلادنا، وبلاد ما وراء النهر وغيرها؛ لم تجد أرسخ ¬

_ (¬1) • متفق عليه؛ وقد خرجته في " معجم الحديث ". (ن)

إلى من تخطب المرأة الكبيرة

قدما في الأخلاق الصالحة، ولا أشد لزوما لها من نساء قريش ". انتهى. ( [إلى من تخطب المرأة الكبيرة؟] ) (وتخطب الكبيرة إلى نفسها) ؛ لما في " صحيح مسلم " (¬1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أم سلمة يخطبها. ( [ما هو المعتبر من الكبيرة إذا خطبت إلى نفسها؟] :) (والمعتبر حصول الرضا منها) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره: " الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها ". وفي " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة، وعائشة نحوه. وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، من حديث ابن عباس: أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات (¬2) . وروي نحوه من حديث جابر؛ أخرجه النسائي (¬3) ، ومن حديث عائشة؛ ¬

_ (¬1) قلت: ليس في " صحيح مسلم " قصة الإرسال؛ وإنما فيه قصة أخرى متعلقة بأم سلمة. (¬2) • قلت: وهو كما قال الحافظ؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ لكن أعله الدارقطني وغيره بالإرسال؛ فانظر " سننه " (ص 387 - 388) ، والبيهقي (7 / 117) . ورد ذلك ابن القيم برواية جماعة له موصولا؛ وهو الصواب؛ انظر " المسند " (رقم 2469) . (ن) (¬3) • لم أجده عنده من حديث جابر؛ فلعله في " سننه الكبرى ". وقد أخرجاه عنه؛ الدارقطني (387) ، والبيهقي (7 / 117) بإسناد رجاله ثقات - أيضا -؛ عن عطاء عنه، ولكنهما قالا: " الصحيح عن عطاء "؛ مرسلا ". (ن)

أخرجه أيضا النسائي (¬1) . وأخرج ابن ماجة (¬2) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته؛ قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء؛ ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أحمد، والنسائي، من حديث ابن بريدة، عن عائشة (¬3) . قال في " الحجة البالغة ": " أقول: لا يجوز أيضا أن يحكم الأولياء فقط؛ لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها، ولأن حار العقد وقاره راجعان إليها، والاستئمار طلب أن ¬

_ (¬1) • (2 / 78) ؛ وكذلك أخرجه الدارقطني، والبيهقي؛ وقال: " مرسل، لم يسمع ابن بريدة من عائشة ". (ن) (¬2) • (1 / 577) من طريق هناد بن السري: ثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة عن أبيه. وقول الشارح تبعا للشوكاني: " رجاله رجال الصحيح "؛ صحيح. وأما قول صاحب " الزوائد ": " إسناده صحيح، وقد رواه غير المصنف من حديث عائشة "؛ قلت: فهذا غير صحيح؛ لأنه معل، والصحيح أنه من مسند عائشة. كذلك رواه أحمد (7 / 137) : ثنا وكيع ... به؛ إلا أنه قال: عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة. وكذلك أخرجه الدارقطني (ص 386) من طريق محمد بن الحجاج الضبي: نا وكيع ... به، ثم رواه من طريق جماعة عن كهمس ... به: فالحديث حديث عائشة؛ وهو منقطع كما سبق. (ن) (¬3) • قلت: هذا إعادة بدون كبير فائدة؛ فقد تقدم الحديث قبل سطور برواية النسائي وحده. (ن)

هل الكفاءة في الزواج معتبرة

تكون هي الآمرة صريحا، والاستئذان طلب أن تأذن ولا تمنع، وأدناه السكوت. وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة، كيف ولا رأي لها؟ ! قد زوج أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين ". انتهى. ( [هل الكفاءة في الزواج معتبرة؟] :) (لمن كان كفأ) ؛ لحديث علي عند الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم (¬1) إذا وجدت لها كفؤا " (¬2) . ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب؛ بل يحمل على أن المرأة إذا وجدت لها كفؤا ترضى خلقه ودينه؛ كما سيأتي. وأخرج الحاكم، من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العرب أكفاء بعضهم لبعض؛ قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل؛ إلا حائك، أو حجام ". وفي إسناده رجل مجهول، وقال أبو حاتم: إنه كذب، لا أصل له، وذكر الحفاظ أنه موضوع، وقد أوضح الكلام عليه الماتن في كتابه - في ¬

_ (¬1) هي التي لا زوج لها. (ش) (¬2) • هذا حديث ضعيف؛ كما بينته في " معجم الحديث "؛ فلا حجة فيه لو كان ظاهر الدلالة. (ن)

الموضوعات - الذي سماه " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ". ولكن رواه البزار في " مسنده " من طريق أخرى عن معاذ بن جبل رفعه: " العرب بعضها أكفاء لبعض "؛ وفيه سليمان بن أبي الجون (¬1) . ويغني عن ذلك ما في " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة: " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام؛ إذا فقهوا ". ولكن ليس فيه دلالة على المطلوب؛ لأن إثبات كون البعض خيرا من بعض لا يستلزم أن الأدنى غير كفؤ للأعلى. وهكذا حديث: " إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم " (¬2) : فإن هذا الاصطفاء لا يدل على أن الأدنى غير كفؤ للأعلى. وأخرج الترمذي، من حديث أبي حاتم المزني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه؛ فأنكحوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير "، قالوا: يا رسول الله {وإن كان فيه؟} قال: " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " - ثلاث مرات -؛ وقد حسنه الترمذي، وقال: " هذا حديث حسن غريب ". ¬

_ (¬1) • قلت: ولم أعرفه، وسيأتي (ص 178) التصريح بأن سنده ضعيف. (ن) (¬2) • وتمامه: " واصطفاني من بني هاشم ": رواه مسلم (7 / 58) (ن) .

بيان اعتبار الكفاءة في النكاح

ونقل المناوي عن البخاري أنه لم يعده محفوظا، وعده أبو داود في المراسيل، وأعله ابن القطان بالإرسال، وضعف راويه، وأبو حاتم المزني له صحبة، ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث (¬1) . وأخرج الدارقطني، عن عمر، أنه قال: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء ". ( [بيان اعتبار الكفاءة في النكاح] :) أقول: استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه ابن ماجة بإسناد رجاله رجال الصحيح، من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته؟ ! قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس إلى الآباء من أمر النساء شيء. وأخرجه أحمد، والنسائي، من حديث ابن بريدة عن عائشة (¬2) . ومحل الحجة منه قولها: ليرفع بي خسيسته؛ فإن ذلك مشعر بأنه غير كفؤ لها. ولا يخفى أن هذا إنما هو من كلامها، وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها؛ ¬

_ (¬1) • قلت: لكن له شاهد من حديث أبي هريرة؛ فالحديث حسن عندي، وقد تكلمت عليه، وخرجته في " معجم الحديث "، وسيذكر الشارح قريبا الشاهد المشار إليه (ن) (¬2) • قلت: وهذا هو الصواب؛ وهو منقطع، والذي قبله وهم من بعض رواته؛ كما بينا آنفا. (ن)

لكون رضاها معتبرا، فإذا لم ترض لم يصح النكاح؛ سواء كان المعقود له كفؤا أو غير كفؤ. أيضا هو زوجها بابن أخيه؛ وابن عم المرأة كفؤ لها. واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد، والنسائي - وصححه -، وابن حبان، والحاكم (¬1) ، من حديث بريدة مرفوعا: " إن أحساب أهل الدنيا الذين (¬2) يذهبون إليه المال ". وبما أخرجه أحمد، والترمذي - وصححه هو والحاكم (¬3) - من حديث سمرة مرفوعا: " الحسب المال، والكرم التقوى ". ويحتمل أن يكون المراد: أن هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا - كما صرح به في حديث بريدة -، وأن هذا حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال، وعدم اعتدادهم بالدين، فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع. وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - زوج مولاه زيد بن حارثة ¬

_ (¬1) • أخرجه (2 / 163) من طريق الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه؛ مرفوعا، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. وأقول: الحسين - هذا - إنما أخرج له البخاري تعليقا؛ فالحديث على شرط مسلم وحده، وهو في " المسند " (5 / 353) ، و " النسائي " (2 / 71) ، و " البيهقي " (7 / 135) بنحوه. (ن) (¬2) • كذا في " المسند " بصيغة الجمع، وفي " النسائي "، و " المستدرك ": " الذي "؛ على الإفراد؛ (ن) (¬3) • ووافقه الذهبي، وأخطأوا جميعا؛ فإن للحديث علتين: عنعنة الحسن عن سمرة، وتفرد سلام بن أبي مطيع به عن قتادة، وروايته عنه ضعيفة. وقد خرجت الحديث، وتكلمت عليه في " المعجم "؛ فليراجع. (ن)

بزينب بنت جحش القرشية، وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية، وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالا بأخته. وأخرج أبو داود: أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا بني بياضة {أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه ". أخرجه أيضا الحاكم، وحسنه (¬1) ابن حجر في " التلخيص ". وأخرج البخاري، والنسائي، وأبو داود، عن عائشة: أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبنى سالما، وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى امرأة من الأنصار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه؛ فزوجوه؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض ". أخرجه الترمذي، من حديث أبي هريرة. قال في " الحجة البالغة ": " أقول: ليس في هذا الحديث أن الكفاءة غير معتبرة، كيف وهي مما جبل عليه طوائف الناس، وكاد يكون القدح فيها أشد من القتل؟} والناس على مراتبهم، والشرائع لا تهمل مثل ذلك، ولذلك قال عمر: لأمنعن النساء إلا من أكفائهن؛ ولكنه أراد أن لا يتبع أحد محقرات الأمور نحو قلة المال، ¬

_ (¬1) • وهو كما قال؛ انظر " سنن أبي داود " (1 / 327) ، و " المستدرك " (2 / 164) . (ن)

ورثاثة الحال، ودمامة الجمال، أو يكون ابن أم ولد، ونحو ذلك من الأسباب بعد أن يرضى دينه وخلقه؛ فإن أعظم مقاصد تدبير المنزل: الاصطحاب في خلق حسن، وأن يكون ذلك الاصطحاب سببا لصلاح الدين ". وقال في " المسوى " في باب الكفاءة. " قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} ، وقال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون} . قلت: هذه الآيات تدل على تفاوت مراتب الناس، وأن ذلك أمر ثابت فيهم، ولم يرده الله تعالى، فكان تقريرا. ثم اختلفوا في تحديد المعاني التي يقع بها التفاوت، فذهب أكثرهم إلى أنها أربعة: الدين، والحرية، والنسب، والصناعة، والمراد من الدين: الإسلام والعدالة. واعتبر الشافعي السلامة من العيوب المثبتة للخيار أيضا، ومعنى اعتبار الكفاءة عند أبي حنيفة: أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير الكفؤ؛ فللأولياء أن يفرقوا بينهما. وعند الشافعي: أن أحد الأولياء المستوين إذا زوجها برضاها نم غير كفؤ؛ لم يصح، وفي قول: يصح. وله الفسخ إذا زوج الأب بكرا صغيرة أو بالغة بغير رضاها، وفيه القولان أيضا ". انتهى.

أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: " من ترضون دينه وخلقه "؛ فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق. وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين: مالك. ونقل عن عمر وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر ابن عبد العزيز، ويدل عليه قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} . واعتبر الكفاءة في النسب: الجمهور. وقال أبو حنيفة: قريش أكفاء بعضهم بعضا، والعرب كذلك. وليس أحد من العرب كفؤا لقريش، كما ليس أحد من غير العرب كفؤا للعرب؛ وهو وجه للشافعية. قال في " الفتح ": " والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض ". قال الشافعي: " ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث ". وأما ما أخرجه البزار، من حديث معاذ رفعه: " العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض "؛ فإسناده ضعيف. قال في " الفتح ": " واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه؛ فلا تحل المسلمة لكافر ". انتهى.

وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة في النكاح على الإطلاق: العلم؛ لحديث: " العلماء ورثة الأنبياء ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، من حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في " العلل "، قال المنذري: " هو مضطرب الإسناد ". وقد ذكر البخاري في " صحيحه " بغير إسناد (¬1) . والقرآن الكريم شاهد على ما ذكرناه. فمن ذلك قوله - تعالى -: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ، وقوله - تعالى -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، وقوله - تعالى - {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة، منها حديث: " خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " - وقد تقدم -. وبالجملة: إذا تقرر لك هذا؛ عرفت أن المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق، لا في النسب. لكن؛ لما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن حسب أهل الدنيا المال، وأخبر صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في " الصحيح " عنه - أن في أمته ثلاثا من أمر الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة؛ كان تزوج غير الكفؤ في النسب والمال من أصعب ما ينزل بمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر. ¬

_ (¬1) • لكنه حسن؛ كما بينته في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب ". (ن)

قال الماتن - رحمه الله -: " ومن هذا القبيل؛ استثناء الفاطمية من قوله: (ويغتفر برضا الأعلى والولي) ، وجعل بنات فاطمة - رضي الله عنها - أعلى قدرا وأعظم شرفا من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلبه ". فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغريبة، والتصلبات على أمر الجاهلية، وإذا لم يتركها من عرف أنها من أمور الجاهلية من أهل العلم؛ فكيف يتركها من لم يعرف ذلك؟ ! والخير كل الخير في الإنصاف والانقياد لما جاء به الشرع؛ ولهذا أخرج الحاكم في " المستدرك " - وصححه (¬1) - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ". فهذا نص في محل الخلاف. انظر أمهات العبرة الطاهرة، الذين هم قدوة السادة وأسوة القادة في كل خير ودين، من كن؟ فأم أبي العترة الإمام زين العابدين علي بن الحسين: شهريانو بنت يزدجرد ابن شهريار بن شيرويه بن خسروبرويز بن هرمز بن نوشيروان - ملك الفرس -. وأم الإمام موسى الكاظم أم ولد؛ اسمها حميدة. وأم الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم أم ولد أيضا؛ اسمها تكتم. ¬

_ (¬1) • ورده الذهبي فأصاب؛ لكن للحديث طريق أخرى حسنة، أوردتها في " الروض النضير "؛ فانظر (رقم 651) ؛ وقد رواه الطيالسي (رقم 378) . (ن)

إلى من تخطب الصغيرة

وأم الإمام علي بن محمد بن علي المذكور الملقب بالجواد والتقي أم ولد؛ اسمها خيزران، وقيل: ريحانة. وأم الإمام علي بن محمد الملقب بالهادي والعسكري أم ولد، اسمها سمانة. وأم الإمام حسن بن علي الملقب بالزكي والخالص والعسكري أم ولد؛ اسمها سوسن. وأم الإمام محمد بن حسن الملقب بالحجة والقائم والمهدي أم ولد؛ اسمها نرجس. وهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب، وإنما أخذ بذلك الجهلة من الأمة، لا سيما أهل القرى والقصبات من نسل العترة والصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. وأكثرهم خائضون في الباطل، عاطلون عن حلي العلم الموصل إلى الحق؛ وكان أمر الله قدرا مقدورا. ( [إلى من تخطب الصغيرة؟] :) (و) تخطب (الصغيرة إلى وليها) ؛ لما في " صحيح البخاري " وغيره، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر (¬1) . ¬

_ (¬1) • فائدة: وينبغي أن لا يزوج صغيرته - ولو بالغة - من رجل يكبرها في السن كثيرا، بل ينبغي أن يلاحظ تقاربهما في السن؛ لما روى النسائي (2 / 70) بسند صحيح عن بريدة بن الحصيب، قال: خطب أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها صغيرة "، فخطبها علي، فزوجها منه. قال السندي: " فيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية؛ لكونها أقرب إلى الألفة، نعم؛ قد يترك ذلك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة - رضي الله عنها - ". (ن)

متى تحرم الخطبة

(ورضا البكر صمتها) ؛ لما تقدم من الأحاديث الصحيحة. ( [متى تحرم الخطبة] :) (1 -[في العدة] :) (وتحرم الخطبة في العدة) ؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حللت فآذنيني "؛ فآذنته (¬1) الحديث، وهو في " صحيح مسلم " وغيره. وأخرج البخاري (¬2) ، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فيما عرضتم به من خطبة النساء} ، قال: يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أنه ييسر (¬3) لي امرأة صالحة. وأخرج الدارقطني، عن محمد بن علي الباقر - عليهما السلام -: أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال: " لقد علمت أني رسول الله، وخيرته من خلقه، وموضعي من قومي "؛ وكانت تلك خطبته ". والحديث منقطع. ¬

_ (¬1) • ليس في الحديث دلالة ظاهرة على ما ذكره الشارح؛ وإنما في قوله: " فآذنيني "؛ جواز التعريض بخطبة البائن. ولعل الشارح أخذ ذلك من مفهوم هذا القول؛ فإن له أن يقول: لم تكن الخطبة محرمة لما عرض صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. (ن) (¬2) • في (النكاح) (6 / 131 - طبع إستانبول) . (ن) (¬3) • في " البخاري ": " تيسر ". (ن)

الخطبة على الخطبة

قال في " الفتح ": " واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم: من مات عنها زوجها، واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن، وكذا من وقف نكاحها، وأما الرجعية فقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها. والحاصل؛ أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح في الأولى، وحرام في الأخيرة، ومختلف فيه في البائن ". (2 -[الخطبة على الخطبة] :) (و) الخطبة (على الخطبة) ؛ لحديث عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن أخو المؤمن؛ فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، حتى يذر "؛ وهو في " صحيح مسلم "، وغيره. وأخرج البخاري، وغيره، من حديث أبي هريرة: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه؛ حتى ينكح أو يترك ". وأخرج أيضا، من حديث ابن عمر: " لا يخطب الرجل على خطبة الرجل؛ حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له ". وقد ذهب إلى تحريم ذلك الجمهور. ( [جواز النظر إلى المخطوبة] :) (ويجوز) له (النظر إلى المخطوبة) ؛ لحديث المغيرة عند أحمد، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي، والدارمي، وابن حبان - وصححه -: أنه خطب امرأة

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يودم (¬1) بينكما "، فأتى أبويها، فأخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر؛ وإلا فإني أنشدك (¬2) ؛ كأنها عظمت ذلك عليه، فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها؛ ذكره أحمد، وأهل " السنن " (¬3) . ¬

_ (¬1) أي: تحصل الموافقة والملاءمة بينكما. (ش) (¬2) أي: أقسم عليك بالله. (ش) (¬3) • هذا تكرار بدون فائدة {وهو في " المسند " (4 / 244 - 246) - والسياق له -، و " النسائي " (2 / 73) ، و " الترمذي " (2 / 169) ، و " الدارمي " (2 / 134) ، و " ابن ماجه " (1 / 575) ، و " البيهقي " - أيضا - (7 / 84 - 85) ؛ من طريق بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة؛ وليس عند النسائي، والترمذي، والدارمي قصة إتيانه أبويها؛ وإسناده عند الجميع صحيح على شرطهما؛ وحسنه الترمذي فقصر} وله طريق أخرى عند ابن ماجه، والبيهقي؛ من حديث أنس: أن المغيرة أراد ... وصححه الحاكم على شرطهما (2 / 165) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. واعلم أنهم اختلفوا فيما يجوز له أن ينظر منها: فالأكثرون - كما قال النووي - على أنه الوجه والكفان فقط. وخالفهم ابن حزم؛ فقال في " المحلى " (10 / 30 - 31) : إنه ما ظهر منها وما بطن؛ واحتج بحديث جابر؛ مرفوعا: " إذا خطب أحدكم امرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها؛ فليفعل "؛ قال جابر: فخطبت جارية؛ فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها؛ فتزوجتها. أخرجه أبو داود (1 / 325) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي؛ وفيه ابن إسحاق؛ وقد عنعن؛ لكن صرح بسماعه عند أحمد (3 / 360) ؛ فزالت شبهة تدليسه. وفي الباب عن محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - نحو حديث جابر وقصته. والحديث؛ إن لم يدل على ما ذهب إليه ابن حزم؛ فمما لا شك فيه أنه يدل على قدر زائد على ما ذهب إليه الأكثرون؛ والله أعلم. (ن)

الولي شرط لصحة النكاح

وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنظرت إليها؟ "، قال: لا، قال: " فاذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئا ". وفي الباب أحاديث. ( [الولي شرط لصحة النكاح] :) (ولا نكاح إلا بولي) ؛ لحديث أبي موسى عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا نكاح إلا بولي ". وحديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم، وأبي عوانة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها؛ فلها المهر بما استحل من فرجها؛ فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ". وفي الباب أحاديث. قال الحاكم: " وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ عائشة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش "، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيا. أقول: الأدلة الدالة على اعتبار الولي - وأنه لا يكون العاقد سواه، وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل -؛ قد رويت من طريق جماعة

من هو الولي

من الصحابة، فيها الصحيح والحسن وما دونهما، فاعتباره متحتم. وعقد غيره مع عدم عضله باطل بنص الحديث، لا فاسد؛ على تسليم أن الفساد واسطة بين الصحة والبطلان. ولا يعارض هذه الأحاديث حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن "، ونحوه كحديث: " ليس للولي مع الثيب أمره، واليتيمة تستأمر " (¬1) ؛ لأن المراد أنها أحق بنفسها في تعيين من تريد نكاحه إن كانت ثيبا، والبكر يمنعها الحياء من التعيين، فلا بد من استئذانها، وليس المراد أن الثيب تزوج نفسها، أو توكل من يزوجها مع وجود الولي؛ فعقد النكاح أمر آخر. وبهذا تعلم أن لا وجه لما ذهبت إليه الظاهرية؛ من اعتبار الولي في البكر دون الثيب. والولي عند الجمهور هو الأقرب من العصبة (¬2) ، وروي عن أبي حنيفة: أن ذوي الأرحام من الأولياء. ( [من هو الولي؟] :) أقول: الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال: " إن الأولياء هم ¬

_ (¬1) قلت: هو حديث ضعيف؛ انظر تضعيفه في " الصحيحة " (تحت الحديث 1216) وفي " ضعيف الجامع ". (¬2) • في " النهاية ": " العصبة: الأقارب من جهة الأب؛ لأنهم يعصبونه، ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به، ويشتد بهم ". (ن)

قرابة المرأة الأدنى فالأدنى، الذين يلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء، وكان المزوج لها غيرهم. وهذا المعنى لا يختص بالعصبات؛ بل قد يوجد في ذوي السهام؛ كالأخ لأم، وذوي الأرحام؛ كابن البنت، وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الأعمام ونحوهم. فلا وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصبات، كما أنه لا وجه لتخصيصها بمن يرث، ومن زعم ذلك فعليه الدليل، أو النقل بأن معنى الولي في النكاح - شرعا أو لغة - هو هذا. وأما ولاية السلطان فثابتة بحديث: " إذا تشاجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي لها "؛ فهذا الحديث، وإن كان فيه مقال (¬1) ؛ فهو لا يسقط به عن رتبة الاستدلال؛ وهو يدل على حكمين: الأول: أن تشاجر الأولياء يوجب بطلان ولايتهم، ويصيرهم كالمعدومين. الثاني: أنهم إذا عدموا كانت الولاية للسلطان (¬2) . ¬

_ (¬1) • وهو أنه من رواية سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ مرفوعا باللفظ المتقدم قبل صفحتين، فقيل: إن الزهري أنكره، فروى أحمد (6 / 47) : ثنا إسماعيل: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني سليمان بن موسى ... به، قال ابن جريج: فلقيت الزهري، فسألته عن هذا الحديث؟ فلم يعرفه، قال: وكان سليمان بن موسى وكان، فأثنى عليه، وقد رد المحققون المقال المذكور؛ بأن سليمان هذا ثقة بشهادة الزهري نفسه، فجائز أنه حدث سليمان بهذا الحديث، ثم نسيه، كما وقع ذلك لغيره، فلا يجوز رد الحديث بنسيانه مع حفظ سليمان له عنه، لا سيما ولم يتفرد به عنه، فراجع " نصب الراية " (2 / 184 - 187، 188 - 189) . (ن) (¬2) • والمراد به هنا القاضي؛ لأن إليه أمر الفروج والأحكام، كما قال أحمد في " المسند " عقب الحديث. (ن)

وإذا تحرر لك ما ذكرناه في الأولياء؛ فاعلم أن من غاب منهم عند حضور الكفء ورضا المكلفة به - ولو في محل قريب، إذا كان خارجا عن بلد المرأة ومن يريد نكاحها -؛ فهو كالمعدوم، والسلطان ولي من لا ولي له، اللهم إلا أن ترضى المرأة ومن يريد الزواج بالانتظار لقدوم الغائب، فذلك حق لهما، وإن طالت المدة. وأما مع عدم الرضا فلا وجه لإيجاب الانتظار، ولا سيما مع حديث: " ثلاث لا يؤخرن إذا حانت - منها -: الأيم إذا حضر كفؤها "، كما أخرجه الترمذي والحاكم؛ وجميع ما ذكر من تلك التقديرات بالشهر وما دونه؛ ليس على شيء منها أثارة من علم. ومع ذلك؛ فالقول بأن غيبة الولي الموجبة لبطلان حقه هي الغيبة التي يجوز الحكم معها على الغائب؛ هو قول مناسب إذا صح الدليل على أنه لا يجوز الحكم على الغائب؛ إلا إذا كان في مسافة القصر؛ فإن لم يصح دليل على ذلك؛ فالواجب الرجوع إلى ما ذكرناه. فإن قلت: إذا كان ولي النكاح هو أعم من العصبات كما ذكرته؛ فما وجهه؟ قلت: وجهه أنا وجدنا الولاية قد أطلقت في كتاب الله - تعالى - على ما هو أعم من القرابة: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} ، ووجدناها قد أطلقت في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو أخص من ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: " السلطان ولي من لا ولي له ". ولا ريب أنه لم يكن المراد في الحديث ما في الآية؛ وإلا لزم أنه لا

ولاية للسلطان إلا عند عدم المؤمنين، وهو باطل؛ لأنه أحدهم؛ بل له مزية عليهم لا توجد في أفرادهم. وإذا ثبت أنه لم يكن المراد بالولي في الحديث الأولياء المذكورين في الآية؛ فليس بعض من يصدق عليه اسم الإيمان أولى من بعض إلا بالقرابة؛ [فتبين أن المراد القرابة] (¬1) ؛ ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض. وهذه الأولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال، أو استحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث أو كولاية الصغير؛ بل باعتبار أمر آخر؛ وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به، وهذا لا يختص بالعصبات كما بينا؛ بل يوجد في غيرهم، ولا شك أن بعض القرابة أدخل في هذا الأمر من بعض. فالآباء والأبناء أولى من غيرهم، ثم الإخوة لأبوين، ثم الإخوة لأب أو لأم، ثم أولاد البنين وأولاد البنات، ثم أولاد الإخوة وأولاد الأخوات، ثم الأعمام والأخوال، ثم هكذا من بعد هؤلاء. ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض؛ فليأتنا بحجة، وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه؛ فلسنا ممن يعول على ذلك؛ وبالله التوفيق. قال في " الحجة ": " وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم. واستبداد النساء بالنكاح وقاحة منهن؛ منشؤها قلة الحياء، واقتضاب على ¬

_ (¬1) • صح. (ن)

الأولياء، وعدم اكتراث بهم. وأيضا؛ يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير؛ وأحق التشهير أن يحضر أولياؤها، ولا يجوز أن يحكم في النكاح النساء خاصة؛ لنقصان عقلهن، وسوء فكرهن؛ فكثيرا ما لا يهتدين للمصلحة. ولعدم حماية الحسب منهن غالبا؛ فربما رغبن في غير الكفء، وفي ذلك عار على قومها، فوجب أن يجعل للأولياء شيء من هذا الباب؛ لتسد المفسدة. وأيضا فإن (¬1) السنة الفاشية في الناس من قبل - ضرورة -؛ أنهن عوان (¬2) بأيديهم، وهو قوله - تعالى -: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} ". انتهى. قال الشافعي: " لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب، فإن لم يكن؛ فبعبارة الولي البعيد، فإن لم يكن؛ فبعبارة السلطان، فإن زوجت نفسها أو غيرها بإذن الولي أو بغير إذنه؛ بطل ولم يتوقف ". ¬

_ (¬1) • في العبارة شيء! ثم رجعت إلى الأصل المنقول عنه، وهو كتاب " حجة الله البالغة " (2 / 127) ، فتبين أن فيها سقطا نحو سطر، والصواب هكذا: " فإن السنة الفاشية في الناس من قبل - ضرورة جبلية -؛ أن يكون الرجال قوامين على النساء، ويكون بيدهم الحل والعقد، وعليهم النفقات، وإنما النساء عوان بأيديهم ... ". (ن) (¬2) العوان من النساء هي التي قد كان لها زوج؛ وقيل: الثيب. (ش) • قلت: هذا التفسير هنا خطأ بيّن؛ فإنه مبني على أن " عوان "؛ مفرد " عون "؛ وليس كذلك؛ بل هو جمع " عانية " - وهي الأسيرة -؛ والجمع: عوان وعانيات، وهو المراد هنا. (ن)

الشاهدان شرط لصحة النكاح

وتأويل قوله: " لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها ": لا يزوجها إلا وكيل الولي، ويفهم تزويجها بنفسه بالأولى. وقال أبو حنيفة: ينعقد نكاح المرأة الحرة العاقلة البالغة برضاها - وإن لم يعقد عليها ولي - بكرا كانت أو ثيبا. وتأويل الحديث: أنه يكره لها ذلك؛ خشية أن تقصر في رعاية الكفاءة وغيرها، أو تنسب إلى الوقاحة. أو تأويله: إن للولي حق الاعتراض في غير الكفء. فمعنى قوله: " لا تنكح "؛ أي: لا تستقل بنكاحها إلا بإذنه؛ لأن له حق الاعتراض في غير الكفء. وقال محمد: ينعقد موقوفا على إذنه؛ كذا في " المسوى ". ( [الشاهدان شرط لصحة النكاح] :) (وشاهدين) ؛ لحديث عمران بن حصين عند البيهقي، والدارقطني في " العلل "، وأحمد في رواية ابنه عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". وفي إسناده عبد الله بن محرر، وهو متروك. وأخرج الدارقطني، والبيهقي، من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن

متى تبطل ولاية الولي

تشاجروا؛ فالسلطان ولي من لا ولي له " (¬1) . وإسناده ضعيف. وأخرج الترمذي، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة " (¬2) . وصحح الترمذي وقفه. وهذه الأحاديث - وما ورد في معناها - يقوي بعضها بعضا؛ وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. قال في " شرح السنة ": " أكثر أهل العلم على أن النكاح لا ينعقد إلا ببينة، ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضورا حالة العقد، واختلفوا في صفة الشهود؛ قال الشافعي: لا ينعقد إلا بمشهد رجلين عدلين، وقال أبو حنيفة: ينعقد برجل وامرأتين، وبفاسقين ". كذا في " المسوى ". وفي " الموطإ " في باب: " لا يحل نكاح السر ": " مالك: عن أبي الزبير المكي، أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة؛ فقال: هذا نكاح السر ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت ". ( [متى تبطل ولاية الولي؟] :) (إلا أن يكون) الولي (عاضلا أو غير مسلم) ؛ لقوله - تعالى -: {فلا ¬

_ (¬1) انظره - مصححا - بطرقه في " إرواء الغليل " (6 / 243 / رقم 1840) لشيخنا. (¬2) هو حديث ضعيف؛ وانظر " إرواء الغليل " (1862) .

جواز التوكيل لعقد النكاح

تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ، ولتزوجه - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بنت أبي سفيان من غير وليها؛ لما كان كافرا حال العقد. ( [جواز التوكيل لعقد النكاح] :) (ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح؛ ولو واحدا) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند أبي داود (¬1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم، وقال للمرأة: " أترضين أن أزوجك فلانا؟ "، قالت: نعم؛ فزوج أحدهما صاحبه ... الحديث. وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم: الأوزاعي، وربيعة، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، والليث، وأبو ثور. وحكى في " البحر " عن الشافعي، وزفر: أنه لا يجوز. وقال في " الفتح ": وعن مالك: لو قالت المرأة لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه أو ممن اختار؛ لزمها ذلك،؛ ولو لم تعلم عين الزوج. وقال الشافعي: يزوجه السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، ووافقه زفر. وأما استحباب النثار؛ فأقول: لم يصح في ذلك شيء؛ كما أوضحه في " النيل "، و " السيل "، ولا بأس بنثر شيء من المأكولات، فهو من جملة ¬

_ (¬1) • (1 / 330) ، وكذا البيهقي (7 / 232) ؛ وسندهما صحيح. (ن)

الفصل الثاني الأنكحة المحرمة

الإطعام المندوب؛ إنما الشأن في الحكم بمشروعية انتهابه مع ورود الأحاديث الصحيحة بالنهي عن النهبى؛ والظاهر أن هذا نوع منها، ولم يرد ما يدل على التخصيص؛ لا من وجه صحيح، ولا حسن، بل ولا ضعيف ينجبر. وأما إجابة الوليمة؛ فأحاديث الأمر بالإجابة صحيحة؛ ولم يأت ما يقتضي صرفها عن الوجوب. نعم؛ الولائم المشوبة بالمنكرات - مع عدم القدرة على التغيير - لا يجوز حضورها؛ كما يدل عليه حديث النهي عن الجلوس على المائدة التي تدار عليها الخمر، وسائر المعاصي تقاس على ذلك. ( [الفصل الثاني: الأنكحة المحرمة] ) (1 -[حكم نكاح المتعة] ) (ونكاح المتعة) (¬1) ؛ قال في " الحجة ": " رخص فيها - صلى الله عليه وسلم - أياما، ثم نهى عنها ". أما الترخيص أولا؛ فلمكان حاجة تدعو إليه؛ كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله، أشار ابن عباس أنها لم تكن يومئذ استئجارا على مجرد البضع؛ بل كان ذلك مغمورا في ضمن حاجات؛ من باب تدبير المنزل (¬2) ، كيف ¬

_ (¬1) هو نكاح إلى أجل مؤقت؛ كيومين، أو ثلاثة، أو شهر أو غير ذلك. (ش) (¬2) • يشير إلى ما أخرجه الترمذي (2 / 187) ؛ من طريق موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ كان الرجل يقدم بلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أن يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شيأه، حتى إذا نزلت الآية: {إلا على =

الأدلة على نسخ نكاح المتعة

والاستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية، ووقاحة يمجها الباطن السليم؟ { وأما النهي عنها؛ فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات، وأيضا ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب؛ لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه، ويكون الأمر بيدها، فلا يدري ماذا تصنع؟} وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأبيد في غاية العسر؛ فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع؟ ! فإن أكثر الراغبين في النكاح؛ إنما غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج. وأيضا؛ فإن من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح: التوطين على المعاونة الدائمة، وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس ". انتهى. في " شرح السنة ": اتفق العلماء على تحريم المتعة؛ وهو كالإجماع بين المسلمين. ( [الأدلة على نسخ نكاح المتعة] :) (منسوخ) ؛ فإنه لا خلاف أنه قد كان ثابتا في الشريعة؛ كما صرح بذلك القرآن: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن (¬1) } ؛ ولما في " الصحيحين " ¬

_ = أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ؛ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما؛ فهو حرام. قلت: لكن موسى بن عبيدة ضعيف؛ كما في " التقريب "، وغيره، وانظر " الاعتبار " للحازمي. (ن) (¬1) • هذا على قول الجمهور أن المراد بالآية المتعة، وحملها آخرون على النكاح المشروع، قالوا: الاستمتاع: التلذذ، والأجور: المهور، وسمي المهر أجرا؛ لأنه أجر الاستمتاع؛ انظر القرطبي (4 / 129) . (ن)

من حديث ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا - بعد - أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ". وفي الباب أحاديث. وثبت النسخ من حديث جماعة: فأخرج مسلم، وغيره من حديث سبرة الجهني: أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء؛ قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ من حديثه: وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة. وأخرج الترمذي (¬1) ، عن ابن عباس: إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} . وفي " الصحيحين "، من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر. والأحاديث في هذا الباب كثيرة، والخلاف طويل، وقد استوفاه الماتن في " نيل الأوطار ". ¬

_ (¬1) • في (النكاح) (2 / 187) ، وسكت عليه، وهو ظاهر الضعف؛ لأن مداره على موسى ابن عبيدة، وهو ضعيف، ومن طريقه أخرجه البيهقي (7 / 205 - 206) ، والحازمي في " الاعتبار " (ص 140) بنحوه، ثم قال: " هذا إسناد صحيح؛ لولا موسى بن عبيدة ". وسيعيد المصنف الحديث بزيادة في آخره عن ابن عباس، وهو هو؛ فتنبه! (ن)

ورواية من روى تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب. وهذا نهي مؤبد وقع في آخر موطن من المواطن التي سافر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعقبه موته بعد أربعة أشهر، فوجب المصير إليه. ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة؛ أنهم ثبتوا على المتعة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته إلى آخر أيام عمر؛ كما زعمه صاحب " ضوء النهار "؛ فإن من علم النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم، واستمرار من استمر عليها؛ إنما كان لعدم علمه بالناسخ. وأما ما صار يهول به جماعة من المتأخرين؛ من أن تحليل المتعة قطعي، وحديث تحريمها على التأبيد ظني، والظني لا ينسخ القطعي، حتى قال المقبلي: إن الجمهور لم يجدوا جوابا على هذا؛ فيقال: إن كان كون التحليل قطعيا لكونه منصوصا عليه في الكتاب العزيز -؛ فذلك وإن كان قطعي المتن؛ فليس بقطعي الدلالة؛ لأمرين: أحدهما: أنه يمكن حمله على الاستمتاع بالنكاح الصحيح. الثاني: أنه عموم؛ وهو ظني الدلالة (¬1) . على أنه قد روى الترمذي، عن ابن عباس، أنه قال: إنما كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} ؛ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام. ¬

_ (¬1) • ونحوه قول الشوكاني (6 / 118) : " إن النسخ بذلك الظني؛ إنما هو لاستمرار الحل، لا لنفس الحل، والاستمرار ظني لا قطعي ". (ن)

نكاح التحليل حرام

وهذا يدل على التحريم بالقرآن فيكون ما هو قطعي المتن ناسخا لما هو قطعي المتن، وإن كان التحليل قطعيا - لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر -؛ فيقال: وقد وقع الإجماع أيضا على التحريم في الجملة عند الجميع، وإنما الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا؟ وكون هذا التأبيد ظنيا؛ لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به. فالحاصل؛ أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه المقيد بقيد ظني، وهو التأبيد، فالناسخ والمنسوخ قطعيان. هذا على التسليم أن ناسخ القطعي لا يكون إلا قطعيا؛ كما قرره جمهور أهل الأصول، وإن كنت لا أوافقهم على ذلك. (2 -[نكاح التحليل حرام] :) (والتحليل حرام) ؛ لحديث ابن مسعود عند أحمد، والنسائي، والترمذي، - وصححه -، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له. وصححه أيضا ابن القطان، وابن دقيق العيد. وله طريق أخرى؛ أخرجها عبد الرزاق، وطريق ثالثة؛ أخرجها إسحاق في " مسنده ". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن السكن، من حديث علي مثله.

وأخرج ابن ماجه، والحاكم، من حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "، قالوا بلى يا رسول الله! قال: هو " المحلل؛ لعن الله المحلل والمحلل له ". وفي إسناده يحيى بن عثمان، وهو ضعيف، وقد أعل بالإرسال (¬1) . وأخرج أحمد، والبيهقي، والبزار، وابن أبي حاتم، والترمذي في " العلل "، من حديث أبي هريرة نحوه، وحسنه البخاري (¬2) . ¬

_ (¬1) • يعني الانقطاع بين الليث بن سعد ومشرح بن هاعان؛ والحق أن الحديث حسن الإسناد؛ كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في " إبطال التحليل " (3 / 155 - 156 - من " الفتاوى ") ، وأجاب عما أعل به الحديث جوابا شافيا، ونقله عنه تلميذه في " إعلام الموقعين " (3 / 56 - 58) . والحديث عند ابن ماجه (1 / 597) ، و " المستدرك " (2 / 198 - 199) ، عن يحيى بن عثمان ابن صالح: ثنا أبي، قال: سمعت الليث بن سعد يقول: قال [لي] أبو مصعب مشرح بن هاعان، عن عقبة ... به. وزيادة (لي) عند ابن ماجه؛ فهي ترد الانقطاع المزعوم فيه، ويؤيد ذلك أن الحاكم رواه من طريق أبي صالح - وهو كاتب الليث - ثنا الليث بن سعد، قال: سمعت مشرح بن هاعان ... به. ففيه التصريح بسماع الليث من مشرح. وفيه أن يحيى بن عثمان لم يتفرد به؛ ولذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وهذا يدلنا على أن المصنف عندما يتكلم على الأحاديث لا يراجع أصولها ومصادرها الأساسية؛ وإنما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين؛ وإلا فلو راجع تلك الأصول؛ لما أعله بضعف يحيى؛ مع أنه ورد من غير طريقه، ولا بالانقطاع؛ مع التصريح بالسماع في بعض طرقه. ثم الحديث عند الدارقطني (ص 395) ؛ من طريق أبي صالح، وعند البيهقي (7 / 280) ؛ طريق الحاكم؛ ورواه من طريق محمد بن إسحاق: أبنا عثمان بن صالح ... به. فهذه متابعة تامة ليحيى بن عثمان. (¬2) • وقال شيخ الإسلام: " إسناده جيد "؛ وتبعه ابن القيم، وهو كما قالا. (ن)

وأخرج الحاكم، والطبراني في " الأوسط "، من حديث عمر (¬1) : أنهم كانوا يعدون التحليل سفاحا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في " تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ": " رواه ابن ماجه بإسناد رجاله موثقون ". وصح عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما. رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، في " مصنفيهما "، وابن المنذر في " الأوسط ". وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، أنه سئل عن ذلك؟ فقال: كلاهما زان. والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل، قد أطال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الكلام عليه، وأفرده مصنفا سماه: " بيان الدليل على إبطال التحليل ". انتهى. أقول: حديث لعن المحلل مروي من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن. واللعن لا يكون إلا على أمر غير جائز في الشريعة المطهرة،؛ بل على ¬

_ (¬1) • كذا! وتبع فيه الشوكاني في " النيل " (6 / 119) ؛ وهو وهم منهما؛ وإنما الأثر عن ابن عمر، لا عن أبيه، كذلك هو في " المستدرك " (2 / 198) ، والطبراني كما في " المجمع " (4 / 267) ، وقال: " ورجاله رجال الصحيح "، وقال الحاكم: " صحيح عن شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. وعزوه لابن ماجه أظنه خطأ؛ فليراجع. (ن)

ذنب هو من أشد الذنوب. فالتحليل غير جائز في الشرع، ولو كان جائزا لم يلعن فاعله والراضي به، وإذا كان لعن الفاعل لا يدل على تحريم فعله؛ لم تبق صيغة تدل على التحريم قط، وإذا كان هذا الفعل حراما غير جائز في الشريعة؛ فليس هو النكاح الذي ذكره الله في قوله: {حتى تنكح زوجا غيره} ، كما أنه لو قال: لعن الله بائع الخمر؛ لم يلزم من لفظ (بائع) أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله: {وأحل الله البيع} ؛ والأمر ظاهر. قال ابن القيم: " ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط، ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم ... ، ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة، أنشب فيها المحلل مخالب إرادته؟ ! فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفردا بوطئها؛ فإذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، [وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء] (¬1) ، ولولا التحليل؛ لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها ". وأما هذه الأزمان التي شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، ¬

_ (¬1) • التصحيح من " الإعلام " (3 / 55) . وقوله: " وأما في هذه الأزمان " إلى قوله: " الفعل الدون "؛ هو في الصفحة (53) منه، وله عنده تتمة، أشار إليها المصنف بقوله: إلى غير ذلك، لكن قوله بعده: انتهى؛ أوهم أن ذلك القول من تمام كلام ابن القيم؛ وليس منه، والله أعلم. (ن)

نكاح الشغار حرام

وقبح ما يرتكبه المحللون؛ مما هو رمد؛ بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق المؤمنين؛ من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه؛ بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم أنه قد طيبها للتحليل، فيالله العجب {أي طيب أعارها هذا التيس الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون؟} "؛ إلى غير ذلك. انتهى. وقد أطال - رحمه الله تعالى - في تخريج أحاديث التحليل في " إعلام الموقعين " إطالة حسنة؛ فليراجع. ( [3 - نكاح الشغار حرام] :) (وكذلك الشغار) ؛ لثبوت النهي عنه؛ كما في حديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار. وأخرج مسلم، من حديث أبي هريرة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي. وأخرج مسلم أيضا، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا شغار في الإسلام ".

وفي الباب أحاديث. قال ابن عبد البر: " أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته؛ والجمهور على البطلان " (¬1) . قال الشافعي: هذا النكاح باطل كنكاح المتعة. وقال أبو حنيفة: جائز؛ ولكل واحدة منهما مهر مثلها ". انتهى. أقول: النهي عن الشغار ثابت بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة. وعلى كل حال؛ فكون الشغار من مفسدات العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول؛ لأن النهي عن الشغار يقتضي قبحه، أو تحريمه، أو فساده؛ على اختلاف الأقوال، وإذا اقتضى ذلك وجب على كل واحد من الزوجين توفير المهر لزوجته بما استحل من فرجها، فهو بمنزلة فساد التسمية، وفسادها لا يستلزم فساد عقد النكاح، والمهر ليس بشرط للعقد، فالحكم بأن الشغار يفسد العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول، ولا موافق لقواعد الفروع. ولو فرض أن النهي عن النكاح الذي فيه شغار؛ لم يكن ذلك مقتضيا ¬

_ (¬1) • قلت: ويؤيده ما روى ابن إسحاق: ثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أن العباس بن عبد الله بن العباس، أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقا، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (1 / 324) ، وأحمد (4 / 94) ؛ وإسناده حسن. (ن)

الوفاء بشرط المرأة واجب ما لم يحل حراما أو يحرم حلالا

لفساد العقد؛ لأن النهي ليس لذات العقد ولا لوصفه؛ بل لأمر خارج عنه، وقد تقرر في الأصول أن ذلك لا يوجب الفساد. ( [الوفاء بشرط المرأة واجب ما لم يحل حراما أو يحرم حلالا] :) (ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة) ؛ لحديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج "؛ وهو في " الصحيحين " وغيرهما. قلت: هو قول أكثر أهل العلم، وقالوا: قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق الشروط ... " الخ خاص في شرط المهر، إذا سمى لها مالا في الذمة - أو عينا -؛ عليه أن يوفيها ما ضمن لها، وفي الحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد. وأما ما سوى ذلك؛ مثل أن يشترط في العقد للمرأة أن لا يخرجها من دارها، ولا ينقلها من بلدها، أو لا ينكح عليها؛ أو نحو ذلك، فلا يلزمه الوفاء به، وله إخراجها، ونقلها، وأن ينكح عليها؛ إلا أن يكون في ذلك يمين، فيلزمه اليمين؛ كذا في " المسوى ". أقول: الوفاء بمطلق الشروط مشروع، قال - تعالى -: {أوفوا بالعقود} . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون عند شروطهم؛

إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا "؛ وهو حديث حسن (¬1) . ولكن هذا المخصص المتصل - أعني قوله: " إلا شرطا ... " الخ - يدل على أن ما كان من الشروط بهذه الصفة؛ لا يجب الوفاء به. وكما يخصص عموم أول الحديث كذلك يخصص عموم الآية، ويؤيد هذا المخصص الحديث المتفق عليه بلفظ: " كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ فهو باطل " (¬2) . ولا يعارض هذا حديث: " أحق الشروط ... " الخ وهو متفق عليه. ووجه عدم المعارضة: أن عموم هذا الحديث مخصص بما قبله من الحديثين الدالين على أن الشروط التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال - مما ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله -؛ لا يجب الوفاء بها؛ سواء كانت في نكاح أو غيره؛ لا كما قاله الجلال في " ضوء النهار " (¬3) . ¬

_ (¬1) • قلت: نظرا لطرقه وشواهده؛ وقد ذكرها شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 333) ، وقال: إنه يشد بعضها بعضا. وانظر " المناوي على الجامع "، و " سنن البيهقي " (7 / 249) . (ن) (¬2) لفظ: " ... ولا سنة رسوله ... "؛ ليس بمحفوظ في الحديث. (¬3) • وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب، حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛ فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط؛ ما لم يكن كذلك؛ كذا في " الفتاوى " (3 / 333) . (ن)

نكاح الزانية أو المشركة حرام والعكس

(إلا أن يحل حراما أو يحرم حلالا) ؛ فلا يحل الوفاء به؛ كما ورد بذلك الدليل؛ وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور؛ كحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيعة أخيه، " ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لتكتفىء ما في صحفتها أو إنائها؛ فإنما رزقها على الله ". وأخرج أحمد؛ من حديث عبد الله بن عمر (¬1) ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى ". (4 -[نكاح الزانية أو المشركة حرام والعكس] :) (ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة) ؛ لقوله - تعالى -: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (¬2) . ¬

_ (¬1) • كذا بدون الواو، وفي " المنتقى " (6 / 122 - بشرح " النيل ") ؛ بإثبات الواو وفتح العين، وهو الصواب؛ فإن أحمد أخرج الحديث في " مسند ابن عمرو " (رقم 6647) ، وقال المعلق عليه - أحمد شاكر -: " إسناده صحيح "! مع أن فيه عبد الله بن لهيعة، وهو سيىء الحفظ. (ن) قلت: ولعل ما قبله يشهد له بالجملة. (¬2) • ومعنى الآية؛ أن الزاني المعروف بالزنى لا ترتضيه زوجا لها إلا زانية أو مشركة في نظر الشرع، وكذلك القول في الزانية، وبيان ذلك ما في " إغاثة اللهفان " (1 / 66) : " أن المتزوج أمر أن يتزوج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة بهذا الشرط، والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه؛ والإباحة قد علقت على شرط الإحصان، فإذا انتفى الإحصان؛ انتفت الإباحة المشروطة، فالمتزوج إما أن يلتزم حكم الله وشرعه، أو لا يلزم، فإن لم يلزمه؛ فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما حرم عليه؛ لم يصح النكاح؛ فيكون زانيا ". (ن)

ولما أخرجه أحمد بإسناد - رجاله ثقات (¬1) -، والطبراني في " الكبير "، و " الأوسط " من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة - يقال لها: أم مهزول - كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه، فقرأ عليه - صلى الله عليه وسلم -: " {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} . وأخرج أبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه (¬2) - من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي - يقال لها: عناق -، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال: فسكت عني، فنزلت الآية: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} ، فدعاني فقرأها علي، وقال: " لا تنكحها ". وأخرج أحمد، وأبو داود (¬3) بإسناد (¬4) رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله ". قال ابن القيم: ¬

_ (¬1) • كذا قال الهيثمي (7 / 73 - 74) ؛ وفيه نظر؛ فإنه في " المسند " (رقم 6480، 7099) : عن سليمان التيمي: ثنا الحضرمي، عن القاسم بن محمد، عنه. والحضرمي هذا مجهول، وليس هو الحضرمي بن لاحق؛ وهذا ثقة؛ والظاهر أنه لم يفرق بينهما، وقد فرق البخاري وغيره؛ فراجع التعليق على " المسند ". (ن) (¬2) • وهو كما قال. (ن) (¬3) • والحاكم. (ن) (¬4) • صحيح. (ن)

" أخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها: الإمام أحمد ومن وافقه، وهي من محاسن مذهبه؛ فإنه لم يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا، قد ذكرناها في موضع آخر ". انتهى. وأخرج ابن ماجه، والترمذي - وصححه - من حديث عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله وأثنى عليه وذكر، ووعظ، ثم قال: " استوصوا في النساء خيرا؛ فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ". وأخرج أبو داود، والنسائي، من حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس؟ قال: " غربها "، قال: أخاف أن تتبعها نفسي؟ قال: " فاستمتع بها ". قال المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في " الصحيحين ". قال ابن القيم: " عورض - بهذا الحديث المتشابه - الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج (¬1) البغايا، واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه: فقالت طائفة: المراد باللامس: ملتمس الصدقة، لا ملتمس الفاحشة. ¬

_ (¬1) في الأصل: " تجويز "، وهو خطأ. (ش)

وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر، وإنما المانع ورود العقد على الزانية؛ فهذا هو الحرام. وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها؛ إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت (¬1) . وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية، وإنما فيه أنها لا تمنع من يمسها، أو يضع يده عليها، أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك، ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى، ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة، فأمره بفراقها تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه؛ فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها؛ رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. ¬

_ (¬1) • والحق أنه حديث صحيح ثابت؛ فإن له طريقين: أحدهما صحيح عن ابن عباس؛ أخرجه النسائي (2 / 72) ؛ من طريق حماد بن سلمة، وغيره، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير. وعبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس - عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه - ... فذكر الحديث، ثم قال النسائي: " ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه؛ وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم ". قلت: هذا تعليل ماش على القواعد، لكن لا يلزم من ضعف هذا الطريق أن يكون الحديث في نفسه ضعيفا؛ لاحتمال أن يكون له طريق أخرى، والواقع كذلك. فقد أخرجه أبو داود (1 / 320) ؛ من طريق عكرمة، عن ابن عباس؛ وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. وله شاهد من حديث جابر؛ أخرجه الطبراني في " الأوسط " بإسناد؛ قال الهيثمي (4 / 335) : " رجاله رجال الصحيح ". (ن)

والله - تعالى - أعلم ". انتهى. وفي " المسوى ": " أقول: الظاهر عندي أن مبنى اختلافهم هذا اختلافهم في مرجع {ذلك} في قوله: {حرم ذلك} ؛ فقال أحمد: مرجعه نكاح الزانية والمشركة، وقال غيره: مرجعه الزنا والشرك، والمراد على هذا: أن العادة قاضية بأن الزانية لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك، والزنا والشرك حرام على المؤمنين، فنكاحها لا يليق بحال المؤمنين. ولا يقولون: إن الحديث ناسخ؛ بل يقولون: إنه مبين لتأويل الآية، ومع ذلك فلا يخلو عن بعد ". في " الكافي في مذهب أحمد ": " الزانية يحرم نكاحها كالمعتدة ". وأما غير أحمد فقولهم؛ جواز نكاح الفاجرة؛ وإن كان الاختيار غير ذلك؛ لحديث: " لا ترد يد لامس ". قال الواحدي؛ عن أبي عبيد: مذهب مجاهد: أن التحريم لم يكن إلا على جماعة خاصة من فقراء المهاجرين؛ أرادوا نكاح البغايا لينفقن عليهم، ومذهب سعيد: أن التحريم كان عاما ثم نسخته الرخصة؛ وأورد أبو عبيد على هذا الحديث أنه خلاف الكتاب والسنة المشهورة؛ لأن الله - تعالى - إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم أنزل في القاذف آية اللعان، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التفريق بينهما، فلا يجتمعان أبدا، فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها؟ ! والحديث مرسل، فإن ثبت؛ فتأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرق

وضعف الرأي، وتضييع ماله؛ فهي لا تمنعه من طالب، ولا تحفظه من سارق، وهذا أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأحرى بحديثه. أقول: في الاستدلال بحديث: " لا ترد يد لامس " نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس رميا لها بالزنا البتة؛ بل رمي بقلة الاحتياط في أمر الملامسة، فيحتمل حينئذ أن لا تتورع من اللمس الحرام، وتتورع من حقيقة الزنا المفضي إلى الحد، والمقتضي للحبل الموجب للفضيحة الشديدة، وكم من امرأة لا تتورع من النظر واللمس المحرمين، وتتورع من موجب الحد وسبب الحبل خوفا من الفضيحة، فلما لم يصرح بالزنا؛ لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه الفراق (¬1) . وثانيهما: أن حالة الابتداء تفارق حالة البقاء في أكثر المسائل، كالمحرم لا يبتدىء بالنكاح في حالة إحرامه، ولا يضره البقاء، فإذا جوز النبي صلى الله عليه وسلم إمساكها في حالة بقاء النكاح؛ من أين لكم أنه يجوز ابتداء النكاح؟ ! ". انتهى. (والعكس) ؛ وإنما قال ب (العكس) ؛ لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة؛ كما تفيد ذلك الآية الكريمة: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} . أقول: هذا هو الظاهر من الآية الكريمة، ودعوى أن سبب نزول الآية فيمن سأله صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن ينكح عناقا - وكانت مشركة -: مدفوعة بأن ¬

_ (¬1) هذا هو الوجه الصحيح في فهم الحديث؛ وما عداه غير قوي. (ش)

المحرمات من النساء

الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لا سيما والآية الكريمة قد تضمنت نكاح الزانية على حدة، ونكاح المشركة على حدة. وأما حديث: " إن امرأتي لا ترد يد لامس "؛ فالظاهر أنه كناية عن كونها زانية؛ لا كما قال المقبلي: إن المراد أنها ليست نفورا من الريبة؛ لا أنها زانية، ثم استبعد أن يقول له صلى الله عليه وسلم: " استمتع بها "؛ وقد عرف أنها زانية، وأن ذلك مناف لأخلاقه الشريفة (¬1) . وأقول: هذا التأويل خلاف الظاهر، والاستبعاد لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها بمجرده، فالأولى التعويل على شيء آخر؛ هو أن الحديث قد اختلف في وصله وإرساله؛ بل قال النسائي: إنه ليس بثابت (¬2) . وهكذا لا وجه لحمل الحديث على مجرد التهمة؛ فإن الرجل لم يقل: إنه يتهم أنها لا ترد يد لامس، أو يشك، أو يظن؛ بل قال ذلك جزما. ( [المحرمات من النساء] :) (ومن صرح القرآن بتحريمه) ؛ وهو ظاهر؛ لقوله - تعالى -: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم ¬

_ (¬1) بل إن ما قاله المقبلي هو الصحيح؛ ولو كان رميا لها بالزنا؛ لأوجب عليه الحد أو اللعان. (ش) (¬2) • قلت: قد عرفت أن الاختلاف وعدم الثبوت؛ إنما هو وارد على طريق ابن عمير، وأما الطريق الأخرى؛ فلا اختلاف فيها؛ بل هو صحيح، فالتعويل على ما نقله الشارح عن المقبلي، وإن رده هو؛ فرده مردود عليه. (ن)

المحرمات من النسب

وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) {ثم قال} (وأحل لكم ما وراء ذلكم} . (1 -[المحرمات من النسب] :) قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على أنه يحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول أول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده؛ فالأصول هي: الأمهات، والجدات وإن علون، والفصول هي: البنات، وبنات الأولاد، وإن سفلن؛ وفصول أول الأصول هي: الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وإن سفلن، وأول فصل من كل أصل بعده هي: العمات، والخالات، وإن علت درجتهن ". انتهى. (2 -[المحرمات من الرضاع] :) (والرضاع كالنسب) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم ". وفي لفظ: " من النسب ". وفيهما أيضا، من حديث عائشة مرفوعا: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ". وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديث علي، قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب ". قال أهل العلم: والمحرمات من الرضاع سبع: الأم، والأخت - بنص القرآن -، والبنت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت؛ لأن هؤلاء يحرمن من النسب، فيحرمن من الرضاع، وقد وقع الخلاف: هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهار؟ وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم في " الهدي ". قال في " المسوى ": " اتفقت الأمة على أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم المنكوحة على آباء الناكح وإن علوا، وعلى أبنائه، وأبناء أولاده من النسب والرضاع جميعا وإن سفلوا؛ تحريما مؤبدا بمجرد العقد. ويحرم على الناكح أمهات المنكوحة، وجداتها من الرضاع والنسب جميعا؛ تحريما مؤبدا بمجرد العقد. فإن دخل بالمنكوحة حرمت عليه بناتها، وبنات أولادها من النسب والرضاع جميعا. وإن فارقها قبل أن يدخل بها؛ جاز له نكاح بناتها. واتفقوا على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح، فإذا أرضعت المرأة رضيعا؛ يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة: كل من يحرم على ولدها من النسب، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع، ولا على

من المحرمات مؤقتا

أخيه، ولا تحرم عليك أم أختك إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك. ويتصور هذا في الرضاع، ولا يتصور في النسب؛ ليس لك أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك. وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك (¬1) إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك. ولا جدة ولدك إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك، ولا أخت ولدك إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك. وحرمة الرضاع تكون بالرجال كما تكون بالنساء، وهو قول أكثر أهل العلم ". انتهى. ( [من المحرمات مؤقتا] :) (1 -[الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها] :) (والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما؛ قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وفي لفظ لهما: نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. وفي الباب أحاديث. وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك. ¬

_ (¬1) • ولد الولد. (ن)

الزيادة على الأربع للحر

وقال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم. وقد حكى الإجماع أيضا الشافعي، والقرطبي، وابن عبد البر. قلت: اتفقت الأمة على أنه يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، وبين العمة وبنت أخيها، وبين الخالة وبنت أختها؛ من النسب والرضاع جميعا. وجملته: أن كل امرأتين من أهل النسب - لو قدرت إحداهما ذكرا حرمت الأخرى عليه -؛ فالجمع بينهما حرام. ولا بأس بالجمع بين المرأة وزوجة أبيها أو زوجة ابنها؛ لأنه لا نسب بينهما؛ كذا في " المسوى ". (2 -[الزيادة على الأربع للحر] :) (و) يحرم (ما زاد على العدد المباح للحر والعبد) ؛ لحديث قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة؛ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: " اختر منهن أربعا "؛ أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. وقال ابن عبد البر: ليس له إلا حديث واحد (¬1) ، ولم يأت من وجه صحيح (¬2) ، ويؤيده ما سيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع. ¬

_ (¬1) ظاهر صنيع الشارح يوهم أن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ ليس له إلا حديث واحد، وهو خطأ شنيع؛ فإن محمدا هذا من أكثر الرواة حديثا، واختلفوا فيه، والغالب على حديثه الضعف. وأما كلمة ابن عبد البر؛ فإنها في الصحابي؛ وهو الحارث بن قيس - أو قيس بن الحارث -. وقال البغوي: لا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا. (ش) (¬2) انظر - لزاما - " الإرواء " (1883 - 1885) ؛ فهو فيه مصحح بعض رواياته لا كلها.

وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ ففيه ما أوضحه الماتن في " شرح المنتقى "، وفي " حاشية الشفاء "، وقد قيل: إنه لا خلاف في تحريم الزيادة على الأربع، وفيه نظر كما أوضحه هنالك. أقول: قال الماتن - رحمه الله تعالى - في كتابه " السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ": " أما الاستدلال على تحريم الخامسة، وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله - عز وجل -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ فغير صحيح؛ كما أوضحته في شرحي ل " المنتقى "، ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث، وحديث غيلان الثقفي، وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه؛ وإن كان في كل أحد منها مقال؛ لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه. وقد حكى الإجماع صاحب " فتح الباري "، والمهدي في " البحر "، والنقل عن الظاهرية لم يصح؛ فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم. وأيضا قد ذكرت في تفسيري الذي سميته " فتح القدير " تصحيح بعض هذه الأحاديث، وأطلت المقال في ذلك، فليرجع إليه ". انتهى. وقال في " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ": " حديث قيس بن الحارث - وفي رواية: الحارث بن قيس -؛ في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة؛ قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا، وقال أبو عمر

النمري (¬1) : ليس له إلا حديث واحد، ولم يأت به من وجه صحيح. وفي معنى هذا الحديث: حديث غيلان الثقفي؛ وهو عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر؛ قال: أسلم غيلان الثقفي، وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح. وحكى الحاكم عن مسلم: أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة. قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة. وقد أخذ ابن حبان، والحاكم، والبيهقي بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر؛ من حديث أهل الكوفة، وأهل خراسان، وأهل اليمامة، عنه. قال الحافظ: " ولا يفيد ذلك شيئا؛ فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا بغيرها؛ فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب؛ لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء؛ وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم به؛ كابن المديني، والبخاري، وابن أبي حاتم، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم. وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله، وتحديثه به في غير بلده. ¬

_ (¬1) هو ابن عبد البر، وقد ظهر من هذا خطأ الشارح في تعبيره فيما مضى. (ش)

وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة. وقد أطال الدارقطني في " العلل " تخريج طرقه. ورواه ابن عيينة، ومالك، عن الزهري مرسلا؛ ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك. وقد وافق معمرا على وصله: بحر بن كنيز (¬1) السقاء، عن الزهري، ولكنه ضعيف. وكذا وصله يحيى بن سلام، عن مالك، ويحيى ضعيف (¬2) ". وفي الباب: عن نوفل بن معاوية عند الشافعي: أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك أربعا وفارق الأخرى "، وفي إسناده رجل مجهول؛ لأن الشافعي قال: حدثنا بعض أصحابنا، عن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهل، عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت ... . فذكره (¬3) . ¬

_ (¬1) في الأصل: (بحر كنيز) ، وهو خطأ. و (كنيز) بنون وزاي مصغرا، وضبطه عبد الغني بفتح الكاف، وبحر هذا ضعيف جدا، مات سنة 160. (ش) (¬2) • قلت: لقد أطال العلماء - رحمهم الله - الكلام على حديث معمر هذا، ونسبوه كما رأيت إلى الوهم، حيث رواه موصولا، وأنا أرى أن لا طائل تحت ذلك؛ لأن الحديث قد ورد من غير طريقه موصولا بسند صحيح عن ابن عمر؛ أخرجه الدارقطني (404) ، والبيهقي (7 / 183) ؛ من طريق سيف بن عبيد الله الجرمي: ثنا سرار بن مجشر، عن أيوب، عن نافع، وسالم، عن ابن عمر ... به. وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وبه قامت الحجة على تحريم الزيادة على الأربع. (ن) (¬3) ضعفه الشيخ في " الإرواء " (1884) .

وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود، وصفوان بن أمية عند البيهقي. وقوله: " اختر منهن أربعا "؛ استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع. وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا، ولعل وجهه قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} ، ومجموع ذلك - لا باعتبار ما فيه من العدل - تسع، وحكي ذلك عن ابن الصباغ، والعمراني، وبعض الشيعة، وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب " البحر " عن الظاهرية، وقوم مجاهيل. وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول. قالوا: ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بين تسع، أو إحدى عشرة، وقد قال - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} . وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع؛ فهو محل النزاع؛ ولم يقم عليه دليل. وأما قوله - تعالى - {مثنى وثلاث ورباع} ؛ ف (الواو) فيه للجمع لا للتخيير، وأيضا لفظ: {مثنى} معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على

تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفة الاثنينية؛ وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلا ما فوق الألوف؛ فإنك تقول: جاءني القوم مثنى؛ أي: اثنين اثنين، وهكذا ثلاث ورباع، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد. فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد؛ إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها؛ فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفا أن يقول الرجل لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة؛ فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير؛ سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير؛ لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه قال لكل فرد من الناس: انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة، وهي بمجردها كافية في الحل، حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها. وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة - كما صرح به الخطابي -؛ فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل، وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع؛ كما صرح بذلك في " البحر " (¬1) ¬

_ (¬1) • وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " إبطال التحليل " (ج 3 ص 216 من " الفتاوى ") : " أجمع الصحابة على تحريم الجمع بين أكثر من أربع نسوة، كما رواه عبيدة السلماني وغيره ". (ن)

وقال في " الفتح ": " اتفق العلماء على أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ". وقد ذكر الحافظ في " الفتح "، و " التلخيص " الحكمة في تكثير نسائه - صلى الله عليه وسلم -؛ فليراجع ذلك ". انتهى. وقال في تفسيره " فتح القدير ": " وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم - أو هذا المال الذي في البدرة - درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه، أما لو كان مطلقا - كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه -؛ فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول. على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة؛ كان هذا هو المعنى العربي. ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى - وهم مئة ألف -؛ كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع، والخطاب

للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ كما في قوله - تعالى -: {اقتلوا المشركين} ، {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ، ونحوها. ومعنى قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، هذا ما تقتضي لغة العرب، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه. ويؤيد هذا قوله - تعالى - في آخر الآية: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} ؛ فإنه وإن كان خطابا للجميع؛ فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن. وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور؛ فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا؛ كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) ؛ لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني. وأخرج الشافعي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اختر منهن ". وفي لفظ: " أمسك منهن أربعا، وفارق سائرهن ".

بيان الخلاف في عدد نساء المملوك

وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق. وعن نوفل بن معاوية الديلي، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " أمسك أربعا، وفارق الأخرى "، أخرجه الشافعي في " مسنده " (¬1) . وأخرج ابن ماجه، والنحاس في " ناسخه "، عن قيس بن الحارث الأسدي قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " اختر منهن أربعا، وخل سائرهن "، ففعلت. وهذه شواهد للحديث الأول؛ كما قال البيهقي. ( [بيان الخلاف في عدد نساء المملوك] :) وعن الحكم، قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين ". انتهى كلامه. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين؛ رواه الدارقطني. قال الماتن - رحمه الله - في " نيل الأوطار ": " قد تمسك بهذا من قال: إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين؛ وهو مروي عن علي، وزيد بن علي، والناصر، والحنفية، والشافعية. ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته، ¬

_ (¬1) تقدم بيان ضعفه؛ فليعلم!

نعم؛ لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلا عند القائلين بحجية الإجماع؛ ولكنه قد روي عن أبي الدرداء، ومجاهد، وربيعة، وأبي ثور، والقاسم بن محمد، وسالم: أنه يجوز له أن ينكح أربعا كالحر. حكى ذلك عنهم صاحب " البحر ". فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله - تعالى -: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ، والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم؛ إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة؛ كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما ". انتهى. ويوضح ذلك ما حرره الماتن - رحمه الله تعالى - في " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام "؛ عبارته هكذا: " الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب - وصار كالمجمع عليه عندهم -: أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة؛ كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد، فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة - وكانوا ألوفا مؤلفة -، فقلت: جاءني القوم مثنى؛ أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين، حتى تكاملوا، فإن قلت: مثنى، وثلاث، ورباع؛ أفاد ذلك: أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين، وتارة ثلاثة ثلاثة، وتارة أربعة أربعة، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء؛ لا مقدار عدد جميع القوم، فإنه لا يستفاد منها أصلا، بل غاية ما يستفاد منها: أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به. ومثل هذا إذا قلت: نكحت النساء مثنى؛ فإن معناه: نكحتهن اثنتين اثنتين، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من الدفعات لم يدل في نكاحه إلا

بعد خروج الأولى، كما أنه لا دليل - في قولك: جاءني القوم مثنى - أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك؛ إلا وقد فارقك الاثنان الأولان. إذا تقرر هذا؛ فقوله - تعالى -: {مثنى وثلاث ورباع} ؛ يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات، وليس في هذه تعرض لمقدار عددهن؛ بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين؛ كما قدمنا في مجيء القوم، وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا؛ فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا، وابن عباس إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع؛ فهو فرد من أفراد الأمة. وأما القعقعة بدعوى الإجماع من المصنف وأمثاله، فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة، وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية (¬1) ، وابن الصباغ، والعمراني، والقاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول، وجماعة من ¬

_ (¬1) • قلت: ويجاب عن هذا؛ بأن هذا الخلاف لا يعتد به؛ لأنه طرأ بعد الإجماع، فقد نقله - كما تقدم منا - عبيدة السلماني - وهو من كبار التابعين -؛ بل إنه أدرك عصر النبوة؛ فإنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم يلقه، ولذلك قال الذهبي في " التذكرة " (1 / 47) : " كاد أن يكون صحابيا؛ أسلم زمن فتح مكة باليمن، وأخذ عنه علي، وابن مسعود، قال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء ". فمثل هذا الإمام إذا نقل إجماع أهل عصره - لا سيما وهم الصحابة، ومعرفة إجماعهم من المعاصر أيسر بكثير من معرفة إجماع غيرهم من معاصرهم لتفرقهم -؛ تطمئن النفس لصحته، ويؤيده أننا لم نعلم أن أحدا منهم - أعني: الصحابة - وغيرهم من السلف الصالح نقل تزوجه بأكثر من أربع؛ فتأمل. (ن)

الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، وخالفه أيضا القرآن الكريم كما بيناه، وخالفه أيضا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما صح تواترا من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات: {وما آتاكم الرسول فخذوه} ، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} ؟ ! ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير. وأما حديث أمره - صلى الله عليه وسلم - لغيلان لما أسلم وتحته عشرة نسوة؛ بأن يختار منهن أربعا، ويفارق سائرهن؛ كما أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان؛ فهو وإن كان له طرق؛ فقد قال ابن عبد البر: كلها معلولة؛ وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى. ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني، والفعل المصطفوي الذي مات صلى الله عليه وسلم عليه، والبراءة الأصلية. ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه؛ فجزاه الله خيرا؛ فليس بين أحد وبين الحق عداوة، وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه؛ لا سيما في مقامات التحرير والتقرير؛ كما نفعله في كثير من الأبحاث، وإذا حاك في صدره شيء؛ فليكن تورعه في العمل؛ لا في تقرير الصواب. فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك لقيل وقال، ولا

سيما في مثل مواطن تجبن عنها كثير من الرجال؛ فإنك لا تسأل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد؛ بل عن الذي يرتضيه المعبود؛ و (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) ، و (من ورد البحر استقل السواقيا) ". انتهى. واندفع بهذا ما في " المسوى " من قوله: " قلت: اتفقت الأمة على أن الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر، ولا يجوز له أن ينكح أكثر من أربع. قال الشافعي: انتهى الله - تعالى - بالحرائر إلى أربع؛ تحريما لأن يجمع أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم بين أكثر من أربع. وأما العبد؛ فأكثر الأمة على أنه لا ينكح أكثر من امرأتين، وفي الآية ما يدل على أنها في الأحرار وهو قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} ، وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار ". انتهى. وأما العدد الذي يحل للعبد؛ فقد حكى البيهقي، وابن أبي شيبة، أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين، وكذلك حكى إجماع الصحابة الشافعي. وروى الدارقطني، عن عمر أنه قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين. وسيأتي ما ورد في طلاق الأمة والعدة - في باب العدة -، فمن قال بأن إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم، ومن لم يقل بحجية إجماعهم؛ أجاز

حكم زواج العبد بغير إذن سيده

للعبد ما يجوز للحر من العدد (¬1) ، وقد أوضح الماتن حكم الإجماع في أول " حاشية الشفاء ". ( [حكم زواج العبد بغير إذن سيده] :) (وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده؛ فنكاحه باطل) (¬2) ؛ لحديث جابر عند أحمد (¬3) ، وأبي داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تزوج بغير إذن سيده؛ فهو عاهر ". وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث ابن عمر. قال الترمذي: " لا يصح؛ إنما هو عن جابر ". ¬

_ (¬1) • وفي " الموطإ " (2 / 74) عن مالك: " أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: ينكح العبد أربع نسوة، قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك، والعبد مخالف للمحلل؛ إن أذن له سيده ثبت نكاحه، وإن لم يأذن له سيده فرق بينهما ". (ن) (¬2) • باتفاق المسلمين إذا لم يجزه السيد، فإن أجازه بعد العقد صح في مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين، ولم يصح في مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى؛ كذا في " الفتاوى " لابن تيمية (2 / 90) . (ن) (¬3) • في " المسند " (7 / 300، 377، 382) ، وأبو داود (1 / 325) ، والترمذي (2 / 182) ، وقال: " حسن صحيح "، والدارمي أيضا (2 / 152) ، والحاكم (2 / 194) ، والطيالسي (رقم 1675) ، والبيهقي (7 / 127) ؛ من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو حسن؛ لأن ابن عقيل فيه كلام من قبل حفظه. ورواه ابن ماجه (1 / 604) ؛ من طريق القاسم بن عبد الواحد، عنه، عن ابن عمر؛ وهو خطأ كما أشار إليه الترمذي؛ إنما هو عن جابر، وهكذا على الصواب هو في " المسند "، و " المستدرك " من هذا الوجه. (ن)

حكم الأمة في الزواج إذا عتقت

وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر أيضا، وفي إسناده مندل بن علي؛ وهو ضعيف (¬1) . وقد ذهب إلى عدم صحة عقد العبد بغير إذن مولاه: الجمهور. وقال مالك: إن العقد نافذ، ولسيده فسخه. وورد بأن العاهر الزاني، والزنا باطل، وفي رواية من حديث جابر بلفظ: " باطل ". ( [حكم الأمة في الزواج إذا عتقت] :) (وإذا عتقت الأمة ملكت أمر نفسها، وخيرت في زوجها) ؛ لحديث عائشة في " صحيح مسلم " وغيره: أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عبدا. وكذا في " صحيح البخاري " من حديث ابن عباس. وفي حديث آخر لعائشة عند أحمد، وأهل " السنن ": أن زوج بريرة كان حرا. (2) وقد اختلفت الروايات في ذلك (¬3) ¬

_ (¬1) • أخطأ الشارح - رحمه الله -؛ فإنما هذا في " سنن ابن ماجه "، وكذا " البيهقي "، و " الدارمي " أيضا. وأما أبو داود؛ فأخرجه من طريق أخرى ليس فيها مطعون فيها؛ بل إسناده صحيح، رجاله كلهم رجال الصحيح. وقول أبي داود عقبه: " والحديث ضعيف، وهو موقوف، وهو قول ابن عمر - رضي الله عنه - "؛ فمما لا يلتفت إليه؛ لأنه خلاف القواعد، ثم إن هذا الحديث: " فنكاحه باطل "؛ ليس في حديث جابر كما ظن الشارح. (ن) (2) هذه الرواية شاذة؛ كما بينه شيخنا في " الإرواء " (1873) ؛ والمحفوظ أنه كان عبدا. (¬3) • ورجح الحافظ أنه كان عبدا. فانظر " الفتح ". (ن)

حكم فسخ النكاح بالعيب

وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الخيار إذا كان الزوج حرا: فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت، وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة، وقد وقع في بعض الروايات:: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: " ملكت نفسك؛ فاختاري " (¬1) ؛ فإن هذا يفيد أنه لا فرق بين الحر والعبد. والحاصل: أن الاختلاف في كون زوجها حرا أو عبدا لا يقدح في ذلك؛ لأن ملكها لأمر نفسها يقتضي عدم الفرق. ولكن دعوى أن تمكينها لزوجها بعد علمها بالعتق، وثبوت الخيار، مبطل لخيارها؛ لا دليل عليها (¬2) ، وتركه صلى الله عليه وسلم لاستفصال بريرة أو زوجها عن ذلك: يفيد أنه غير مبطل، ولو كان مبطلا لم يتركه. ( [حكم فسخ النكاح بالعيب] :) (ويجوز فسخ النكاح بالعيب) ؛ لحديث كعب بن زيد - أو زيد بن كعب - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها، ووضع ثوبه، وقعد على الفراش؛ أبصر بكشحها بياضا، فانحاز عن الفراش، ثم قال: " خذي عليك ثيابك "؛ ولم يأخذ مما آتاها شيئا. أخرجه أحمد، وسعيد بن منصور، وابن عدي، والبيهقي. ¬

_ (¬1) • لم أقف على هذه الرواية الآن، وقد نقلها ابن التركماني في " الجوهر النقي " (7 / 224) عن " التمهيد " بلفظ: " روي في بعض الآثار ... "؛ فكأنه أشار لضعفه. (ن) (¬2) • قد جاء في ذلك حديث مرفوع - عن عائشة -؛ بإسنادين ضعيفين؛ انظر " البيهقي " (7 / 225) . (ن)

وأخرجه - من حديث كعب بن عجرة - الحاكم في " المستدرك ". وأخرجه أبو نعيم في " الطب "، والبيهقي، من حديث ابن عمر، وفي الحديث اضطراب (¬1) . وروى مالك في " الموطإ "، والدارقطني، وسعيد بن منصور، والشافعي، وابن أبي شيبة، عن عمر، أنه قال: أيما امرأة غُر بها رجل - بها جنون أو جذام أو برص -؛ فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره؛ ورجال إسناده ثقات. وفي الباب عن علي عند سعيد بن منصور. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب، وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك. وروي عن علي، وعمر، وابن عباس، أنها لا ترد النساء إلا بالعيوب الثلاثة المذكورة، والرابع: الداء في الفرج. وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع، ورجحه ابن القيم، واحتج له في " الهدي " بالقياس على البيع. وذهب البعض إلى أن المرأة ترد الزوج بتلك الثلاثة، وبالجب، والعنة (¬2) . ¬

_ (¬1) وفي إسناده جميل بن زيد؛ وهو ضعيف. ولا دلالة فيه على الفسخ؛ لاحتمال أن يكون طلقها وكنى عن الطلاق بقوله: " خذي عليك ثيابك ". (ش) • لأنه من طريق جميل بن زيد، قال - مرة -: عن زيد بن كعب: قال كعب. ومرة قال: عن ابن عمر؛ أخرجه البيهقي (7 / 257) ، وقال: " قال البخاري: لم يصح حديثه ". وهو في " المستدرك " (4 / 34) من الوجه الأول، وضعفه الذهبي. (ن) (¬2) الجب: قطع الذكر. والعنة: ارتخاؤه دائما؛ فلا يصل إلى النساء. (ش)

والخلاف في هذا البحث طويل. أقول: اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية؛ أن عقد النكاح لازم، تثبت به أحكام الزوجية؛ من جواز الوطء، ووجوب النفقة ونحوها، وثبوت الميراث، وسائر الأحكام، وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق والموت. فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الأسباب؛ فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية. وما ذكروه من العيوب؛ لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة، ولم يثبت شيء منها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " الحقي بأهلك " (¬1) ؛ فالصيغة صيغة طلاق (¬2) ؛ وعلى فرض الاحتمال؛ فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه، وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح، والأصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه. ومن أعجب ما يتعجب منه: تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض؛ ¬

_ (¬1) هذا اللفظ؛ رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية. (ش) (¬2) • قلت: هو كذلك، ولكن ما الذي حمل الشارح على حشر هذا اللفظ في هذا البحث؛ مع أنه لم يسبق لحديثه ذكر؟ ! نعم؛ يوهم صنيعه أن هذا اللفظ له علاقة بحديث كعب بن زيد المتقدم، وقد اغتر به المعلق على الكتاب، فجزم بأنه رواية في حديث كعب بن زيد في قصة الغفارية، وهذا خطأ واضح منهما؛ فإن هذا اللفظ إنما ورد في حديث آخر بقصة أخرى صحيحة: قالت عائشة: إن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها؛ قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: " لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك "؛ رواه البخاري (9 / 292) ، والحاكم (4 / 35) . (ن)

حكم أنكحة الكفار إذا أسلموا

لا لمجرد دليل (¬1) ، فسبحان الله وبحمده! ( [حكم أنكحة الكفار إذا أسلموا] :) (ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع) ؛ لحديث الضحاك بن فيروز، عن أبيه، عند أحمد (¬2) ، وأهل " السنن "، والشافعي، والدارقطني، والبيهقي - وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان -، قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أطلق إحداهما (¬3) . وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والشافعي، وابن حبان، والحاكم - وصححاه -، عن ابن عمر، قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا. ¬

_ (¬1) كلا؛ بل الدليل قائم؛ وهو النهي عن المضارة وعن الغش، وهذه العيوب مما لا يرجى برؤها وزوالها، فما لم يعلم بها أحد الزوجين؛ فهو بالخيار عند العلم بها. (ش) (¬2) • في " المسند " (4 / 232) . (ن) (¬3) • وأعله البخاري، والعقيلي. وقال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 158) - تعليقا على إسناد أبي داود -: " هذا الحديث يرويه أبو وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه؛ قال البخاري: في إسناده هذا الحديث نظر، ووجه قوله؛ أن أبا وهب، والضحاك مجهول حالهما؛ وفيه يحيى بن أيوب؛ ضعيف ". قلت: أما يحيى بن أيوب؛ فقد توبع عليه؛ عند الترمذي وغيره. فعلته من أبي وهب، والضحاك؛ وقد قال الحافظ في ترجمة كل منهما في " التقريب ": " مقبول "؛ يعني عند المتابعة؛ وما وجدت لهما متابعا. (ن)

وقد أعل الحديث بأن الثابت منه إنما هو قول عمر؛ كما قال البخاري. قال ابن القيم: " السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان؛ أنه يخير في إمساك من شاء منهما وترك الأخرى، وردت بأنه خلاف الأصول، وقالوا: قياس الأصول يقتضي أنه إن نكح واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود، ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير، وإن نكحهما معا فنكاحهما باطل ولا يخير، وكذلك حديث من أسلم على عشر نسوة، وربما أولوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات ". ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشد الإباء؛ فإنه قال: " أمسك أربعا وفارق سائرهن "؛ رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن غيلان أسلم ... فذكره. وحديث فيروز المتقدم؛ فهذان الحديثان هما الأصول التي يرد ما خالفهما من القياس، أما أن تعقد قاعدة، وتقول: هذا هو الأصل، ثم ترد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة، فلعمر الله؛ لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله - تعالى - ورسوله؛ أفرض علينا من رد حديث واحد. وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين؛ فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف وقعت؟ وهل صادفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح؛ أو لم تصادفها فتبطل؟ وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج؛ فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان

حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين

في الجاهلية؛ وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك؛ وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار؛ لم يقر عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر من أربع، فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما خالفه فلا يلتفت إليه، والله الموفق ". انتهى ملخصا. ( [حكم النكاح إذا أسلم أحد الزوجين] ) (وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح وتجب العدة) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، قال: كان إذا هاجرت المرأة من أهل الحرب؛ لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، وإن جاء زوجها قبل أن تنكح ردت إليه. وأخرج مالك في " الموطإ "، عن الزهري، أنه قال: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله؛ وزوجها كافر مقيم بدار الحرب؛ إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها. وفي " صحيح البخاري " عن ابن عباس، قال: كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه؛ وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن

حكم نكاح من أسلم وزوجته لم تنقض عدتها

هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه. ( [حكم نكاح من أسلم وزوجته لم تنقض عدتها] :) (فإن أسلم ولم تتزوج المرأة كانا على نكاحهما الأول؛ ولو طالت المدة؛ إذا اختارا ذلك) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود، وصححه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص - زوجها - بنكاحها الأول بعد سنتين، ولم يحدث شيئا. وفي لفظ: ولم يحدث صداقا. وفي لفظ للترمذي (¬1) : ولم يحدث نكاحا، وقال: " هذا حديث حسن، ليس بإسناده بأس ". وأخرج الترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد؛ وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف. (وروي بإسناد ضعيف، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... مثله) (¬2) . ¬

_ (¬1) • وقال (2 / 196) : " ليس بإسناده بأس ". قلت: وهو حسن، وصححه أحمد كما سنعلقه قريبا. (ن) (¬2) • قلت: هذا يوهم أنه إسناد آخر عن ابن عمرو؛ غير الذي عزاه للترمذي، وابن ماجه؛ وليس كذلك؛ فإن الحديث عندهما من طريق الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب ... به. فهذه الجملة التي بين القوسين تكرار لا معنى له. ثم الحديث أخرجه أحمد أيضا (رقم 6938) ، وقال عقبه: " هذا حديث ضعيف - أو قال: واه -، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب؛ إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي؛ والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الصحيح الذي روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول ". (ن)

قال الترمذي: " في إسناده مقال "؛ وقال الإمام أحمد: " هذا حديث ضعيف، والصحيح: أنه أقرهما على النكاح الأول ". وقال الدارقطني: " هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول ". وقال الترمذي في كتاب " العلل " له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو ابن شعيب ". قال ابن القيم: " فكيف يجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة وتجعل خلاف الأصول؟ ! ". انتهى. وقد ذهب إلى ما دل عليه حديث ابن عباس جماعة من الصحابة، ومن بعدهم؛ لا كما نقله ابن عبد البر من الإجماع؛ على أنه لا يبقى العقد بعد انقضاء العدة، ولا مانع من جعل حديث ابن عباس - وما ورد في معناه - مخصصا لما ورد من أن العدة إذا انقضت فقد ذهب العقد؛ ولم تحل للزوج إلا بعقد جديد. قال ابن القيم في " إعلام الموقعين ". " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه؛ بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج، هذه سنته المعلومة.

قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة، وبخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت: اقتلوا الشيخ الضال؛ ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت بعد انقضاء العدة، واستقرا على النكاح، لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه. وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهرب عكرمة إلى اليمن، وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة، وهي دار الإسلام، وشهد حنينا وهو كافر، ثم أسلم، فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول، وذلك أنه لم تنقض عدتها. وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة، فأسلمت، وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة، فاستقرا على النكاح ". انتهى. أقول: إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس بمنزلة الطلاق؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها؛ مع تجديد العقد. فالحاصل: أن المرأة المسلمة إن حاضت بعد إسلامها، ثم طهرت؛ كان لها أن تتزوج بمن شاءت، فإذا تزوجت؛ لم يبق للأول عليها سبيل إذا أسلم،

الفصل الثالث أحكام المهر

وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الأول، ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض؛ هذا ما تقتضيه الأدلة، وإن خالف أقوال الناس. وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين؛ فإنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام؛ كان حكمه حكم إسلام من كان باقيا على الكفر. ( [الفصل الثالث: أحكام المهر] ) ( [دليل وجوب مهر المرأة] :) (المهر واجب) ؛ وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح، وهو قوله - تعالى -: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، فلذلك أبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب المهر كما كان. ودليل وجوبه: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسوغ نكاحا بدون مهر أصلا. وفي الكتاب العزيز: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} ، وقوله: {فلا تأخذوا منه شيئا} ، وقال: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} الآية، وقال - تعالى -: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} . وقد أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم - وصححه - (¬1) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع عليا أن يدخل ¬

_ (¬1) • وهو كما قال. (ن)

كراهة المغالاة في المهر

بفاطمة - عليهما السلام - حتى يعطيها شيئا، ولما قال: ما عندي شيء؛ قال: " فأين درعك الحطمية؟ "؛ فأعطاه إياها. وحديث سهل بن سعد الآتي قريبا من أعظم الأدلة على وجوب المهر. ( [كراهة المغالاة في المهر] :) (وتكره المغالاة فيه) : لحديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط ": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة "، وفي إسناده ضعف (¬1) . وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا "، قال: قد نظرت إليها، قال: " على كم تزوجتها؟ "، قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " على أربع أواق؟ {كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل} ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه "؛ قال: فبعث بعثا إلى بني عبس؛ بعث ذلك الرجل فيهم. وأخرج أبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الصداق أيسره " (¬2) . ¬

_ (¬1) ضعيف بهذا اللفظ؛ وإنما يصح بلفظ آخر؛ كما في " الإرواء " (6 / 348) . (¬2) حديث صحيح: " الإرواء " (1924) .

ما يصح به المهر

وعن عائشة: أنه كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه؛ اثنتي عشرة أوقية ونشا (¬1) "؛ أي: نصفا. وهو في " صحيح مسلم " وغيره. قال في " الحجة ": " ولم يضبط النبي صلى الله عليه وسلم المهر بحد لا يزيد ولا ينقص؛ إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب شتى، ولهم في المشاحة طبقات؛ فلا يمكن تحديده عليهم؛ كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص، ولذلك قال: " التمس ولو خاتما من حديد "، غير أنه سن في صداق أزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا. وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: لا تغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم (¬2) ". انتهى. ( [ما يصح به المهر] :) (ويصح ولو خاتما من حديد أو تعليم قرآن) : لما أخرجه أحمد، وابن ¬

_ (¬1) • النش: عشرون درهما؛ وهو نصف أوقية؛ كما يقال للخمسة: نواة: " مختار الصحاح ". (ن) (¬2) • أخرجه ابن سعد (8 / 165) ، وأصحاب " السنن "، وغيرهم؛ وسنده صحيح، وانظر الكلام عليه في التعليق على " المسند " (1 / 285 - 286) . وأما ما وقع في بعض طرق هذا الأثر عن عمر من اعتراض المرأة له وعليه، واحتجاجها بآية: {وآتيتم إحداهن قنطارا} ، ثم رجوعه إلى المنبر وقوله: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له: فأخرجه البيهقي (7 / 233) ؛ وقال: " هذا منقطع ". (ن)

ماجة، والترمذي (¬1) - وصححه - من حديث عامر بن ربيعة: أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ ، فقالت: نعم؛ فأجازه ". وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا - ملء يديه - طعاما كانت له حلالا "، وفي إسناده ضعف. وأخرج الدارقطني، في حديث لأبي سعيد في المهر، قال: " ولو على سواك من أراك ". وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله {إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله} زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة {فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل عندك من شيء تصدقها؟ "، قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا} "، فقال: ما أجد شيئا! قال: " التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل معك من القرآن شيء؟ "، قال: نعم سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها -، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " قد زوجتكها بما معك من القرآن ". ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 182) ، وقال: " حديث حسن صحيح ". وتعقبوه؛ لأن في سنده - عند الجميع - عاصم بن عبيد الله، قال البيهقي بعد أن أخرجه عنه: " تكلموا فيه، ومع ضعفه روى عنه الأئمة ". (ن)

ولا يعارض ما ذكر حديث: " لا مهر أقل من عشرة دراهم " - عند الدارقطني من حديث جابر -؛ لأن في إسناده مبشر بن عبيد، وحجاج بن أرطاة، وهما ضعيفان. قال ابن القيم: " وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من مهر، ولو خاتما من حديد - مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أن تبتغوا بأموالكم} ، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير - بأثر لا يثبت، وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق. وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة؟ ! وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياساً أهل الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب؛ كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد؛ كان قياسه أفسد ". انتهى. أقول: الحاصل؛ أن الأدلة قد دلت على أنه يصح أن يكون المهر قليلا بدون تقييد بمقدار؛ بل ما كان له قيمة صح أن يكون مهرا؛ فإن حديث: " ولو خاتما من حديد "، وكذلك حديث المرأة التي تزوجت بنعلين، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا - ملء يديه - طعاما كانت له حلالا "، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف أنه تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب؛ يدل على عدم التقييد بحد في جانب

مقدار مهر المرأة المدخول بها والتي لم يحدد صداقها

القلة، والأحاديث المذكورة هي في الأمهات: فالأول: متفق عليه. والثاني: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -. والثالث: أخرجه أحمد، وأبو داود. والرابع: أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬1) . فهذه الأحاديث تدل على أنه لا حد للمهر في جانب القلة؛ بل إذا كان له قيمة صح أن يكون مهرا. وأما في جانب الكثرة؛ فكذلك أيضا لا حد له، ولذلك ذكر الله القنطار، وكانت مهور زوجاته - صلى الله عليه وسلم - لكل واحدة اثنتا عشرة أوقية ونصف؛ عن خمس مئة درهم (¬2) . فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذا؛ فعليه الدليل الصحيح. ولا ريب أن المغالاة في المهور مكروهة كما تقدم. ( [مقدار مهر المرأة المدخول بها والتي لم يحدد صداقها] :) ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها إذا دخل بها) ؛ ¬

_ (¬1) • قلت: لقد أبعد المصنف النجعة؛ فالحديث في " الصحيحين "، وقد عزاه إليهما غير واحد، وانظر " البيهقي " (7 / 236) . (ن) (¬2) هكذا الأصل، ولعله: وهي عبارة عن خمس مئة درهم. (ش)

تقديم شيء من المهر قبل الدخول مستحب

لحديث علقمة عند أحمد، وأهل " السنن "، والحاكم، والبيهقي، (¬1) وصححه الترمذي، وابن حبان، قال: أتي عبد الله - يعني: ابن مسعود - في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقا، ولم يكن دخل بها؟ قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد معقل بن سنان الأشجعي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بَرْوع ابنة واشق بمثل ما قضى. وفي " إعلام الموقعين ": " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقا حتى مات؟ فقضى لها على صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث؛ ذكره أحمد وأهل " السنن " وصححه الترمذي وغيره ". قال ابن القيم " وهذه فتوى لا معارض لها، فلا سبيل إلى العدول عنها " انتهى. ( [تقديم شيء من المهر قبل الدخول مستحب] :) (ويستحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول) ؛ لحديث ابن عباس المتقدم قريبا. وأخرج أبو داود، وابن ماجه من حديث عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا. ولا يعارض هذا حديث ابن عباس؛ فإن غاية ما فيه أنه يدل على أن ¬

_ (¬1) • في " سننه الكبرى " (7 / 244 - 245) ، وصححه أيضا. (ن)

ما على الزوج

تقدمه شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة، ولا ينفي كونها مستحبة (¬1) . ( [ما على الزوج] :) (1 -[المعاشرة بالمعروف] :) (وعليه إحسان العشرة) ؛ لقوله - تعالى -: {وعاشروهن بالمعروف} . وفي " الصحيحين " وغيرهما، من حديث أبي هريرة: " إن المرأة كالضلع؛ إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها، فاستوصوا بالنساء ". وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديثه أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم ". وأخرج الترمذي - وصححه - من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيركم خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي ". ¬

_ (¬1) • قلت: هذا لو صح حديث عائشة؛ فكيف وهو غير صحيح الإسناد؛ لأنه من رواية شريك، عن منصور، عن طلحة، عن خيثمة عنها؛ أخرجه أبو داود (1 / 332) ، وابن ماجه (1 / 614) ، والبيهقي (7 / 253) ؛ وأعله أبو داود بقوله: " إن خيثمة لم يسمع من عائشة ". وعلته الحقيقية الإرسال؛ فقد رواه سفيان، عن منصور، عن طلحة، عن خيثمة: أن رجلا تزوج ... الحديث؛ وكذلك رواه سعيد، عن طلحة؛ أخرجهما البيهقي. ولذلك قال ابن عدي: " إن هذا من مناكير شريك "؛ كما في " الجوهر النقي ". (ن)

كظم الغيظ والتجاوز عن الخطإ

(2 -[كظم الغيظ والتجاوز عن الخطإ] :) وقال في " الحجة البالغة ": " الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها؛ لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور، ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه؛ إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة، وتداركا لجور، ونحو ذلك ". (3 -[النفقة عليها من طعام وسكن وكسوة] :) والواجب الأصلي هو المعاشرة بالمعروف، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بالرزق والكسوة وحسن المعاملة، ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلا؛ فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شيء واحد، ولذلك إنما أمر أمرا مطلقا. قال في " المسوى ": " إذا أعسر الزوج بنفقة امرأته؛ فهل يثبت لها حق الخروج من النكاح؟ قال الشافعي: لها الخروج عن النكاح، وقال أبو حنيفة: ليس لها ذلك، وكذلك الخلاف في الإعسار بالصداق إلا أن عند الشافعي في الإعسار بالنفقة: إذا رضيت مرة، ثم بدا لها؛ فلها الخروج؛ وفي الإعسار بالصداق: إذا رضيت مرة سقط حقها ". انتهى. ( [ما يجب على المرأة] :) (1 -[الطاعة بالمعروف] :) (وعليها الطاعة) ؛ لقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} .

خدمة الزوج في بيته

وفي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح ". وأخرج أهل " السنن "، وصححه الترمذي، من حديث عمرو بن الأحوص: " أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، ثم قال: " استوصوا بالنساء خيرا؛ فإنما هن عندكم عوان، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن؛ فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا؛ فأما حقكم على نسائكم: فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم: أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ". وفي الباب أحاديث كثيرة. (2 -[خدمة الزوج في بيته] :) وأما أن عليها خدمته في بيته أم لا؟ فأقول: إيجاب ذلك عليها غير ظاهر، ولكن قد كان نساء الصحابة يعملن الأعمال التي تصلح المعيشة؛ بل ويعملن من الأعمال الخارجة عن ذلك ما هو

متبالغ في المشقة، ولم يسمع أن امرأة امتنعت من ذلك، وقالت: هذا ليس علي، أو لست ممن يعمل هذه الأعمال؛ لكوني بمكان من الشرف، أو بمحل من الجمال. فقد صح في " الصحيحين " وغيرهما: أن الرحى أثرت في يد البتول، والقربة أثرت في نحرها؛ ولا شرف كشرفها - رضي الله عنها وأرضاها -. فمن زعمت أنه لا يجب عليها إلا تمكين زوجها من الوطء، وأرادت الرجوع بأجرة عملها؛ لم تحل إجابتها إلى ذلك. إنما الإشكال إذا امتنعت من المباشرة للأعمال ابتداء - قائلة: هذا لا يجب علي -؛ فإجبارها على ذلك يحتاج إلى دليل، فإن صح الأمر منه صلى الله عليه وسلم للبتول بخدمة زوجها؛ كان ذلك صالحا للتمسك به على إجبار الممتنعة (¬1) . وأما استدلال القائلين بعدم الوجوب بقوله - تعالى -: {نساؤكم حرث لكم} ، ونحو ذلك؛ فليس مما يفيد المطلوب، وكان يكفيهم أن يقولوا: لم نقف على دليل على الوجوب، ولا يثبت مثل هذا الحكم الشاق بدون ذلك، ¬

_ (¬1) • قلت: أوجه الدلالة في الكتاب والسنة غير محصورة بالأمر؛ بل هي كثيرة كما لا يخفى، وقد قام الدليل على وجوب خدمة المرأة لزوجها عند المتفقهين في الكتاب والسنة؛ فالزوج سيد المرأة في كتاب الله - تعالى -؛ وهو قوله: {وألفيا سيدها لدى الباب} ، وهي عانية عنده بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، والعاني: الأسير، ولا يخفى أن مرتبة العبد والأسير خدمة من هما تحت يديه. وأيضا؛ فقد قال - تعالى -: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، وليس هو إلا خدمتها إياه، فكما أن على الرجل الإنفاق عليها وكسوتها؛ فعليها خدمته مقابل ذلك، وهذا بين لا يخفى. ومن شاء تمام هذا البحث؛ فليراجع " الفتاوى " (2 / 234 - 235) لابن تيمية، و " زاد المعاد " (4 / 45 - 46) . (ن)

العدل بين الزوجات

ومجرد تقريره صلى الله عليه وسلم لنسائه ونساء المسلمين على العمل في بيوت الأزواج؛ غايته الجواز لا الوجوب. ( [العدل بين الزوجات] :) (ومن كان له زوجان فصاعدا عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن "، والدارمي، وابن حبان، والحاكم - وقال: " إسناده على شرط الشيخين "، وصححه الترمذي -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له امرأتان؛ يميل لإحداهما على الأخرى؛ (¬1) جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا - أو مائلا - ". وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها؛ كما في " الصحيح ". وأخرج أهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم - وصححاه - من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: " اللهم! هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (¬2) . قال في " الحجة البالغة ": ¬

_ (¬1) • وفي لفظ: " فلم يعدل بينهما "؛ رواه الترمذي (2 / 159) . وهذا اللفظ هو الذي عناه صاحب " الحجة "، بقوله الآتي: " وفيه أن قوله: " فلم يعدل ... " مجمل. . "؛ فليعلم ذلك. (ن) (¬2) • حديث ضعيف؛ إلا الشطر الأول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل؛ فصحيح: انظر " الإرواء " (2018) . (ن)

لا كراهة في الكلام حال الجماع

" والظاهر أن ذلك منه صلى الله عليه وسلم كان تبرعا وإحسانا من غير وجوب عليه؛ لقوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} ، وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد، ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة. أقول: وفيه أن قوله: " فلم يعدل "؛ مجمل لا يدرى أي عدل أريد به؟ ". انتهى. أقول: وأما الأمة المعقود عليها عقد نكاح؛ فيصدق عليها أنها زوجة، ويصدق عليها أنها امرأة، فيكون الوعيد الوارد فيمن له زوجتان أو امرأتان شاملا لهما. فالقول بأن الأمة لا تستحق إلا نصف الحرة في القسمة محتاج إلى دليل، ولم يصح في المرفوع شيء، والموقوف على الصحابة - وكذلك المرسلات -؛ ليس فيها حجة. ( [لا كراهة في الكلام حال الجماع] :) وأما الكلام حال الجماع؛ فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة، فإن كان ذلك بجامع الاستخباث؛ فباطل؛ فإن حالة الجماع حالة مستلذة، لا حالة مستخبثة، وفي المكالمة - حالته - نوع من إحسان العشرة؛ بل فيه لذة ظاهرة؛ كما قال بعض الشعراء: (ويعجبني منك حال الجماع ... لين الكلام وضعف النظر

القرعة بين النساء

وإن كان الجامع شيئا آخر؛ فما هو؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع الملاعبة والمداعبة، ووقت الجماع أولى بذلك من غيره. ( [القرعة بين النساء] :) (وإذا سافر أقرع بينهن) : دفعا لوحر (¬1) الصدر؛ لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج سفرا؛ أقرع بين أزواجه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها. ( [جواز تنازل المرأة عن نوبتها] :) (وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها) ؛ لحديث عائشة في " الصحيحين " وغيرهما: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة (¬2) . وفي " الصحيحين " عن عائشة، في تفسير قوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} ، قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها؛ فتقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، وأنت في حل من النفقة علي والقسم (¬3) لي. ¬

_ (¬1) الوحر - بفتح الواو والحاء -: الغيظ والحقد، وبلابل الصدر ووساوسه، ويقال أيضا: في صدره وحر - بإسكان الحاء -؛ وهو اسم، والمصدر بالفتح. (ش) . (¬2) • وقد تواردت الروايات في أن سبب هبتها لنوبتها؛ أنها خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوهبت: انظر " فتح الباري " (9 / 257) . (ن) (¬3) تعني عائشة أن هذا نوع من الصلح الجائز الذي تشمله الآية، ولا تريد بذلك حصر الصلح في هذا النوع فقط. (ش)

للزوجة الجديدة البكر سبعة أيام وثلاثة للثيب

( [للزوجة الجديدة البكر سبعة أيام وثلاثة للثيب] :) (ويقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا) ؛ لأن البكر؛ الرغبة فيها أتم، والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر، فجعل قدرها السبع، وقدر الثيب الثلاث؛ لحديث أم سلمة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام. وفي " الصحيحين " من حديث أنس، قال: " من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، ثم قسم، وإذا تزوج الثيب؛ أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. وفي الباب أحاديث. ( [حكم العزل] :) (ولا يجوز العزل) ؛ يشير إلى كراهة العزل من غير تحريم. قال في " المسوى ": " اختلف أهل العلم في العزل، فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين، وكرهه جمع منهم، ولا شك أن تركه أولى ". وبالجملة؛ فدليله حديث جذامة بنت وهب الأسدية: أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال: " ذلك الوأد الخفي "؛ أخرجه مسلم، وغيره.

وأخرج أحمد (¬1) ، وابن ماجه، عن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نعزل عن الحرة إلا بإذنها؛ وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال. وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي (¬2) من حديث ابن عباس، قال: نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها. وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في " مسلم "، وغيره، قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي رواية: فبلغه ذلك؛ فلم ينهنا. وغايته أن جابرا لم يعلم بالنهي، وقد علمه غيره. وأما ما في " الصحيحين "، من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سألوه عن العزل: " ما عليكم أن لا تفعلوا؛ فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ": ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 212) ، و " ابن ماجه " (1 / 295) من طريق إسحاق بن عيسى، عن ابن لهيعة؛ وهذا سند ضعيف من أجل ابن لهيعة. وأخرجه البيهقي (7 / 231) ؛ إلا أنه وقع في اسم الراوي عن ابن لهيعة تحريف. (ن) قلت: ولكن هذا من صحيح حديث ابن لهيعة؛ إذ إن إسحاق بن عيسى ممن لقي ابن لهيعة قبل احتراق كتبه؛ وعليه فالسند جيد. وهذا ما انتهى إليه بحث شيخنا في رواية ابن لهيعة؛ وانظر " الصحيحة " (60 / 1158 / تحت الحديث 2971) . (¬2) • وهو عنده موقوف؛ فلا حجة فيه. (ن)

فقد قيل: إن معناه النهي، وقيل (¬1) : إن معناه ليس عليكم أن تتركوا، وغايته الاحتمال، ولا يصلح للاستدلال. وأخرج أحمد (¬2) ، والترمذي، والنسائي، بإسناد رجاله ثقات، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العزل -: " أنت تخلقه؟ {أنت ترزقه؟} أقرره قراره؛ فإنما ذلك القدر " (¬3) . وأخرج أحمد، ومسلم، من حديث أسامة بن زيد: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) • وقد حكى الأقوال في ذلك الحافظ في " الفتح " (9 / 252) ؛ ومما نقله عن بعضهم في المنع قوله: " لا عليكم أن لا تفعلوا "؛ أي: لا حرج عليكم أن لا تفعلوا؛ ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل؛ لقال: لا عليكم أن تفعلوا؛ إلا إن ادعي أن (لا) زائدة؛ فيقال: الأصل عدم ذلك. قلت: وهذا المعنى هو المتبادر، ويؤيده ما أخرج البخاري في (الحج) ، عن عروة، قال: سألت عائشة، فقلت لها: أرأيت قول الله: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ؛ فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه؛ كانت: (لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما) فتأمله. لكن قد يعكر عليه ما أخرجه أحمد (3 / 26 - 47) ؛ من طريق أبي الوداك، عن أبي سعيد في هذا الحديث: " واصنعوا ما بدا لكم؛ فإن قدر الله شيئا كان "؛ وإسناده على شرط مسلم، لكني أرى - والله أعلم - أن قوله: " اصنعوا ما بدا لكم " شاذ؛ لأنه تفرد به مجالد بن سعيد، ويونس بن عمرو أبي إسحاق السبيعي، وفيهما ضعف من قبل الحفظ، وقد خالفهما علي بن أبي طلحة عند مسلم (4 / 159) ، وأبو إسحاق السبيعي عند أحمد (3 / 49 - 59 - 93) ؛ فلم يذكروا هذه الزيادة. ويؤيده أن الحديث في " الصحيحين "، و " المسند " (3 / 49، 53، 57، 93) ؛ من طرق عن أبي سعيد بدونها؛ فثبت شذوذها؛ وراجع البيهقي (7 / 229) . (ن) (¬2) • (3 / 53) . (ن) (¬3) حديث ضعيف؛ كما بينه شيخنا في " ظلال الجنة " (رقم 369) .

حرمة إتيان المرأة في دبرها

-: " لم تفعل ذلك؟ "، فقال: أشفق على ولدها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان ضارا ضر فارس والروم ". وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، وتعقب بأن الشافعية تقول: إنه لا حق للمرأة في الجماع. أقول: وفي حديث أبي سعيد الذي أخرجه أهل " السنن " (¬1) ، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى؟ فقال: " كذبت يهود؛ لو أراد الله أن يخلق لم تستطع أن تصرفه ". وأخرج نحوه النسائي، من حديث أبي هريرة، وجابر. ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط من دون تحريم. ( [حرمة إتيان المرأة في دبرها] :) (ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن "، والبزار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) • ليس هو عند ابن ماجه، وكذا النسائي في " الصغرى "، وقد عزاه إليه المنذري في " مختصره " (3 / 76) ؛ فلعله في " الكبرى " له. وقد ذكر فيه أن في صحابي الحديث وتابعيه اختلافا، ولا يتسع المقام لبيان ذلك؛ فراجع " سنن أبي داود "، و " الترمذي " (2 / 193) ، و " البيهقي " (7 / 230) و " المسند " (3 / 33 - 51 - 53) . لكن يشهد له حديث أبي هريرة، والظاهر أنه في " الكبرى " أيضا للنسائي؛ وهو عند البيهقي أيضا، وليس فيه: " لو أراد ... " وسنده حسن. (ن)

" ملعون من أتى امرأة في دبرها "، وفي إسناده الحارث بن مخلد، لا يعرف حاله (¬1) . وأخرج أحمد، والترمذي، وأبو داود، من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه؛ فقد كفر بما أنزل على محمد "؛ وفي إسناده أبو تميمة عنه، قال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة؛ وقال البزار: هذا حديث منكر. وفي إسناده أيضا حكيم بن الأثرم (¬2) ، قال البزار: لا يحتج به، وما تفرد به فليس بشيء. وأخرج أحمد، وابن ماجه، من حديث خزيمة بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها؛ وفي إسناده عمر (¬3) بن أحيحة، وهو مجهول. وفي الباب عن علي بن طلق عند أحمد (¬4) ، والترمذي، والنسائي، وابن ¬

_ (¬1) • " التقريب ". (ن) (¬2) • قلت: لفظة (ابن) مقحمة، وإنما هو حكيم الأثرم؛ وهو ثقة كما قال جماعة. وحديثه هذا صحيح لا علة فيه؛ وإعلال البخاري بما ذكر غير مقبول على قواعد الجمهور؛ كما بينت ذلك في " نقد التاج " قبيل " الصلاة " (رقم 119) . (ن) (¬3) • عمرو. (ن) قلت: وانظر " إرواء الغليل " (7 / 67 - 68) ؛ فقد بين فيه أن (عمرو بن أحيحة) ؛ صحابي، أو تابعي ثقة. (¬4) • رقم (655) ، وفيه مسلم بن سلام الحنفي؛ لم يوثقه غير ابن حبان، وفي " التقريب ":

ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تأتوا النساء في أعجازهن - أو قال: في أدبارهن - "؛ ورجال إسناده ثقات. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عند أحمد (¬1) ، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها: " هو اللوطية الصغرى ". وفي الباب أحاديث، وبعضها يقوي بعضا. وحكي عن بعض أهل العلم الجواز؛ واستدلوا بقوله - تعالى -: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ؛ والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه. أقول: كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي، وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم، وكانوا يقولون (¬2) : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت هذه الآية؛ أي: أقبل وأدبر ¬

_ " مقبول ". ومن طريقه الترمذي (2 / 205) ؛ إلا أنه جعله من مسند علي بن طلق - وحسنه -، وكذلك رواه عن ابن طلق النسائي، كما في " الترغيب " (3 / 201) ، والدارمي (1 / 261) . وأما ابن ماجه؛ فمن حديث خزيمة من طريق أخرى عنه (1 / 594) ، وكذا الدارمي. (ن) (¬1) • في " المسند " رقم (6707، 6967، 6968) ؛ من طريق قتادة: ثنا عمرو ... به، وهذا سند حسن. ومن الغرائب قول المنذري والهيثمي بعد أن نسباه لأحمد والبزار: " ورجالهما رجال الصحيح "؛ نقله المعلق على " المسند "؛ وأقرهما! وأما النسائي؛ فلم يروه في " الصغرى "؛ فالظاهر أنه في " الكبرى " له. (ن) (¬2) • رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود. (ن)

ما كان في صمام واحد، وذلك لأنه لا شيء تتعلق به المصلحة المدنية والملية، والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه، وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود، فكان من حقه أن ينسخ. قال في " إعلام الموقعين ": " وسألته صلى الله عليه وسلم امرأة من الأنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها؟ فتلا عليها قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} : " صماما واحدا "؛ ذكره أحمد. وسأله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: يا رسول الله {هلكت} قال: وما أهلكك؟ " قال: حولت رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئا، فأوحى الله تعالى إلى رسوله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} : " أقبل وأدبر؛ واتق الحيضة والدبر "؛ ذكره أحمد (¬1) ، والترمذي. وهذا هو الذي أباحه الله تعالى ورسوله، وهو الوطء من الدبر لا في الدبر ". انتهى. أقول: هذه النصوص المذكورة فيها مقالات لأئمة الحديث، ولكن لها طرق عن جماعة من الصحابة، وهي منتهضة بمجموعها (¬2) ؛ على فرض أن ¬

_ (¬1) • في " المسند " (6 / 305) ، والبيهقي أيضا (7 / 195) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم. ورواه الترمذي (4 / 75) مختصرا؛ وقال: " حديث حسن صحيح ". وأما الحديث الذي بعده فهو في " المسند " (رقم 2703) ، و " الترمذي " (4 / 75 - 76) ؛ وقال: " حديث حسن غريب ". قلت: وفيه يعقوب بن عبد الله القمي، وهو صدوق يهم؛ كما في " التقريب "، ومن طريقه رواه البيهقي (7 / 198) ، وصححه الحافظ في " الفتح " (8 / 153) . (ن) (¬2) • ونحوه في " الفتح " (8 / 154) (ن) .

معنى قوله - تعالى -: {أنى شئتم} : أين شئتم. فإن كل ما في هذه الأحاديث من المقالات لا يبلغ بواحد منها إلى حد السقوط عن درجة الاعتبار، وقد استوفى الماتن - رحمه الله - البحث في " النيل " واستوفاه الجلال في " ضوء النهار "، وساق الأدلة برصانة ومتانة - رحمه الله -. وأعظم ما يستشكل في المقام: ما صح عن ابن عمر من طرق (¬1) : أنه قرأ: {نساؤكم حرث لكم} ، فقال: تدري يا نافع! فيم أنزلت هذه الآية؟ قال: لا، قال: في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله سبحانه: {نساؤكم حرث لكم} . لكنه قد وهمه حبر الأمة ابن عباس في ذلك؛ كما في " سنن أبي داود " (¬2) . ¬

_ (¬1) • ذكرها في " الفتح " (8 / 153) . (ن) (¬2) • والبيهقي أيضا (7 / 195) ؛ من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ وقال البيهقي: " وروا أيضا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، سمع أبان بن صالح ... فذكره ". قلت: فإذا ثبت سماع ابن إسحاق منه؛ فالسند حسن. وخلاصة رواية ابن عباس: أن الآية نزلت في إتيان النساء مقبلات ومدبرات في موضع الولد. وقد قال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 78) : " وهذا الذي فسر به ابن عباس؛ فسر به ابن عمر، وإنما وهموا عليه، ولم يهم هو "، ثم ذكر من رواية النسائي عن ابن عمر نحو ما ذكرنا عن ابن عباس، واستدل عليه برواية أخرى عنه؛ فراجعه فإنه مهم، ولولا ضيق المجال؛ لنقلت كلامه في ذلك برمته. (ن)

الفصل الرابع الولد للفراش

( [الفصل الرابع: الولد للفراش] :) ( [الدليل على أن الولد للفراش] :) (والولد للفراش) ، وللعاهر الحجر، (ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ". وفيهما أيضا من حديث عائشة، قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله {إن ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله} ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، وقال: " هو لك يا عبد بن زمعة {الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة} ". ( [لمن ولد الأمة الموطوءة من ثلاثة في طهر واحد ملكها كل واحد منهم فيه؟] :) (وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة في طهر ملكها كل واحد منهم فيه، فجاءت بولد وادعوه جميعا؛ فيقرع بينهم، ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، من حديث زيد بن أرقم، قال: أتي علي وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين، وقال: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، ثم سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا، فجعل كلما سأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا؛ فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي أصابته القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه.

وأخرجه النسائي، وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من الأول؛ لأن في الإسناد الأول يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالأجلح، وقد وثقه يحيى بن معين، والعجلي، وضعفه النسائي بما لا يوجب ضعفا (¬1) . وقد أخذ بالقرعة مطلقا: مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، حكى ذلك عنهم ابن رسلان في كتاب العتق من " شرح السنن "، وقد ورد العمل بها في مواضع؛ هذا منها. أقول: القرعة قد صح الدليل باعتبارها؛ كما أوضحت ذلك في " ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي " وأوضحه الماتن في " شرح المنتقى "، فإذا أعوز الأمر، ولم يمكن التعيين بسبب من الأسباب الراجعة إلى ثبوت الفراش، أو البينة أو نحوهما؛ فإنه يرجع إلى القرعة؛ فقد اعتبرها صلى الله عليه وسلم في الإلحاق مع الاختلاف، واعتبرها في تعيين من يعتق؛ كما في حديث من أوصى بعتق ستة أعبد، فأقرع بينهم وأعتق اثنين وأرق أربعة، بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء، وأعتق الجزء الذي وقعت عليه القرعة، وورد أيضا غير ذلك. فالحاصل: أن القرعة معتبرة شرعا في غير باب. ¬

_ (¬1) • قلت: ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " صدوق "؛ فالإسناد حسن؛ لولا أن فيه عبد الله بن الخليل، عن زيد بن أرقم؛ وهو في عداد المجهولين. لكن قد أخرجه أبو داود (1 / 356) من طريق أخرى مرفوعا؛ خلافا لما يوهمه صنيع الشارح. أخرجه من طريق عبد خير، عن زيد بن أرقم ... باللفظ الذي في الكتاب؛ مع اختلاف يسير؛ وسنده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات، وصححه الحاكم (2 / 207) . (ن)

الكتاب التاسع كتاب الطلاق

(الكتاب التاسع: كتاب الطلاق)

كتاب الطلاق

(9 - كتاب الطلاق) (1 - باب أنواع الطلاق) ( [الفصل الأول: مشروعية الطلاق وأحكامه] ) ( [تعريف الطلاق] :) هو مشتق من الإطلاق: وهو الإرسال والترك، ومنه: طلقت البلاد؛ أي: تركتها. ( [مشروعية الطلاق] :) (هو جائز) : بنص الكتاب العزيز، ومتواتر السنة المطهرة، وإجماع المسلمين، وهو قطعي من قطعيات الشريعة، ولكنه يكره مع عدم الحاجة. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه (¬1) - من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة ". ¬

_ (¬1) • أخرجه (2 / 217) من طريق أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان. لكن أخرجه الآخرون، وكذا الدارمي (2 / 162) عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عنه. وهذا سند صحيح، وقد صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (2 / 200) . (ن)

وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - (¬1) ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق ". وقال في " الحجة البالغة ". " إن في الإكثار من الطلاق، وجريان الرسم بعدم المبالاة به؛ مفاسد كثيرة، وذلك أن ناسا ينقادون لشهوة الفرج، ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل، ولا التعاون في الارتفاقات، ولا تحصين الفرج، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء، وذوق لذة كل امرأة، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح، ولا فرق بينهم وبين الزناة؛ من جهة ما يرجع إلى نفوسهم، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح، والموافقة لسياسته المدنية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الذواقين والذواقات ". انتهى. أقول: هذا الحديث ذكره صاحب " الحجة " تبعا لابن همام من غير تخريج، ولم أجده في كتب الحديث مخرجا. نعم حديث: " لا أحب الذواقين من الرجال والذواقات من النساء " (¬2) ؛ رواه الطبراني، عن أبي موسى مرفوعا، وكذا الدارقطني في " الأفراد "، وهو ¬

_ (¬1) • قلت: وهو كذلك لولا أن المحققين أعلوه بالإرسال؛ منهم ابن أبي حاتم، عن أبيه، والبيهقي، والخطابي، والمنذري، وقال: " هو غريب ". ولذا قال الشاطبي في " الموافقات ": (1 / 127) : " ولم يصح ". وقد فصلت القول فيه في " معجم الحديث ". (ن) (¬2) حديث ضعيف؛ كما تراه في " غاية المرام " (رقم 255) لشيخنا.

في " الجامع الصغير " للسيوطي بلفظ: " إن الله لا يحب ... " (¬1) الخ، قال شراحه: وفي سنده راو لم يسم. وأما حديث: " إن الله يكره المطلاق الذواق "؛ فقال السخاوي - كغيره -: " لا أعرفه "؛ كذلك. ثم قال في " الحجة ": " وأيضا؛ ففي جريان الرسم بذلك إهمال لتوطين النفس على المعاونة الداعية، أو شبه الداعية، وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شيء من محقرات الأمور، فيندفعان إلى الفراق ". وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة، والإجماع على إدامة هذا النظم؟ ! وأيضا فإن اعتيادهن بذلك، وعدم مبالاة الناس به، وعدم حزنهم عليه؛ يفتح باب الوقاحة، وأن لا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه، وأن يخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق، وفي ذلك ما لا يخفى. ومع ذلك؛ لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه؛ فإنه قد يصير الزوجان متناشزين، إما لسوء خلقهما أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر، أو لضيق معيشتهما، أو لخرق واحد منهما، ونحو ذلك من الأسباب. فيكون إدامة هذا النظم مع ذلك بلاء عظيما وحرجا ". انتهى. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ كما في " غاية المرام " (رقم 256) لشيخنا.

من يقع منه الطلاق

( [من يقع منه الطلاق؟] :) (من مكلف مختار) ؛ لأن أمر الصغير إلى وليه، وطلاق المكره لا حكم له. والأدلة على هاتين المسألتين مقررة في مواضعهما، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". معناه: في إكراه، وطلاق المكره هدر. ( [حكم طلاق الهازل] :) (ولو هازلا) (¬1) ، وهو الذي يتكلم من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب، ونقيضه الحاد - من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل - لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ". وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أردك (¬2) ، وهو مختلف فيه. وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني مرفوعا: ¬

_ (¬1) • وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام في " إبطال التحليل " في بحث له في ذلك طويل نفيس، احتج فيه بالأحاديث والآثار والاعتبار؛ فراجعه (ص 46 - 58) . (ن) (¬2) بالراء المهملة؛ كما في " الخلاصة "، و " سنن الترمذي ". (ش)

" ثلاث لا يجوز فيهن اللعب: الطلاق والنكاح والعتق "؛ وفي إسناده ابن لهيعة. وعن عبادة بن الصامت - عند الحارث بن أبي أسامة في " مسنده " - مرفوعا بنحوه، وزاد: " فمن قالهن فقد وجبن "؛ وفي إسناده انقطاع. وعن أبي ذر - عند عبد الرزاق - رفعه: " من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز "؛ وفي إسناده أيضا انقطاع (¬1) . وعن علي موقوفا - عند عبد الرزاق أيضا -. وعن عمر مرفوعا عنده أيضا. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا. قال ابن القيم: " وأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور، وكذلك نكاحه صحيح؛ كما صرح به النص، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين، وهو قول الجمهور، حكاه أبو حفص أيضا عن أحمد، وهو قول الصحابة، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا ¬

_ (¬1) • وله شاهد آخر مرسل عن الحسن مرفوعا؛ بلفظ: " من نكح لاعبا، أو أطلق لاعبا، أو أعتق لاعبا؛ فقد جاز "؛ رواه أبو حفص العكبري؛ كما في " إقامة الدليل على إبطال التحليل " (ص 46) لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ وذكر هناك آثارا موقوفة تشهد لهذه المرفوعة. (ن)

حكم الطلاق السني

يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك - رواه ابن القاسم عنه، وعليه العمل عند أصحابه -؛ أن هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع ". انتهى. ( [حكم الطلاق السني] :) (لمن كانت في طهر لم يمسها فيه؛ ولا طلقها في الحيضة التي قبله؛ أو [كانت (¬1) ] في حمل قد استبان) أقول: ويشترط في طلاق السنة أن لا تكون المرأة حائضا، وهذا لغضبه - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض؛ كما في " الصحيحين " وغيرهما. وأما اشتراط أن لا تكون نفساء؛ فلأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: " ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإذا بدا له أن يطلقها فليطلقها "؛ فهذا فيه أن طلاق السنة يكون حال الطهر، والنفاس ليس بطهر. وأما اشتراط أن يكون في طهر لم يجامعها فيه؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: " فليطلقها قبل أن يمسها "؛ يعني: في ذلك الطهر. وأما اشتراط أن لا يطلقها في ذلك الطهر أكثر من طلقة؛ فلما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر: وأنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها تطليقتين أخريين عند القرء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ¬

_ (¬1) • زيادة لا بد منها. (ن)

" يا ابن عمر {ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر؛ فتطلق لكل قرء "، وفي لفظ: " في كل قرء تطليقة ". وقد أنكر الحافظ ابن حجر هذه الرواية (¬1) . وأخرج النسائي (¬2) ، من حديث محمود بن لبيد، قال: وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، فقال: " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟} ". وأما اشتراط أن لا يطلقها في طهر قد طلقها في حيضه المتقدم؛ فلأمره صلى الله عليه وسلم لابن عمر أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر؛ فلولا أن الطلاق في الحيض مانع من الطلاق في الطهر المتعقب له؛ لم يأمره بإمساكها في الطهر الذي عقب الحيضة التي طلقها فيها. وجميع ما ذكرناه من حديث ابن عمر متفق عليه؛ إلا رواية الدارقطني التي ذكرناها. وفي رواية من حديث ابن عمر عند مسلم، وأبي داود، والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر؛ ثم إن شاء طلق أو أمسك. وفي لفظ لمسلم أيضا، والترمذي: " مره فليراجعها؛ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ". ¬

_ (¬1) • وأخرجها البيهقي أيضا (7 / 320) ؛ وضعفها. (ن) (¬2) • (2 / 95) من طريق مخرمة، عن أبيه، عنه؛ وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات، وصححه الشارح، كما يأتي (ص 282) ؛ وبين ذلك ابن القيم في " الزاد " (4 / 73 - 74) . (ن)

حكم الطلاق البدعي

وظاهر هاتين الروايتين: أن الطلاق في الطهر المتعقب للحيضة التي وقع الطلاق فيها يكون طلاق سنة لا بدعة، ولكن الرواية الأولى التي فيها: " ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر "؛ متضمنة لزيادة يجب العمل بها وهي أيضا في " الصحيحين "، فكانت أرجح من وجهين. ويدل قوله: " أو حاملا " أن طلاق الحامل للسنة، وأما من كانت صغيرة أو آيسة، أو منقطعا حيضها؛ فالظاهر أنه يكون طلاقها للسنة من غير شرط إلا مجرد إفراد الطلاق. وأما القول بأنه ليس بسنة ولا بدعة - كما في " البحر " وغيره - ففاسد؛ لأن الأصل عدم عروض ما يمنع من الطلاق المشروع. ( [حكم الطلاق البدعي] :) (ويحرم إيقاعه على غير هذه الصفة) ؛ لحديث ابن عمر عند مسلم، وأهل " السنن " وأحمد: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا ". وفي لفظ: أنه قال: ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله ". وهو في " الصحيحين "، وغيرهما. وفي رواية في " الصحيح ": أنه قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} .

وللحديث ألفاظ. ووقع الخلاف بين الرواة: هل حُسبت تلك الطلقة أم لا؟ ورواية عدم الحسبان لها أرجح، وقد أوضح الماتن هذه المسألة في " شرح المنتقى " (¬1) ، وفي رسالة مستقلة، والخلاف طويل، والأدلة كثيرة، والراجح عدم وقوع البدعي لما ذكره هنالك (¬2) . وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس ذلك بشيء ". وقد روى ابن حزم في " المحلى " بسنده المتصل إلى ابن عمر: أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: لا يعتد بذلك؛ وإسناده صحيح. وقد تابع أبا الزبير - الراوي لعدم الحسبان لتطليقة ابن عمر المذكورة في الحديث -: أربعة: عبد الله بن عمر العمري، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ويحيى بن سليم، وإبراهيم بن أبي حسنة. ولو لم يكن في المقام إلا قول الله - عز وجل -: {يا أيها النبي إذا طلقتم ¬

_ (¬1) • (6 / 191 - 193) . (ن) (¬2) يؤيد هذا: أن الأصل في عقد النكاح البقاء والاستمرار، وهو عقد بين اثنين: هما الزوجان، والأصل في العقود أن فسخها كابتدائها؛ يجب فيه رضا العاقدين، وأباح الشارع الطلاق من أحد طرفي العقد وحده؛ وهو الزوج؛ على غير القياس في فسخ العقود أو إلغائها، فيجب الاقتصار على ما ورد عنه، والوقوف عند الحد الذي أباحه، فكل صفة للطلاق غير الصفة التي أذن بها الشارع؛ لا أثر لها في العقد، ولا يجوز قياس الممنوع على الجائز، كما لا يجوز قياس أحد طرفي العقد على الآخر؛ فإن الزوجة لا يجوز لها أن تطلق نفسها؛ إلا إذا فوض الزوج ذلك إليها وتلقته عنه، وهذه إشارة إلى بحث ممتع طويل؛ لعلنا نوفق إلى كتابته في مجال أوسع من هذا؛ إن شاء الله. (ش)

أقوال العلماء في وقوع الطلاق البدعي وعدمه

النساء فطلقوهن لعدتهن} ، وقد تقرر أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي يقتضي الفساد، وقول الله - تعالى -: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، والمطلق على غير ما أمر الله تعالى به لم يسرح بإحسان. وقد ذهب إلى عدم الوقوع جماعة من السلف؛ كابن علية (¬1) ، وإليه ذهب ابن حزم، وابن تيمية، وذهب الجمهور إلى الوقوع. ( [أقوال العلماء في وقوع الطلاق البدعي وعدمه] :) (وفي وقوعه) ؛ أقول: هذه المسألة من المعارك التي لا يجول في حافاتها إلا الأبطال، ولا يقف على تحقيق الحق في أبوابها إلا أفراد الرجال، والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب، فمن رام الوقوف على سرها؛ فعليه بمؤلفات ابن حزم ك " المحلى "، ومؤلفات ابن القيم ك " الهدي ". وقد جمع السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا حافلا، وجمع الإمام الشوكاني رسالة ذكر فيها حاصل ما يحتاج إليه من ذيول المسألة، وقرر ما ألهم الله إليه، وذكر في " شرح المنتقى " أطرافا من ذلك. وخلاصة ما عول عليه القائلون بوقوع الطلاق البدعي؛ هو اندراجه تحت الآيات العامة، وتصريح ابن عمر بأنها حسبت تلك طلقة. وأجاب القائلون بعدم الوقوع عنهم؛ بمنع اندراجه تحت العمومات؛ لأنه ليس من الطلاق الذي أذن الله به؛ بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه؛ ¬

_ (¬1) • المتبادر أنه إسماعيل ابن علية؛ من كبار أهل السنة، وليس به؛ بل هو ابنه إبراهيم؛ كما في " الفتح " (9 / 289) ، وكان من فقهاء المعتزلة. (ن)

قال: {فطلقوهن لعدتهن} ، وقال صلى الله عليه وسلم: " مره فليراجعها "، وصح أنه غضب عند أن بلغه ذلك، وهو لا يغضب مما أحله الله. وأما قول ابن عمر: إنها حسبت؛ فلم يبين من الحاسب لها (¬1) ؛ بل أخرج عنه أحمد، وأبو داود، والنسائي: أنه طلق امرأته وهي حائض؛ فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرها شيئا. وإسناد هذه الرواية صحيح (¬2) ، ولم يأت من تكلم عليها بطائل، وهي مصرحة بأن الذي لم يرها شيئا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعارضها قول ابن عمر؛ لأن الحجة في روايته لا في رأيه. وأما الرواية بلفظ: " مره فليراجعها، ويعتد بتطليقة "؛ فهذه لو صحت لكانت حجة ظاهرة، ولكنها لم تصح؛ كما جزم به ابن القيم في " الهدي "؛ وقد روي في ذلك روايات في أسانيدها مجاهيل وكذابون، لا تثبت الحجة بشيء منها. ¬

_ (¬1) • قلت: هذا ذهول عما رواه البيهقي (7 / 326) ؛ من طريق نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له؟ فجعلها واحدة، وأخرجها الدارقطني (ص 429) ؛ وسندها صحيح. وقد سبق إلى رد هذه الدعوى الحافظ في " الفتح "، وأفاض في ذكر الروايات في ذلك، فراجعه (9 / 390) . لكن ابن القيم أبدى في " زاد المعاد " (2 / 67 - 71) أنه يحتمل أن يكون قوله: (فجعلها واحدة) من قول بعض الرواة؛ وهذا غير وارد في رواية البيهقي هذه، لكن من تتبع طرقها؛ يظهر له قوة الاحتمال الذي ذهب إليه ابن القيم - رحمه الله -، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. (ن) قلت: انظر ما وصل إليه شيخنا - أخيرا - في هذه المسألة - رواية ودراية - في " إرواء الغليل " (2059) . (¬2) • وقال الحافظ: " على شرط الصحيح ". (ن)

أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد

والحاصل: أن الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة يقال له: طلاق بدعة؛ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن كل بدعة ضلالة، ولا خلاف أيضا أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر. وما خالف ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو رد؛ لحديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "؛ وهو حديث متفق عليه. فمن زعم أن هذه البدعة يلزم حكمها، وأن هذا الأمر الذي ليس من أمره صلى الله عليه وسلم يقع من فاعله ويعتد به؛ لم يقبل منه ذلك إلا بدليل. وإذا كان من جملة طلاق البدعة إيقاع الثلاث دفعة - كما سيأتي -؛ فهذه الصورة من طلاق البدعة بخصوصها. ( [أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد] :) (ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف) ؛ قال الماتن في " رسالته " في هذا الباب: " اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال: (الأول) : وقوع جميعها؛ وهو مذهب الأئمة، وجمهور العلماء، وكثير من الصحابة، وفريق من أهل البيت. (الثاني) : عدم الوقوع مطلقا - لا واحدة ولا ما فوقها -؛ لأنه بدعة محرمة؛ وهذا المذهب حكاه ابن حزم، وحكى للإمام أحمد ما يكفي، وقال:

هو مذهب الرافضة. قلت: بل هو مذهب جماعة من التابعين؛ كما حكاه الليث، ومذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وجميع الإمامية، ومن أهل البيت - عليهم السلام -: الباقر، والصادق، والناصر، وبه قال أبو عبيدة، وبعض الظاهرية؛ لأن هؤلاء قالوا: إن الطلاق البدعي لا يقع، والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع. (الثالث) : وقوع الثلاث إن كان المطلقة مدخولة، وواحدة إن لم تكن كذلك؛ وهذا هو مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس، وإسحاق بن راهويه. (الرابع) : أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق بين المدخول بها وغيرها؛ وهذا مذهب ابن عباس على الأصح، وابن إسحاق، وعطاء، وعكرمة، وأكثر أهل البيت. وهذا أصح الأقوال ". انتهى. ثم سرد أدلة هؤلاء، ورجح القول الرابع، فليرجع إليه. قال ابن القيم: " قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: أن الثلاث كانت واحدة في عهده، وعهد أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، وغاية ما يقدر مع بعده أن الصحابة كانوا على ذلك ولم يبلغه، وهذا وإن كان كالمستحيل؛ فإنه

الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع طلقة واحدة على الراجح

يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته وحياة الصديق بذلك. وقد أفتى هو - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذه فتواه وعمل أصحابه؛ كأنه أخذ باليد ولا معارض لذلك، ورأى عمر - رضي الله تعالى عنه - أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث؛ عقوبة وزجرا لهم لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه - رضي الله تعالى عنه -؛ غايته أن يكون سائغا لمصلحة رآها، ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته. فإذا ظهرت الحقائق؛ فليقل امرؤ ما شاء، وبالله التوفيق ". انتهى. ( [الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع طلقة واحدة على الراجح] :) (الراجح عدم الوقوع) ؛ قال الماتن: " ذهب الجمهور إلى أنه يقع، وأن الطلاق يتبع الطلاق، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق؛ بل يقع واحدة، وقد حكي ذلك عن أبي موسى، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى، ورواية عن علي، ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن القيم، وقد حكاه ابن مغيث في كتاب " الوثائق " عن علي، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وحكاه أيضا عن جماعة من مشايخ قرطبة، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس. واستدل الجمهور بحديث ركانة بن عبد الله: أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة! فردها إليه؛ أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي - وصححه (¬1) أبو داود، وابن حبان، والحاكم، - وفي إسناده (¬2) الزبير بن سعيد الهاشمي، وقد ضعفه غير واحد، وقيل: إنه متروك.، وفي إسناده (2) أيضا: نافع بن عجير، وهو مجهول. ومتنه أيضا مضطرب؛ كما قال البخاري، ففي لفظ منه: أنه طلقها ¬

_ (¬1) • ليس في " سننه " تصريحه بالتصحيح، وإنما قال: " إن هذا الحديث أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا "؛ يعني حديثه الذي رواه بسنده عن ابن عباس، وليس فيه: " والله ما أردت إلا واحدة؟ ... " الحديث، ويأتي في الكتاب قريبا. إذا عرفت هذا فقوله: " أصح " ههنا؛ لا يفيد أن الحديث صحيح، ولا يتسع المجال لبيان ذلك؛ فراجع " تهذيب السنن " لابن القيم (3 / 134) . فأغلب الظن أن الشارح إنما اعتمد على نقله في " المنتقى " (6 / 193 - بشرح الشوكاني) عن الدارقطني، أنه قال: " قال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح "، وهذا ذكره الدارقطني عقب إخراجه الحديث. (ن) (¬2) • قلت: هذا التعبير يوهم أن إسناد الحديث واحد، فيه الرجلان؛ وليس كذلك؛ بل له إسنادان: أحدهما؛ من طريق الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده ركانة بن عبد يزيد. والآخر؛ من طريق نافع بن عجير بن عبد يزيد، عن ركانة ... به: أخرجهما الحاكم (6 / 199 - 200) ، والبيهقي (7 / 342) ، وكذا أبو داود (1 / 345) ، والدارقطني (ص 439) ، ورواه الترمذي (2 / 209 - 210) من الطريق الأول، والشافعي (2 / 370) من الطريق الثاني؛ وكلاهما ضعيف: أما الأول؛ فلأن فيه الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي؛ وهو لين الحديث، كما في " التقريب "، وعلي بن يزيد؛ مستور. وأما الآخر؛ ففيه نافع بن عجير؛ وهو مجهول؛ كما قال الشارح؛ تبعا لابن القيم (4 / 84) . ومنه تعلم أن تصحيح الحديث وهم؛ فلا جرم ضعفه البخاري وغيره. (ن)

ثلاثا، وفي لفظ: واحدة، وفي لفظ: البتة. وقال أحمد: طرقه كلها ضعيفة. وأما استدلالهم بقوله - تعالى -: {الطلاق مرتان} ، وبقوله: {فإن طلقها فلا تحل له} ؛ فليس في ذلك من الحجة شيء؛ بل هو عليهم لا لهم، وقد حقق هذا صاحب " الهدي " بما يشفي. وقد ورد ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق، وليس في الصحيح شيء من ذلك. وأرجح من الجميع؛ والحجة في هذا المقام: حديث ابن عباس الثابت في " صحيح مسلم " وغيره: أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؛ الثلاث واحدة، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس؛ فأجازه عليهم ". انتهى. وكل رجال إسناده أئمة، وله ألفاظ وأسانيد، وفي لفظ: أن أبا الصهباء قال له: ألم تعلم أن الثلاث كانت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟ قال: نعم. ولم يأت من حاول التخلص عنه بحجة تنفق، والتمسك بما في بعض الروايات من تقييد ذلك بالطلاق قبل الدخول لا وجه له (¬1) ؛ فإن الطلاق لا ¬

_ (¬1) • لأن الحديث لا مفهوم له؛ فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه. نعم؛ لو لم يكن السؤال مقيدا، فقيد المسؤول الجواب؛ كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: " إذا وقعت الفأرة في السمن؛ فألقوها وما حولها؛ وكلوه "؛ لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة؛ كذا في " إغاثة اللهفان " (1 / 285) . (ن)

يتفاوت الحال فيه قبل الدخول وبعده، وإذا ثبت الحكم في أحدهما؛ ثبت في الآخر، ومن ادعى الفرق فعليه إيضاحه. وفي حديث محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا، فقام غضبان، فقال: " أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ {"؛ حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله} ألا أقتله؟ ! وقد أخرجه النسائي بإسناد صحيح. وروى البيهقي (¬1) ، عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف طلقتها؟ "، فقال: طلقتها ثلاثا، فقال: " في مجلس واحد؟ "، قال: نعم، قال: " إنما تلك واحدة؛ إن شئت فراجعها ". وأخرج نحوه عبد الرزاق، وأبو داود، من حديثه. وهذا خلاصة الحجج في هذه المسألة (¬2) ، وهي طويلة الذيول، كثيرة ¬

_ (¬1) • في " سننه الكبرى " (7 / 339) ؛ من طريق ابن إسحاق: ثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس ... قلت: وزاد في آخره: فكان ابن عباس إنما يرى أن الطلاق عند كل طهر؛ فتلك السنة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها: {فطلقوهن لعدتهن} . ومن هذا الوجه أخرجه أحمد (رقم 2387) ، وقال شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 18) : " وهذا سند جيد، وله شاهد من وجه آخر؛ رواه أبو داود ". قلت: هو عند أبي داود (1 / 342 - 343) ؛ من طريق عبد الرزاق: نا ابن جريج: أخبرني بعض بني رافع - مولى النبي صلى الله عليه وسلم -، عن عكرمة ... به نحوه؛ وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود. (ن) (¬2) أحسن الشارح جدا في تلخيص الأدلة على أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة؛ إنما يقع طلاقا =

النقول، متشعبة الأطراف، قديمة الخلاف، والإحاطة بجميع ما فيها من الأقوال ¬

_ = واحدا، ولكن فات الباحثين في هذا المقام أمر نراه أساساً للمسألة؛ وهو: أن المعلوم بالبديهة من لغة العرب؛ أن وصف اللفظ بالعدد إنما هو إخبار عن وقوع الموصوف في الخارج بهذا اللفظ، فإذا قال القائل: قلت كذا خمس مرات؛ دل على أنه تلفظ به مرارا مكررة عددها خمس، وكذلك الإنشاء، ومنه قوله - تعالى -: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} ؛ فإنه ليس يجزئ عنه أن يقول بلفظ واحد: أشهد بالله أربع شهادات: إني لمن الصادقين؛ بل يجب أن يقول: أشهد بالله ... الخ، ويكررها أربع مرات ... وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والتحميد والتهليل ثلاثا وثلاثين؛ إنما معناه أن يكرر كل واحد منها ثلاثا وثلاثين مرة. وكذلك ما ورد أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم سلم ثلاثا؛ معناه أن يقول ثلاث مرات: " السلام عليكم ". ومثل هذا لا يماري فيه أحد، ولم يختلف فيه اثنان. إذن؛ فما الذي دل على إخراج الطلاق من هذه القاعدة الظاهرة الصحيحة؟ {اللهم} لا دليل إلا الوهم وانتقال النظر. والذي نراه أن قول القائل: أنت طالق ثلاثا؛ لا يخرج عن أنه نطق بالطلاق مرة واحدة، وأنه لا يصلح أن يكون موضع خلاف بين الصحابة أو غيرهم؛ وإنما الذي اختلفوا فيه وأمضاه عمر بن الخطاب؛ هو ما إذا قال لامرأته ثلاث مرات كررها: أنت طالق؛ سواء كانت في مجلس واحد أو في مجالس متعددة؛ ما دامت في العدة؛ فهذا جعله عمر ثلاث تطليقات باعتبار أن الطلاق يلحق المعتدة؛ وهي قد صارت معتدة باللفظ الأول من التطليقات التي كررها المطلق ثلاث مرات، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر خلافة عمر؛ تعتبر المرة الأولى، ثم لا يلحقها بعد ذلك المرتان اللتان بعدها؛ لأنها معتدة، فلما تكرر في ألفاظ الصحابة والتابعين الكلام في وقوع الطلاق الثلاث أو عدمه؛ فهم منه الفقهاء أن المراد به هو لفظ: أنت طالق ثلاثا. وهذا مما تنبو عنه قواعد اللغة، وبديهة العقل، وشاع ذلك فيهم، حتى أنكروا على من خالفه أشد الإنكار، ورموه بالكفر والتضليل، ولو رجعوا إلى عقولهم، وطبقوا ما سمعوا على مثل ما ورد في اللغة والكتاب والسنة؛ لوجدوا أنهم بعدوا جدا عن محل النزاع. نعم؛ إن كثيرا من القائلين بوقوع الثلاث واحدة تنبهوا إلى وصف اللفظ بالعدد، ولكنهم جعلوه دليلا لهم في نصر أحد القولين، وأما نحن؛ فإنما نراه دليلا على أن وصف لفظ الطلاق بالعدد لا يصلح محلا للخلاف، وإنما هو طلاق واحد، وصف خطأ بعدد لم يتكرر في اللفظ. ومحل الخلاف هو تكرار لفظ الطلاق كما قلناه، ولعلنا نوفق إلى زيادة إيضاح البحث وبسطه بحوله وقوته؛ والله الموفق. (ش)

وأدلتها وتصحيحها يحتمل مصنفا مستقلا، وقد جمع في ذلك شيخنا العلامة الشوكاني رسالة بسط فيها بعض البسط، وقد امتُحن بهذه المسألة جماعة من العلماء؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من بعده، والحق بأيديهم، ولكن لما كان مذهب الأربعة الأئمة أن الطلاق يتبع الطلاق؛ كان المخالف لذلك عند عامة أتباعهم، وكثير من خاصتهم كالمخالف للإجماع. وقد ظهر مما سقناه ههنا من الأدلة والنقول؛ أن الطلاق ثلاثا بلفظ واحد - أو ألفاظ في مجلس واحد من دون تخلل رجعة - يقع واحدة، وإن كان بدعيا؛ فتكون هذه الصورة من صور الطلاق البدعي واقعة من إثم الفاعل دون سائر صور البدعي؛ فلا يقع الطلاق فيها لما قدمنا تحقيقه. وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب والكلام عليها، وأثبته بالكتاب، والسنة، واللغة، والعرف، وعمل أكثر الصحابة، ثم قال بعد ذلك: " فهذا كتاب الله - تعالى -، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب. فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا أنهم (¬1) كانوا يرون الثلاث واحدة؛ إما بفتوى، وإما بإقرار عليها، ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك؛ فإنه لم يكن منكرا للفتوى به؛ بل كانوا ما بين مفت، ومقر بفتيا، وساكت غير منكر. ¬

_ (¬1) هكذا الأصل، ولعل صحة العبارة هي: " لوجد أنهم ... " الخ. (ش) • قلت: هي كذلك في " إعلام الموقعين " (3 / 48) . (ن)

وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعا؛ كما ذكر يونس بن بكير عن أبي إسحاق. فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى، أو إقرار، أو سكوت. ولقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه؛ بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن وإلى يومنا هذا. فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس؛ كما رواه حماد ابن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد؛ فهي واحدة. وأفتى بأنها واحدة: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف؛ حكاه عنهما ابن وضاح. وأما التابعون؛ فأفتى به عكرمة، وطاوس. وأما تابعو التابعين؛ فأفتى به محمد بن إسحاق، وخلاس بن عمرو، والحارث العكلي. وأما أتباع تابعي التابعين؛ فأفتى به داود بن علي، وأكثر أصحابه، وأفتى به بعض أصحاب مالك، وأفتى به بعض الحنفية، وأفتى به بعض أصحاب أحمد. والمقصود: أن هذا القول قد دل عليه الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر - رضي الله تعالى عنه - أن الناس استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه

الحالات التي يطلق فيها القاضي

جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه. والذي ندين الله - تعالى - به، ولا يسعنا غيره، وهو القصد في هذا الباب: أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه؛ أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان ". انتهى حاصله. وتمام هذا البحث في " إعلام الموقعين " (¬1) ، و " إغاثة اللهفان " للحافظ ابن القيم، وفي رسالة مستقلة للماتن، وفي كتابنا " مسك الختام "، فليرجع الطالب إليها إن أراد التفصيل والتحقيق، وبالله التوفيق. ( [الحالات التي يطلق فيها القاضي] :) ( [الأولى: التطليق لعدم النفقة] :) وأما التفريق بين المعسر وبين امرأته؛ فأقول: إذا كانت المرأة مثلا جائعة، أو عارية في الحالة الراهنة؛ فهي في ضرار، والله - تعالى - يقول: {ولا تضاروهن} ، وهي أيضا غير معاشرة بالمعروف، والله يقول: {وعاشروهن بالمعروف} ، وهي أيضا غير ممسكة بمعروف، والله يقول: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ؛ بل هي ممسكة ضرارا، والله يقول: {ولا تمسكوهن ضرارا} ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا ضرر ولا ضرار " (¬2) . ¬

_ (¬1) • (3 / 45) . (ن) (¬2) • هو حديث حسن أو صحيح لكثرة طرقه، وقد أخرجها الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 384 - 386) . (ن)

وقد ثبت في الفسخ بعدم النفقة ما أخرجه الدارقطني، والبيهقي (¬1) ، من حديث أبي هريرة مرفوعا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته: " يفرق بينهما ". وأخرجه الشافعي (¬2) ، وعبد الرزاق، عن سعيد بن المسيب، وقد سأله سائل عن ذلك؟ فقال: يفرق بينهما؛ فقيل له: سنة؟ فقال: نعم، سنة. وما زعمه ابن القطان من توهيم الدارقطني؛ فليس بظاهر (¬3) . ثم من أعظم ما يدل على جواز الفسخ بعدم النفقة؛ أن الله سبحانه قد شرع الحكمين بين الزوجين عند الشقاق، وجعل إليهما الحكم بينهما، ومن أعظم الشقاق؛ أن يكون الخصام بينهما في النفقة، وإذا لم يمكنهما دفع الضرر عنها إلا بالتفريق؛ كان ذلك إليهما، وإذا جاز ذلك منهما؛ فجوازه من القاضي أولى. ¬

_ (¬1) • في " سننه الكبرى " (7 / 470) ؛ من طريق إسحاق بن منصور: نا حماد بن سلمة، عن عاصم ابن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بمثله اه. قلت: يعني مثل حديث ساقه قبله عن سعيد بن المسيب؛ في الرجل ... الخ - المتن المذكور في الكتاب -، لكن تعقبه التركماني في " الجوهر النقي " بما حاصله أن المراد ب " مثله "؛ حديث آخر غير الحديث الموقوف على ابن المسيب، قال: " ولا يعرف هذا مرفوعا في شيء من كتب الحديث ". قلت: وهذا تعقب جيد، ولكن البيهقي في منجاة منه؛ لأن الخطأ ليس منه؛ كما ظن ابن التركماني؛ بل من إسحاق بن منصور؛ كما جزم بذلك أبو حاتم: فقد ذكر ابنه في " العلل " (1 / 430) أنه سأل أباه عن هذا الحديث؟ فقال أبوه: " وهم إسحاق في اختصار هذا الحديث؛ وذلك أن الحديث إنما هو عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ابدأ بمن تعول "؛ تقول امرأتك: أنفق علي أو طلقني "؛ فتناول هذا الحديث ". (ن) (¬2) • ومن طريقه أخرجه البيهقي (7 / 469) ؛ وسنده صحيح؛ إلا أنه مرسل إن ثبت رفعه. (ن) (¬3) • قد علمت أن الوهم ليس من البيهقي، ولا من الدارقطني؛ وإنما هو أحد رواته. (ن)

فإن قلت: تجويزك الفسخ للنفقة بتلك الأدلة العامة (¬1) يستلزم جوازه للعيوب؛ إذا كان يحصل التضرر بها على أحد الزوجين. قلت: النفقة وتوابعها واجبة للزوجة على زوجها (¬2) ، وليس ما يفوت ¬

_ (¬1) • قلت: ولكنها لا تشمل موضع الخلاف؛ لأنها أوامر من الله - تعالى -، وقد علمنا من لطفه - تعالى - بعباده؛ أنه لا يأمر ولا يكلف من لا يستطيع، فهي موجهة إلى المستطيع القادر، فكيف يستدل بها على العاجز المعسر؟ {ولذلك لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم معاوية بن حيدة: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ... " الحديث؛ أخرجه أبو داود (1 / 334) ، وابن ماجه (1 / 568) ، وأحمد (5 / 3) بسند صحيح، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه "؛ كما في " الترغيب " (3 / 73) . فمفهوم قوله عليه السلام " إذا طعمت ... ، إذا اكتسيت ... ": أنه إن لم يجد ما يطعم ويكتسي؛ فلا حق لها عليه، فبم يفسخ إذن بينهما؟} ولذلك؛ فإني أرى خلاف ما ذهب إليه الشارح تبعا للشوكاني (6 / 257 - 277) ، وهو ما رواه غير واحد عن الحسن؛ في الرجل يعجز عن نفقة امرأته؟ قال: تواسيه، وتتقي الله - عز وجل -، وتصبر، وينفق عليها ما استطاع. وهو مذهب ابن حزم في " المحلى " (10 / 109) ؛ ويؤيده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما هن عوان عندكم ... "؛ قال الشوكاني: " أي: حكمهن حكم الأسرى؛ لأن العاني: الأسير، والأسير لا يملك لنفسه خلاصا من دون رضا الذي هو في أسره؛ فهكذا النساء. ويؤيد هذا حديث: " الطلاق لمن أمسك بالساق "؛ فليس للزوجة تخليص نفسها من تحت زوجها؛ إلا إذا دل الدليل على ذلك ". قلت: وقد علمت مما تقدم أن دليل الفسخ بالإعسار غير قوي؛ فلا يصلح لاستثناء هذه المسألة من الحديث؛ فتأمل { وخلاصة القول؛ أنني لا أرى التفريق {بين المرء وزوجه} لإعساره؛ بل على الحاكم أن يأمر - بالإنفاق عليها - ولي أمرها بعد زوجها، فإن لم يكن لها؛ فالسلطان أو من يقوم مقام وليها، فهو ينفق عليها من بيت مال المسلمين، حتى يوسر زوجها، والله - عز وجل - يقول: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} . (ن) (¬2) • قلت: هذا إنما يقال عند الاستطاعة، وليس البحث فيه؛ فتأمل} (ن)

الثانية التطليق لغيبة الزوج

بسبب تلك العيوب بواجب لها عليه، ثم التضرر بترك النفقة وتوابعها لا يعادله شيء، وإذا كان العيب في الزوجة؛ كالجنون والجذام، والبرص؛ فقد فات الزوج شيء واجب له؛ لكن قد جعل الله بيده الطلاق. ثم قد ورد في خصوص الفسخ بعدم النفقة ما قدمنا ذكره. ( [الثانية: التطليق لغيبة الزوج] :) وأما التفريق بين المفقود وبين امرأته؛ فأقول: قد تشعبت المذاهب في هذه المسألة إلى شعب ليس عليها أثارة من علم؛ لا سيما التحديدات بمقادير معلومة من الأوقات؛ منها ما هو رجوع إلى مذاهب الطبائعية؛ كقول من قال: إنه يُنتظر المفقود حتى يمضي له من يوم ولادته مئة وعشرون سنة؛ فإن هذا هو عين مذهب جماعة من الطبائعية، قالوا: أكثر ما يعيش الإنسان مئة وعشرون سنة؛ لأن كل طبيعة من الطبائع الأربع؛ إذا لم يعرض لها ما يفسدها تغلب على الإنسان ثلاثين سنة، فتحصل من مجموع الأربع الطبائع مئة وعشرون سنة، وهذا مذهب كفري، وكلام بمعزل عن الشريعة (¬1) . قال الماتن في " حاشية الشفاء ": " وقد رأينا في عمرنا من عاش مئة وسبعا وعشرين سنة ونصف سنة، ورأيناه وهو في هذا السن في كمال من حواسه وجوارحه، بحيث إنه لم يفقد ¬

_ (¬1) لا نرى في هذا شيئا من الكفر؛ فإذا صح أن أحدا قال بهذا؛ فإنما يرجع فيه إلى سنة الله في خلقه، ويريد به أن الغالب على الإنسان أن يعيش هذه المدة، إذا خلا من الآفات والأمراض وعوادي الزمن، والذي يظهر لنا أن التقدير بمئة وعشرين خطأ؛ لأن متوسط العمر الذي يبلغه كثير الناس؛ بين الستين والسبعين، وما زاد فهو قليل. (ش)

منها شيئا؛ وهو يذهب، ويجيء، ويحضر المساجد، وغاب عنا بعد ذلك، فالله أعلم كم عاش بعد هذه المدة ". انتهى. أقول: وقد رأينا من عاش فوق المئة إلى عشرين سنة أو أكثر من ذلك، وهم كثيرون، وسمعنا بمن عاش فوق المئة إلى أربعين سنة؛ بل أزيد من ذلك وهم قليلون، والقدرة الإلهية صالحة للكل. وبالجملة؛ فمن العلماء من قال: مئة وخمسون، ومنهم من قال: مئتان. ومنهم من قال: أربع مئة، ومنهم من قال زيادة على ذلك، ومنهم من فرق بين من كان له أهل ومال، ومن لم يكن له أهل ومال، والكل محض رأي. وعندي: أن تحريم نكاح المحصنة ورد به النص القرآني، وأجمع عليه جميع المسلمين؛ بل هو معلوم من ضرورة الدين، وامرأة المفقود محصنة؛ فالأصل الأصيل تحريم نكاحها، وإذا لم يكن لها ما تستنفقه، وكان إمساكها حينئذ، وإلزامها على استمرار نكاح الغائب فيه إضرار بها؛ كان ذلك وجها للفسخ. وهكذا إذا طالت مدة الغيبة، وكانت المرأة تتضرر بترك النكاح؛ فالفسخ لذلك جائز، وإذا جاز الفسخ للعنة؛ فجوازه للغيبة الطويلة أولى؛ لأنه قد عُلم من نصوص الكتاب والسنة تحريم الإمساك ضرارا، والنهي للأزواج عن الضرار في غير موضع، فوجب دفع الضرار عن الزوجة بكل ممكن، وإذا لم يكن إلا بالفسخ؛ جاز ذلك؛ بل وجب (¬1) . ¬

_ (¬1) هذا صحيح، وإذا وجب الفسخ عند تضرر الزوجة من ترك النكاح - وهو الحاصل لكل امرأة يغيب زوجها؛ إلا فيما ندر -؛ فما الأجل الذي يضرب لها لانتظاره، ثم يجوز لها طلب الفسخ بعده؟

حكم طلاق المكره

( [حكم طلاق المكره] :) وأما عدم وقوع طلاق المكره؛ فدليله حديث: " لا طلاق في إغلاق "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والحاكم - وصححه - من حديث عائشة، وضعفه أبو حاتم (1) بمحمد بن عبيد الله بن أبي صالح. ورُد عليه بأنه قد أخرجه البيهقي من طريق غيره. والإغلاق عند علماء اللغة: الإكراه؛ كما في " النهاية " وغيرها (2) .

_ هذا هو مجال العلماء وموضع الاجتهاد، ولم يرد في ذلك نص عن الشارع؛ وآراء الصحابة إن هي إلا اجتهاد منهم. والذي نعتقده حقا؛ هو أن مرجع الأمر للحاكم؛ فله أن يقدر الوقت لها، وذلك يختلف باختلاف الأزمان، فإذا كان في عصر الصحابة مقدرا بأربع سنين - كما ذهب إليه أو حكم به عمر بن الخطاب، وهو إنما قاله بما كان له من سلطة الحكم، وعصرهم لم تكن فيه الأخبار سريعة التداول بين البلدان، ومن الصعب وصول خبر من قطر إلى آخر إلا بعد مدة طويلة -؛ فقد يجوز في زماننا هذا أن يقدر الأجل بسنة واحدة، وإن ذهب إليه ذاهب؛ كان مذهبا قريبا إلى الحق ظاهر الصحة، وهو الذي نختاره، والتوفيق من الله سبحانه. (ش) (1) • في " العلل " (1 / 432) : " محمد بن عبيد بن أبي صالح "؛ بحذف لفظة الجلالة، وكذلك هو عند أبي داود (1 / 342) ، وابن ماجه (1 / 630) ، و " المستدرك " (2 / 198) ، والبيهقي (7 / 357) ، وكذلك هو في كتب الرجال. ثم الحديث لم يضعفه أبو حاتم بهذا - وإن كان هو ضعيفا -؛ وإنما ضعفه بأن في طريقه ابن إسحاق، وفي أخرى أبا صفوان، قال: " هما جميعا ضعيفان ". قلت: ومدارهما على ابن أبي صالح، لكن يقويه الطريق التي أشار إليها البيهقي، وفيه قزعة بن سويد؛ وهو ضعيف أيضا. (ن) (2) • وفسره بعضهم بالغضب، وقال ابن القيم في " تهذيب السنن " (3 / 117) : " قال شيخنا: والإغلاق انسداد باب العلم والقصد عليه، فيدخل فيه طلاق المعتوه، والمجنون، والسكران، والمكره، والغضبان الذي لا يعقل ما يقول؛ لأن كلا من هؤلاء قد أغلق عليه باب العلم، والقصد، والطلاق إنما يقع من قاصد عالم به ". (ن)

الفصل الثاني بما يقع الطلاق

وأما عدم صحة الطلاق قبل أن ينكحها؛ فالأحاديث الواردة في هذا الباب لا تخلو عن مقال، لكن لها طرق عدة عن جماعة من الصحابة، وهي لا تقصر عن بلوغ رتبة الحسن لغيره (¬1) ؛ فالعمل بها متحتم، ولم يأت من خالفها بشيء؛ إلا مجرد رأي محض. ثم إن السيد لا يطلق عن عبده؛ بل الطلاق إلى العبد، وذلك هو الأصل في الشريعة المطهرة، فمن زعم أنه يصح طلاق غير زوج؛ فعليه الدليل. ( [الفصل الثاني: بما يقع الطلاق] ) ( [حكم الطلاق بلفظ من ألفاظ الكناية] :) (ويقع بالكناية مع النية) ؛ لحديث عائشة عند البخاري، وغيره: أن ابنة الجون لما أُدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك! فقال لها: " لقد عذت بعظيم؛ الحقي بأهلك ". وفي " الصحيحين "، وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك لما قيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: " بل اعتزلها؛ فلا تقربنها "، فقال لامرأته: الحقي بأهلك. ¬

_ (¬1) • قلت: بل الحديث صحيح لا شك فيه؛ لأن بعض طرقه على الانفراد حسن؛ مثل رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ورواية عروة، عن المسور بن مخرمة؛ عند ابن ماجه (1 / 631) ؛ وانظر " نصب الراية " (3 / 230 - 233) . (ن)

حكم الطلاق بالتخيير

فأفاد الحديثان أن هذه اللفظة تكون طلاقا مع القصد، ولا تكون طلاقا مع عدمه. ( [حكم الطلاق بالتخيير] :) (و) يقع الطلاق (بالتخيير إذا اختارت الفرقة) ؛ لقوله - تعالى -: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا} الآية، {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة} الآية. وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا نساءه لما نزلت الآية، فخيرهن. وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما، عن عائشة قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعدها شيئا. وفي المسألة خلاف، وهذا هو الحق، وبه قال الجمهور. ( [حكم الطلاق بالتوكيل] :) (وإذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه) ؛ لأنه توكيل بالإيقاع، وقد تقرر جواز التوكيل من غير فرق بين الطلاق وغيره، فلا يخرج من ذلك إلا ما خصه دليل، وقد سئل أبو هريرة، وابن عباس، وعمرو بن العاص عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه؟ فأجازوا طلاقه؛ كما أخرجه أبو بكر البرقاني في " كتابه " المخرج على " الصحيحين ". ( [حكم الطلاق بلفظ التحريم] :)

(ولا يقع بالتحريم) ؛ لما في " الصحيحين "، عن ابن عباس، قال: إذا حرم الرجل امرأته؛ فهي يمين يكفرها، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} . وأخرج عنه النسائي: أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما؟ فقال: كذبت؛ ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} ، عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة. وأخرج النسائي أيضا بإسناد صحيح، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة، حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية. وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكر. وفي هذه المسألة مذاهب؛ قد ذكر الحافظ ابن القيم منها ثلاثة عشر مذهبا، وقال: إنها تزيد على عشرين مذهبا، والذي أرجحه منها: هو أن التحريم ليس من صرائح الطلاق، ولا من كناياته، بل هو يمين من الأيمان كما سماه الله عز وجل في كتابه، فقال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} ، فهذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين؛ والسبب وإن كان خاصا - وهو العسل الذي حرمه على نفسه، أو الأمة التي كان يطؤها -؛ فلا اعتبار بخصوص السبب؛ فإن لفظ {ما أحل الله لك} عام، وعلى فرض عدم العموم؛ فلا فرق بين الأعيان التي هي حلال.

الرجعة حق للزوج مدة العدة من طلاق رجعي

وأخرج الترمذي، عن عائشة، قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه؛ فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين كفارة؛ أي: جعل الشيء الذي حرمه حلالا بعد تحريمه. وفي " صحيح مسلم "، عن ابن عباس، قال: إذا حرم الرجل امرأته؛ فهي يمين يكفرها، ثم قال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} . وفي الباب عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ما ذكرناه. وبالجملة: الحق ما ذكرناه، وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة، ومن بعدهم، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهذا إذا أراد تحريم العين، وأما إذا أراد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ؛ بل قصد التسريح؛ فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات. ( [الرجعة حق للزوج مدة العدة من طلاق رجعي] :) (والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقه؛ يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيا) ؛ لحديث ابن عباس عند أبي داود، والنسائي، في قوله - تعالى -: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} الآية، قال: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك: {الطلاق مرتان} . وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال (¬1) . ¬

_ (¬1) • وفي " التقريب ": " صدوق يهم "؛ وهو حسن أو صحيح بما بعده. (ن)

حكم الطلاق البائن

وأخرج الترمذي، عن عائشة، قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا راجعها وهي في العدة، وإن طلقها مئة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا، وقالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة؛ فأخبرتها، فسكتت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ، قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا؛ من كان طلق، ومن لم يكن طلق. وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني، عن عمران بن حصين: أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته؛ يقع بها؛ ولم يشهد على طلاقها، ولا على رجعتها؟ فقال: طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد (¬1) . ( [حكم الطلاق البائن] :) (ولا تحل له بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره) ؛ لقول الله - تعالى -: {حتى تنكح زوجا غيره} ، ولما في " الصحيحين "، وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: " لا؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ". وهو مجمع على ذلك. ¬

_ (¬1) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم؛ انظر " سنن أبي داود " (1 / 341) ، وابن ماجه (1 / 624) . (ن)

باب الخلع

(2 - باب الخلع) ( [بيان مشروعية الخلع] :) وفيه شناعة ما؛ لأن الذي أعطاه من المال قد وقع في مقابلة المسيس؛ وهو قوله - تعالى -: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) . واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في اللعان؛ حيث قال: " إن صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها " (¬1) ، ومع ذلك فربما تقع الحاجة إلى ذلك؛ فذلك قوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} . قلت: دلت الآية الأولى على النهي عن الخلع، والثانية على جوازه، فتكلم الفقهاء في ترتيبهما. قال البغوي وغيره: " إذا آذاها بمنع بعض حقوقها حتى ضجرت، فاختلعت نفسها؛ فهذا الفعل منه حرام، ولكن الخلع نافذ؛ لأن الله - تعالى - قال في صورة النهي: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} ، ¬

_ (¬1) • قلت: ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: " حسابكما على الله، أحدكما كاذب؛ لا سبيل لك عليها "، قال: يا رسول الله! مالي؟ قال: " لا مال لك، إن كنت صدقت عليها؛ فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها؛ فذلك أبعد لك منها ": رواه البيهقي (7 / 401) ، وعزاه للبخاري. (ن) قلت: وهو في " صحيح البخاري " (5312) .

والعضل: التضييق والمنع، وقال: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج} ، وهذا إشارة إلى طموح بصره إلى غيرها؛ من غير أن يرى منها التقصير. والخلع المباح بلا كراهية أن تكره المرأة صحبة الزوج، ولا يمكنها القيام بأداء حقوقه، فتخرج فتختلع نفسها؛ لقوله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ، إلى أن قال: {فلا جناح عليهما} ، ولتقريره صلى الله عليه وسلم حبيبة بنت سهل على الخلع حين ذكرت الشقاق. ولو اختلعت نفسها بلا سبب؛ فجائز مع الكراهة (¬1) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفتشوا عن سبب الاختلاع من جانبها، وقد ثبت (¬2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبغض الحلال إلى الله - تعالى - الطلاق ". أقول: في قولهم: " هذا الفعل منه حرام، ولكن الخلع نافذ " نظر؛ لأن قوله - تعالى -: {لا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} ، وقوله: {ولا يحل لكم} نصان في تحريم أخذ البدل، وهو يقتضي بطلان العقد؛ كما في كثير من مسائل البيوع، فإما أن يكون العقد باطلا من أصله، أو يمضى ¬

_ (¬1) • قلت: فيه نظر؛ فقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة، ولا يظهر فرق جوهري بين الطلاق والخلع؛ لا سيما على القول بأن الخلع طلاق، فظاهر أن حكمهما واحد هنا، فيحرم عليها أن تختلع بلا سبب. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " المختلعات هن المنافقات "؛ وهو إن كان في سنده كلام؛ فلا بأس به للاستشهاد. (ن) قلت: وقد صححه شيخنا - أخيرا - في " الصحيحة " (632) . (¬2) • قلت: كلا لم يثبت؛ بل هو معلول عند المحققين؛ راجع " فيض القدير " للمناوي، وانظر التعليق المتقدم (268) . (ن)

الخلع يجعل أمر المرأة بيدها

الطلاق ويرد عليها ما لها؛ كما قال مالك. والله - تعالى - أعلم (¬1) . واتفق أهل العلم على أنه إن طلقها على مال فقبلت؛ فهو طلاق بائن. واختلفوا في الخلع، فقال أبو حنيفة: تطليقة بائنة؛ وهو أصح قولي الشافعي، وله قول أنه فسخ وليس بطلاق، ولا ينقص به العدد؛ كذا في " المسوى ". ( [الخلع يجعل أمر المرأة بيدها] :) (وإذا خالع الرجل امرأته كان أمرها بيدها) بعد الخلع، (لا ترجع إليه بمجرد الرجعة) . ( [مقدار العوض في الخلع] :) (ويجوز بالقليل والكثير ما لم يجاوز ما صار إليها منه) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين؛ ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة، وطلقها ". ¬

_ (¬1) وفي " النيل " (6 / 12) : " وقد اشترط في الخلع نشوز الزوجة: الهادوية، وقال داود والجمهور: ليس بشرط؛ وهو الظاهر؛ لأن المرأة اشترت الطلاق بمالها، فلذلك لم تحل فيه الرجعة على القول بأنه طلاق، قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن الأمر المشترط فيه أن لا يقيما حدود الله؛ هو طيب المال للزوج لا الخلع، وهو الظاهر من السياق في قوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} "؛ فالله أعلم. (ن)

وفي رواية لابن ماجه، والنسائي، بإسناد رجاله ثقات: أنها قالت: لا أطيقه بغضا؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: نعم؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الحديقة ولا يزداد. وفي رواية للدارقطني بإسناد صحيح: أن أبا الزبير قال: إنه كان أصدقها حديقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ "، قالت: نعم؛ وزيادة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الزيادة فلا؛ ولكن حديقته "؛ قالت: نعم. فهذه الفرقة؛ إنما كانت بسبب ما افتدت به المرأة، فلو لم يكن أمرها إليها؛ كانت الفدية ضائعة. وقد أفاد ما ذكرناه أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما صار إليها منه؛ وقد ذهب إلى هذا علي، وطاوس، وعطاء، والزهري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يأخذ منها زيادة على ما أخذت منه؛ استدلالا بقوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ؛ فإنه عام للقليل والكثير. ويجاب بأن الروايات المتضمنة للنهي عن الزيادة مخصصة لذلك؛ كحديث: " أما الزيادة فلا "؛ صححه الدارقطني، فصلح لتخصيص ذلك العموم كما هو الحق عند الماتن - رحمه الله - من جواز تخصيص عموم القرآن بالآحاد. ومذاهب الصحابة فمن بعدهم في هذا مختلفة مبسوطة في المطولات.

الخلع بتراضي الزوجين أو إلزام الحاكم

وأما ما أخرجه البيهقي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: " أتردين حديقته؟ "، قالت: وأزيد عليها؛ فردت عليه حديقته وزادته؛ ففي إسناده ضعف؛ مع أنه لا حجة فيه؛ لأنه لم يقررها على تسليم الزيادة. وأيضا قوله - تعالى -: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} : يدل على منع الأخذ مما آتوهن إلا مع ذلك الأمر، فلا بأس بأن يأخذوا مما آتوهن لا كله؛ فضلا عن زيادة عليه. ( [الخلع بتراضي الزوجين أو إلزام الحاكم] :) (ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع، أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما) ؛ لقوله - تعالى -: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} . وأما اعتبار إلزام الحاكم؛ فلارتفاع ثابت وامرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلزامه بأن يقبل الحديقة ويطلق، ولقوله - تعالى -: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} ، وهذه الآية - كما تدل على بعث حكمين -؛ تدل على اعتبار الشقاق في الخلع. ويدل على ذلك أيضا قوله - تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ، ويدل عليه قصة امرأة ثابت المذكورة، وقولها: أكره الكفر بعد الإسلام؛ وقولها: لا أطيقه بغضا. فلهذا اعتبرنا الشقاق في الخلع.

هل الخلع فسخ أم طلاق

( [هل الخلع فسخ أم طلاق] :) (وهو فسخ) ؛ وليس بطلاق؛ ولكن قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء " بخلاف ما قال ههنا، ورجح أن الخلع طلاق وليس بفسخ، وقال: " هذا هو الحق؛ لأن الله سبحانه ذكر أحكام الخلع بعد قوله: {الطلاق مرتان} ، والضمائر من آيات الاختلاع راجعة إلى ذلك؛ كقوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} ، وقوله: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} (¬1) ، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاقا؛ كما في " صحيح البخاري " وغيره؛ فإنه قال لثابت بن قيس: " اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة (¬2) ". ولا يعارضه ما روي في " سنن النسائي ": أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة، وكذلك في " سنن أبي داود ": لأنه لا ملازمة بين الاعتداد بحيضة وبين الفسخ؛ بل إذا ورد في بعض المطلقات ما يدل على مخالفة عدتها لعدة سائر المطلقات المصرح بها في القرآن؛ كان ذلك مخصصا لعموم العدة، وقد أطال ابن القيم الكلام على ذلك، ورجح أن الخلع فسخ، ولم يأت ببرهان يشفي سوى ما ذكرنا من أمره - صلى الله عليه وسلم - لها أن تعتد بحيضة، وهو في غير محل النزاع كما عرفت ". انتهى. ¬

_ (¬1) • قلت: يرد عليه ما سيأتي - بعد -. والحق أنه فسخ؛ كما بينه شيخ الإسلام، واحتج له في " الفتاوى " (3 / 31، 35، 38) . (ن) (¬2) • قد أثبت الشوكاني في " النيل " (6 / 212) أن هذه اللفظة شاذة، والصواب: " وخل سبيلها "؛ كما روته صاحبة القصة نفسها وغيرها. (ن)

ثم رجح في فتاواه المسماة ب " الفتح الرباني " كون الخلع فسخا وقال: " الظاهر أنه فسخ لا طلاق ". وهو قول جماعة من العلماء منهم ابن عباس؛ رواه عنه ابن عبد البر في " التمهيد "، وكذلك رواه عن أحمد، وإسحاق، وداود، وهو قول الصادق والباقر، وأحد قولي الشافعي، ومن قال بذلك لم يشترط فيه أن يكون للسنة، وأجازه في الحيض وأوقعه، وإن كان لا يرى وقوع الطلاق البدعي. واحتجوا لذلك بقول الله - تعالى -: {الطلاق مرتان} ، ثم ذكر الافتداء، ثم عقبه بقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} ، فلو كان الافتداء طلاقا؛ لكان الطلاق الذي لا تحل له إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وبحديث الربيع: أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمرت - أن تعتد بحيضة؛ أخرجه الترمذي (¬1) ، وبحديث ابن عباس الآتي في قصة امرأة ثابت بن قيس. قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: بحثت عن رجال الحديثين معا؛ فوجدتهم ثقات. ولحديث رواه مالك، عن حبيبة بنت سهل الأنصاري: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! كل ما أعطاني عندي، ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 216) ، وكذا " البيهقي " (7 / 450) ؛ من طريق سليمان بن يسار عنها؛ وإسناده صحيح على شرط مسلم. وضعفه البيهقي بدون حجة. وله طريق أخرى عند النسائي صحيحة أيضا؛ راجعها في " النيل " (6 / 210) . (ن)

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لثابت: " خذ منها "؛ فأخذ وجلست في أهلها. قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في هذا الحديث، وهو حديث مسند صحيح، ووجه دلالته أنه لم يذكر فيه طلاقا، ولا زاد على الفرقة، ويدل على ذلك من النظر: أنه لا يصح أن يجعله طلاقا بائنا ولا رجعيا: أما الأول؛ فلأنه خلاف الظاهر؛ لأنها تطليقة واحدة. وأما الثاني؛ فلأنه إهدار لمال المرأة الذي دفعته لحصول الفرقة. ولا يرد على هذا - أعني: الاكتفاء في العدة بحيضة - قول الله - تعالى -: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ؛ لأن الخلع عندهم فسخ لا طلاق، فلا يندرج تحت عمومه (¬1) ؛ فالآية في الطلاق الرجعي بدليل آخرها، وهو قوله - تعالى -: {وبعولتهن أحق بردهن} (1) ، فالآية عامة وأدلتنا خاصة. وذهب الجمهور إلى أنه طلاق؛ مستدلين بحديث ابن عباس عند البخاري، وأبي داود بلفظ: " طلقها تطليقة ". قلنا: ثبت من حديث المرأة نفسها عند " الموطإ "، وأبي داود، والنسائي بلفظ: " وخل سبيلها "، وعند أبي داود، من حديث عائشة بلفظ: [" وفارقها "] ؛ (¬2) وصاحب القصة أخص بها. قال ابن القيم رحمه الله: " لا يصح عن صحابي أنه طلاق البتة ". ¬

_ (¬1) كان في الأصل في كلمة (سلمنا) ؛ ولعلها مقحمة؛ فاقتضى التنبيه! (¬2) • زيادة لا بد منها. (ن)

وقال الخطابي في " معالم السنن ": " إنه احتج ابن عباس على أنه ليس بطلاق بقوله - تعالى -: {الطلاق مرتان} ". انتهى. ومخالفة الراوي لما روى دليل على علمه بناسخ لوجوب حمله على السلامة. قال الترمذي: " قال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إن عدة المختلعة عدة الطلاق ". قلت: قد عرفت أن ابن القيم قال: " إنه لم يصح عن صحابي "، وعرفت الأدلة الدالة على أن العدة بحيضة، ولا حجة في أحد غير الشارع. قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: " وقد استدل الزيدية في أنه طلاق بثلاثة أحاديث "، وأجاب عنها بوجوه؛ حاصلها: أنها مقطوعة الأسانيد، وأنها معارضة بما هو أرجح، وأن أهل الصحاح لم يذكروها. واختلف العلماء أيضا في شروط الخلع، فالزيدية جعلوا منها النشوز، وهو قول داود الظاهري، والجمهور على أنه ليس بشرط، وهو الحق؛ لأن المرأة اشترت الطلاق بمالها، ولذلك لم تحل فيه الرجعة على القول بأنه طلاق. قال العلامة ابن الوزير: " ثم تأملت؛ فإذا الأمر المشترط فيه خوف أن لا يقيما حدود الله هو طيب المال للزوج لا الخلع؛ لقوله - تعالى -: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، ولم يقل: في الخلع، يوضحه أنه لو ضارها حرم عليه؛ لقوله - تعالى -: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} ". انتهى. ثم قال في " السيل الجرار " بعد ذكر أدلة الفريقين الدالة على أن الخلع

عدة المختلعة

طلاق أو فسخ ما نصه: " فهذه الأحاديث تدل على أنه فسخ لا طلاق ... "، قال: " والذي ينبغي الجمع به هو أن عدة الخلع حيضة لا غير، وليس الغير - سواء كان بلفظ الطلاق أو بغيره - مما يشعر بتخلية السبيل؛ أو بتركها وشأنها من دون أن يجري منه لفظ قط. قد يكون الوارد في هذا الطلاق الكائن في الخلع مخصصا لما ورد في عدة المطلقة، فتكون عدة الطلاق ثلاثة قروء؛ إلا إذا كان الطلاق مع الافتداء؛ فإنه حيضة واحدة، ولا تحسب عليه طلقة إلا إذا جاء بلفظ الطلاق (¬1) ، أو بما يدل عليه؛ لا إذا لم يقع منه لفظ البتة بل تركها وشأنها؛ فإن هذا لا يحسب عليه طلاقا. وبهذا التقرير تجتمع الأدلة، ويرتفع الإشكال على كل تقدير. وأما كونه يمنع الرجعة؛ فلما قدمنا أن الطلاق لا يتبع الطلاق ". انتهى. ( [عدة المختلعة] :) (وعدته حيضة) ؛ لحديث الربيع بنت معوذ عند النسائي في قصة امرأة ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " خذ الذي لها ¬

_ (¬1) • قلت: وفي هذا نظر؛ لأن مقصود الافتداء لا يحصل مع الطلاق، وهو رجعي بنص كتاب الله - تعالى -، فإن كان يريد طلاقا بائنا؛ فليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلا. وبيان ذلك فيما سبقت الإشارة إليه من " الفتاوى ". (ن)

عليك؛ وخل سبيلها "، قال: نعم، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة واحدة، وتلحق بأهلها. ورجال إسناده كلهم ثقات. ولها حديث آخر عند الترمذي، والنسائي، وابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث. وأخرج أبو داود، والترمذي - وحسنه -، عن ابن عباس: أن امرأة ثابت ابن قيس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة. وأخرج الدارقطني، والبيهقي - بإسناد صحيح -، عن أبي الزبير، وفيه: فأخذها وخلى سبيلها. قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد. فهذه الأحاديث - كما تدل على أن العدة في الخلع حيضة - تدل على أنه فسخ؛ لأن عدة الطلاق ثلاث حيض، وأيضا تخلية السبيل هي الفسخ لا الطلاق. وأما ما وقع في بعض روايات الحديث: أنه طلقها تطليقة؛ فقد أجيب عن ذلك بجوابات طويلة؛ قد أودعها الماتن في " شرح المنتقى "، فليرجع إليه. قال ابن القيم: " واختلف الناس في عدة المختلعة؛ فذهب إسحاق، وأحمد - في أصح الروايتين عنه دليلاً -؛ أنها تعتد بحيضة واحدة، وهو مذهب عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس، وقد حكى إجماع الصحابة، ولا يعلم لهما مخالف، وقد

دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة دلالة صريحة، وعذر من خالفها أنها لم تبلغه، أو لم تصح عنده، أو ظن الإجماع على خلاف موجبها. فهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر. وأما رجحانه أثرا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض؛ بل قد روى أهل " السنن " عنه من حديث الربيع بنت معوذ، وحديث امرأة ثابت بن قيس المتقدمة. وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضا، فيكفي في ذلك فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو جعفر النحاس في كتاب " الناسخ والمنسوخ ": هو إجماع من الصحابة (¬1) ". انتهى حاصله. ¬

_ (¬1) • قلت: أما هذا الإجماع فغير صحيح؛ فقد روى البيهقي (7 / 450) عن ابن عمر، أنه قال: عدة المختلعة عدة المطلقة، ثم ذكر أنه قول سعيد بن المسيب، وجماعة سماهم. لكن ثبت عن ابن عمر أنه رجع عن قوله هذا إلى عدها تطليقة واحدة؛ وفق حديث امرأة ثابت، كما حققته في " صحيح أبي داود " (1931 - 1932) . وأما رواية الدارقطني (3 / 255) بلفظ: " حيضة ونصف "؛ فزيادة: " ونصف " شاذة بل منكرة؛ لأن مدار الحديث على هشام بن يوسف بسنده، عن ابن عباس، وقد رواه عنه جمع دون هذه الزيادة، وقد سماهم البيهقي (7 / 450) ؛ وقد تابعه عبد الرزاق دون هذه الزيادة، ولكنه أرسله، وكذلك جاء الحديث دونها من طرق أخرى. فقول القرطبي في " تفسيره " (3 / 145) : " إن الحديث مضطرب من جهة الإسناد والمتن " مدفوع؛ لأنه غير قائم على القواعد الحديثية، مع خلو الطرق المشار إليها من الاضطراب الذي ادعاه في الطريق الأولى. (ن)

باب الإيلاء

(3 - باب الإيلاء (¬1)) ( [تعريفه] :) (هو أن يحلف الزوج من جميع نسائه أو بعضهن؛ لا أقربهن) ، وهو ظاهر. ( [مدته] :) (فإن وقت بدون أربعة اشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقت به) ؛ لما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا، ثم دخل بهن بعد ذلك. ( [حكمه] :) (وإن وقت بأكثر منها خير بعد مضيها بين أن يفيء أو يطلق) ؛ لقوله - تعالى -: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} الآية (¬2) . وقد أخرج البخاري عن ابن عمر، قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق. ¬

_ (¬1) • هو - لغة -: الامتناع باليمين، وخص في عرف الشرع؛ بالامتناع باليمين من وطء الزوجة، ولهذا عدي فعله بأداة " من "؛ تضمينا له، والمعنى: يمتنعون من نسائهم؛ كذا في " الزاد ". (ن) (¬2) • وتمامها: {فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} . (ن)

قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الدارقطني، عن سليمان بن يسار، قال: أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقفون المولي. وأخرج أيضا، عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يولي؟ قالوا: ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر، فيوقف؛ فإن فاء وإلا طلق. قال في " المسوى ": " اختلفوا فيما إذا انقضت أربعة أشهر وهو لم يفئ؛ قال الشافعي: لا يقع الطلاق بمضيها؛ بل يوقف؛ فإما أن يفيء ويكفر عن يمينه، أو يطلق، فإن طلق فبها؛ وإلا طلق عليه السلطان، وقال أبو حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر وقعت عليها طلقة بائنة، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن: يقع عليها طلقة رجعية ". انتهى (¬1) . قال الماتن: وقد اختلف في مقدار مدة الإيلاء؛ فذهب الجمهور إلى أنها ¬

_ (¬1) • ورجح ابن القيم في " الزاد " قول الشافعي من وجوه عشرة ذكرها، وقال: " إنه قول الجمهور "؛ فراجعه (4 / 129 - 131) . وسبب الخلاف؛ أن العدة المضروبة في الآية هي عند أبي حنيفة أجل؛ لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة، فحينئذ يقال: إما أن تفيء، وإما أن تطلق، وإن لم يفئ؛ أخذ بإيقاع الطلاق؛ إما بالحاكم، وإما بحبسه حتى يطلق. وقد ذكر ابن القيم أدلة القولين، ورجح ما سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر. (ن)

أربعة أشهر فصاعدا، قالوا: فإن حلف على أنقص لم يكن موليا؛ واحتجوا بالآية، وهي لا تدل على مطلوبهم؛ لأنها لبيان المدة التي تضرب للمولي ليفيء بعدها أو يطلق، وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإيلاء شهرا، ودخل على نسائه بعده، فلو كان الإيلاء أربعة أشهر: فصاعدا - ولا يصح أقل منها - لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك. وقد ذهب إلى جواز الإيلاء دون أربعة أشهر جماعة من أهل العلم، وهو الحق. وأما لزوم الحد إذا نكلت (¬1) ؛ فقد أوضح ابن القيم في " الهدي " هذا البحث بما لا مزيد عليه؛ فليراجع؛ فإنه لا يستغنى عنه. قال في " المسوى ": " إيلاء العبد نحو إيلاء الحر، وهو عليه واجب، وإيلاء العبد شهران. قلت: وعليه مالك؛ أن مدة الإيلاء تنتصف برق الرجل. وقال أبو حنيفة: مدة الإيلاء تنتصف برق المرأة. وقال الشافعي: الحر والعبد في مدة الإيلاء سواء ". انتهى. ¬

_ (¬1) • لعله: " إذا نكل "؛ يعني: الولي عن الطلاق. (ن)

باب الظهار

(4 - باب الظهار) ( [تعريف الظهار وبيان كفارته] :) (وهو قول الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ أو ظاهرتك؛ أو نحو ذلك، فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد فليطعم ستين مسكينا، فإن لم يجد فليصم شهرين متتابعين) ، وإنما جعلت كفارة هذه؛ لأن من مقاصد الكفارة أن يكون بين عيني المكلف ما يكبحه عن الاقتحام في الفعل خشية أن يلزمه ذلك، ولا يمكن ذلك إلا بكونها طاعة شاقة تغلب على النفس؛ إما من جهة كونها بذل ما تشح به؛ أو من جهة مقاساة جوع أو عطش مفرطين. والدليل على ما اشتمل عليه هذا الباب - من التكفير على هذا الترتيب -: ما في القرآن الكريم: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} . وقد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة سلمة بن صخر لما ظاهر من امرأته، ثم وطئها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعتق رقبة "،

فقال: لا والذي بعثك بالحق؛ ما أصبحت أملك غيرها - وضرب صفحة رقبته -، قال: " فصم شهرين متتابعين "، قال: قلت: يا رسول الله {وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟} قال: " فتصدق "، قال: والذي بعثك بالحق؛ لقد بتنا ليلتنا ما لنا عشاء؛ قال: " اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم منها - وسقا من تمر - ستين مسكينا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، وابن خزيمة وابن الجارود. وفي لفظ لأبي داود: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كله أنت وأهلك ". وأخرج نحوه أهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث ابن عباس، وصححه أيضا الحاكم. قال ابن حجر: رجاله ثقات؛ لكن أعله أبو حاتم، والنسائي بالإرسال. وقال ابن حزم: رواته ثقات؛ ولا يضره إرسال من أرسله. وللحديثين شواهد. وأخرج نحوه أبو داود، وأحمد، من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة. وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث عائشة. وأخرجه الحاكم أيضا.

وقد قام الإجماع على أن الكفارة تجب بعد العود؛ لقوله - تعالى -: {ثم يعودون لما قالوا} ، واختلف أهل العلم؛ هل العلة في وجوبها؛ العود أو الظهار؟ واختلفوا أيضا هل المحرم الوطء فقط أم هو مع مقدماته؟ فذهب الجمهور إلى الثاني؛ لقوله - تعالى -: {من قبل أن يتماسا} ، وذهب البعض إلى الأول؛ قالوا: لأن المسيس كناية عن الجماع (¬1) . واختلفوا في العود ما هو؟ فقال قتادة، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة، وأصحابه: إنه إرادة المسيس لما حرم بالظهار؛ لأنه إذا أراد فقد عاد من عزم الترك إلى عزم الفعل؛ سواء فعل أم لا. وقال الشافعي: بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الطلاق ولم ¬

_ (¬1) • قلت: وهذا هو الأظهر بالنسبة للأسلوب القرآني؛ فإن (المس) ذكر فيه في غير ما آية، وأريد به الجماع فقط، فكذلك الأمر هنا، لكن هذا لا يمنع من القول بمنع المظاهر من مقدمات الوطء؛ من قبيل سد الذرائع. فإن قيل: هذا ينفي ما ثبت من تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وهو صائم، وحاله حال المظاهر؛ من حيث وجوب الامتناع من الجماع ومقدماته؟ قلت: الجواب من وجهين: الأول: أن الصائم ورد فيه النص في المقدمات؛ ففارق المظاهر، " وإذا جاء نهر الله؛ بطل نهر معقل " { الأمر الثاني: أن لا يستوي الصائم مع المظاهر؛ لاختلاف مدة الامتناع من الاتصال بالنسبة لكل منهما؛ فالصائم يستطيع أن يملك نفسه، ولو باشر المقدمة حتى المساء؛ بخلاف المظاهر؛ فتأمل} ثم بالنسبة للاختلاف الذي قبل هذا؛ فالأرجح أن العلة هي الظهار والعود معا، فإذا لم يعد لطلاق أو غيره؛ فلا كفارة، والله أعلم. (ن)

إعانة الإمام للمظاهر

يطلق؛ إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها، وإمساكها نقيضه. وقال مالك وأحمد: بل هو العزم على الوطء فقط؛ وإن لم يطأ. وقد وقع الخلاف أيضا إذا وطئ المظاهر قبل التكفير، فقيل: تجب عليه كفارتان، وقيل: ثلاث، وقيل: تسقط الكفارة، وذهب الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة؛ وهو الحق كما تفيده الأدلة المذكورة. واعلم أن الرقبة؛ وإن كانت مطلقة في كفارة الظهار؛ فقد ورد ما يدل على اعتبار كونها مؤمنة، وليس ذلك الدال على اعتبار الإيمان هو ما وقع في القرآن في كفارة القتل - لما تقرر في الأصول أن المختلفين سببا لا يصح تقييد أحدهما بالآخر -؛ بل الدال على ذلك هو سؤاله صلى الله عليه وسلم لمن قال: عليه رقبة عن إيمانها، وقوله لها: " أين الله؟ "، و: " من أنا؟ "، ثم قال: " أعتقها فإنها مؤمنة "؛ كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي (¬1) ، ولم يستفصله صلى الله عليه وسلم عن وجوب تلك الرقبة عليه؛ هل هو عن كفارة ظهار، أو قتل، أو يمين، أو غير ذلك؟ وقد تقرر: أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم؛ إذا كان في مقام الاحتمال (¬2) . ( [إعانة الإمام للمظاهر] :) (ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرا لا يقدر على ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) هذا عموم ضعيف جدا؛ لاحتمال أن يكون الراوي اختصر الحديث، وأن يكون معاوية بن الحكم بين سبب وجوب الرقبة، والقرآن دل على وجوب رقبة من غير قيد، فمن زاد شرطا؛ فليأت بدليل صريح في كفارة الظهار. (ش)

المسيس قبل التكفير

الصوم، وله أن يصرف منها لنفسه وعياله، وإذا كان الظهار مؤقتا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت) ؛ لتقريره صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر لما قال له إنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان، وهو في " مسند أحمد "، و " سنن أبي داود "، و " الترمذي " - وحسنه -، والحاكم، وصححه ابن خزيمة، وابن الجارود كما تقدم. وظاهر القرآن: أنه لا يوجب الكفارة إلا العود. فالظهار المؤقت إذا انقضى وقته لم يكن إرادة الوطء عودا، فلا تجب فيه كفارة. وأما إذا كان الموجب للكفارة قول المنكر والزور؛ فهي واجبة في مطلق ومؤقت؛ لأنه قد وقع القول بمجرد إيقاع الظهار. ( [المسيس قبل التكفير] :) (وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت أو قبل التكفير؛ كف حتى يكفر في المطلق أو ينقضي وقت المؤقت) ؛ لحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر الذي وطئ امرأته: " لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله "؛ أخرجه أهل " السنن " (¬1) ، وصححه الترمذي، والحاكم. وظهار العبد نحو ظهار الحر، وصيام العبد في الظهار شهران كالحر بالاتفاق. ¬

_ (¬1) • وسنده حسن عند أبي داود (1 / 348) . (ن)

باب اللعان

(5 - باب اللعان) ( [تعريف اللعان] :) والأصل فيه أنه أيمان مؤكدة تبرئ الزوج من حد القذف، وتثبت اللوث عليها؛ تحبس لأجله ويضيق عليها به، فإن نكل ضرب الحد، وأيمان مؤكدة منها تبرئها، فإن نكلت ضربت الحد. وبالجملة؛ فلا أحسن - فيما ليس فيه بينة، وليس مما يهدر ولا يسمع -؛ من الأيمان المؤكدة. ( [مشروعية اللعان] :) (وإذا رمى الرجل امرأته بالزنا) ؛ حكم اللعان مذكور في الكتاب العزيز؛ قال الله - تعالى -: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} ، واستفاض حديث عويمر العجلاني وهلال بن أمية. (ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث المتلاعنين على ذلك.

التفريق بين المتلاعنين إلى الأبد

ففي " الصحيحين " وغيرهما: أنه وعظ الزوج وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. ثم وعظ المرأة وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة "، فإذا أقرت المرأة؛ كان عليها حد الزاني المحصن إذا لم يكن هناك شبهة، وإذا أقر الرجل بالكذب؛ كان عليه حد القذف. (لاعنها؛ فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ وإذا كانت حاملا أو كانت قد وضعت؛ أدخل نفي الولد في أيمانه) ؛ وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، والسنة المطهرة في ملاعنته - صلى الله عليه وسلم - بين عويمر العجلاني وامرأته، وبين هلال بن أمية وامرأته. ( [التفريق بين المتلاعنين إلى الأبد] :) (ويفرق الحاكم بينهما، وتحرم عليه أبدا) ؛ لحديث سهل بن سعد عند أبي داود (¬1) قال: مضت السنة بعد في المتلاعنين؛ أن يفرق بينهما؛ ثم لا يجتمعان أبدا. وفي حديث ابن عباس (¬2) عند الدارقطني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) • (1 / 351) ؛ وإسناده صحيح؛ رجاله رجال مسلم. (ن) (¬2) هو في " سننه " (3 / 276) ، لكن؛ عن ابن عمر! ونقل في " نصب الراية " (3 / 250) عن ابن عبد الهادي تجويد إسناده. وانظر " التلخيص الحبير " (1779) .

إلحاق الولد بأمه

- قال: " المتلاعنان إذا تفرقا؛ لا يجتمعان أبدا ". وأخرج نحوه عنه أبو داود. وفي " الصحيحين " وغيرهما: أن عويمرا طلق امرأته ثلاث تطليقات قبل أن يأمره - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين (¬1) . ( [إلحاق الولد بأمه] :) (ويلحق الولد بأمه (¬2) فقط، ومن رماها به فهو قاذف) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين. أخرجه أحمد، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وبقية رجاله ثقات. ويؤيد هذا الحديث: الأدلة الدالة على أن الولد للفراش - ولا فراش هنا -، والأدلة الدالة على وجوب حد القذف. والملاعنة داخلة في المحصنات؛ [ما] (¬3) لم يثبت عليها ما يخالف ذلك، وهكذا من قذف ولدها؛ فإنه كقذف أمه؛ يجب الحد على القاذف. ¬

_ (¬1) • قال الزهري - وهو أحد رواة الحديث -: ثم جرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها. (ن) (¬2) • كما هو صريح الحديث في " الصحيحين ". (ن) (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

باب العدة

(6 - باب العدة) ( [الفصل الأول: أنواع العدة] ) وكانت من المشهورات المسلمة في الجاهلية، وكانت مما يكادون يتركونه، وكان فيها مصالح كثيرة؛ فأقرها الشارع. (1 -[عدة الحامل] :) (هي للطلاق من الحامل بالوضع) ؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} . (2 -[عدة الحائض] :) (ومن الحائض بثلاث حيض) ؛ لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، والقروء هي الحيض؛ كما تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعي الصلاة أيام أقرائك ". والقرء - وإن كان في الأصل مشتركا بين الأطهار والحيض -؛ لكنه هنا قد دل الدليل على أن المراد أحد معنيي المشترك، وهو الحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

عدة الصغيرة والتي يئست من المحيض

" تعتد بثلاث حيض " (¬1) ، وقوله: " تجلس أيام أقرائها "، وقوله: " وعدتها حيضتان "، وسيأتي. (3 -[عدة الصغيرة والتي يئست من المحيض] :) (ومن غيرهما) ؛ أي: غير الحامل والحائض - وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها، أو التي انقطع حيضها بعد وجوده -؛ فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لقوله - تعالى -: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} الآية. وقد وقع الخلاف في منقطعة الحيض لعارض؛ فقيل: إنها تتربص حتى يعود؛ فتعتد بالحيض، أو تيأس؛ فتعتد بالأشهر. والحق ما ذكرناه؛ لأنه يصدق عليها عند الانقطاع أنها من اللائي لم يحضن. (4 -[عدة التي مات عنها زوجها] :) (وللوفاة بأربعة أشهر وعشر) ؛ لقوله - تعالى -: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} ؛ هذا من غير الحامل. (وإن كانت حاملا فبالوضع) ؛ لقوله - تعالى -: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} . ¬

_ (¬1) • رواه ابن ماجه (1 / 640) من حديث عائشة؛ بلفظ: قالت: أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض. وفي " الزوائد ": " إسناده صحيح، ورجاله موثقون ". لكن نقل الشوكاني (6 / 246) عن الحافظ، أنه قال: " لكنه معلول ". (ن) قلت: وقد جزم - بتصحيحه - شيخنا في " إرواء الغليل " (2120) .

وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان. ففي " الصحيحين " وغيرهما من حديث أم سلمة: أن امرأة من أسلم - يقال لها: سبيعة - كانت تحت زوجها، فتوفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين؛ فمكثت قريبا من عشر ليال، ثم نفست، ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " انكحي ". وأخرج البخاري عن ابن مسعود؛ في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؛ قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ {لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} . وقد أخرج أحمد، والدارقطني، عن أبي بن كعب، - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله} {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} ؛ للمطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها؟ قال: " هي للمطلقة ثلاثا، وللمتوفى عنها " (¬1) . وأخرجه أبو يعلى، والضياء في " المختارة "، وابن مردويه. وفي إسناده المثنى بن الصباح؛ وثقه ابن معين، وضعفه الجمهور. وقد أخرج ابن ماجه، عن الزبير بن العوام: أنها كانت عنده أم كلثوم بنت عقبة، فقالت له وهي حامل: طيب نفسي بتطليقة! فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة، فرجع وقد وضعت؛ فقال: ما لها قد خدعتني؟ خدعها ¬

_ (¬1) وهو حديث ضعيف؛ وانظر - له - " إرواء الغليل " (2116) .

لا عدة على غير المدخول بها

الله! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سبق الكتاب أجله؛ اخطبها إلى نفسها ". ورجال إسناده رجال الصحيح؛ إلا محمد بن عمر بن هياج، وهو صدوق لا بأس به (¬1) . وقد تمسك بعض الصحابة بالآيتين، فجعل عليها أطول الأجلين، فقال: إذا وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر؛ لم تنقض عدتها حتى تمضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت الأربعة الأشهر وعشر، ولم تضع؛ لم تنقض العدة حتى تضع، وبه قال جماعة من أهل العلم. والحق: أن عدة الحامل بالوضع في الطلاق والوفاة؛ للأدلة التي ذكرناها، وهي نصوص في محل النزاع، ومبينة للمراد. قال ابن القيم: " وقد كان بين السلف نزاع في المتوفى عنها؛ أنها تتربص أبعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل، وأما عدة الوفاة فتجب بالموت؛ سواء دخل بها أو لم يدخل؛ كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس ". انتهى. ( [لا عدة على غير المدخول بها] :) (ولا عدة على غير مدخولة) ؛ لقوله - تعالى - في غير الممسوسات: {فما ¬

_ (¬1) ذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن فيه انقطاعا؛ لأن راويه ميمون بن مهران لم يسمع من الزبير بن العوام (ج 7: ص 86) . (ش) • لكن أخرجه الحاكم (2 / 209) ؛ من طريق أخرى من حديث أم كلثوم هذه؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)

كيف تعتد الأمة

لكم عليهن من عدة تعتدونها} . ( [كيف تعتد الأمة] :) (والأمة) ؛ أي: عدتها (كالحرة) ؛ لأن حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان "؛ أخرجه الترمذي، وأبو داود، والبيهقي، قال فيه أبو داود: " هو حديث مجهول " (¬1) ، وقال الترمذي: " حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث ". انتهى. وأخرج ابن ماجه، والدارقطني، ومالك في " الموطإ "، والشافعي من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان "؛ وفي إسناده عمرو بن شبيب، وعطية العوفي، وهما ضعيفان. وصحح الدارقطني أنه موقوف على ابن عمر. وأخرج الدارقطني من حديث ابن مسعود، وابن عباس: " الطلاق بالرجال والعدة بالنساء "، وقد أعل بالوقف. وأخرج أحمد عن علي نحو ذلك. ¬

_ (¬1) • لأنه عندهم من رواية مظاهر بن أسلم؛ وليس بالمشهور؛ بل ضعفه أبو عاصم - أحد رواته عنه -، وقال ابن معين: " ليس بشيء ". وشذ ابن حبان؛ فذكره في " الثقات "، وكذا الحاكم؛ حيث أخرجه في " المستدرك " (2 / 205) ؛ فقال: " الحديث صحيح "؛ ووافقه الذهبي! (ن)

الإحداد واجب على المعتدة من وفاة

وإذا كان الصحيح الوقف فيما عدا حديث عائشة؛ فلم يكن في الباب ما تقوم به الحجة؛ لأن حديث عائشة ضعيف كما عرفت، فوجب الرجوع إلى أدلة الكتاب والسنة المشتملة على تفصيل العدد، وهي غير مختصة بالحرائر. ( [الإحداد واجب على المعتدة من وفاة] :) (وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين) ؛ لحديث أم سلمة في " الصحيحين ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام؛ إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا ". وفي الباب عن أم حبيبة، وزينب بنت جحش في " الصحيحين "، وغيرهما. وفيهما أيضا من حديث أم سلمة: أن امرأة توفي زوجها، فخشوا على عينها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستأذنوه في الكحل؟ فقال: " لا تكتحل؛ كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها (¬1) - أو شر بيتها (¬2) -، فإذا كان حول فمر كلب؛ رمت ببعرة (¬3) ، فلا؛ حتى تمضي أربعة أشهر وعشر ". وفي " الصحيحين " من حديث أم عطية قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج أربعة أشهر ¬

_ (¬1) الأحلاس: جمع حلس - بكسر الحاء وإسكان اللام -: وهو الثوب الرقيق. (ش) (¬2) هو أضعف موضع فيه؛ كالامكنة المظلمة ونحوها. (ش) (¬3) كذا كانت عادتهن في الجاهلية؛ تمكث المتوفى عنها سنة، ثم ترمي ببعرة إذا مر عليها كلب، وبه تخرج من إحدادها. (ش)

وعشرا، ولا نكتحل، ولا نطيب، ولا نلبس ثوبا مصبوغا؛ إلا ثوب عصب (¬1) ، وقد رخص لنا عند الطهر - إذا اغتسلت إحدانا من محيضها - في نبذة من كست (¬2) أظفار ". وفي الباب أحاديث. وقد روي ما يعارض هذه الأحاديث؛ فأخرج أحمد، وابن حبان - وصححه - من حديث أسماء بنت عميس قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب، قال: " لا تحدي بعد يومك هذا "، وهي كانت امرأته بالاتفاق. وقد أجيب بأنه حديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد وقع الإجماع على خلافه، وقيل: إنه منسوخ، وقد أعله البيهقي (¬3) بالانقطاع. وهذه الأحاديث المؤقتة في الإحداد بأربعة أشهر وعشر هي في غير الحامل، وأما هي فعليها ذلك حتى تنقضي عدتها بالوضع، ثم الإحداد إنما يكون للموت لا لغيره؛ لأنه التظهر بما يدل على الحزن والكآبة لمفارقة الزوج ¬

_ (¬1) بفتح العين وإسكان الصاد المهملتين؛ قال في " اللسان ": " العصب: برود يمنية يعصب عزلها - أي: يجمع ويشد -، ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا؛ لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ ". (ش) (¬2) • هو القسط الهندي، وفي رواية: كسط؛ وهو هو: " نهاية ". والأظفار: جنس من الطين لا واحد له من لفظه. وقيل: هو شيء من العطر أسود، أو قطعة منه شبيهة بالظفر: منه. (ن) (¬3) • في " سننه الكبرى " (7 / 438) ، وأعله أيضا بأن فيه محمد بن طلحة - يعني: ابن مصرف اليامي، قال: " ليس بالقوي ". قلت: وكذا قال النسائي فيه، وفي " التقريب ": " صدوق له أوهام ". ثم الحديث في " المسند " (6 / 369) . (ن)

لزوم المعتدة من وفاة بيت زوجها

بالموت، لا لمطلق المفارقة بالطلاق وغيره؛ لأنه لم يرد فيه شيء، ولا فعلته النساء في أيام النبوة والخلفاء الراشدين، فمن ادعى وجوبه على غير المميتة؛ فنحن نطالبه بالدليل. ( [لزوم المعتدة من وفاة بيت زوجها] :) (والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أو بلوغ خبره) ؛ لحديث فريعة بنت مالك - عند أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم -، قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج (¬1) له، فأدركهم في طريق القدوم (¬2) ، فقتلوه، فأتى نعيه، وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي من دور أهلي، ولم يدع نفقة، ولا مالا ورثته، وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي؛ لكان أرفق بي في بعض شأني؟ قال: " تحولي "؛ فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني - أو أمر بي -، فدعيت فقال: " امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله "، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. وفي بعض ألفاظه (¬3) : أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك، فأخبرته، فأخذ به. وقد أعل هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به (¬4) . ¬

_ (¬1) الأعلاج: العبيد (ش) . (¬2) بفتح القاف وتخفيف الدال: جبل بالحجاز قرب المدينة. (ش) (¬3) • هو عند الحاكم وغيره؛ فانظر " الإرواء " (7 / 206 / 2131) . (ن) قلت: وقد ضعفه شيخنا في الموضع المشار إليه من " الإرواء ". (¬4) • وهي - كما قال الشارح - علة غير قادحة؛ لأنه رواه جماعة عن سعد بن إسحاق بن كعب

وأخرج النسائي، وأبو داود - وعزاه المنذري إلى البخاري -، عن ابن عباس في قوله - تعالى -: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} : نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله - تعالى - لها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا " (¬1) . وقد ذهب إلى العمل بحديث فريعة: جماعة من الصحابة فمن بعدهم، وقد روي جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة. وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة؛ وليست بحجة؛ لا سيما إذا عارضت المرفوع (¬2) . ¬

_ بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب، عن فريعة ... . وأما حماد بن زيد؛ فرواه عنه؛ إلا أنه قلب اسمه فقال: عن إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة؛ رواه البيهقي (7 / 435) . ثم رواه عن حماد مثل رواية الجماعة، ثم قال: " فإن لم يكونا اثنين؛ فهذا أولى بالموافقة لسائر الرواة عن سعد ". والحديث في " المسند " (6 / 370) ، وفي " المستدرك " (2 / 208) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن) (¬1) • وأخرجه الحاكم (2 / 211) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي. (ن) (¬2) • قلت: وبخاصة أن هناك آثارا أخرى عن ابن عمر، وغيره - مخالفة لها، وموافقة للمرفوع -: رواها عبد الرزاق في " المصنف " (7 / 29 - 36) . وهذا المرفوع الآتي عن مجاهد - مع إرساله -؛ فيه عنعنة ابن جريج، ومن المعلوم أن الآثار إذا اختلفت؛ فالأخذ بما وافق منها الحديث المرفوع أولى؛ ولا سيما إذا جرى العمل عليها، فقد قال ابن عبد البر في حديث فريعة: " استعمله أكثر فقهاء الأمصار "؛ ذكره في " الاستيعاب ". وهذا هو الذي استظهره ابن القيم في " التهذيب " (3 / 199 - 200) ، وانتصر له في " زاد المعاد "، وأطال الكلام فيه، فراجعه (4 / 309 - 316) ؛ فإنه نفيس. وانظر الكلام على حديث مجاهد في " الضعيفة " (5597) .

الفصل الثاني استبراء الأمة المسبية والمشتراة

وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق (¬1) ، عن مجاهد مرسلا: أن رجالا استشهدوا بأحد، فقال نساؤهم: يا رسول الله! إنا نستوحش في بيوتنا، أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن؛ فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها. وهذا - مع إرساله - لا تقوم به الحجة. وأما أنها لا تعتد بما مضى من الأيام قبل العلم وبعد الطلاق أو نحوه؛ فلا وجه له؛ لأن مشروعية العدة لم يشترطها الشارع بعلم المعتدة؛ إنما ضرب للعدة مقادير كما في القرآن، فإذا مضت تلك المقادير من يوم الطلاق أو الموت انقضت العدة، ومن زعم أنه لا يحتسب بجميع العدة أو ببعضها قبل العلم فعليه الدليل؛ لأنه يدعي إما فقد شرط؛ أو وجود مانع، وكلاهما خلاف الأصل. ثم الفرق بين بعض المعتدات دون بعض - في اعتبار العلم وعدمه؛ كما وقع في كتب الفروع -؛ لا مستند له إلا خيالات مختلة. ( [الفصل الثاني: استبراء الأمة المسبية والمشتراة] ) ( [كيف تستبرأ الأمة المسبية والمشتراة] :) (ويجب استبراء الأمة المسبية والمشتراة ونحوهما بحيضة إن كانت حائضا، والحامل بوضع الحمل) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود (¬2) ، والحاكم - وصححه - ¬

_ (¬1) • (12077) . (ن) (¬2) • (1 / 336) ؛ ومن طريقه البيهقي (7 / 449) . وفيه شريك القاضي؛ وهو ضعيف من قبل حفظه؛ لكنه قوي بالشواهد. (ن)

من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ". ولما أخرجه مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يلعن الرجل الذي أراد وطء امرأة حامل من السبي لعنة تدخل معه قبره. وأخرج الترمذي من حديث العرباض بن سارية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا، حتى يضعن ما في بطونهن. وأخرج ابن أبي شيبة من حديث علي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع، ولا توطأ حائل حتى تسبثرأ بحيضة. وفي إسناده ضعف وانقطاع. وأخرج أحمد، والطبراني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقعن رجل على امرأة؛ وحملها لغيره "؛ وفي إسناده بقية، والحجاج بن أرطاة؛ وهما مدلسان. وهو يشمل المسبية وغيرها؛ كالمشتراة والموهوبة. وكذلك حديث رويفع بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يسقي ماءه ولد غيره "؛ أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود (¬1) ، وابن أبي شيبة، والدارمي، والطبراني، ¬

_ (¬1) • (1 / 336) ، والبيهقي (7 / 449) ؛ وإسناده حسن. (ن)

والبيهقي، والضياء المقدسي، وابن حبان - وصححه -، والبزار - وحسنه -. وهو - كما يتناول الحامل المشتراة ونحوها -؛ كذلك يتناول من يجوز حملها من الغير كائنا من كان؛ لأن العلة كونه يسقي بمائه ولد غيره. وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم، وقال: " لا تسق ماءك زرع غيرك ". وأصله في " النسائي ". وأخرج البخاري عن ابن عمر: إذا وهبت الوليدة التي توطأ أو بيعت أو أعتقت؛ فلتستبرأ بحيضة، ولا تستبرأ العذراء. ويدل على استبراء المشتراة التي هي حامل - أو مجوز حملها - الأدلة الواردة في المسبية؛ لأن العلة واحدة، وأما العذراء والصغيرة فليستا ممن تصدق عليه تلك العلة، وإن كان حمل العذراء البالغة ممكنا مع بقاء البكارة، ولكنه في غاية الندرة؛ فلا اعتبار به. وأما ما أخرجه البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن ليقبض الخمس، فاصطفى علي منه سبية، فأصبح وقد اغتسل، ثم بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم ينكره؛ بل قال في بعض الروايات: " لنصيب علي أفضل من وصيفة "؛ فيحمل على أنها كانت صغيرة أو بكرا؛ جمعا بين الأدلة، أو أنه قد كان مضى لها من وقت الصبا ما تبين به أنها غير حامل. (ومنقطعة الحيض) تستبرأ (حتى يتبين عدم حملها) ؛ لأنه لا يمكن العلم

بعدم الحمل إلا بذلك؛ إذ لا حيض؛ بل المفروض أنه منقطع لعارض؛ أو أنها ضهيأ (¬1) . وأما من قد بلغت سن الإياس من الحيض؛ فقد صار حملها مأيوسا كحيضها، ولا اعتبار بالنادر. (ولا تستبرأ بكر ولا صغيرة مطلقا، ولا يلزم) الاستبراء (على البائع ونحوه) ؛ لعدم الدليل على ذلك؛ لا بنص ولا بقياس صحيح؛ بل هو محض رأي. ¬

_ (¬1) في " القاموس ": " والضهيأ - كعسجد -: المرأة لا تحيض، والتي لا لبن لها ولا ثدي؛ كالضهيأة ". اه. بتصرف. (ش)

باب النفقة

(7 - باب النفقة) ( [نفقة الزوجة واجبة على زوجها] :) (تجب على الزوج للزوجة) ؛ لا أعرف في ذلك خلافا، وقد أوجبها القرآن الكريم، قال الله - تعالى -: {وارزقوهم فيها واكسوهم} ، وقد قرر دلالة هذه الآية على المطلوب الموزعي في " تفسيره ". ولحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف، وهو في " الصحيحين " وغيرهما. ولقوله صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن حق الزوجة على الزوج -: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت "؛ وهو عند أهل " السنن " وغيرهم. قال في " المسوى ": " تجب نفقة الزوجة على الزوج - موسرا كان أو معسرا -، قال - تعالى - {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} ، وقال - تعالى -: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال - تعالى -: {ذلك أدنى ألا تعولوا} .

الأمور التي تضمنتها فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم لهند

قلت: قال الشافعي: أي: لا يكثر من تعولون (¬1) . وفيه دليل على أن على الرجل نفقة امرأته. وقد أنكر على الشافعي بعض أهل العربية هذا التفسير، فأجاب البغوي بأن الكسائي قال: يقال: عال الرجل يعول: إذا كثر عياله، واللغة الجيدة: أعال. وأجاب الزمخشري بأنه بيان حاصل المعنى، ووجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم؛ كقولهم: مانهم يمونهم: إذا أنفق عليهم، ومن كثر عياله لزمه أن يعولهم، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم ". ( [الأمور التي تضمنتها فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم لهند] :) وقال ابن القيم في حديث هند المتقدم: " تضمنت هذه الفتوى أمورا: أحدها: أن نفقة الزوجة غير مقدرة؛ بل بالمعروف لنفي تقديرها، وإن لم يكن تقديرها معروفا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم. الثاني: أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد؛ كلاهما بالمعروف. ¬

_ (¬1) • قلت: لكن قال الحافظ ابن كثير - بعد أن أشار إلى قول الشافعي المذكور -: " ولكن في هذا التفسير ههنا نظر؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر؛ كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا، والصحيح قول الجمهور: {ذلك أدنى ألا تعولوا} ؛ أي: لا تجوروا ". ثم ذكر الشواهد على ذلك من اللغة والشعر، وهو الذي جزم به ابن جرير في " تفسيره ". (ن)

النفقة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص

الثالث: انفراد الأب بنفقة أولاده. الرابع: أن الزوج والأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه؛ فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف. الخامس: أن المرأة إذا قدرت على أخذ كفايتها من مال زوجها؛ لم يكن لها إلى الفسخ سبيل. السادس: أن ما لم يقدره الله - تعالى - ورسوله من الحقوق الواجبة؛ فالمرجع فيه إلى العرف. السابع: أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرا؛ فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه؛ كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هندا ". انتهى حاصله. ( [النفقة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص] ) أقول: هذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، فنفقة زمن الخصب؛ المعروف فيها غير المعروف في زمن الجدب، ونفقة أهل البوادي؛ المعروف فيها ما هو الغالب عندهم، وهو غير المعروف من نفقة أهل المدن، وكذلك المعروف من نفقة الأغنياء على اختلاف طبقاتهم غير المعروف من نفقة الفقراء، والمعروف من نفقة أهل الرياسات والشرف غير المعروف من نفقة أهل الوضاعات. فليس المعروف المشار إليه في الحديث هو شيء متحد؛ بل مختلف باختلاف الاعتبار، وقد أوضحت المقام في كتابي " دليل الطالب "، فليراجع.

وقال الماتن - رحمه الله - في " الفتح الرباني " في جواب سؤال في الفرض للزوجة ونحوها ما لفظه: " قد اختلفت المذاهب في تقدير النفقة بمقدار معين وعدم التقدير: فذهب جماعة من أهل العلم - وهم الجمهور - إلى أنه لا تقدير للنفقة إلا بالكفاية، وقد اختلفت الرواية عن الفقهاء؛ فقال الشافعي: على المسكين والمتكسب مد، وعلى الموسر مدان، وعلى المتوسط مد ونصف. وقال أبو حنيفة: على الموسر سبعة دراهم إلى ثمانية في الشهر، وعلى المعسر أربعة دراهم إلى خمسة. قال بعض أصحابه: هذا التقدير في وقت رخص الطعام، وأما في غيره فيعتبر بالكفاية ". انتهى. والحق: ما ذهب إليه القائلون بعدم التقدير؛ لاختلاف الأزمنة والأمكنة، والأحوال والأشخاص؛ فإنه لا ريب أن بعض الأزمنة قد يكون أدعى للطعام من بعض، وكذلك الأمكنة؛ فإن بعضها قد يعتاد أهله أن يأكلوا في اليوم مرتين، وفي بعضها ثلاثا، وفي بعضها أربعا. وكذلك الأحوال؛ فإن حالة الجدب تكون مستدعية لمقدار من الطعام أكثر من المقدار الذي تستدعيه حالة الخصب. وكذلك الأشخاص؛ فإن بعضهم قد يأكل الصاع فما فوقه، وبعضهم قد يأكل نصف صاع، وبعضهم دون ذلك.

وهذا الاختلاف معلوم بالاستقراء التام، ومع العلم بالاختلاف؛ يكون التقدير على طريقة واحدة ظلما وحيفا. ثم إنه لم يثبت في هذه الشريعة المطهرة التقدير بمقدار معين قط؛ بل كان - صلى الله عليه وسلم - يحيل على الكفاية مقيدا لذلك بالمعروف؛ كما في حديث عائشة عند البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهم: أن هندا قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؛ إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". فهذا الحديث الصحيح؛ فيه الإحالة على الكفاية مع التقييد بالمعروف، والمراد به الشيء الذي يعرف، وهو خلاف الشيء الذي ينكر، وليس هذا المعروف الذي أرشد إليه الحديث شيئا معينا، ولا المتعارف بين أهل جهة معينة؛ بل هو في كل جهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، المتعارف بينهم. مثلا؛ أهل صنعاء؛ المتعارف بينهم الآن أنهم ينفقون على أنفسهم وأقاربهم الحنطة والشعير والذرة، ويعتادون الإدام سمنا ولحما، فلا يحل أن يجعل طعام من تجب نفقته من طعام غير الثلاثة الأجناس المتقدمة: كالعدس، والفول، ولا من الشعير، والذرة فقط، ولا بدون إدام، ولا بإدام غير المعتاد كالزيت، والتلبينة، ونحو ذلك؛ فإن ذلك جميعه؛ وإن كان يصدق عليه لفظ الكفاية؛ لكنه لا يصدق عليه معنى المعروف، والعمل بالمطلق وإهمال قيده لا يحل. وأما أهل البوادي المتصلة بصنعاء - والقريبة منها بمقدار بريد ودونه

وفوقه -؛ فالمعروف عندهم هو الكفاية من أي طعام كان؛ من غير سمن، ولا لحم؛ إلا في أندر الأحوال؛ بل يكتفون تارة بالتلبينة، وتارة بما يقوم مقامها. فالمتوجه شرعا على من وجبت عليه النفقة؛ أن يدفع إلى من كان في مثل صنعاء ما هو المعروف لديهم مما قدمنا، وإلى من كان في البوادي ما قدمنا مما هو المعروف لديهم، ويعتبر في كل محل بعرف أهله، ولا يحل العدول عنه إلا مع التراضي. وكذلك الحاكم يجب عليه مراعاة المعروف بحسب الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والأشخاص؛ مع ملاحظة حال الزوج في اليسار والإعسار؛ لأن الله - تعالى - يقول: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} . وإذا تقرر لك أن الحق عدم جواز تقدير الطعام بمقدار معين؛ فكذلك لا يجوز تقدير الإدام بمقدار معين، بل المعتبر الكفاية بالمعروف. وقد حكى صاحب " البحر " أنه قد قدر في اليوم أوقيتان دهنا من الموسر، ومن المعسر أوقية، ومن المتوسط أوقية ونصف. وفي " شرح الإرشاد ": أنه يعتبر في الإدام تقدير القاضي باجتهاده عند التنازع، فيقدر في المد من الإدام ما يكفيه، ويقدر على الموسر ضعف ذلك، وعلى المتوسط بينهما، ويعتبر في اللحم عادة البلد للموسرين والمتوسطين كغيرهم. قال الرافعي: وقد تغلب الفاكهة في أوقاتها فتجب. ثم قال: وإنما يجب ما ذكر لزوجته إن لم تواكله حال كونها رشيدة، فإن

واكلته وهي رشيدة سقطت نفقتها؛ ثم ذكر كلاما طويلا. وأقول: المرجع ما هو معروف عند أهل البلد في الإدام جنسا، ونوعا، وقدرا، وكذلك في الفاكهة، لا يحل الإخلال بشيء مما يتعارفون به؛ إن قدر من تجب عليه النفقة على ذلك، وكذلك ما يعتاد من التوسعة في الأعياد ونحوها، ويدخل في ذلك مثل القهوة والسليط (¬1) . وبالجملة؛ فقد أرشد الشارع إلى ما هو معروف من الكفاية، وليس بعد هذا الكلام الجامع المفيد شيء من البيان. وأما ما أجاب به عن الحديث بعض من لم يتمرن بعلم الأدلة، ولم يتدرب بمسالك الاجتهاد؛ من أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم على طريقة الحكم؛ بل على طريقة الإفتاء؛ فهذه غفلة كبيرة، وبعد عن الحقيقة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفتي إلا بما هو حق وشرع. وقد تقرر أن السنة: أقواله، وأفعاله، وتقريراته؛ لا مجرد أحكامه فقط التي تكون بعد الخصومة وحضور المتخاصمين، ولو كانت السنة ليست إلا الأحكام الكائنة على تلك الصفة؛ لم يبق منها حجة على العباد إلا أقل من عشر معشارها؛ لأن صدور الحكم منه صلى الله عليه وسلم على تلك الصفة؛ إنما وقع في قضايا محصورة؛ كقضية الحضرمي، والزبير، وعبد بن زمعة، والمتلاعنين. فإن قلت: ما وجه ما يفعله كثير من القضاة في هذه الأزمنة؛ من تقدير ¬

_ (¬1) • الزيت الجيد. وفي " النهاية " (2 / 389) لابن الأثير: " دهن الزيت؛ وهو عند أهل اليمن دهن السمسم ". (ن)

النفقة بقدح من الطعام متنوعا؟ قلت: هو من تقدير الكفاية بالمعروف؛ لأن القدح يكفي غالب الأشخاص شهرا؛ لا سيما في مثل صنعاء، فيكون للشخص في كل يوم نصف صاع، يأتي المجموع في ثلاثين يوما خمسة عشر صاعا، وهي قدح ينقص صاعا. فهذا فيه ملاحظة للمعروف باعتبار الغالب، ولكن إذا انكشف أنه لا يكفي؛ بأن يكون الشخص أكولا؛ فلا يحل العمل بذلك الغالب؛ لأن فيه إهمالا لما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من الكفاية، وهذا ليس فيه كفاية. فالحاصل: أنه لا بد من ملاحظة أمرين: أحدهما: الكفاية. والثاني: كونها بالمعروف. فإذا عُلم مقدار الكفاية؛ كان المرجع في صفاتها إلى المعروف، وهو الغالب في البلد، وإذا لم يُعلم حال الشخص في مقدار ما يكفيه، أو وقع الاختلاف بينه وبين من يجب عليه إنفاقه؛ كان القول قول من يدعي ما هو المتعارف به. مثلا؛ إذا قال من له النفقة: لا يكفيه إلا قدحان، وقال من عليه النفقة: قدح؛ كان القول قول من عليه النفقة؛ بكونه مدعيا لما هو الغالب في العادة، وإذا تبين حال من له النفقة، وجب الرجوع إلى ذلك؛ لما عرفناك من أنه لا

يحل الوقوف على مقدار معين على طريق القطع والبت. ثم الظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "؛ أن ذلك غير مختص بمجرد الطعام والشراب؛ بل يعم جميع ما يُحتاج إليه، فيدخل تحته الفضلات التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة؛ بحيث يحصل التضرر بمفارقتها، أو التضجر، أو التكدر، ويختلف ذلك بالأشخاص، والأزمنة، والأمكنة، والأحوال، ويدخل فيه الأدوية ونحوها، وإليه يشير قوله - تعالى -: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ؛ فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات؛ أن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه، والرزق يشمل ما ذكرناه. قال في " الانتصار ": ومذهب الشافعي: لا تجب أجرة الحمام وثمن الأدوية وأجرة الطبيب؛ لأن ذلك يراد لحفظ البدن؛ كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار. وقال في " الغيث ": " الحجة أن الدواء لحفظ الروح؛ فأشبه النفقة ". انتهى. قلت: هو الحق؛ لدخوله تحت عموم قوله: " ما يكفيك "، وتحت قوله: {رزقهن} ؛ فإن الصيغة الأولى عامة باعتبار لفظ ما، والثانية عامة لأنها مصدر مضاف، وهي من صيغ العموم، واختصاصه ببعض المستحقين للنفقة لا يمنع من الإلحاق. وبمجموع ما ذكرناه؛ يتقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة؛ هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له

الرشد شرط في المرأة لأخذ النفقة من الزوج بغير علمه

النفقة، وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل من خشية السرف في بعض الأحوال؛ بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لا سرف فيه؛ بعد تبين مقدار ما يكفي بإخبار المخبرين، أو تجريب المجربين؛ كما سبق، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بالمعروف "؛ أي: لا بغير المعروف، وهو السرف والتقتير. ( [الرشد شرط في المرأة لأخذ النفقة من الزوج بغير علمه] :) نعم؛ إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة؛ جاز لنا الإذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه إذا كان من أهل الرشد؛ لا إذا كان من أهل السرف والتبذير؛ فإنه لا يجوز لنا تمكينه من مال من عليه النفقة؛ لأن الله - تعالى - يقول: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ؛ بل ورد ما يدل على عدم جواز دفع أموال من لا رشد لهم إليهم؛ كما في قوله - تعالى -: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} ؛ فجعل الرشد شرطا لدفع أموالهم؛ فكيف يجوز دفع أموال غيرهم إليهم مع عدم الرشد؟ ! ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا، ومن له النفقة ليس بذي رشد؛ أن نجعل الأخذ إلى ولي من لا رشد له، أو إلى رجل عدل. وأما ما ورد في بعض التفاسير؛ من أن المراد بالسفهاء في قوله - تعالى -: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} : تمكين المرأة من مال الرجل كما ذكره السائل؛ فذلك إنما هو باعتبار أن غالب نوع النساء خال عن الرشد؛ وإلا فلا شك أن عدم الرشد يوجد في غيرهن كالصبيان، والمجانين، ومن يلتحق بهم من البله، والمعتوهين، وكثير ممن {ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} .

نفقة المطلقة رجعيا واجبة على الزوج

ولا نشك - أيضا - أن في النساء من لها من الرشد والكمال ما لا يوجد إلا في أفراد الرجال، ومنهن هند بنت عتبة المذكورة في الحديث؛ فإنها كانت من سروات (¬1) نساء قريش المشهورات بحسن العقل وكمال الفطنة؛ كما يعرف ذلك من عرف أخبارها، ومحاورتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مبايعته لها. فالحاصل: أنه لا ملازمة بين القول بوجوب الكفاية في النفقة؛ وبين حضور السرف؛ بل الأمر كما قدمنا، والله أعلم. ( [نفقة المطلقة رجعيا واجبة على الزوج] :) (والمطلقة رجعيا) ؛ لحديث فاطمة بنت قيس: أنه قال لها - صلى الله عليه وسلم -: " إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة "؛ أخرجه أحمد، والنسائي (¬2) . وفي لفظ لأحمد: " فإذا لم يكن عليها رجعة؛ فلا نفقة ولا سكنى "؛ وفي إسناده مجالد بن سعيد. وقد توبع، وأعل بالوقف، ولكن الرفع زيادة مقبولة إذا صح مخرجها أو حسن. وقد أثبت لها القرآن الكريم السكنى؛ قال الله - تعالى -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا ¬

_ (¬1) • السري: الرئيس، والجمع: سراة، وجمع السراة: سروات؛ كما في " المصباح المنير ". (ن) (¬2) وهو حديث صحيح؛ انظر " الصحيحة " (1711) .

لا نفقة للبائنة إلا أن تكون حاملا

تخرجوهن من بيوتهن} ، ويستفاد من النهي عن الإخراج وجوب النفقة من السكنى، ويؤيده قوله - تعالى -: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} . ويدل على وجوب النفقة، قوله - تعالى -: {وللمطلقات متاع بالمعروف} ، وقوله - تعالى - في آخر الآية الأولى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} ؛ وهو الرجعة، فكان ذلك في الرجعية. ( [لا نفقة للبائنة إلا أن تكون حاملا] :) (لا بائنا) ؛ فالبائنة لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المطلقة ثلاثا: " لا نفقة ولا سكنى ". وفي " الصحيحين " وغيرهما عنها، أنها قالت: طلقني زوجي ثلاثا، فلم يجعل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نفقة ولا سكنى. وقد صح حديثها؛ فلا نزاع. وقد أخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نفقة لك؛ إلا أن تكوني حاملا ". وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث، وقال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت؟ ! وقد قالت فاطمة حين بلغها ذلك: بيني وبينكم كتاب الله؛ قال الله - تعالى -: {فطلقوهن لعدتهن} ، حتى قال: {لا تدري لعل الله يحدث بعد

لا نفقة للمعتدة من وفاة إلا أن تكون حاملا

ذلك أمرا} ؛ فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ ! وقد ذهب إلى عدم وجوب النفقة والسكنى للبائنة: أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأتباعهم، وحكاه في " البحر " عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والإمامية. وذهب الجمهور إلى أنه لا نفقة لها، ولها السكنى؛ لقوله - تعالى -: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} . وقد تقدم ما يدل على أنها في الرجعية. وذهب عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وأهل الكوفة إلى وجوب النفقة والسكنى. ( [لا نفقة للمعتدة من وفاة إلا أن تكون حاملا] :) (ولا في عدة الوفاة؛ فلا نفقة ولا سكنى؛ إلا أن تكونا حاملتين) ؛ لعدم وجود دليل يدل على ذلك في غير الحامل، ولا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة، فإذا لم يكن عليها رجعة؛ فلا نفقة ولا سكنى ". ويؤيده - أيضا - تعليل الآية المتقدمة بقوله - تعالى -: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ؛ وهو الرجعة، ولم يبق في عدة الوفاة ذلك الأمر.

ويفيده - أيضا - مفهوم الشرط في قوله - تعالى -: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} ، وهي أيضا تدل على وجوب النفقة للحامل؛ سواء كانت في عدة الرجعي، أو البائن، أو الوفاة. وكذلك يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: " لا نفقة لك؛ إلا أن تكوني حاملا ". وقد روى البيهقي، عن جابر يرفعه - في الحامل المتوفى عنها - قال: " لا نفقة لها ". قال ابن حجر: ورجاله ثقات؛ لكنه قال: المحفوظ وقفه. فلو صح رفعه لكان نصا في محل النزاع. وينبغي أن يقيد عدم وجوب السكنى لمن في عدة الوفاة؛ بما تقدم في وجوب اعتدادها في البيت الذي بلغها موت زوجها وهي فيه؛ فإن ذلك يفيد أنها إذا كانت في بيت الزوج بقيت فيه حتى تنقضي العدة، ويكون ذلك جمعا بين الأدلة؛ من باب تقييد المطلق أو تخصيص العام؛ فلا إشكال. قال في " المسوى ": " اختلف أهل العلم في السكنى للمعتدة عن الوفاة؛ فقال أبو حنيفة: لا سكنى لها؛ بل تعتد حيث شاءت، وقال مالك: لها السكنى، وللشافعي قولان كالمذهبين، ومنشأ ذلك تردده في تأويل حديث فريعة، فرأى مرة أن إذنه لها في الخروج حكم، وقوله: " امكثي في بيتك " استحباب، ورأى مرة أخرى أن إذنه صار منسوخا بقوله آخرا: " امكثي في بيتك ".

أقول: يحتمل أن يكون إذنه لها من حيث إنها ذكرت أن زوجها لم يتركها في مسكن يملكه ". انتهى. أقول: الحق؛ أن المتوفى عنها زوجها لا تستحق - في عدة الوفاة - لا نفقة ولا سكنى؛ سواء كانت حاملا أو حائلا؛ لزوال سبب النفقة بالموت، واختصاص آية السكنى بالمطلقة رجعيا، واختصاص آية إنفاق الحامل بالمطلقة كما تقدم. فإذا مات وهي في بيته؛ اعتدت فيه؛ لا لأن لها السكنى؛ بل لوجوب الاعتداد عليها في البيت الذي مات وهي فيه. مع أن في حديث الفريعة؛ أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن زوجها لم يتركها في منزل يملكه، فأمرها أن تعتد في ذلك المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه، وهو غير مملوك له. وبهذا يتضح أن ذلك لا يستلزم وجوب السكنى من تركة الميت؛ بل هو أمر تعبد الله به المرأة، فإن كان المنزل ملكها فذاك، وإن كان ملك غيرها وجب عليها تسليم الأجرة مع الطلب؛ سواء كان ملكا لورثة الزوج أو لغيرهم. وعلى هذا يحمل قوله - تعالى -: {غير إخراج} ، وقوله: {ولا يخرجن} ، وقوله: {ولا تخرجوهن} . فتقرر بمجموع ما ذكر؛ أن المتوفى عنها مطلقا كالمطلقة بائنا - إذا لم تكن المطلقة بائنا حاملا - في عدم وجوب النفقة والسكنى، فإن كانت المطلقة بائنا حاملا فلها النفقة ولا سكنى لها.

نفقة الوالد على ولده واجبة والعكس

وأما المطلقة الرجعية؛ فلها النفقة والسكنى؛ سواء كانت حاملا أو حائلا. وأما المطلقة قبل الدخول؛ فلا عدة عليها، فالنفقة ساقطة بلا ريب، وكذلك السكنى والمتعة المذكورة لها في القرآن؛ هي عوض عن المهر. والملاعنة لا نفقة لها ولا سكنى؛ لأنها إن كانت كالمطلقة بائنا كانت مثلها في ذلك، وإن كانت كالمتوفى عنها زوجها فكذلك. ولا ريب أن فرقتها أشد من فرقة المطلقة بائنا؛ لأن هذه يجوز نكاحها في حال من الأحوال؛ بخلاف تلك. ( [نفقة الوالد على ولده واجبة والعكس] :) (وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر) ؛ لحديث هند بنت عتبة المتقدم، ويؤيده ما تقدم في الفطرة من وجوبها على الرجل ومن يمون. وأما العكس؛ فلأن النفقة هي أقل ما يفيده قوله - تعالى -: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} ، وقوله: {وبالوالدين إحسانا} . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومالك لأبيك "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن الجارود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وحديث: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه؛ فكلوا من أموالهم "، أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وابن حبان، والحاكم. ويؤيد ذلك حديث: من أبر يا رسول الله؟ ! قال: " أمك "، قال: ثم

نفقة المملوك واجبة على سيده

من؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أباك "؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة. قال في " المسوى ": " تجب على الابن نفقة الأبوين إذا كان موسرا وهما معسران؛ قال - تعالى -: {وبالوالدين إحسانا} ، وقال: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} . ومن المعلوم؛ أنه ليس من الإحسان، ولا من المصاحبة بالمعروف؛ أن يموتا جوعا والولد في أرغد عيش. قلت: على هذا أهل العلم؛ إلا أن الشافعي قال: إن كان واحد منهما قويا سويا يمكنه تحصيل قوته؛ لا تجب نفقته وإن كان معسرا. وأوجب سائر الفقهاء نفقتهم عند الإعسار؛ ولم يشترطوا الزمانة ". وفي " إعلام الموقعين ": " وسأله صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " ثم أمك "، قال: ثم من؟ قال: " ثم أبوك "؛ متفق عليه. قال الإمام أحمد: الطاعة للأب وللأم ثلاثة أرباع البر ". ( [نفقة المملوك واجبة على سيده] :) (وعلى السيد لمن يملكه) : لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ".

النفقة على الأقرباء مستحبة لصلة الرحم

وحديث: " فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي ذر. قلت: وذلك أنه مشغول بخدمته عن الاكتساب، فوجب أن يكون كفاية عليه. وعليه أهل العلم. ( [النفقة على الأقرباء مستحبة لصلة الرحم] :) (ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم) ؛ لعدم ورود دليل يخص ذلك؛ بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة، والرحم المحتاج إلى نفقة أحق الأرحام بالصلة. وقد قال - تعالى -: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} ، {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} . وعند أبي داود: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أبر؟ قال: " أمك، وأباك، وأختك، وأخاك، ومولاك الذي يلي ذلك، حق واجب، ورحم موصولة " (¬1) . وقال: " ثم الأقرب فالأقرب ". وفي المسألة مذاهب مختلفة؛ قد بسطها صاحب " الهدي " وغيره. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ انظر " إرواء الغليل " (7 / 230 / رقم 2163) .

الكسوة واجبة وكذا السكن مع النفقة

وأما ما قيل من أن المراد بمثل هذه الأدلة صلة الرحم؛ فقد أجيب عن ذلك بأن الله - سبحانه - سماه حقا. على أنه لو سُلم؛ لم يكن قادحا في الاستدلال؛ فإن من ترك قريبه بغير نفقة ولا كسوة، مع حاجته إليهما؛ لم يكن واصلا لرحمه - لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا -. ومن أنكر هذا فليخبرنا: ما هي الصلة التي تختص بها الرحم لأجل كونه رحما، ويمتاز بها عن الأجنبي؟ فإنه لا يمكنه أن يعين مسقطا للنفقة؛ إلا وكان أولى بإسقاط ما عداها. فالحاصل: أن من وجد ما يكفيه، وكان له زيادة يستغني عنها؛ وجب عليه أن ينفقها على المحاويج من قرابته، ويقدم الأقرب فالأقرب كما دلت عليه الأدلة السالفة، وهذا هو معنى الغنى - أي: الاستغناء عن فضلة تفضل على الكفاية -، لا ما ذكره الفقهاء من تلك التقديرات التي لا ترجع إلى دليل عقل ولا نقل. ( [الكسوة واجبة وكذا السكن مع النفقة] :) (ومن وجبت نفقته وجبت كسوته وسكناه) ؛ لما يستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها.

باب الرضاع

(8 - باب الرضاع) ( [بكم رضعة يثبت حكم الرضاع] :) (إنما يثبت حكمه بخمس رضعات) ؛ لحديث عائشة عند مسلم، وغيره: أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نُسخ بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهن فيما يُقرأ من القرآن. وللحديث طرق ثابتة في " الصحيح ". ولا يخالفه حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحرم المصة ولا المصتان "؛ أخرجه أحمد، ومسلم، وأهل " السنن "، وكذلك حديث أم الفضل عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، والمصة والمصتان "، وفي لفظ: " لا تحرم الإملاجة (¬1) ولا الإملاجتان "، وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير: لأن غاية ما في هذه الأحاديث: أن المصة والمصتين، والرضعة والرضعتين، والإملاجة والإملاجتين؛ لا يحرمن. وهذا هو معنى الأحاديث منطوقا، وهو لا يخالف حديث الخمس ¬

_ (¬1) هي الإرضاعة الواحدة؛ مثل المصة. وفي " القاموس ": " ملج الصبي أمه - كنصر وسمع -: تناول ثديها بأدنى فمه ". (ش)

الرضعات؛ لأنها تدل على أن ما دون الخمس لا يحرم. وأما معنى هذه الأحاديث مفهوما - وهو أنه يحرم ما زاد على الرضعة والرضعتين -؛ فمدفوع بحديث الخمس، وهي مشتملة على زيادة، فوجب قبولها والعمل بها، ولا سيما عند قول من يقول: إن بناء الفعل على المنكر يفيد التخصيص. والرضعة: هي أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه، ثم يستمر على ذلك؛ حتى يتركه باختياره لغير عارض. وقد ذهب إلى اعتبار الخمس: ابن مسعود، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن حزم، وجماعة من أهل العلم. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب. وذهب الجمهور إلى أن الرضاع الواصل إلى الجوف يقتضي التحريم، وإن قل. قال في " المسوى ": " ذهب الشافعي إلى أنه لا يثبت حكم الرضاع بأقل من خمس رضعات متفرقات، وذهب أكثر الفقهاء - منهم مالك، وأبو حنيفة - إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، وقال بعضهم: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحرم المصة ولا المصتان " (¬1) . ¬

_ (¬1) • " المسند " (6 / 31، 96، 216، 247، 339، 340) . (ن)

ويحكى عن بعضهم أن التحريم لا يقع بأقل من عشر رضعات، وهو قول شاذ. والظاهر أن عائشة وحفصة إنما كانتا تذهبان إلى عشر رضعات؛ تورعا وتشفيا للخاطر؛ لا من جهة حكم الشرع؛ كما ذكرنا في لبن الفحل. قال البغوي: " قول عائشة: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن: أرادت به قرب عهد النسخ من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان بعض من لم يبلغه النسخ يقرأ على الرسم الأول؛ لأن النسخ لا يتصور بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز بقاء الحكم مع نسخ التلاوة؛ كالرجم في الزنا حكمه باق مع ارتفاع التلاوة في القرآن، أو أن الحكم يثبت بأخبار الآحاد؛ ويجب العمل به، والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد؛ فلم يجز كتبه بين الدفتين ". انتهى. وتمامه في كتابنا " إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ "، فليرجع إليه. أقول: اعلم أن الأحاديث قد اختلفت في هذه المسألة اختلافا كثيرا، وكذلك اختلفت المذاهب، ونحن نعرفك بما هو الحق الذي يجتمع فيه جميع الأدلة فنقول: أما ما ورد من الرضاع مطلقا من دون تقييد بعدد؛ فالأحاديث الواردة بذكر العدد تفيد تقييده؛ كما هو شأن المطلق والمقيد. وقد أفاد حديث: " لا تحرم المصة والمصتان، والإملاجة والإملاجتان "،

وحديث: " لا تحرم الرضعة الواحدة ": أن الرضعة والرضعتين لا تحرمان، فلو لم يرد إلا هذا؛ لكانت الثلاث مقتضية للتحريم، ولكنه ثبت في " الصحيح " عن عائشة، أنها قالت: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم قالت: خمس رضعات معلومات يحرمن، وصرحت بأن العشر منسوخة بالخمس، وصرحت أيضا بأنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، وليس من شرط القرآن تواتر النقل على ما هو الحق. ولو سلم ذلك؛ فالقراءة الآحادية منزّلة منزلة أخبار الآحاد. ولكن ههنا إشكال، وهو أن حديث: " لا تحرم المصة والمصتان "؛ دل بمفهوم العدد على أن الثلاث والأربع يثبت بهما التحريم، وحديث الخمس دل بمفهومه على أنهما لا يحرمان. وأقول: قد تقرر في علم المعاني والبيان: أن الإخبار بالفعل المضارع يفيد الحصر، وصرح بذلك الزمخشري في " الكشاف "، ولا سيما إذا بني الفعل على المنكر؛ كما هو مقرر في مواطنه، فيكون قد انضم إلى مفهوم العدد في الخمس مفهوم الحصر، فلا يثبت التحريم بدونها. ويؤيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ حديث سهلة بنت سهيل: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه " (¬1) ، وهذا التركيب في قوة: " إن ترضعيه خمسا تحرمي عليه "، فانضم إلى مفهومي العدد والحصر مفهوم الشرط، وكما تصلح هذه الأدلة لتقييد مطلق القرآن؛ تصلح أيضا لتقييد ¬

_ (¬1) • " المسند " (6 / 201، 271) . (ن) قلت: وذكر الخمس رضعات خارج عن زاوية " الصحيحين "! والله أعلم.

لا يثبت حكم الرضاع إلا مع وجود اللبن

حديث: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم "، وحديث: " الرضاعة من المجاعة " (¬1) ؛ هذا على فرض أن الرضعة والرضعتين تنبت اللحم، فيكون المراد أن المقتضي للتحريم من الرضاع الذي ينبت اللحم، والذي في زمن المجاعة هو ما كان على صفة مخصوصة؛ وهي خمس رضعات. هذا تقرير الاستدلال على وجه تجتمع فيه الأدلة. وأما الجواب عن الوجوه التي ذكروها في دفع ما ذكرناه من الأدلة؛ فقد بسطه الماتن - رحمه الله - في " وبل الغمام حاشية شفاء الأوام "، فمن شاء الاطلاع على ذلك؛ فليراجعه. ( [لا يثبت حكم الرضاع إلا مع وجود اللبن] :) (مع تيقن وجود اللبن) ؛ لأنه سبب ثبوت حكم الرضاع، فلو لم يكن وجوده معلوما، وارتضاع الصبي منه معلوما؛ لم يكن لإثبات حكم الرضاع وجه مسوغ. قال في " الحجة البالغة ": " يعتبر في الإرضاع شيئان: أحدهما: القدر الذي يتحقق به هذا المعنى، فكان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات. والثاني: أن يكون الرضاع في أول قيام الهيكل، وتشبّح صورة الولد؛ ¬

_ (¬1) • " المسند " (6 / 174) . (ن)

لا رضاع إلا ما كان في حولين

وإلا فهو غذاء بمنزلة سائر الأغذية الكائنة بعد التشبّح وقيام الهيكل؛ كالشاب يأكل الخبز ". انتهى. ( [لا رضاع إلا ما كان في حولين] :) (وكون الرضيع قبل الفطام) ؛ لحديث أم سلمة عند الترمذي - وصححه -، والحاكم - وصححه أيضا -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي (¬1) ، وكان قبل الفطام ". وأخرج سعيد بن منصور، والدارقطني، والبيهقي، وابن عدي من حديث ابن عباس؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا رضاع إلا ما كان في الحولين ". وقد صحح البيهقي وقفه، ورجحه ابن عدي، وابن كثير (¬2) . وأخرج أبو داود الطيالسي، من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا رضاع بعد فصال، ولا يتم بعد احتلام ". وقد قال المنذري: إنه لا يثبت. ¬

_ (¬1) • أي: في زمن الرضاع، والحديث في " الترمذي " (2 / 201) ؛ وسنده صحيح على شرطهما، ولا مقال فيه. وقد تكلم في معنى الحديث في " الزاد " (4 / 255) . (ن) (¬2) • وخالفهم ابن التركماني في " الجوهر النقي "، فرجح المرفوع؛ لأن الرفع زيادة، وقد جاء بها ثقة؛ وهو الهيثم بن جميل، فزيادته مقبولة؛ راجع (7 / 462) منه. ولذلك صرح في " زاد المعاد " (4 / 241) بأن إسناده صحيح. (ن)

يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب

وفي " الصحيحين " وغيرهما (¬1) من حديث عائشة، قالت: لما دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل، فقال: " من هذا؟ " قلت: أخي من الرضاعة، قال: " يا عائشة {انظرن من إخوانكن؛ فإنما الرضاعة من المجاعة ". ( [يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب] :) (ويحرم به ما يحرم بالنسب) ، قد تقدم الاستدلال عليه فيمن يحرم نكاحه - من (كتاب النكاح) -؛ من أم، وأخت، وغيرهما. ( [قول المرضعة مقبول] :) (ويقبل قول المرضعة) ؛ لما أخرجه البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما (¬2) ، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فأعرض عني، قال: فتنحيت، فذكرت ذلك له، فقال: " وكيف [وقد قيل؟} ] (¬3) وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ {"، فنهاه. وفي لفظ: " دعها عنك "، وهو في " الصحيح ". وفي لفظ آخر: " كيف وقد قيل؟} "، ففارقها عقبة. ¬

_ (¬1) • ك " المسند " (6 / 94، 138، 174، 214) . (ن) (¬2) • زاد البخاري: فقال عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ن) (¬3) • زيادة في رواية للبخاري في (العلم) (1 / 30 - 31) . واللفظ الأول في (النكاح) من " البخاري " (6 / 126) . (ن)

حكم إرضاع الكبير لتجويز النظر

وقد ذهب إلى ذلك: عثمان، وابن عباس، والزهري، والحسن، وإسحاق، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وروي عن مالك. وأما دفع الحجة بأنها شهدت على تقرير فعلها؛ فهذه قاعدة فقهية لم يرد بها كتاب الله، ولا سنة رسوله. وهذا الحديث أول حجة يبطلها؛ فكيف يكون الأمر بالعكس؟ ! وحسبنا الله ونعم الوكيل. ( [حكم إرضاع الكبير لتجويز النظر] :) (ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر) ؛ لحديث زينب بنت أم سلمة، قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك هذا الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي} فقالت عائشة: ما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟ {وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله} إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه حتى يدخل عليك "؛ أخرجه مسلم، وغيره. وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة (¬1) أيضا. وقد روى هذا الحديث من الصحابة: أمهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل (¬2) ، وزينب بنت أم سلمة. ¬

_ (¬1) • " المسند " (6 / 39، 255، 269، 271) . (ن) (¬2) • " المسند " (6 / 356) . (ن)

ورواه من التابعين جماعة كثيرة، ثم رواه عنهم الجمع الجم. وقد ذهب إلى ذلك: علي، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وابن علية، وداود الظاهري، وابن حزم؛ وهو الحق. وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك. قال ابن القيم: " أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى؛ منهم عائشة، ولم يأخذ به أكثر أهل العلم، وقدموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرم بما قبل الفطام وبالصغر وبالحولين لوجوه: أحدها: كثرتها؛ وانفراد حديث سالم. الثاني: أن جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة - في شق المنع. الثالث: أنه أحوط. الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحما، ولا ينشز عظما، فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم. الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته. السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها رجل قاعد،

فاشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: " انظرن من إخوانكن من الرضاعة؛ فإنما الرضاعة من المجاعة "؛ متفق عليه، واللفظ لمسلم. وفي قصة سالم مسلك؛ وهو أن هذا كان موضع حاجة؛ فإن سالما كان قد تبناه أبو حذيفة ورباه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهله بد، فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك؛ فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد. ولعل هذا المسلك أقوى المسالك، وإليه كان شيخنا يجنح، والله تعالى أعلم ". انتهى. أقول: الحاصل: أن الحديث المتقدم صحيح، وقد رواه الجم الغفير عن الجم الغفير؛ خلفا عن سلف، ولم يقدح فيه من رجال هذا الشأن أحد، وغاية ما قاله من يخالفه؛ أنه ربما كان منسوخا، ويجاب بأنه لو كان منسوخا لوقع الاحتجاج على عائشة بذلك، ولم ينقل أنه قال قائل به؛ مع اشتهار الخلاف بين الصحابة. وأما الأحاديث الواردة بأنه لا رضاع إلا في الحولين وقبل الفطام؛ فمع كونها فيها مقال؛ لا معارضة بينها وبين رضاع سالم؛ لأنها عامة وهذا خاص، والخاص مقدم على العام، ولكنه يختص بمن عرض له من الحاجة إلى إرضاع الكبير ما عرض لأبي حذيفة وزوجته سهلة؛ فإن سالما لما كان لهما كالابن، وكان في البيت الذي هما فيه، وفي الاحتجاب مشقة عليهما؛ رخص صلى الله عليه وسلم في الرضاع على تلك الصفة.

فيكون رخصة لمن كان كذلك، وهذا لا محيص عنه. قال في " المسوى ": " يجب إحياء المولود بالإرضاع حولين كاملين؛ إلا إذا اجتمع رأي الوالدين عن تشاور منهما؛ على أن الفطام لا يضره؛ فحينئذ يجوز الفطام قبل الحولين، والمرضع يجوز أن تكون الوالدة أو الظئر المسترضعة، فإن لم تتيسر المسترضعة، أو لم يقدر الوالد على استئجارها؛ تعينت الوالدة؛ فإن أرضعت الوالدة؛ فليس لها إلا النفقة والكسوة بالمعروف مما كان بسبب الزوجية، وإن أرضعت الظئر فلها أجرها؛ قال - تعالى -: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله} . قلت: الظاهر: أن الوالدات تعم المطلقات وغيرها، وقيل: تختص بالمطلقات؛ لأن سياق الآية في قصة المطلقات. أقول: وحينئذ يؤخذ حكم غير المطلقات بالأولى؛ وقوله: {على المولود له} : يدل على أن الوالدة ما دامت زوجة أو معتدة لا تستحق الأجر، وعليه أبو حنيفة. وقوله: {على الوارث مثل ذلك} : المراد منه وارث الأب، وهو

الصبي؛ أي: مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب. قوله: {فإن أرادا فصالا} ؛ يعني: قبل الحولين؛ قوله: {أن تسترضعوا} ؛ أي: المراضع؛ {أولادكم} ؛ أي: تأخذوا مراضع لأولادكم. قوله: {ما آتيتم} ؛ أي: ما أردتم إيتاءه؛ كقوله - تعالى -: {إذا قمتم إلى الصلاة} ". انتهى.

باب الحضانة

(9 - باب الحضانة) ( [الأولى بحضانة الطفل أمه؛ ما لم تنكح] :) (الأولى بالطفل أمه ما لم تنكح) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني؟ فقال: " أنت أحق به ما لم تنكحي (¬1) "؛ أخرجه أحمد (¬2) ، وأبو داود، والبيهقي، والحاكم - وصححه -. وقد وقع الإجماع على أن الأم أولى بالطفل من الأب. وحكى ابن المنذر الإجماع على أن حقها يبطل بالنكاح، وقد روي عن عثمان أنه لا يبطل بالنكاح؛ وإليه ذهب الحسن البصري، وابن حزم، واحتجوا ببقاء ابن أم سلمة في كفالتها بعد أن تزوجت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ويجاب عن ذلك؛ بأن مجرد البقاء مع عدم المنازع لا يُحتج به؛ لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها. ¬

_ (¬1) • اختلف فيه؛ هل المراد مجرد العقد، أو العقد مع الدخول؟ فذهب إلى الأول: أبو حنيفة والشافعي، وإلى الثاني: مالك. ومال ابن القيم إلى الأول، وذكر أنه قول الجمهور؛ فراجعه (4 / 186) . (ن) (¬2) • رقم (677) وسنده عندهم حسن؛ وقد ذهب إلى تقويته ابن القيم (4 / 175) . (ن)

واحتجوا أيضا بما سيأتي في حديث ابنة حمزة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن الحق لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وقد قال: " الخالة بمنزلة الأم ". ويجاب عن هذا؛ بأنه لا يدفع النص الوارد في الأم، ويمكن أن يقال: إن هذا يكون دليلا على ما ذهبت إليه الحنفية؛ من أن النكاح إذا كان لمن هو رحم للصغير (¬1) ؛ فلا يبطل به الحق، ويكون حديث ابنة حمزة مقيدا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لم تنكحي ". (ثم الخالة) أولى بعد الأم ممن عداها؛ لحديث البراء بن عازب في " الصحيحين " وغيرهما: أن ابنة حمزة اختصم فيها (¬2) علي وجعفر وزيد، فقال علي: أنا أحق بها؛ هي ابنة عمي {وقال جعفر: بنت عمي وخالتها؛ تحتي} وقال زيد: ابنة أخي! فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: " الخالة بمنزلة الأم " (¬3) ؛ والمراد بقول زيد: ابنة أخي؛ أن حمزة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما. ووجه الاستدلال بهذا الحديث: أنه قد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن، فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة أقدم من غيرها؛ من غير فرق بين الأب وغيره، وقد قيل: إن الأب أقدم منها إجماعا، وليس ذلك بصحيح، والخلاف معروف، والحديث يحج من خالفه. ¬

_ (¬1) • أي: المحتضن. (ن) (¬2) • أي: في حضانتها. (ن) (¬3) • تهور ابن حزم؛ فطعن في صحة هذه القصة بجميع طرقها، وقد رد عليه ذلك ابن القيم؛ فراجعه (4 / 202 - 203) . (ن)

الأولى بحضانة الطفل بعد الأم الأب

قال في " المسوى ": " إذا فارق الرجل امرأته وبينهما ولد صغير؛ فالأم وأم الأم أولى بالحضانة من الأب: لرواية مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم ابن محمد يقول: كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار، فولدت له عاصم بن عمر، ثم إنه فارقها، فجاء عمر بن الخطاب قباء، فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر: خل بينها وبينه، قال: فما راجعه عمر الكلام " (¬1) . ( [الأولى بحضانة الطفل بعد الأم الأب] :) (ثم الأب) ؛ وإن لم يرد بذلك دليل يخصه؛ لكنه قد استفيد من مثل قوله صلى الله عليه وسلم للأم: " أنت أحق به ما لم تنكحي "؛ فإن هذا يدل على ثبوت أصل الحق للأب بعد الأم، ومن هو بمنزلتها؛ وهي الخالة، وكذلك إثبات التخيير بينه وبين الأم في الكفالة؛ فإنه يفيد إثبات حق له في الجملة. وقال في " المسوى ": " روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيّر غلاما بين أبيه وأمه، ثم طبق بين الحديث والأثر بأن المولود إذا كان دون سبع سنين؛ فالأم أولى به، وإذا بلغ سبع سنين وعقل عقل مثله؛ خُيّر بين الأبوين؛ سواء كان ذكرا أو أنثى، فأيهما اختاره يكون عنده. ¬

_ (¬1) • قال ابن عبد البر: " هذا حديث مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة؛ تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل "؛ نقله في " الزاد " (4 / 176) ، ثم ساق الروايات في ذلك؛ فلتراجع. (ن)

وأخذ هذا النوع من التطبيق؛ من قضاء علي - رضي الله تعالى عنه -؛ فإنه خيّر صبيا - كان ابن سبع سنين، أو ثمان سنين - بين الأم والعم، وقال لأخيه الصغير منه: وهذا أيضا لو قد بلغ مبلغ هذا لخيرته. وقال أبو حنيفة: الأم أحق بالغلام حتى يأكل ويلبس وحده، وبالجارية حتى تحيض، ثم بعد ذلك الأب أحق بهما ". أقول: الحق أن الحضانة للأم، ثم للخالة؛ للدليل الذي قدمنا، ولا حضانة للأب ولا لغيره من الرجال والنساء؛ إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز، فإن بلغ إليه؛ ثبت تخييره بين الأم والأب (¬1) ، وإذا عُدما كان أمره إلى أوليائه إن وجدوا؛ وإلا كان إلى قرابته الذين ليسوا بأولياء، ويقدم الأقرب فالأقرب. ولكن ليس هذا الدليل اقتضى ذلك؛ بل لأن حضانة الصبي وكفالة أمره لا بد منه، والقرابة أولى به من الأجانب؛ بلا ريب، وبعض القرابة أولى من بعض، فأحقهم به - بعد عدم من وردت النصوص بثبوت حضانته - هو الأولياء؛ لكون ولاية النظر في مصالحه إليهم، ومع عدمهم تكون حضانته إلى الأقرب فالأقرب. هذا ما يقتضيه النظر الصحيح، ومن رام الوقوف على جميع العلل التي علل بها المختلفون في التقديم والتأخير في باب الحضانة؛ فعليه ب " الهدي " لابن القيم، ولكنه لم يترجح لدي إلا ما ذكرته ههنا، وذكره الماتن. ¬

_ (¬1) • قلت: وينبغي أن لا يكون هذا على إطلاقه؛ بل يقيد بما إذا حصلت به مصلحة الولد؛ وإلا فلا يلتفت إلى اختيار الصبي؛ لأنه ضعيف العقل؛ وتفصيل هذا في " الزاد " (4 / 198) . (ن)

الأولى بالطفل قرابته إذا انعدمت الأم والخالة والأب

وقد يقال: إن حديث: " أنت أحق به ما لم تنكحي "؛ يفيد ثبوت أصل الحق في الحضانة للأب بعد الأم، ومن هو بمنزلتها؛ وهي الخالة، فتكون أهل الحضانة الأم، ثم الخالة، ثم الأب. ( [الأولى بالطفل قرابته إذا انعدمت الأم والخالة والأب] :) (ثم يعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحا) ؛ لأنه إذا عدمت الأم والخالة والأب؛ فالصبي محتاج إلى من يحضنه بالضرورة؛ والقرابة أشفق به، فيعين الحاكم من يقوم به منهم ممن يرى فيه صلاحا للصبي. وقد أخرج عبد الرزاق، عن عكرمة، قال: إن امرأة عمر بن الخطاب خاصمته إلى أبي بكر في ولد عليها، فقال أبو بكر: هي أعطف، وألطف، وأرحم، وأحنى، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج. فهذه الأوصاف تفيد أن أبا بكر جعل العلة: العطف، واللطف، والرحمة، والحنو. ( [يخير الصبي بين أبيه وأمه بعد ما يبلغ سن الاستقلال] :) (وبعد بلوغ سن الاستقلال يخير الصبي بين أبيه وأمه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - (¬1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه. ¬

_ (¬1) • وهو كما قال الترمذي (2 / 286) ؛ فإن سنده متصل، ورجاله ثقات كلهم. وثبته في " الزاد " (4 / 194) . (ن)

وفي لفظ (¬1) : أن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استهما عليه "، قال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا أبوك وهذه أمك؛ فخذ بيد أيهما شئت "، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به. أخرجه أهل " السنن "، وابن أبي شيبة؛ وصححه الترمذي، وابن حبان، وابن القطان. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني من حديث عبد الحميد بن جعفر الأنصاري (¬2) عن جده: أن جده أسلم - وأبت امرأته أن تسلم، فجاء بابن صغير له لم يبلغ، قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب ههنا والأم ههنا، ثم خيره؛ وقال: " اللهم اهده "؛ فذهب إلى أبيه. قال ابن القيم: " الحضانة قضي فيها خمس قضايا: إحداها: قضى بابنة حمزة لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وقال: " الخالة بمنزلة الأم "، فتضمن هذا القضاء: أن الخالة قائمة مقام الأم في الاستحقاق، وأن تزوجها لا يسقط حضانتها إذا كانت جارية. ¬

_ (¬1) • هذا اللفظ لأبي داود (1 / 357) وغيره، وسنده صحيح أيضا. وصححه الحاكم (4 / 97) ؛ ووافقه الذهبي. (ن) (¬2) • هو مع كونه من رجال مسلم؛ ففي حفظه شيء، ولهذا ضعف ابن القيم هذا الحديث، وحكى تضعيفه عن المنذري وغيره؛ فراجع " الزاد " (4 / 189 - 190) . (ن)

القضية الثانية: أن رجلا جاء بابن له صغير لم يبلغ، فاختصم فيه هو وأمه، ولم يسلم، فأجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم الأب ههنا، وأجلس الأم ههنا، ثم خير الصبي وقال: " اللهم {اهده "، فذهب إلى أمه؛ ذكره أحمد. القضية الثالثة: أن رافع بن سنان أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: ابنتي فطيم - أو شبيهه -، وقال رافع: ابنتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقعد ناحية " وقال لها: " اقعدي ناحية "، فأقعد الصبية بينهما، ثم قال: " ادعواها "، فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم} اهدها "، فمالت إلى أبيها؛ فأخذها؛ ذكره أحمد. القضية الرابعة: جاءته امرأة فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني ... الخ؛ ذكره أبو داود. القضية الخامسة: جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء ... الخ؛ ذكره أبو داود. فعلى هذه القضايا الخمس؛ تدور الحضانة؛ وبالله التوفيق ". (فإن لم يوجد) من له في ذلك حق بنص الشرع (أكفله من كان له في كفالته مصلحة) ؛ لكونه محتاجا إلى ذلك، فكانت المصلحة معتبرة في بدنه كما اعتبرت في ماله. وقد دلت على ذلك الأدلة الواردة في أموال اليتامى من الكتاب والسنة.

الكتاب العاشر كتاب البيوع

(الكتاب العاشر: كتاب البيوع)

كتاب البيوع

(10 - كتاب البيوع) (1 - أنواع البيوع المحرمة) ( [المعتبر في صحيح البيع: رضا الطرفين] :) (المعتبر فيه مجرد التراضي) ، وحقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى. والمراد هنا: أمارته كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به. وعلى هذا أهل العلم. (ولو بإشارة) ، وينعقد بالكناية (من قادر على النطق) ؛ لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك، وبعتك؛ فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله - تعالى -: {تجارة عن تراض} ، فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط. ولا بد من الدلالة عليه بلفظ، أو إشارة، أو كناية بأي لفظ وقع، وعلى أي صفة كان، وبأي إشارة مفيدة حصل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، فإذا وجدت طيبة

أنواع البيوع المحرمة

النفس مع التراضي؛ فلا يعتبر غير ذلك. أقول: هذا غاية ما يستفاد من الأدلة؛ أعني: أن المعتبر في البيع هو مجرد التراضي، والمشعر بالرضا لا ينحصر فيما ذكروه من الألفاظ المخصوصة المقيدة بقيود، بل ما أشعر بالرضا ولو بكناية، أو إشارة، أو معاطاة من دون لفظ ولا ما في معناه؛ فإن البيع عند وجود المشعر بمطلق الرضا بيع صحيح، وعلى مدعي الاختصاص الدليل. ولا ينفعه في المقام مثل حديث: " إذا بعت "، وحكاية مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي، وما أشبه ذلك؛ لأنا لا نمنع من إشعار لفظ: (بعت) ونحوه بالرضا، وإنما نمنع دعوى التخصيص ببعض الأفراد التي لا تستفاد إلا من صيغ مخصوصة، ومن ههنا يلوح لك أن قولهم: (لا ربا في المعاطاة) باطل، وهكذا أخواته. والحاصل: أنا لم نجد في الكتاب والسنة بعد ذكر مطلق البيع إلا قيد الرضا، والأمور المشعرة به أعم من الألفاظ التي اصطلح عليها الفقهاء، فيندرج تحت الرضا كل ما دل عليه؛ ولو إشارة من قادر، وكتابة من حاضر (¬1) . ( [أنواع البيوع المحرمة] :) (1 -[بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام] :) (ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) ؛ لحديث جابر في ¬

_ (¬1) • وقد أشبع القول في هذه المسألة ابن تيمية في " الفتاوى " (3 / 267 - 274 - خاتمة " إبطال التحليل ") . (ن)

بيع الكلب والسنور

" الصحيحين " وغيرهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". (2 -[بيع الكلب والسنور] :) (والكلب والسنور) ؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي مسعود؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب. وفيهما (¬1) أيضا من حديث أبي جحيفة نحوه. وفي " صحيح مسلم " (¬2) ، وغيره من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور. وأخرج النسائي بإسناد رجاله ثقات؛ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب؛ إلا كلب صيد (¬3) . ¬

_ (¬1) لم يخرجه مسلم من حديث أبي جحيفة؛ بل حديث أبي جحيفة من أفراد البخاري؛ وانظر " المسند الجامع " (15 / 713) . (¬2) • و " المسند " (3 / 286، 297، 339) . (ن) (¬3) • قلت: أخرجه النسائي (2 / 231) ، والبيهقي (6 / 6) ؛ من طريق أبي الزبير، عن جابر ... مرفوعا به، وهو على شرط مسلم، لكن أبو الزبير مدلس، وقد عنعنه؛ وقد قال النسائي عقبه: " هذا منكر ". وأعله البيهقي بأن قوله: " إلا كلب صيد " لم يرد في الأحاديث الصحيحة، قال: " وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح؛ في النهي عن الاقتناء ". ثم الحديث رواه أحمد أيضا (3 / 317) . وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ رواه الترمذي (2 / 251) ، وقال: " لا يصح من هذا الوجه ". قلت: رواه البيهقي (6 / 6) من وجه آخر، عن أبي هريرة، وضعفه. وله شاهد آخر من حديث ابن عمر، وسنده ضعيف أيضا، كما قال الحافظ. فلعل هذا الاستثناء يقوى بهذه الطرق والشواهد، ثم خرجته في " الصحيحة " (2971) . (ن)

بيع الدم

قال في " المسوى ": " اختلفوا في بيع الكلب؛ فقال الشافعي: حرام، وقال أبو حنيفة: جائز، ويضمن متلفه ". (3 -[بيع الدم] :) (والدم (¬1)) ؛ لحديث أبي جحيفة في " الصحيحين "، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم ثمن الدم. 4 - ( [عسب الفحل] :) (وعسب الفحل) : وهو ماء الفحل؛ يكريه صاحبه؛ لينزي به: لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل. ومثله في " صحيح مسلم " من حديث جابر. وفي الباب أحاديث. ورخص (¬2) في الكرامة؛ وهي ما يعطى على عسب الفحل؛ من غير شرط شيء عليه؛ كذا في " الحجة البالغة ". ¬

_ (¬1) • وهو حرام إجماعا - أعني: بيع الدم، وأخذ ثمنه -: " الفتح " (5 / 338) . (ن) قلت: انظر التعليق (1) من الصفحة السابقة. (¬2) • يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه حديث؛ رواه الترمذي (2 / 256) - وحسنه -؛ وسنده صحيح على شرط البخاري. (ن)

بيع المحرم

(5 -[بيع المحرم] :) (وكل حرام) : لما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث جابر: قيل: يا رسول الله {أرأيت شحوم الميتة؛ فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرام "، ثم قال: " قاتل الله اليهود} إن الله لما حرم شحومها؛ جملوه (¬1) ثم باعوه؛ وأكلوا ثمنه ". وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود من حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لعن الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم؛ فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء؛ حرم عليهم ثمنه ". قال ابن القيم في " الإعلام ": " وفي قوله: " حرام " قولان: أحدهما: أن هذه الأفعال حرام. والثاني: أن البيع حرام؛ وإن كان المشتري يشتريه لذلك. ¬

_ (¬1) بفتح الجيم والميم المخففة؛ أي: أذابوه، والجميل: الشحم المذاب. (ش) (¬2) • في " المسند " (رقم 2221) ، 2678) . وله فيه (رقم 2980، 3373) حديث آخر في الخمر؛ بلفظ: " إن الذي حرم شربها حرم بيعها ". (ن)

بيع فضل الماء

والقولان مبنيان على أن السؤال؛ هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور؟ أو عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره شيخنا، وهو الأظهر (¬1) ؛ لأنه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع، فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا الانتفاع، فلم يرخص لهم في البيع، ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة، والله - تعالى - أعلم ". انتهى. قلت: والأقرب إلى السنة ما ذهب إليه الماتن. (6 -[بيع فضل الماء] :) (وفضل الماء) (¬2) ؛ لحديث إياس بن عبد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء؛ رواه أحمد (¬3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -. وقال القشيري: هو على شرط الشيخين. ولحديث جابر عند مسلم، وأحمد، وابن ماجه بنحوه. ¬

_ (¬1) • بل هو الحق؛ لأن حديث جابر عند أحمد بلفظ: قال رجل: يا رسول الله! فما ترى في بيع شحوم الميتة؛ فإنها تدهن بها السفن ... الحديث. وسنده صحيح؛ وانظر " الفتح " (4 / 337) . (ن) (¬2) • معناه: ما فضل عن حاجته، وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه: " معالم السنن " (5 / 122) . (ن) (¬3) • في " المسند " (3 / 417) ؛ وزاد في آخره: قال: والناس يبيعون ماء الفرات، فنهاهم - يعني: إياس بن عبد -. وسنده صحيح. (ن)

بيع الغرر

وقد ورد مقيدا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ ". وفي لفظ: " لا يباع فضل الماء ليمنع به الكلأ "؛ وهو في " مسلم ". (7 -[بيع الغرر] :) (وما فيه غرر كالسمك في الماء) ، وهو استتار عاقبة الشيء، وتردده بين جهتين ممكنتين؛ كبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر. وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشتروا السمك في الماء؛ فإنه غرر " (¬1) . وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد رجح البيهقي وقفه، ولكنه داخل في بيع الغرر. قال في " المسوى ": " قال مالك: ومن الغرر والمخاطرة: أن يعمد الرجل قد ضلت دابته، أو أبق غلامه، وثمن شيء من ذلك خمسون دينارا، فيقول رجل: أنا آخذه منك بعشرين دينارا؛ فإن وجده المبتاع ذهب من البائع ثلاثون دينارا، وإن لم يجده ذهب البائع من المبتاع بعشرين دينار. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع " لشيخنا

بيع حبل الحبلة

قال مالك: وفي ذلك أيضا عيب آخر؛ أن تلك الضالة إن وجدت؛ لم يدر زادت أم نقصت، أم ما حدث بها من العيوب؟ {وهذا أعظم المخاطرة. قال مالك: والأمر عندنا: أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإناث من النساء والدواب؛ لأنه لا يدري أيخرج أم لا يخرج؟} فإن خرج لم يدر أيكون حسنا، أم قبيحا، أم تاما، أم ناقصا، أم ذكرا، أم أنثى؟ ! وذلك كله يتفاضل؛ إن كان على كذا فقيمته كذا، وإن كذا فقيمته كذا ". انتهى (¬1) . (8 -[بيع حبل الحبلة] :) (وحبل الحبلة (¬2)) : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ كما في " مسلم "، وغيره من حديث ابن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة؛ أخرجه مالك. ¬

_ (¬1) • قال النووي: " النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع، فيدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعا، فلو أفرد لم يصح بيعه، والثاني: ما يتسامح بمثله؛ إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه. فمن الأول: بيع أساس الدار، والدابة التي في ضرعها لبن، والحامل، ومن الثاني: الجبة المحشوة، والشرب من السقاء ". قال: " وما اختلف العلماء فيه مبني على اختلافهم في كونه حقيرا، أو يشق تمييزه، أو تعيينه، فيكون الغرر فيه كالمعدوم، فيصح البيع، وبالعكس ": " الفتح " (4 / 284) . وقد فصل ابن تيمية القول فيما يجوز من الغرر في فصل عقده في " القواعد النورانية " (ص 115 - 137) ، فراجعه؛ فإنه نفيس جدا. (ن) . (¬2) • " بالتحريك: مصدر سمي به المحمول؛ كما سمي بالحمل، وإنما دخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني حبل الذي في بطون النوق، وإنما نهي عنه لمعنيين: أحدهما: أنه غرر وبيع شيء لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة - على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج النتاج ": نهاية. (ن)

وفي " الصحيحين ": كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة - وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها، ثم تحمل التي نتجت -؛ فنهاهم عن ذلك. وقد قيل: إنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال. وقيل: بيع ولد ولدها؛ كما في الرواية. وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام؛ كما في حديث أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجه، والبزار، والدارقطني، وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه ضعف. وروى مالك؛ عن سعيد بن المسيب، أنه قال: لا ربا في الحيوان، وإنما نهي من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة؛ فالمضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال. قلت: وعليه أهل العلم. قال محمد: هذه البيوع كلها مكروهة، ولا ينبغي مباشرتها؛ لأنها غرر عندنا. وفي " المنهاج ": " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة - وهو نتاج النتاج؛ بأن يبيع نتاج

بيع المنابذة

النتاج أو بثمن إلى نتاج النتاج -، وعن الملاقيح - وهي ما في البطون -، والمضامين - وهي ما في أصلاب الفحول - ". (9 -[بيع المنابذة] :) (والمنابذة) : أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه؛ على غير تأمل، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا؛ فهذا الذي نهي عنه. (10 -[بيع الملامسة] :) (والملامسة) : أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلا ولا يعلم ما فيه؛ لحديث أبي سعيد في " الصحيحين "؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع. وأخرج نحوه مالك في " الموطإ " من حديث أبي هريرة، وفسرهما بما تقدم. ولفظ الماتن: الملامسة: لمس ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض؛ كذا في الرواية. وفي الباب عن أنس عند البخاري. قلت: وعليه أهل العلم. قال [في] " المحلى ": " والبطلان فيهما لعدم الرؤية، أو عدم الصيغة (¬1) ، ¬

_ (¬1) قوله: " أو عدم الصيغة "؛ أي: بعت واشتريت. اه. (ش)

بيع المجهول

أو الشرط الفاسد؛ أي: لا خيار له إذا رآه "؛ كذا في " المسوى ". (11 -[بيع المجهول] :) (وما في الضرع، والعبد الآبق، والمغانم حتى تقسم، والثمر حتى يصلح، والصوف في الظهر، والسمن في اللبن) ؛ لحديث أبي سعيد - المتقدم - في النهي عن شراء ما في بطون الأنعام؛ فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد الآبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم. وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم؛ من حديث ابن عباس عند النسائي، ومن حديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود. وقد ورد النهي عن بيع الثمر حتى يُطعم (¬1) ، والصوف على الظهر، واللبن في الضرع، والسمن في اللبن؛ من حديث ابن عباس أيضا عند الدارقطني، والبيهقي؛ وفي إسناده عمر بن فروخ، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات؛ لأن الغرر يصدق على جميع هذه الصور. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ نهى البائع والمبتاع. وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي هريرة. ¬

_ (¬1) أي: يكون لها طعام؛ كما في " النهاية ".

بيع المحاقلة

وفي " الصحيحين " من حديث أنس نحوه. قال مالك: " الأمر عندنا في بيع البطيخ، والقثاء، والخربز (¬1) ، والخربز: أن بيعه - إذا بدا صلاحه - حلال جائز، ثم يكون للمشتري ما ينبت حتى ينقطع ثمره ويهلك. وليس في ذلك وقت مؤقت، وذلك أن وقته معروف، وربما دخلته العاهة، فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا؛ كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه ". (12 -[بيع المحاقلة] :) (والمحاقلة) : بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم. قال مالك: المحاقلة كراء الأرض بالحنطة. وقال في " المسوى ": " المحاقلة: بيع الزرع بعد اشتداد الحب نقيا ". (13 -[بيع المزابنة] :) (والمزابنة) : بيع ثمر النخل بأوساق من التمر. وقال مالك: ¬

_ (¬1) الخربز - بكسر الخاء والباء وبينهما راء ساكنة -: البطيخ؛ وأصل الكلمة فارسي. (ش)

" المزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل ". وقال في " المسوى ": " المزابنة: بيع الثمر على الشجر بجنسه على الأرض. قال مالك: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، وتفسير المزابنة: أن كل شيء من الجزاف الذي لا يُعلم كيله، ولا وزنه، ولا عدده؛ ابتيع بشيء مسمى من الكيل، والوزن، والعدد. وذلك أن يقول الرجل للرجل؛ يكون له الطعام المصبر الذي لا يعلم كيله من الحنطة والتمر، أو ما أشبه ذلك من الأطعمة، أو يكون للرجل السلعة من الخبط، أو النوى، أو القضب، أو العصفر، أو الكرسف، أو الكتان، أو القز، أو ما أشبه ذلك من السلع، لا يعلم كيل شيء من ذلك، ولا وزنه، ولا عدده، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كِل سلعتك هذه، أو مر من يكيلها، أو زن من ذلك ما يوزن، أو اعدد منها ما كان يعد؛ فما نقص من كذا وكذا صاعا - لتسمية يسميها -، أو وزن كذا وكذا رطلا، أو عدد كذا وكذا؛ فما نقص من ذلك؛ فعلي غرمه حتى أوفيك تلك التسمية، فما زاد على تلك التسمية فهو لي؛ أضمن ما نقص من ذلك على أن يكون لي ما زاد. فليس ذلك بيعا؛ ولكنه المخاطرة، والغرر والقمار يدخل هذا؛ لأنه لم يشتر منه شيئا بشيء أخرجه، ولكن ضمن له ما سمى من ذلك الكيل أو الوزن أو العدد؛ على أن يكون له ما زاد على ذلك، فإن نقصت تلك السلعة

بيع المعاومة

من تلك التسمية؛ أخذ من مال صاحبه ما نقص بغير ثمن أعطاه إياه، وإن زادت تلك السلعة على تلك التسمية؛ أخذ الرجل من مال رب السلعة مالا بغير ثمن ولا هبة، طيبة بها نفسه؛ فهذا يشبه القمار. وما كان مثل هذا من الأشياء؛ فذلك يدخله. قلت في " شرح السنة ": والعمل على هذا عند عامة أهل العلم. والعلة في النهي: أن المساواة بينهما شرط، وما على الشجر لا يحرز بكيل ولا وزن، وإنما يكون تقديره بالخرص، وهو حدس وظن لا يؤمن فيه من التفاوت. فأما إذا باع بجنس آخر من الثمار على الأرض أو على الشجر؛ يجوز؛ لأن المماثلة بينهما غير شرط، والتقابض شرط في المجلس، وقبض ما على الأرض بالنقل، وقبض ما على الشجر بالتخلية. أقول: ومعنى هذا الكلام: أن سبب التحريم هو شبه الربا، ومعنى قول مالك؛ أن سبب التحريم معنى القمار، وكلا الأمرين صحيح ". انتهى. (14 -[بيع المعاومة] :) (والمعاومة) : بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد، والجميع بيع غرر وجهالة. (15 -[بيع المخاضرة] :) (والمخاضرة) : بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها.

بيع العربون

دليل ذلك: حديث أنس عند البخاري، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمخاضرة، والمنابذة، والملامسة، والمزابنة. وفي " الصحيحين " من حديث جابر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة، والمزابنة، والمعاومة. وفي الباب أحاديث. (16 -[بيع العربون] :) (والعربون) : هو أن يعطي المشتري البائع درهما أو نحوه قبل البيع؛ على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء؛ لما أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون. ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرزاق في " مسنده " عن زيد بن أسلم: أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان (¬1) في البيع؟ فأحله؛ لأن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، وهو ضعيف؛ وأيضا الحديث مرسل. قال في " المسوى ": " قال مالك: وذلك فيما نرى - والله تعالى أعلم -: أن يشتري الرجل العبد، أو الوليدة، أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشتراه منه، أو تكارى ¬

_ (¬1) العربون والعربان؛ بضم العين فيهما. (ش) قلت: والحديث الوارد في النهي عن العربان: ضعفه شيخنا في " ضعيف الجامع " (6073) ، وغيره. وقد وقفت للحديث على طرق؛ لم أفرغ لنقدها ودراستها.

بيع العصير إلى من يتخذه خمرا

منه: أعطيتك دينارا، أو درهما، أو أقل، أو أكثر من ذلك؛ على أني إن أخذت السلعة، أو ركبت ما تكاريت منك؛ فالذي أعطيتك من ثمن السلعة، أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة، أو كراء الدابة؛ فما أعطيتك فهو لك بغير شيء. قلت: وعليه أهل العلم. في " المنهاج ": ولا يصح بيع العربون؛ بأن يشتري ويعطيه دراهم لتكون من الثمن إن رضي السلعة؛ وإلا فهي هبة. قال [في] " المحلى " (¬1) : وعدم صحته لاشتماله على شرط الرد، والهبة إن لم يرض السلعة ". انتهى. (17 -[بيع العصير إلى من يتخذه خمرا] :) (والعصير إلى من يتخذه خمرا) ؛ لحديث: " لُعن بائع الخمر، وشاربها، ومشتريها، وعاصرها "؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ورجاله ثقات؛ من حديث أنس. وأخرج نحوه أحمد، وابن ماجه، وأبو داود؛ وفي إسناده عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي (¬2) ، وقد قيل: إنه غير معروف. وقيل: إنه معروف، وهو ¬

_ (¬1) أي: قال ابن حزم في " المحلى ". (ش) (¬2) • قلت: لكنه عند أبي داود مقرون بأبي علقمة - مولاهم -، وهو ثقة من رجال مسلم، وبقية رجال الحديث ثقات رجال مسلم، فالحديث صحيح الإسناد، فلا يضر رواية الغافقي له، بل يقويه؛ لأنه متابعة. وقد أشار لهذا الحافظ؛ حيث قال في ترجمته من " التقريب ": " مقبول ". وقد قال ابن تيمية: " إنه حديث جيد؛ وهو من رواية ابن عمر ". (ن)

من أمراء الأندلس؛ وصحح الحديث ابن السكن. وأخرج الطبراني في " الأوسط "، عن بريدة، مرفوعا: " من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه؛ من يهودي، أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرا؛ فقد تقحم النار على بصيرة "؛ وإسناده حسن، كما قال الحافظ (¬1) . وأخرجه أيضا البيهقي، وزاد: " أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرا ". ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي (¬2) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا القينات المغنيات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام ". وفي الباب أحاديث. وأخرج مالك، عن ابن عمر: أن رجالا من أهل العراق قالوا له: يا أبا عبد الرحمن {إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب؛ فنعصره خمرا فنبيعها؟ فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس؛ أني لا آمركم أن تبيعوها، ولا تبتاعوها، ولا تعصروها، ولا تسقوها؛ فإنها رجس من عمل الشيطان. ¬

_ (¬1) • وفيه نظر؛ فقد قال الهيثمي بعد أن عزاه ل " الأوسط " (4 / 90) : " وفيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب ". ولعل الحافظ حسنه اعتمادا على توثيق ابن حبان لعبد الكريم هذا، كما نقله في " اللسان "، ولا يخفى أن توثيق ابن حبان وحده متكلم فيه، كما بينه الحافظ في مقدمة " لسانه "} (ن) (¬2) ولا يصح. (ن)

بيع المعدوم بالمعدوم

قلت: وعليه أهل العلم. (18 -[بيع المعدوم بالمعدوم] :) (والكالئ بالكالئ) أي: المعدوم بالمعدوم؛ لحديث ابن عمر عند الدارقطني، والحاكم - وصححه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. ولكنه اعترض على الحاكم بأنه وهم في تصحيحه؛ لأن في إسناده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف (¬1) . ولكنه قد رواه الشافعي، بلفظ: " نهى عن الدَّين بالدَّين ". ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ؛ دين بدين؛ وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي (¬2) ، وهو ضعيف، وقد قال أحمد فيه: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وقال: " ليس في هذا أيضا حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين ". انتهى. يعني: روي الإجماع على معنى الحديث، فشد ذلك من عضده؛ لأنه صار متلقى بالقبول، ويؤيده النهي عن بيع الملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة؛ ¬

_ (¬1) • قلت: والصواب أن يقال: وهم الحاكم في إسناده؛ فإنه قال: " موسى بن عقبة "، وهذا ثقة، ولكن قد خطأه تلميذه البيهقي في " السنن " (5 / 290) ، وقال: " إنما هو موسى بن عبيدة ". (ن) (¬2) • " الربذي ": نسبة إلى (الربذة) ؛ مدفن أبي ذر الغفاري قرب المدينة، كما في " القاموس ". (ن)

بيع السلعة قبل قبضها

لأن العلة في ذلك هي كونه بيع معدوم. وتقويه أيضا الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض؛ كحديث: " إذا كان يدا بيد "، وهو في " الصحيح "، وحديث: " ما لم تتفرقا وبينكما شيء ". (19 -[بيع السلعة قبل قبضها] :) (وما اشتراه قبل قبضه) ؛ لحديث جابر عند مسلم، وغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ابتعت طعاما؛ فلا تبعه حتى تستوفيه ". وأخرج مسلم - أيضا - وغيره، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حتى تستوفى. وأخرج أحمد من حديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا اشتريت شيئا؛ فلا تبعه حتى تقبضه "؛ وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي (¬1) . وأخرج أبو داود (¬2) ، والدارقطني، والحاكم، وابن حبان - وصححاه - من ¬

_ (¬1) وثقه ابن حبان، وكذبه التبوذكي. (ش) • قلت: وابن حبان تناقض فيه؛ فإنه ذكره في " الضعفاء " أيضا؛ وقال: " لا يحل ذكره إلا بالقدح "، ولذلك جزم الحافظ في " التقريب " بضعفه. لكن الحديث صحيح؛ فإن له شاهدا من حديث ابن عباس؛ أخرجه أبو داود (2 / 104) ؛ وسنده صحيح. ثم رأيت حديث حكيم في " البيهقي " (5 / 313) ؛ من طريق أخرى - وحسنه -. (ن) (¬2) • في " السنن " (2 / 104) ، و " المستدرك " (2 / 40) ، والبيهقي أيضا (5 / 314) ؛ ورجالهم ثقات؛ لكن فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه. لكن تابعه جرير بن حازم عند الدارقطني (294) ؛ فثبت الحديث. (ن)

حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع؛ حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وفي الباب أحاديث، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وفي " الحجة البالغة ": " قيل: مخصوص بالطعام؛ لأنه أكثر الأموال تعاورا وحاجة، ولا ينتفع به إلا بإهلاكه، فإذا لم يستوفه؛ فربما تصرف فيه البائع، فيكون قضية في قضية. وقيل: يجري في المنقول؛ لأنه مظنة أن يتغير ويتعيب، فتحصل الخصومة في الخصومة. وقال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. وهو الأقيس بما ذكرنا في العلة ". انتهى. قال في " المسوى ": " قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا - الذي لا اختلاف فيه -: أنه من اشترى طعاما؛ برا، أو شعيرا، أو سلتا، أو ذرة، أو دخنا، أو شيئا من الحبوب القطنية، أو شيئا مما يشبه القطنية مما تجب فيه الزكاة، أو شيئا من الأدم كلها: الزيت، والسمن، والعسل، والخل، والجبن، واللبن، والشبرق، وما أشبه ذلك من الأدم؛ فإن المبتاع لا يبيع شيئا من ذلك؛ حتى يقبضه ويستوفيه ".

بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان

وفي " شرح السنة ": " اتفق أهل العلم على أن من ابتاع طعاما؛ لا يجوز له بيعه قبل القبض، واختلفوا فيما سواه: فقال الشافعي، ومحمد: لا فرق بين الطعام، والسلع، والعقار في أن بيع شيء منها لا يجوز قبل القبض. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يجوز بيع العقار قبل القبض، ولا يجوز بيع المنقول. وقال مالك: ما عدا المطعوم؛ يجوز بيعه قبل القبض. قلت: كان الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا، وكان الناس يبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها، ويعطون المشتري الصك ليمضي به ويقبضه؛ فذلك بيع الصكوك ". انتهى. (20 -[بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان] :) (والطعام حتى يجري فيه الصاعان) ؛ لحديث عثمان عند أحمد، والبخاري (¬1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ¬

_ (¬1) • إطلاق العزو إليه يفيد أنه أخرجه موصولا؛ وليس كذلك؛ فإنما أخرجه (4 / 274) معلقا. وقد وصله أحمد رقم (444) ، وابن ماجه، والبيهقي (5 / 315) ، وسنده صحيح، وإن كان فيه ابن لهيعة؛ فقد رواه عنه عبد الله بن يزيد المقري، وابن المبارك، والليث بن سعد. وله طريق أخرى عن عثمان عند الدارقطني، والبيهقي. وقد أشار الحافظ إلى تقوية الحديث؛ فراجع " الفتح ". (ن)

بيع الثنيا

" إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل ". وأخرج ابن ماجه (¬1) ، والدارقطني، والبيهقي، من حديث جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري؛ وفي إسناده ابن أبي ليلى. وفي الباب عن أبي هريرة بإسناد حسن (¬2) ، وعن غيره بأسانيد فيها مقال. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. (21 -[بيع الثنيا] :) (ولا يصح الاستثناء في البيع) ؛ مثل أن يبيع عشرة أفراق إلا شيئا؛ لأن فيه جهالة مفضية إلى المنازعة، والمفسد هو المفضي إلى المنازعة. (إلا إذا كان معلوما) ؛ لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ¬

_ (¬1) • (2 / 27) . (ن) (¬2) • كذلك قال الحافظ في " الفتح " (4 / 279) . لكن قال الهيثمي في " المجمع " (4 / 99) : " رواه البزار؛ وفيه مسلم بن أبي مسلم الجرمي؛ ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله رجال الصحيح ". قلت: مسلم - هذا - له ترجمة في " تاريخ بغداد " (13 / 100) ؛ وقال: " وكان ثقة "، وأورده ابن حبان في " الثقات "؛ وقال: " ربما أخطأ "؛ كما نقله الحافظ في " اللسان "؛ وذكر له حديثا برواية البيهقي؛ وقال: " إنه غير قوي "، فقال الحافظ: " قلت: وليس في إسناده من ينظر فيه؛ غير مسلم هذا ". قلت: فهذا يدل على أن الحافظ أحفظ للرجال من شيخه الهيثمي. وهذا الحديث رواه البيهقي أيضا (5 / 316) ، وذكر له شاهدا مرسلا؛ وقال: " إنه قوي بطرقه ". (ن)

عن بيع الثنيا. وزاد النسائي، والترمذي، وابن حبان - وصححاه -: " إلا أن تعلم " (¬1) . والمراد: أن يبيع شيئا ويستثني منه شيئا مجهولا - لا إذا كان معلوما -؛ فيصح. (ومنه) ؛ أي: من الثنيا المعلومة (استثناء) جابر (ظهر المبيع) ؛ أي: جمله إلى المدينة؛ بعد أن باعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديثه. قال النووي في " شرح مسلم ": " الثنيا المبطلة للبيع: قوله: بعتك هذه الصبرة إلا بعضها، أو هذه الأشجار إلا بعضها؛ فلا يصح البيع؛ لأن المستثنى مجهول. ولو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو إلا ربعها، أو الصبرة إلا ثلثها، أو بعتك بألف إلا درهما: صح البيع باتفاق العلماء. ولو باع الصبرة إلا صاعا منها؛ فالبيع باطل عند الشافعي. وصحح مالك أن يستثني منها ما لا يزيد على ثلثها، وإذا باع ثمرة نخلات واستثنى عشرة آصع للبائع؛ فمذهب الشافعي، وأبي حنيفة، والعلماء كافة: بطلان البيع. ¬

_ (¬1) وصحح الزيادة الإمام النووي في " شرح صحيح مسلم ".

البيع المفرق بين المحارم

وقال مالك، وجماعة من علماء المدينة: يجوز ذلك؛ ما لم يزد على قدر ثلث الثمرة ". (22 -[البيع المفرق بين المحارم] :) (ولا يجوز التفريق بين المحارم) ؛ لحديث أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من فرق بين والدة وولدها؛ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ". أخرجه أحمد، والترمذي، والدارقطني، والحاكم وصححه. وحديث علي: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين؛ فبعتهما وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له؛ فقال: " أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعا ". أخرجه أحمد، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم (¬1) . وحديث أبي موسى، قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه (¬2) . أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، ولا بأس بإسناده. وحديث علي: أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ¬

_ (¬1) حديث صحيح بطرقه؛ انظر " غوث المكدود " (575) . (¬2) ضعفه شيخنا في " أحاديث البيوع ".

بيع الحاضر للباد

وردّ البيع (¬1) . أخرجه أبو داود، والدارقطني، والحاكم - وصححه -؛ وقد أعل بالانقطاع. وفي الباب أحاديث. وقد قيل: إنه مجمع على ذلك؛ وفيه نظر. أقول: الاختلاف في هذه المسألة - أعني: بيع أمهات الأولاد بين الصحابة - أشهر من نار على علم، وروي عن علي - كرم الله وجهه - الموافقة لعمر ومن معه في عدم جواز بيعهن، ثم صح عنه القول بجواز البيع. وقد ذكر الماتن في " شرح المنتقى " متمسكات الجميع، فليرجع إليه. والعجب ممن يزعم أن تحريم البيع قطعي. وأما المدبر؛ فقد دلت الأدلة الصحيحة على جواز بيعه للحاجة؛ كالدَّين، والإعواز عن النفقة، ونحوهما. (23 -[بيع الحاضر للباد] ) (ولا أن يبيع حاضر لباد) (¬2) ؛ لحديث ابن عمر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ¬

_ (¬1) يشهد له ما قبله من الأحاديث. (¬2) • أي: سواء كان بأجرة أم لا؛ كما صرح في " النيل " (9 / 140) ؛ قال: " وكما لا يجوز أن يبيع الحاضر للباد؛ كذلك لا يجوز أن يشتري له، وبه قال ابن سيرين والنخعي "، وراجع تمام كلامه فيه. (ن)

بيع النجش

يبيع حاضر لباد؛ أخرجه البخاري. وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ". وفي " الصحيحين " من حديث أنس، قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد؛ وإن كان أخاه لأبيه وأمه. قلت: وعليه أهل العلم. وفي " المنهاج ": " بيع حاضر لباد؛ بأن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه؛ ليبيعه بسعر يومه، فيقول بلديّ: اتركه عندي لأبيعه على التدريج ". وفي " الوقاية ": " كره بيع الحاضر للبادي؛ طمعا في الثمن الغالي زمان القحط ". انتهى. (24 -[بيع النجش] :) (والتناجش) : وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة؛ لرفع ثمنها. وعن ابن عمر عند مالك، قال: النجش: أن تعطيه في السلعة أكثر من ثمنها، وليس في نفسك اشتراء، فيقتدي بك غيرك. وفي " الصحيحين "، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، وأن يتناجشوا

بيع المسلم على المسلم

وفيهما من حديث ابن عمر، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش. وأخرجه مالك أيضا. قلت: وعليه أهل العلم. وفي " المنهاج ": " ومن المنهي عنه: النجش؛ بأن يزيد في الثمن لا لرغبة؛ بل ليخدع غيره فيشتريها ". وفي " الوقاية ": " كره النجش ". (25 -[بيع المسلم على المسلم] :) (والبيع على البيع) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد، والنسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ". وهو في " الصحيحين " أيضا بنحو ذلك. وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا: " لا يبيع الرجل على بيع أخيه ". وقد ورد أن: " من باع من رجلين؛ فهو للأول منهما " (¬1) . أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وصححه أبو زرعة، وأبو حاتم، والحاكم. وفي " الموطإ " من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبع ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ كما في " الإرواء " (1853) .

الشراء من الركبان

بعضكم على بعض ". قلت: وعليه الشافعي. وفي " المنهاج ": " ومن المنهي عنه: البيع على بيع غيره قبل لزومه؛ بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثله، والشراء على الشراء؛ بأن يأمر البائع بالفسخ ليشتريه بأكثر ". وفي " شرح السنة ": " عند الحنفية: المراد بالبيع على بيع أخيه: هو السوم؛ لأن عنده؛ خيار المكان لا يثبت بالبيع، فلا يتصور بعد التواجب بيع الغير عليه ". (26 -[الشراء من الركبان] :) (وتلقي الركبان) ؛ بأن يتلقى طائفة يحملون متاعا إلى البلد، فيشتريه منهم قبل قدومهم ومعرفتهم بالسعر، وله الخيار إذا عرف الغبن؛ كذا في " المنهاج "؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب، فإن تلقاه إنسان فابتاعه؛ فصاحب السلعة فيها بالخيار؛ إذا ورد السوق. وفي " الصحيحين " من حديث ابن مسعود، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع. وفيهما أيضا نحو ذلك من حديث ابن عمر، وابن عباس.

احتكار الطعام حرام

وفي " الموطإ " من حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تلقوا الركبان للبيع، ولا يبع بعضكم على بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم ". قلت: وعليه أهل العلم. ( [احتكار الطعام حرام] :) (والاحتكار) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد (¬1) ، والحاكم، وابن أبي شيبة، والبزار، وأبي يعلى مرفوعا: " من احتكر الطعام أربعين ليلة؛ فقد برئ من الله وبرئ الله منه ". وفي إسناده أصبغ بن زيد، وفيه مقال (¬2) . وأخرج مسلم (¬3) ، وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: " لا يحتكر إلا خاطئ ". ¬

_ (¬1) • رقم (4880) . (ن) (¬2) • وقال الذهبي في " التلخيص " (2 / 12) : " فيه لين ". (ن) قلت: وحديثه - هذا - موضوع؛ كما في " الضعيفة " (858 - 859) . ومال شيخنا في " غاية المرام " (رقم 324) إلى ضعفه فحسب؛ لا إلى وضعه. (¬3) • في " صحيحه " (5 / 56) ، وفي لفظ له: " من احتكر فهو خاطئ ". وقد ذكره المنذري في " الترغيب " (3 / 26) بزيادة: " طعاما "، ثم عزاه لمسلم، وأبي داود، والترمذي، وصححه ابن حبان، وابن ماجه، قال: ولفظهما، قال: " لا يحتكر إلا خاطئ ". وفيه وهمان: الأول: أن اللفظ الثاني رواية لمسلم أيضا، وهو رواية أبي داود (2 / 98) ، وليست عنده الأولى. الوهم الثاني: أن الزيادة المذكورة ليست عند مسلم ولا عند أحمد ممن خرج الحديث، وهو عند ابن ماجه (2 / 7) ، والترمذي (2 / 253) ، والبيهقي (6 / 29 - 30) ، و " المسند " (3 / 453، 6 / 400) . (ن)

وأخرج نحوه أحمد، والحاكم من حديث أبي هريرة (¬1) . قلت: وعليه أهل العلم. قال النووي في " شرح مسلم ": " قال أصحابنا: الاحتكار المحرم: هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه. فأما إذا اشتراه، أو جاء من قرية وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في الوقت؛ فليس باحتكار، ولا تحريم فيه. وأما غير الأقوات؛ فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال؛ هذا تفصيل مذهبنا ". وفي " الهداية ": " يكره الاحتكار في أقوات الآدمي والبهائم؛ إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله، ومن احتكر غلة ضيعته أو جلبه من بلد آخر؛ فليس بمحتكر ". أقول: الحق: أن الأحاديث المطلقة في تحريم الاحتكار مقيدة بالطعام (¬2) ، ¬

_ (¬1) • قلت: ولفظه في " المستدرك " (2 / 12) ، وعند البيهقي (6 / 30) : " من احتكر يريد أن يغالي بها على المسلمين؛ فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله "؛ سكت عليه، وتعقبه الذهبي بأن فيه إبراهيم بن إسحاق العسيلي، كان يسرق الحديث، والمنذري (3 / 28) بأن فيه مقالا. ثم إن عزوه ل " المسند " فيه نظر؛ فإني لم أجده عنده، ولم ينسبه إليه المنذري، ولا الحافظ في " القول المسدد " (ص 21) . (ن) (¬2) • قلت: فيه نظر؛ فإن الأحاديث التي فيها قيد الطعام لا يصح فيها شيء؛ مثل حديث ابن عمر المتقدم، وحديث أبيه عمر - المذكور في " الترغيب " (3 / 26 - 27) -؛ فإنه ضعيف، مجهول، كما بينته فما علقته عليه. وعلى فرض صحة شيء منها؛ فقد أجاب الشوكاني بأن لفظ الطعام في بعض الروايات لا يصلح

التسعير جائز عند الحاجة

فلا يصح ما قيل من تحريم احتكار قوت البهائم؛ والقياس له على قوت الآدمي قياس مع الفارق. ولا يكون الاحتكار محرما إلا إذا كان لقصد أن يغلي ذلك على المسلمين - كما ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والحاكم -؛ فاعتبار هذا القيد لا بد منه، فمن لم يقصد ذلك؛ لم يحرم عليه الاحتكار. وظاهره: أن القاصد باحتكاره غلاء الأسعار على المسلمين داخل تحت النهي والوعيد؛ سواء كان بالمسلمين حاجة أم لا؛ لأن هذا القصد بمجرده كاف. أما إجبار المحتكر على البيع فجائز - إن لم يكن واجبا -؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان على كل مكلف. ( [التسعير جائز عند الحاجة] :) (والتسعير) ؛ لحديث أنس عند أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والبزار، وأبي يعلى: أن السعر غلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله! سعر لنا؛ فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال "؛ وصححه ابن حبان، والترمذي. ¬

_ لتقييد بقية الروايات المطلقة؛ بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق؛ وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام؛ إنما هو لمفهوم اللقب؛ وهو غير معمول به عن الجمهور، وما كان كذلك؛ لا يصلح للتقييد، على ما تقرر في الأصول. وهذا هو التحقيق الحقيق بالقبول؛ فراجع كلامه في " النيل " (5 / 188) . (ن)

وضع الجوائح

وفي الباب أحاديث. وفي " الهداية ": " ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس؛ فإن كان أرباب الطعام يتحكمون، ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير؛ فحينئذ لا بأس به؛ بمشورة من أهل الرأي والبصر ". انتهى. ( [وضع الجوائح] :) (ويجب وضع الجوائح) ؛ الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال؛ لحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع الجوائح؛ أخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود. وأخرجه أيضا مسلم بلفظ: أمر بوضع الجوائح. وفي لفظ لمسلم، وغيره: " إن كنت بعت من أخيك ثمرا، فأصابتها جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا؛ بم تأخذ مال أخيك؟ ! ". وفي الباب عن عائشة في " الصحيحين ". وعن أنس فيهما أيضا. وقد ذهب إلى ذلك: الشافعي، وأبو حنيفة، والليث، وسائر الكوفيين. قلت: وهو عند أبي حنيفة على الاستحباب، وعند الشافعي في القديم

لا يصح سلف وبيع

على الوجوب، وفي الجديد على الاستحباب. ( [لا يصح سلف وبيع] :) (ولا يحل سلف وبيع) ؛ قال مالك: " وتفسير ذلك: أن يقول الرجل للرجل: آخذ سلعتك بكذا وكذا؛ على أن تسلفني كذا وكذا، فإن عقدا بيعهما على هذا؛ فهو غير جائز، فإن ترك الذي اشترط السلف ما اشترط منه؛ كان ذلك البيع جائزا ". قلت: وعليه أهل العلم. وفي " شرح السنة ": " هو أن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم؛ على أن تقرضني عشرة دراهم؛ والمراد بالسلف هنا القرض، فهذا فاسد؛ لأنه جعل العشرة وفق القرض ثمنا للثوب، فإذا بطل الشرط سقط بعض الثمن، وصار ما يبقى من المبيع بمقابلة الباقي مجهولا " (¬1) . قال الماتن: قال مالك (¬2) : هو - أي: السلف هنا - أن تقرض قرضا، ثم تبايعه عليه بيعا يزداد عليه، وهو فاسد؛ لأنه إنما تقرضه على أن تحابيه في الثمن. ¬

_ (¬1) • لعل الأولى في التعليل قول ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 149) : " فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمئة؛ فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك ". وهذا التعليل إنما يتمشى على تفسير السلف بما قاله مالك؛ كما لا يخفى! (ن) (¬2) • في " النيل " (5 / 152) أنه أحمد لا مالك. (ن)

لا يصح شرطان في بيع

وقد يكون السلف بمعنى السلم، وذلك مثل أن تقول: أبيعك عبدي هذا بألف؛ على أن تسلفني ماله في كذا وكذا. ( [لا يصح شرطان في بيع] :) (ولا شرطان في بيع) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وكذلك صححه ابن خزيمة، والحاكم. والشرطان في بيع؛ أن يقول: بعتك هذا بألف إن كان نقدا، وبألفين إن كان نسيئة (¬1) . وقيل: هو أن يقول: بعتك ثوبي بكذا؛ وعلي قصارته وخياطته. وفي " الحجة البالغة ": " ومعنى الشرطين: أن يشترط حقوق البيع، ويشترط شيئا خارجا منها؛ مثل أن يهبه كذا، أو يشفع له إلى فلان، أو إن احتاج إلى بيعه لم ¬

_ (¬1) • وفسره ابن القيم بأن يبيعه السلعة بعشرة إلى أجل؛ على أن يشتريها منه نقدا بأقل منها، وهو بيع العينة الآتي في الكتاب. وبهذا أيضا فسر حديث أبي هريرة الآتي قريبا: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا "، وحمل أحد الشرطين على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط ... الخ كلامه؛ فراجعه في " التهذيب " (5 / 144) . (ن)

لا يصح بيعتان في بيعة

يبع إلا منه، ونحو ذلك. فهذان شرطان في صفقة واحدة ". ( [لا يصح بيعتان في بيعة] :) (ولا بيعتان في بيعة) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والترمذي - وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة. ولفظ أبي داود: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ". وأخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود؛ قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة. قال سماك: هو الرجل يبيع البيع؛ فيقول: بنسء كذا؛ وبنقد كذا. ورجاله رجال الصحيح. وما ذكره سماك: هو معنى البيعتين في بيعة، وقد تقدم تفسير الشرطين في بيعة بمثل هذا؛ وليس بصحيح؛ بل المراد بالشرطين في بيعة: أن البيع واحد شرط فيه شرطان، وهنا البيع بيعان. قلت: وفي " شرح السنة ": " فسروا البيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا؛ أو بعشرين نسيئة إلى سنة، فهو فاسد عند أكثر أهل العلم.

فإذا باعه على أحد الأمرين في المجلس؛ فهو صحيح لا خلاف فيه. والآخر: أن يقول: بعتك عبدي هذا بعشرين ديناراً؛ على أن تبيعني جاريتك؛ فهذا فاسد؛ لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا، وشرط بيع الجارية، وذلك شرط لا يلزم، وإذا لم يلزم ذلك؛ بطل بعض الثمن، فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الباقي مجهولا. أما إذا جمع بين شيئين في صفقة واحدة؛ بأن باع دارا وعبدا بثمن واحد؛ فهو جائز، وليس من باب البيعتين في بيعة، إنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين ". وأما بيع الشيء بأكثر من سعر يومه مؤجلا (¬1) ؛ فأقول: الزيادة على سعر يوم البيع ليست من الربا في ورد ولا صدر؛ لأن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر، ولا تساوي بين الشيء وثمنه مع اختلاف جنسهما، فلا يصح أن يكون تحريم هذه الصورة لكونها ربا. فإن قيل: إن تحريمها لكون الزيادة في مقابل التنفيس بالأجل فقط؛ فلا يخفى أن تحريم مثل ذلك مفتقر إلى دليل، والمسألة محتملة للبسط، وقد أفردها الماتن برسالة مستقلة سماها " شفاء العلل " في حكم الزيادة لأجل الأجل ". ولكن يمكن الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي - وصححه - (¬2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) • وأفتى السيد رشيد رضا في " المنار " (27 / 584) بأنه جائز وليس من الربا المحرم، والله أعلم. (ن) (¬2) • وكذا الحاكم (2 / 45) . (ن)

لا يصح بيع ما ليس عند البائع

-: " من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ". وبما أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني في " الكبير "، و " الأوسط " عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة. قال سماك: هو الرجل يبيع المبيع، فيقول: هو بنساء كذا؛ وهو بنقد كذا. قال في " مجمع الزوائد ": " رجال أحمد ثقات ". فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النساء ممنوعة، ولهذا قال: " فله أوكسهما أو الربا ". والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين. وقد ذهب الجمهور إلى جواز بيع الشيء بأكثر من بيع يومه لأجل النساء، ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع. (وربح ما لم يضمن) ؛ لما تقدم في دليل: " لا يحل سلف وبيع "، وهو أن يبيع شيئا لم يدخل في ضمانه؛ كالبيع قبل القبض. ( [لا يصح بيع ما ليس عند البائع] :) (وبيع ما ليس عند البائع) ؛ لحديث حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله! يأتيني الرجل؛ فيسألني عن البيع ليس عندي؛ أبيعه منه ثم أبتاعه

جواز خيار الشرط

من السوق؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك ". أخرجه أحمد، وأهل " السنن " (¬1) - وصححه الترمذي - وابن ماجه -. والمراد بقوله: " ما ليس عندك ": أي: ما ليس في ملكك وقدرتك. وفي معنى بيع ما ليس عنده: أن يبيع مال غيره بغير إذنه؛ لأنه غرر؛ لا يدري هل يجيزه غيره أو لا؟ وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الفضولي، ويكون موقوفا على إجازة المالك. وبيع القطوط - عند أهل العلم -؛ لا يجوز؛ حتى تصل إلى من كتبت له فيملك، ثم يبيع. والقط: الصك؛ ومنه قوله - تعالى -: {عجل لنا قطنا} . ( [جواز خيار الشرط] :) (ويجوز بشرط عدم الخداع) ؛ لحديث ابن عمر (¬2) في " الصحيحين "، قال: ذكر رجل (¬3) لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع؟ فقال: " من بايعت؛ فقل: لا خلابة ". ¬

_ (¬1) • منهم أبو داود (2 / 105) ، وابن ماجه (2 / 16) ، ولم يصححه كما أوهم المصنف، وإن كان الحديث عندهم صحيحا على شرط الشيخين. (ن) (¬2) • له شاهد من حديث أنس عند الحاكم (4 / 101) ، وابن حبان، وأصحاب " السنن "، وغيرهم؛ وهو مخرج في " أحاديث البيوع ". (ن) (¬3) • هو حبان بن منقذ، كما في رواية للدارقطني (ص 311) . (ن)

ثبوت خيار المجلس

وفي الباب أحاديث. والخلابة: الخديعة، وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار؛ سواء غبن أو لم يغبن (¬1) . ( [ثبوت خيار المجلس] :) (والخيار في المجلس ثابت ما لم يتفرقا) ؛ لحديث حكيم بن حزام في " الصحيحين "، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ". وفيهما أيضا نحوه من حديث ابن عمر. وأيضا في " الموطإ " من حديث ابن عمر بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المتبايعان؛ كل واحد منهما بالخيار على صاحبه؛ ما لم يتفرقا؛ إلا بيع الخيار ". وفي الباب أحاديث. وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة؛ منهم: علي ¬

_ (¬1) • قلت: هذا غير ظاهر، وإنما الظاهر من الحديث الخيار مع الغبن، وإنما يدل لما استظهره المؤلف حديث آخر بلفظ: " إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال؛ إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها "؛ أخرجه ابن ماجه (2 / 61) ، والدارقطني (ص 312) ؛ من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان ... مرسلا، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند الدارقطني؛ فإنما علة الحديث الإرسال. وقد رواه ابن إسحاق أيضا، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، ولكنه قد عنعنه، وقد صرح بالتحديث في رواية، لكن ليس فيها قوله: " ثم أنت في كل سلعة ... "؛ رواه الدارقطني، لكنها عند البيهقي بسند حسن؛ فانظر " الصحيحة " (2874) ، فثبت الحديث والحمد لله، وقد ثبته المؤلف فيما يأتي. (ن)

وأبو برزة الأسلمي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وغيرهم. ومن التابعين: شريح، والشعبي، وطاوس، وعطاء، وابن أبي مليكة؛ نقل ذلك عنهم البخاري. ونقل ابن المنذر القول به أيضا: عن سعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذئب من أهل المدينة، وعن الحسن البصري، والأوزاعي، وابن جريج، وغيرهم. وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين؛ إلا النخعي وحده. وحكاه صاحب " البحر " أيضا عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور. وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة؛ فلا خيار (¬1) . والحق: القول الأول. ¬

_ (¬1) • قلت: وحمل هؤلاء التفرق في الحديث على التفرق بالأقوال، وهذا يبطله بعض ألفاظ الحديث مثل: " ... ما لم يتفرقا، فكانا جميعا ... "؛ أخرجه أحمد رقم (6006) ، والشيخان، و: " من اشترى بيعا، فوجب له؛ فهو بالخيار ما لم يفارقه صاحبه؛ إن شاء أخذ وإن شاء فارقه، فلا خيار له "؛ رواه الدارقطني (290) ، والحاكم (2 / 14) - وصححه، وافقه الذهبي؛ وهو كما قالا -، ورواه البيهقي أيضا (5 / 270) من حديث ابن عمر وابن عباس معا، وأخرجه الدارقطني (310) ، وعنه البيهقي (/ 271 5) من حديث ابن عمر، بلفظ: " حتى يتفرقا من مكانهما. . ". وهذا ما فهمه رواة الحديث من الصحابة؛ فروى الطحاوي (2 / 202 - 203) عن أبي برزة: أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية - وفي رواية: فرسا -، فنام معها البائع، فلما أصبح قال: لا أرضاها، فقال أبو برزة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "؛ وكانا في خباء شعر؛ وسنده صحيح. وقال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا؛ [كان] كل واحد منا بالخيار؛ ما لم يتفرق المتبايعان، قال: فتبايعت أنا وعثمان، فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر، قال: فلما بعته طفقت أنكص القهقرى؛ خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه؛ أخرجه الدارقطني (291) ، والبخاري نحوه. (ن)

باب الربا

(2 - باب الربا) ( [حكمه] :) قال الله - تعالى -: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا} ، وقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} ، وقال: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} . واتفق أهل العلم أن الربا من الكبائر، وأنه إذا وقع هذا العقد فهو باطل، ولا يجب إلا رد رأس المال، وإن كان ذو عسرة فحكمه الإنظار إلى الميسرة. أقول: هذا الحكم يستفاد من كتاب الله - تعالى -، قال - عز وجل -: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} ، ومفهوم الشرط يدل على جواز أخذ مال المربي مع عدم التوبة، ويستدل بهذه الآية أيضا على جواز أخذ ما ربح المربي من الربا، وهو ما زاد على رأس ماله؛ سواء تاب أو لم يتب. فالحاصل: أن يجوز أخذ جميع ماله: الربح ورأس المال؛ مع عدم التوبة، ويجوز أخذ الربح فقط معها. ( [أصول الربويات] :) (يحرم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير

بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا مثلا بمثل يدا بيد) ، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، والستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث. كحديث أبي سعيد بلفظ: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح: مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (¬1) ؛ الآخذ والمعطي فيه سواء ". وهو في " الصحيح "، وسائر الأحاديث في " الصحيحين "، وغيرهما هكذا؛ ليس فيها إلا ذكر الستة الأجناس. وفي " الحجة البالغة ": " وتفطن الفقهاء أن الربا المحرم يجري في غير الأعيان الستة المنصوص عليها، وأن الحكم متعد منها إلى كل ملحق بشيء منها ". ¬

_ (¬1) • زاد البيهقي (5 / 286) في رواية: " وكل ما يكال أو يوزن "، وفيه حبان بن عبيد الله العدوي أبو زهير؛ قال البيهقي عقب الحديث: " تكلموا فيه "، وتعقبه ابن التركماني بنقول عن الأئمة في توثيقه؛ فإن الحاكم أخرجه، وقال: " صحيح الإسناد "؛ ولم أجده الآن في " المستدرك "؛ ثم وجدته (2 / 42 - 43) . ويشهد له حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجائهم بتمر جنيب، فقال: " أكل تمر خيبر هكذا؟ "، قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، أو الصاعين بالثلاثة، فقال: " لا تفعل، بع الجميع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا "، وقال في الميزان مثل ذلك؛ رواه البخاري، وكذا الطحاوي في " المشكل " (2 / 122) ، والبيهقي (5 / 585) . وقال ابن تيمية في " المنتقى ": " وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها؛ لأنه قوله: " في الميزان "؛ أي: في الموزون؛ وإلا فنفس الميزان من أموال الربا ". ويشهد له أيضا حديث عبادة، وأنس الآتي في الكتاب، ويأتي بيان ما فيه. (ن)

في " شرح السنة ": " اتفق العلماء على أن الربا يجري في هذه الأشياء الستة التي نص الحديث عليها. وذهب عامتهم إلى أن حكم الربا غير مقصور عليها بأعيانها؛ إنما ثبت لأوصاف فيها، ويتعدى إلى كل ما يوجد فيه تلك الأوصاف. وذهبوا إلى أن الربا ثبت في الدراهم والدنانير بوصف؛ وفي الأشياء الأربعة بوصف آخر. ثم اختلفوا في ذلك الوصف؛ فقال الشافعي: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية، وقال أبو حنيفة: بعلة الوزن، حتى إن الربا يجري في الحديد والنحاس والقطن. وقال الشافعي في القديم: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الطعم مع الكيل والوزن؛ كما قال سعيد بن المسيب. وفي الجديد: ثبت فيها بوصف الطعم فقط، وأثبت في جميع الأشياء المطعومة مثل الثمار، والفواكه، والبقول، والأدوية. وإنما قال ذلك في الجديد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " الطعام بالطعام مثلا بمثل "؛ علق الحكم باسم الطعام، فدل على أن مأخذ الاشتقاق علة. وقال أبو حنيفة: ثبت في الأشياء الأربعة بوصف الكيل؛ حتى إن الربا يجري في الجص والنورة ".

بيان ما يلحق بأصول الربويات

وسيأتي ما يدفع ذلك كله. ( [بيان ما يلحق بأصول الربويات] :) (وفي إلحاق غيرها بها خلاف) ؛ هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها، فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء؛ مع الاتفاق في الجنس، أو تحريم النساء فقط؛ مع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة؟ فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها. ورجحه في " سبل السلام " (¬1) ؛ وقال: " قد أفردنا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة سميناها: (القول المجتبى) ". انتهى. وتفصيل ذلك في " مسك الختام ". وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة، واختلفوا في العلة ما هي؟ فقيل: الاتفاق في الجنس والطعم، وقيل: الجنس والتقدير بالكيل والوزن والاقتيات، وقيل: الجنس ووجوب الزكاة، وقيل: الجنس والتقدير بالكيل والوزن. وقد يستدل لمن قال بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني (¬2) ، والبزار، عن ¬

_ (¬1) • وكذا المقبلي في " العلم الشامخ " (ص 715) . (ن) (¬2) • في " سننه " (ص 296) ؛ من طريق أبي بكر بن عياش، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن عبادة، وأنس ... به، ثم قال: " لم يروه غير أبي بكر، عن الربيع هكذا، وخالفه جماعة؛ فرووه

الحسن؛ من حديث عبادة وأنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك؛ فإذا اختلف النوعان فلا بأس به ". قد أشار إلى هذا الحديث صاحب " التلخيص " ولم يتكلم عليه، وفي إسناده الربيع بن صبيح؛ وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة، قال أحمد: لا بأس به، وقال يحيى بن معين - في رواية عنه -: ضعيف، وفي أخرى: ليس به بأس، وربما دلس، وقال ابن سعد والنسائي: ضعيف، وقال أبو زرعة: شيخ صالح، وقال أبو حاتم: رجل صالح. انتهى. ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث (¬1) ، وقال في " التقريب ": " صدوق سيئ الحفظ ". ¬

_ عن الربيع، عن ابن سيرين، عن عبادة، وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بلفظ غير هذا اللفظ ". قلت: وأبو بكر بن عياش ثقة؛ إلا أنه لما كبر ساء حفظه؛ كما في " التقريب "؛ فلا يحتج به عند المخالفة، ومثله الربيع بن صبيح؛ فإنه صدوق سيئ الحفظ، وللحديث علة أخرى، وهي عنعنة الحسن - وهو البصري -؛ فقد كان مدلسا على جلالته، ولفظ البزار كما في " المجمع " (4 / 115) : " الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل "؛ وهذا كما ترى يخالف لفظ الدارقطني، ويوافق لفظ الحديث الصحيح المتقدم الذي لا دليل فيه على الإلحاق المذكور، فعزوه لفظ الدارقطني تبعا للشوكاني (5 / 164) للبزار لا يخفى ما فيه! لكن يشهد للحديث حديث أبي سعيد في رواية البيهقي، وسندها حسن على أقل الدرجات، كما تقدم بيانه قريبا؛ مع ما يشهد له من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا، الذي ذكرته آنفا. (ن) (¬1) • قلت: الظاهر أن المحدثين لا يريدون بهذه اللفظة: " صالح " المعنى المتبادر منها فقط؛ بل يريدون أنه صالح في الرواية أيضا، ألا ترى أن الذهبي ذكر في مقدمة " الميزان " أن من العبارات التي تقال في الرواة المقبولين: " صويلح " - هكذا مصغرا - فمن قيل فيه: " صالح " - مكبرا - فهو بالقبول أحرى، أقول هذا تحريرا للمراد من هذه اللفظة؛ وإلا فالربيع - هذا - قد عرفت ضعفه من قبل حفظه، لكن الحديث حسن أو صحيح لغيره. (ن)

ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث؛ لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم؛ فإنه حكم بالربا الذي هو من أعظم معاصي الله - سبحانه وتعالى - على غير الأجناس التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التي هي من الكبائر ومن القطعيات الشرعية. ومع هذا؛ فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع الجم والسواد الأعظم، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط. وهذا الحديث - كما يدل على إلحاق غير الستة بها -؛ كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن؛ مع اتحاد الجنس. ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس: حديث ابن عمر في " الصحيحين "، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام؛ نهى عن ذلك كله. وفي لفظ لمسلم: وعن كل ثمر بخرصه. فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب (¬1) ؛ ورواية مسلم تدل على أعم من ذلك. ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في " الموطإ "، عن سعيد بن ¬

_ (¬1) • هذه الدلالة غير ظاهرة؛ بل المراد من النهي ما فيه من الغرر، كما سبق في الكتاب عن مالك. نعم؛ بيع ثمر النخل بالتمر كيلا فيه الأمران؛ الغرر والربا؛ فتأمل! وبالجملة؛ فلا دليل في الحديث على الإلحاق المذكور. (ن)

المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وأخرجه أيضا الشافعي، وأبو داود في " المراسيل "، ووصله الدارقطني في " الغريب عن مالك "، عن الزهري، عن سهل بن سعد، وحكم بضعفه، وصوب الرواية المرسلة، وتبعه ابن عبد البر. وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار، وفي إسناده ثابت بن زهير، وهو ضعيف. وأخرجه أيضا من رواية أبي أمية بن يعلى عن نافع أيضا، وأبو أمية ضعيف. وله شاهد أقوى منه؛ من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم (¬1) ، والبيهقي، وابن خزيمة. ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة، عند الترمذي في رخصة العرايا؛ وفيه: وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه (¬2) . ومما يدل على أن المعتبر الاتفاق في الوزن: حديث أبي سعيد عند أحمد، ومسلم، بلفظ: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق؛ إلا ¬

_ (¬1) • في " المستدرك " (2 / 35) ، و " البيهقي " (5 / 288) ؛ وأعله بالخلاف في سماع الحسن من سمرة. وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب، ويأتي تحقيق القول فيه هناك؛ إن شاء الله تعالى. (ن) (¬2) • هذا في الدلالة؛ مثل حديث ابن عمر في " الصحيحين "، وقد ذكرنا آنفا ما فيها. (ن)

وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء ". وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث أبي هريرة: " الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل ". وعند مسلم، والنسائي، وأبي داود، من حديث فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب؛ إلا وزنا بوزن ". ومما ورد في اعتبار الكيل: حديث ابن عمر المتقدم وفيه: " وإن كان كرما أن تبيعه بزبيب كيلا "، وما سيأتي قريبا من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها. أقول: أما اختلاف مثبتي القياس في علة الربا؛ فليس على شيء من هذه الأقوال حجة نيرة، إنما هي مجرد تظننات وتخمينات؛ انضمت إليها دعاوى طويلة بلا طائل. هذا يقول: العلة التي ذهب إليها ساقه إلى القول بها مسلك من مسالك العلة كتخريج المناط. والآخر يقول: ساقه إلى ما ذهب إليه مسلك آخر كالسبر والتقسيم. ونحن لا نمنع كون هذه المسالك تثبت بمثلها الأحكام الشرعية؛ بل نمنع اندراج ما زعموه علة في هذا المقام تحت شيء منها، فما أحسن الاقتصار على نصوص الشريعة؛ وعدم التكليف بمجاوزتها، والتوسع في تكليفات العباد بما هو تكليف محض.

ولسنا ممن يقول بنفي القياس؛ لكنا نقول بمنع التعبد به فيما عدا العلة المنصوصة، وما كان طريق ثبوته فحوى الخطاب. وليس ما ذكروه ههنا من هذا القبيل؛ فليكن هذا المبحث على ذكر منك؛ تنتفع به في مسائل كثيرة. قال الماتن - رحمه الله - في كتابه " السيل الجرار ": " ولا يخفاك أن ذكره صلى الله عليه وسلم للكيل والوزن في الأحاديث؛ لبيان ما يتحصل به التساوي في الأجناس المنصوص عليها، فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث؟ {وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك؟} وأي مناط استفيد منها؛ مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي؛ كما قال: " مثلا بمثل سواء بسواء "؟ { وأما الاتفاق في الجنس والطعم كما قال الشافعي، واستدلوا على ذلك بما ثبت في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث معمر بن عبد الله، قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الطعام بالطعام مثلا بمثل "، وكان طعامنا يومئذ الشعير؛ فأقول: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الطعام؛ فكان ماذا؟} وأي دليل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق؟ {وأي فهم يسبق إلى كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب عليها القناطر وتبنى عليها القصور؟} ويقال: هذا دليل على أن كل ما له طعم كان بيعه بما له طعم متفاضلا ربا! مع أن أول ما يدفع هذا الاستدلال الذهب والفضة؛ اللذان هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة بذكر الأجناس التي تحرم فيها الربا.

لا ربا مع اختلاف الأجناس

ومما يدفع القولين جميعا: أنه قد ثبت في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العدد؛ كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين "، وفي رواية من حديث أبي سعيد: " ولا درهمين بدرهم "، ولا يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين، ولا من غيرهم. وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعم، وزادت عليه الادخار والاقتيات؛ فوسعوا الدائرة بما ليس بشيء. والحاصل (¬1) : أنه لم يرد دليل تقوم به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها ". ( [لا ربا مع اختلاف الأجناس] :) (فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدا بيد) ؛ لما ثبت في " الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الذهب بالذهب (¬2) ، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم؛ إذا كان يدا بيد ". ¬

_ (¬1) • قلت: قد ذكرنا فيما تقدم حديثين تقوم الحجة بكل منهما إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعا؟ ! وقد أفادا أن العلة هي الوزن والكيل؛ وفيها كفاية، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات "، فقال (ص 75) : " والعلة في تحريم ربا الفضل؛ الكيل أو الوزن مع الطعم؛ وهو رواية عن أحمد ". (ن) (¬2) • فائدة: قال في " الفتح " (4 / 302) : " ويدخل في الذهب جميع أصنافه؛ من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي، وتبر خالص ومغشوش. ونقل النووي - تبعا لغيره في ذلك - الإجماع ". (ن)

لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة

وفي الباب أحاديث. ( [لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة] :) (ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي) ؛ لما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم: " مثلا بمثل، سواء بسواء، وزنا بوزن "؛ فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمماثلة والمساواة، ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم، وغيره، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر - لا يعلم كيلها - بالكيل المسمى من التمر "؛ فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم. (وإن صحبه غيره) ؛ أي: لا تأثير لمصاحبة شيء آخر لأحد المثلين؛ لحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره؛ قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا؛ فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " لا تباع حتى تفصل ". وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف؛ منهم عمر بن الخطاب، وقال به الشافعي، وأحمد، وإسحاق. وذهب جماعة منهم الحنفية إلى جواز التفاضل؛ مع مصاحبة شيء آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها (¬1) . ¬

_ (¬1) • أو كانت أكثر من الذهب الذي في الشيء، كما نقله الخطابي في " المعالم " (5 / 23) عن قول أبي حنيفة، وهو: " إن كان الثمن أكثر مما فيه من الذهب جاز، وإن كان مثله أو أقل منه لم يجز ". وقد نقل عنه اشتراط الأكثرية التركماني في " الجوهر النقي " (5 / 292) . وهذا خلاف ما نقله الشارح عن الحنفية؛ فليحقق! (ن)

لا يجوز بيع الشيء من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس

( [لا يجوز بيع الشيء من المطعوم بجنسه أحدهما رطب والآخر يابس] :) (ولا يبيع الرطب بما كان يابسا) ؛ لحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وكذلك حديث رافع بن خديج، وسهل بن أبي حثمة - المتقدمان -. وفي " الموطإ " (¬1) حديث سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك. قلت: وعليه الشافعي. وهذا الحديث أصل في أنه لا يجوز بيع شيء من المطعوم بجنسه؛ أحدهما رطب والآخر يابس؛ مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع اللحم الرطب بالقديد، وهذا قول أكثر أهل العلم، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وصاحبا أبي حنيفة. وجوزه أبو حنيفة (¬2) وحده، ورده بالمتشابه من قوله - تعالى -: {وأحل ¬

_ (¬1) • (2 / 128) ، وعنه البيهقي (5 / 294) ؛ وسنده صحيح، رجاله رجال الشيخين غير زيد أبي عياش - وهو ابن عياش -، وهو صدوق؛ كما في " التقريب ". وأخرجه أصحاب " السنن " - وصححه الترمذي، ثم الخطابي، ثم المنذري -؛ كما بينه في " مختصر السنن " (5 / 33 - 35) . وهو في " المستدرك " (2 / 38 - 43) . (ن) (¬2) • وخالفه صاحبه الإمام محمد؛ فأخذ بالحديث؛ كما صرح به في " الموطإ " (ص 331) . (ن)

رخص صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا

الله البيع وحرم الربا} ، وبالمتشابه من قياس في غاية الفساد، وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين؛ وإما أن يكون جنسا واحدا، وعلى التقديرين؛ فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر. قال ابن القيم: " وإذا نظرت إلى هذا القياس؛ رأيته مصادما للسنة أعظم مصادمة، ومع أنه فاسد في نفسه - بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بنية -؛ فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتميزها، ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال؛ إذ هو ظن وحسبان، فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس، لو لم تأت به سنة، وحتى لو لم يكن ربا، ولا القياس يقتضيه؛ لكان أصلا قائما بنفسه يجب التسليم والانقياد له، كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة ". انتهى. ( [رخص صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا] :) (إلا لأهل العرايا) ؛ لحديث زيد بن ثابت عند البخاري، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا؛ أن تباع بخرصها كيلا. وفي لفظ (¬1) في " الصحيح ": رخص في العرية يأخذها أهل البيت (¬2) ¬

_ (¬1) • هذا يوهم أنه من حديث زيد بن ثابت؛ وليس كذلك؛ وإنما هو من حديث سهل بن أبي حثمة؛ كما في " البخاري " (4 / 309) . (ن) (¬2) • الظاهر أنه الذي أعراها، ويحتمل أن يراد بالأهل من قصد إليه الشراء، كما في " الفتح " (4 / 312) وغيره. وعلى الأول؛ فهو دليل لقول مالك الآتي تفسير العرية، ولكنه لا ينفي أن يكون غير هذه الصورة عرية؛ انظر " الفتح ". (ن)

بخرصها تمرا يأكلونها رطبا. وأخرج أحمد (¬1) ، والشافعي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من حديث جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول - حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها -: " الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة ... ". وفي الباب أحاديث. والمراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجرة بخرصه تمرا. والعرايا: جمع عرية، وهي في الأصل: عطية ثمر النخل دون الرقبة. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، ومن خالف فالأحاديث ترد عليه. قلت: العرية: فعيلة بمعنى مفعولة؛ من عراه يعروه إذا قصده، وهي عقد مقصود. أو: بمعنى فاعلة من عري يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت (¬2) ، وهي: ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3 / 360) ؛ وسنده حسن؛ فقد صرح عنده ابن إسحاق بالتحديث. وأخرجه البيهقي (5 / 311) من طريق الحاكم وغيره؛ ولم أره في " البيوع " من " المستدرك "؛ والله أعلم. وأخرجه الطحاوي (2 / 213) ؛ وزاد في رواية: وقال: " في كل عشرة أقناء قنو؛ يوضع في المسجد للمساكين "، وكذلك رواه أبو يعلى؛ كما في " المجمع " (4 / 103) . (ن) (¬2) • قلت: كذا في " النهاية " لابن الأثير، وزاد: " كأنها عريت من جملة التحريم فعريت - أي: خرجت - ". وقد ذكر أن في تفسير العرية اختلافا، ثم ذكر قولا في معنى ما في الكتاب من المراد، ثم لم يذكر غيره، فكأنه اعتمده. واعلم أن للعرية صورا كثيرة، ذكرها الحافظ في " الفتح " (4 / 311) ، ويدور غالبها على أن البائع هو صاحب النخل، أو الذي وهبت له ثمرها، وهذا قد يبيعها المالك رقبتها أو لغيره.

بيع الرطب على النخل بتمر في الأرض، والعنب في الشجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق. وقال محمد (¬1) : وبهذا نأخذ. ولفظ البخاري في: (باب تفسير العرايا) (¬2) : " قال مالك: العرية: أن يعري الرجل الرجل النخلة، ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخص له أن يشتريها منه بتمر. وقال ابن إدريس (¬3) : العرية: لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، ولا تكون بالجزاف. ومما يقويه قول ابن أبي حثمة بالأوسق الموسقة. وقال ابن إسحاق: في حديثه عن نافع عن ابن عمر: كانت العرايا؛ أن يعري الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين. وقال يزيد (¬4) : عن سفيان بن حسين: العرايا: نخل كانت توهب ¬

_ ويشهد للأول تفسير بعض الصحابة؛ ففي " المسند " (5 / 365) عن بشر بن يسار، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رخص صلى الله عليه وسلم في العرية، قال: والعرية: النخلة أو النخلتان يشتريهما الرجل، بخرصهما من الثمر فيضمنهما؛ فرخص في ذلك. وسنده صحيح على شرطهما. ويشهد للآخر حديث زيد بن ثابت، قال: رخص في العرايا من النخلة والنخلتين توهبان للرجل. رواه الطحاوي (2 / 215) بسند صحيح، ومسلم، والبيهقي (5 / 310) بنحوه. (ن) (¬1) • في " موطإه " (ص 327) . (ن) (¬2) • (3 / 310 - " فتح الباري ") . (ن) (¬3) • هو الإمام الشافعي؛ فيما رجحه الحافظ. (ن) (¬4) • تابعه محمد بن يزيد؛ وهو الواسطي؛ عند أحمد (5 / 192) . (ن)

للمساكين؛ فلا يستطيعون أن ينتظروا بها، رخص لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر ". انتهى. أقول: العرايا؛ أصلها أن العرب كانت تطوع على من لا ثمر له؛ كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة، وهي عطية اللبن دون الرقبة. قال الجوهري في " الصحاح ": " العرية: هي النخلة التي يعريها صاحبها رجلا محتاجا؛ بأن يجعل له ثمرها عاما؛ من عراه إذا قصده ". انتهى. فرخص صلى الله عليه وسلم لمن لا نخل لهم أن يشتري الرطب على النخل بخرصها تمرا؛ كما وقع في " الصحيحين " وغيرهما من حديث زيد بن ثابت. وفي لفظ في " الصحيحين " من حديثه: رخص في العرايا يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا؛ يأكلونها رطبا. وفي لفظ لهما من حديثه: ولم يرخص في غير ذلك. فهذا جائز، والذي أخبرنا بتحريم الربا، ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا، والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة، ومن منع ذلك؛ فقد تعرض لرد الخاص بالعام، ولرد الرخصة بالعزيمة، ولرد السنة بمجرد الرأي، وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة؛ كما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله -، ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة؛ كما وقع في حديث جابر عند الشافعي، وأحمد، وصححه

لا يجوز بيع اللحم بالحيوان

ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (¬1) ؛ فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك. ( [لا يجوز بيع اللحم بالحيوان] :) (ولا بيع اللحم بالحيوان) ؛ لما تقدم (¬2) قريبا من حديث سعيد بن المسيب عند مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم. وقال سعيد (¬3) : من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين. وقال: نهى عن بيع الحيوان باللحم. وقال أبو الزناد: كل من أدركت من أهل العلم ينهون عن بيع الحيوان باللحم؛ أي: من جنسه، وكذا بغير جنسه من مأكول وغيره. وفي " شرح السنة ": " ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى تحريمه، وإليه ذهب الشافعي ". وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلا؛ لكن يتقوى بعمل الصحابة، واستحسن الشافعي مرسل ابن المسيب، وذهب جماعة إلى إباحته، واختارها المزني إذ لم يثبت الحديث، وكان فيه قول متقدم ممن يكون بقوله اختلاف، ولأن الحيوان ليس بمال الربا؛ بدليل أنه يجوز بيع حيوان بحيوانين، فبيع اللحم ¬

_ (¬1) • ونحوه من حديث أبي هريرة عند البخاري (4 / 308) . (ن) (¬2) • (ص 419) ؛ وقد ذكر له هناك طرقا وشواهد؛ تبعا للشوكاني في " النيل " (5 / 173) ، وقال هذا عقبها: " ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه ". (ن) (¬3) • يعني: ابن المسيب؛ كما في " الموطإ " (337) لمحمد. (ن)

يجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه

بالحيوان بيع مال الربا بما لا ربا فيه، فيجوز ذلك في القياس؛ إلا أن يثبت الحديث فنأخذ به وندع القياس ". وقال محمد في " الموطإ ": " وبهذا نأخذ؛ من باع لحما من لحم الغنم بشاة حية؛ لا يدري اللحم أكثر أو ما في الشاة أكثر؟ فالبيع فاسد مكروه، ولا ينبغي، وهذا مثل المزابنة والمحاقلة. وكذا بيع الزيتون بالزيت، ودهن السمسم بالسمسم ". أقول: والأحسن عندي أن معنى الحديث: أن يقول للقصاب: كم يخرج من هذه الشاة؟ فيقول القصاب: عشرون رطلا، فيقول: خذ هذه الشاة بعشرين رطلا من اللحم؛ إن خرج أكثر فلك، أو أقل فعليك. وهذا نوع من القمار، ورجع الحديث إلى القياس. ( [يجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه] :) (ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه) ؛ لحديث جابر عند أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي -؛ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين. وأخرجه أيضا مسلم في " صحيحه ". وأخرج أيضا مسلم، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي.

وأخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود من حديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبعث جيشاً على إبل كانت عنده، قال فحملت الناس عليها حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس، قال: فقلت: يا رسول الله! الإبل قد نفذت، وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم، فقال لي: " ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها؛ حتى ينفذ هذا البعث "، قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها؛ حتى نفذت ذلك البعث، فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) • في " المسند " رقم (6593) ، وأبو داود (2 / 87) ، وكذا الطحاوي (2 / 229) ، والحاكم (2 / 56) ، والبيهقي (5 / 287) ؛ من طريق ابن إسحاق. لكن قد صرح بالتحديث في رواية لأحمد رقم (7025) ، فقال: حدثني أبو سفيان الحرشي - وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده -، عن مسلم بن جبير - مولى ثقيف؛ وكان مسلم رجلا يؤخذ عنه وقد أدرك وسمع -، عن عمرو بن حريش الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. فهو سند حسن. وأخرجه الدارقطني (ص 318) ، وله عنده طريق أخرى عن ابن جريج، أن عمرو بن شعيب أخبره، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا سند صحيح؛ كما قال البيهقي (5 / 287) ؛ وهو الذي قواه الحافظ في " الفتح " (4 / 332) ؛ ليس إسناد ابن إسحاق كما يوهمه صنيع الشارح. والحديث حسنه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 31) . ونقل عن الإمام مالك - رضي الله عنه -، أنه كان يحمله على اختلاف المنافع والأغراض؛ فإن الذي كان يأخذه ابن عمرو إنما هو للجهاد، والذي جعله عوضه هو من إبل الصدقة؛ قد يكون مع بني المخاض، ومن حواشي الإبل ونحوها. وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أقوال العلماء في هذه المسألة وحققها، وذكر أن أعدل الأقوال؛ أنه لا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل؛ بل إن وجد أحدهما حرم الآخر، وهو قول مالك. لكن الجنس عنده مقيد باتفاق الأغراض والمنافع؛ فيجوز بيع البعير البختي بالبعيرين من الحمولة، ومن حاشية إبله إلى أجل لاختلاف المنافع. (ن)

وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال، وقوى في " الفتح " إسناده. وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي -، وابن الجارود من حديث سمرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (¬1) . وهو من رواية الحسن عن سمرة، ولم يسمع منه (¬2) . وقد جمع الشافعي بين الحديثين؛ بأن المراد به النسيئة من الطرفين؛ فيكون ذلك من بيع الكالئ بالكالئ؛ لا من طرف واحد؛ فيجوز. وفي " الموطإ " (¬3) : أن علي بن أبي طالب باع جملا له - يدعى عصيفر - بعشرين بعيرا إلى أجل، وأن عبد الله بن عمر اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه؛ يوفيها صاحبها بالربذة. وسئل ابن شهاب عن بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل؟ فقال: لا بأس بذلك. قال الشافعي: يجوز سواء كان الجنس واحدا أو مختلفا، مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم، سواء باع واحدا بواحد أو باثنين. ¬

_ (¬1) في سماعه منه خلاف طويل، ورجح كثير من أئمة الحديث أنه سمع منه، ورجح بعضهم أنه لم يسمع منه إلا حديثا؛ وهو حديث العقيقة. (ش) (¬2) • هذا وإن كان منقطعا؛ فهو صحيح؛ لوروده عن جماعة من الصحابة؛ منهم: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وابن عمر؛ من طرق يقوي بعضها بعضا؛ أخرجها الطحاوي (2 / 229) . وانظر " الجوهر النقي " (5 / 288 - 290) ، و " تهذيب السنن " (5 / 27) ، والفتح (5 / 44) . (ن) (¬3) • (2 / 148 - 149) ؛ وهو السائل لابن شهاب. وسنده إلى علي بن أبي طالب منقطع، وإلى ابن عمر صحيح. (ن)

لا يجوز بيع العينة

وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وفي بيع الحيوان بالحيوان نسيئة خلاف. ( [لا يجوز بيع العينة] :) (ولا يجوز بيع العينة) لحديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء؛ فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ". أخرجه أحمد (¬1) وأبو داود، والطبراني، وابن القطان - وصححه -، وقال الحافظ: " رجاله ثقات ". والمراد بالعينة - بكسر العين المهملة -: بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل؛ ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن. ويدل على المنع من ذلك: ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين {إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بست مئة نقدا؟ فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت} إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل؛ إلا أن يتوب. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 4825، 5007، 2562) - بإسنادين؛ أحدهما صحيح عند ابن القطان -، وأبو داود (2 / 100) بإسناد ثالث - حسنه شيخ الإسلام في " الفتاوى " (3 / 32 - 278) -. ورواه الدولابي في " الكنى " (2 / 65) ، والبيهقي (5 / 316) . (ن)

أخرجه الدارقطني (¬1) ، وفي إسناده الغالية بنت أيفع. وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح، وقرر كلامه ابن كثير في " إرشاده ". وقد ذهب إلى عدم جواز بيع العينة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وجوز ذلك الشافعي، وأصحابه. وقد ورد النهي عن العينة من طرق؛ عقد لها البيهقي في " سننه " بابا. أقول: أما بيع أئمة الجور وشراؤهم - على وجه التجارة مع رعاياهم -؛ فهذه المسألة قد عمت وطمت وكادت تطبق الأرض، وقد رأينا في كتب التواريخ حكايات عن ملوك مصر من الجراكسة، وذلك من أشدها وأعظمها جرما: أنهم إذا أرادوا بيع شيء لهم؛ أكرهوا التجار على شرائه بأضعاف ثمنه، وإذا أراد أحد منهم الامتناع ضربوه ضربا مبرحا، وأخذوا ماله كرها. ومن ذلك: أنهم يمنعون الناس من الشراء من أحد من التجار؛ حتى ينفق ما يريدون بيعه من أموالهم، فيرتفع ثمنه لأجل ذلك، وينفق سريعا. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": " وفي الديار اليمنية من هذا القبيل أنواع: منها: أنهم يرسمون صرف القرش بمقدار محدود من الضربة التي يضربونها من الفضة المغشوشة بالنحاس المغلوبة بالغش؛ على وجه لا تكون الفضة الخالصة إلا مقدار نصف الفضة التي في القرش، ثم إن الرعايا لا تمتثل هذا الرسم، بل يتعاملون في المصارفة ¬

_ (¬1) • في " السنن " (ص 310 - 311) ، وكذا البيهقي (5 / 330 - 331) . (ن)

بزيادة على ذلك إلى مقدار الثلث أو الربع من ذلك الرسم، فإذا كان النقد خارجا من مال الدولة إلى غيرهم من الأجناد ونحوهم؛ كان على ذلك الرسم الناقص، وإذا كان النقد داخلا إلى أموال الدولة من الرعايا؛ لم يقبلوا منهم إلا القروش الفرانسة، أو الصرف الزائد الذي يتعامل به الرعية فيما بينهم، فيأخذون ثلث أموال الرعية أو ربعها ظلما، وإذا تزايد صرف القروش بين الرعايا؛ أمر الأمراء بكسر السكة، ويضربون ضربة أخرى مثل المكسورة في الخالص والغش، أو أكثر منها غشا، ثم يمنعون التعامل بتلك الضربة الأولى، فيبيعونها الرعايا وزنا من الدولة، فيأتي ثمن القفلة (¬1) منها بنصف قفلة من الضربة الأخرى، وقد يزيد قليلا، أو ينقص قليلا، ثم يأخذون تلك السكة الأولى ويضربونها على تلك الضربة الأخرى، ويدفعونها إلى الرعايا بصرف قد رسموه، فيأكلون بهذه الذريعة نصف أموال العباد، أو قريبا من ذلك، والرعايا لا يقدرون على الاستمرار على الرسم الذي يرسمونه لهم في صرف القروش من تلك الضربة؛ لأنهم يحتاجون إلى القروش الفرانسة في كثير من الحالات؛ لكونه لا ينفق لهم في المعاملة لتجار سائر الأرض إلا هي. ومن الأنواع التي يأكلون بها أموال الرعايا أكلا ظاهرا، ويتجرون فيها اتجارا بينا: أنهم يجعلون ضرائب على الباعة في الأسواق؛ يجبرونهم على تسليمها؛ شاءوا أم أبوا، ثم يأذنون لهم بالزيادة في الأسعار، فيبيعون بما شاءوا ويصنعون بالناس ما أرادوا، وليس عليهم إلا الوفاء بالضرائب، فإذا استغاث مستغيث بالناس من زيادة الأسعار، أو أراد منكر أن ينكر على الباعة ما يفعلونه؛ قالوا: هذه الزيادات للدولة؛ فيلقمون المنكر والمستغيث حجرا. ¬

_ (¬1) • " القفلة: الوازن من الدراهم ": " قاموس ". (ن)

وكم أعدد لك من هذه الأحبولات الشيطانية، التي هي السحت بلا شك ولا شبهة، نسأل الله أن يصلح الجميع ". انتهى. ومن هذا القبيل: أنواع المكوس على أهل الدور والتجارات والضرائب المتنوعة التي لا تكاد تنحصر على الرعايا في الأشياء المختلفة، وكل ذلك من جهة الدول، ولا شكوى في ذلك من الكفرة الفجرة الذين استولوا على أكثر البلاد الإسلامية؛ بل من ملوك الإسلام وولاة المسلمين المدعين للتدين بالدين المحمدي، والله - سبحانه وتعالى - يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وانظر في كتابنا " إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة "؛ يتضح عليك الحق في هذا الباب من الباطل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": " اعلم أن باب المصارفة قد صار في هذه الأزمنة؛ بحيث لا يتمكن من الخلوص عن الدخول به في الربا البحت أحد؛ كما عرفناك فيما سبق ". ثم إن الناس يحتاجون إلى التعامل بهذه الضربة في تصرفاتهم، ويضطرون إلى المصارفة بها إلى القرش الفرنجي بذلك المقدار المرسوم لهم، فيبيعون الفضة بالفضة مع العلم بالتفاضل، وهذا ربا بحت. والعارف منهم يستروح إلى حيل قد رآها في كتب الفروع التي لا يرجع غالبها إلى دليل، وهي لا تغني من الحق شيئا. وها نحن نعرفك بغالب ما يظنونه من الحيل مخلصا لهم من ورطة الربا.

فمن ذلك: أن بعض المتفقهة - الذين لا يعرفون لعلوم الاجتهاد رسما - قد أفتاهم بأنه لا ربا في المعاطاة، وأن الصرف الذي يفعله الناس الآن هو معاطاة لعدم وقوع العقد، وهذا المقصر لا يدري بأن أدلة الكتاب والسنة مصرحة بتحريم الربا من غير نظر إلى عقد؛ بل لم يعتبر الله في البيع إلا مجرد الرضا. ومن ذلك: ما قاله أيضا بعض المصنفين في الفروع؛ أن الغش في كل واحد من البدلين يكون مقابلا للفضة في الآخر، وهذا لا يرضى به عاقل قط، وكيف يرضى العاقل أن يبيع تسع أواقي فضة بأوقية نحاس؟ ! فإن كان مراد هذا القائل أن ذلك مخلص عن الربا - سواء رضي كل واحد من المتبايعين بالبدل أم لم يرض -؛ فهذا جهل لا علم. ومن ذلك: أن الغش في كل واحد من البدلين يكون جريرة مسوغة للصرف، وهذا يرده حديث القلادة؛ فإنه قد انضم إلى الفضة غيرها، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مسوغا للبيع، بل أمر بالفصل والتمييز بين الفضتين. وقد ذكروا غير هذه الأمور؛ مما هو من السقوط بمكان لا يخفى على من له أدنى فطنة. فإن قلت: فهل من مخلص من هذه الورطة التي وقع الناس فيها؟ قلت: نعم؛ ثم مخلص أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما قاله لمن اشترى تمرا جيدا بتمر رديء؛ أحد التمرين جمع والآخر جنيب، وأخبره أنه

اشترى الصاع الجيد بصاعين من الرديء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن ذلك ربا "، فسأل رسول الله: كيف يصنع؟ فقال: إنه يبيع التمر الرديء بالدراهم ثم يشتري بها التمر الجيد: فهذه وسيلة شرعية ومعاملة نبوية، فمن أراد أن يصرف الدراهم المغشوشة بالقروش الفرنجية؛ فليشتر صاحب الدراهم - مثلا - بمقدار صرف القرش سلعة من صاحب القرش، ثم يبيعها منه بالقرش، ولا مخلص من ذلك إلا هذه الصورة. ومن ظن أن ثم مخلصا في غيرها؛ فهو مخادع بنفسه بما هو صريح الربا المتوعد عليه بحرب من الله ورسوله. وعلى الضارب لتلك الدراهم المغشوشة نصيبه من الإثم؛ لأنه حمل الناس على الربا، وألجأهم إلى الدخول فيه، وسن لهم هذه السنة الملعونة لقصد الحطام، وأكل أموال الناس بالباطل. ولو كان ممتثلا لما أمر الله به من الرفق بالرعية، والعدل في القضية؛ لكان له بضرب الفضة الخالصة عن الغش مندوحة، وأقل أحوال المسلم أن يكون في رعاية مصالح الرعية؛ كالفرنج، فيجعل ضربته كضربتهم، حتى يرتفع الربا في المصارفة ". انتهى.

باب الخيارات

(3 - باب الخيارات) ( [يجب على البائع بيان العيب] :) (يجب على من باع ذا عيب أن يبينه؛ وإلا ثبت للمشتري الخيار) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه (¬1) ، والدارقطني، والحاكم، والطبراني - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب؛ إلا بينه ". وقد حسن إسناده الحافظ في " الفتح ". وأخرج نحوه أحمد (¬2) ، وابن ماجه، والحاكم في " المستدرك " من حديث واثلة مرفوعا، وفي إسناده أبو جعفر الرازي، وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني مجهول. ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 31) ، وفي " المستدرك " (2 / 8) ؛ وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط مسلم وحده؛ لأن تابعيّه - عبد الرحمن بن شماسة؛ لم يخرج له البخاري. (ن) (¬2) • في " المسند " (3 / 471) ، و " المستدرك " (2 / 9 - 10) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ مع أنه قال في أبي سباع ما ذكره الشارح. لكن صنيعه يوهم أن ابن ماجه رواه من طريقه أيضا؛ وليس كذلك؛ فهو عنده (2 / 31 - 32) من طريق آخر عن واثلة، ولكنه ضعيف أيضا؛ من أجل معاوية بن يحيى - وهو الصدفي -؛ يرويه عنه بقية بن الوليد بالعنعنة. (ن)

وأخرج ابن ماجه (¬1) ، والترمذي، والنسائي، وابن الجارود، والبخاري تعليقا من حديث العداء بن خالد قال: كتب لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله؛ اشترى منه عبدا - أو أمة - (¬2) ؛ لا داء (¬3) ، ولا غائلة، ولا خبثة (¬4) - بكسر الخاء -؛ بيع المسلم المسلم ". ويؤيد هذه الأحاديث: حديث: " من غشنا فليس منا "؛ وهو في " صحيح مسلم "، وغيره (¬5) من حديث أبي هريرة. فدلت هذه الأحاديث على أن من باع ذا عيب ولم يبينه؛ فقد باع بيعا لا يحل شرعا، فيكون المشتري بالخيار؛ إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع؛ ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 32 - 33) ، وكذا الطحاوي في " المشكل " (2 / 233 - 234) ؛ ورجاله ثقات؛ غير عباد بن ليث الكرابيسي؛ فهو مختلف فيه، وقد ذكر ابن عدي أنه تفرد بهذا الحديث. وتعقبه الحافظ في " التهذيب " بقوله: " بل رواه غيره؛ أوضحت ذلك في " تغليق التعليق " ... ". قلت: فهو حديث ثابت. (ن) (¬2) • شك من الراوي عن العداء؛ كما صرحت بذلك رواية الطحاوي. (ن) (¬3) • أي: لا مرض. ولا غائلة؛ يعني: الأخلاق المذمومة من الإباق والسرقات، ونحو ذلك، التي يغتال بها من سواه ومن ذلك قيل: قتل فلان فلانا قتل غيلة: " الطحاوي ". (ن) (¬4) • في " النهاية ": " أراد بالخبثة الحرام، كما عبر عن الحلال بالطيب، والخبثة نوع من أنواع الخبيث، أراد أنه عبد رقيق؛ لا أنه من قوم لا يحل بينهم، كمن أعطى عهدا وأمانا، أو من هو حر في الأصل ". (ن) (¬5) • واستدركه الحاكم (2 / 8 - 9) على مسلم؛ فوهم! وعلمي أن مسلما أخرجه في " الإيمان ". (ن)

الدخل والمنفعة بضمان الأصل

لوجود المناط الشرعي وهو التراضي، وإن لم يرضه كان له رده؛ لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد؛ فلم يوجد المناط الشرعي، ولما ورد في رد المعيب؛ وسيأتي. ( [الدخل والمنفعة بضمان الأصل] :) (والخراج بالضمان) ؛ لحديث عائشة - عند أحمد (¬1) ، وأهل " السنن "، والشافعي - وصححه الترمذي -، وابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، وابن القطان، وابن خزيمة -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان. وفي رواية: أن رجلا ابتاع غلاما، فاستغله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة بالضمان ". والمراد بالخراج: الدخل والمنفعة؛ أي: يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه؛ أي: بسببه. قال مالك - في الرجل يشتري العبد؛ فيؤاجره بالإجارة العظيمة أو القليلة، ثم يجد به عيبا؛ يرد منه -: " إنه يرده بذلك العيب، وتكون له إجارته وغلته، وذلك الأمر الذي ¬

_ (¬1) • في " المسند " (6 / 80، 116، 161، 208، 237) ، و " المستدرك " (2 / 14 - 15) - وصححه - ووافقه الذهبي؛ وصححه الترمذي أيضا (2 / 260) . وأحد سنديه صحيح. (ن)

من حق المشتري الرد إذا تبين له الغرر

كانت عليه الجماعة ببلدنا، وذلك لو أن رجلا ابتاع عبدا، فبنى له دارا قيمة بنيانها ثمن العبد أضعافا، ثم يوجد به عيب يرد منه؛ رده، ولا يحسب للعبد عليه إجارة فيما عمل له ذلك؛ فكذلك تكون له إجارته إذا آجره من غيره لأنه ضامن له ". قلت: وعليه أهل العلم. ( [من حق المشتري الرد إذا تبين له الغرر] :) (وللمشتري الرد بالغرر) ؛ لأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر، فإذا تبين له الغرر؛ كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي. ( [التصرية حرام تثبت الخيار للمشتري] :) (ومنه) ؛ أي: من ذلك الغرر (المصرّاة، فيردها وصاعا من تمر) ؛ فإنه ثبت الخيار فيها بوجود الغرر الكائن بالتصرية، وهو حبس اللبن في الضروع؛ ليخيل للمشتري غزارته فيغتر. وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر ". وفي رواية مسلم، وغيره: " من اشترى مصراة؛ فهو منها بالخيار ثلاثة أيام (¬1) ؛ ¬

_ (¬1) • الظاهر أنها تبتدئ منذ الحلبة الثانية؛ فإنه - حينئذ - يظهر كونها مصراة. (ن)

إن شاء أمسكها؛ وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء (¬1) ". قلت: وعليه الشافعي. وفي " المنهاج ": " التصرية حرام؛ تثبت الخيار على الفور. وقيل: يمتد ثلاثة أيام؛ فإن رد بعد تلف اللبن (¬2) ؛ رد معها صاع تمر. وقيل: يكفي صاع قوت. والأصح: أن الصاع لا يختلف بكثرة اللبن ". وفي " شرح السنة ". " قال أبو حنيفة: لا خيار له بسبب التصرية، وليس له ردها بالعيب بعد ما حلبها. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: يردها ويرد معها قيمة اللبن ". قال في " الحجة البالغة ": " واعتذر بعض من لم يوفق للعمل بهذا الحديث بضرب قاعدة من عند نفسه؛ فقال: كل حديث لا يرويه إلا غير فقيه، [إذا] (¬3) انسد باب الرأي فيه؛ يترك العمل به. ¬

_ (¬1) • الحنطة؛ سميت بها؛ لكون لونها السمرة. (ن) (¬2) قوله: " تلف اللبن "؛ أي: حلبه، وعبر به عنه؛ لأنه بمجرد حلبه يسري إليه التلف. اه من " ابن حجر على المنهاج ". (ش) (¬3) • زيادة لا بد منها. (ن)

وهذه القاعدة - على ما فيها -: لا تنطبق على صورتنا هذه؛ لأنه أخرجه البخاري (¬1) عن ابن مسعود أيضا، وناهيك به {ولأنه بمنزلة سائر المقادير الشرعية يدرك العقل حسن تقدير ما فيه، ولا يستقل بمعرفة حكمه هذا القدر خاصة؛ اللهم إلا عقول الراسخين في العلم ". انتهى. قال ابن القيم: " ومنها رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس، وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل، فيقال: الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة والقياس الصحيح والموافق للكتاب والسنة. فالحديث الصحيح أصل بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟} هذا من أبطل الباطل، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله - تعالى -، وكلام رسوله، وما عداهما فمردود إليهما. فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع؛ فكيف يرد الأصل بالفرع؟ ! قال الإمام أحمد: إنما القياس أن يقيس على أصل، فأما أن يجيء إلى ¬

_ (¬1) • في " صحيحه " (4 / 293) موقوفا عليه، وكذلك أخرجه أحمد في " مسنده " رقم (4096) ؛ وقد روي مرفوعا؛ لكنه خطأ كما بينه الحافظ في " الفتح ". وقد أخرجه أحمد أيضا (4 / 314) من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وسنده إليه صحيح على شرط الشيخين موقوفا ومرفوعا؛ وروي من حديث ابن عمر من وجهين عنه، ومن حديث أنس، وعمرو بن عوف المزني. وقال ابن عبد البر: " إنه حديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل "؛ كما في " الفتح ". (ن)

أصل فيهدمه ثم يقيس؛ فعلى أي يقيس؟ { وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس، وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس، وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح. وأما القياس الباطل؛ فالشريعة كلها مخالفة له. ويا لله العجب} كيف وافق الوضوء - بالنبيذ المشتد - الأصول حتى قبل؛ وخالف خبر المصراة الأصول حتى رد؟ ! ". انتهى. والحاصل: أنه لم يرد ما يعارض حديث المصراة، ولم تصح الرواية بلفظ: " طعام أو بر "؛ بل الذي صح: الصاع من التمر. وللحنفية أجوبة عن الحديث كثيرة، ليس على شيء منها أثارة من علم، وقد استوفاها الماتن في " شرح المنتقى "، ودفعها جميعها، ولا نؤثر على نصر الشارع شيئا، بل نقول: إذا تنازع بائع المصراة ومشتريها في قيمة اللبن المستهلك، وردّ المشتري صاعا من تمر؛ وجب على البائع قبوله، ولا يجاب إلى غيره ولو كان المثل موجودا. نعم؛ إذا عدم التمر كان الواجب الرجوع إلى قيمته. وكذلك إذا تراضى البائع والمشتري على قيمة أخرى؛ كان الرضا له حكمه. وتمام هذا البحث في شرحنا ل " بلوغ المرام "؛ فليرجع إليه. (أو ما يتراضيان عليه) ؛ لأن حق الآدمي مفوض إليه، فإذا رضي بأخذ

من خدع في بيعه فله الخيار

عوض عنه؛ جاز ذلك؛ كما لو رضي بإسقاطه أو أخذ بعضه. ( [من خدع في بيعه فله الخيار] :) (ويثبت الخيار لمن خدع) ؛ فإن كان مع شرط عدم الخداع؛ فلا ريب في ذلك (لما تقدم من حديث ابن عمر: أن رجلا كان يُخدع في البيوع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من بايعت فقل: لا خلابة "، وهو في " الصحيحين "، و " الموطأ "، وزاد فيه: فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لحبان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع خيار ثلاثة أيام؛ كما في حديث ابن عمر في رواية منه، وكذلك في حديث غيره، وأما إذا لم يشترط؛ فالبيع الذي وقع ليس هو بيع المسلم إلى المسلم؛ بل هو مشتمل على الخبث والخداع والغائلة، فللمخدوع الخيار لكونه كذلك، ولكون الخداع كشفا عن عدم الرضا المحقق، الذي هو المناط؛ كما تقدم تقريره. قلت: اختلفوا في تفسير هذا الحديث؛ فقال المحلي: " لا خلابة ": عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام. وفي رواية البيهقي، وابن ماجه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال ". وقال محمد: نرى أن هذا كان لذلك الرجل خاصة؛ يريد أنه خيار الغبن، وليس بمطرد.

من باع قبل وصول السوق فله الخيار

وفي " شرح السنة ": " عند أحمد: الخبر عام في حق كافة الناس، إذا ذكر هذه الكلمة في البيع؛ كان له الرد إذا ظهر في بيعه الغبن، وسبيله سبيل من باع واشترى بشرط الخيار ". في " المنهاج ": " لهما ولأحدهما شرط الخيار؛ وإنما يجوز في مدة معلومة، ولا تزيد على ثلاثة أيام ". ( [من باع قبل وصول السوق فله الخيار] :) (أو باع قبل وصول السوق) ؛ لحديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُتلقى الجلب؛ فإن تلقاه إنسان فابتاعه؛ فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق (¬1) . وتلقي الجلب: هو أن يقدم ركب بتجارة، فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهذا مظنة ضرر للبائع؛ لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر. ( [البيعان بالخيار إذا وقع البيع على صورة محرمة] :) (ولكل من المتبايعين - بيعا منهيا عنه - الرد) ؛ كتلك الصور المتقدمة؛ ووجهه: أن النهي إن كان مقتضيا للفساد المرادف للبطلان - كما تقرر في ¬

_ (¬1) • هذا اللفظ ليس لمسلم (5 / 5) . (ن)

من اشترى شيئا ولم يره فله رده إذا رآه

الأصول -؛ فوجود العقد كعدمه، وهو غير لازم لواحد منهما، فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم، وإن كان النهي غير مقتض للفساد؛ فوقوع العقد على صورة من تلك الصور؛ إن رضيه كل واحد منهما؛ فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا، وإن لم يحصل الرضا منهما، أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع؛ فقد فقد المناط. ( [من اشترى شيئا ولم يره فله رده إذا رآه] :) (ومن اشترى شيئا لم يره؛ فله رده إذا رآه) ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا: " من اشترى ما لم يره؛ فله الخيار إذا رآه ". أخرجه الدارقطني، والبيهقي (¬1) ، وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي، وهو ضعيف (¬2) ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ وفي إسناده - أيضا - أبو بكر بن أبي مريم (¬3) ؛ وهو ضعيف (2) ، ومثل هذا لا تقوم به الحجة. ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر؛ فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر؛ سواء كان بعناية ¬

_ (¬1) • في " سننه الكبرى " (5 / 268) ، والدارقطني (ص 290) ؛ وقال: " عمر بن إبراهيم؛ يقال له: الكردي، يضع الأحاديث، وهذا باطل لا يصح، لم يروه غيره، وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفا من قوله ". وأخرجه قبله من مرسل مكحول، ثم قال: " هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف ". (ن) (¬2) وقال الدارقطني: " كذاب خبيث "، وقال الخطيب: " غير ثقة ". (ش) (¬3) وقال أبو زرعة: " ضعيف منكر الحديث ". (ش)

من اشترى شيئا بخيار فله رده

البائع أم لا، وأيضا لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي، فإذا لم يرض المشتري بالمبيع عند رؤيته؛ فقد فقد الرضا وعدم المصحح. ( [من اشترى شيئا بخيار فله رده] :) (وله رد ما اشتراه بخيار) ، وذلك نحو أن يشتري شيئا على أن له فيه الخيار مدة معلومة؛ لما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس بلفظ: " كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا؛ إلا بيع الخيار "، وفي لفظ: " إلا أن يكون صفقة خيار "، وهما في " الصحيحين "، وفيهما ألفاظ بهذا المعنى، ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار، فقيل هذا، وقيل غيره. ويؤيد ثبوت خيار الشرط ما تقدم من حديث من كان يخدع في البيوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا بايعت فقل: لا خلابة "، وفي بعض الروايات: " ولك الخيار ثلاثة أيام "، وقد تقدم ذلك. ( [القول للبائع إذا اختلف البيعان] :) (وإذا اختلف البيعان؛ فالقول ما يقوله البائع) ؛ لحديث ابن مسعود - عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم، وابن السكن - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 4442 - 4447) ، والدارقطني (ص 297 - 298) ، والبيهقي (5 / 331 - 334) ؛ من طرق عن ابن مسعود، وحسن بعضها البيهقي؛ ثم قال: " وقد روي من أوجه بأسانيد مراسيل؛ إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قويا ". ونقل الزيلعي (4 / 107) نحوه عن ابن الجوزي في " التحقيق ". وكذلك قواه ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 162) . (ن)

" إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة؛ فالقول ما يقول صاحب السلعة؛ أو يترادان ". وفي لفظ: " والمبيع قائم بعينه ". وفي لفظ: " إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك؛ فالقول قول البائع ". وفي لفظ: " ولا بينة لأحدهما ". وفي الباب روايات كثيرة؛ قد استوفاها المصنف في " نيل الأوطار ". وحاصلها يفيد أن القول قول البائع، وقد قيل: إن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين، وسيأتي. وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه، فظاهر حديث: " القول ما يقول البائع ": أن القول قوله؛ سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، وظاهر حديث: " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين ": أن القول قول المنكر مع يمينه؛ سواء كان بائعا أو غير بائع. وقد تقرر أنه إذا تعارض عمومان - كما نحن بصدده -؛ وجب المصير إلى الترجيح إن أمكن؛ والترجيح ههنا ممكن، فإن حديث: " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين " أصح من حديث: " فالقول قول البائع "؛ ومقتضى هذا الترجيح: أن القول لا يكون قول البائع؛ إلا إذا كان منكرا غير مدع؛ من غير فرق بين المبيع الباقي والتالف، ولكنه يرشد إلى الجمع ما رواه أحمد (¬1) في ¬

_ (¬1) الصواب: عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند "؛ لأنه روى في أثناء " مسند " أبيه - أحمد بن

" زوائد المسند "، والدارمي، والطبراني من حديث ابن مسعود الذي فيه: " فالقول ما يقول البائع " بزيادة: " والسلعة قائمة "؛ ولكن في إسناد هذه الزيادة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف لسوء حفظه، فلا يصلح للجمع بين الحديثين بها. وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا طويلا. قال مالك: " الأمر عندنا في الرجل يشتري السلعة، فيختلفان في الثمن؛ فيقول البائع: بعتكها بعشرة دنانير، ويقول المبتاع: ابتعتها منك بخمسة دنانير: أنه يقال للبائع: إن شئت فأعطها المشتري بما قال، وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت. فإن حلف قيل للمشتري: إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع، وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت، فإن حلف بريء منها، وذلك أن كل واحد منهما مدع على صاحبه ". وفي " شرح السنة ": " ولا فرق عند الشافعي بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة؛ في أنهما ¬

_ حنبل - أحاديث لم يروها عن أبيه؛ بل عن شيوخ آخرين. (ش) • قلت: والظاهر أنه سقط من الكتاب من بعض النساخ: " عبد الله بن "؛ لدليلين: الأول: أن مثل هذا لا يخفى على الشارح. الثاني: أن جل عمدته في هذا " الشرح " على " نيل الأوطار "، وقد وقع فيه (5 / 190) عزو هذه الزيادة على الصواب! (ن)

يتحالفان ويرد قيمة السلعة، وإليه رجع محمد بن الحسن. وذهب أبو حنيفة إلى أنهما لا يتحالفان بعد هلاك السلعة عند المشتري، بل القول قول المشتري مع يمينه. فإذا اختلفا في الأجل أو الخيار أو الرهن أو الضمين؛ فهو عند الشافعي كالاختلاف في الثمن يتحالفان، وقال أبو حنيفة: القول قول من ينفيها (¬1) ، ولا تحالف عنده إلا عند اختلاف الثمن ". وفي " الحجة البالغة ": " القول قول صاحب المال؛ لكن المبتاع بالخيار؛ لأن البيع مبناه على التراضي " (¬2) . ¬

_ (¬1) قوله: " ينفيها "؛ أي: الأجل والخيار وغيرها. (ش) (¬2) لا نرى تعارضا بين حديث: " على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين "، وبين إثبات اليمين للبائع إذا اختلفا في القيمة؛ فإن السلعة ملك البائع بيقين، والمشتري يدعي أنه ملكها بثمن ادعاه، والبائع ينكر هذا ويتمسك بأصل بقائها في ملكه، وبأنها لم تخرج منه إلا بثمن أكثر مما قاله المشتري، فالمشتري في الحقيقة هو المدعي، وهو الناقل عن الأصل المتيقن؛ فعليه البينة، والبائع منكر دعوى المشتري ومتمسك بالأصل، فالقول قوله؛ مع يمينه إذا لم تكن بينة، وهذا هو الموافق للقواعد الصحيحة والقياس الجلي، والأحاديث تؤيده. (ش)

باب السلم

(4 - باب السلم) ( [شروط السلم] :) (1 -[أن يكون الثمن نقدا] :) (هو) نوع مخصوص من أنواع البيع؛ فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين؛ لأن ذلك هو بيع الكالئ بالكالئ، وقد تقدم المنع منه؛ فلا بد أن يكون رأس المال مدفوعا عند العقد. (2 -[أن يقبض الثمن في المجلس] :) (أن يسلم رأس المال في مجلس العقد) ، وقد وقع الاتفاق على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس، وقد شرط في السلم جماعة من أهل العلم شروطا لم يدل عليها دليل. (3 -[أن يكون البيع معلوما كيلا أو وزنا إلى أجل معلوم] :) (على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوما إلى أجل معلوم) ؛ لما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: " من أسلف؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ".

وأخرج أحمد، والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله ابن أبي أوفى، قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط (¬1) من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى؛ قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. وفي لفظ لأحمد، وأهل " السنن " - إلا الترمذي -: وما نراه عندهم. في " شرح السنة ": " السلف له معنيان في المعاملات: أحدهما: القرض؛ والثاني: السلم. ومعناه عند الشافعي: لو كان مؤجلا اشترط معرفة الأجل، ولو كان مكيلا أو موزونا؛ اشترط معرفة الكيل أو الوزن، وفهم معرفة الجنس والوصف بالأولى ". وفي " الوقاية ": " يصح فيما يعلم قدره وصفته؛ لا فيما لا يعلم قدره وصفته كالحيوان، وشروطه بيان جنسه ونوعه وصفته، وقدره معلوما، وأجله معلوما، وأقله شهر ". وفي " الحجة البالغة ": " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ¬

_ (¬1) • هم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، ويقال لهم: (النبط) : " فتح " (4 / 341) . (ن)

شروط لم يدل عليها دليل

والثلاث، فقال: " من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل ووزن إلى أجل معلوم "، وذلك لترتفع المناقشة بقدر الإمكان، وقاسوا عليها الأوصاف التي يبين بها الشيء من غير تضييق، ومبنى القرض على التبرع من أول الأمر، وفيه معنى الإعارة، فلذلك جازت النسيئة وحرم الفضل ". انتهى. ( [شروط لم يدل عليها دليل] :) أقول: أما اعتبار الجنس والصفة؛ فليس في الحديث ما يدل عليه، وكذلك اشتراط تعيين المكان ليس في الحديث ما يدل عليه، وإنما اعتبر تعيين هذه الأمور لرفع التشاجر من بعد. ولا يخفى أن الرجوع إلى النوع المعهود، أو الصفة المعهودة، أو إلى الأوسط من ذلك يرفع التشاجر، وكذلك يرفع التشاجر في تعيين المكان إلى الأصل، وهو عدم وجوب الإيصال على المسلم إليه، والرجوع إلى البلدة التي هي وطنه، أو بلد إقامته؛ يرفع ذلك أيضا. فالحاصل: أن شروط السلم تعيين الجنس المسلم فيه؛ وكونه معلوما بكيل أو وزن، وكونه إلى أجل معلوم، فهذه ثلاثة شروط، ولم يدل الدليل على اشتراط غيرها. ( [إذا عجز البائع عن تسليم المبيع وأقاله المبتاع فله ما دفع إليه] :) (ولا يأخذ إلا ما سماه أو رأس ماله) ؛ لحديث ابن عمر - عند الدارقطني -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا يتصرف المبتاع بالمبيع إلا بعد تسلمه

" من أسلف شيئا؛ فلا يشترط على صاحبه غير قضائه " (¬1) . وفي لفظ: " من أسلف في شيء؛ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله ". قال مالك: " الأمر عندنا فيمن أسلف في طعام بسعر معلوم إلى أجل مسمى، فحل الأجل، فلم يجد المبتاع عند البائع وفاء مما ابتاع منه فأقاله؛ فإنه لا ينبغي له أن يأخذ إلا ورقه أو ذهبه، أو الثمن الذي دفع إليه بعينه ". ( [لا يتصرف المبتاع بالمبيع إلا بعد تسلمه] :) (ولا يتصرف فيه قبل قبضه) ؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم في شيء؛ فلا يصرفه إلى غيره ". وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي، وفيه مقال. ¬

_ (¬1) • قلت: ولكن هذا الحديث إسناده ضعيف؛ كما قال الحافظ (4 / 343) ، وقد تبع الشارح الماتن في السكوت عليه في " النيل " (5 / 193) ، وليس بحسن؛ فإنه عند الدارقطني (ص 308) ؛ من طريق عطية بن بقية، حدثني أبي: حدثني لوذان بن سليمان ... بسنده عن ابن عمر. وعطية هذا؛ قال ابن حبان: " يخطئ ويغرب ". ولوذان؛ قال ابن عدي: " مجهول، وما رواه لا يتابع عليه ". وقد اختلف العلماء في هذه المسألة - وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه -؛ وقد ذهب إلى الجواز مالك وأحمد؛ بشرط أن لا يربح فيه، بل يكون بقدر قيمة دين المسلم. ورجح هذا الإمام ابن القيم في " تهذيب السنن "، وانتصر له بما لا يستغنى عن الاطلاع عليه؛ فراجعه؛ فإنه نفيس (5 / 111 - 117) . (ن)

والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه (¬1) ، ولا يجوز بيعه قبل القبض. وقد اختلف أهل العلم في ذلك. قال مالك: " لا يشتري منه بذلك الثمن شيئا حتى يقبضه منه، وذلك أنه إذا أخذ غير الثمن الذي دفع إليه، أو صرفه في سلعة غير الطعام الذي ابتاع منه؛ فهو بيع الطعام قبل أن يستوفى ". قلت: وعليه أهل العلم. في " الوقاية ": " ولم يجز التصرف في رأس المال والمسلم فيه؛ كالشركة والتولية قبل قبضه ". وفي " المنهاج ": " ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، ولا الاعتياض عنه " (1) . ¬

_ (¬1) • قلت: الظاهر جوازه؛ لأنه الأصل، والحديث المذكور ضعيف؛ فلا حجة فيه؛ على أنه لو صح لم يتناول محل النزاع، كما قال ابن القيم؛ لأنه لم يصرف المسلم فيه غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره، فأين المسلم فيه من رأس المسلم؟ وهذا اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، قال: " وهو الصحيح؛ فإن هذا عوض مستقر في الذمة، فجازت المعاوضة عليه؛ كسائر الديون من القرض وغيره - قال -؛ وهو مذهب الشافعي "؛ انظر " التهذيب " (4 / 117 - 118) . (ن)

باب القرض

(5 - باب القرض) ( [يجب على المقترض إرجاع ما اقترضه] :) (يجب إرجاع مثله) ؛ لأنه إذا وقع التعاطي على أن يكون القضاء زائدا على أصل الدين؛ فذلك هو الربا، بل قد ورد ما يدل على أن مجرد الهدية من المستقرض للمقرض ربا؛ كما أخرجه البخاري (¬1) عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق، فأهدى إليك حمل تبن، أو حمل شعير، أو حمل قت (¬2) ؛ فلا تأخذنه فإنه ربا. ( [يجوز الإحسان من المقترض للمقرض بدون شرط] :) (ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي عليه دين؛ فقضاني وزادني. وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة، قال: كان لرجل على ¬

_ (¬1) • في (المناقب) (7 / 103) ، قال الحافظ تعليقا على قوله: فإنه ربا: " يحتمل أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام؛ وإلا فالفقهاء على أنه إنما يكون ربا إذا اشترطه؛ نعم؛ الورع تركه! ". قلت: لكن ابن سلام لم يتفرد بهذا؛ فقد روى البيهقي (5 / 349) نحوه عن أبي بن كعب بسند صحيح؛ فالوجه ما يأتي. (ن) (¬2) • هو " الفصفصة؛ وهي الرطبة من علف الدواب "، فإذا جف، فهو قضب: " نهاية ". (ن)

يحرم أي نفع يجره القرض للمقرض

النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل، فجاء يتقاضاه، فقال: " أعطوه "، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: " أعطوه "، فقال: أوفيتني أوفاك الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خيركم أحسنكم قضاء ". وأخرج نحوه مسلم، وغيره من حديث أبي رافع. وهذا الحديثان - كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل -؛ يدلان على أنه يصح قرض الحيوان، وإليه ذهب الجمهور. ومنع من ذلك الكوفيون (¬1) . ( [يحرم أي نفع يجره القرض للمقرض] :) (ولا يجوز أن يجر القرض نفعا للمقرض) (¬2) ؛ لحديث أنس - عند ابن ماجه -: أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه، أو حمله على الدابة؛ فلا يركبها ولا يقبله؛ إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ". وفي إسناده يحيى بن إسحاق الهنائي، وهو مجهول، وفي إسناده أيضا ¬

_ (¬1) • واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وقد تقدم. قال الحافظ (5 / 44) : " وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب (يعني: حديث أبي هريرة) ؛ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن، فقد جمع بينهما الشافعي وجماعة؛ بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين، ويتعين المصير إلى ذلك؛ فإن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما باتفاق، وإذا كان ذلك المراد من الحديث؛ بقيت الدلالة على جواز استقراض الحيوان والسلم فيه ". (ن) (¬2) • يعني: قبل الوفاء. (ن)

عتبة بن حميد الضبي، وقد ضعفه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش، وهو أيضا ضعيف (¬1) . وقد أخرج البخاري في " التاريخ "؛ من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا أقرض فلا يأخذ هدية " (¬2) . وأخرج البيهقي عن ابن مسعود، وأبي كعب، وعبد الله بن سلام، وابن عباس في " السنن الكبرى " موقوفا عليهم: إن كل قرض جر منفعة؛ فهو وجه من وجوه الربا ". وأخرج البيهقي أيضا نحو ذلك في " المعرفة " عن فضالة بن عبيد؛ موقوفا عليه. وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام (¬3) . ¬

_ (¬1) • وهذا هو الحق؛ أن الحديث ضعيف، وقد أخطأ شيخ الإسلام؛ حيث حسنه في " الفتاوى " (3 / 127 - 128) . وقد رددت عليه، وبينت ضعف الحديث من وجوه خمسة في " معجم الحديث "؛ فلا يغتر أيضا بتحسين السيوطي له، وتصحيح العزيزي { (ن) (¬2) • لعله الحديث الأول، اختصره بعض الرواة؛ وإلا فليراجع سنده} (ن) (¬3) • قال ابن تيمية - بعد ذكر حديث أنس المتقدم، وهذا الأثر وغيره -: " فنهى النبي صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه - المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء، وإن كان لم يشرط ذلك ولم يتكلم به؛ فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة، وألف مؤخرة، وهذا ربا، ولهذا جاز أن يزيده عند الوفاء، ويهدي له بعد ذلك؛ لزوال معنى الربا ". (ن)

وقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة. وفي رواية: " كل قرض جر منفعة فهو ربا ". وفي إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك. وما في الباب من الأحاديث (¬1) والآثار؛ يشهد بعضها لبعض. ¬

_ (¬1) • أما حديث أنس الأول؛ فضعيف كما سبق. وأما الآخر؛ فإن كان من طريق آخر فينظر فيه؛ فإن صح وجب حمل الحديث والآثار على ما قبل الوفاء؛ توفيقا بينها وبين حديث أبي هريرة وما في معناه؛ فتأمل! (ن)

باب الشفعة

(6 - باب الشفعة) والأصل فيها دفع الضرر عن الجيران والشركاء. ( [ما سبب الشفعة؟] :) (سببها الاشتراك في شيء ولو منقولا) ؛ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك؛ كحديث جابر في " البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق (¬1) ؛ فلا شفعة. وأخرجه أيضا بنحو هذا اللفظ أهل " السنن ". وحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قسمت الدار وحدت؛ فلا شفعة فيها ". أخرجه أبو داود، وابن ماجه، بإسناد رجاله ثقات (¬2) . وأخرج مسلم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم. وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: " الشفعة في كل شيء "، ¬

_ (¬1) • أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها؛ كأنه من التصرف والتصريف: " فتح " (4 / 345) . (ن) (¬2) وقد صححه شيخنا في الصحيحة " (1385) .

القسمة تبطل الشفعة

ورجاله ثقات؛ إلا أنه أعل بالإرسال (¬1) . وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به (¬2) . ( [القسمة تبطل الشفعة] :) (فإذا وقعت القسمة فلا شفعة) ؛ لما في هذه الأحاديث من التصريح بأنها في الشيء الذي لم يقسم، ثم فسر القسمة بقوله: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق؛ فلا شفعة ". فالأحاديث الواردة في مطلق شفعة الجار - كأحاديث: " الجار أحق بسقبه (¬3) "، وهي ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما -؛ مقيدة بعدم القسمة؛ لأن الجار - كما يصدق على الملاصق -؛ يصدق على المخالط. وأما تقييد شفعة الجار باتحاد الطريق - كما في حديث جابر عند أحمد، ¬

_ (¬1) • قال البيهقي (6 / 109) : " والصواب مرسل "؛ ثم ساقه بإسناد آخر عن ابن عباس؛ وضعفه. (¬2) • هذا اختصار مخل {فالذي في " الفتح " - وعنه نقله الشوكاني (5 / 281) ، ثم الشارح -: " بإسناد لا بأس برواته "} وفرق بين هذا وبين ما ذكره الشارح؛ فإنه أوهم أن إسناده لا بأس به، والحافظ صرح بأنه لا بأس في رواته، وهذا لا يستلزم نفي البأس عن السند؛ كما لا يخفى على المدقق؛ فإنه مع ثقة رواته؛ قد يكون فيه علة لا تمنع البأس عنه، وهذا هو الواقع في سند هذا الحديث؛ فإنه مع ثقة رجاله؛ فإن فيه عنعنة ابن جريج؛ فتأمل! (ن) (¬3) • السقب - بفتح القاف -: القرب، وفيه لغتان: السين والصاد. قال في " النهاية ": " ويحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونة بسبب قربه من جاره ". وهذا الاحتمال أظهر عندي في معنى الحديث. (ش)

وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعة جاره؛ ينتظر بها إن كان غائبا؛ إذا كان طريقهما واحدا " -؛ فهذا الحديث يؤيد ما قلناه من أنه لا شفعة إلا للخليط؛ لأن الطريق إذا كانت واحدة؛ فالخلطة كائنة فيها، ولم تقع القسمة الموجبة لبطلان الشفعة؛ لعدم تصريف الطرق. فالحق: أن سبب الشفعة هو واحد فقط، وهو الشركة قبل القسمة؛ والخلطة الكائنة بين الشريكين في المشترك بينهما، أو في طريقه، أو في مجاريه، أو منبعه، فما قيل من أن من أسبابها الاشتراك في الطريق، والاشتراك في قرار النهر أو مجاري الماء؛ هو راجع إلى السبب الذي ذكرناه؛ لأن الاشتراك في طريق الشيء، أو في سواقيه؛ هو اشتراك في بعض ذلك الشيء. والحاصل: أن هذه الأحاديث مخصصة لذلك العموم؛ لأن الظاهر من قوله: " فلا شفعة "؛ أن القسمة مانعة من ثبوت الشفعة؛ سواء كانت القسمة بين المشتري والشفيع، أو متقدمة؛ كما تفيده النكرة الواقعة في سياق النفي. وقد حقق الماتن المقام في رسالة مستقلة؛ أورد فيها جميع ما ورد في الشفعة من الأدلة، وجمع بينها جمعا نفيسا، فليرجع إليها (¬1) . ¬

_ (¬1) • قلت: لكن يعكر على حصر السبب بالشركة فقط؛ حديث الشريد بن سويد، قال: قلت: يا رسول الله! أرض - ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار - بيعت؟ قال: " الجار أحق بسقبه "؛ أخرجه الطحاوي (2 / 267) بسند صحيح. وقد جمع بينه وبين الأحاديث المتقدمة: الشوكاني (5 / 282) بتقييده بحديث جابر المتقدم بلفظ: " إذا كان طريقهما واحدا "؛ قال: " فإنه يدل على أن الجوار لا يكون مقتضيا للشفعة؛ إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده ". وهذا أعدل الأقوال؛ كما قال ابن القيم في " التهذيب " (5 / 167) . (ن)

وقد حكى في " البحر " عن علي، وعثمان، وعمر، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة ومالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وعبيد الله بن الحسن، والإمامية: أن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة. وحكي عن أبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن سيرين: أن الشفعة تثبت بالجوار، واستدلوا بالأحاديث الواردة في شفعة الجار. قال في " شرح السنة ": " اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع (¬1) المنقسم؛ إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة؛ فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع، وإن باع بشيء متقوم من ثوب أو عبد؛ فليأخذ بقيمته. واختلفوا في ثبوت الشفعة للجار: قال الشافعي: لا شفعة للجار. وذهب أبو حنيفة إلى ثبوت الشفعة للجار. وفي " المنهاج ": " وكل ما لو قسم بطلت منفعته - كحمام ورحى -؛ لا شفعة فيه في الأصح (¬2) ". ¬

_ (¬1) • هو المنزل ودار الإقامة، وربع القوم محلتهم، والرباع جمعه. (ن) (¬2) • الظاهر أن الصواب؛ له حق الشفعة في هذه الصورة أيضا، بل هو أولى؛ لأن دخول شريك جديد مع الشريك القديم مدعاة لإيجاد خلاف بينهما؛ الأمر الذي تضع الشريعة الذرائع في سبيله، وهذا يقتضي إبقاء حق الشفعة له؛ فتأمل! (ن)

بيان أنه لا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه

وفي " الموطإ ": عن عثمان بن عفان: لا شفعة في بئر ولا نخل (¬1) . قال في " الحجة البالغة ": " أرى أن الشفعة شفعتان: شفعة يجب على المالك أن يعرضها على الشفيع، فيما بينه وبين الله، وأن يؤثره على غيره، ولا يجبر عليها في القضاء، وهي للجار الذي ليس بشريك. وشفعة يجبر عليها في القضاء، وهي للجار الشريك فقط، وهذا وجه الجمع بين الأحاديث المختلفة في الباب ". انتهى. والحق ما قدمناه. ( [بيان أنه لا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه] :) (ولا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه) ؛ لحديث جابر عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم - ربعة أو حائط -؛ لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه؛ فهو أحق به. ( [لا تبطل الشفعة بالتراخي] :) (ولا تبطل بالتراخي) ؛ لما في الأحاديث الواردة في الشفعة من الإطلاق. وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ: " لا شفعة لغائب ¬

_ (¬1) لفظ " الموطإ ": " لا شفعة في بئر ولا في فحل النخل "، وبين صاحب " النهاية " سببه؛ بأنه كان للقوم نخيل، ولهم فحل يلقحون منه نخيلهم، فلا شفعة فيه؛ لأنه لا يمكن قسمته. وهذا خلاف ظاهر ما فهمه الشارح هنا. (ش)

ولا لصغير، والشفعة كحل العقال ": ففي إسناده محمد بن عبد الرحمن البيلماني، وهو ضعيف جدا، وقال ابن حبان: لا أصل للحديث، وقال أبو زرعة: منكر، وقال البيهقي: ليس بثابت، ولا يصح تأييد هذا الحديث الباطل بما روي من قول شريح؛ فإنه لا حجة في ذلك. على أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام: نفي شفعة الغائب، ونفي شفعة الصغير، واعتبار الفور، وقد هُجر ظاهره في الحكمين الأولين، فكان ذلك مفيدا لترك الاحتجاج به في الحكم الثالث، على فرض أنه غير باطل. والحاصل: أنه ليس في اشتراط الفورية ما يصلح متمسكا كما لا يخفى على عارف، وقد ثبتت الشفعة بتلك الأحاديث الصحيحة، فتقييد الثبوت بقيد لا دليل عليه مستلزم لإبطال ما يستفاد من أحاديث الثبوت من الإطلاق بدون حجة؛ وذلك باطل. فالحق: أن الشفعة لا تبطل بالتراخي؛ لأن دفع الضرر الذي شرعت لأجله لا يختص بوقت دون وقت. وما قيل من أن إثباتها مع التراخي يستلزم الإضرار بالمشتري - لأن ملكه يكون معلقا -: ممنوع، والسند أن ملكه مستقر يتصرف به كيف يشاء، غاية ما هناك أن للشفيع حقا؛ متى طلبه وجب، وليس ذلك من التعليق في شيء، ولا إضرار في ذلك بحال (¬1) . ¬

_ (¬1) كلا؛ بل الضرر واقع على المشتري؛ فإن توقع طلب الشريك الشفعة يفوت عليه كثيرا من المقاصد، وإذا أراد أن يبيع باع بالبخس؛ لخوف المشتري الجديد أن يخرج من ملكه بالشفعة. والحق: أن تقدير أن هذا الحق للشريك موكول إلى الحاكم؛ لأنه مما لا نص فيه، فإذا حد له أجلا؛ وجب الوقوف عنده. (ش)

باب الإجارة

(7 - باب الإجارة) ( [الأدلة على مشروعية الإجارة] :) قال الله - تعالى في قصة موسى وشعيب - عليهما السلام - {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} ، وقال - تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} . في هذه الآية مشروعية الإجارة مطلقا، ومشروعية الإجارة بتسليم نفسه للخدمة، وعليه أهل العلم، وتدل أيضا على أنه إن أطلق الخدمة؛ فهي محمولة على المتعارف، ولا يضرها الجهالة في الجملة؛ لأن الإرضاع والرعي لا يضبتان حق الضبط. (تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي) ؛ لإطلاق الأدلة الواردة في ذلك؛ كحديث أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره. أخرجه أحمد (¬1) ؛ ورجال إسناده رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3 / 59، 68، 71) ، وكذا البيهقي (6 / 120) ؛ من طريق إبراهيم، عن أبي سعيد مرفوعا؛ وقال البيهقي: " وهو مرسل بين إبراهيم - وهو النخعي - وأبي سعيد ". قلت: فلم يفد أن رجاله رجال الصحيح! وهو عند النسائي (2 / 147) موقوف من هذا الوجه. (ن) قلت: قد انفصل شيخنا إلى تضعيفه في " الإرواء " (1490) .

وأخرجه أيضا البيهقي، وعبد الرزاق، وإسحاق في " مسنده "، وأبو داود في " المراسيل "، والنسائي في (المزارعة) ؛ غير مرفوع (¬1) . ولفظ بعضهم: " من استأجر أجيرا؛ فليسم له أجرته ". ولإطلاق حديث أبي هريرة - عند البخاري، وأحمد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا؛ فاستوفى منه ولم يوفه أجره " (¬2) . وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلا عند هجرته إلى المدينة؛ كما في " البخاري " وغيره. وثبت في حديث أبي هريرة عند البخاري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم "، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: " نعم؛ كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ". وأخرج أحمد (¬3) ، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث سويد بن قيس، قال: جلبت أنا ومخرمة (¬4) العبدي بزا من هجر، فأتينا به مكة، ¬

_ (¬1) • ورجحه بعضهم. (ن) (¬2) انظر الكلام عن هذا الحديث في " إرواء الغليل " (1489) لشيخنا. (¬3) • في " المسند " (4 / 352) ، وأبو داود (2 / 84) ، والنسائي (2 / 226) ، والترمذي (2 / 268) ، وابن ماجه (2 / 25) ، والحاكم (2 / 30 - 31) ، والبيهقي (6 / 32 - 33) . وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن) (¬4) • كذا وقع عند بعض المخرجين، وعند بعضهم " مخرقة " بالفاء ". ونقل ابن التركماني عن ابن الصلاح أنه الصواب. (ن)

فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجر، فقال له: " زن وأرجح ". وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر قدر أجرته؛ بل أعطاه ما يعتاده في مثل ذلك، وقد كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - يؤجرون أنفسهم في عصره صلى الله عليه وسلم، ويعملون الأعمال المختلفة، حتى إن عليا آجر نفسه من امرأة على أن ينزع لها كل ذنوب بتمرة، فنزع ستة عشر ذنوبا، حتى مجلت (¬1) يداه، فعدت له ست عشرة تمرة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأكل معه منها؛ أخرجه أحمد (¬2) من حديث علي بإسناد جيد. وأخرجه أيضا ابن ماجه، وصححه ابن السكن. وأخرجه البيهقي (¬3) ، وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن عليا آجر نفسه من يهودي؛ يسقي له كل دلو بتمرة. ¬

_ (¬1) " مجلت يده: إذا ثخن جلدها، وظهر فيها ما يشبه البثر؛ من العمل في الأشياء الصلبة الخشنة "؛ قاله ابن الأثير. (ش) (¬2) • لم أجده الآن، وقد ساق إسناده الزيلعي (4 / 133) ؛ وهو من طريق مجاهد عن علي، ثم نقل عن " التنقيح " أنه منقطع بين مجاهد وعلي، قال أبو زرعة: " مجاهد عن علي مرسل ". قلت: وقد أخرجه البيهقي (6 / 119) بسند صحيح عن مجاهد، قال: خرج علينا علي معتجرا ببرد ... فذكر الحديث، فهذا فيه سماعه منه. لكن قال الدوري: " قيل لابن معين: يروى عن مجاهد أنه قال: خرج علينا علي؟ فقال: ليس بشيء " انظر " التهذيب ". (ن) (¬3) • في " سننه الكبرى " (6 / 119) ، وابن ماجه (2 / 85) ، وفيه حنش؛ واسمه: حسين بن قيس، وهو ضعيف. لكن له عند ابن ماجه شواهد. (ن)

مشروعية تقدير الأجرة عند الاستئجار

وأما المانع الشرعي؛ فهو مثل الصور التي سيأتي ذكرها. ( [مشروعية تقدير الأجرة عند الاستئجار] :) (وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار) ؛ لحديث أبي سعيد المتقدم. ( [إذا لم تقدر الأجرة عند الاستئجار فله أجرة مثيله] :) (فإن لم تكن) أجرته (كذلك) ؛ أي: معلومة (استحق الأجير مقدار عمله عند أهل ذلك العمل) ؛ لحديث سويد بن قيس السابق، ولكون ذلك هو الأقرب إلى العدل. وأما أجرة القسام فأقول: القسام أجير كسائر الأجراء، يستحق أجرته ممن عمل له، فإن كانت مسماة لم يستحق سواها، وإن كانت غير مسماة كانت له [أجرة] (¬1) مثله على حسب العمل، ولكنه لا يُجعل له من الأجرة ما يُجعل لمن يزاول الأعمال الوضيعة؛ لأن مرجع صناعة القسمة إلى العلم، وهو أشرف صناعة دينا ودنيا، ولا يجعل له ما يجعل للقسامين في هذا العصر من الأجرة؛ التي تكاد تبلغ إلى مقدار نصيب بعض المقتسمين، فإن ذلك من الظلم البحت، بل يسلك به مسلكا وسطا، وتكون الأجرة على مقدار الأنصباء، فيكون على كل واحد من الشركاء بمقدار نصيبه. وأما ما يروى عن بعض أهل العلم؛ أن أجرة القسام تكون نصف عشر التركة، أو ربع عشرها؛ فمجازفة لا ترجع إلى دليل؛ بل إعانة لظلمة القسامين على أكل أموال الناس بالباطل، ولقد تفاحش كثير من الحكام ¬

_ (¬1) • زيادة لا بد منها. (ن)

كسب الحجام مكروه وأجرة الكاهن والزانية حرام

ونوابهم في هذا الأمر، وصنعوا صنيع من لا يخشى تبعة في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة! مع أن من كان منهم يأخذ مقررا من بيت المال؛ لا يستحق على القسمة شيئا من الأجرة؛ لأنه قد صار مستغرق المنافع، فكما أنه لا يأخذ أجرة على قضائه؛ كذلك لا يأخذ أجرة على القسمة؛ لأن الكل من مصالح المسلمين؛ التي أخذ نصيبا من بيت المال في مقابلة القيام بها بحسب طاقته. ( [كسب الحجام مكروه وأجرة الكاهن والزانية حرام] :) (وقد ورد النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن) ؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب. أخرجه أحمد (¬1) برجال الصحيح. وأخرجه أيضا الطبراني في " الأوسط ". ومثله من حديث رافع بن خديج عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -، وهو أيضا في " صحيح مسلم " (¬2) . وفي " الصحيحين "، وغيرهما، عن أبي مسعود البدري، قال: نهى النبي ¬

_ (¬1) • في " المسند " (2 / 299، 332، 347، 415، 500) من طرق عن أبي هريرة. وروى بعضها الطحاوي بلفظ: " إن من السحت كسب الحجام "؛ وسنده صحيح. (ن) (¬2) • (5 / 35) ؛ ولفظه: " ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث "، وفي رواية له: " شر الكسب ... " فذكرها. واللفظان في " المسند " (4 / 140، 141، 3 / 465) (ن) .

صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. (وعسب الفحل) ، وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب، وعلى عسب الفحل في البيع. والمراد بمهر البغي: ما تأخذه الزانية على الزنا، والمراد بحلوان الكاهن: عطية الكاهن لأجل كهانته، والحلوان بضم الحاء المهملة: مصدر حلوته إذا أعطيته. وقد استدل بما تقدم بعض أهل الحديث، فقال: إنه يحرم كسب الحجام، وقد ورد في معنى ما تقدم أحاديث، وفي بعضها التصريح (¬1) بأنه خبيث وأنه سحت. وذهب الجمهور إلى أنه حلال لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم؛ حجمه أبو طيبة، وأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه (¬2) . وفيهما أيضا من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم؛ وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه (¬3) . والأولى الجمع بين الأحاديث؛ بأن كسب الحجام مكروه غير حرام؛ إرشادا منه صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأمور، ويؤيد ذلك حديث محيصة بن مسعود - عند أحمد، ¬

_ (¬1) • انظر التعليق المتقدم (رقم 2) في الصفحة السابقة. (ن) (¬2) • يعني: من خراجه؛ كما صرح في رواية البخاري (4 / 258) . (ن) (¬3) • " مصنف ابن أبي شيبة " (6 / 268) . (ن)

وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات (¬4) -: أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه، فقال له: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: " لا "، قال: أفلا أتصدق به؟ قال: " لا "، فرخص له أن يعلفه ناضحه. فلو كان حراما بحتا؛ لم يرخص له أن يعلفه ناضحه، ويستفاد منه أن إعطاءه صلى الله عليه وسلم الحجام لا يستلزم أن يأكله أهله، حتى لا تتعارض الأحاديث، فقد يكون مكروها لهم، ويكون وصفه بالسحت والخبث مبالغة في التنفير. وقد يمكن الجمع؛ بأن المنع عن مثل ما منع منه محيصة، والإذن بمثل ما أذن له ورخص له فيه (¬1) . ¬

_ (¬4) كذا قال الحافظ في " الفتح " (4 / 363) ، وهو كما قال؛ فإنه عند أحمد (5 / 435) ، وأبي داود (2 / 96) ، والترمذي (2 / 257) - وحسنه -؛ ثلاثتهم، عن مالك، عن الزهري، عن ابن محيصة، عن أبيه: أنه استأذن رسول الله في إجارة الحجام؟ فنهاه عنها، فلم يزل يسأل ويستأذن، حتى أمره أن " اعلفه ناضحك ورقيقك "؛ وسنده صحيح. وهو في " الموطإ " (3 / 141) ، لكن وقع في سنده ومتنه خطأ. ورواه ابن ماجه (2 / 11) ، وأحمد أيضا من طرق أخرى عن الزهري ... به؛ دون قوله: " ورقيقك "؛ وهي زيادة ثابتة؛ لأن مالكا حجة، سيما وقد تابعه عليها عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عند الطحاوي (2 / 272) ، وهو ثقة من رجال البخاري. وللحديث في " المسند " طريقان آخران؛ في كل منهما رجل مجهول، واللفظ الذي في الكتاب لهما؛ فما أحسن المصنف؛ إذ اختاره وأعرض عن اللفظ الصحيح { (ن) (¬1) • قلت: وهذا هو الصواب الذي يقتضيه حديث محيصة، ولا ينهض معارضته بأحاديث إعطائه صلى الله عليه وسلم الأجرة للحجام؛ لأن الإعطاء غير الأخذ في بعض الأحوال؛ ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي السائل وهو غير مستحق للسؤال، ثم يقول: " إنما تكون تحت إبطه نارا "؟} قال الحافظ في " الفتح ": " وذهب أحمد وجماعة إلى التفريق بين الحر والعبد؛ فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز الإنفاق على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد مطلقا، وعمدتهم حديث محيصة ". وهذا هو الحق، وكيف يصح حمل النهي على التنزيه؛ مع التصريح بأن كسب الحجام سحت كما تقدم؟ ! (ن)

نهى صلى الله عليه وسلم عن أجر المؤذن

( [نهى صلى الله عليه وسلم عن أجر المؤذن] :) (وأجر المؤذن) ؛ لحديث عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: " واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا "، وفي لفظ: " لا تتخذ مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا "، والحديث في " الصحيح " (¬1) . ( [نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان] :) (وقفيز الطحان) ؛ لحديث أبي سعيد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان. أخرجه الدارقطني، والبيهقي؛ وفي إسناده هشام أبو كليب (¬2) ؛ قيل: لا يعرف، وقد أورده ابن حبان في " الثقات "، ووثقه مغلطاي. وقفيز الطحان: هو أن يطحن الطعام بجزء منه. وقيل: المنهي عنه طحن الصبرة (¬3) - لا يعلم قدرها - بجزء منها. ¬

_ (¬1) ولكن؛ هل هذا يدل على كراهة أخذ المؤذن الأجر؟ لا أظن ذلك؛ بل يدل على أن على الإمام أن يبحث عمن لا يأخذ الأجر؛ ليكون أكثر ثوابا. وأما أخذ المؤذن الأجر؛ فلم يرد فيه نهي، ويكون بمفهوم هذا الحديث خلاف الأولى؛ والأصل في الأشياء الإباحة، وما سكت الله عنه فهو عفو؛ كما في الحديث الصحيح. (ش) • هذا وهم؛ فليس هو في " الصحيح "؛ وإن كان سنده صحيحا؛ انظر " نيل الأوطار " (2 / 49) . وعزوه لحديث عبادة خطأ آخر؛ نشأ من عبارة المجد في " المنتقى " (5 / 242 - بشرح الشوكاني) ؛ فراجعه. والحديث رواه الطحاوي أيضا (2 / 270) . (ن) (¬2) • قال الذهبي في ترجمته - وقد ساق له هذا الحديث -: " هذا منكر، وراويه لا يعرف ". وتوثيق ابن حبان لا يعتمد في مثل هذا. (ن) (¬3) هي الطعام المجتمع كالكومة (ش) .

جواز الاستئجار على تلاوة القرآن

( [جواز الاستئجار على تلاوة القرآن] :) (ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن (¬1)) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره (¬2) : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ، أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما؟ فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا؟ {حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله} أخذ على كتاب الله أجرا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ". وفي لفظ من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أصبتم؛ اقتسموا واضربوا لي معكم سهما "، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في " الصحيحين " بألفاظ. وفي حديث خارجة بن الصلت، عن عمه؛ في رقية المجنون بفاتحة الكتاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خذها؛ فلعمري؛ من أكل برقية باطل؛ فقد أكلت برقية حق ". أخرجه أحمد (¬3) ، وأبو داود، والنسائي. ¬

_ (¬1) • لو قال: على تلاوة القرآن على اللديغ ونحوه؛ لكان أدق؛ فإنه الذي يدل عليه الحديث، ولتخرج به التلاوة للاستماع إليها، والتلاوة للتذكير والتبليغ. (ن) (¬2) • كالطحاوي (2 / 269) ، والدارقطني (ص 315 - 316) ، والبيهقي (6 / 134) ؛ من طرق عن عبيد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس - وصححه الدارقطني -. وهو في (الطب) من " البخاري " (10 / 163) . (ن) (¬3) • في " المسند " (5 / 210 - 211) ؛ وسنده حسن. وسكت عليه المنذري في " مختصره " (5 / 368) . (ن)

عدم جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن

( [عدم جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن] :) (لا على تعليمه) ، لحديث أبي بن كعب، قال: علمت رجلا القرآن، فأهدى لي قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " إن أخذتها أخذت قوسا من نار "؛ فرددتها. أخرجه ابن ماجه، والبيهقي، وقد أعل بالانقطاع، وتعقب، وأعل أيضا بجهالة بعض رواته، وتعقب (¬1) . وله شاهد عند الطبراني من حديث الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: أقرأني أبي بن كعب القرآن، فأهديت إليه قوسا، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد تقلدها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تقلدها من جهنم ". وعلى هذا يحمل حديث عبد الرحمن بن شبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به "؛ أخرجه أحمد (¬2) برجال الصحيح. وأخرجه أيضا البزار، وله شواهد (¬3) . ¬

_ (¬1) • انظر تحقيقه في " نيل الأوطار " (5 / 243) . (ن) (¬2) • في " المسند " (1 / 428، 444) ؛ من طريق يحيى بن أبي كثير. عن زيد بن سلام، عن جده عن أبي راشد الحبراني، عن ابن شبل؛ ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي (4 / 95، 7 / 168) . وأبو راشد هذا؛ ليس من رجال الصحيح، ثم إن يحيى ابن أبي كثير مدلس، وقد عنعنه. فقول الحافظ في " الفتح " (9 / 82) : " وسنده قوي "؛ غير قوي، فلعله قواه لشواهده التي أشار إليها الشارح. ثم وجدت الحديث أخرجه الطحاوي (2 / 10) ، وقد صرح يحيى بالتحديث عنده في إحدى رواياته؛ فصح بذلك الحديث، والحمد لله على توفيقه! (ن) (¬3) • انظر " سنن أبي داود " (1 / 132) ، و " المجمع " (7 / 167 - 168) و " الحاكم " (2 / 41) . (ن)

وحديث عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرؤوا القرآن، واسألوا الله به؛ فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون الناس به "؛ أخرجه أحمد، والترمذي - وحسنه -. وفي الباب أحاديث. ووجه المنع من أخذ الأجرة على تعليمه: أن ذلك من تبليغ الأحكام الشرعية؛ وهو واجب، وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وأصحابه، وأبو حنيفة، وبه قال عطاء، والضحاك، والزهري، وإسحاق، وعبد الله بن شقيق. هذا؛ وقد مال الماتن في " حاشية الشفاء " إلى أن الجمع مقدم على الترجيح؛ قال: " لأن حديث: " أحق ما أخذتم عليه أجرا القرآن " عام يصدق على التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء لأجل كونه قارئا، ونحو ذلك؛ فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم، وبعض أفراد العام فيه أدلة خاصة تدل على جوازه؛ كما دل العام على ذلك. فمن تلك الأفراد: " أخذ الأجرة على الرقية، وتعليم المرأة في مقابلة مهرها؛ فهكذا ينبغي تحرير الكلام في المقام. والمصير إلى الترجيح من ضيق العطن، ولا سيما لما لا مدخل له فيما نحن بصدده؛ كما زعمه المصنف، والمقبلي.

جواز كراء العين مدة معلومة بأجرة معلومة

وبهذا تعلم أن ما ساقه في أدلة القائلين بجواز أخذ الأجرة على التعليم من حديث الرقية؛ لا دلالة فيه على المطلوب ". ( [جواز كراء العين مدة معلومة بأجرة معلومة] :) (و) يجوز (أن يكري العين مدة معلومة بأجرة معلومة) ؛ لما ورد من إكراء الأراضي في عصره - صلى الله عليه وسلم -، كحديث رافع بن خديج في " الصحيحين "، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما بالورق فلم ينهنا. وفي لفظ مسلم، وغيره: فأما شيء معلوم مضمون؛ فلا بأس به. وسائر الأعيان لها حكم الأرض. وفي " شرح السنة ": " ذهب عامة أهل العلم إلى جواز كراء الأرض بالدراهم والدنانير وغيرها من صنوف الأموال؛ سواء كان مما تنبت الأرض أولا تنبت؛ إذا كان معلوما بالعيان أو بالوصف، كما يجوز إجارة غير الأراضي من العبيد والدواب وغيرها، وجملته: أن ما جاز بيعه جاز أن يجعل أجرة ". قال محمد: لا بأس بكراء الأرض بالذهب والورق، وبالحنطة كيلا معلوما؛ وضربا معلوما، ما لم يشترط ذلك مما يخرج منها، فإن اشترط مما يخرج منها كيلا معلوما؛ فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا.

جواز كراء الأرض بأجرة معلومة

( [جواز كراء الأرض بأجرة معلومة] :) (ومن ذلك الأرض لا بشطر ما يخرج منها) ؛ لأن أحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من تمر أو زرع - وإن كانت ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما -؛ فهي منسوخة بمثل حديث رافع - المتقدم -، (¬1) وما ورد في معناه. وفي المسألة مذاهب متنوعة، وأدلة مختلفة، واجتهادات مضطربة، قد أوضحها الماتن في " شرح المنتقى "، وفي رسالة مستقلة، وذكرتها في " مسك الختام ". ومن أصرح أحاديث النهي: حديث جابر - عند مسلم وغيره -، قال: كنا نخابر (¬2) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصيب من القصري (¬3) ومن كذا ومن كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كانت له أرض؛ فليزرعها أو ليحرثها أخاه؛ وإلا فليدعها ". ¬

_ (¬1) • قلت: حديث رافع لا يدل على النسخ مطلقا؛ لأنه وارد فيمن أكرى أرضا على أن له ما يخرج من قطعة معينة منها، ولا يخفى ما في هذه المعاملة من الغرر؛ بخلاف المزارعة على قسم مسمى مما يخرج من جميعها، فهذا مما لا غرر فيه البتة، فكيف ينسخ هذا بما فيه غرر؟ وما الفرق بين إيجار الأرض بأجرة معلومة من النقدين، أو مما يخرج منها جميعها؟ ! (ن) (¬2) • قد جاء بيان هذه المخابرة في رواية عن رافع بن خديج، قال: إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كرى إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون؛ فلا بأس به؛ رواه مسلم وغيره. (ن) (¬3) قوله: " القصري ": قال النووي في " شرح مسلم ": " هو بقاف مكسورة، ثم صاد مهملة ساكنة، ثم راء مكسورة، ثم ياء مشددة؛ على وزن (القبطي) ؛ هكذا ضبطناه، وكذا ضبطه الجمهور؛ وهو المشهور. قال القاضي: هكذا رويناه عن أكثرهم. وعن الطبري: بفتح القاف والراء مقصور. وعن ابن الخزاعي: ضم القاف مقصور. قال: والصواب الأول، وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس ". اه.

وفي حديث سعد بن أبي وقاص: أنه نهاهم أن يكروا بذلك، وقال: " أكروا بالذهب والفضة "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، ورجاله ثقات (¬1) . وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة نحو حديث جابر. وفي " الحجة البالغة ": " اختلف الرواة في حديث رافع اختلافا فاحشا، وكان زيادة وجوه التابعين يتعاملون بالمزارعة، ويدل على الجواز حديث معاملة أهل خيبر. وأحاديث النهي عنها محمولة على الإجارة بما على الماذيانات، أو قطعة معينة، وهو قول رافع (¬2) ، أو على التنزيه والإرشاد، وهو قول ابن عباس (¬3) ، ¬

_ (¬1) • كذا {وقد نقل هذا الشوكاني (5 / 236) عن الحافظ؛ لكن مع الاستثناء الآتي: " إلا أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه إلا إبراهيم بن سعد ". وكذا قال الذهبي في " الميزان "، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال في " التقريب ": " مقبول ". (ن) (¬2) • انظر التعليق المتقدم (رقم 1) من الصفحة السابقة. (ن) (¬3) • قال المجد ابن تيمية: " وما ورد من النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة؛ يحمل على ما فيه مفسدة، كما بينته هذه الأحاديث، أو يحمل على اجتنابها ندبا واستحبابا؛ فقد جاء ما يدل على ذلك: فروى عمرو بن دينار، قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة؛ فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها؟ فقال: إن أعلمهم - يعني: ابن عباس - أخبرني؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها، وقال: " لأن يمنح أحدكم أخاه؛ خير له من أن يأخذ خراجا معلوما "؛ رواه أحمد، والبخاري ". قال الشوكاني في " النيل " (5 / 237) : " وهذا كلام حسن، ولا بد من المصير إليه للجمع بين الأحاديث المختلفة، وهذا الذي رجحناه فيما سلف ". قلت: يعني (ص 234 - 235) من " النيل "، وقد صرح هناك بأنه لا سبيل إلى جعل ما فعله صلى الله عليه وسلم في خيبر منسوخا؛ لموته وهو مستمر على ذلك، وتقريره لجماعة من الصحابة عليه. وهذا هو الحق، ومنه يتبين لك أن قوله في " المتن ": " ... لا بشطر ما يخرج منها "؛ غير صواب؛ فتأمل} (ن)

بيان أن من أفسد ما استؤجر عليه أو تلف ما استأجره ضمن

أو على مصلحة خاصة بذلك الوقت من جهة كثرة مناقشتهم في هذه المعاملة حينئذ، وهو قول زيد - رضي الله تعالى عنه -، والله - تعالى - أعلم ". " والمزارعة: أن يكون الأرض والبذر لواحد، والعمل والبقر من الآخر، والمخابرة: أن يكون الأرض لواحد، والبذر والبقر والعمل من الآخر، ونوع آخر يكون العمل من أحدهما والباقي من الآخر ". انتهى. ( [بيان أن من أفسد ما استؤجر عليه أو تلف ما استأجره ضمن] :) (ومن أفسد ما استؤجر عليه، أو أتلف ما استأجره ضمن) ؛ لمثل حديث (¬1) : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه ". أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححه -، وهو من حديث الحسن عن سمرة؛ وفي سماعه منه كلام مشهور. والمراد: أن على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه. وأخرج أبو داود (¬2) ، والنسائي، وابن ماجه، والبزار من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ¬

_ (¬1) • سيأتي. (ن) (¬2) • في (الديات) (2 / 257 - 258) ، والدارقطني أيضا (ص 370، 516) ؛ من طريق الوليد ابن مسلم: ثنا ابن جريج، عن عمرو ... به. وقال أبو داود: " هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري هو صحيح أم لا؟ ". قلت: والوليد يدلس تدليس التسوية؛ فلعله أسقط الواسطة بين ابن جريج وعمرو؛ على أن ابن جريج مدلس أيضا؛ وقد عنعنه. (ن) وانظر " الصحيحة " (635) .

" من تطبب ولم يعلم منه طب؛ فهو ضامن ". وقد أخرجه النسائي مسندا منقطعا. ويؤيده حديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما طبيب تطبب على قوم؛ لا يعرف له تطبب قبل ذلك، فأعنت (¬1) ؛ فهو ضامن "؛ أخرجه أبو داود. فالمتطبب إنما ضمن؛ لكونه أقدم على بدن المريض غير عالم بما يعلم به أهل هذه الصناعة، فكان ضامنا. وهكذا من استؤجر على عمل معين، فأقدم على العمل فيها غير عالم بالصناعة، وأفسدها لتعاطيه؛ ضمن. وهكذا من استأجر دابة ليركب عليها إلى مكان، فسار بها سيرا غير معتاد، فهلكت، أو ترك علفها، فماتت؛ فإنه ضامن. ¬

_ (¬1) أي: أضر المريض وأفسده. والعنت: الفساد والغلط والخطأ، والإعنات: إدخال الضرر والإفساد. (ش)

باب الإحياء والإقطاع

(8 - باب الإحياء والإقطاع) ( [من أحيا أرضا ميتة فهي له] :) (من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره؛ فهو أحق بها، وتكون ملكا له) ؛ لحديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ". أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وصححه الترمذي. وفي لفظ: " من أحاط حائطا على أرض؛ فهي له "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود. وأخرج أحمد، وأبو داود، والطبراني، والبيهقي، وصححه ابن الجارود من حديث الحسن، عن سمرة؛ مرفوعا: " من أحاط حائطا على أرض فهي له " (¬1) . وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والنسائي من ¬

_ (¬1) صحيح؛ انظر " الإرواء " (1554) . (¬2) • لم أجده عنده في مسند سعيد بن زيد، وهو عند أبي داود (2 / 50) بسند صحيح. وقد أعله بالانقطاع؛ وليس بشيء. (ن)

حديث سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق (¬1) ظالم حق " (¬2) . وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عمر أرضا ليست لأحد؛ فهو أحق بها ". وأخرج أبو داود من حديث أسمر بن مضرس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فقال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم؛ فهو له "؛ فخرج الناس يتعادون يتخاطون؛ أي: يجعلون في الأرض خطوطا علامة لما سبقوا إليه. وصححه الضياء في " المختارة " (¬3) . في " شرح السنة ": " من أحيا مواتا - لم يجر عليه ملك أحد في الإسلام - يملكه، وإن لم يأذن السلطان؛ وبه قال الشافعي. وذهب بعضهم إلى أنه يحتاج إلى إذن السلطان، وهو قول أبي حنيفة، وخالفه صاحباه. ¬

_ (¬1) • أحد عروق الشجرة، أي: لذي عرق. (ن) (¬2) • قال في " النهاية ": " هو أن يجيء الرجل إلى أرض، قد أحياها رجل قبله، فيغرس فيها غرسا غصبا؛ ليستوجب به الأرض ". (ن) (¬3) • رواه (1 / 58) بإسناد أبي داود (2 / 50) ، وفيه مجهولون كما بينته في " معجم الحديث "؛ ولهذا قال المنذري في " مختصره " (4 / 264) : " غريب ". (ن)

الأدلة على جواز إقطاع الإمام بعض رعيته لمصلحة

وقوله: " ليس لعرق ظالم حق "؛ هو أن يغتصب أرض الغير، فيغرس فيها أو يزرع؛ فلا حق له، ويقلع غراسه وزرعه ". وفي " المنهاج ": " ولو سبق رجل إلى موضع من رباط مسبل - أي: وقف -، أو فقيه إلى مدرسة، أو صوفي إلى (خانقاه) ؛ لم يزعج منه، ولم يبطل حقه بخروجه لشراء حاجة ونحوه ". انتهى. في " الحجة البالغة ": " الأرض كلها بمنزلة مسجد أو رباط جعل وقفا على أبناء السبيل، وهم شركاء فيه، فيقدم الأسبق فالأسبق. ومعنى الملك في حق الآدمي: كونه أحق بالانتفاع من غيره ". انتهى. ( [الأدلة على جواز إقطاع الإمام بعض رعيته لمصلحة] :) (ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئا من الأرض الميتة أو المعادن أو المياه) ؛ لما في " الصحيحين " من حديث أسماء بنت أبي بكر: من أنها كانت تنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد، وأبو داود، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير حضر (¬1) فرسه، وأجرى الفرس حتى قام (¬2) ، ثم ¬

_ (¬1) الحضر - بضم الحاء وإسكان الضاد -: العدو. (ش) (¬2) • أي: وقف؛ يعني: الفرس؛ يذكر ويؤنث. (ن)

رمى بسوطه فقال: " أقطعوه حيث بلغ السوط "؛ وفي إسناده عبد الله بن عمر ابن حفص؛ وفيه مقال خفيف (¬1) . وأقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - وائل بن حجر أرضا بحضرموت؛ كما أخرجه الترمذي، وأبو داود، وابن حبان، والبيهقي، والطبراني، والمنذري (¬2) ؛ بإسناد حسن، وصححه الترمذي. وأخرج أحمد (¬3) من حديث عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعيني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا. وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس، قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم البحرين، فقالوا: يا رسول الله {إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني ". وأخرج أحمد (¬4) ، وأبو داود من حديث ابن عباس قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) • بل هو ضعيف كما في " التقريب ". (ن) (¬2) • لا أدري ما وجه هذا؟} فليس من شأن المنذري تخريج الأحاديث - بالمعنى المشهور -، ولم يتكلم على سنده في " مختصر أبي داود " (4 / 258) ! والحديث رواه البيهقي أيضا (6 / 144) ؛ وعنده قصة دخول وائل على معاوية لما استخلف، وسنده صحيح. (ن) (¬3) • رقم (1670) ؛ ورجاله ثقات رجال مسلم؛ إلا أن ظاهره الانقطاع بين عروة وعبد الرحمن. (ن) (¬4) • رقم (2788) ، وأبو داود (2 / 48) ، والبيهقي (6 / 151) ؛ وإسناده حسن؛ بخلاف حديث عمرو بن عوف المزني؛ فإن سنده عندهم ضعيف جدا. (ن)

بلال بن الحرث المزني معادن القبلية جلسيّها وغوريّها (¬1) ". وأخرجاه أيضا من حديث عمرو بن عوف المزني. وأخرج الترمذي، وأبو داود، والنسائي - وصححه ابن حبان، وحسنه (¬2) الترمذي - من حديث أبيض بن حمال: أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ استقطعه الملح، فقطع له، فلما أن ولى؛ قال رجل من المجلس: أتدري ما أقطعت له؟ إنما أقطعته الماء العد (¬3) ، قال: فانتزعه منه. وفي الباب غير ذلك. قال في " المنهاج ": " المعدن الظاهر - وهو ما يخرج بلا علاج -؛ لا يُملك بالإحياء، ولا يثبت فيه اختصاص بتحجر ولا إقطاع. والمعدن الباطن - وهو ما لا يخرج إلا بعلاج؛ كذهب وفضة وحديد ونحاس -؛ لا يُملك بالحفر والعمل؛ في الأظهر ". قال المحلي: " والثاني يُملك بذلك، وللسلطان إقطاعه على الملك، وكذا على عدمه في الأظهر، ولا يقطع إلا قدرا يتأتى في العمل عليه ". ¬

_ (¬1) القبلية - بفتح القاف والباء -: ناحية من ساحل البحر. وجلسيها وغوريها - بفتح فسكون فيهما -: نسبة إلى جلس وغور: بمعنى المرتفع والمنخفض؛ أي: إعطاء ما ارتفع منها وما انخفض. (ش) (¬2) • وفيه نظر؛ فإنه عنده (2 / 300) ، وكذا أبي داود (2 / 48) ؛ من طريق سمي بن قيس، عن شمير بن عبد الدار، عن أبيض؛ والأول مجهول، وشمير مقبول، كما في " التقريب ". لكن رواه أبو داود، والدارمي (2 / 268) بإسناد آخر عن أبيض. فالحديث حسن - إن شاء الله تعالى -. (ن) (¬3) العد - بكسر العين -: الدائم الذي لا انقطاع له؛ مثل ماء العين وماء البئر. (ش)

قال في " الحجة البالغة ": " ولا شك أن المعدن الظاهر الذي لا يحتاج إلى كثير عمل: إقطاعه لواحد من المسلمين؛ إضرار بهم وتضييق عليهم ". انتهى.

باب الشركة

(9 - باب الشركة) ( [بيان أن الناس شركاء في الماء والنار والكلإ] :) (الناس شركاء في الماء والنار والكلإ) ؛ لحديث أبي خداش (¬1) ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلإ والنار " (¬2) . أخرجه أحمد، وأبو داود. وقد رواه أبو نعيم في " الصحابة " في ترجمة أبي خداش (1) ، ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم عنه؟ فقال: أبو خداش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر: رجاله ثقات. وقد أخرج الحديث ابن ماجه (¬3) عن ابن عباس، وفي إسناده عبد الله ابن خداش، وهو متروك، وقد صححه ابن السكن. ¬

_ (¬1) • اسمه حبان بن زيد الشرعبي، وهو تابعي لا صحابي؛ كما حققه الحافظ في " الإصابة ". (ن) (¬2) • في " السنن " (2 / 102) ؛ وإسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر. (ن) (¬3) • في " سننه " (2 / 91 - 92) . وحديث أبي هريرة عنده صحيح الإسناد كما قال الحافظ، وسبقه البوصيري. (ن)

وأخرج ابن ماجه أيضا من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يُمنع الماء والنار والكلأ " (¬1) ؛ قال ابن حجر: إسناده صحيح. وأخرج الخطيب من حديث عمر نحو ما في الباب، وزاد: " والملح "، وفيه عبد الحكيم بن ميسرة. ورواه الطبراني بسند حسن، عن زيد بن جبير، عن ابن عمر. وله عنده طريق أخرى. وأخرجه أبو داود من حديث بهيسة، عن أبيها. وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: " الملح والماء والنار "، وإسناده ضعيف. وأخرجه الطبراني، عن أنس بلفظ: " خصلتان لا يحل منعهما: الماء والنار " (¬2) . وأخرجه العقيلي في " الضعفاء " من حديث عبد الله بن سرجس. وأحاديث الباب تنتهض بمجموعها. وقد خصص الحديث بما وقع من الإجماع على أن الماء المحرز في الجرار ملك. ¬

_ (¬1) • نصه عند ابن ماجه: " ثلاث لا يمنعن ... ". (ن) (¬2) ضعيف بهذا اللفظ؛ " ضعيف الجامع ".

بيان توزيع الماء بين المستحقين

قال في " الحجة ": " يتأكد استحباب المواساة في هذه فيما كان مملوكا. وما ليس بمملوك أمره ظاهر ". انتهى. ( [بيان توزيع الماء بين المستحقين] :) وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الأعلى فالأعلى، يمسكه إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور (¬1) : أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل؛ أخرجه أبو داود (¬2) ، وابن ماجه. قال ابن حجر في " الفتح ": " وإسناده حسن ". وأخرجه الحاكم في " المستدرك ". من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأعله الدارقطني بالوقف. وأخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث ثعلبة بن مالك. وأخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " من حديث أبي حاتم القرظي، عن أبيه، عن جده. وأخرج ابن ماجه، والبيهقي، والطبراني من حديث عبادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) هو واد بالمدينة. (ش) . (¬2) • في (الأقضية) (2 / 123) ، وابن ماجه (2 / 95) . (ن)

لا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ

قضى في شرب النخل من السيل: أن الأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء. وأحاديث الباب صالحة للاحتجاج بها. قال في " المنهاج ": " والمياه المباحة - من الأودية والعيون والسيول والأمطار -؛ يستوي الناس فيها، فإن أراد الناس سقي أرضهم منها فضاق؛ سقى الأعلى فالأعلى، وحبس كل واحد الماء حتى يبلغ الكعبين. وقال محمد: بهذا نأخذ؛ لأنه كان كذلك الصلح بينهم، ولكل قوم ما اصطلحوا وأسلموا عليه من عيونهم وسيولهم وأنهارهم وشربهم ". ( [لا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ] :) (ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ". وفي لفظ مسلم: " لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ ". وفي لفظ للبخاري: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ ". وفي الباب أحاديث.

وفي لفظ لأحمد: " ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه "، وهو أن يتغلب رجل على عين أو واد؛ فلا يدع أحدا يسقي منه ماشية إلا بالأجر؛ فإنه يفضي إلى بيع الكلإ المباح؛ يعني: يصير المرعى من ذلك بإزاء مال، وهذا باطل؛ لأن الماء والكلأ مباحان. وقيل: يحرم بيع الماء الفاضل عن حاجته لمن أراد الشرب أو سقي الدواب. وأما ماء البئر؛ فلا يُمنع من أراد شربه أو سقي بهائمه؛ كما في " الموطإ " من حديث عمرة بنت عبد الرحمن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع نقع بئر "؛ أي: فضل مائها. قلت: وعليه أهل العلم. في " المنهاج ": " وحافر بئر بموات للارتفاق أولى بمائها حتى يرتحل. والمحفورة - أي في أرض موات للتملك، أو في ملك يتملك ماءها في الأصح، وسواء ملكه أم لا -: لا يلزمه بذل ما فضل عن حاجته لزرع، ويجب لماشية. قال المحلي: في المحفورة للارتفاق - وقبل ارتحاله -؛ ليس له منع ما فضل عنه عن محتاج إليه للشرب؛ إذا استسقى بدلو نفسه، ولا منع مواشيه، وله منع غيره لسقي الزرع.

يصح للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي دواب المسلمين

قال محمد: وبهذا نأخذ؛ أيما رجل كانت له بئر؛ فليس له أن يمنع الناس منها؛ أن يستقوا منها بشفاههم. أما لزرعهم ونخلهم؛ فله أن يمنع ذلك، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا ". ( [يصح للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي دواب المسلمين] :) (وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد (¬1) ، وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع (¬2) للخيل؛ خيل المسلمين. وأخرج أحمد (¬3) ، وأبو داود، والحاكم من حديث الصعب بن جثامة (¬4) ؛ وزاد: " لا حمى إلا لله ورسوله ". ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 5655، 6438، 6464) ؛ وفيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، كما في " الفتح ". (ن) (¬2) موضع على عشرين فرسخا من المدينة، وهو بالنون. (ش) (¬3) • في " المسند " (4 / 71، 73) ، وأبو داود (2 / 52) ، والبيهقي أيضا (6 / 146) . ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الرحمن بن الحارث - وهو ابن عبد الله بن عباس -؛ فيه كلام من قبل حفظه. ومن طريقه أخرجه الحاكم (2 / 61) - وصححه ووافقه الذهبي -؛ وفيه نظر؛ فقد رواه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب. وقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن الزهري، لم يذكروا فيه: " حمى النقيع "، بل روى هذا يونس عن الزهري من قوله بلاغا: كذلك أخرجه البخاري، وأبو داود، والبيهقي - في رواية لهما -. وكذلك قال البخاري في رواية عبد الرحمن بن الحارث: " هذا وهم "؛ نقله البيهقي. (ن) (¬4) لعله سقط هنا لفظ: " مثله ". (ش)

جواز الاشتراك في النقود والتجارات

وهذه الزيادة في " صحيح البخاري "؛ (¬1) وفيه (¬2) : أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرف (¬3) والربذة. قلت: وعليه الشافعي. في " المنهاج ": " والأظهر أن للإمام أن يحمي بقعة موات لرعي نعم جزية، وصدقة وضالة، وضعيف من النجعة، ولا يحمي لغير ذلك ". انتهى. لأن الحمى تضييق على الناس، وظلم عليهم، وإضرار لهم. ( [جواز الاشتراك في النقود والتجارات] :) (ويجوز الاشتراك في النقود والتجارات، ويقسم الربح على ما تراضيا عليه) ؛ لحديث السائب بن أبي السائب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك؛ لا تداريني (¬4) ولا تماريني. ¬

_ (¬1) • وفي " ابن حبان " أيضا (1 / 304 - 305) . (ن) (¬2) • هذا يوهم أنه عند البخاري من حديث الصعب؛ وليس كذلك؛ وإنما هو عنده عن الزهري بلاغا. وكذلك أخرجه غيره، فانظر " صحيح أبي داود "، والذي بعده. (ن) (¬3) • " شرف " - بفتح الشين المعجمة وفتح الراء؛ ولفظ البخاري: " الشرف " بالتعريف -؛ وهو والربذة موضعان بين مكة والمدينة. ورواه بعضهم: " سرف " - بفتح السين المهملة وكسر الراء -، وهو موضع بقرب مكة، ولا يدخل عليه الألف واللام. (ش) (¬4) • من المدارأة، أي: لا يشاغب ولا يخالف؛ قال في " النهاية ": " وهو مهموز، وروي في الحديث غير مهموز؛ ليزاوج " يماري ". فأما المداراة في حسن الخلق والصحبة؛ فغير مهموز، وقد يهمز ". (ن)

أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم - وصححه (¬1) -. وفي لفظ لأبي داود، وابن ماجه: أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي؛ لا تداري ولا تماري. وله طرق غير هذه. وأخرج البخاري عن أبي المنهال: أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما أن " ما كان يدا بيده فخذوه، وما كان نسيئة فردوه ". وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن ابن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء؛ وفيه انقطاع (¬2) . وأخرج أحمد (¬3) ، وأبو داود، عن رويفع بن ثابت، قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو (¬4) أخيه؛ على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف، وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح (¬5) . ¬

_ (¬1) • ووافقه الذهبي، وهو كما قالا؛ انظر " المستدرك " (2 / 61) ، و " البيهقي " (6 / 78) . (ن) (¬2) • لأنه من رواية أبي عبيدة، عن ابن مسعود؛ ولم يسمع منه. وكذلك أخرجه البيهقي، (6 / 79) ، والدارقطني (303) . (ن) (¬3) • في " المسند " (4 / 108) ؛ وسنده ضعيف؛ فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وتابعيه شيبان بن أمية؛ مجهول. (ن) (¬4) النضو - بكسر النون وإسكان الضاد -: هو المهزول من الإبل. (ش) (¬5) النصل: حديدة السهم. والريش: هو الذي يكون على السهم. والقدح - بكسر القاف وإسكان الدال -: السهم قبل أن يراش وينصل. (ش)

جواز المضاربة ما لم تشتمل على حرام

وأخرجه الدارقطني، والبيهقي. ( [جواز المضاربة ما لم تشتمل على حرام] :) (وتجوز المضاربة) ، وهو في لغة أهل المدينة: القراض، والضرب بمعنى السفر، والمضاربة المعاملة على السفر، وأيضا الضرب بمعنى الشركة، والمضاربة المعاملة على الشركة. اتفق أهل العلم على جواز المضاربة، ولا تجوز إلا على الدراهم والدنانير، وهو أن يعطي شيئا منها لرجل ليعمل ويتجر، فما يحصل من الربح يكون بينهما مناصفة، أو أثلاثا؛ على ما يتشارطان. (ما لم تشتمل على ما لا يحل) ؛ لما روي عن حكيم بن حزام: أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك؛ فقد ضمنت مالي. وقد قيل: إنه لم يصح في المضاربة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فعلها الصحابة: منهم حكيم المذكور، ومنهم علي كما رواه عبد الرزاق، ومنهم ابن مسعود كما رواه الشافعي، ومنهم العباس كما رواه البيهقي، ومنهم جابر كما رواه البيهقي أيضا، ومنهم أبو موسى وابن عمر كما رواه في " الموطإ "، والشافعي، والدارقطني، ومنهم عمر كما رواه الشافعي، ومنهم عثمان كما رواه البيهقي. وقد روي في ذلك من المرفوع ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب،

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع "؛ ولكن في إسناده مجهولان. أقول: قد صرح جماعة من الحفاظ بأنه لم يثبت في هذا الباب - أعني: المضاربة - شيء مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل جميع ما فيه آثار عن الصحابة، وقد وقع إجماع من بعدهم على جواز هذه المعاملة؛ كما حكى ذلك غير واحد. وصرح الحافظ ابن حجر بأنها كانت ثابتة في عصر النبوة، فقال: " والذي نقطع به؛ أنها كانت ثابتة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعلم بها وأقرها، ولولا ذلك لما جازت البتة ". انتهى. ولا يخفاك أن عدم الجواز الذي ذكره - على فرض عدم ثبوتها في أيام النبوة - مبني على أن الأصل عدم جواز كل معاملة لم يثبت فيها دليل، وهو غير مسلم؛ بل الأصل الجواز؛ ما لم تكن على وجه يستلزم ما لا يحل شرعا. وعندي أن المضاربة داخلة تحت قول الله: {وأحل الله البيع} ، وتحت قوله - تعالى -: {تجارة عن تراض} ؛ بل كل ما دل على جواز البيع، وعلى جواز الإجارة، وعلى جواز الوكالة؛ دل عليها. وبيان ذلك: ان المالك للنقد إذا دفعه إلى آخر، ووكله بالشراء له بنقده

ما رآه، ووكله أيضا ببيعه، وجعل له أجرة على تولي البيع وتولي الشراء، وهي ما سماه له من الربح؛ فجواز البيع والشراء داخل تحت أدلة البيع والشراء، وجواز التوكيل بهما داخل تحت أدلة الوكالة، وجواز جعل جزء من الربح للوكيل داخل تحت أدلة الإجارة؛ فعرفت بهذا أن القراض غير خال من دليل يدل عليه العموم؛ بل الذي لم يثبت هو الدليل الذي يدل عليه بخصوصه، فلا وجه لما قاله الحافظ ابن حجر: أنها لو لم تثبت هذه المعاملة بخصوصها في عصر النبوة لما جازت البتة (¬1) . واعلم أن هذه الأسامي التي وقعت في كتب الفروع - لأنواع من الشركة كالمفاوضة (¬2) والعنان والوجوه والأبدان - لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية؛ بل اصطلاحات حادثة متجددة، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا؛ كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها؛ لأن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء؛ ما لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه. ¬

_ (¬1) كيف هذا؛ والأجرة إذا كانت مجهولة كانت غير جائزة؟ { والمضاربة إذا ربح الشريك فيها معينا كانت غير جائزة أيضا؛ فإنها تكون ربا؟} فلا يأتي ما قاسه الشارح وأراد به الرد على الحافظ ابن حجر. (ش) (¬2) • شركة المفاوضة: هي أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله؛ مع غيبته وحضوره؛ كذا في " بداية المجتهد " (2 / 210) . وشركة العنان: هي أن تكون في شيء خاص دون سائر مالهما. أو هو أن يكونا سواء في الشركة؛ لأن عنان الدابة طاقتان متساويتان: " قاموس ". وشركة الوجوه: هي الشركة على الذمم؛ من غير صنعة ولا مال، وهي جائزة عند أبي حنيفة، باطلة عند مالك والشافعي؛ كما في " البداية " (2 / 211) . وشركة الأبدان: هي الاشتراك في صنعة، وهي جائزة عند أبي حنيفة ومالك، وإن اختلفت الصنعة عند الأول. (ن)

وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين وكونهما نقدا واشتراط العقد، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره؛ بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف، وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شيء؛ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن؛ كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة، ودخل فيها جماعة من الصحابة، فكانوا يشتركون في شراء شيء من الأشياء، ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته، ويتولى الشراء أحدهما أو كلاهما. وأما اشتراط العقد والخلط؛ فلم يرد ما يدل على اعتباره. وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الآخر أن يستدين له مالا، ويتجر فيه؛ ويشتركا في الربح؛ كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا، ولكن لا وجه لما ذكروه من الشروط. وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الآخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه؛ كما هو معنى شركة الأبدان اصطلاحا، ولا معنى لاشتراط شروط في ذلك. والحاصل: أن جميع هذه الأنواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي؛ لأن ما كان منها من التصرف في الملك؛ فمناطه التراضي، ولا يتحتم اعتبار غيره، وما كان منها من باب الوكالة أو الإجارة؛ فيكفي فيه ما يكفي فيهما. فما هذه الأنواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها؟ {وأي دليل عقل أو نقل ألجأهم إلى ذلك؟} فإن الأمر أيسر من هذا التهويل والتطويل؛ لأن

حاصل ما يستفاد من شركة المفاوضة والعنان والوجوه: أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شيء وبيعه، ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن، وهذا شيء واحد واضح المعنى، يفهمه العامي فضلا عن العالم، ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل، وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف، وأعم من أن يكون المدفوع نقدا أو عرضا، وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما أو بعضه، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما. وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذه الأقسام - التي هي في الأصل شيء واحد - اسما يخصه؛ فلا مشاحة في الاصطلاحات؛ لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات، وتكلفهم لتلك الشروط، وتطويل المسافة على طالب العلم، وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته؟ { وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن جواز الاشتراك في شراء الشيء وفي ربحه؛ لم يصعب عليه أن يقول: نعم. ولو قلت له: هل يجوز العنان أو الوجوه أو الأبدان؛ لحار في فهم معاني هذه الألفاظ} بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع؛ يلتبس عليه كثير من تفاصيل هذه الأنواع، ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض، اللهم! إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه؛ فربما يسهل عليه ما يهتدي به إلى ذلك.

بيان عرض الطريق إذا اختلف الشركاء

وليس المجتهد من وسع دائرة الآراء العاطلة عن الدليل، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل؛ فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد؛ بل المجتهد من قرر الصواب وأبطل الباطل، وفحص في كل مسألة عن وجوه الدلائل، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين، فالحق لا يعرف بالرجال. ولهذا المقصد؛ سلكنا في هذه الأبحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صفى فهمه عن التعصبات، وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات، والله المستعان. ( [بيان عرض الطريق إذا اختلف الشركاء] ) (وإذا تشاجر الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اختلفتم في الطريق؛ فاجعلوه سبعة أذرع ". وأخرج معناه عبد الله بن أحمد في " المسند " (¬1) ، والطبراني من حديث عبادة بن الصامت. وأخرجه أيضا عبد الرزاق من حديث ابن عباس (¬2) . وأخرجه أيضا ابن عدي من حديث أنس. ¬

_ (¬1) • (5 / 326 - 327) ؛ وسنده ضعيف لانقطاعه وجهالة أحد رواته. وكذا أخرجه البيهقي (6 / 155) . (ن) (¬2) • وأخرجه أيضا أحمد (رقم 2098) ، وابن ماجه (2 / 57) ، من طريق سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ وهذا سند صحيح. وله في " المسند " طرق أخرى فيها ضعف، ويأتي قريبا بعضها. (ن)

النهي عن منع الجار جاره أن يغرز خشبة في جداره

( [النهي عن منع الجار جاره أن يغرز خشبة في جداره] :) (ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره ". وروى نحوه أحمد، وابن ماجه، والبيهقي عن جماعة من الصحابة. ( [بيان أنه لا ضرر ولا ضرار بين الشركاء] :) (ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء) ؛ لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار؛ وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع ". أخرجه أحمد (¬1) ، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني، وعبد الرزاق. قال ابن كثير: " أما حديث: " لا ضرر ولا ضرار "؛ فرواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت (¬2) ، وروي من حديث ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وهو حديث مشهور ". انتهى. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 2867) - بهذا التمام -، وابن ماجة (2 / 57) - مفرقا بأسانيد -، والبيهقي (6 / 69) دون قوله: " لا ضرر ولا ضرار ". وهذه الجملة فيها - عند أحمد وابن ماجه - جابر الجعفي؛ وهو ضعيف، لكن الحديث قوي لطرقه المذكورة في الكتاب. (ن) (¬2) • وأخرجه عبد الله بن أحمد (5 / 326 - 327) ، والبيهقي (6 / 157) ؛ من طريق إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عنه. وهذا سند ضعيف؛ للجهالة والانقطاع، قال الحافظ في ترجمة إسحاق هذا من " التقريب ": " أرسل عن عبادة، وهو مجهول الحال ". وذهل عن هذا الشيخ أحمد شاكر، فصحح سنده في تعليقه على " المسند " (4 / 311) ! (ن)

بيان عقوبة من ضار شريكه

فحديث ابن عباس هو المذكور في الباب، وحديث عبادة أخرجه أيضا البيهقي، وحديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه (¬1) ، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وقد رواه - من حديث ثعلبة بن مالك القرظي -: الطبراني في " الكبير "، وأبو نعيم. ( [بيان عقوبة من ضار شريكه] :) (ومن ضار شريكه كان للإمام عقوبته بقلع شجره أو بيع داره) ؛ لحديث سمرة بن جندب: أنه كانت له عضد (¬2) من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله؛ فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: " فهبه لي؛ ولك كذا وكذا "؛ أمر أرغبه فيه، فأبى، فقال: " أنت مضار "؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: " اذهب فاقلع نخله ". ¬

_ (¬1) • ليس هو عند ابن ماجه. وهو عند الدارقطني (ص 321، 522) ، والحاكم (2 / 57 - 56) ، والبيهقي (6 / 69) ؛ وقال: " تفرد به عثمان بن محمد - يعني: ابن عثمان بن ربيعة -، عن الدراوردي "؛ فتعقبه ابن التركماني بقوله: " بل تابعه عبد الملك بن معاذ؛ أخرجه أبو عمر في كتابيه " التمهيد "، و " الاستذكار " {". قلت: وعبد الملك - هذا - لا يعرف، كما قال ابن القطان، والذهبي. ومتابعه - عثمان بن محمد -؛ ضعفه الدارقطني، وعبد الحق. ومع هذا؛ فالحاكم يقول في سند هذا الحديث: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي} (ن) (¬2) العضد من النخل: الطريقة منه؛ قال ابن الأثير: " وقيل: إنما هو عضيد من نخل، وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد ". (ش) • وقال الخطابي (5 / 239) : " يريد نخلا لم تتسق ولم تطل ". (ن)

وهو من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه (¬1) ، عن سمرة، ولم يسمع منه. وقد روى المحب الطبري في " أحاديث الأحكام " عن واسع بن حبان، قال: كان لأبي لبابة عذق (¬2) في حائط رجل، فكلمه ... ثم ذكر نحو قصة سمرة. ¬

_ (¬1) • هذا خطأ، والصواب: من رواية أبي جعفر محمد بن علي عن سمرة: كذلك أخرجه أبو داود (2 / 123) ، والبيهقي (6 / 157) . (ن) (¬2) العذق - بفتح العين وإسكان الذال -: النخلة. (ش)

باب الرهن

(10 - باب الرهن) ( [دليل مشروعية الرهن] :) (يجوز رهن ما يملكه الراهن في دين عليه) . الرهن جائز بالإجماع؛ وقد نطق به الكتاب العزيز، وتقييده بالسفر خرج مخرج الغالب، كما ذهب إليه الجمهور. وقال مجاهد والضحاك والظاهرية: لا يشرع إلا في السفر. وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيرا لأهله؛ كما أخرجه البخاري، وغيره من حديث أنس، وهو في " الصحيحين " من حديث عائشة، وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث ابن عباس، وصححه الترمذي، وصاحب " الاقتراح ". وفي ذلك دليل على مشروعية الرهن في الحضر؛ كما قال الجمهور. ( [ينتفع بالمرهون إذا كان دابة تركب أو بهيمة تحلب] :) (والظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون) ؛ لما أخرجه البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ".

وللحديث ألفاظ. والمراد: أن المرتهن ينتفع بالرهن وينفق عليه، وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق والليث والحسن وغيرهم. قال ابن القيم: " وأخذ أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الفتوى، وهو الصواب ". وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء: لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء؛ بل الفوائد للراهن والمؤن عليه، قالوا: والحديث ورد على خلاف القياس. ويجاب بأن هذا القياس فاسد الاعتبار، مبني على شفا جرف هار، ولا يصح الاحتجاج به؛ لما ورد من النهي عن أن تحلب ماشية الرجل بغير إذنه - كما في " البخاري " وغيره -؛ لأن العام لا يرد به الخاص؛ بل يبنى عليه. وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين ": " وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها، ولا يصلح للراهنين غيره، وما عداه ففساده ظاهر. فإن الراهن قد يغيب، ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن، ويشق عليه؛ أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن إثبات غيبة الراهن. وإثبات أن قدر النفقة عليه قدر حلبه وركوبه، وطلبه منه الحكم له بذلك

لا يستحق المرتهن الرهن إذا لم يفكه الراهن

في هذا؛ من العسر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة، فشرع الشارع الحكيم القيم بمصالح العباد. وللمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره - وعليه نفقته -، وهذا محض القياس لو لم تأت به السنة الصحيحة ". انتهى. ثم أطال في تخريج هذا القياس إلى ما لا يسعه هذا القرطاس. ( [لا يستحق المرتهن الرهن إذا لم يفكه الراهن] :) (ولا يغلق (¬1) الرهن بما فيه) ؛ لحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه ". أخرجه الشافعي (¬2) والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وابن حبان في ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير: " يقال: غلق - بكسر اللام - الرهن يغلق - بفتحها - غلوقا: إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى: أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين؛ ملك المرتهن الرهن؛ فأبطله الإسلام ". (ش) (¬2) • الشافعي (2 / 189 - 190) ، والدارقطني (ص 302 - 303) ، والحاكم (2 / 51 - 52) ، والبيهقي (6 / 39) ؛ من طرق عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وقال الدارقطني: " إسناده حسن متصل ". وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. ولا يعله أنه جاء مرسلا؛ لما ذكره الشارح، لا سيما والذين رووه موصولا جماعة ثقات، وتوهينهم ليس بالأمر اليسير. وله شاهد من حديث عطاء، وسليمان بن موسى - معا - مرسلا؛ أخرجه الطحاوي (2 / 253) دون قوله: " من صاحبه ... ". وقد نقل الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 320) أن قوله: " له غنمه ... . "؛ من كلام سعيد، وأيده الزيلعي؛ فيراجع! (ن)

" صحيحه "، وحسن الدارقطني إسناده. وقال الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام ": أن رجاله ثقات؛ إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله. وأخرجه ابن ماجه من طريق أخرى (¬1) ، والرفع زيادة، وقد خرجت من مخرج مقبول. والمراد بالغلاق هنا: استحقاق المرتهن له؛ حيث لم يفكه الراهن في الوقت المشروط. وروى عبد الرزاق عن معمر؛ أنه فسر غلاق الرهن؛ بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك فالرهن لك، قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن؛ له غنمه وعليه غرمه. وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يتملك الرهن؛ إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب، فأبطله الشارع. والغنم والغرم - هنا - هو أعم مما تقدم؛ من أن الظهر يركب بنفقة المرهون، واللبن يشرب. قال في " الحجة البالغة ": " ومبنى الرهن على الاستيثاق، وهو بالقبض؛ فلذلك اشترط فيه. ولا اختلاف عندي بين حديث: " لا يغلق الرهن "؛ وحديث: " الظهر ¬

_ (¬1) • هذا خطأ؛ فإنما أخرجه ابن ماجة (2 / 84) من الطريق السابق عن أبي هريرة. (ن)

يركب " ... الخ؛ لأن الأول هو الوظيفة. لكن إذا امتنع الراهن من النفقة عليه، وخيف الهلاك، وأحياه المرتهن؛ فعند ذلك ينتفع به بقدر ما يراه الناس عدلا ". انتهى. قلت: وعليه أهل العلم. قال محمد: وبهذا نأخذ. وتفسير قوله: " لا يغلق الرهن ": أن الرجل كان يرهن الرهن - أي: المرهون عند الرجل -؛ فيقول: إن جئتك بمالك إلى كذا وكذا؛ وإلا فالرهن لك بمالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغلق الرهن، ولا يكون للمرتهن بماله "، وكذلك نقول، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك فسره مالك بن أنس. وفي " شرح السنة ": " معناه لا يستغلق بحيث لا يعود إلى الراهن، بل متى أدى الحق المرهون به؛ افتك وعاد إلى الراهن. وروى الشافعي هذا الحديث مع زيادة، ولفظه: " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه ". قال الشافعي: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه. وفيه دليل على أنه إذا هلك في يد المرتهن؛ يكون من ضمان الراهن، ولا يسقط بهلاكه شيء من حق المرتهن، وعليه الشافعي.

وقال أبو حنيفة: قيمته إن كانت قدر الحق؛ يسقط بهلاكه الحق، وإن كانت أقل من الحق؛ يسقط بقدره، وإن كان أكثر من الحق؛ يسقط الحق. وعند الشافعي: دوام القبض ليس بشرط في الرهن، فيستعمل الدابة المرهونة بالنهار، وترد إلى المرتهن بالليل، ولا يسافر عليها. ولم يجوزه أبو حنيفة ". أقول: الحق أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن - بدون جنايته ولا تفريطه -؛ فهو غير مضمون عليه. وإن كان بجنايته أو تفريطه؛ ضمنه للجناية عليه، أو التفريط؛ لا لكونه مستحقا حبسه؛ فإن الحبس للرهن بمجرده ليس بسبب للضمان. والمدارك الشرعية واضحة المنار.

باب الوديعة والعارية

(11 - باب الوديعة والعارية) ( [دليل مشروعية العارية] :) أقول: العارية من مكارم الأخلاق ومحاسن الطاعات وأفضل الصلات؛ لأنها إباحة المالك لمنافع ملكه لمن له إليه حاجة، ولا ريب أن هذا الفعل داخل تحت نصوص الكتاب والسنة؛ فإن فيهما من الترغيب في ذلك ما لا يحيط به الحصر، ومن جملة ذلك قوله - تعالى -: {وتعانوا على البر والتقوى} ، وقوله: {ويمنعون الماعون} . والحاصل: أن العارية - في لسان العرب والشرع - هي: إباحة المنافع بلا عوض، فما وجد فيه هذا المعنى كان من العارية؛ وما لا فلا. ( [تأدية الأمانة إلى صاحبها واجب] :) (تجب على الوديع (¬1) والمستعير تأدية الأمانة إلى من ائتمنه، ولا يخون من خانه) : لقوله - تعالى -: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك "؛ أخرجه أبو داود، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه - ¬

_ (¬1) لم أجد وجها لاستعمال هذا الحرف في المعنى المراد هنا. (ش)

بيان أنه لا ضمان على مؤتمن

من حديث أبي هريرة، وفي إسناده طلق بن غنام، عن شريك (¬1) . وقد استشهد له الحاكم بحديث أبي التياح، عن أنس، وفي إسناده أيوب بن سويد، وهو مختلف فيه، وقد تفرد به؛ كما قال الطبراني. وأخرجه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " من حديث أبي بن كعب، وفي إسناده من لا يعرف. وأخرجه أيضا الدارقطني (¬2) عنه. وأخرجه البيهقي، والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف. وأخرجه الدارقطني، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم من حديث أنس. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والبيهقي عن رجل من الصحابة؛ وفي إسناده مجهول غير الصحابي. ( [بيان أنه لا ضمان على مؤتمن] :) (ولا ضمان عليه إذا تلفت) العين المستعارة أو المستودعة (بدون جنايته ¬

_ (¬1) • هذا يوهم أنهم أخرجوه عن شريك وحده، وهو ضعيف الحفظ كما هو معروف؛ وليس الأمر كما أوهم؛ بل رووه جميعا؛ أبو داود (2 / 108) ، والترمذي (2 / 252) ، والحاكم (2 / 46) ، والدارمي - أيضا - (2 / 264) ، والطحاوي في " المشكل " (2 / 338) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " (ص 30) ؛ من طريق شريك، وقيس بن الربيع - معا -؛ عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. فالإسناد بهذه المتابعة حسن، وقد قواه من ذكر المؤلف، وصححه الذهبي في " التلخيص "، ولا شك في صحة الحديث إذا نظر إلى شواهده المذكورة، ولهذا قواه السخاوي، والشوكاني، وغيرهما. (ن) (¬2) • في " سننه " (ص 313) . (ن)

وخيانته) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضمان على مؤتمن "؛ أخرجه الدارقطني (¬1) ؛ وفي إسناده ضعف. وقد وقع الإجماع على أن الوديع لا يضمن؛ إلا لجناية منه على العين (¬2) ؛ لما أخرجه الدارقطني في الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ: " ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا المستودع غير المغل ضمان ". والمغل: هو الخائن، والجاني خائن. وأما المستعير؛ فقد ذهب إلى أنه لا يضمن - إلا لجناية أو خيانة -: الحنفية والمالكية، وحكى في " الفتح " عن الجمهور: أن المستعير يضمنها إذا تلفت في يده؛ إلا إذا كان التلف على الوجه المأذون فيه. وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم (¬3) - وصححه - من حديث الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " على اليد ¬

_ (¬1) • (ص 306) ، ومن طريقه البيهقي (6 / 289) ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الحجبي، عن عمرو بن شعيب ... به. ومحمد هذا ترجمه ابن أبي حاتم (3 / 2 / 323) ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا؛ فهو مجهول؛ وكأنه لذلك قال البيهقي: " إسناده ضعيف ". لكن لم يتفرد به: فأخرجه الدارقطني من طريق عبيدة بن حسان، وابن ماجه (2 / 73) من طريق المثنى، والبيهقي تعليقا، والخلعي موصولا (20 / 50 / 2) ؛ من طريق ابن لهيعة، كلهم، عن عمرو بن شعيب ... . فهذه طرق يشد بعضها بعضا؛ فالحديث في نقدي حسن، والله أعلم. (ن) (¬2) • معناه عند أبي عبيد: هو الرجل؛ يكون لك عليه المال، فيجحدك ولا يعطيك، ثم يصير له عليك المال؛ فلا بأس أن تأخذ منه الذي أخذ منك، وتعطيه الباقي. رواه الخرائطي بسند صحيح، وبه فسره الطحاوي. (ن) (¬3) • (2 / 47) ، والدارمي (2 / 264) . (ن)

لا يجوز منع الماعون

ما أخذت حتى تؤديه "؛ وفي سماع الحسن عن سمرة مقال مشهور. وأخرج أحمد، وأبو داود (¬1) ، والنسائي، والحاكم (¬2) من حديث صفوان بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ ! قال: " بل عارية مضمونة ". قال الماتن في " حاشية الشفاء ": " وجميع هذه الأسباب داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي "؛ إن كان المراد على اليد ضمان ما أخذت، ولكن الظاهر أن المراد: على اليد حفظ ما أخذت حتى تؤديه، وذلك إنما يكون في الباقي، وليس فيه دليل على ضمان التالف (¬3) ". ( [لا يجوز منع الماعون] :) (ولا يجوز منع الماعون: كالدلو والقدر) ؛ لحديث ابن مسعود، قال: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية؛ الدلو والقدر. أخرجه أبو داود (¬4) ، وحسنه المنذري. وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهما فسرا قوله - تعالى -: ¬

_ (¬1) • (2 / 111) . (ن) (¬2) • والبيهقي وقواه، وله عند الحاكم (3 / 49) شاهد عن جابر. (ن) (¬3) بل الظاهر من الحديث - ومن باقي الأحاديث -؛ أن على المستعير أن يؤدي ما استعاره، وأنه ضامن إلى أن تبرأ ذمته بالأداء؛ لأنه جعل الغاية الأداء، وما زعمه الشارح من تقدير أن على اليد حفظ ما أخذت؛ لا دليل عليه. (ش) (¬4) • (1 / 263) ؛ من طريق عاصم بن أبي النجود، عن شقيق، عن ابن مسعود. وهذا سند حسن. (ن)

أمثلة على ما لا يجوز منع عاريته

{ويمنعون الماعون} : أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم؛ من الفأس والدلو والحبل والقدر، وما أشبه ذلك. وعن عائشة: الماعون: الماء والنار والملح. وقيل: الماعون: الزكاة. ( [أمثلة على ما لا يجوز منع عاريته] : (وإطراق الفحل، وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك، والحمل عليها في سبيل الله) ؛ لما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها؛ إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر (¬1) ، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها "، قلنا: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: " إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله ". والمراد بإطراق فحلها: عاريته من يحتاج أن يطرق به على ماشيته. والمراد بمنحتها: أن يعطي المحتاج لينتفع بحلبها ثم يردها. وأما الحمل عليها في سبيل الله؛ فإذا طلب ذلك من لا ماشية له من صاحب المواشي التي فيها زيادة على حاجته. ¬

_ (¬1) • هو المكان المستوي: " نهاية ". (ن)

باب الغصب

(12 - باب الغصب) ( [الأدلة على تحريم الغصب] :) (يأثم الغاصب) ؛ لأنه أكل مال غيره بالباطل، أو استولى عليه عدوانا، وقد قال الله - تعالى -: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه ". أخرجه الدارقطني (¬1) من طرق عن أنس مرفوعا؛ وفي أسانيدها ضعف. وأخرجه أحمد (¬2) ، والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي، عن عمه؛ وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان؛ وهو متكلم عليه. وأخرجه الحاكم (¬3) من حديث ابن عباس. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (ص 299 - 300) ؛ وفي الطريق الأولى داود بن الزبرقان؛ وهو متروك، وفي الطريق الأخرى من لم أعرفهم. (ن) (¬2) • في " المسند " (5 / 72) ، وسنده حسن بالنظر لشواهده؛ ورواه البيهقي (6 / 100) . (ن) (¬3) • لينظر، وقد أخرجه البيهقي (6 / 96 - 97) ؛ من طريق الحاكم وغيره، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، وسنده حسن. وهو عند الدارقطني (ص 299) ؛ من طريق مقسم، عن ابن عباس؛ وفيه محمد بن عبيد الله - وهو العرزمي -؛ متروك. ورواه البيهقي من حديث ابن عمر؛ وفيه موسى بن عبيدة؛ ضعيف. لكن الحديث صحيح؛ لما تقدم من الشواهد، ولحديث أبي حميد الآتي (ن) .

ماذا يجب على الغاصب

وأخرجه الدارقطني عنه من طريق أخرى. وأخرجه البيهقي (¬1) ، وابن حبان، والحاكم في " صحيحيهما " من حديث أبي حميد الساعدي. وقد أخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، والترمذي - وحسنه - من حديث السائب بن يزيد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا، ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه ". وحديث: " إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام "؛ وهو ثابت في " الصحيحين "، وغيرهما. وهو مجمع على تحريم الغصب عند كافة المسلمين، ومجمع على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا، وعلى تسليم عوضه إن كان تالفا. ( [ماذا يجب على الغاصب؟] :) (ويجب عليه رد ما أخذ، ولا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه) ؛ كما تقدم دليله. ( [بيان حكم من زرع أو غرس في أرض غيره بالقوة] :) (وليس لعرق ظالم حق، ومن زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من ¬

_ (¬1) • في " السنن الكبرى " (6 / 100) ، والطحاوي أيضا؛ وسنده صحيح، كما بينته في " معجم الحديث ". (ن) (¬2) • في " المسند " (4 / 221) ، وأبو داود (2 / 314) ، والترمذي (3 / 206) ، والبيهقي أيضا (6 / 100) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم. (ن)

الزرع شيء، ومن غرس في أرض غيره غرسا رفعه) ؛ لحديث رافع بن خديج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم؛ فليس له من الزرع شيء، وله نفقته (¬1) ". أخرجه أحمد (¬2) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والبيهقي، والطبراني، وابن أبي شيبة، والطيالسي، وأبو يعلى، وحسنه البخاري (¬3) . وأخرج أبو داود، والدارقطني (¬4) من حديث عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحيا أرضا فهي له، وليس لعرق ظالم حق ". قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم (¬5) ". ¬

_ (¬1) • قال الشوكاني: " والمراد به: ما أنفقه الغاصب على الزرع من المؤنة في الحرث، والسقي، وقيمة البذر وغير ذلك، وقيل: المراد بالنفقة قيمة الزرع، فتقدر قيمته ويسلمها المالك. والظاهر الأول ". (ن) (¬2) • في " المسند " (4 / 141) ، وكذا الطحاوي في " المشكل " (3 / 280) ؛ وفيه شريك القاضي، وهو سيئ الحفظ، لكن تابعه قيس بن الربيع؛ عند البيهقي (6 / 136) . فالحديث حسن، ويشهد له حديث أرض ظهير الآتي. (ن) (¬3) هذا حديث صحيح، وضعفه بعضهم بشريك، وزعم أنه انفرد به، ولكن تابعه عليه قيس بن الربيع، وضعفهما إنما هو من قبل حفظهما، فاتفاقهما على روايته مؤذن بصحته. (ش) (¬4) • في " سننه " (2 / 5) ، وكذا البيهقي (6 / 99) ؛ وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه. (ن) (¬5) العم - بضم العين -: جمع عميمة؛ وهي النخلة الطويلة التامة في طولها والتفافها. وقيل: هي القديمة. (ش)

الانتفاع بالمغصوب حرام

وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وحسنه -، والنسائي، وأخرجه البخاري تعليقا من حديث سعيد بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق " (¬1) . أقول: الحق الحقيق بالقبول: أن الزرع لمالك الأرض، وعليه للغاصب ما أنفقه على الزرع (¬2) ؛ كما ثبت ذلك عند أهل " السنن "، ولفظه في رواية: أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة، فرأى زرعا في أرض ظهير، فقال: " ما أحسن زرع ظهير {" قيل: ليس لظهير، قال: " أليست أرض ظهير؟} "، قالوا: بلى، ولكنه زرع (¬3) فلان، قال: " فخذوا زرعكم، وردوا عليه النفقة " ... الحديث (¬4) . ( [الانتفاع بالمغصوب حرام] :) (ولا يحل الانتفاع بالمغصوب) ؛ لما تقدم من الأدلة القاضية بأنه لا يحل مال الغير - لا عينا ولا انتفاعا -، وقد ورد في غصب الأرض - التي لا ثمرة لغصبها إلا الانتفاع بها بالزرع ونحوه - أحاديث: ¬

_ (¬1) • حديث صحيح، وقد سبق الكلام عليه. (ن) (¬2) • وهو مذهب أحمد وإسحاق؛ كما نقله الترمذي (2 / 291) . (ن) (¬3) • وفي رواية الطحاوي: " أزرع فلانا "؛ ونحوه عند النسائي. (ن) (¬4) • أخرجه أبو داود (2 / 92) ، والنسائي (2 / 149) ، والطحاوي (3 / 281) ؛ من حديث رافع بن خديج؛ وسنده صحيح، رجاله كلهم ثقات. وأعله البيهقي (6 / 136 - 137) بعلة غريبة، فقال: " أبو جعفر الخطمي - يعني: أحد رواته - لم أر البخاري ولا مسلما احتجا به في حديث "! (ن)

إذا أتلف المغصوب فعلى الغاصب قيمته أو مثله

منها: عن عائشة في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ظلم شبرا من الأرض؛ طوقه الله من سبع أرضين ". وفيهما أيضا من حديث سعيد بن زيد نحوه. وفي " البخاري " وغيره من حديث ابن عمر نحوه أيضا. وفي " مسلم " من حديث أبي هريرة نحوه أيضا. ( [إذا أتلف المغصوب فعلى الغاصب قيمته أو مثله] :) (ومن أتلفه فعليه مثله أو قيمته) ؛ لحديث عائشة: أنها لما كسرت إناء صفية الذي أهدت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها: " إناء كإناء؛ وطعام كطعام ". أخرجه أحمد، وأبو داود (¬1) ، والنسائي، وحسنه الحافظ في " الفتح ". وأخرج البخاري، وغيره من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها؛ فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام وقال: " كلوا "، ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسورة. ولفظ الترمذي؛ قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 112 - 113) ، والبيهقي أيضا (6 / 96) ؛ من طريق فليت، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة؛ وقال البيهقي: " فليت العامري، وجسرة فيهما نظر ". قلت: لكن يشهد له حديث أنس عند الترمذي (2 / 287) ، وقال: " حديث حسن صحيح "؛ وترى لفظه في الكتاب. (ن)

قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " طعام بطعام وإناء بإناء ". وقد استدل بذلك من قال: إن القيمي يضمن بمثله، ولا يضمن بالقيمة؛ إلا عند عدم المثل، وهو الشافعي والكوفيون. وقال مالك: إن القيمي يضمن بقيمته مطلقا. قيل: لا خلاف في أن المثلي يضمن بمثله، ولكنه قد ورد في حديث المصراة - الثابت في " الصحيح " - ردها وصاعا من تمر. واللبن مثلي. والبحث مستوفى في مواطنه.

باب العتق

(13 - باب العتق) ( [أحادث ترغب في العتق] :) الترغيب في العتق قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة؛ كحديث أبي هريرة في " الصحيحين " وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أعتق رقبة مسلمة؛ أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار؛ حتى فرجه بفرجه ". وأخرج الترمذي (¬1) - وصححه - من حديث أبي أمامة وغيره من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أيما امرئ مسلم أعتق أمرأ مسلما؛ كان فكاكه من النار؛ يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين؛ كانتا فكاكه من النار؛ يجزي كل عضو منهما عضوا منه ". وفي لفظ (¬2) : " أيما امرأة مسلمة؛ أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار؛ يجزي كل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها "؛ وإسناده صحيح. ¬

_ (¬1) • (2 / 375) ؛ وإسناده حسن. وله شاهد من حديث كعب بن مرة - أو مرة بن كعب - مرفوعا؛ أخرجه أبو داود (5 / 165) ، والبيهقي (10 / 272) ، وأحمد (4 / 235) ؛ وسنده صحيح. (ن) (¬2) • لا داعي لهذا؛ فإن اللفظ المذكور هو تمام الحديث عند الترمذي. (ن)

بيان أن أفضل الرقاب أنفسها عند أهلها

وفي الباب أحاديث. ( [بيان أن أفضل الرقاب أنفسها عند أهلها] :) (أفضل الرقاب أنفسها) ؛ لما في " الصحيحين " من حديث أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله "، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: " أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا ". ( [جواز العتق بشرط الخدمة] :) (ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها) ؛ لحديث سفينة أبي عبد الرحمن، قال: أعتقتني أم سلمة، وشرطت علي أن أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش. أخرجه أحمد (¬1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقال: لا بأس بإسناده. وأخرجه الحاكم، وفي إسناده سعيد بن جهمان أبو حفص الأسلمي، وقد وثقه ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. ووجه الحجة من هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ¬

_ (¬1) • في " المسند " (5 / 221) ، وأبو داود (2 / 161) ، وابن ماجه (2 / 107) ، وكذا الحاكم (3 / 606) ، وزاد أبو داود: فقلت: إن لم تشترطي علي؛ ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت. وسنده حسن، وصححه الحاكم (2 / 214) ، ووافقه الذهبي. (ن)

الأدلة الدالة على أن من ملك رحمه عتق عليه

يخفى عليه مثل ذلك. وقد قيل: إن تعليق العتق بشرط الخدمة يصح إجماعا. ( [الأدلة الدالة على أن من ملك رحمه عتق عليه] :) (ومن ملك رحمه عتق عليه) ؛ لحديث سمرة - عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر ". ولفظ أحمد: " فهو عتيق "؛ وهو من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال مشهور، وقال علي بن المديني: هو حديث منكر، وقال البخاري: لا يصح. وأخرج النسائي، والترمذي، والحاكم من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر "، وهو من رواية ضمرة، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عنه؛ قال النسائي: حديث منكر، ولا نعلم أحدا رواه عن سفيان غير ضمرة، وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (5 / 15، 18، 20) ، وأبو داود (3 / 164) ، والترمذي (2 / 290 - 291) ، وابن ماجه (2 / 107) ؛ وهو منقطع كما بينه الشارح. وأخرجه الحاكم (2 / 214) من هذا الوجه، وقال: " حديث صحيح "، ووافقه الذهبي { لكن يشهد له حديث ابن عمر الذي بعده، وقد أخرجه الحاكم، وابن ماجه، والترمذي معلقا، وقال: " وهو حديث خطأ عند أهل الحديث "، وذكر نحوه البيهقي، (10 / 289) . ورده ابن التركماني في " الجوهر النقي "؛ بما خلاصته أن ضمرة ثقة، ولا يجوز توهيمه بدون حجة، وهو الصواب} (ن)

لكنه قد وثقه يحيى بن معين وغيره، وحديثه في " الصحيحين "، وقد صحح حديثه - هذا - ابن حزم، وعبد الحق، وابن القطان. وأخرج أبو داود، والنسائي عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة؛ وهو من رواية قتادة عنه؛ ولم يسمع منه. أقول: الحاصل أن جميع الأخبار الواردة في عتق ذي الرحم لا تخلو عن مقال، ولكنها تنتهض بمجموعها للاستدلال. ولا يعارضها حديث أبي هريرة - الآتي - عند مسلم. وقد ذهب إلى أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه: أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد. وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إنه يعتق عليه الأولاد والآباء والأمهات، ولا يعتق عليه غيرهم من قرابته، وزاد مالك: الإخوة. ولا ينافي ما ذكرناه حديث أبي هريرة - عند مسلم وغيره - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجزي ولد عن والده؛ إلا أن يجده مملوكا؛ فيشتريه فيعتقه ": لأن إيقاع العتق تأكيدا لا ينافي وقوعه بالملك. وزاد في " حاشية الشفاء ": " لأن الإعتاق ههنا - وإن كان ظاهرا في الإنشاء بعد الشراء -؛ فهو لا يستلزم أن الشراء بنفسه لا يكون سببا ". انتهى.

بيان كفارة من أهان مملوكه

وقد تمسك بحديث أبي هريرة: الظاهرية، فقالوا: لا يعتق أحد على أحد (¬1) ( [بيان كفارة من أهان مملوكه] :) (ومن مثّل (¬2) بمملوكه فعليه أن يعتقه) ؛ لحديث ابن عمر - عند مسلم، وغيره - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لطم مملوكه أو ضربه؛ فكفارته أن يعتقه ". وفي " مسلم " أيضا؛ عن سويد بن مقرن، قال: كنا - بني مقرن - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أعتقوها "، وفي رواية (¬3) : " إذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها ". وفي " مسلم " أيضا من حديث أبي مسعود البدري، قال: كنت أضرب غلاما بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي ... إلى أن قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله أقدر منك على هذا الغلام "، وفيه: قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، فقال: " لو لم تفعل للفحتك النار - أو لمستك النار - ". ¬

_ (¬1) • هذا يوهم أنه مذهب ابن حزم أيضا؛ باعتبار أنه في مقدمة الظاهرية، والواقع أنه قد خالفهم ههنا؛ فقال في " المحلى " (8 / 200) : " ومن ملك ذا رحم محرمة؛ فهو حر ساعة يملكه ... ". (ن) (¬2) • الأولى التعبير بقوله: " لطم "؛ لأنه منصوص عليه في الحديث الصحيح الآتي، ولأن التمثيل يدخل فيه بالأولوية. (ن) (¬3) • يعني: لمسلم (5 / 90 - 91) ؛ وهي رواية لأحمد (3 / 447 - 448، 5 / 444) .

(وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم) ؛ لحديث عمرو بن شعيب؛ عن أبيه، عن جده؛ في المملوك الذي جب سيده مذاكيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " علي بالرجل "، فلم يقدر عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهب؛ فأنت حر "؛ أخرجه أبو داود (¬1) ، وابن ماجه، وقد أخرجه أحمد؛ وفي إسناده الحجاج بن أرطاة، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضا الطبراني. وقد حكى في " البحر " عن علي، والشافعية، والحنفية: أنه لا يُعتق العبد بمجرد المثلة، بل يؤمر السيد بالعتق؛ فإن تمرد؛ فالحاكم. وقال مالك والليث وداود والأوزاعي: بل يعتق بمجردها. قال النووي في " شرح مسلم ": " إنه أجمع العلماء على أن ذلك العتق ليس واجبا، وإنما هو مندوب؛ رجاء الكفارة وإزالة إثم اللطم. وذكر من أدلتهم: إذنه صلى الله عليه وسلم بأن يستخدموها كما تقدم. ودعوى الإجماع غير صحيحة، وإذنه صلى الله عليه وسلم بالاستخدام لا يدل على عدم الوجوب؛ بل الأمر قد دل على الوجوب، والإذن بالاستخدام دل على كونه وجوبا متراخيا إلى وقت الاستغناء عنها ". انتهى (¬2) . ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 246 - 247) ، وابن ماجه (2 / 151) ؛ من طريق سوار أبي حمزة، عن عمرو بن شعيب ... به. وأحمد رقم (7096) ؛ من طريق الحجاج، عن عمرو ... وقد تابعه ابن جريج عند أحمد أيضا رقم (6710) ؛ وكلاهما مدلس، ولم يصرحا بالسماع. فالعهدة على رواية سوار؛ وهي حسنة - إن شاء الله -. (ن) (¬2) • يعني: أن الأوامر المتقدمة مقيدة بالاستغناء، فإذا وجد وجب العتق؛ وإلا فلا. (ن)

بيان حكم من أعتق عبدا له فيه شركاء

( [بيان حكم من أعتق عبدا له فيه شركاء] :) (ومن أعتق شركا له في عبد؛ ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم؛ وإلا عتق نصيبه فقط واستُسعي العبد) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين " وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق شركا له في عبد؛ وكان له مال يبلغ ثمن العبد؛ قوم عليه العبد قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد؛ وإلا فقد عتق عليه ما عتق "، زاد الدارقطني: " ورقّ ما بقي " (¬1) . وأخرج أحمد (¬2) ، والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي المليح، عن أبيه: أن رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك، فرُفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل خلاصه عليه في ماله، وقال: " ليس لله شريك ". وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من أعتق شقيصا من مملوك؛ فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال؛ قُوّم المملوك قيمة عدل؛ ثم استُسعي في نصيب الذي لم يعتق؛ غير مشقوق عليه ". ولا تنافي بين هذا وبين حديث ابن عمر؛ بل الجمع ممكن؛ وهو أن من ¬

_ (¬1) • في إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي - وليس بالمشهور -، عن يحيى بن أيوب - وفي حفظه شيء -؛ كذا في " الفتح " (5 / 119) . (ن) (¬2) • في " المسند " (5 / 74 - 75) ، ولم أجده عند النسائي وابن ماجه، ولم يعزه النابلسي في " الذخائر " (رقم 98) إلا لأبي داود؛ وهو عنده (2 / 161) ، والبيهقي أيضا (10 / 273 - 274) ؛ أخرجوه كلهم من طريق قتادة، عن أبي المليح ... به. وفي رواية للبيهقي: " أعتق ثلث غلامه "؛ فهذا يدل على أن الغلام كله كان للذي أعتق بعضه، فلا دلالة فيه على المطلوب. وسند الحديث صحيح، وقد رواه أحمد أيضا، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ مرفوعا. (ن)

أعتق شركا له في عبد ولا مال له؛ لم يعتق إلا نصيبه، ويبقى نصيب شريكه مملوكا، فإن اختار العبد أن يستسعي لما بقي استُسعي؛ وإلا كان بعضه حرا وبعضه عبدا. وأخرج أحمد (¬1) من حديث إسماعيل بن أمية، عن أبيه، عن جده، قال: كان لهم غلام - يقال له: طهمان أو ذكوان -، فأعتق جده نصفه، فجاء العبد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعتق في عتقك، وترق في رقك "؛ قال: فكان يخدم سيده حتى مات؛ ورجاله ثقات. وأخرجه الطبراني. قال في " المسوى ": " قلت: عليه الشافعي: أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره، وهو موسر بقيمة نصيب الشريك؛ يعتق عليه، ويكون ولاؤه كله للمعتق، وإن كان معسرا عتق نصيبه، ونصيب الشريك رقيق لا يكلف إعتاقه، ولا يستسعى العبد في فكه. قوله: " فأعطى شركاءه حصصهم "؛ يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لا يعتق نصيب الشريك بنفس اللفظ ما لم يؤد إليه قيمته، وقال به الشافعي في القديم. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3 / 412) ومن طريقه البيهقي (10 / 274) ؛ وهو مرسل؛ لأن جد إسماعيل بن أمية؛ هو عمرو بن سعيد بن العاص؛ وليس له صحبة؛ كما قال البيهقي. وقال الحافظ في " التقريب ": " تابعي ... ووهم من زعم أن له صحبة؛ وإنما لأبيه رؤية، وكان عمرو مسرفا على نفسه ". (ن)

بيان أن الولاء لمن أعتق

وثانيهما: أنه يعتق كله عليه بنفس الإعتاق، ولا يتوقف على أداء القيمة، وذلك لأن إعطاء القيمة والعتق حكمان لمن أعتق شركا له في عبد؛ يردان عليه جميعا، وقال به الشافعي في الجديد. وقال أبو حنيفة: إن كان المعتق موسرا فالذي لم يعتق بالخيار؛ إن شاء أعتق نصيبه، وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه، فإذا أدى عتق، فكان الولاء بينها، وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه، ثم شريكه بعد ما ضمن رجع على العبد استسعاه، فإذا أداه عتق؛ وولاؤه كله له. وقال صاحباه: لا يعتق نصيب الشريك بنفس الإعتاق؛ بل يُستسعى العبد، فإذا أدى قيمة النصف الآخر عتق كله، والولاء بينهما، ومأخذ قولهم حديث أبي هريرة مرفوعا: " من أعتق شقيصا في عبد؛ عتق كله إن كان له مال؛ وإلا يُستسعى غير مشقوق عليه "؛ رواه الشيخان. قوله: " غير مشقوق عليه "؛ أي: لا يستغلى عليه في الثمن، وتأويل هذا الحديث على قول الشافعي: إن معنى " يستسعى ": يستخدم لسيده الذي لم يعتق إن كان معسرا، ومعنى " غير مشقوق عليه ": أنه لا يحمل من الخدمة فوق ما يلزمه؛ إنما يطالبه بقدر ما له فيه من الرق ". انتهى. ( [بيان أن الولاء لمن أعتق] :) (ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق) : لحديث عائشة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنها جاءت إليها بريرة تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن

تحتسب عليك فلتفعل؛ ويكون لنا ولاؤك؛ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابتاعي فأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق "، ثم قام فقال: " ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى؟ ! من اشترط شرطا ليس في كتاب الله؛ فليس له، وإن شرط مئة مرة، شرط الله أحق وأوثق ". وللحديث طرق وألفاظ. قال ابن القيم رحمه الله: " قال شيخنا: الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - باشتراط الولاء تصحيحا لهذا الشرط، ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه؛ إذ أبى أن يبيع جارية للعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله - تعالى - وشرعه، فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل؛ ليظهر به حكم الله ورسوله في أن الشروط الباطلة لا تغير شرعه، وأن من شرط ما يخالف دينه؛ لم يجبر أن يوفي له بشرطه. ولا يبطل من البيع به؛ وإن عرف فساد الشرط، وشرطه إلغاء اشتراطه ولم يعتبر، والله تعالى أعلم ". قلت: وعليه أهل العلم: أن من أعتق عبدا يثبت له عليه الولاء ويرثه به، ولا يثبت الولاء بالحلف والموالاة، وبأن يسلم رجل على يدي رجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضاف الولاء إلى المعتق ب (الألف واللام) ، فأوجب ذلك قطعه عن غيره، كما يقال: الدار لزيد، فيه إيجاب الملك فيها لزيد وقطعها عن غيره، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: يثبت الولاء بعقد المولاة.

جواز بيع المدبر للحاجة

( [جواز بيع المدبر للحاجة] :) (ويجوز التدبير، فيعتق بموت مالكه، وإذا احتاج المالك جاز له بيعه) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه. وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر - مرفوعا وموقوفا - بلفظ: " المدبر من الثلث ". ورواه الدارقطني مرفوعا بلفظ: " المدبر لا يباع ولا يوهب، وهو حر من الثلث "، وفي إسناده عبيدة بن حسان (¬1) ، وهو منكر الحديث. وقد ذهب إلى جواز بيع المدبر للحاجة: الشافعي، وأهل الحديث، ونقله البيهقي في " المعرفة " عن أكثر الفقهاء. وحكى النووي عن الجمهور: أنه لا يجوز بيع المدبر مطلقا، وبه قال أبو حنيفة، وتعقبه الشافعي بما روي عن جابر، وتقدم. وأجيب باحتمال أن يكون تدبيره مقيدا بشرط أو زمان. ورد بأن اسم التدبير إذا أطلق؛ فيفهم منه التدبير المطلق لا غير. واتفقوا على جواز وطء المدبرة. ومن أجاز بيعه قال: يباع في الجناية. أقول: قد دل الحديث على جواز البيع للحاجة، وليس فيه دلالة على ¬

_ (¬1) عبيدة - بفتح العين -؛ قال ابن حبان: " يروي الموضوعات عن الثقات ". (ش)

بيان جواز مكاتبة المملوك على مال يؤديه

عدم جوازه مع عدمها، ولم يرد ما يدل على ذلك إلا ما لا يحتج بمثله. فالقائل بالجواز واقف في موقف المنع، وعلى مدعي عدمه بيان المانع، فإن قال المانع: العتق؛ قلنا: الناجز، وأما المشروط بشرط لم يقع؛ فممنوع كونه مانعا. ( [بيان جواز مكاتبة المملوك على مال يؤديه] :) (ويجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه) ؛ لقوله - تعالى - {فكاتبوهم} الآية. وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية، فقرر ذلك الإسلام، ولا أعرف خلافا في مشروعيتها. قلت: وعليه أبو حنيفة. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في العبد - بدلالة الكتاب - الاكتساب مع الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من كتابته إذا كان هكذا. ( [متى يصير المكاتب حرا؟] :) (فيصير عند الوفاء حرا، ويعتق منه بقدر ما سلم) ؛ لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يودى (¬1) المكاتب بحصة ما أدى دية الحر، وما بقي دية العبد "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي (¬2) . وأخرج أحمد، وأبو داود، نحوه من حديث علي (2) . ¬

_ (¬1) أي: إذا قُتل خطأ كانت ديته بهذه الصفة، فالوجه عدم همز الواو، وكانت في الأصل مهموزة، وهو خطأ. (ش) (¬2) • وإسناده صحيح، وقد تكلمت عليه في " الروض النضير في ترتيب معجم الطبراني الصغير " (رقم 473) . (ن)

وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وذهب آخرون إلى أن حكم المكاتب حكم العبد حتى يوفي مال الكتابة. واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما عبد كوتب بمئة أوقية، فأداها إلا عشر أوقيات؛ فهو رقيق "؛ رواه أحمد (¬1) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم - وصححه -. وفي لفظ لأبي داود: " المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم ". ولا يعارض هذا ما تقدم. فالجمع ممكن؛ بحمل هذا على ما لا يمكن تبعضه من الأحكام، وفي حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي؛ فلتحتجب منه "، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - (¬2) . فأثبت له ههنا حكم الحر؛ لأن العبد يجوز له أن ينظر إلى مولاته؛ لقوله - تعالى -: {أو ما ملكت أيمانهن} . قال في " المسوى ": " المكاتب عبد ما بقي عليه شيء، وعليه أكثر أهل العلم، فلا يرث من ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 6666، 6726، 6923، 6949) ؛ وسنده صحيح. (ن) (¬2) • وفي " سنده " - عنده (2 / 250) ، وأبي داود (2 / 160) - نبهان - مكاتب أم سلمة -؛ وليس بمعروف العدالة، وفي " التقريب ": أنه مقبول؛ يعني: عند المتابعة؛ وهي مفقودة. فالحديث لا يصح. (ن)

بيان مصير المكاتب إذا عجز عن تسليم المال

قريبه شيئا، وإذا أصاب حدا ضرب حد العبد ". ( [بيان مصير المكاتب إذا عجز عن تسليم المال] :) (وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة عاد في الرق) ؛ لكون المالك لم يعتقه إلا بعوض، وإذا لم يحصل العوض لم يحصل العتق، وقد اشترت عائشة بريرة بعد أن كاتبها أهلها؛ كما تقدم. ( [يحرم بيع الأمة التي ولدت له] :) (ومن استولد أمته لم يحل له بيعها) ؛ لحديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من وطئ أمته فولدت له؛ فهي معتقة عن دبر منه ". أخرجه أحمد (¬1) ، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وفي إسناده الحسين ابن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف. وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس، قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أعتقها ولدها " (¬2) . وأخرجه أيضا الدارقطني، وفي إسناده الحسين بن عبد الله، وهو ضعيف؛ كما تقدم. وأخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عباس أيضا: " أم الولد ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 2759، 2912) ، والدارقطني (ص 479) . (ن) قلت: وقد ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1771) . (¬2) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1772) .

حرة؛ وإن كان سقطا "، وإسناده ضعيف (¬1) . وأخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم إبراهيم: " أعتقك ولدك "؛ وهو معضل. وقال ابن حزم: صح هذا بسند رواته ثقات عن ابن عباس. وأخرج الدارقطني (¬2) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقا ل: " لا يُبعن، ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع بها السيد ما دام حيا، وإذا مات فهي حرة ". وقد أخرجه مالك في " الموطإ "، والدارقطني أيضا من قول ابن عمر (¬3) ، وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا. وهذه الأحاديث - وإن كان في أسانيدها ما تقدم -؛ فهي تنتهض للاحتجاج بها، وقد أخذ بها الجمهور. وذهب من عداهم إلى الجواز، وتمسكوا بحديث جابر، قال: كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) • لأن فيه إبراهيم بن يوسف الحضرمي، والحكم بن أبان، وفيهما ضعف. قال الحافظ في " التلخيص ": " والصحيح أنه من قول عمر ". (ن) (¬2) • في " السنن " (ص 481) ؛ بسندين عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ وسنده صحيح. لكن ذكر البيهقي (10 / 343) أن رفعه وهم لا يحل ذكره، وأن الصواب وقفه على عمر؛ كذلك رواه الجماعة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: نهى عمر (ن) (¬3) • قلت: الصواب من قول عمر؛ من رواية ابنه عنه، كما تقدم آنفا. وكذلك هو عند مالك (3 / 5) ، والدارقطني. (ن)

تعتق الأمة بموت الذي استولدها

- وأبي بكر، فلما كان عمر؛ نهانا فانتهينا "، أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي (¬1) . وأخرجه أيضا أحمد، وابن حبان والحاكم. وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك. والخلاف في المسألة - بين الصحابة فمن بعدهم - معروف مشهور. ( [تعتق الأمة بموت الذي استولدها] :) (وعتقت بموته) ؛ أي: سيدها الذي استولدها؛ لقوله في الحديث المتقدم: " فهي معتقة عن دبر منه "؛ أي: في دبر حياته. (أو بتخييره) ؛ أي: تخيير مستولدها (¬2) (لعتقها) ؛ لأن إيقاع العتق يوجب عتق من لم يوجب لعتقه سبب. فمن قد وجد له سبب عتقه أولى بذلك، ولا سيما بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقها ولدها "؛ فإنه يدل على أنه قد وقع العتق بالولادة، ولكن بقي للسيد حق يوجب عليها بعض ما يجب على المملوك حتى يموت، فإذا نجز العتق؛ فقد رضي بإسقاط ذلك الحق. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (10 / 347 - 348) بإسنادين صحيحين، عن جابر. والدارقطني (ص 481) بأحدهما. (ن) (¬2) كذا في الأصل، والصواب: " أو بتنجيزه؛ أي: تنجيز مستولدها ". (ش)

باب الوقف

(14 - باب الوقف) ( [تعريف الوقف] :) قال في " الحجة البالغة ": " وهو من التبرعات، كان أهل الجاهلية لا يعرفونه، فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لمصالح لا توجد في سائر الصدقات؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، وتجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبسا للفقراء وابن السبيل، يُصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله على ملك الواقف ". انتهى. ( [الأدلة على مشروعية الوقف] :) (من حبّس ملكه في سبيل الله صار محبّسا) ؛ قد ذهب إلى مشروعيتة الوقف ولزومه جمهور العلماء. قال الترمذي: " لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين ". وجاء عن شريح أنه أنكره.

وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه؛ إلا زفر. وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف، أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة - يعني: الدليل -؛ لقال به. وقال القرطبي: راد الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه. ومما يدل على صحته ولزومه؛ حديث أبي هريرة - عند مسلم، وغيره -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله؛ إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن عمر أصاب أرضا بخيبر، فقال: يا رسول الله! أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه؛ فما تأمرني؟ فقال: " إن شئت حبّست أصلها، وتصدقت بها "، فتصدق بها عمر - على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث - في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل؛ لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم؛ غير متمول. وأخرج النسائي، والترمذي - وحسنه -، والبخاري - تعليقا - من حديث عثمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة؛ وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: " من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين؛ بخير له منها في الجنة؟ "، فاشتريتها من صلب مالي. وفي " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أما خالد؛ فقد حبس أدرعه

للواقف أن يجعل غلات الموقوف لمن شاء

وأعتده (¬1) في سبيل الله ". ( [للواقف أن يجعل غلات الموقوف لمن شاء] :) (وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في الحديث السابق: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها "، فإطلاق الصدقة يشعر بأن للواقف أن يتصدق بها كيف شاء؛ فيما فيه قربة. وقد فعل عمر ذلك، فتصدق بها على الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل؛ كما تقدم. والحاصل: أن الوقف الذي جاءت به الشريعة - ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه -؛ هو الذي يُتقرب به إلى الله - عز وجل -، حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها، فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة؛ لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع؛ لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجرا لفاعله؛ كائنا ما كان. فمن وقف - مثلا - على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة؛ كان وقفه صحيحا؛ لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة: " أن في كل كبد رطبة أجرا ". ومثل هذا: لو وقف على من يخرج القذارة من المسجد، أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طريقهم؛ كان ذلك وقفا صحيحا؛ لورود الأدلة الدالة على ¬

_ (¬1) الأعتد - بضم التاء وبكسرها -: جمع قلة للعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح، والدواب، وآلة الحرب. (ش)

جواز الأكل من وقفه وأن يجعل نفسه عليه

ثبوت الأجر لفاعل ذلك. فقس على هذا غيره مما هو مساو له في ثبوت الأجر لفاعله، وما هو آكد منه في استحقاق الثواب. ( [جواز الأكل من وقفه وأن يجعل نفسه عليه] :) (وللمتولي عليه أن يأكل منه بالمعروف) ؛ لما تقدم في وقف عمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم. (وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين) ؛ لما تقدم في حديث عثمان من قوله صلى الله عليه وسلم: " فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين ". ( [بطلان وقف من أراد مضارة لوارثه] :) (ومن وقف شيئا مضارة لوارثه كان وقفه باطلا) ؛ لأن ذلك مما لم يأذن به الله - سبحانه -؛ بل لم يأذن إلا بما كان صدقة جارية ينتفع بها صاحبها؛ لا بما كان إثما جاريا وعقابا مستمرا. وقد نهى الله - تعالى - عن الضرار في كتابه العزيز عموما وخصوصا، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عموما؛ كحديث: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " - وقد تقدم -، وخصوصا؛ كما في ضرار الجار، وضرار الوصية، ونحوهما. والحاصل: أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل، ومخالفة فرائض الله - عز وجل -: فهي باطلة من أصلها؛ لا تنعقد بحال. وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا

بيان حكم المال الموقوف الذي يوضع في مكان لا يستفاد منه

لم يرد التقرب إلى الله - تعالى -؛ بل أراد المخالفة لأحكام الله - عز وجل -، والمعاندة لما شرعه لعباده، وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني، فليكن هذا منك على ذُكر؛ فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة { وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف؛ إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم، فيقفه على ذريته؛ فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله - عز وجل -؛ وهو انتقال الملك بالميراث، وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء، وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف؛ بل هو إلى الله - عز وجل -. وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا؛ بحسب اختلاف الأشخاص. فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك. ومن هذا النادر: أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته، أو اشتغل بطلب العلم؛ فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا، والقربة متحققة، والأعمال بالنيات، ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم؛ أولى وأحق. ( [بيان حكم المال الموقوف الذي يوضع في مكان لا يستفاد منه] :) (ومن وضع مالا في مسجد أو مشهد (¬1) لا ينتفع به أحد؛ جاز صرفه في ¬

_ (¬1) • هو محضر الناس؛ كما في " القاموس ". وليس يريد المؤلف به المعنى المتعارف عليه؛ وهو المكان الذي دفن فيه أحد الصالحين؛ فإن هذا غير مشروع} (ن)

أهل الحاجات ومصالح المسلمين، ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجده - صلى الله عليه وسلم -) ؛ لحديث عائشة - في " صحيح مسلم " وغيره -، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال: بكفر -؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ". فهذا يدل على جواز إنفاق ما في الكعبة إذا زال المانع، وهو حداثة عهد الناس بالكفر، وقد زال ذلك، واستقر أمر الإسلام، وثبت قدمه في أيام الصحابة؛ فضلا عن زمان من بعدهم. وإذا كان هذا هو الحكم في الأموال التي في الكعبة؛ فالأموال التي في غيرها من المساجد أولى بذلك؛ بفحوى الخطاب. فمن وقف على مسجده - صلى الله عليه وسلم -، أو على الكعبة، أو على سائر المساجد شيئا يبقى فيها لا ينتفع به أحد؛ فهو ليس بمتقرب ولا واقف ولا متصدق؛ بل كانز يدخل تحت قوله - تعالى -: {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} الآية. ولا يعارض هذا ما روى أحمد، والبخاري، عن أبي وائل، قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، فقال: جلس إلي عمر في مجلسك هذا، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ {قلت: لم يفعله صاحباك، فقال: هما المرآن يُقتدى بهما "} لأن هذا - من عمر ومن شيبة بن عثمان بن طلحة - اقتداء بما وقع من

النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؛ وقد أبان حديث عائشة السبب الذي لأجله ترك صلى الله عليه وسلم ذلك. أقول: وفي " حاشية الشفاء ": " وأما أموال المساجد؛ فإن كانت كالأموال التي يقفها الواقفون عليها؛ ليحصل من غلاتها ما يحتاج إليه من عمارة ونحوها، وما يقوم بمن يحييها بالصلاة والتلاوة وتدريس العلوم؛ فلا شك أن هذا من أعظم القرب، ولا يحل لمسلم أن يأخذ منه شيئا. وإن كان ذلك من الأمور التي لمجرد الزخرفة - التي هي من علامات القيامة، أو للمباهاة والمكاثرة -؛ فهو من إضاعة المال؛ بل من وضعه في معاصي الله؛ فيكون أخذه وصرفه في مصالح المسلمين من باب القيام بواجبين: أحدهما: النهي عن المنكر. والثاني: توقي إضاعة المال المنهي عنها بالدليل الصحيح. وأما وضع الحلي في الكعبة، والدراهم والدنانير والجواهر النفيسة؛ فلا أستبعد أن يكون فاعله من الكانزين الذين قال الله - عز وجل - فيهم: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} ، ولا أرى على من أخذها - ليصرفها في مصالح المؤمنين؛ أو يدفع بها مفاسدهم بأسا، ولم يرد - ما يدل على المنع ". انتهى.

تحريم الوقف على القبور لتزيينها أو زخرفتها والوقف على القبور لرفع سمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة باطل لأن رفعها قد ورد النهي عنه كما في حديث علي أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يدع قبرا مشرفا إلا

وقد أوضح الماتن الكلام فيها في " شرح المنتقى "، فليراجع. ( [تحريم الوقف على القبور لتزيينها أو زخرفتها] :) (والوقف على القبور - لرفع سمكها، أو تزيينها، أو فعل ما يجلب على زائرها فتنة - باطل) ؛ لأن رفعها قد ورد النهي عنه؛ كما في حديث علي: أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه. وهو في " مسلم " وغيره. وكذلك تزيينها، وأشد من ذلك ما يجلب الفتنة على زائرها؛ كوضع الستور الفائقة، والأحجار النفيسة، ونحو ذلك؛ فإن هذا مما يوجب أن يعظم صاحب ذلك القبر في صدر زائره من العوام، فيعتقد فيه ما لا يجوز. وهكذا إذا وقف للنحر عند القبور ونحوه مما فيه مخالفة لما جاء عن الشارع. أما إذا وقف على إطعام من يفد إلى ذلك القبر، أو نحو ذلك؛ فهذا هو وقف على الوافد لا على القبر (¬1) ، وما صنع الواقف بوقفه على القبر إلا ما يعرضه للإثم؛ فقد يكون ذلك سببا للاعتقادات الفاسدة. وبالجملة: فالوقف على القبور مفسدة عظيمة ومنكر كبير؛ إلا أن يقف على القبر - مثلا - لإصلاح ما انهدم من عمارته؛ التي لا إشراف فيها ولا رفع ولا تزيين ¬

_ (¬1) • كأنه يقول أن لا شيء في هذا! والصواب أن يقال بمنعه؛ سدا للذريعة. (ن)

فقد يكون لهذا وجه صحة؛ وإن كان غير القبر أحوج إلى ذلك؛ كما قال الصديق - رضي الله تعالى عنه -: الحي أولى بالجديد من الأكفان؛ أو كما قال.

باب الهدايا

(15 - باب الهدايا) ( [فائدة الهدية] :) جمع هدية؛ قال في " الحجة البالغة ": " إنما يبتغى بها إقامة الألفة فيما بين الناس، ولا يتم هذا المقصود إلا بأن يرد إليه مثله؛ فإن الهدية تحبب المهدي إلى المهدى له؛ من غير عكس. وأيضا؛ فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، ولمن أعطى الطول على من أخذ، فإن عجز فليشكره، وليظهر نعمته؛ فإن الثناء أول اعتداد بنعمته وإضمار لمحبته، وأنه يفعل في إيراث الحب ما تفعل الهدية، ومن كتم فقد خالف عليه ما أراده، وناقض مصلحة الائتلاف، وغمط حقه. ومن أظهر ما ليس في الحقيقة؛ فلذلك كذب ". انتهى. ( [دليل مشروعية الهدية] :) (يشرع قبولها ومكافأة فاعلها) ؛ لحديث أبي هريرة - عند البخاري -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لو دعيت إلى كراع (¬1) أو ذراع؛ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع؛ لقبلت ". ¬

_ (¬1) • هو ما دون الركبة من الساق: " نهاية ". (ن)

جواز تبادل الهدايا بين المسلم والكافر

وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - نحوه من حديث أنس. وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية، قالت: قلت يا رسول الله {تكره رد اللطف؟ قال: " ما أقبحه} لو أهدي إلي كراع لقبلته " (¬1) . وأخرج أحمد (¬2) برجال الصحيح؛ من حديث خالد بن عدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جاءه من أخيه معروف - من غير إشراف ولا مسألة -؛ فليقبله ولا يرده؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه ". وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها. والأحاديث في قبول الهدية والمكافأة عليها كثيرة، وذلك معلوم منه صلى الله عليه وسلم. ( [جواز تبادل الهدايا بين المسلم والكافر] :) (وتجوز بين المسلم والكافر) : لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا الكفار، ويهدي لهم، كما أخرجه أحمد (¬3) ، والترمذي، والبزار من حديث علي، ¬

_ (¬1) ضعفه الهيثمي في " المجمع " (4 / 1499) ؛ ولعل ما قبله يشهد له. (¬2) • في " المسند " (4 / 220 - 221) ؛ وسنده صحيح على شرطهما، وانظر تعليقي على " الترغيب " (2 / 16) . (ن) قلت: وأصله في " صحيح مسلم " (1045) بنحوه؛ من حديث عمر بن الخطاب. (¬3) • في " المسند " (رقم 747، 1234) ، والترمذي (2 / 388) من طريق ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -؛ وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ". كذا قال! وثوير متفق على تضعيفه؛ بل قال الثوري فيه: " ركن من أركان الكذب ". (ن)

قال: أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقبل منه، وأهدى له قيصر؛ فقبل منه، وأهدت له الملوك؛ فقبل منها. وأخرج أبو داود (¬1) من حديث بلال: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عظيم فدك. وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة سندس. وأخرج أبو داود (¬2) من حديثه: أن ملك الروم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستقة (¬3) سندس؛ فلبسها. وفيهما أيضا من حديث علي: أن أكيدر دومة الجندل (¬4) أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال: " شققه خمرا بين الفواطم (¬5) ". وأخرج البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر، قال: أتتني أمي راغبة ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 46 - 47) ، وكذا البيهقي (6 / 80 - 81) ؛ وإسناده صحيح. (ن) (¬2) • قلت: هو في " سننه " (2 / 174 - 175) ؛ من طريق علي بن زيد، عن أنس. وعلي هذا: هو ابن جدعان؛ وفيه ضعف. (ن) (¬3) بضم الميم وإسكان السين المهملة وفتح التاء - ويجوز أيضا فتح الميم -: هي فراء طوال الأكمام، جمعها (مساتق) ، وأصل الكلمة فارسي، ووقع في الأصل بالشين المعجمة، وهو خطأ. (ش) (¬4) دومة الجندل - بفتح الدال وضمها -: حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيئ. وأكيدر - بالتصغير -: اسم ملكها، وكان نصرانيا فأسلم، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما في يده، ثم نقض الصلح، فأجلاه عمر. وقيل: إنه قتل في عهد أبي بكر؛ قتله خالد بن الوليد، وهو صحيح. (ش) (¬5) • أراد بهن: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - زوجة علي -، وفاطمة بنت أسد - أمه -، وفاطمة بنت حمزة - عمه -: " نهاية ". (ن)

في عهد قريش وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: " نعم "، قال ابن عيينة (¬1) : فأنزل الله فيها: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} . وقد أخرج أحمد، والطبراني من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة؛ فإن ردت إلي فهي لك "؛ وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي؛ وثقه يحيى ابن معين وغيره، وضعفه جماعة (¬2) . والأحاديث في قبوله - صلى الله عليه وسلم - لهدايا الكفار كثيرة جدا. وأما ما أخرجه أحمد (¬3) ، وأبو داود، والترمذي، وابن خزيمة - وصححاه - من حديث عياض بن حمار: أنه أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية، أو ناقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أسلمت؟ ". قال: لا، قال: " إني قد نهيت عن زبد المشركين ". ¬

_ (¬1) • هو أحد رواة هذا الحديث. وسبب نزول الآية معضل، وقد جاء موصولا في " المسند " (4 / 4) ، عن ابن الزبير؛ وفيه ضعف. (ن) (¬2) • وفي " الفتح " (5 / 169) : " وإسناده حسن "؛ كذا قال! وانظر " الإرواء " (6 / 62) . (ن) (¬3) • في " المسند " (4 / 162) من طريق الحسن بن عياض - وإسناده صحيح إن كان الحسن سمعه من عياض -، وأبو داود (2 / 47) ، والترمذي (2 / 389) ؛ من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عياض؛ وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". قلت: وإسناده حسن. (ن)

الرجوع بالهدية حرام

وأخرج موسى بن عقبة في " المغازي " عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: أن عامر بن مالك - الذي يقال له: ملاعب الأسنة - قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى له؛ فقال: " إني لا أقبل هدية مشرك " (¬1) . قال في " الفتح " (¬2) : " رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل، قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا ". وقيل: إنما رد ذلك إليهم لقصد الإغاظة؛ أو لئلا يميل إليهم، ولا يجوز الميل إلى المشركين. وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره؛ فهو لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب. وقيل: إن الرد في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه. ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الجواز؛ جمعا بين الأدلة. وزبد المشركين: هو بفتح الزاي، وسكون الموحدة، بعدها دال مهملة. قال في " الفتح ": " هو الرفد ". انتهى. ( [الرجوع بالهدية حرام] :) (ويحرم الرجوع فيها) ؛ لكون الهدية هي هبة - لغة وشرعا -، وقد ورد ¬

_ (¬1) صححه شيخنا في " الصحيحة " (1727) ، وانظر (1707) . (¬2) • (5 / 175) . (ن)

تجب التسوية بالهدايا بين الأولاد

في ذلك حديث ابن عباس - عند البخاري، وغيره -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه "؛ وهو في " مسلم " أيضا. وفي لفظ للبخاري: " ليس لنا مثل السوء ". وأخرج أحمد (¬1) ، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم - من حديث ابن عمر، وابن عباس، رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها؛ كمثل الكلب؛ أكل حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه ". وقد دل قوله: " لا يحل " على تحريم الرجوع من غير نظر إلى التمثيل الذي وقع الخلاف فيه؛ هل يدل على الكراهة أو التحريم؟ ! وقد ذهب إلى التحريم جمهور العلماء؛ إلا هبة الوالد لولده؛ كذا قال في " الفتح ". ( [تجب التسوية بالهدايا بين الأولاد] :) (وتجب التسوية بين الأولاد) ؛ لحديث جابر - عند مسلم وغيره -، قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاما وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، فقال: " له ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 2119، 4810) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن طاوس، عنهما؛ وسنده صحيح؛ وكذلك رواه أبو داود (2 / 109) . (ن)

إخوة؟ "، قال: نعم، قال: " فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ "، قال: لا، قال: " فليس يصلح هذا؛ وإني لا أشهد إلا على حق ". وفي لفظ لأحمد من حديث النعمان بن بشير: " لا تشهدني على جور؛ إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم " (¬1) . وفي " الصحيحين " من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ "، فقال: لا، فقال: " فأرجعه ". وفي لفظ لمسلم من حديثه: " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم "، فرجع أبي في تلك الصدقة. وكذا في " البخاري "؛ ولكنه بلفظ: " العطية ". وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديثه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: " اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم ". وأخرج الطبراني، والبيهقي (¬2) ، وسعيد بن منصور من حديث ابن عباس؛ بلفظ: " سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء "، وفي إسناده سعيد بن يوسف؛ وفيه ضعف، وقد حسن في " الفتح " إسناده. ¬

_ (¬1) ضعيف بهذا اللفظ؛ وانظر " غاية المرام " رقم (274) . (¬2) • أخرجه (6 / 177) ؛ من طريق سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس. وسعيد بن يوسف؛ قال الحافظ في " التقريب ": " ضعيف ". (ن)

وهذه الأحاديث تدل على وجوب التسوية، وأن التفضيل باطل جور يجب على فاعله استرجاعه، وبه قال طاوس، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وبعض المالكية. وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فقط، وأجابوا عن الأحاديث بما لا ينبغي الالتفات إليه. والحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتسوية بين الأولاد، وقد تولى الله - سبحانه - كيفية ذلك في محكم كتابه، وسمى التفضيل جورا، فمن زعم أنه يجوز التفضيل لسبب من الأسباب - كالبر ونحوه -؛ فعليه الدليل، ولا ينفعه المجيء بما هو أعم من هذا الحديث المقتضي للأمر بالتسوية. والمقام محتمل للتطويل والبسط، وقد جمع الماتن - رحمه الله - فيه رسالة مستقلة، وذكر في " شرح المنتقى " ما أجاب به القائلون بعدم وجوب التسوية، وهي وجوه عشرة، وأجاب عن كل واحد منها. وأوضحت المقام أيضا في كتابي: " دليل الطالب على أرجح المطالب "، فليراجع. قال ابن القيم - في حديث نعمان بن بشير المتقدم -: " هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه، وقامت به السماوات والأرض، وأثبتت عليه الشريعة، فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فرد بالمتشابه من قوله: " كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين "، فكونه أحق به

متى يحرم قبول الهدايا ومتى يكره ردها

يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء، وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم، والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان ". انتهى. وفي " شرح السنة ": " ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن تفضيل بعض الأولاد على بعض في النحل مكروه، ولو فعل نفذ. وقد فضل أبو بكر عائشة بجداد (¬1) عشرين وسقا؛ نحلها إياه دون سائر أولاده. وفي الحديث دليل على أن الوالد إذا وهب لولده شيئا؛ جاز له الرجوع فيه، وكذلك الأمهات والأجداد. وأما غير الوالدين؛ فلا رجوع لهم فيما وهبوا وسلموا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: " العائد في هبته كالعائد في قيئه ". وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا رجوع له فيما وهب لولده ". ( [متى يحرم قبول الهدايا ومتى يكره ردها؟] :) (والرد لغير مانع شرعي مكروه) ؛ لما قدمنا في أول البحث من الأدلة، فإن كان ثم مانع شرعي من قبول الهدية؛ لم يحل قبولها، وذلك كالهدايا ¬

_ (¬1) • بالفتح والكسر: صرام النخل؛ وهو قطع ثمرتها: " نهاية ". (ن)

لأهل الولايات؛ توصلا إلى أن يميلوا مع المهدي؛ فإن ذلك رشوة، وستأتي الأدلة الدالة على تحريمها. وقد ورد في هدايا الأمراء ما يفيد أنها لا تحل، وسيأتي الكلام على طرق حديث هدايا الأمراء في (كتاب القضاء) . والعلة أنها تؤول إلى الرشوة: إما في الحكم؛ أو في شيء مما يجب قيام الأمراء به. ومن ذلك: الهدية إلى من يعلم المهدي القرآن، وقد تقدم الدليل على ذلك في الإجارات. وهكذا حلوان الكاهن، ومهر البغي، ونحوهما. ومن ذلك: الهدية لمن يقضي للمهدي حاجة؛ لحديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها؛ فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ". أخرجه أبو داود (¬1) من طريق القاسم بن عبد الرحمن الأموي - مولاهم - الشامي؛ وفيه مقال. وبالجملة: فكل مانع شرعي - قام الدليل على ما نعيته من قبول الهدايا -؛ له حكم ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 109) ، وكذا أحمد (5 / 261) ؛ ورجال الأول كلهم ثقات، رجال مسلم غير القاسم، وهو حسن الحديث. (ن)

باب الهبات

(16 - باب الهبات) ( [متى تكون الهبة بحكم الهدية؟] :) (إن كانت بغير عوض؛ فلها حكم الهدية في جميع ما سلف) ؛ لكون الهدية هبة لغة وشرعا، والفرق بينهما إنما هو اصطلاح جديد. فإذا كانت الهبة بغير عوض؛ كانت المكافأة عليها مشروعة، وتجوز للكافر ومنه، ولا يحل الرجوع فيها. وتجب التسوية بين الأولاد، ويكره الرد بغير مانع شرعي. ( [متى تكون الهبة بيعا] :) (وإن كانت بعوض؛ فهي بيع، ولها حكمه) ؛ لأن المعتبر في التبايع إنما هو التراضي والتعاوض، وهما حاصلان في الهبة بعوض؛ إذا كان ذلك واقعا عند التواهب، وأما إذا كان في الموهوب له مكافأة - غير مرادة للواهب عند الهبة - فهي كالهدية. وبالجملة؛ فتنطبق - على الهبة بغير عوض - الأدلة المتقدمة في الهدية، وتنطبق - على الهبة بعوض - الأدلة المتقدمة في البيع، وقد تقدمت؛ فلا حاجة إلى إيرادها ههنا.

ما هي العمرى

( [ما هي العمرى؟] :) (والعمرى) : بضم العين المهملة، وسكون الميم مع القصر - عند الأكثر -؛ وهي مأخوذة من العمر، وهو الحياة؛ سميت بذلك؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار، ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدة عمرك وحياتك، فقيل لها: عمرى؛ لذلك. ( [ما هي الرقبى؟] :) (والرقبى) : بوزن العمرى: مأخوذة من المراقبة؛ لأن كل واحد منهما يرقب الآخر؛ متى يموت لترجع إليه؟ وكذا ورثته يقومون مقامه، هذا أصلهما لغة. ( [بيان أن العمرى والرقبى يوجبان الملك للمعمَر والمرقب ولعقبه أبدا] :) (توجبان الملك للمعمر والمرقب ولعقبه من بعده؛ لا رجوع فيهما) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمرى ميراث لأهلها - أو قال: جائزة - ". وفيهما من حديث جابر، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له. وفي لفظ لمسلم: " فمن أُعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا ولعقبه ".

وفي لفظ لأحمد (¬1) ، ومسلم (¬2) ، وأبي داود: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإنها ترجع إلى صاحبها. ولكن قد قيل: إن ذلك من كلام أبي سلمة مدرج (¬3) في حديث جابر؛ فلا تقوم بهذه الرواية الحجة، ولا تصلح لتقييد الأحاديث المطلقة؛ كالحديثين المتقدمين. وحديث زيد بن ثابت - عند أحمد (¬4) ، وأبي داود، وابن ماجه، وابن ¬

_ (¬1) • (3 / 136) . (ن) (¬2) • (5 / 68) . (ن) (¬3) • فيه نظر، ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا، وغالب الظن أنه اختلط عليه الأمر بحديث آخر فيه زيادة في آخره، مال الحافظ إلى أنها مدرجة! ونص هذا الحديث عن جابر أيضا: " أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد؛ فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها؛ من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث "؛ أخرجه مسلم (5 / 67 - 68) ، وأحمد (3 / 399) ؛ من طريق ابن جريج: أخبرني ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر؛ مرفوعا. وهكذا أخرجه مالك في " الموطإ " (2 / 225) - ومن طريقه مسلم -، عن ابن شهاب ... به. ثم أخرجه مسلم؛ من طريق الليث، عن ابن شهاب ... به، دون قوله في آخره: " من أجل ... "؛ وبين في رواية أخرى؛ من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري أن هذه الزيادة من قول أبي سلمة؛ قال الحافظ في " الفتح " (5 / 182) : " وقد أوضحته في كتاب " المدرج " ... ". فتبين أن المدرج في حديث جابر؛ إنما هو التعليل، وأما أصل الحديث بجميع رواياته؛ فصحيح لا علة فيها. وهي جميعها تتفق مع الرواية التي ذكرها الشارح؛ وإنما الفرق؛ أن تلك تدل - بطريق المفهوم - على ما دلت عليه في رواية الشارح - بطريق المنطوق -؛ فتأمل (ن) (¬4) • في " المسند " (5 / 189) ، والبيهقي (6 / 175) ؛ بسند صحيح. (ن)

حبان - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعمر عمرى؛ فهي لمعمره حياته ومماته، لا ترقبوا؛ من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث ". وأخرج أحمد، والنسائي (¬1) من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعمروا ولا ترقبوا؛ فمن أعمر شيئا أو أرقبه؛ فهو له حياته ومماته "؛ ورجال إسناده ثقات. وورد في محل النزاع ما أخرجه النسائي (¬2) من حديث جابر بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى - أن يهب الرجل - الرجل ولعقبه - الهبة، ويستثني إن حدث بك حدث ولعقبك؛ فهي إلي وإلى عقبي -؛ أنها لمن أعطاها ولعقبه. وهكذا ما أخرجه أحمد من حديث جابر: أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها، فماتت، فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها بينهم ميراثا؛ ورجاله رجال الصحيح (¬3) . وقد أخرجه - أيضا - أبو داود. ¬

_ (¬1) • (3 / 294) . (ن) قلت: وصححه شيخنا في " الإرواء " (1609) . (¬2) • في " السنن " (2 / 137) ، والبيهقي (6 / 172) ؛ بسند صحيح. (ن) (¬3) • قلت: وهو صحيح، وقد ساق إسناده في " نصب الراية " (4 / 128) . وهو عند أبي داود (2 / 11) من طريق أخرى عن جابر؛ ورجاله ثقات؛ إلا أن حبيب بن أبي ثابت مدلس، وقد عنعنه؛ ومن طريقه أخرجه البيهقي (6 / 174) . (ن)

فهذا وما قبله؛ يفيد أنها تكون للوارث وإن لم يذكر؛ بل ذكر الموروث؛ بل وإن استثنى وقال: إن حدث بك حدث فهي إلي؛ فإن ذلك لا يفيد، بل يكون للمعمر والمرقب ولورثته من بعده. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الشافعية. وذهب الجمهور إلى أنه إذا قال: هي لك ما عشت؛ فإذا مت رجعت إلي؛ فهي عاريّة مؤقتة، ترجع إلى المعمر عند موت المعمر، وتمسكوا برواية جابر المتقدمة. وقد قدمنا ما قيل فيها من الإدراج (¬1) . ثم اعلم أن الهبة تصح بمجرد الإيجاب، ولا تفتقر إلى قبول، ولكنها تبطل بالرد، ومن زعم أنها لا تتم إلا بالقبول احتاج إلى الدليل. ولا حجة لمن اشترط القبض في الهبة (¬2) ، ومن كان له صبر على الفاقة وقلة ذات اليد، فلا بأس بالتصدق بأكثر ماله أو بكله، ومن كان يتكفف الناس إذا احتاج؛ لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره، وهذا هو وجه الجمع بين الأحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة، وبين ¬

_ (¬1) • قلت: قد بينت آنفا أن لا إدراج؛ فلم يتم الجواب. والصواب أن يقال: إن رواية جابر ليست مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قوله، وقد عارضه حديثه الآخر عند أحمد وغيره، وهو المرفوع إليه صلى الله عليه وسلم؛ فهو مقدم على الموقوف؛ كما لا يخفى! (ن) (¬2) • وأما حديث: " لا تجوز الهبة إلا مقبوضة "؛ فلا أصل له؛ كما أشار لذلك في " نصب الراية " (4 / 121) . (ن)

الأدلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة على الثلث. وأما رجوع الوالد في هبة الولد؛ فيستدل على ذلك بما أخرجه أهل السنن، وصححه الترمذي من حديث ابن عمر، وابن عباس قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده ". وظاهر الحديث تحريم الرجوع في الهبة مطلقا؛ إلا ما تقدم تخصيصه؛ إلا أن يصح ما أخرجه الحاكم (¬1) من حديث الحسن، عن سمرة - مرفوعا - بلفظ: " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم، لم يرجع "؛ ورواه الدارقطني (¬2) من حديث ابن عباس؛ قال ابن الجوزي: وهما ضعيفان، وقال الحافظ: في إسناد الثاني ضعف. فإذا انتهضا للاحتجاج؛ كانا مخصصين لذي الرحم من العموم، وكذلك إذا صح حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حزم (¬3) مرفوعا بلفظ: " الواهب أحق ¬

_ (¬1) • ضعفه البيهقي (6 / 181) ، وراجع " إعلام الموقعين " (2 / 399) . (ن) (¬2) • قلت: إنما روى الدارقطني (ص 307) عن ابن عباس حديثا آخر؛ لفظه: " من وهب هبة فارتجع بها؛ فهو أحق بها ما لم يثب عليها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه ". وفي سنده كذاب ومتروك. (ن) (¬3) • في " المحلى " (10 / 130) ؛ من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عمرو بن دينار، عن أبي هريرة؛ مرفوعا. ثم ضعفه ابن حزم بالانقطاع بين عمرو وأبي هريرة، وضعف إبراهيم هذا. وبالجملة؛ فالحديث ضعيف من جميع طرقه، فلا يصلح للتخصيص. (ن)

بهبته ما لم يثب فيها (¬4) ". وأخرج الطبراني في " الكبير " عن ابن عباس مرفوعا: " من وهب هبة؛ فهو أحق بها حتى يثاب عليها " (¬5) ، وقد ضعف حديث أبي هريرة: ابن الجوزي، وصححه الحاكم (¬6) من قول عمر. فإن صح الحديثان أو أحدهما؛ كانا مخصصين للهبة التي لم يثب عليها، فيجوز الرجوع فيها. وأما حديث " الصحيحين " بلفظ: " العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه ". وزاد البخاري: " ليس لنا مثل السوء "، وثبت بلفظ: " لا يحل " كما في حديث ابن عمر، وابن عباس، والرواية التي فيها: " كالكلب يعود في قيئه "؛ ليست إلا المبالغة في الزجر. وليس المراد بالحديث إلا تمثيل فعل الراجع في الهبة بالكلب العائد في قيئه، وهذه صورة في غاية الشناعة والفظاعة. وليس المراد بيان ما يجوز للكلب من الرجوع في قيئه، وليس في الشرع ¬

_ (¬4) • أعله الدارقطني والبيهقي بالوقف. (ن) (¬5) • فيه ابن أبي ليلى؛ وهو ضعيف لسوء حفظه. (ن) (¬6) • الذي صححه من قول عمر؛ إنما هو البيهقي والدارقطني. والحاكم صححه مرفوعا عن ابن عمر. وتعقب بأن الصواب وقفه على عمر. (ن)

ما يدل على ألفاظ مخصوصة، ولا على مجلس، ولا على قبض. ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شيء من ذلك؛ فهو مطالب بالدليل، والفرق بين الحقوق والأملاك - وجعل كل واحد منهما مختصا بشيء مما تحت يد الثابت عليه -؛ إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع. وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب، ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من التفاريع والتفاصيل.

الكتاب الحادي عشر كتاب الأيمان

(الكتاب الحادي عشر: كتاب الأيمان)

كتاب الأيمان

(11 - كتاب الأيمان) ( [ما تنعقد به اليمين] :) (الحلف إنما يكون باسم) من أسماء (الله تعالى) ؛ وهو ظاهر، (أو صفة له) من صفات ذاته؛ لحلفه - صلى الله عليه وسلم - ب " مقلب القلوب "؛ كما في حديث ابن عمر في " صحيح البخاري "، وغيره، وقال: كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: " لا ومقلب القلوب ". وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زيد بن حارثة: " وأيم الله؛ إن كان لخليقا للإمارة ". وهكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحلف بقوله: " والذي نفسي بيده "، وهو في " الصحيح " وحكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبرئيل - عليه السلام -، أنه قال: " وعزتك؛ لا يسمع بها أحد إلا دخلها "؛ يعني: الجنة، وهو في " الصحيح " أيضا. والأحاديث في هذا كثيرة جدا. ( [الحلف بغير الله وصفاته: حرام] :) (ويحرم بغير ذلك) ؛ أي: بغير اسم الله - تعالى - وصفاته؛ فإن أهل

الجاهلية كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة معظمة، وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرما في ماله وأهله، فلا يقدمون على ذلك. ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء الشركاء بزعمهم، فنهوا عن ذلك؛ كما في حديث ابن عمر - عند مسلم، وغيره -: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه، فقال: " إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا؛ فليحلف بالله أو ليصمت ". وفي لفظ: " ومن كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ". وفي حديث أبي هريرة - عند أبي داود (¬1) والنسائي، وابن حبان، والبيهقي -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون ". وأخرج أبو داود (¬2) ، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من حلف بغير الله فقد كفر "، وفي لفظ: " فقد أشرك ". ¬

_ (¬1) • عزاه إليه غير واحد، وقيده الحافظ (11 / 448) ، فقال: " في رواية ابن داسة "؛ وسكت الحافظ على إسناده. وقد أخرجه النسائي (2 / 139) ، والبيهقي (10 / 29) بإسناد صحيح على شرطهما. (ن) (¬2) • لينظر؛ فإني لم أجده عنده. وهو عند الترمذي (2 / 371) ، والحاكم (4 / 297) ، والبيهقي - أيضا - (10 / 29) ، وأحمد (رقم 4904، 5222، 5256، 5346، 5375) ؛ من طريق سعد بن عبيدة، عن ابن عمر؛ مرفوعا؛ وقال الترمذي: " حديث حسن "، والحاكم: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. وأعله البيهقي بأن ابن عبيدة لم يسمعه من ابن عمر؛ بينهما رجل كندي، ثم ساق سنده بذلك، وهو إعلال صحيح؛ لكنه لا يسقط به الحديث؛ لثبوت سماع ابن عبيدة إياه عن ابن عمر في حادثة أخرى غير قصة الكندي؛ كما أخرجه أحمد بالرقمين (5222، 5256) ؛ وسنده صحيح متصل. (ن)

وهو عند أحمد من هذا الوجه. وفي لفظ للترمذي، والحاكم: " فقد كفر وأشرك ". وفي الباب أحاديث. قال في " الحجة البالغة ": " وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد، ولا أقول بذلك، وإنما المراد عندي اليمين المنعقدة، واليمين الغموس باسم غير الله - تعالى - على اعتقاد ما ذكرنا ". وقال في " المسوى ": " قال الشافعي: من حلف بغير الله؛ فهو يمين مكروهة، وأخشى أن يكون معصية. فإن قيل: أليس قد أقسم الله ببعض مخلوقاته فقال: {والسماء ذات البروج} ، {والشمس وضحاها} ؟ {أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي؟} : " أفلح - وأبيه - إن صدق "؟ ! فالجواب يكون بوجهين: أحدهما: أن فيه إضمارا معناه: ورب السماء، ورب الشمس، ورب أبيه، ونحو ذلك حيثما وقع. وثانيهما - وهو الأصح -: أن النهي إنما وقع عما كان على قصد التعظيم للمحلوف باسمه، كالحلف بالله يقصد بذكره التعظيم؛ دون ما كانت العرب تستعمله؛ تؤكد به كلامها؛ من غير ذلك التعظيم.

لا حنث على من حلف واستثنى

أقول: الحلف باسم غير الله - تعالى - على اعتقاد تعظيمه - بحيث يكون الحنث مع ذكر اسمه موجبا عنده للعقوبة في الدنيا والآخرة -: شرك. وبغير هذا التعظيم: مكروه لأجل المشابهة؛ مثل ما ذكروا من التفصيل في النهي عن القول ب (مطرنا بنوء كذا وكذا) ". انتهى. وفي حديث " الصحيحين " وغيرهما بلفظ: " من حلف باللات والعزى؛ فليقل: لا إله إلا الله "، ولا ريب أن الإنسان إنما يحلف بما هو عظيم عنده، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالف أن يحلف بالله أو يصمت. فمن حلف باللات والعزى؛ كان معظما لهما، ومن عظمهما كفر، ومن كفر لم يرجع إلى الإسلام إلا بكلمة الإسلام؛ وهي: لا إله إلا الله. ( [لا حنث على من حلف واستثنى] :) (ومن حلف فقال: إن شاء الله؛ فقد استثنى، ولا حنث عليه) ؛ لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث "؛ أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، وابن حبان. ولفظ ابن ماجه: " فله ثنياه ". ولفظ النسائي: " فقد استثنى ". وأخرجه الحاكم (¬1) ، وقد صححه ابن حبان. ¬

_ (¬1) • في " المستدرك " (4 / 303) ؛ بلفظ ابن ماجه؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. وهو عنده من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة؛ كما يوهم صنيع المصنف! وكذلك رواه النسائي (2 / 141، 145) عن ابن عمر، ولم أره عنده من حديث أبي هريرة. (ن)

وأخرج أبو داود، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم قال: " والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم قال: والله لأغزون قريشا "، ثم سكت، ثم قال: " إن شاء الله "، ثم لم يغزهم. قال أبو داود: إنه قد أسنده غير واحد عن ابن عباس (¬1) ، وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا. ويؤيد أحاديث الباب ما في " الصحيحين ": " أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة " ... الحديث؛ وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو قال: إن شاء الله؛ لم يحنث ". وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وادعى ابن العربي الإجماع على ذلك، فقال: " أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله؛ يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا ". وفي " الموطإ " عن ابن عمر: من قال: والله، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف عليه؛ لم يحنث. قال مالك: أحسن ما سمعت في الثنيا: أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه، وما كان من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت؛ فإذا سكت وقطع كلامه؛ فلا ثنيا له. ¬

_ (¬1) • هذا اختصار مخل لكلام أبي داود؛ يوهم خلاف قصده؛ فإنه قال (2 / 78) : " وقد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ". قلت: والمسند والمرسل؛ مداره على شريك - وهو القاضي -؛ وهو سيئ الحفظ. ومن طريقه أخرجه البيهقي (10 / 47) ؛ وأشار لتضعيفه. (ن)

يكفر عن يمينه من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه

قلت: وعلى هذا أهل العلم؛ أن الاستثناء إذا كان موصولا باليمين؛ فلا حنث عليه. أقول: ثم اعلم أن اعتبار الأعراف في الأيمان لا بد منه؛ فإن الحالف عند حلفه من شيء - أو على شيء - لا يخطر بباله غير العرف الذي غلب عليه في محاوراته، فلو فرض أن عرفه فيما حلف عليه مخالف لاسمه اللغوي أو الشرعي؛ كان العرف مقدما: أما إذا كان ممن لا يعرف الشرع أو اللغة فظاهر، وأما إذا كان ممن يعرفها فكذلك أيضا؛ لأن خطور المعنى العرفي أسبق من خطور غيره بالبال؛ إلا أن يقول: أردت ذلك؛ فإنه يقبل منه؛ إن كان لا يتعلق بالمعنى العرفي حق للغير. ( [يكفر عن يمينه من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه] :) (ومن حلف على شيء؛ فرأى غيره خيرا منه؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه) ؛ لما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عبد الرحمن ابن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حلفت على يمين؛ فرأيت غيرها خيرا منها؛ فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك ". وفي لفظ: " فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير ". وفي لفظ للنسائي، وأبي داود (¬1) : " فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ". ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 141) ، وكذا أحمد (5 / 63) ؛ من طريق جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سمرة ... به. وأخرجه أبو داود (2 / 77) ، ومن طريق البيهقي (10 / 73) ؛ عن قتادة، عن الحسن ... به،

وأخرج مسلم، وغيره من حديث عدي بن حاتم، ومن حديث أبي هريرة نحوه. وفي " الصحيحين " من حديث أبي موسى: " لا أحلف على يمين؛ فأرى غيرها خيرا منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني ". وفي الباب أحاديث. قلت: قال الله - تعالى -: {واحفظوا أيمانكم} ، واختلفوا في وجه الجمع بينه وبين حديث أبي هريرة: فقال أبو حنيفة: قوله - تعالى - مخصوص بما إذا كان المحلوف عليه معصية؛ إذ من المعلوم أن الله - تعالى - لا يأمر بمعصية؛ فمن حلف على معصية - كترك الكلام مع أبيه -؛ حنث وكفّر. ¬

_ وهذا سند صحيح. وقد أخرجه أبو عوانة في " صحيحه "، كأبي داود - كما في " الفتح " (11 / 515) -. وله شاهد من حديث عائشة مرفوعا؛ أخرجه الحاكم (4 / 301) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري وحده؛ لأن أبا الأشعث - واسمه أحمد بن المقدام -، وشيخه محمد بن عبد الرحمن الطفاوي؛ لم يخرج لهما مسلم شيئا. وله شاهد آخر عن أم سلمة، أخرجه الطبراني في " الكبير "، ورجاله ثقات؛ إلا أن عبد الله بن حسن لم يسمع من أم سلمة، كما في " المجمع " (4 / 185) . وهذه الطرق تدفع احتمال خطأ هذه الرواية. وقد قال الحافظ في " بلوغ المرام ": " إن إسناد أبي داود والنسائي صحيح ". وفيها رد على أبي حنيفة ومن تابعه؛ فإنهم قالوا: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، والحديث يدل على استحباب تقديمها؛ إن لم يدل على الوجوب. وقد ذهب إلى خلاف قول أبي حنيفة؛ الجمهور؛ ومعهم قول أربعة عشر صحابيا، كما في " الفتح " (11 / 514) ، وانظر " نيل الأوطار " (8 / 199) . (ن)

لا يأثم بالحنث من أكره على اليمين

وقال الشافعي: مخصوص بما إذا حلف على معصية، أو حلف على ترك مندوب، أو فعل مكروه؛ لقوله - تعالى -: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا} ؛ أي: مانعا لكم عن البر. قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير "؛ فقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، فمعناه: فليقصد أداء الكفارة كقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} . وقال الشافعي: يجوز تقديمها على الحنث [إن لم] (¬1) يكفر بالصوم (¬2) ، وعلى قياس هذا؛ كل حق مالي تعلق بشيئين يجوز تقديمه على الشيئين؛ كالزكاة إذا تم النصاب ولم يتم الحول ". ( [لا يأثم بالحنث من أكره على اليمين] :) (ومن أُكره على اليمين؛ فهي غير لازمة، ولا يأثم بالحنث فيها) ؛ لكون فعل المكره كلا فعل، وقد رفع الله - تعالى - الخطاب به في التكلم بكلمة الكفر، فقال - تعالى -: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ، ولحديث: " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (¬3) . ¬

_ (¬1) • زيادة لا بد منها. (ن) (¬2) • قلت: هذا قياس على استسلاف الرسول صلى الله عليه وسلم من العباس زكاة سنتين. واستثناء الصوم فيه؛ لأنه عبادة محضة، وكان يكون هذا الاستثناء صحيحا؛ لو لم يصح الحديث بلفظ: " ثم ". أما وقد صح؛ فهو بعمومه يشمل الصوم أيضا؛ فلا يصح هذا الاستثناء. (ن) (¬3) منكر بهذا اللفظ؛ وإنما يصح بلفظ: " إن الله تجاوز لأمتي ... "؛ وانظر " إرواء الغليل " (82) .

من علم كذب يمينه فهي غموس

وهو حديث فيه مقال طويل (¬1) . وتكليف الحالف بيمينه التي أكره عليها؛ من تكليف ما لا يطاق، وهو باطل بالأدلة العقلية والنقلية. ( [من علم كذب يمينه فهي غموس] :) (واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها) ؛ لحديث ابن عمر، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ فذكر الحديث، وفيه: " اليمين الغموس "، وفيه: قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: " التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب "؛ أخرجه البخاري. قال مالك: " وعقد اليمين: أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير، ثم يبيعه بذلك، أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه، ونحو هذا؛ فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه، وليس في اللغو كفارة. وأما الذي يحلف على الشيء - وهو يعلم أنه آثم -، ويحلف على الكذب - وهو يعلم -؛ ليرضي به أحدا، أو ليعتذر به إلى معتذر له، أو ليقطع به مالا؛ فهذا أعظم من أن يكون فيه كفارة ". قلت: الغموس هي الحلف على ما يعلم بطلانه؛ لا على ما يظن صدقه؛ فإنه خارج عن الأقسام الثلاثة، والحلف على الظن لا يجوز؛ لأن الله - سبحانه - قد نهى عن اتباع الظن - والعمل به - نهيا عاما مخصصا بأمور؛ ليس الحلف منها. ¬

_ (¬1) تفصيله في " تلخيص الحبير " للحافظ ابن حجر؛ المطبوع مع " المجموع " للنووي (ج 4: ص 112) . (ش)

معنى اللغو في اليمين وبيان حكمه

ومن زعم أنه يجوز الحلف على الظن؛ فهو مطالب بدليل صالح لتخصيص ذلك. ولا نسلم صدق اسم الاعتقاد على الظن؛ بل هو أخص منه، ولو سلم دخوله تحته بالمعنى العام؛ فلا نسلم أن الاعتقاد الذي يكون مطابقته صدقا هو ذلك العام، ولو سلمنا أنه العام؛ فلا نسلم أن كل صدق بهذا المعنى يجوز الحلف عليه؛ بل الذي يجوز الحلف عليه؛ هو نوع من أنواع الصدق خاص، وهو ما كان معلوما؛ لا ما كان مظنونا. ومن زعم غير هذا فعليه الدليل. ( [معنى اللغو في اليمين، وبيان حكمه] :) (ولا مؤاخذة باللغو) : لقوله - تعالى -: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} . وفي " البخاري " (¬1) عن عائشة، أنها قالت: أنزلت هذه الآية: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} في قول الرجل: لا والله، بلى والله. وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وغيرهما من الصحابة، وجماعة من التابعين. وأخرج أبو داود (¬2) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو كلام ¬

_ (¬1) • (11 / 464) . (ن) (¬2) • في " سننه " (2 / 75) ، ومن طريقه البيهقي (10 / 49) ؛ وفيه حسان بن إبراهيم، وهو ثقة، ولكنه كان يغلط في الشيء ولا يتعمد؛ كما قال ابن عدي وغيره، وهو يرويه عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عنها.

الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله ". وأخرجه أيضا البيهقي، وابن حبان. وصحح الدارقطني الوقف؛ قال أبو داود: رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفا. وذهبت الحنفية إلى أن لغو اليمين: أن يحلف على الشيء يظنه، ثم يظهر خلافه، وبه قال جماعة. وقيل: أن يحلف وهو غضبان. والخلاف في ذلك طويل، وتفسير الصحابة الآية الكريمة مقدم على تفسير غيرهم. قلت: الأيمان ثلاثة أقسام: لغو لا كفارة فيها، ومنعقدة تجب فيها الكفارة إن حنث، وغموس اختلفوا في كفارتها. قالت عائشة: لغو اليمين؛ قول الإنسان: لا والله. وقال مالك: أحسن ما سمعت في هذا: أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك؛ فهو اللغو. وذهب الشافعي في تفسير اللغو إلى قول عائشة. ¬

_ قال أبو داود: " روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ ... موقوفا على عائشة، وكذلك رواه الزهري، وعبد الملك بن أبي سليمان، ومالك بن مغول - كلهم -؛ عن عطاء، عن عائشة ... موقوفا ". قلت: وداود - هذا - ثقة فيه ضعف مثل حسان؛ لكن يرجح روايته - الموقوفة - هذه المتابعات لإبراهيم الصائغ موقوفا. (ن)

من حق المسلم على المسلم إبرار قسمه

وأبو حنيفة إلى ما حسنه مالك. أقول: الأولى أن يقال: إن اللغو لما وقعت في كتاب الله عز وجل مقابلة للمعقودة - وقد تقرر أن تعقيد اليمين قصدها، والمراد عقد القلب بها؛ كما صرح به صاحب " الكشاف " -؛ فاللغو: هي ما لم يقصد؛ كقول الرجل: لا والله، وبلى والله؛ في محاوراته من غير قصد لليمين؛ سواء كان في حال اليمين أم لا. فلو لم يرد في اللغو إلا وقوعها في القرآن مقابلة للمعقودة؛ لكان القول بأنها ما ذكرناه متعينا، فكيف وقد فسرت عائشة اللغو المذكورة في القرآن بما قلنا؟ ! ( [من حق المسلم على المسلم إبرار قسمه] :) (ومن حق المسلم على المسلم إبرار قسمه) : لما ثبت في " الصحيحين " من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كما في حديث البراء (¬1) ، وغيره. وأخرج أحمد من حديث أبي الزاهرية، عن عائشة: أن امرأة أهدت إليها تمرا، فأكلت بعضه، وبقي بعضه، فقالت: أقسمت عليك؛ إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبريها؛ فإن الإثم على المحنث "؛ ورجاله رجال الصحيح (¬2) . ( [بيان كفارة اليمين في كتاب الله] :) (وكفارة اليمين هي ما ذكره الله في كتابه العزيز) ؛ وهو قوله - تعالى -: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك ¬

_ (¬1) • قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار المقسم؛ أخرجه البخاري (11 / 459) . (ن) (¬2) قاله الهيثمي في " المجمع " (4 / 182 - 183) ؛ وإسناده حسن.

كفارة أيمانكم إذا حلفتم} . قلت: ذهب ابن عمر إلى أن {أو} ههنا للتقسيم؛ لا للتخيير، وتعقبه عامة أهل العلم بالقياس الجلي على فدية الحلق في الإحرام، فقالوا: يتخير الرجل بين: أن يطعم عشرة من المساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة؛ فإن عجز عنها صام ثلاثة أيام. وأما قدر الإطعام والكسوة؛ فكان ابن عمر يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين؛ لكل مسكين مد من حنطة - مختصر (¬1) -. وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين؛ أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم. قال مالك: " أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة: أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا، وإن كسا النساء كساهن ثوبين ثوبين، درعا وخمارا، وذلك أدنى ما يجزئ كلا في صلاته ". قلت: على هذا الشافعي في الإطعام، وقال في الكسوة أولا مثل ما قال مالك، ثم رجع، وقال: " إن اختار الكسوة؛ فعليه لكل مسكين ثوب واحد من قميص، أو سراويل، أو مقنعة، أو إزار؛ يصلح لكبير أو صغير؛ لصحة إطلاق الكسوة على كل ذلك سواء ". وقال أبو حنيفة: " الإعتاق والإطعام كما مر في الظهار، وأما الكسوة؛ فلكل واحد ثوب يستر عامة بدنه؛ فلا يجوز السراويل والإزار، ونحوهما ". ¬

_ (¬1) أي: الأثر مختصر؛ وانظر " المسوى بشرح الموطأ " (2 / 409)

قال مالك: " فأما التوكيد؛ فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد، يردد فيه الأيمان يمينا بعد يمين؛ كقوله: والله لا أنقصه من كذا وكذا؛ يحلف بذلك مرارا ثلاثا، أو أكثر من ذلك، قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين ". أقول: الذي في القرآن الكريم؛ إطعام عشرة مساكين، ومعناه الحقيقي أن يجعل لهم طعاما يأكلونه مرة واحدة؛ من غير تقدير بمقدار معين، ولا على صفة معينة؛ من اجتماعهم، أو كونه في وقت مخصوص؛ بل ما يصدق عليه مسمى إطعام العشرة - لغة -. ولا ريب أنه يقال لمن أطعم عشرة - ليلا أو نهارا، مجتمعين أو مفترقين -: إنه مطعم لذلك القدر. فما وقع الجزم به من اعتبار إطعام العشرة مرتين؛ لا وجه له. وأما الظن من حديث كفارة الظهار (¬1) فغير ظاهر؛ فإنه وقع الاختلاف الطويل العريض في مقدار العرق (¬2) من التمر، أو المكتل، وهل الإعانة منه صلى الله عليه وسلم فقط؟ أو منه ومن المرأة؟ ¬

_ (¬1) • يعني: حديث المجامع في رمضان، المتقدم في الكتاب؛ وفيه ذكر الكفارة؛ وهي مثل كفارة الظهار، ولذلك سماه المؤلف: " حديث كفارة الظهار ". أو أنه اشار إلى ما في بعض طرق الحديث أنه ظاهر من امرأته في رمضان، وأنه وطئها، فأمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة. لكن الحافظ استظهر أنهما قصتان؛ فراجع " فتح الباري " (4 / 132) . (ن) (¬2) • بفتحتين، وهو المكتل؛ كما فسر في نفس الحديث. (ن)

ثم هو مهجور الظاهر؛ فإنه أمر أوس بن الصامت أن ينفقه على نفسه؛ كما ثبت في " الصحيح " (¬1) . [انتهى المجلد الثاني من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، ويتلوه: المجلد الثالث - منه -، وأوله: 12 - كتاب النذر] ¬

_ (¬1) • ليس في " الصحيح " تسميته الرجل؛ وإنما وقعت تسميته ب " سلمة - أو سليمان - بن صخر " في قصة المظاهر في رمضان؛ وقد سبقت الإشارة إلى أنها قصة أخرى، غير قصة المجامع في رمضان؛ وتلك أخرجها ابن أبي شيبة؛ كما في " الفتح ". (ن)

الكتاب الثاني عشر كتاب النذر

(الكتاب الثاني عشر: كتاب النذر)

كتاب النذر

(12 - كتاب النذر) ( [متى يصح النذر؟] :) (إنما يصح إذا ابتغي به وجه الله، فلا بد أن يكون قربة، ولا نذر في معصية الله) ؛ لأنه قد ورد النهي عن النذر؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: " إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من مال البخيل ". وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة نحوه. ثم ورد الإذن بالنذر في الطاعة، والنهي عنه في المعصية؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه "؛ وعلى ذلك يحمل قوله - تعالى -: {يوفون بالنذر} . وقد أخرج الطبري بسند صحيح، عن قتادة في قوله - تعالى -: {يوفون بالنذر} ، قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض عليهم، فسماهم الله أبرارا. وورد بلفظ الحصر: أنه لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله؛ كما أخرجه

من أنواع نذر المعصية

أحمد (¬1) ، وأبو داود، وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ". وأخرج مسلم (¬2) ، وغيره من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين ". وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين " (¬3) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ( [من أنواع نذر المعصية] :) (1 -[عدم التسوية بين الأولاد في العطاء] :) (ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد) ؛ لما قدمنا في كتاب الهدايا. ¬

_ (¬1) • في " المسند " رقم (6714، 6732، 6975) ، وأبو داود (1 / 342) ؛ وسنده حسن. (ن) (¬2) • هذا خطأ؛ إذ إن مسلما لم يخرجه، بل أبو داود (2 / 81) ، والبيهقي (10 / 45، 72) من طريقين، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن كريب، عن ابن عباس ... مرفوعا به. وهو قطعة من حديث في النظر، ويأتي لفظه في الكتاب؛ وإسناده عندي صحيح. وروي من وجه آخر عن ابن عباس؛ أخرجه البيهقي وضعفه. وإنما روى مسلم (5 / 80) عن عقبة بن عامر مرفوعا: " كفارة النذر كفارة اليمين ". (ن) (¬3) • إسناده ضعيف، رواه النسائي (2 / 145 - 146) ، والطحاوي، والبيهقي، وغيرهم، لكن يشهد له ما قبله، ولذلك حسنه ابن تيمية في " نظرية العقد " (ص 55 - 56) . وهو عندي حديث صحيح لا شك فيه؛ لما سبق؛ ولأن الطحاوي أخرجه (3 / 37) من طريق أخرى عن عائشة مرفوعا؛ وإسناده صحيح. (ن)

المفاضلة بين الورثة خلافا للشرع

(2 -[المفاضلة بين الورثة خلافا للشرع] :) (أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله - تعالى -) ؛ لأن المخالفة لذلك معصية ولا نذر في معصية، كما تقدم. (3 -[النذر على القبور] :) (ومنه النذر على القبور) ؛ لكون ذلك ليس من النذر في الطاعة، ولا من النذر الذي يبتغى به وجه الله - تعالى -؛ بل قد يكون من النذر في المعصية؛ إذا كان يتسبب عنه اعتقاد باطل في صاحب القبر؛ كما يتفق ذلك كثيرا. وقد أخرج أبو داود (¬1) بإسناد صالح عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني القسمة؛ فكل مالي في رتاج الكعبة (¬2) ، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفّر عن يمينك [وكلم أخاك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يمين عليك ولا نذر] (¬3) ، ولا تنذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك ". ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 76) ، وكذا البيهقي (10 / 66) ، والحاكم (4 / 300) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن ابن المسيب؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. وأعله الشوكاني بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر، فهو منقطع. قلت: لم يتفق على عدم سماعه منه؛ بل قال أحمد: قد رأى عمر وسمع منه، وإذ لم يقبل سعيد عن عمر؛ فمن يقبل؟ ! فالحديث صحيح كما قال الحاكم والذهبي. (ن) (¬2) • أي: لها؛ كما سيأتي في الكتاب. (ن) (¬3) • من " السنن ". (ن)

النذر على المساجد لتزخرف

وأخرج مالك (¬1) والبيهقي بسند صحيح - وصححه ابن السكن -، عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة؛ إن كلم ذا قرابة؟ فقالت: يكفر عن اليمين. وإذا كان هذا في الكعبة؛ فغيرها من المشاهد والقبور بالأولى. قلت: اختلف أهل العلم في النذر إذا خرج مخرج اليمين؛ مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي عتق رقبة، أو: إن دخلت الدار فلله علي أن أصوم، أو أصلي، فهذا نذر أخرج مخرج اليمين؛ لأنه قصد به منع نفسه عن الفعل؛ كالحالف يقصد بيمينه منع نفسه عن الفعل، فأصح قولي الشافعي: أنه بمنزلة اليمين؛ عليه الكفارة إن حنث (¬2) ، والمشهور من مذهب أبي حنيفة: أن عليه الوفاء بما سمى الرتاج الباب، وجعل ماله في رتاج الكعبة؛ معناه: جعله لها، كنى عنها بالباب؛ لأنه يدخل إليها منه ". (4 -[النذر على المساجد لتزخرف] :) (وعلى ما لم يأذن به الله) ؛ كالنذر على المساجد لتزخرف، أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم؛ فإن ذلك من النذر في المعصية، وأقل الأحوال: أن يكون النذر على ما لم يأذن به الله خارجا عن النذر، الذي أذن الله به، وهو النذر في الطاعة، وما ابتغي به وجه الله. ¬

_ (¬1) • في " الموطأ " (2 / 34) ؛ وسنده على شرط الشيخين. (ن) (¬2) • وهو الأصح - إن شاء الله -؛ وهو قول عائشة، وعطاء، وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي (10 / 65) : " ومن قال به؛ قاله في كل ما حنث فيه؛ سواء في عتق أو طلاق ". قلت: وقد تقدم قريبا قول عمر فيمن نذر ماله في رتاج الكعبة، وأنه اعتبره يمينا. (ن)

لا يجب النذر في فعل لم يشرعه الله

فيشمل هذا كل نذر على مباح، أو مكروه، أو محرم. ( [لا يجب النذر في فعل لم يشرعه الله] :) (ومن أوجب على نفسه فعلا لم يشرعه الله؛ لم يجب عليه) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إذ هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم وأن يصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه ليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه ". وأخرج أحمد (¬1) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - نحوه -؛ فيمن نذر أن لا يزال في الشمس حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله ". قلت: وعلى هذا أهل العلم. ( [لا يجب النذر على الإنسان فيما لا يطيقه] :) (وكذلك إن كان) النذر (مما شرعه الله وهو لا يطيقه) ؛ لم يجب عليه الوفاء به؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى (¬2) بين ابنيه، فقال: " ما هذا؟ ! ". قالوا: نذر أن يمشي، قال: " إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني "، وأمره أن يركب. ¬

_ (¬1) • وإسناده حسن، وقد تقدم قريبا، وهذا أحد ألفاظه. (ن) (¬2) " أي: يمشي بينهما معتمدا عليهما؛ من ضعفه وتمايله "؛ قاله ابن الأثير. (ن)

تجب كفارة اليمين على من نذر في معصية أو نذر فيما لا يطيقه

زاد النسائي في رواية: " نذر أن يمشي إلى بيت الله ". وأخرج أبو داود بإسناد صحيح (¬1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر نذرا لم يسمه؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه؛ فكفارته كفارة يمين ". وأخرجه أيضا ابن ماجه، وزاد: " من نذر نذرا أطاقه فليف به ". ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر أن يمشي إلى الكعبة بالركوب؛ كما في " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر. وفي " مسند أحمد "، و " سنن أبي داود " من حديث ابن عباس. وفي " مسند أحمد " من حديث عقبة بن عامر. قلت: ذهب أبو حنيفة والشافعي - في أصح قوليه - إلى أن عليه دم شاة. وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إلا على وجه الاحتياط - لحديث أنس - في مثل هذه الصورة، ولم يذكر هديا ولا قضاء. ( [تجب كفارة اليمين على من نذر في معصية، أو نذر فيما لا يطيقه] :) (ومن نذر نذرا لم يسمه، أو كان معصية، أو لا يطيقه؛ فعليه كفارة ¬

_ (¬1) • هو كما قال، وهو حديث ابن عباس الذي عزاه الشارح آنفا (ص) لمسلم خطأ. ثم تبين أنه معلول بالوقف: " الإرواء " (8 / 210) . (ن)

يمين) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه، والترمذي - وصححه (¬1) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة يمين ". وهو في " صحيح مسلم " دون قوله: " إذا لم يسمه ". وقد تقدم حديث ابن عباس - قريبا - فيمن نذر نذرا لم يسمه. وأخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين "، كذا نسبه صاحب " المنتقى " إلى مسلم (¬2) ؛ وفيه نظر. وهو عند أبي داود، وابن ماجه، وأحمد. وأخرج أحمد، وأهل " السنن ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين "، وفي إسناده مقال (¬3) . ¬

_ (¬1) الترمذي (2 / 368) - من طريق أبي الخير -، وابن ماجه (1 / 653) ، وكذا البيهقي (/ 45 10) - من طريق خالد بن يزيد -، كلاهما عن عقبة. وفيه - عندهما - إسماعيل بن رافع، وهو ضعيف، وعند الترمذي أبو بكر بن عياش وفيه ضعف. لكن يشهد له حديث ابن عباس المتقدم قريبا. (ن) (¬2) • كذا قال! وهو وهم منه، أو من ناسخ نسخته من " المنتقى "؛ فإنما عزاه - في نسختنا التي عليها شرح الشوكاني - (8 / 203) لأبي داود فقط. (ن) (¬3) • قلت: لكن رواه الطحاوي من طريق أخرى، ليس فيه المقال المشار إليه؛ وإسناده صحيح كما سبق منا. ورواه أحمد (6 / 247) من طريق ثالثة: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ وهو صحيح أيضا، وهي غير طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة التي أعلت بالانقطاع، وقد ساقها أحمد قبيل هذه الطريق؛ فكأنه - رحمه الله - عقبها بهذه؛ ليشير إلى تقويتها. ثم وجدت له متابعا عن أبي سلمة؛ أخرجه الطيالسي (1 / 248) : حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عنها ". وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن ابن أبي كثير مدلس، وقد عنعنه (ن) .

يجب الوفاء بالنذر المباح

وأخرج أبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر نذرا لم يطقه؛ فكفارته كفارة يمين ". وهكذا أمر صلى الله عليه وسلم المرأة التي نذرت أن تمشي - وهي لا تطيق - بأن تكفر؛ كما أخرجه أحمد، وأبو داود. ( [يجب الوفاء بالنذر المباح] :) أقول: النذر بالمباح يصدق عليه مسمى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به. ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود (¬1) : أن المرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: " أوفي بنذرك ". وضرب الدف إذا لم يكن مباحا فهو إما مكروه، أو أشد من المكروه؛ ولا يكون قربة أبدا، فإن كان مباحا؛ فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروها؛ فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأولى (¬2) . ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 81) ، ومن طريقه البيهقي (10 / 77) بإسناد حسن؛ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وله شاهد من حديث بريدة؛ رواه الترمذي (4 / 316) - وصححه -، والبيهقي، وأحمد (5 / 353) ؛ وإسناده صحيح. ورواه ابن أبي شيبة أيضا، وابن حبان في " صحيحيه " (رقم 1193) ؛ وانظر " نصب الراية " (3 / 300 - 301) . (ن) (¬2) • قلت: كلا؛ لأن الأصل في الضرب بالدف أنه لا يجوز؛ لأنه من آلات الملاهي؛ وهي محرمة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تفي بنذرها؛ لأنه اقترن بإظهار الفرح بقدومه صلى الله عليه وسلم سالما، فصار فعله =

وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرا لم يسمه يدل على وجوب الكفارة بالأولى في المباح. فالحاصل: أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين: إما وجوب الوفاء به؛ أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء. ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الإذن لمن نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة؛ بأن تختمر وتركب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها مع ذلك بصيام ثلاثة أيام. وفي رواية: أنه أمرها بأن تهدي بدنة. ومثل ذلك حديث الشيخ الذي نذر أن يمشي، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه "؛ فإنه لا يعارض ما قدمنا - لوجهين -: الأول: أن عدم التصريح بوجوب الكفارة عليه لا ينافي الأحاديث المصرحة بوجوبها. والثاني: أنه رآه يضعف عن ذلك؛ كما في الرواية: أنه رآه يهادى بين ابنيه، ولهذا قال: " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه ". ¬

_ = كبعض القرب؛ كضرب الدف في النكاح؛ أفاده الخطابي في " معالم السنن ". فليس في الحديث دلالة واضحة على الوفاء بالمباح؛ فالأولى الاستدلال بما ثبت في الشرع أن النذر يمين، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى البيت فعجزت: " تكفر عن يمينها ". ومعلوم أن من حلف على مباح أن يفعله؛ وجب عليه أن يبر في يمينه أو الكفارة، فكذلك في نذر المباح؛ عليه الوفاء أو الكفارة، ولا فرق، وراجع لهذا كلام ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 373 - 376) . (ن)

يلزم المشرك الوفاء إذا نذر بطاعة ثم أسلم

ومحل النزاع من نذر بمباح مقدور له من غير تعذيب لنفسه، ثم تعذيب النفس إن كان من قبيل المعصية، فقد ثبت أن في نذر المعصية كفارة يمين، وإن كان لكونه يلحق بغير المقدور، فقد ثبت أن من نذر فيما لا يملك؛ فعليه كفارة يمين، وما ليس بمقدور للإنسان داخل فيما لا يملكه. وقد أخرج أبو داود حديثا، وفيه: " ومن نذر نذرا لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين ". والحاصل: أن النذر إن كان بطاعة مقدورة وجب الوفاء به؛ سواء كانت تلك الطاعة واجبة أو مندوبة، وإن كان بغير طاعة فهو: إما من المباح؛ أو الحرام؛ أو المكروه، فإن كان من المباح فقد تقدم، وإن كان من الحرام؛ فقد ثبت وجوب الكفارة فيه مع المنع من الوفاء به، وإن كان مكروها؛ فهو إما أن يكون لاحقا بالحرام أو بالمباح. إن كان الأول وجبت الكفارة، ولم يجز الوفاء به. وإن كان الثاني فقد تقدم. هذا خلاصة الكلام في أنواع النذر، ولا دليل بيد من لم يوجب الوفاء، ولا الكفارة في المندوب والمباح: ( [يلزم المشرك الوفاء إذا نذر بطاعة ثم أسلم] :) (ومن نذر بقربة وهو مشرك، ثم أسلم؛ لزمه الوفاء) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال: قلت: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية

ماذا على من نذر كل ماله

أن أعتكف في المسجد الحرام، فقال: " أوف بنذرك ". وأخرج أحمد (¬1) ، وابن ماجه عن ميمونة بنت كردم (¬2) : أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني نذرت أن أنحر ببوانة (¬3) ، فقال: " أبها وثن أو طاغية؟ ". قال: لا، قال: " أوف بنذرك "، ورجال إسناده رجال الصحيح. وأخرج أبو داود نحوه من حديث ثابت بن الضحاك، وإسناده صحيح. ( [ماذا على من نذر كل ماله؟] :) (ولا ينفذ النذر إلا من الثلث) ؛ لحديث كعب بن مالك في " الصحيحين ": ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3 / 419) ، وابن ماجه (1 / 353 - 354) ؛ من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، عن ميمونة بنت كردم ... به، والسياق لابن ماجه. وقال أحمد: عنها، عن أبيها؛ فجعله من مسند أبيها. والصواب الأول؛ فقد أخرجه ابن ماجه؛ من طريق أخرى، عن عبد الله بن عبد الرحمن هذا، عن يزيد بن مقسم، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بنحوه. وعبد الله - هذا - فيه ضعف، وإن أخرج له مسلم، وقد اضطرب في إسناد هذا الحديث كما ترى. وقد رواه عبد الله بن يزيد بن مقسم، عن سارة بنت مقسم، عن ميمونة. وسارة - هذه - لا تعرف؛ فالحديث من هذا الوجه ضعيف؛ لجهالة بعض رواته؛ واضطرابه. لكن أخرجه أبو داود (2 / 80) ؛ من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - بإسناد صحيح. وابن ماجه، والبيهقي، عن ابن عباس بسند ضعيف. (ن) (¬2) كردم؛ بوزن؛ جعفر، وميمونة هذه صحابية، وحديثها في " مسند أحمد " (ج 6: ص 366) ، وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " (ج 5: ص 552) ، وابن سعد في " الطبقات (ج 8: ص 222) ، وابن حجر في " الإصابة " (ج 8: ص 195) ، ونسبه أيضا إلى " سنن أبي داود ". (ش) (¬3) بوانة - بضم الباء وتخفيف الواو -: هضبة وراء ينبع، قريبة من ساحل البحر؛ كما في " معجم البلدان ". (ش)

أنه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك ". وفي لفظ لأبي داود (¬1) : إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: " لا " قلت: فنصفه؟ قال: " لا "، قلت: فثلثه؟ قال: " نعم ". وفي إسناده محمد بن إسحاق. وفي لفظ لأبي داود أنه قال له: " يجزي عنك الثلث ". وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 81) ؛ عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن جده. وليست علة هذا اللفظ عنعنة ابن إسحاق؛ فقد صرح بالتحديث، وإنما هي المخالفة؛ فقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن الزهري، لم يذكروا فيه: " الثلث " بل: " البعض "، كما في الكتاب. وكذلك أخرجه أبو داود - في رواية -، وأحمد (3 / 454، 456، 459، 459، 460) ، (6 / 387، 389) ، والبيهقي (10 / 67 - 68) . (ن) (¬2) • في " المسند " (3 / 452 - 453، 502) ، ولم أجده في " سنن أبي داود " مع أنه قد عزاه إلى كتاب النذور من " سننه " النابلسي في " الذخائر " وليس فيه؛ فلعله في بعض النسخ. وقد رواه البيهقي (10 / 68) ؛ وقال: إنه مختلف في إسناده ولا يثبت، ولا يصح الاحتجاج به؛ فإن أبا لبابة إنما أراد أن يتصدق بماله شكرا لله حين تاب الله عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك بعض ماله؛ كما قال لكعب؛ ولم يبلغنا أنه نذر شيئا أو حلف على شيء ". وذكر نحوه ابن القيم في " التهذيب " (4 / 384 - 385) ، ثم اختار في المسألة أن يتصدق به ويمسك عليه بعضه، وهو ما يكفيه ويكفي عياله، هذا إذا كان ناذرا. وأما إذا كان حالفا بالصدقة؛ أجزأه كفارة يمين، وهذا هو الأقرب؛ والله أعلم (ن) .

وفاء الولد بنذر أبيه بعد موته مجزئ

الله عليه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله - عز وجل - ولرسوله، فقال: " يجزي عنك الثلث ". قلت: وهو قول أهل العلم في الجملة. ولو حلف الرجل بصدقة ماله، أو قال: مالي في سبيل الله. فقال قوم: عليه كفارة يمين، وهو من نذر اللجاج، وعليه الشافعي. وقال مالك: يخرج ثلث ماله، لحديث أبي لبابة المذكور. وقال أبو حنيفة: ينصرف ذلك إلى كل ما يجب فيه الزكاة من عينه من المال؛ دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها. ( [وفاء الولد بنذر أبيه بعد موته مجزئ] :) (وإذا مات الناذر بقربة، ففعلها عنه ولده؛ أجزأه ذلك) ؛ لحديث ابن عباس: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقضه عنها "، أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح. وأصل القصة في " الصحيحين ". وفي " البخاري ": " أن ابن عمر أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء ثم ماتت، أن تصلي عنها ". وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس نحو ذلك بإسناد صحيح.

وقد روي عنهما خلاف ذلك. قلت: هو القول القديم للشافعي: إن من فاته شيء من رمضان، وتمكن من قضاءه، ثم مات ولم يقض، وكذا النذر والكفارة؛ تدارك عنه وليه؛ إما بالصوم عنه؛ أو الإطعام من تركته. قال النووي: القديم ههنا أظهر. وقال محمد: ما كان من نذر، أو صدقة، أو حج قضاها الولي أجزأ ذلك إن شاء الله - تعالى -، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.

الكتاب الثالث عشر كتاب الأطعمة

(الكتاب الثالث عشر: كتاب الأطعمة)

كتاب الأطعمة

(13 - كتاب الأطعمة) (1 - باب المحرمات من الأطعمة) ( [الأصل في الأشياء: الحل. والحرام: ما حرمه الله ورسوله] :) (الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو عفو) ؛ لمثل قوله - تعالى -: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية؛ فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، ولمثل حديث سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء؟ فقال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم "، أخرجه ابن ماجه، والترمذي، وفي إسناد ابن ماجه سيف بن هارون (¬1) البرجمي، وهو ضعيف (¬2) . ¬

_ (¬1) • هذا يوهم أن ابن هارون ليس في سند الترمذي، مع أنه أخرجه (3 / 44) من طريقه أيضا؛ فتنبه! وسيف - هذا - ضعيف متروك، كما قال الدارقطني في " سؤالات البرقاني " عنه (رقم 196 - نسختي المصورة) . فقول ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 305) : " وهذا إسناد جيد "؛ غير جيد. (ن) قلت: وانظر " غاية المرام " (3) لشيخنا. (¬2) قال الترمذي (ج 1 ص 322 - طبع بولاق) : " هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ". ورواه أيضا الحاكم في " المستدرك " (ج 4: ص 115) شاهدا، وفي إسناد الجميع سيف بن هارون البرجمي، وقد ضعفه جماعة؛ منهم ابن حبان، ووثقه أبو نعيم، وصحح الطبري حديثه في " التهذيب "، وقال البخاري: " مقارب الحديث ". (ش)

وفي " الصحيحين " من حديث سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما؛ من سأل عن شيء لم يحرم على الناس؛ فحرم من أجل مسألته ". وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". وأخرجه البزار وقال: سنده صالح، والحاكم (¬1) - وصححه - من حديث أبي الدرداء، ورفعه بلفظ: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا "، وتلا: {وما كان ربك نسيا} . وأخرج الدارقطني (¬2) من حديث أبي ثعلبة رفعه: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت ¬

_ (¬1) • في " المستدرك " (2 / 375) ، وعنه البيهقي (10 / 12) ، ووافقه الذهبي على تصحيحه؛ وهو كذلك. (ن) انظر - أيضا - " غاية المرام " (2) . (¬2) • لم أجده الآن في " سننه " من حديث أبي ثعلبة؛ وإنما أخرجه (ص 550) من حديث أبي الدرداء، وفيه متهم. وإنما أخرجه عن أبي ثعلبة الحاكم (4 / 115) ، والبيهقي عنه (10 / 12 - 13) ؛ من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة؛ وهو منقطع. (ن)

المحرمات من الأطعمة في كتاب الله

عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ". وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب، فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ما ورد فيه دليل يخصه، ومن التخصيص قوله - تعالى - في آخر تلك الآية: {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} ، وكذلك قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} إلى آخر الآية. ( [المحرمات من الأطعمة في كتاب الله] :) (فيحرم ما في الكتاب العزيز) : (1 -[الميتة] :) وهو قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} ؛ أي: ما مات حتف أنفه. (2 -[الدم المسفوح] :) {والدم} ، وهو المسفوح؛ صرح بذلك في الآية؛ والمفسر قاض على المبهم، وهذا مما ينقض به قول القائل: المبهم على إبهامه، والمفسر على تفسيره؛ فإنهم اتفقوا في هذه الآية على التقييد. (3 -[لحم خنزير] :) {ولحم الخنزير} ، وكل شيء من الخنزير حرام، وتخصيص اللحم بالذكر؛ لأنه يقصد في العادة، والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم. ولم يزل نوح ومن بعده من الأنبياء يحرمون الخنزير، ويأمرون بالتبعد

كل حيوان لم يذكر اسم الله عند ذبحه

عنه؛ إلى تنزل عيسى - عليه السلام - فيقتله، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه، وهجر أمره أشد ما يكون. (4 -[كل حيوان لم يذكر اسم الله عند ذبحه] :) {وما أهل لغير الله به} ؛ أي: ذكر اسم غير الله عند ذبحه. (5 -[المنخنقة] :) {والمنخنقة} : هي التي تختنق فتموت. (6 -[الموقوذة] :) {والموقوذة} : هي المقتولة بالعصا. (7 -[المتردية] :) {والمتردية} : هي التي تتردى من مكان عال فتموت. (8 -[النطيحة] :) {والنطيحة} : هي التي تنطحها أخرى فتموت. (9 -[ما أكل السبع] :) {وما أكل السبع} : يريد: ما بقي مما أكل السبع؛ لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلقه، أو لبته، فجرّ ذلك إلى تحريم الأشياء.

ما ذبح على النصب

{إلا ما ذكيتم} ؛ أي: ما أدركتم من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرة فذبحتموه. أما ما صار إلى حالة المذبوح؛ فهو في حكم الميتة. (10 -[ما ذبح على النصب] :) {وما ذبح على النصب} : قيل: مفرد كعنق، وقيل: جمع نصاب، وهو الشيء المنصوب من حجر ونحوه؛ أمارة للطاغوت. والجمع بينه وبين ما أهل لغير الله به يدل على الفرق بينهما. وذلك لأن المذبوح عند النصب قصد به تعظيم الطاغوت دلالة؛ وإن لم يتلفظ باسمه؛ فهو بمنزلة ما أهل لغير الله به. {وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} ، إلى قوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} . قلت: قد اتفق المسلمون على ذلك في الجملة؛ وإن كان لهم في التفاصيل اختلاف. (11 -[كل ذي ناب من السباع] :) (وكل ذي ناب من السباع) ؛ لخروج طبيعتها من الاعتدال، وبشكاسة أخلاقها، وقسوة قلوبها؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني عند مسلم، ومالك، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام "، وفي

الباب أحاديث في " الصحيحين "، وغيرهما. والمراد بالناب: السن الذي خلف الرباعية؛ جمعه: أنياب، وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد، وقال في " النهاية ": " هو ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا؛ كالأسد والذئب والنمر ونحوها ". قال في " القاموس ": " السبع - بضم الباء -: المفترس من الحيوان ". انتهى. وأراد بذي ناب: ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم؛ مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر، وعلى هذا أهل العلم. إلا أن الشافعي ذهب إلى إباحة الضبع والثعلب. وقال أبو حنيفة: هما حرامان كسائر السباع. أقول: قد قيل: إنه لا ناب للضبع، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس؛ كذا قال ابن رسلان في " شرح السنن ". وعلى تسليم أن لها نابا؛ فيخصصها (¬1) من حديث كل ذي ناب؛ حديث جابر؛ فإنه قيل له: الضبع صيد؟ قال: نعم، فقال له السائل: آكلها؟ قال: نعم، فقال له: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ أخرجه أبو داود (¬2) ، وابن ¬

_ (¬1) • لا داعي للتخصيص؛ فقد نفى ابن القيم أن تعد الضبع من السباع؛ لغة أو عرفا؛ انظر " إعلام الموقعين "، و " تحفة الأحوذي ". (ن) (¬2) • في " سننه " (2 / 144) ، والبيهقي (9 / 318) ، والطحاوي أيضا (1 / 384) ، وأحمد (3 / 297، 318، 322) ؛ من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، عن جابر؛ وإسناده صحيح على شرط مسلم.

كل ذي مخلب من الطير

ماجه، والنسائي، والترمذي - وصححه -. وصححه أيضا البخاري، وابن حبان، وابن خزيمة، والبيهقي. ولا يعارض هذا الحديث الصحيح ما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة ابن جزء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: " أو يأكل الضبع أحد؟ {". وفي رواية: " ومن يأكل الضبع؟} "؛ لأن في إسناده عبد الكريم أبا أمية، وهو متفق على ضعفه، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف (¬1) . (12 -[كل ذي مخلب من الطير] :) (وكل ذي مخلب من الطير) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم، وغيره، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير ". ¬

_ = وله طريق أخرى عند الطحاوي، والبيهقي عن جابر؛ وفيه التصريح برفع أكلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وسنده حسن، وصححه الحاكم (1 / 453) من هذا الوجه، ووافقه الذهبي. وتعصب التركماني؛ فضعف الحديث من الطريقين! (ن) (¬1) الحديث في " الترمذي " (ج 1: ص 331) ، وفي " طبقات ابن سعد " (ج 7: قسم 1: ص 33) . وعبد الكريم: هو ابن أبي المخارق، وكنيته أبو أمية، ووقع في الأصل: " عبد الكريم بن أمية "؛ وهو خطأ. والحديث ضعيف؛ قال الترمذي: " ليس إسناده بالقوي، لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم، عن عبد الكريم أبي أمية ". ولم يخرجه أحمد في " المسند " على سعته وعظمه. (ش)

الحمر الإنسية

والمخلب: بكسر الميم، وفتح اللام؛ قال أهل اللغة: المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان، ويباح منه الحمام والعصفور؛ لأنهما من المستطاب. (13 -[الحمر الإنسية] :) (و) من ذلك (الحمر الإنسية) ، وكان كثير من أهل الطباع السليمة من العرب يحرمونه، ويشبه الشياطين، وهو يرى الشيطان فينهق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سمعتم نهيق الحمار؛ فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى شيطانا " (¬1) ، ويضرب به المثل في الحمق والهوان. وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة، وأطيبهم نفسا؛ كما في حديث البراء بن عازب في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية. وفيهما من حديث ابن عمر، وأبي ثعلبة الخشني نحوه. وفي الباب غير ذلك، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. قلت: وأما الحمار الوحشي فاتفقوا على إباحته؛ كذا في " المسوى "، وأهدي له صلى الله عليه وسلم الحمار الوحشي فأكله (¬2) ؛ كذا في " الحجة البالغة ". ¬

_ (¬1) • حديث صحيح أخرج الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة مرفوعا. (ن) (¬2) • صحيح؛ أخرجه البخاري (4 / 19 - 21، 21، 21 - 22، 23 - 24، 5 / 152 - 153) ؛ من حديث أبي قتادة الأنصاري، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان محرما في خروجه إلى الحديبية. (ن)

الجلالة

(14 -[الجلالة] :) (و) من ذلك (الجلالة (¬1) قبل الاستحالة) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد، وأبي داود (¬2) ، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. وأخرج أحمد (¬3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، وابن دقيق العيد، من حديث ابن عباس: النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها. وأخرج أحمد (¬4) ، والنسائي، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحو ذلك. وفي الباب غير ذلك. ¬

_ (¬1) • هي الدابة التي تأكل الجلة؛ وهي البعر من الإبل وغير الإبل. وقيد ذلك ابن حزم (7 / 410) بذوات الأربع خاصة، قال: " ولا يسمى الدجاج ولا الطير جلالة "، قال الحافظ: " والمعروف التعميم ". قلت: وظاهر الحديث يشهد لابن حزم؛ لقرينة ذكر اللبن فيه؛ فتأمل! قال ابن حزم: (7 / 429) : " وقد صح عن أبي موسى تحليل الدجاج، وإن كان يأكل القذر ". وقال البغوي في " شرح السنة " (3 / 183 / 2) : " ثم الحكم في الدابة التي تأكل العذرة؛ أن ينظر فيها؛ فإن كانت تأكلها أحيانا؛ فليست بجلالة، ولا يحرم بذلك أكلها؛ كالدجاج ونحوها ... ". (ن) (¬2) • أبو داود (2 / 142) ، وابن ماجه (2 / 286) ؛ والترمذي (3 / 89) ؛ وفيه ابن إسحاق، وقد عنعنه، لكن يشهد له ما بعده. (ن) (¬3) • في " المسند " (رقم 1989، 2161، 2671، 2952، 3142، 3143) ، وأبو داود فيما سبق، وكذا الترمذي، والنسائي (2 / 210) ، والبيهقي (9 / 333) ؛ وإسناده على شرط البخاري، وهو أصح أحاديث الباب، كما قال الحافظ في " الفتح " (9 / 533) . (ن) (¬4) • في " المسند " (2 / 219) ، وأبو داود أيضا (2 / 145) ؛ وسنده حسن، كما قال الحافظ. (ن)

وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، والثوري، والشافعية. وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط. وظاهر النهي التحريم (¬1) . والعلة تغير لحمها ولبنها، فإذا زالت العلة - بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر (¬2) -؛ فلا وجه للتحريم؛ لأنها حلال بيقين؛ إنما حرمت لمانع؛ وقد زال. قال في " الحجة البالغة ": " الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل، فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب، وإن لم يكن التميز حرم أكله؛ ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس. ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها؛ لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها؛ كان حكمها حكم النجاسات، أو حكم من يتعيش بالنجاسة ". أقول: الاستحالة مطهرة، والأولى أن يقال في طهارة ما استحال: إن العين التي حكم الشارع بنجاستها لم تبق اسما، ولا صفة، فإن حكمه بنجاسة العذرة مقيد بكونها عذرة، فإذا صارت رمادا فليست بعذرة. ¬

_ (¬1) • وبه جزم ابن دقيق العيد، كما في " الفتح ". (ن) (¬2) • وهذا هو الصحيح؛ جواز أكل الجلالة إذا زالت رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر، كما في " الفتح "؛ فليس في ذلك أيام محدودة، وإن صح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا. (ن)

الكلب

فمن ادعى بقاء النجاسة مع ذهاب الاسم والصفة؛ فعليه الدليل. (15 -[الكلب] :) (و) من ذلك (الكلاب) ، ولا خلاف في ذلك يعتد به. وهو مستخبث، وقد وقع الأمر بقتله عموما وخصوصا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل ثمنه - كما تقدم - وسيأتي -. وتقدم أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه. وقد جعله بعضهم داخلا في ذوات الناب من السباع. قال في " الحجة البالغة ": " ويحرم الكلب والسنور؛ لأنهما من السباع، ويأكلان الجيف، والكلب شيطان ". (16 -[الهر] :) (و) من ذلك (الهر) ؛ لحديث جابر عند أبي داود، وابن ماجه، والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها. وفي إسناده عمر بن زيد (¬1) الصنعاني، وهو ضعيف. لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور، وهو في " الصحيح "، وقد تقدم. ولا فرق بين الوحشي والأهلي، وللشافعية وجه في حل الوحشي. ¬

_ (¬1) في الأصل: " يزيد "، وهو خطأ. (ش)

كل ما كان مستخبثا

(17 -[كل ما كان مستخبثا] :) (و) من ذلك (ما كان مستخبثا) لقوله - تعالى -: {ويحرم عليهم الخبائث (¬1) } . فما استخبثه الناس من الحيوانات - لا لعلة ولا لعدم اعتياد؛ بل لمجرد الاستخباث - فهو حرام. وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر؛ كحشرات الأرض، وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها، ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة، فتندرج تحت قوله: {ويحرم عليهم الخبائث} . وقد أخرج أبو داود، عن ملقام بن تلب [، عن أبيه] (¬2) ، قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما. وقد قال البيهقي: إن إسناده غير قوي، وقال النسائي: ينبغي أن يكون ¬

_ (¬1) • الظاهر أن المراد بالخبائث ما حرمه الشارع؛ وهذا معنى ما نقله ابن كثير عن بعض العلماء، فكل ما أحل الله من المأكل؛ فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه؛ فهو خبيث ضار في البدن والدين. وإلا؛ فالرجوع إلى استخباث الناس مشكل؛ فإنه ما يدرينا أنهم لم يختلفوا؟ ثم إذا اختلفوا؛ فما يدرينا بالأكثرية؟ ثم هي إذا ثبتت؛ فقد تكون نسبية؛ أعني: بالنسبة لبعض البلاد دون بعض، ثم إذا سلمنا كونها غير نسبية؛ فأين الدليل الشرعي على أنها دليل شرعي؟ ! (ن) (¬2) • زيادة لا بد منها. (ن)

ملقام بن تلب ليس بالمشهور (¬1) . وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية، وغايته عدم سماعه لشيء من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يدل على العدم. وقد أخرج ابن عدي، والبيهقي، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الرخمة (¬2) ؛ وفي إسناده خارجة بن مصعب، وهو ضعيف جدا، فلا ينتهض للاحتجاج به. وأخرج أحمد، وأبو داود، من حديث عيسى بن نميلة الفزاري، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ؟ فتلا هذه الآية: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خبيثة من الخبائث "، فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال. وعيسى بن نميلة ضعيف (¬3) ، فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من ¬

_ (¬1) وقال ابن حزم: " مجهول "، وقال ابن حجر في " الإصابة ": " ذكره البخاري وغيره في التابعين ". وأبوه صحابي لم يرو عنه غيره. وحديثه رواه أيضا ابن سعد (ج 7: قسم 1: ص 28) ، وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " (ج 1 ص 212) ، وفيهما أنه رواه عن أبيه. وملقام؛ بكسر الميم، ويقال: بالهاء. (ش) (¬2) هي طائر أبقع على شكل النسر خلقة؛ إلا أنه مبقع بسواد وبياض؛ قاله في " اللسان ". (ش) (¬3) لم أجد أحدا ضعف عيسى بن نميلة؛ بل وثقه ابن حبان. وأبوه؛ قال الذهبي: " لا يعرف ". (ش)

الكلام فيما عدا السابق

أدلة الحل العامة. وقد قيل: إن من أسباب التحريم الأمر بقتل الشيء كالخمس؛ الفواسق والوزغ (¬1) ونحو ذلك، والنهي عن قتله؛ كالنملة والنحلة والهدهد والصرد (¬2) والضفدع ونحو ذلك، ولم يأت عن الشارع ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله، أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك، ولا ملازمة عقلية ولا عرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم. بل إن كان المأمور بقتله أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائث؛ كان تحريمه بالآية الكريمة، وإن لم يكن من ذلك؛ كان حلالا عملا بما أسلفنا من أصالة الحل، وقيام الأدلة الكلية على ذلك، ولهذا قلنا: ( [الكلام فيما عدا السابق] :) (وما عدا ذلك فهو حلال) ، قال الشافعي: ما لم يرد فيه نص تحريم، ولا تحليل، ولا أمر بقتله، ولا نهي عن قتله؛ فالمرجع فيه إلى العرب من سكان البلاد والقرى دون أجلاف البوادي، فإن استطابته العرب، أو سمته باسم حيوان حلال؛ فهو حلال، وإن استخبثته، أو سمته باسم حيوان حرام؛ فهو حرام. فأما ما أمر الشرع بقتله، أو نهى عن قتله؛ فلا يكون حلالا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خمس يقتلن في الحل والحرم ... " الحديث، وأمر بقتل الوزغ، ونهى عن قتل أربعة من الدواب: ¬

_ (¬1) • هو سام أبرص. (ن) (¬2) • هو طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض، ونصفه أسود. (ن)

النملة، والنحلة، والصرد، والهدهد. وبالجملة: فتحل الطيبات، وتحرم الخبائث لقوله - تعالى -: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ، والطيبات: ما تستطيبه العرب، وتستلذه من غير أن [يكون قد] ورد بتحريمه نص من كتاب أو سنة. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": " إن القول بكراهية أكل الأرنب لا مستند له؛ بخلاف الضب؛ فإنه قد ورد النهي عن أكله؛ كما أخرجه أبو داود (¬1) . ¬

_ (¬1) • أخرجه في " سننه " (2 / 143) ؛ من طريق إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي راشد الحبراني، عن عبد الرحمن بن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (9 / 326) ؛ وضعفه بقوله: " تفرد به إسماعيل؛ وليس بحجة، وما مضى في إباحته أصح منه ". وقال الخطابي في " المعالم " (5 / 310) : " ليس إسناده بذاك "؛ وأقره المنذري في " مختصر السنن "، ثم الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 195) . وأما ابن التركماني؛ فرد ذلك بأن ضمضم حمصي، " وابن عياش إذا روى عن الشاميين؛ كان حديثه صحيحا ... ". وهذا تعقب صحيح! لكن الذي حمل هؤلاء الأئمة على تضعيف حديث ابن عياش هذا؛ كونه مخالفا لما في " الصحيحين " وغيرهما؛ سيما وأن شيخه ضمضم قد ضعفه أبو حاتم، وإن وثقه ابن معين وغيره، والله أعلم. ثم رأيت الحافظ ابن حجر صرح في " الفتح " (9 / 547) بأن إسناد الحديث حسن، ثم رد على البيهقي والخطابي تضعيفهما، ثم حمله على أن النهي فيه كان أول الأمر عند تجويز أن يكون الضب مما مسخ، كما في حديث مسلم، ثم لما علم أن الممسوخ لا نسل له - كما في قوله: " إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا؛ وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك؛ رواه مسلم (8 / 55) -؛ أذن فيه، وكان هو صلى الله عليه وسلم يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه. (ن)

وثبت في " صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب، ولا أدري لعل هذا منها ". والنهي حقيقة في التحريم، لولا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث جماعة من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بأكل الضب، فقال لهم: " كلوه فإنه حلال، ولكن ليس من طعامي "؛ فإن هذا الحديث يصرف النهي عن حقيقته إلى مجازه - وهو الكراهة -. وحديث تردده صلى الله عليه وسلم في كونه ممسوخا مؤيد لذلك. وأما أكل التراب؛ فلم يصح في المنع منه شيء؛ لكنه من أسباب العلل الصعبة، التي يتأثر عنها انحلال البنية، وقد نهى الله - سبحانه - عن قتل الأنفس.

باب الصيد

(2 - باب الصيد) وكان الاصطياد ديدناً للعرب، وسيرة فاشية فيهم؛ حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم، فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم. ( [ما يجوز الاصطياد به] :) (ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح (¬1) كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه) ؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني في " الصحيحين "، قال: قلت يا رسول الله {إنا بأرض صيد أصيد بقوسي، وبكلبي المعلم، وبكلبي الذي ليس بمعلم؛ فما يصلح لي؟ فقال: " ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ". ( [يشترط للصيد بالمعراض أن يخزق] :) وفي " الصحيحين "، من حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله} إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله؟ قال: " إذا ¬

_ (¬1) • هي الحيوانات التي يصطاد بهن؛ الكلاب الضواري، والفهود، والصقور، وأشباهها، وسميت جوارح؛ من الجرح، وهو الكسب، كما تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا؛ أي: كسبهم خيرا؛ كذا في " تفسير ابن كثير " (2 / 15 - 16) . (ن)

أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله؛ فكل ما أمسك عليك "، قلت: وإن قتلن؟ ! قال: " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها "، قال: قلت: فإني أرمي بالمعراض (¬1) الصيد فأصيد، قال: " إذا رميت بالمعراض فخزق (¬2) فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ". وفي رواية: " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاة ". وفي لفظ من حديثه عند أحمد، وأبي داود: قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا؛ فإنما أمسكه عليك ". وفي " الصحيحين " من حديثه: " فكل مما أمسكن عليك؛ إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ". وفي حديث ابن عباس عند أحمد (¬3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل؛ فإنما أمسكه على نفسه، فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل؛ إنما أمسكه على صاحبه ". ¬

_ (¬1) بوزن مفتاح: هو سهم لا ريش له. (ش) (¬2) قال النووي في " شرح مسلم ": " وأما خزق؛ فهو بالخاء المعجمة والزاي، ومعناه: نفذ ". (ش) (¬3) • في " المسند " (رقم 2049) ؛ وإسناده حسن - إن شاء الله -. (ن)

وقد أخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله {إن لي كلابا مكلبة؛ فأفتني في صيدها؟ قال: " إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك "، فقال: يا رسول الله} ذكي وغير ذكي؟ ، قال: " ذكي وغير ذكي " قال: وإن أكل منه؟ ، قال: " وإن أكل منه " قال: يا رسول الله! أفتني في قوس، قال: " كل ما أمسك عليك قوسك "، قال: ذكي وغير ذكي؟ ، قال: " ذكي وغير ذكي " قال: فإن تغيب عني؟ قال: " وإن تغيب عنك ما لم يصل (¬2) - يعني: يتغير - أو تجد فيه أثر غير سهمك ". وقد قال ابن حجر: إنه لا بأس بإسناده. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 6725) ، وأبو داود (2 / 11) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر؛ وهذا سند حسن، وقال ابن كثير (2 / 17) : " جيد "، والحافظ في " الفتح " (/ 494 9) : " لا بأس بسنده "، وله شاهد من حديث أبي ثعلبة نفسه؛ أخرجه أبو داود (2 / 10) ، ومن طريقه البيهقي (9 / 237) ؛ عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عنه؛ قال الحافظ ابن كثير: " إسناد جيد ". وأعله البيهقي بأنه مخالف لما في " الصحيحين " من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة، وليس فيه ذكر الأكل - يعني: وإن أكل الكلب؛ وهذا إعلال صحيح؛ لأن داود بن عمرو؛ في حفظه ضعف، فلا يحتج بما تفرد به وخالف. لكن حديث عمرو بن شعيب ثابت كما سبق، وهو معارض لحديث عدي وابن عباس. وقد جُمع بين الحديثين بحمل المنع على ما إذا أكل في حال صيده؛ لأنه أمسك لنفسه، والإباحة على ما إذا أكل منه بعد أن أمسكه لصاحبه. وقد استحسن هذا الجمع ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 140) ، وابن كثير في " التفسير ". (ن) (¬2) صل اللحم يصل - بفتح الياء وكسر الصاد؛ وأصل أيضا -: أنتن؛ مطبوخا كان أو نيئا (ش) .

وفيه نظر؛ لأن في إسناده (¬1) داود بن عمرو الأودي الدمشقي، وفيه مقال وخلاف. وقد أخرج نحو هذا الحديث أبو داود، من حديث أبي ثعلبة نفسه، ولا ينتهض هذا لمعارضة ما في " الصحيحين " من النهي عن أكل ما أكل منه الكلب. وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، من حديث عدي بن حاتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه؛ فكل ما أمسك عليك ". وقد أكل صلى الله عليه وسلم من حمار الوحش الذي صاده أبو قتادة طعنا برمحه، وهو في " الصحيح "، وقد تقدم في الحج. وقد ذكر الله في كتابه العزيز تحليل ما صيد بالجوارح، فقال: {وما علمتم من الجوارح} الآية، وأباح الأكل، فقال: {فكلوا مما أمسكن عليكم} . ¬

_ (¬1) • هذا وهم من المؤلف - رحمه الله -؛ فإن ابن حجر إنما قال هذا في حديث عبد الله بن عمرو، وليس في سنده داود بن عمرو الذي فيه المقال المذكور، وإنما هو في حديث أبي ثعلبة نفسه الذي أشار إليه الشارح - وسبق عليه الكلام آنفا -. ولا داعي لادعاء التعارض بين الحديثين؛ ما أمكن التوفيق بينهما بما سبق. (ن) (¬2) • في " المسند " (4 / 257) ، وأبو داود (2 / 10) ، وعنه البيهقي (9 / 238) ؛ عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي. وهذا سند ضعيف من أجل مجالد، وقد تفرد بذكر: " الباز " دون كل من روى الحديث عن الشعبي من الحفاظ، كما قال البيهقي؛ فهي زيادة منكرة. (ن)

الصيد بغير ما يشرع يحتاج إلى التذكية

وقد دل ما ذكرناه من هذه الأدلة على ما اشتمل عليه المتن؛ من أن ما صيد بالجارح والجوارح كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه. ( [الصيد بغير ما يشرع يحتاج إلى التذكية] :) (وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية) ، وقد نزّل صلى الله عليه وسلم المعراض إذا أصاب فخزق منزلة الجارح، واعتبر مجرد الخزق؛ كما في حديث عدي بن حاتم المذكور. وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: قلت: يا رسول الله! إنا قوم نرمي؛ فما يحل لنا؟ قال: " يحل لكم ما ذكيتم، وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم فكلوا " (¬1) ، فدل على أن المعتبر مجرد الخزق. وإن كان القتل بمثقل؛ فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يُرمى بها بالبارود، والرصاص؛ لأن الرصاص تخزق خزقا زائدا على خزق السلاح، فلها حكمه - وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك -. ( [الصيد بالبنادق اليوم حلال] :) وعبارة الماتن في " حاشية الشفاء ": " أقول: ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة. ¬

_ (¬1) لم أجده في " المسند " بهذا اللفظ، وذكر السيوطي في " الدر المنثور " نحوه من رواية ابن أبي حاتم.

ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشا - أو نحوه - فوق رماد دقيق، أو تراب دقيق، وغرزت فيه شيئا يسيرا من أصلها، ثم ضربتها بالسيف المحدد - ونحو ذلك من الآلات - لم يقطعها وهي على هذه الحالة. ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها، فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم؛ لا من عقل، ولا من نقل. وما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة؛ كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد (¬1) بلفظ: " ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت "؛ فالمراد بالبندقة هنا: هي التي تتخذ من طين، فيرمي بها بعد أن تيبس. وفي " صحيح البخاري ": قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة. وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن. وهكذا ما صيد بحصى الخذف، فقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف (¬2) وقال: " إنها لا تصيد صيدا، ولا تنكأ (¬3) عدوا؛ لكنها تكسر السن وتفقأ العين ". ¬

_ (¬1) • في " المسند " (4 / 380) ؛ ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ لكنه منقطع بين إبراهيم النخعي وعدي؛ بينهما همام بن الحارث: أخرجه البخاري، (9 / 496) ، ومسلم (6 / 56) ، وأحمد أيضا، لكن بلفظ آخر. (ن) (¬2) الخذف: رميك بحصاة أو نواة؛ تأخذها بين سبابتيك؛ أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين الإبهام والسبابة؛ قاله في " اللسان ". (ش) (¬3) الرواية " تنكأ " بالهمز، وروي: " تنكي " - بكسر الكاف بدون همزة -. قال الشوكاني: " قال ابن سيده: نكى العدو نكاية: أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم؛ فظهر أن الرواية صحيحة، ولا معنى لتخطئتها ". (ش)

الصيد بالرمي بالحجارة لا يحل

( [الصيد بالرمي بالحجارة لا يحل] :) ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحددة إذا لم تخزق؛ فإنه وقيذ لا يحل. وأما إذا خزقت حل؛ قال في " المسوى ": " يحل ما اصطاد بكلبه إذا ذكر اسم الله عليه، عند إرساله وكان الكلب معلما، قال تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} ". ( [متى يكون الحيوان الصائد معلما؟] :) والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء: إذا أُشليت استشلت (¬1) ، وإذا زُجرت انزجرت، فإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل. فإذا وجد ذلك منها مرارا - وأقله ثلاث مرات - كانت معلمة يحل صيدها. (1 -[إذا أرسله صاحبه استرسل] :) وعلى هذا كله أهل العلم في الجملة. وأكثر أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسر من سباع البهائم كالفهد والكلب، ومن سباع الطير كالبازي والصقر؛ مما يقبل التعليم، فيحل صيد جميعها. ¬

_ (¬1) أشلى الكلب: إذا دعاه باسمه، وأشلاه على الصيد: دعاه فأرسله عليه؛ لكن حذف " فأرسله " تخفيفا. (ش)

إذا زجره صاحبه انزجر

(2 -[إذا زجره صاحبه انزجر] :) والمكلب: هو الذي يغري الكلاب على الصيد ويعلمها. {فكلوا مما أمسكن} : أراد أن الجارحة المعلمة إذا جرحت بإرسال صاحبها، فأخذت الصيد وقتلته؛ كان حلالا. (3 -[أن لا يأكل من الصيد] :) قلت: وهذا هو مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، ثم تعقبه الشافعي بحديث عدي بن حاتم المذكور، وهو مذهب أبي حنيفة، وسمع مالك أهل العلم يقولون في البازي والعقاب والصقر وما أشبه ذلك: إنه إذا كان معلما يفقه كما تفقه الكلاب المعلمة؛ فلا بأس بأكل ما قتلوه مما صادت؛ إذا ذكر اسم الله على إرسالها. قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن المسلم إذا أرسل كلب المجوسي الضاري، فصاد أو قتل؛ أنه إذا كان معلما؛ فأكْل ذلك الصيد حلال لا بأس به (¬1) ؛ وإن لم يذكه المسلم، وإنما مثل ذلك مثل المسلم يذبح بشفرة المجوسي، أو يرمي بقوسه، أو بنبله فيقتل بها، فصيده ذلك وذبيحته حلال لا بأس بأكله. قال مالك: " إذا أرسل المجوسي كلب المسلم الضاري على صيد فأخذه؛ فإنه لا يؤكل ذلك الصيد إلا أن يذكى، وإنما مثل ذلك قوس المسلم ونبله ¬

_ (¬1) • وأما حديث جابر: نهينا عن صيد كلب المجوس وطائره؛ فقد ضعفه الترمذي (2 / 341) ، والبيهقي (9 / 245) . (ن)

لا يحل الصيد إذا اشترك فيه كلبان معلم وغير معلم

يأخذها المجوسي، فيرمي بها الصيد فيقتله، وبمنزلة شفرة المسلم يذبح به المجوسي؛ فلا يحل أكل شيء من ذلك ". انتهى. ( [لا يحل الصيد إذا اشترك فيه كلبان معلم وغير معلم] :) (وإذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما) ؛ لما تقدم في حديث عدي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لم يشركها كلب ليس معها ". وفي لفظ له في " الصحيحين " قال: قلت: يا رسول الله! إني أرسل كلبي وأسمي؟ قال: " إن أرسلت كلبك وسميت، فأخذ فقتل فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه "؛ قلت: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا؛ لا أدري أيهما أخذه؟ قال: " فلا تأكل؛ فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره "، وفي لفظ له: " فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره، وقد قتل فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله ". ( [لا يحل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه] :) (وإذا أكل الكلب المعلم - ونحوه - من الصيد؛ لم يحل؛ فإنما أمسك على نفسه) ؛ لما تقدم من الأدلة على ذلك، وتقدم أيضا ترجيحها على حديث عبد الله بن عمرو (¬1) . ( [حكم الصيد إذا وجد بعد أيام] :) (وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتا - ولو بعد أيام في غير ماء - كان حلالا ما لم ينتن؛ أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه) ؛ لحديث أبي ثعلبة ¬

_ (¬1) • قلت: الأولى الجمع بين الحديثين بما سبق (ص) ؛ فراجعه. (ن)

الخشني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته؛ فكله ما لم ينتن "، أخرجه مسلم وغيره. وفي " الصحيحين "، من حديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد؟ قال: " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل فكل؛ إلا أن تجده قد وقع في ماء؛ فإنك لا تدري؛ الماء قتله أو سهمك ". وفي لفظ من حديثه لأحمد، والبخاري؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رميت الصيد؛ فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل ". وفي لفظ لمسلم نحوه. وفي لفظ للبخاري من حديثه: إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم نجده ميتا وفيه سهمه؟ قال: " يأكل إن شاء ". وفي لفظ للترمذي (¬1) - وصححه - قال: قلت: يا رسول الله! أرمي الصيد، فأجد فيه سهمي من الغد؟ قال: " إذا علمت أن سهمك قتله؛ ولم تر فيه أثر سبع؛ فكل ". قلت: وعلى هذا أهل العلم في الجملة. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 342) ، وكذا أحمد (4 / 377) ؛ وسندهما صحيح على شرطهما، ورواه النسائي أيضا (2 / 197) . (ن)

باب الذبح

(3 - باب الذبح) ( [تعريف الذبح] :) (هو ما أنهر الدم) ؛ أي: أساله، (وفرى) ؛ أي: قطع (الأوداج) ، وهما عرقان بينهما الحلقوم. ( [الأداة التي يصح بها الذبح] :) (وذُكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه) ؛ كخشب وغيره؛ (ما لم يكن سنا أو ظفرا) ؛ لحديث رافع بن خديج في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكلوا؛ ما لم يكن سنا أو ظفرا، سأحدثكم عن ذلك؛ أما السن فعظم؛ وأما الظفر فمدى الحبشة ". وأخرج أبو داود (¬1) من حديث ابن عباس، وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان؛ وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأدواج، وفي إسناده عمرو بن عبد الله الصنعاني، وهو ضعيف. وأخرج أحمد، والبخاري من حديث كعب بن مالك: أنها كانت لهم ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 7) ، وكذا الحاكم (4 / 113) من طريق عمرو بن عبد الله، عن عكرمة عنهما، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)

غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا، فكسرت حجرا فذبحتها، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك، وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - أو أرسل إليه -؟ فأمره بأكلها. وفيه دليل على أن ذبح النساء والرقيق جائز، وعليه أهل العلم. وأخرج أحمد (¬1) ، والنسائي، وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت: أن ذئبا نيّب في شاة، فذبحوها بمروة، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله {إنا نصيد الصيد، فلا نجد سكينا إلا الظرار (¬2) وشقة العصا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أمرّ (¬3) الدم بما شئت، واذكر اسم الله عليه " (¬4) ؛ والظرار: الحجر أو المدر. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (5 / 183 - 184) ، والنسائي (2 / 207) ، وابن ماجه (2 / 283 - 284) ؛ من طريق حاضر بن مهاجر، عن سليمان بن يسار، عنه. وحاضر - هذا - مجهول، كما جزم به الذهبي، ومع ذلك فقد أقر الحاكم على تصحيح هذا الحديث في " التلخيص " (4 / 114) } (ن) (¬2) هو بالظاء المشالة؛ قال في " القاموس " في فصل الظاء: " الظر، - بالكسر -، والظرر، والظررة: الحجر، أو المدر المحدد منه ". ا. هـ المراد منه. وضبط - بالقلم - الظرر والظررة: بضم ففتح. (ش) (¬3) • في إسناده عندهم مري بن قطري لا يعرف؛ كما قال الذهبي. (ن) (¬4) • يجوز فيه " امر "؛ من مرى الضرع، ويروى " أمر "؛ من مار يمور، إذا جرى وأماره غيره. وقد جاء في " سنن أبي داود " و " النسائي ": " أمرر " براءين مظهرتين، ومعناه: اجعل الدم يمر؛ أي: يذهب، قال في " النهاية ": " فعلى هذا؛ من رواه مشددا يكون قد أدغم؛ وليس بغلط ". (ن)

لا دليل على استحباب استقبال القبلة عند الذبح

وأخرج البخاري، وغيره من حديث عائشة: أن قوما قالوا: يا رسول الله {إن قوما يأتوننا باللحم؛ لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: " سموا عليه أنتم وكلوا "، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. وهذا لا ينافي وجوب التسمية على الذابح؛ بل فيه الترخيص لغير الذابح إذا شك في اللحم؛ هل ذكر عليه اسم الله عند الذبح أم لا؟ فإنه يجوز له أن يسمي ويأكل. ( [لا دليل على استحباب استقبال القبلة عند الذبح] :) وأما استقبال القبلة؛ فليس في السنة ما يدل على هذا. فإن كان الدال على استقبال القبلة هو قوله في الحديث: " فلما وجههما "؛ فليس فيه أنه وجههما إلى القبلة؛ بل المراد وجههما للذبح. وقد تقرر أن حذف المتعلق مشعر بالعموم. وإن كان الاستدلال بقوله: " وجهت وجهي "؛ فكذلك أيضا ليس فيه دلالة على ذلك. ولا أعلم دليل يدل على مشروعية (¬1) الاستقبال حال الذبح. ¬

_ (¬1) التعبير بالمشروعية غير دقيق؛ فإنه لا خلاف في مشروعية، ولم يقل أحد: إنه مكروه أو حرام؛ وإنما الخلاف في استحبابه فقط. (ش) • قلت: لا غبار على تعبير الشارح؛ فإنه أراد بالمشروعية الندب والاستحباب كما يدل عليه السياق، وإذ لا دليل على الاستحباب؛ فهو مكروه غير مشروع؛ لأنه داخل في عموم الأدلة الناهية عن الابتعاد في الدين؛ وهذا منه، فتأمل} (ن)

تعذيب الذبيحة حرام

قال الماتن في " السيل الجرار ": " ليس على هذا دليل لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قياس. وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية! فليس بصحيح؛ لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه، بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع، والندب حكم من أحكام الشرع، فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة ". انتهى. ( [تعذيب الذبيحة حرام] :) (ويحرم تعذيب الذبيحة) ؛ لحديث شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته "؛ أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه. وأخرج أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: " إذا ذبح أحدكم فليجهز "؛ أي: يتمها. وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف (¬1) . قلت: في اختيار أقرب طريق لإزهاق الروح اتباع داعية الرحمة؛ وهي ¬

_ (¬1) • قلت: وهو - على ضعفه - قد اضطرب في إسناده على وجوه ثلاثة، وخالفه غيره؛ فرواه منقطعا؛ لم يذكر فيه تابعه، وقد بينت ذلك في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب " (2 / 104) . (ن)

المثلة بالذبيحة حرام

خلة يرضى بها رب العالمين، ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية. ( [المثلة بالذبيحة حرام] :) (والمثلة بها) ؛ لما ورد في تحريمها من الأحاديث الثابتة في " الصحيح " وغيره، وهي عامة. ( [يحرم الذبح لغير الله] :) وتحريم (ذبحها لغير الله) ؛ لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من لعن من ذبح لغير الله؛ كما في " صحيح مسلم " وغيره، ولقوله - تعالى -: {وما أهل لغير الله} . وكان أهل الجاهلية يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم؛ إما بالإهلال عند الذبح بأسمائهم؛ وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم، فنهوا عن ذلك، وهذا أحد مظان الشرك. وأما الذبح للسلطان؛ وهل هو داخل في عموم ما أهل به لغير الله أم لا؟ فقد أجاب الماتن - رحمه الله - في بحث له على ذلك بما لفظه: " اعلم أن الأصل الحل؛ كما صرحت به العمومات القرآنية والحديثية، فلا يحكم بتحريم فرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع إلا بدليل ينقل ذلك الأصل المعلوم من الشريعة المطهرة؛ مثل تحريم ما ذبح على النصب، والميتة، والمتردية، والنطيحة، والموقوذة، وما أهل به لغير الله، ولحم الخنزير، وكل شيء خرج من ذلك الأصل بدليل من الكتاب، أو السنة المطهرة؛ كتحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وتحريم الحمر الإنسية.

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أصول التحريم: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو وقوع الأمر بالقتل، أو النهي عنه، أو الاستخباث، أو التحريم على الأمم السالفة، إذا لم ينسخ؛ فلا بد للقائل بتحريم فرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع من اندراجه تحت أصل من هذه الأصول، فإن تعذر عليه ذلك؛ فليس له أن يتقول على الله ما لم يقل. فإن من حرم ما أحله الله كمن حلل ما حرم الله، فلا فرق بينهما، وفي ذلك من الإثم ما لا يخفى على عارف. ولا شك أن البراءة الأصلية بمجردها كافية - على ما هو الحق -؛ فكيف إذا انضم إليها من العمومات مثل قوله - تعالى -: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية، وقوله: {أحل لكم الطيبات} ، وقوله: {والطيبات من الرزق} ، وقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، وقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} ، وقوله: {يحل لهم الطيبات} ؟ ! والحاصل: أن الواجب وقف التحريم على المنصوص على حرمته، والتحليل على ما عداه، وقد صرح بذلك حديث سلمان عند الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه " (¬1) . وأخرج أبو داود (¬2) ، عن ابن عباس موقوفا: كان أهل الجاهلية يأكلون ¬

_ (¬1) • إسناده ضعيف جدا، لكن معناه صحيح ثابت في أحاديث أخرى؛ سبق بعضها. (ن) (¬2) • في " سننه " (2 / 144) ، وكذا الحاكم (4 / 115) ، وصححه؛ ووافق الذهبي. ثم أخرجه الحاكم (2 / 317) نحوه، وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي. (ن)

اختلاف العلماء في جواز الذبح للسلطان

أشياء، ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله تعالى نبيه، وأنزل كتابه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} . وأخرج الترمذي، وأبو داود، من حديث قبيصة بن هلب [عن أبيه] (¬1) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال له رجل: إن من الطعام طعاما أتحرج منه؟ فقال: " ضارعت النصرانية! لا يختلجن في نفسك شيء ". ( [اختلاف العلماء في جواز الذبح للسلطان] :) إذا تقرر هذا: فمسألة السؤال - أعني: ما ذبح من الأنعام لقدوم السلطان -، والاستدلال على تحريم ذلك بقوله - تعالى -: {وما أهل به لغير الله} فاسد. فإن الإهلال: رفع الصوت للصنم ونحوه، وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى؛ كذا قال الزمخشري في " الكشاف "، والذابح عند قدوم السلطان لا يقول عند ذبحه: باسم السلطان، ولو فرض وقوع ذلك؛ كان محرما بلا نزاع، ولكنه يقول: باسم الله. وقد استدل على ذلك بما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث أمير ¬

_ (¬1) في الأصل بحذف (عن أبيه) ؛ وصححناه من " سنن أبي داود " بشرح " عون المعبود " (ج 3: ص 412) ؛ وقبيصة تابعي، وأبوه صحابي. والحديث حسنه الترمذي كما قال المنذري. (ش)

المؤمنين علي - كرم الله وجهه (¬1) -: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لعن الله من ذبح لغير الله ... " الحديث. وليس ذلك الاستدلال بصحيح؛ فإن الذبح لغير الله - كما بينه شراح هذا الحديث من العلماء -: أن يذبح باسم غير الله؛ كمن ذبح للصنم، أو للصليب أو لموسى، أو لعيسى، أو للكعبة، أو نحو ذلك؛ فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة؛ سواء كان الذابح مسلما، أو يهوديا، أو نصرانيا؛ كما نص على ذلك الشافعي وأصحابه. قال النووي في " شرح مسلم ": " فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له - وكان غير الله تعالى -، والعبادة له؛ كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ". انتهى. وهذا إذا كان الذبح باسم أمر من تلك الأمور؛ لا إذا كان لله، وقصد به الإكرام لمن يجوز إكرامه؛ فإنه لا وجه لتحريم الذبيحة ههنا كما سلف. وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه؛ أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله. قال الرافعي: " هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم ". انتهى. وهذا هو الصواب. ¬

_ (¬1) الأصل اجتناب مثل الدعاء؛ لأنه مما يكثر استعماله الروافض، فتنبه.

وفي " روضة الإمام النووي ": " من ذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله؛ أو لرسول الله لأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا لا يمنع الذبيحة؛ بل تحل " (¬1) ، قال: " ومن هذا القبيل الذبح الذي يذبح عند استقبال السلطان استبشارا بقدومه؛ فإنه نازل منزلة الذبح للعقيقة لولادة ". انتهى. وقد أشعر أول كلامه أن من ذبح للسلطان تعظيما له - لكونه سلطان الإسلام - كان ذلك جائزا؛ مثل الذبح له لأجل الاستبشار بقدومه؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين الذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله. وذكر الدواري: أن من ذبح للجن، وقصد به التقرب إلى الله - تعالى - ليصرف عنه شرهم؛ فهو حلال، وإن قصد الذبح لهم فهو حرام ". انتهى. وهذا يستفاد منه حل ما ذبح لإكرام السلطان بالأولى، وذلك هو الحق؛ لما أسلفناه من أن الأصل الحل، وأن الأدلة العامة قد دلت عليه، وعدم وجود ناقل عن ذلك الأصل، ولا مخصص لذلك العموم، والله أعلم ". انتهى كلام الشوكاني. وفيه دليل على التفرقة بين ما يذبح للتقرب إلى غير الله - تعالى - وبين ما يذبح لغيره من الاستبشار ونحوه؛ كالذبح للعقيقة، والوليمة، والضيافة، ونحوها، فالأول يحرم، والثاني يحل. قال ابن حجر المكي في " الزواجر ": ¬

_ (¬1) في النفس من هذه الإباحة شيء.

" وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول: باسم الله، واسم محمد، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجر (اسم) الثاني، أو (محمد) إن عرف النحو فيما يظهر، أو أن يذبح كتابي لكنيسة، أو لصليب، أو لموسى، أو لعيسى، ومسلم للكعبة، أو لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أو تقربا لسلطان، أو غيره، أو للجن. فهذا كله يحرم المذبوح، وهو كبيرة ". قال: " ومعنى ما أهل به لغير الله: ما ذبح للطواغيت والأصنام؛ قاله جمع. وقال آخرون: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله. قال الفخر الرازي: وهذا القول أولى؛ لأنه أشد مطابقة للفظ الآية. قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحة، وقصد بذبحه التقرب بها إلى غير الله - تعالى -؛ صار مرتدا، وذبيحته ذبيحة مرتد ". انتهى كلام " الزواجر ". وقال صاحب " الروض ": " إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر ". انتهى. قال الشوكاني في " الدر النضيد ": " وهذا القائل من أئمة الشافعية، وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفرا عنده؛ فكيف الذبح لسائر الأموات؟ ! ". انتهى.

قال الشيخ الفاضل - مفتي الديار النجدية - عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي؛ في كتابه " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " في (باب ما جاء في الذبح لغير الله) : " قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم " (¬1) في الكلام على قوله - تعالى -: {وما أهل به لغير الله} : إن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله؛ مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود؛ فسواء لفظ به أو لم يلفظ! . وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله؛ كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله. فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة، وقصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا؛ فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم؛ وإن قال فيه: باسم الله؛ كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة؛ الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح، والبخور، ونحو ذلك. وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال؛ لكونه يجتمع في الذبيحة مانعان: ¬

_ (¬1) • (ص 124 - طبعة الخانجي) . (ن)

الطعن أو الرمي للحيوان كالذبح إذا ند

الأول: أنه مما أهل لغير الله به. والثاني: أنها ذبيحة مرتد. ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن ذبائح الجن (¬1) . قال الزمخشري: " كانوا إذا اشتروا دارا، أو بنوها، أو استخرجوا عينا؛ ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك ". انتهى كلام " فتح المجيد ". وقد نقل الشوكاني أيضا العبارة المتقدمة لشيخ الإسلام في رسالته " الدر النضيد "، واستدل به على تحريم ما ذبح لغير الله - تعالى -؛ سواء لفظ به الذابح عند الذبح أو لم يلفظ؛ وهذا هو الحق. ( [الطعن أو الرمي للحيوان كالذبح إذا ند] :) (وإذا تعذر الذبح لوجه جاز الطعن والرمي، وكان ذلك كالذبح) ؛ لحديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: " لو طعنت في فخذها لأجزأك "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وفي إسناده مجهولون، وأبو العشراء لا يعرف من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة، فهو مجهول، فلا تقوم الحجة بروايته. والذي يصلح للاستدلال به حديث رافع بن خديج في " الصحيحين "، ¬

_ (¬1) • رواه البيهقي بسند ضعيف. (ن)

ذكاة الجنين ذكاة أمه

وغيرهما، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فند (¬1) بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش (¬2) ، فما فعل منها هذا؛ فافعلوا به هكذا ". ( [ذكاة الجنين ذكاة أمه] :) (وذكاة الجنين ذكاة أمه) ؛ لحديث أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجه، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان - وصححه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال في الجنين: " ذكاته ذكاة أمه "؛ وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة تشهد له. قلت: وعليه الشافعي، ووافقه محمد بن الحسن (¬3) . وقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى يخرج حيا فيذكى. أقول: وأما التمسك بالآية الكريمة؛ فلا يخفى أنه من معارضة الخاص بالعام، وقد تقرر أن الخاص مقدم على العام. ¬

_ (¬1) ند البعير: إذا شرد وذهب على وجهه. (ش) (¬2) الأوابد: جمع آبدة؛ وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنس. (ش) (¬3) • ولكنه قيد الحكم بقيد ليس في الحديث، فقال في " الموطإ " (284) : " وبهذا نأخذ إذا تم خلقه، فذكاته ذكاة أمه؛ فلا بأس بأكله، فأما أبو حنيفة؛ فكان يكره أكله حتى يخرج حيا فيذكى، وكان يروي عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: لا تكون ذكاة نفس ذكاة نفسين ". وظاهر الحديث؛ أنه يؤكل مطلقا، سواء تم خلقه أو لا، وبه قال الشافعي وأحمد. (ن)

ما قطع من الحيوان الحي فهو ميتة

وقد قال ابن المنذر: إنه لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء؛ أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله -. قال ابن القيم: " وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه؛ بأنها خلاف الأصول، وهو تحريم الميتة؛ فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة، فكيف وليست بميتة؟ {فإنها جزء من أجزاء الأم، والذكاة قد أتت على جميع أعضائها، فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة، والجنين تابع للأم جزء منها، فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة؛ ولو لم ترد السنة بالإباحة، فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟} ". فقد اتفق النص، والأصل، والقياس؛ ولله الحمد. ( [ما قطع من الحيوان الحي فهو ميتة] :) (وما أبين من الحي فهو ميتة) ؛ لحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما قطع من بهيمة وهي حية؛ فما قطع منها فهو ميتة "؛ أخرجه ابن ماجه، والبزار، والطبراني، وقد قيل: إنه مرسل. هذا يدل على تحريم الأكل، ولا ملازمة بينه وبين النجاسة؛ كما عرفت غير مرة. وأخرج أحمد (¬1) ، والترمذي، وأبو داود، والدارمي من حديث أبي واقد ¬

_ (¬1) • في " المسند " (5 / 218) ، وسنده حسن، وصححه الحاكم (4 / 239) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. ولولا أن في أحد رواته - وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ضعفا - لصححناه، ولكن الحديث صحيح على كل حال لشواهده المذكورة في الكتاب، وله شاهد آخر عن أبي سعيد الخدري صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري فقط، (ن)

أحل السمك والجراد من الميتة والكبد والطحال من الدماء

الليثي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما قطع من البهيمة وهي حية؛ فهو ميتة ". وأخرج ابن ماجه، والطبراني، وابن عدي نحوه من حديث تميم الداري. قلت: وكان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه تعذيبا ومناقضة لما شرع الله - تعالى - من الذبح. ( [أحل السمك والجراد من الميتة، والكبد والطحال من الدماء] :) (وتحل ميتتان ودمان: السمك والجراد) ، وعليه أهل العلم. (والكبد والطحال) ، وهما عضوان من أعضاء بدن البهيمة؛ لكنهما يشبهان الدم، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم الشبهة فيهما، وليس في الحوت والجراد دم مسفوح؛ فلذلك لم يشرع فيهما الذبح. ووجهه حديث ابن عمر عند أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والشافعي، والبيهقي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحل لنا ميتان ودمان؛ فأما الميتتان؛ فالحوت والجراد، وأما الدمان؛ فالكبد والطحال ". وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف (¬1) . ¬

_ (¬1) • قلت: لكنه لم يتفرد به؛ بل تابعه أخواه أسامة وعبد الله؛ عند البيهقي (1 / 254) ، وهما ثقتان - على ضعف يسير في حفظهما -، فالحديث - على هذا - حسن على أقل الدرجات. ثم هو صحيح، فقد تابعهم عند البيهقي أيضا سليمان بن بلال؛ إلا أنه أوقفه على ابن عمر، وإسناده صحيح. وهو في معنى المسند المرفوع، كما قال البيهقي؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا؛ هو كقوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وهذا في حكم المرفوع؛ كما هو مقرر في مصطلح الحديث. (ن)

وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات؛ نأكل الجراد. وفيهما - أيضا - من حديث جابر: أن البحر ألقى حوتا ميتا، فأكل منه الجيش، فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " كلوا رزقا أخرج الله لكم، أطعمونا منه إن كان معكم "، فأتاه بعضهم بشيء. وفي " البخاري " عن عمر؛ في قوله - تعالى -: {أحل لكم صيد البحر} قال: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به. وفيه، عن ابن عباس، قال: طعامه ميتته؛ إلا ما قذرت منها. وفيه، قال ابن عباس: كل من صيد البحر؛ صيد يهودي، أو نصراني، أو مجوسي. انتهى. وإلى هذا ذهب الجمهور، فقالوا: ميتة البحر حلال؛ سواء ماتت بنفسها أو بالاصطياد. وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي، أو بإلقاء الماء له، أو جزره عنه، وأما ما مات أو قتله حيوان غير آدمي؛ فلا يحل. واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث جابر - مرفوعا - بلفظ: " ما ألقاه البحر أو جزر عنه؛ فكلوا، وما مات فيه فطفا؛ فلا تأكلوه؛ وفي إسناده يحيى بن سليم، وهو ضعيف الحفظ.

وقد روي من غير هذا الوجه، وفيه ضعف. قلت: ظاهر القرآن والحديث إباحة ميتات البحر كلها، والمراد منها كل ما يعيش في البحر، فإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح كالسمك، فكل ذلك حلال بأنواعه، ولا حاجة إلى ذبحه؛ سواء يؤكل مثله في البر، كالبقر والغنم؛ أو لا يؤكل، كالكلب والخنزير، والكل سمك وإن اختلفت الصور؛ بخلاف ما يعيش في الماء؛ فإذا أخرج دام حيا، فإن كان طائرا كالبط فذبح؛ فحلال، ولا يحل ميتتها. وإن كان غيرها - كالضفدع، والسرطان، والسلحفاة، وذوات السموم؛ كالحية، والعقرب -؛ فحرام، وعليه الشافعي. أقول: وعلى هذا فقوله - تعالى -: {أحل لكم صيد البحر} ؛ المراد منه: ما يصطاد بالقصد والاختيار، وقوله: {وطعامه} المراد منه: ميتات البحر؛ مما لم يصد بالاختيار، كنى به عن الميتة كراهية لذكر الميتة في مقام التحليل. وقوله: {متاعا لكم} : إباحته لأهل الحضر. وقوله: {وللسيارة} ؛ المراد منه: إباحته للأهل السفر. وقال أبو حنيفة: جميع حيوانات البحر حرام؛ إلا السمك المعروف. أقول: الحق أن كل حيوان بحري حلال على أي صورة كان؛ {أحل لكم صيد البحر} ، " هو الطهور ماؤه والحل ميتته "، فمن جاءنا بدليل يصلح

الضرورات تبيح المحظورات

لتخصيص هذا العموم؛ قبلناه. ( [الضرورات تبيح المحظورات] :) (وتحل الميتة للمضطر) ؛ لقوله تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} ، وقد ثبت تحليل الميتة عند الجوع من حديث أبي واقد الليثي عند أحمد، والطبراني، برجال ثقات (¬1) ، ومن حديث جابر بن سمرة عند أحمد (¬2) ، وأبي داود بإسناد لا مطعن فيه، ومن حديث الفجيع العامري عند أبي داود (¬3) . وقد اختلف في المقدار الذي يحل تناوله، وظاهر الآية أنه يحل ما يدفع الضرورة؛ لأن من اندفعت ضرورته فليس بمضطر. قال في " المسوى ": " أما ذبائح أهل الكتاب فتحل بنص الكتاب: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} . أقول: معنى الآية باتفاق المفسرين: ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم، وذبائحكم حلال لهم. ¬

_ (¬1) • هو كما قال، ولكنه منقطع؛ فإنه عند أحمد (5 / 218) ؛ من طريق حسان بن عطية، عن أبي واقد؛ وهذا مرسل كما في " تهذيب التهذيب ". ومن هذا الوجه؛ أخرجه الدارمي (2 / 88) . (ن) (¬2) • في " المسند " (5 / 87، 88، 97، 104) ، وأبو داود (2 / 146) . وإسنادهما حسن. (ن) (¬3) • قلت: وفي سنده عقبة بن وهب العامري، ليس بالمشهور قال الذهبي: " لا يعرف، وخبره لا يصح ". قلت: ويعني هذا الذي أشار إليه المؤلف، وفي لفظه ما يدل على أن المضطر يباح له من الميتة ما يحتاجه منها، فهو لو صح؛ لكان حجة على المؤلف. (ن)

ذبائح المسلمين على اختلاف نحلهم حلال

قيل: أي فائدة في الحل لهم؛ وهم كفار ليسوا من أهل الشرع؟ { فقال الزجاج: معناه حلال لكم أن تطعموهم، وأقول: معناه: حلال لهم إذا التزموا شريعتنا أكلوها. وكان اليهود يزعمون أن بني إسرائيل لا يحل لهم ذبائح العرب، فبين الله - تعالى - أن الأحكام الشرعية لا تتفاوت بالنسبة إلى قوم دون قوم. وعليه أهل العلم؛ أن ذبائح اليهود والنصارى حلال لنا، وذبائح المجوس لا تحل ". وفي " الموطإ ": سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال: لا بأس بها، وتلا هذه الآية: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} . قلت: عليه أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا تحل ذبيحة المتنصر بعد التحريف والنسخ (¬1) ، والمشكوك فيه. ( [ذبائح المسلمين على اختلاف نحلهم حلال] :) أقول: ذبائح جميع المسلمين - على اختلاف نحلهم، وتبيان طرائقهم - ¬

_ (¬1) • وقد ضعف هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات " (3 / 193) ؛ وهو حري بالضعف، واستغرب هذا القول من مثل الإمام الشافعي؛ لأن أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم - وفيهم نزلت الآية المذكورة -؛ إنما كان كتابهم محرفا بنص القرآن، ولا فرق بين من كان منتسبا إلى من كان أبوه أو جده في ذلك الدين قبل التحريف أو بعده} (ن)

حلال؛ لأن الله - جل جلاله - إنما نهانا عن أكل ما لم يذكر عليه اسمه، وكل مسلم لا يذبح إلا ذاكرا لاسم الله تحقيقا أو تقديرا؛ على أي مذهب كان. وذبائح أهل الكتاب تابعة لتحليل أطعمتهم؛ إما لصدق اسم الطعام عليها؛ أو لأنها من الإدام اللاحق للطعام. ويؤيده أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي أهدتها له اليهودية من خيبر بعد طبخها لها. ولا نسلم أن ذبائحهم مما لم يذكر عليه اسم الله، فإنهم يذبحون لله، وليسوا كأهل الكفر من غيرهم. فالحاصل: أن الذبح الذي تحل به الذبيحة ما في حديث رافع بن خديج بلفظ: " ما أنهر الدم وذكر الله عليه فكلوا "؛ أخرجه الجماعة كلهم. وذبيحة المسلم - على أي مذهب كان، وفي أي بدعة وقع - هي مما يذكر عليه اسم الله، ومع الالتباس؛ هل وقعت التسمية من المسلم أو لا؟ قد دل الدليل على الحل؛ لما أخرجه البخاري، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث عائشة: قالت: يا رسول الله! إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحمان؛ لا ندري أذكروا اسم الله عليها؛ أم لم يذكروا؛ أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذكروا اسم الله وكلوا ". فأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة التسمية مشعر بأن ذبيحة من لم يسم - سواء كان مسلما أو غير مسلم - حلال.

ويحمل قوله - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} على عدم الذكر الكلي عند الذبح، وعند الأكل، وهو الظاهر من نفي ذكر اسم الله. فاللحم إذا سمى عليه الآكل عند الأكل - والذابح كافر لم يسم - يكون مما ذكر عليه اسم الله - تعالى -، وهذا من الوضوح بمكان، ولا عبرة بخصوص السبب؛ وهو كون عائشة كان سؤالها عن اللحمان التي يأتي بها من المسلمين من كان حديث عهد بالجاهلية؛ بل الاعتبار بعموم اللفظ - كما تقرر في الأصول -. والحق: أن ذبيحة الكافر حلال إذا ذكر عليها اسم الله، ولم يهل بها لغير الله؛ كالذبح للأوثان ونحوها. فإن قلت: الكافر لا يذكر اسم الله على الذبيحة، وقد قال - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وقال: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه "، قلت: هذا لا يتم إلا بعد العلم بأن الكافر لا يذكر اسم الله على ذبيحته. وأما الاحتجاج لعدم اشتراط التسمية بحديث اللحمان المتقدم؛ فليس فيه دليل على عدم اشتراط التسمية مطلقا؛ بل عدم اشتراطها عند الذبح. وأما حديث: " ذبيحة المسلم حلال؛ ذكر اسم الله أو لم يذكر (¬1) "؛ فهو إما مرسل؛ أو موقوف؛ فكيف ينتهض لمعارضة الكتاب العزيز؟ ! ¬

_ (¬1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (2537) .

ثم هو خاص بالمسلم، والنزاع في الكافر، وكذلك الحديث الأول خاص بالمسلم؛ لقوله: " إن قوما حديثو عهد بالجاهلية "، فلا يتم الاستدلال به على عدم اشتراط التسمية مطلقا. وحاصل البحث: أنه إذا ذبح الكافر ذاكرا لاسم الله عز وجل، غير ذابح لغير الله، وأنهر الدم، وفرى الأوداج؛ فليس في الآية ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة. فمن زعم أن الكافر خارج من بعد ذلك بعد أن ذبح لله تعالى وسمى؛ فالدليل عليه (¬1) . وأما ذبح الكافر لغير الله؛ فهذه الذبيحة حرام؛ ولو كانت من مسلم. وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لاسم الله - عز وجل -؛ فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من مسلم حيث ذبحا جميعا لله - عز وجل -. وإذا عرفت هذا؛ لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح؛ لا على من قال بأنه لا يسقط، فلا حاجة إلى الاستدلال على عدم الاشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب؛ كالاحتجاج بقوله (¬2) صلى الله عليه وسلم: " لم ينه عن ذبائح المنافقين "؛ فإن المنافقين كان يعاملهم صلى الله عليه وسلم معاملة المسلمين في جميع الأحكام؛ عملا بما أظهروه من الإسلام، وجريا على الظاهر. ¬

_ (¬1) • الدليل هو مفهوم قوله - تعالى -: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} . (ن) (¬2) لعل صوابه: بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه ... الخ. (ش) قلت: بل هو نص حديث مرفوع رواه أبو داود في " المراسيل " (رقم 378) ، وضعفه الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 183) .

وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر؛ فدعوى الإجماع غير مسلمة، وعلى تقدير أن لها وجه صحة؛ فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله، أو لم يذكر اسم الله تعالى. وأما ذبيحة أهل الذمة؛ فقد دل على حلها القرآن الكريم: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} . ومن قال: إن اللحم لا يتناوله الطعام؛ فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب؛ كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية، وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم؛ إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا (¬1) ؛ فالكلام في ذبيحته كالكلام في ذبيحة المسلم، إذا وقعت على أحد هذه الوجوه، وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا؛ لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى. ¬

_ (¬1) • يشير إلى أنه لا يشترط شيء من ذلك في طعام أهل الكتاب؛ كأنه تمسك بعموم الآية: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} . واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك في بحث له مفيد في " اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 120 - 123) . ومن حجته؛ أن آية {وما أهل لغير الله به} ) - وما في معناها - عمومه محفوظ لم يخص منه صورة؛ بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب؛ فإنه يشترط له الذكاة المبيحة؛ فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ... الخ كلامه؛ فراجعه. (ن)

باب الضيافة

(4 - باب الضيافة) ( [حكم الضيافة في الإسلام] :) (يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يحرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه؛ كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه) ؛ لحديث عقبة بن عامر في " الصحيحين " قال: قلت: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا؛ فما ترى؟ قال: " إن نزلتم بقوم؛ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ". وفيهما من حديث أبي شريح الخزاعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه جائزته "، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: " يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه "؛ أي: يضيق صدره. وأخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود، من حديث المقدام: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما؛ كان ¬

_ (¬1) • في " المسند " (4 / 130، 132، 133) ؛ وسنده صحيح، كما ذكر الشارح، ثم خرجته في " الصحيحة " (2204) . (ن)

تحريم أكل طعام الغير بدون إذنه

دينا له عليه؛ إن شاء اقتضاه؛ وإن شاء تركه "، وإسناده صحيح. وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، من حديث أبي هريرة نحوه، وإسناده صحيح. وفي الباب أحاديث. وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة، واستدلوا بقوله: " فليكرم ضيفه جائزته "؛ قالوا: والجائزة هي العطية والصلة، وأصلها الندب. ولا يخفى أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب، وأدلة الباب مقتضية لذلك؛ لأن التغريم لا يكون للإخلال بأمر مندوب، وكذلك قوله: " واجبة "؛ فإنه نص في محل النزاع، وكذلك قوله: " فما كان وراء ذلك فهو صدقة ". قال في " المسوى ": " وفي قوله: " جائزته " قولان: أحدهما: يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له، ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف، إن شاء فعل؛ وإن شاء ترك. والثاني: أن جائزته أن يعطيه ما يجوز به مسافر يوما وليلة (¬1) ". ( [تحريم أكل طعام الغير بدون إذنه] :) (ويحرم أكل طعام الغير بغير إذنه) ؛ لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم ¬

_ (¬1) • لعل هذا التفسير هو الأقرب إلى الصواب؛ بدليل أن الجائزة أمر زائد على ضيافة الثلاثة أيام في حديث أبي شريح، والله أعلم. (ن)

أمثلة على أكل مال الغير

بينكم بالباطل} ، وكل ما دل على تحريم مال الغير دل على ذلك؛ لأنه مال. وإنما خص منه ما ورد فيه دليل يخصه؛ كالضيف إذا حرمه من يجب عليه ضيافته؛ كما مر. ( [أمثلة على أكل مال الغير] :) (ومن ذلك: حلب ماشيته، وأخذ ثمرته وزرعه لا يجوز إلا بإذنه؛ إلا أن يكون محتاجا إلى ذلك؛ فليناد صاحب الإبل، أو الحائط، فإن أجابه؛ وإلا فليشرب، وليأكل غير متخذ خبنة (¬1)) ؛ للأدلة العامة والخاصة. أما العامة؛ فظاهر كالآية الكريمة، وحديث خطبة الوداع، ونحو ذلك. وأما الأدلة الخاصة فمثل: حديث ابن عمر في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه؛ أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فينتثل (¬2) طعامه؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ". وأخرج أحمد من حديث عمير مولى آبي اللحم، قال: " أقبلت مع سادتي نريد الهجرة، حتى إذا دنونا من المدينة، قال: فدخلوا وخلفوني في ظهرهم، فأصابتني مجاعة شديدة، قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة، ¬

_ (¬1) • الخبنة: معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه. (ن) (¬2) انتثله؛ أي: استخرجه وأخذه. (ش)

فقالوا: لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها، قال: فدخلت حائطا، فقطعت منه قنوين، فأتاني صاحب الحائط، وأتى بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره خبري، وعلي ثوبان، فقال لي: " أيهما أفضل؟ "، فأشرت إلى أحدهما، فقال: " خذه وأعط صاحب الحائط الآخر "، فخلى سبيلي "، وفي إسناده ابن لهيعة (¬1) . وله طريق أخرى عند أحمد، وفي إسنادها أيضا أبو بكر بن يزيد بن المهاجر؛ غير معروف الحال. وقد أعل هذا الحديث بأن في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد ابن زيد، وهو ضعيف (¬2) . وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عمر، قال: سئل ¬

_ (¬1) • وكذا في " النيل " (8 / 127) - نقلا عن " مجمع الزوائد " -! ولم أجد لهذا الحديث في " المسند " إلا طريقا واحدا؛ أخرجه (5 / 223) من طريق عبد الرحمن ابن إسحاق: حدثني أبي، عن عمه، وعن أبي بكر بن زيد بن المهاجر، أنهما سمعا عميرا ... قلت: وهذا سند حسن عندي؛ فإن رجاله كلهم ثقات معروفون، وأبو بكر بن زيد بن المهاجر: هو محمد بن زيد بن المهاجر، كما جزم به الحافظ في " التعجيل "، وهو ثقة من رجال مسلم؛ وعبد الرحمن بن إسحاق: هو ابن عبد الله بن الحارث بن كنانة العامري؛ ثقة أيضا من رجال مسلم، وفيه ضعف يسير؛ وأبوه ثقة؛ وعمه لم أعرفه؛ ولا يضر؛ فإنه مقرون بأبي بكر. ثم وجدت الحديث في " المستدرك " (4 / 132 - 133) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن) (¬2) • هذا مشكل؛ فإن محمد بن زيد: هو أبو بكر، وهو ثقة عندنا - كما سلف -، ومجهول الحال عند المؤلف؛ فكيف يقول الآن: " وهو ضعيف ". وإن رجعنا الضمير إلى عبد الرحمن بن إسحاق؛ فهو خطأ أيضا؛ لأنه ليس في هذه المنزلة من الضعف؛ بحيث يسوغ القول فيه أنه ضعيف. (ن)

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يدخل الحائط؟ فقال: " يأكل غير متخذ خبنة ". وأخرج أبو داود، والترمذي، - وصححه - من حديث سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم على ماشية؛ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب، ولا يحمل "، وهو من سماع الحسن عن سمرة، وفيه مقال معروف. وأخرج أحمد، وابن ماجه، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم، من حديث أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم حائطا، فأراد أن يأكل؛ فليناد صاحب الحائط ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل؛ فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل {أو: يا راعي الغنم} فإن أجابه وإلا فليشرب ". وأخرج الترمذي، وأبو داود، من حديث رافع، قال: كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني، فذهبوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رافع {لم ترمي نخلهم؟ "، قال: قلت يا رسول الله} الجوع. قال: " لا ترم؛ وكل ما وقع؛ أشبعك الله وأرواك " (¬1) . وأخرج أبو داود، والنسائي، من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع، وفيها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحائط: " ما علّمت إذ كان جاهلا، ولا أطعمت إذ كان جائعا؟ ! " (¬2) . ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ وانظر " الإرواء " (2518) . (¬2) • صححه الحاكم (4 / 133) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)

والمراد بالخبنة: ما يحمله الإنسان في حضنه؛ وهي: بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وبعدها نون. ويمكن الجمع بين الأحاديث: بأن تغريم النبي صلى الله عليه وسلم لآبي اللحم لعدم المناداة منه، ولو فرضنا عدم صحة الجمع بهذا؛ كانت أحاديث الإذن عند الحاجة مع المناداة أرجح.

باب آداب الأكل

(5 - باب آداب الأكل) فقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - آدابا يتأدبون بها في الطعام؛ كما ستأتي. (1 -[التسمية] :) (تُشرع للآكل التسمية) ؛ لحديث عائشة عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي - وصححه - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: بسم الله؛ فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله على أوله وآخره ". وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء، وإذا دخل، فلم يذكر الله عند دخوله؛ قال الشيطان: ¬

_ (¬1) • في " المسند " (6 / 143، 207، 246، 265) ، وأبو داود (2 / 140) ، والترمذي (/ 102 3) ؛ عن أم كلثوم، عن عائشة. وأم كلثوم - هذه - لم أجد من وثقها، ومع ذلك؛ فالترمذي يقول في حديثها هذا: " حديث حسين صحيح ". وله شاهد من حديث أمية بن مخشي عند ابن السني (رقم 455) ، ورجاله ثقات؛ غير المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي، وهو مستور؛ فالحديث به حسن - إن شاء الله -. (ن)

الأكل باليمين

أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله عند طعامه؛ قال: أدركتم المبيت والعشاء ". وأخرج مسلم، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه "؛ الحديث. وأخرج الترمذي (¬1) ، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنه لو سمى لكفى لكم "، وقال: حسن صحيح. وفي الباب أحاديث. قلت: وعليه أهل العلم. قال النووي: الأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم (¬2) ، فإن قال: بسم الله. حصلت السنة. (2 -[الأكل باليمين] :) (والأكل باليمين) ؛ لحديث ابن عمر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل ¬

_ (¬1) • في إسناده أم كلثوم التي في الإسناد السابق. (ن) (¬2) لا دليل على هذه الأفضلية، ولا تحصل السنة إلا بالسنة {فتأمل}

الأكل من حافتي الطعام

بشماله، ويشرب بشماله. قلت: وعليه أهل العلم. (3 -[الأكل من حافتي الطعام] :) (ومن حافتي الطعام لا من وسطه) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه ". وأخرجه أبو داود (¬1) بلفظ: " إذا أكل أحدكم طعاما؛ فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل من أعلاها ". (4 -[الأكل مما يليه] :) (ومما يليه) ؛ لحديث عمر بن أبي سلمة في " الصحيحين "، وغيرهما قال: كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: " يا غلام! سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ". (5 -[لعق الأصابع والصحفة] :) (ويلعق أصابعه والصحفة) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره: أن النبي ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 140) ؛ وإسناده صحيح، وصححه الحاكم (4 / 116) ، ووافقه الذهبي. (ن)

صلى الله عليه وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال: " إذا وقعت لقمة أحدكم؛ فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان "، وأمرنا أن نسلت (¬1) القصعة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ". وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها (¬2) ". وأخرج مسلم من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: " إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ". قال في " الحجة البالغة ": " وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا، فقربنا إليه شيئا، فبينا يأكل؛ إذ سقطت كسرة من يده، وتدهدهت في الأرض، فجعل يتبعها، وجعلت تتباعد عنه، حتى تعجب الحاضرون بعض العجب، وكابد هو في تتبعها بعض الجهد، ثم إنه أخذها فأكلها، فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنسانا (¬3) ، وتكلم على لسانه، فكان فيما تكلم: إني مررت بفلان وهو يأكل، فأعجبني ذلك الطعام، فلم يطعمني منه شيئا، فخطفته من يده، فنازعني حتى أخذه مني. ¬

_ (¬1) سلت القصعة من الثريد: إذا مسحه. (ش) (¬2) • قال النووي: " المراد: إلعاق غيره ممن لا يتقذر ذلك؛ من زوجة، وخادم، وولد، ولو ألعقها شاة ونحوها ". (ن) (¬3) قارن بكتابي " برهان الشرع في إثبات المس والصرع ".

الحمد عند الفراغ

وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر؛ إذ تدهده بعضها، فوثب إليه إنسان فأخذه وأكله، فأصابه وجع في صدره ومعدته، ثم تخبطه الشيطان، فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهده. وقد قرع أسماعنا شيء كثير من هذا النوع، حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز، وإنما أريد به حقيقتها، فمن العلم الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم حال الملائكة والشياطين، وانتشارهم في الأرض ". انتهى. (6 -[الحمد عند الفراغ] :) (والحمد عند الفراغ والدعاء) ؛ لحديث أبي أمامة عند البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: " الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه؛ غير مكفي (¬1) ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ". وأخرج أحمد، وأبو داود (¬2) ، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، والبخاري في " التاريخ " من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ". وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه - (¬3) من حديث معاذ بن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) • أي: غير محتاج إلى أحد، لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم: " خطابي ". (ن) (¬2) • في " سننه " (2 / 150) ، والترمذي (4 / 247) بسند ضعيف؛ لما سيأتي تحقيقه في الأشربة (ن) (¬3) • وليس بحسن؛ فإنه من رواية أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون؛ قال الذهبي: " ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ". (ن) قلت: وقد انتهى الشيخ - أخيرا - إلى حسنه؛ فانظر " الإرواء " (1989) .

أن يستوي جالسا

" من أكل طعاما، فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ". وأخرج أبو داود (¬1) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم {بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه. وإذا سُقي لبنا؛ فليقل: اللهم} بارك لنا فيه وزدنا منه؛ فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن ". وأخرجه الترمذي بنحوه وحسنه، ولكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف. وقد رواه عن محمد بن حرملة. قال أبو حاتم: بصري لا أعرفه! (7 -[أن يستوي جالسا] :) (ولا يأكل متكئا) ؛ لحديث أبي ححيفة عند البخاري، وغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أنا فلا آكل متكئا ". قلت: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث في العرب، وعاداتهم ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 135) ، والترمذي (4 / 247) ؛ عن علي بن زيد، عن عمر بن حرملة، عن ابن عباس؛ وحسنه الترمذي؛ وليس كذلك؛ لما ذكره الشارح. (ن) قلت: ثم حسنه الشيخ بطرقه في " الصحيحة " (2320) .

أوسط العادات، ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم، والأخذ بها أحسن، ولا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا سيرة إمامها في كل نقير وقطمير. وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان (1) ، ولا في سكرجة (¬1) ، ولا خبز له مرقق، ولا رأى شاة سميطا (¬2) بعينه قط، وما رأى منخلا - كانوا يأكلون الشعير غير منخول -. ¬

_ (¬1) • هو ما يوضع عليه الطعام. والسكرجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم، وهي فارسية، وأكثر ما يوضع فيه الكوامخ ونحوها. (ن) (¬2) • أي: مشوية؛ فعيل بمعنى مفعول. (ن)

الكتاب الرابع عشر كتاب الأشربة

(الكتاب الرابع عشر: كتاب الأشربة)

كتاب الأشربة

(14 - كتاب الأشربة) ( [كل مسكر خمر وكل مسكر حرام] :) (كل مسكر حرام) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام "، فيشمل ذلك جميع أنواع الخمر؛ من الشجرتين وغيرهما، فيتناوله قوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر} الآية. وفي لفظ لمسلم: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال صلى الله عليه وسلم: " كل شراب أسكر فهو حرام ". وفيهما نحوه من حديث أبي موسى. وفي الباب أحاديث. قال في " الحجة البالغة ": " وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث كثيرة؛ من طرق لا تحصى، وعبارات مختلفة، فقال: " الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة ".

مم يكون الخمر

وكذلك اتفقت جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة. وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له؛ من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية؛ لما فيه من تقوية الطبيعة! فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطبية بالحكمة العملية. والحق أنهما متغايرتان، وقد نزل تحريم الخمر؛ وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل. ( [مم يكون الخمر؟] :) والخمر: ما خامر العقل. وقال: لقد حرمت الخمر حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا: البسر والتمر، وكسروا دنان الفضيخ (¬1) حين نزلت، وهو يقتضيه قوانين التشريع؛ فإنه لا معنى لخصوصية العنب، وإنما المؤثر في التحريم كونه مزيلا يدعو قليله إلى كثيره، فيجب به القول. ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب، واستعمل أقل من حد الإسكار. نعم؛ كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أول الأمر، فكانوا معذورين؛ ولما استفاض الحديث، وظهر الأمر كرابعة النهار، وصح حديث: " ليشربن ناس من أمتي الخمر؛ يسمونها بغير اسمها "؛ لم يبق عذر، أعاذنا الله - تعالى - والمسلمين من ذلك ". انتهى. ¬

_ (¬1) • شراب يتخذ من البسر المفضوخ؛ أي: المشدوخ. (ن)

ما أسكر كثيره فقليله حرام

وتمام هذا البحث في " مسك الختام "، فليرجع إليه. ( [ما أسكر كثيره فقليله حرام] :) (وما أسكر كثيره فقليله حرام) ، لحديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، وابن حبان، والدارقطني - وأعله بالوقف -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مسكر حرام؛ وما أسكر الفرق (¬1) منه؛ فملء الكف منه حرام "، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدني؛ قال المنذري: لم أر أحدا قال فيه كلاما، وقال الحاكم: هو معروف بكنيته؛ يعني: أبا عثمان (¬2) . وأخرج أحمد (¬3) ، وابن ماجه، والدارقطني - وصححه -، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". وأخرجه أبو داود (¬4) ، والترمذي - وحسنه -، وقال ابن حجر: رجاله ثقات -، من حديث جابر. ¬

_ (¬1) بفتح الفاء وإسكان الراء؛ هو مئة وعشرون رطلا - ويقال: بفتح الراء -، وهو مكيال يسع تسعة عشر رطلا، والأول هو الذي اعتمده صاحب " اللسان " وشراح الحديث. (ش) (¬2) • قال الحافظ في " التقريب ": مقبول. (ن) قلت: لكن وفقه أبو داود؛ فحديثه هذا صحيح؛ وانظر " الإرواء " (2376) . (¬3) • برقم (5648) ؛ وفي سنده أبو معشر، واسمه: نجيح، وهو ضعيف. وفي " سنن ابن ماجه " (2 / 332) ضعف أيضا وانقطاع؛ لكن يشهد له الأحاديث الآتية. (ن) (¬4) • في " سننه " (2 / 129) ، وكذا أحمد (3 / 343) ؛ وسنده صحيح لا علة له. وكذلك رواه ابن ماجه. (ن)

ما هي الآنية التي يجوز الانتباذ بها

وأخرجه أيضا أحمد (¬1) ، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وفي الباب أحاديث. قال في " المسوى ": " وعليه الشافعي، وأبو حنيفة؛ إلا أن الشافعي يقول: كل ما خامر العقل فهو خمر، قليله وكثيره حرام، يجب منه الحد؛ سواء كان من عنب، أو تمر، أو عسل، أو غير ذلك؛ وسواء كان نيئا أو مطبوخا. وفي مذهب أبي حنيفة: النيء من ماء العنب إذا اشتد هو الخمر، والمسكر من فضيخ التمر حرام؛ يحد منه دون سائر المسكرات ". انتهى. ( [ما هي الآنية التي يجوز الانتباذ بها؟] :) (ويجوز الانتباذ في جميع الآنية) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم (¬2) ، فاشربوا في كل وعاء؛ غير أن لا تشربوا مسكرا ". وفي لفظ لمسلم - أيضا -، وغيره: " نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفا لا ¬

_ (¬1) • في " المسند " (2 / 167، 179) ؛ وابن ماجه (2 / 332) ؛ من طريقين عن عمرو؛ فهو إسناد حسن. (ن) (¬2) الأدم: الجلد. (ش)

حكم انتباذ جنسين مختلطين

يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام ". وفي الباب أحاديث مصرحة بنسخ ما قد كان وقع منه صلى الله عليه وسلم؛ من النهي عن الانتباذ في الدباء، والنقير، والمزفت، والحنتم (¬1) ، ونحوها؛ كما هو مذكور في الأحاديث المروية في " الصحيحين "، وغيرهما. ذهب قوم إلى بقاء الحظر فيها، وبه قال مالك وأحمد. ( [حكم انتباذ جنسين مختلطين] :) (ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا. وفيهما من حديث أبي قتادة نحوه. ولمسلم نحوه من حديث أبي سعيد. وله - أيضا - نحوه من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث. ووجه النهي عن انتباذ الخليطين؛ أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط، فيظن المنتبذ أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه. ¬

_ (¬1) جرار مدهونة خضرة، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة. وإنما نهى عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها من أجل دهنها. (ن)

حكم تخليل الخمر

قال النووي: " ومذهب الجمهور: أن النهي في ذلك للتنزيه لا للتحريم، وإنما يحرم إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته. وقال بعض المالكية: هو للتحريم ". وقد ورد ما يدل على منع انتباذ جنسين؛ سواء كان مما ذكر في الأحاديث السابقة أم لا، وهو ما أخرجه النسائي، وأحمد، من حديث أنس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين شيئين فيُنبذا؛ يبغي أحدهما على صاحبه "، ورجال إسناده ثقات (¬1) . قال في " المسوى ": " اختلف أهل العلم؛ فذهب جماعة إلى تحريمه؛ وإن لم يكن الشراب المتخذ منه مسكرا لظاهر الحديث، وبه قال مالك وأحمد. وقال الأكثرون: هو حرام إذا كان مشتدا ومسكرا؛ إذ المعنى فيه الإسكار، وإنما خص ذكره؛ لأنه كان من عادتهم اتخاذ النبيذ المسكر بذلك. وقال الليث: إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعا؛ لأن أحدهما يشد صاحبه ". ( [حكم تخليل الخمر] :) (ويحرم تخليل الخمر) ؛ لحديث أنس عند أحمد، وأبي داود، والترمذي ¬

_ (¬1) • فيه نظر؛ فإنه من طريق وقاء بن إياس؛ وفيه ضعف، وقال الحافظ: " لين الحديث ". والحديث في " سنن النسائي " (2 / 324) . (ن)

وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر يتخذ خلا؟ فقال: " لا ". وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديثه - أيضا -: أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: " أهرقها "، قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: " لا ". وقد عزاه المنذري في " مختصر السنن " إلى مسلم. وله حديث ثالث نحوه أخرجه الدارقطني. وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه. قال ابن القيم: " وفي الباب عن أبي الزبير وجابر، وصح ذلك عن عمر بن الخطاب، ولا نعلم له في الصحابة مخالفا، ولم يزل أهل المدينة ينكرون ذلك. قال الحاكم: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك، فتقدمت إلى قاض، فقلت: عندك خل خمر؟ فقال: سبحان الله! في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم قدمت بعد موت مالك، فذكرت ذلك لهم، فلم ينكر علي أحد. وأما ما روي عن علي من اصطناعه الخمر، وعن عائشة: أنه لا بأس به؛ فهو خل الخمر إذا تخللت بنفسها لا باتخاذها ". اه.

جواز شرب العصير والنبيذ قبل تخمره

وفي " الحجة البالغة ": " سئل عن الخمر يتخذ خلا؟ قال: " لا "، قيل: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: " إنه ليس بدواء، ولكنه داء ". أقول: لما كان الناس مولعين بالخمر، وكانوا يتحيلون لها حيلا؛ لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال؛ لئلا يبقى عذر لأحد ولا حيلة ". انتهى. ( [جواز شرب العصير والنبيذ قبل تخمره] :) (ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أبي داود (¬1) ، والنسائي، وابن ماجه، قال: علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش (¬2) فقال: " اضرب بهذا الحائط؛ فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ". وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير، قال: اشربه ما لم يأخذه شيطانه؟ قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 134) ، والنسائي (2 / 334) ، وابن ماجه (2 / 334) ؛ عن خالد بن عبد الله بن حسين، عن أبي هريرة؛ وخالد هذا لم يوثقه غير ابن حبان؛ فهو مجهول الحال، وفي " التقريب ": " مقبول ". قلت: ولا أعلم أحدا تابعه على هذا السياق؛ فالحديث غير مقبول، والله أعلم. (ن) (¬2) قوله: " فتحينت " - بالتاء والحاء؛ كما هو كذلك في أبي داود وغيره -؛ أي: ترقبت وقت إفطاره. وقوله: " ينش "؛ أي: يغلي. (ش)

ما هي مدة الانتباذ

وأخرج مسلم، وغيره من حديث ابن عباس: أنه كان يُنقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب، فيشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقي الخادم أو يهراق. قال أبو داود: ومعنى يسقي الخادم: يبادر به الفساد. ( [ما هي مدة الانتباذ؟] :) (ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام) ؛ لحديث ابن عباس المذكور. وقد أخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة: " أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه، وإن فضل شيء صبته أو أفرغته، ثم تنتبذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه، قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية "، وهو لا ينافي حديث ابن عباس - المتقدم - أنه كان يشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة؛ لأن الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية، والكل في " الصحيح ". ( [آداب الشرب] :) (1 -[أن يتنفس ثلاثا] :) (وآداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثا. وفي لفظ لمسلم: أنه كان يتنفس في الشراب ثلاثا، ويقول: " إنه أروى وأمرأ " (¬1) ، والمراد أنه كان يتنفس بين كل شربتين في غير الإناء. ¬

_ (¬1) • وزاد أبو داود (2 / 135) : " وأبرأ ". (ن)

أن لا يتنفس في الإناء

(2 -[أن لا يتنفس في الإناء] :) وأما التنفس في الإناء فمنهي عنه؛ لحديث أبي قتادة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - (¬1) ، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفس في الإناء، أو ينفخ فيه. وأخرج أحمد، والترمذي (¬2) - وصححه -، من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال الرجل: القذاة أراها في الشراب، فقال: " أرقها "، فقال: إني لا أروى من نفس واحد، قال: " فأبِن؟ القدح إذاً عن فيك "، قلت: وعلى هذا أهل العلم. والنهي عن التنفس فيه، من أجل ما يخاف أن يبرز شيء من ريقه أو مخاطه فيقع في الماء. وقد تكون النكهة من بعض من يشرب متغيرة، فتتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطفه. ثم إنه من فعل الدواب، إذا كرعت في الأواني كرعت، ثم تنفست فيها، ثم عادت فشربت، فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه. ¬

_ (¬1) • وهو كما قال؛ وإسناده رجال البخاري. (ن) (¬2) • في " سننه " (3 / 113) ؛ وسنده حسن - إن شاء الله تعالى -. (ن)

أن يشرب باليمين

والنفخ فيه يكون لأحد معنيين: فإن كان من حرارة الشراب؛ فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى؛ فليمطه بأصبع أو خلال، وإن تعذر فليرقها؛ كما جاء في الحديث. (3 -[أن يشرب باليمين] :) (وباليمين) ؛ لما تقدم في آداب الأكل. (4 -[أن يشرب قاعدا] :) (ومن قعود) ؛ لأن الشرب قاعدا من الهيئات الفاضلة، وأقرب لجموم النفس والري، وأن تصرف الطبيعة الماء في محله؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما. وأخرج مسلم أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقئ " (¬1) . ولا يعارض هذا حديث ابن عباس في " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائما، ولا ما أخرج البخاري، وغيره من حديث علي: أنه شرب وهو قائم، ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت، ولا ما أخرجه أحمد (¬2) ، وابن ماجه، والترمذي ¬

_ (¬1) قلت: وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ؛ وإنما يصح الشطر الأول منه، فانظر " الصحيحة " (175) . (¬2) • في " المسند " (رقم 5874) ، وابن ماجه (2 / 310) ، والترمذي (3 / 111) ؛ وإسناده صحيح. وله في " المسند " (رقم 4765، 4833) طريق أخرى عن ابن عمر؛ وإسناده حسن. (ن)

أن يشرب الأيمن فالأيمن

- وصححه - من حديث ابن عمر، قال: " كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام " (¬1) ؛ لأنه يمكن الجمع بأن الكراهة للتنزيه؛ وإن كان قوله: " فمن نسي فليستقئ " يشعر بعدم الجواز في حق من قصد مخالفة السنة (¬2) ؛ على أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة، ويخصص القول الشامل له وللأمة، فيكون الفعل خاصا به؛ كما تقرر في الأصول. قلت: وعليه أكثر أهل العلم؛ رأوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما نهي أدب وإرفاق؛ ليكون تناوله على سكون وطمأنينة، فيكون أبعد من أن يكون منه فساد في المعدة؛ كالكباد وغيره. (5 -[أن يشرب الأيمن فالأيمن] :) (وتقديم الأيمن فالأيمن) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب، ثم أعطى الأعرابي، وقال: " الأيمن فالأيمن ". وفيهما من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه، وعن يمنيه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: " أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ "، فقال الغلام: والله يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فتله؛ أي: وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده. قال في " الحجة البالغة ": ¬

_ (¬1) انظر " علل ابن أبي حاتم " (2 / 9) (¬2) لعل الأولى أن يقال - بل الصواب أن يقال -: في حق من لم يستطع؛ يشعر بعدم الجواز إلا لعذر. (ن)

الساقي آخر القوم شربا

" أراد بذلك قطع المنازعة، فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل؛ ربما لم يكن الفضل مسلّما بينهم، وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة ". اه (6 -[الساقي آخر القوم شربا] :) (ويكون الساقي آخرهم شربا) ؛ لحديث أبي قتادة عند ابن ماجه، وأبي داود، والترمذي - وصححه - وقال المنذري: رجال إسناده ثقات -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ساقي القوم آخرهم شربا ". وقد أخرجه أيضا مسلم بلفظ: قلت: لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الساقي آخرهم شربا ". (7، 8 -[التسمية على الشرب، والحمد في آخره] :) (ويسمي في أوله، ويحمد في آخره) ؛ لحديث ابن عباس عند الترمذي (¬1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا الله إذا أنتم شربتم، واحمدوا الله إذا أنتم رفعتم ". وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، ¬

_ (¬1) • في " سننه " (3 / 113) ، وضعفه بقوله: " هذا حديث غريب؛ ويزيد بن سفيان الجزري: هو أبو فروة الرهاوي ". قلت: وهو ضعيف، كما في " التقريب "، فعزو الحديث للترمذي، وحذف كلامه الذي يدل على ضعفه؛ ليس من الصواب في شيء! (ن) (¬2) • في " المسند " (3 / 32، 98) ، وأبي داود (2 / 150) ، والترمذي (4 / 247) ، وابن ماجه (2 / 307) ، وابن السني - أيضا (رقم 458) من طريق النسائي -؛ وليس عند أحد منهم: " وشرب "؛ إلا الترمذي، وسنده ضعيف. ثم إن في إسناد الحديث اختلافا، ذكره الحافظ في " التهذيب " (3 / 300) ؛ فالحديث ضعيف من أصله، والله أعلم. (ن)

حكم التنفس في السقاء والنفخ فيه والشرب من فمه

والبخاري في " التاريخ " من حديث أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: " الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وجعلنا مسلمين ". ( [حكم التنفس في السقاء، والنفخ فيه والشرب من فمه] :) (ويكره التنفس في السقاء، والنفخ فيه) ؛ وقد تقدمت أدلة ذلك في الشرب ثلاثة أنفاس. (والشرب من فمه) لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه؛ فإن الماء يتدفق وينصب في حلقه دفعة، وهو يورث الكباد، ويضر بالمعدة، ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها. ودليله حديث أبي سعيد في " الصحيحين " قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية؛ أن يشرب من أفواهها (¬1) . وفي رواية لهما: " واختناثها: أن يقلب رأسها ثم يشرب منه ". وفي " البخاري " من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من في السقاء. ¬

_ (¬1) • وسببه ما في " مسند ابن أبي شيبة " بإسناد صحيح عن أبي سعيد: شرب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جنان؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره؛ وكذا أخرجه الإسماعيلي - كما في " الفتح " (10 / 74) -. ولا ينفي هذا أن يكون النهي لعلة أخرى؛ فقد قالت عائشة: نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء؛ لأن ذلك ينتنه. رواه الحاكم (4 / 140) - وصححه -، وقال الذهبي: " إنه على شرط مسلم ". وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (10 / 75) : " سنده قوي ". (ن)

وزاد أحمد: قال أيوب: فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية. وزاد في " الحجة البالغة ": " فدخلت في جوفه ". وفي " البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء. وهذا لا يعارضه ما رواه ابن ماجة (¬1) ، والترمذي - وصححه -، من حديث كبشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من في قربة معلقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته ". وأخرج أحمد (¬2) ، وابن شاهين، والترمذي في " الشمائل "، والطبراني، والطحاوي، من حديث أم سليم نحوه. وأخرج أبو داود (¬3) ، والترمذي من حديث عبد الله بن بسر نحوه - أيضا -؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم قد يكون لبيان الجواز، فتحمل أحاديث النهي على الكراهة لا على التحريم. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 336) ، والترمذي (3 / 114) ؛ وسنده صحيح. وزاد ابن ماجه في آخره: تبتغي بركة موضع في رسول الله صلى الله عليه وسلم! (ن) (¬2) • في " المسند " (3 / 119) ، و " الشمائل " (1 / 313) ، والطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 358) ؛ عن البراء بن زيد ابن بنت أنس، عن أنس، عنها؛ والبراء هذا مجهول. (ن) (¬3) • في " السنن " (2 / 134) ، والترمذي؛ وأعله بأن فيه عبد الله بن عمر العمري؛ يضعف من قبل حفظه. (ن)

حكم المائع إذا وقعت فيه نجاسة

وقد يكون ما فعله صلى الله عليه وسلم لعذر، فتحمل أحاديث النهي على عدم العذر. وقد جزم ابن حزم بالتحريم (¬1) . وروي عن أحمد أن أحاديث النهي ناسخة. ( [حكم المائع إذا وقعت فيه نجاسة] :) (وإذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات؛ لم يحل شربه، وإن كان جامدا ألقيت وما حولها) ؛ لحديث ميمونة عند البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: " ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم ". وأخرج أبو داود (¬2) والنسائي - في لفظ لهما من هذا الحديث -: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال: " إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه "، وصححه ابن حبان. وأخرج أحمد، وأبو داود (¬3) ، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال: ¬

_ (¬1) وهو اختيار شيخنا الألباني - حفظه الله -؛ فانظر " السلسلة الصحيحة " (175 - 177) . (¬2) في " سننه " (2 / 149) ، ورجال الإسنادين رجال الصحيح. لكن مداره على معمر، وقد حكم العلماء بخطإه في قوله: " إن كان جامدا "، وبينوا أن الصواب في الحديث الإطلاق، كما في الرواية الأولى؛ راجع " فتح الباري " (9 / 549 - 550) ، و " الفتاوى " لشيخ الإسلام، و " تهذيب السنن " (5 / 336 - 341) لابن القيم. وعلى هذا؛ فالحديث حجة على المؤلف في التفصيل الذي ذكره؛ ولهذا قال الحافظ: " واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد: أن المانع إذا حلت فيه نجاسة لا ينجس إلا بالتغير؛ وهو اختيار البخاري، وقول ابن نافع من المالكية، وحكي عن مالك ". (ن) (¬3) • انظر التعليق السابق. (ن)

حكم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: " إن كان جامدا فخذوها وما حولها، ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعا فلا تقربوه ". وقد أخرجه أيضا النسائي. وحكم غير الفأرة - مما هو مثلها في النجاسة والاستقذار - حكمها إذا وقع في سمن أو نحوه. قلت: وعليه أهل العلم؛ ومعناه عندهم: إذا كان جامدا؛ فإن كان مائعا تنجس كله، فلا يجوز أكله بالاتفاق، وجوز أبو حنيفة بيعه، ولم يجوزه الشافعي. ( [حكم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة] :) (ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة) ؛ لحديث حذيفة في " الصحيحين "، وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ". وفيهما - أيضا - من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ".

ولفظ مسلم: " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة ". وأخرج مسلم من حديث البراء بن عازب، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة؛ فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة. وأخرج أحمد، وابن ماجه من حديث عائشة نحو حديث أم سلمة. قلت: الجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف، وعليه أهل العلم. وفي حكمها الذهب. ورخص الشافعي في تضبيب الإناء بقليل من الفضة عند الحاجة؛ لحديث أنس: أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب (¬1) سلسلة من فضة. قال الشيخ محيي الدين بن إبراهيم النحاس في " تنبيه الغافلين ": " ومنها استعمال أواني الذهب والفضة للرجال والنساء في الأكل، والشرب، والادهان، والاكتحال، ونحو ذلك. وكذا قال الشيخ شمس الدين ابن القيم وغيره. ولا فرق بين أن تكون الآنية كبيرة؛ كالصحن، والزبدية ونحوهما، أو صغيرة؛ كالمكحلة، والميل، والإبرة، ونحوها. وكما يحرم استعمال أواني الذهب والفضة يحرم اتخاذها لغير استعمال على الرجال، والنساء، ويحرم على الصائغ عملها. ¬

_ (¬1) هو الصدع والشق.

حكم استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب

ومن قدم إليه طعام في آنية ذهب، أو فضة، ولم يستطع الإنكار؛ فطريقه أن يأخذ الطعام من الآنية، ويضعه في وعاء آخر، أو على الخبز، أو في يده الشمال، ثم يأكل منه؛ لأن ذلك ليس بأكل فيها، وكذلك إذا أراد الاكتحال من كحل في مكحلة فضة؛ أفرغ منه في شيء ثم اكتحل منه، والله تعالى أعلم ". اه. ( [حكم استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب] :) أقول: استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب فيها؛ لم يرد ما يدل على المنع منه، ولم يثبت إلا المنع من الأكل والشرب فيها فقط. ومن زعم تحريم غيرهما؛ لم يقبل إلا بدليل؛ لأن الأصل الحل، فلا ينقل عنه إلا بناقل. وأما التحلي بهما؛ فلم يرد ما يمنع من ذلك إلا في الذهب (¬1) . ¬

_ (¬1) • كأنه يشير إلى حديث: " الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، حل لأناثها "؛ أخرجه الطحاوي (2 / 345 - 346) ، ورجاله كلهم ثقات؛ غير هشام بن أبي رقية، ترجمه ابن أبي حاتم (2 / 457) ؛ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقد ذكره في " التعجيل " برواية جماعة من الثقات عنه، ثم قال: " وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ". قلت: فمثله حديثه حسن؛ بل صحيح في الشواهد؛ وهذا منه؛ فإن له شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة، ساقها الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 222 - 325) ، وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من علة؛ فمجموعها يدل على أن للحديث أصلا، سيما وقد صحح بعضها الترمذي، والحاكم، وغيرهما. والحديث عزاه الحافظ (10 / 243) لأحمد، والطحاوي، وصححه. وعزوه لأحمد بهذا اللفظ خطأ؛ فإنه إنما رواه من الطريق المذكور بلفظ آخر؛ انظر (4 / 156) من " المسند ". (ن)

وأما الفضة؛ فلم يرد شيء؛ بل قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالفضة؛ فالعبوا بها كيف شئتم (¬1) ". هذا خلاصة ما ينبغي القول به في الاستعمال والتحلي، وللماتن - رحمه الله تعالى - أبحاث جليلة المقدار راجحة الأنظار في ذلك، فلتراجع. ¬

_ (¬1) الحديث رواه أبو داود في " سننه " في (باب ما جاء في الذهب للنساء) عن أبي هريرة مطولا، وهذا بعضه. (ش)

الكتاب الخامس عشر كتاب اللباس

(الكتاب الخامس عشر: كتاب اللباس)

كتاب اللباس

(15 - كتاب اللباس) ( [دليل وجوب ستر العورة في الملإ والخلاء] :) (ستر العورة واجب في الملأ والخلاء) ؛ لحديث حكيم بن حزام، عن أبيه، عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، والحاكم - وصححه - (¬1) ، قال: قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها؟ وما نذر؟ فقال: " احفظ عورتك؛ إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها "، فقلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: " فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه " (¬2) . ¬

_ (¬1) • ووافقه الذهبي في " تلخيصه " ل " المستدرك " (4 / 180) . (ن) (¬2) • ظاهره يدل على وجوب ستر العورة في الخلوة، وفيه خلاف؛ وقد حمله الشافعية على الندب. قال المناوي: " وممن وافقهم ابن جرير، فأول الخبر في " الآثار " على الندب، قال: لأن الله - تعالى - لا يغيب عنه شيء من خلقه؛ عراة أو غير عراة ". وإلى هذا ذهب البخاري؛ حيث قال: " باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ومن تستر؛ فالستر أفضل ". ثم ساق هذا الحديث معلقا، وحديث أبي هريرة مسندا في اغتسال موسى وأيوب - عليهما السلام - في الخلاء عريانين. قال الحافظ: " ووجه الدلالة منه على ما قال ابن بطال؛ أنهما ممن أمرنا بالاقتداء بهما، وهذا إنما يأتي على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما، فدل على موافقتهما؛ وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق؛ لبينه، فعلى هذا يجمع بين الحديثين بحمل حديث بهز على الأفضل، وإليه أشار في الترجمة، ورجح بعض الشافعية تحريمه، والمشهور عند متقدميهم - كغيرهم - الكراهة ". (ن)

حكم لباس الحرير للذكور والإناث

وقد اختلف أهل العلم في حد العورة، وكذلك اختلفت الأدلة، وقد استوفاها الماتن في " شرح المنتقى ". ( [حكم لباس الحرير للذكور والإناث] :) (ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين "، وغيرهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ". وفيهما نحوه من حديث أنس. وفيهما - وغيرهما - من حديث ابن عمر: أنه رأى عمر حلة من إستبرق، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ابتع هذه فتجمل بها للعيد وللوفود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما هذه لباس من لا خلاق له ". وأخرج أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه من حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها "، وفي إسناده سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى، قال أبو حاتم: إنه لم يلقه. وقد صححه (¬1) أيضا ابن حزم. وروي من حديث علي عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله ¬

_ (¬1) وهو الصواب؛ فانظر " إرواء الغليل " (277) .

الخلاف في جواز لبس الحرير المشوب

في شماله، ثم قال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي "، زاد ابن ماجه: " حل لإناثهم "، وهو حديث حسن. وأخرج البيهقي بإسناد حسن نحوه. وأخرج البزار من حديث عمرو بن جرير البجلي (¬1) نحوه أيضا، وفي إسناده قيس بن أبي حازم. وفي الباب أحاديث. وقد ذكر المهدي في " البحر " أنه مجمع على تحريم الحرير للرجال، وقال فيه: إنه خالف في ذلك ابن علية. وانعقد الإجماع بعده على التحريم. وقال القاضي عياض: إنه حكي عن قوم إباحته. وقال أبو داود: إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة. ( [الخلاف في جواز لبس الحرير المشوب] :) ¬

_ (¬1) هنا خطأ غريب؛ فإن عبارة " نيل الأوطار " نصها: " وعن عمر - يعني: في الباب - عند البزار والطبراني، وفيه عمرو بن جرير البجلي؛ قال البزار: لين الحديث ". وهذا هو الصواب؛ لأنه ليس في الصحابة من اسمه عمرو بن جرير البجلي؛ بل عمرو بن جرير أبو سعيد البجلي؛ يروي عن إسماعيل بن أبي خالد؛ كذبه أبو حاتم، وقال الدارقطني: متروك الحديث، وله ترجمة في " لسان الميزان " (ج 4: ص 358) . وقيس بن أبي حازم - الذي أعل به الشارح الحديث اعتباطا -؛ تابعي جليل ثقة إمام، روى له الشيخان وغيرهما. (ش)

وقد اختلف أهل العلم في الحرير المشوب بغيره. واستدل المانعون من لبسه بما ورد من منعه صلى الله عليه وسلم للبس حلة السيراء؛ كما في " الصحيحين " من حديث علي، ولكنه قد وقع الخلاف في تفسير حلة السيراء ما هي؟ فقيل: إنها ذات الخطوط، وقيل: المختلفة الألوان. وهذان التفسيران لا يدلان على مطلوب من استدل بذلك على المنع من لبس المشوب؛ على أنه قد قيل: إنه الحرير المحض. واستدل من لم يقل بتحريم المشوب - بل حرم الخالص فقط - بمثل حديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود، قال: " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز "، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وفيه ضعف (¬1) . والمصمت بضم الميم الأولى، وفتح الثانية المخففة؛ وهو: الذي جميعه حرير لا يخالطه قطن ولا غيره. وهذا البحث طويل الذيول. ¬

_ (¬1) • لكن تابعه عكرمة بن خالد - وهو ثقة - عند أحمد (رقم 2858) ، وعنه الحاكم (4 / 192) ؛ وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري فقط، وصححه أيضا الحافظ في " الفتح " (10 / 242) ، قال: " وأخرجه الطبراني بسند حسن؛ بلفظ: إنما نهى رسول الله عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب؛ فلا بأس به ". (ن)

أقول: مسألة تحريم مشوب الحرير من المعارك التي تحتمل البسط. قال الماتن في " حاشية الشفاء ": " وقد طالت المراجعة فيها بيني وبين شيخي المجتهد المطلق السيد عبد القادر بن أحمد الكوكباني - رحمه الله - أيام قراءتي عليه، فكان جميع ما حرره وحررته نحو سبع رسائل، وقد لخصت ما ظهر لي في المسألة في " شرح المنتقى " باختصار، فليرجع إليه ". قلت: وحاصله ترجيح التحريم؛ كما قررته في " هداية السائل إلى أدلة المسائل "؛ فليراجع. قال في " المسوي ": " الحلة السيراء: التي فيها خطوط كالسيور، وهي برود من الحرير، أو الغالب فيها الحرير، والقسي: ثياب مضلعة من الحرير؛ أي: منقوشة بصورة الضلاع (¬1) وأشباهه، قيل: نسبة إلى قس قرية بساحل البحر، وقيل: إلى القز بالزاي، فأبدل من الزاي السين. وعلى هذا أهل العلم أن الحرير حرام على الرجال دون النساء، ويرخص في موضع إصبع، أو إصبعين، أو ثلاث، أو أربع من أعلام الحرير، ورخص بعضهم في لبسه لأجل الحكة والقمل ". اه. وفي حديث علي عند مالك: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي، ¬

_ (¬1) • كذا! والصواب: " الأضلاع "، ففي " النهاية ": " القسية ... ثياب مضلعة فيها حرير؛ أي: فيها خطوط عريضة كالأضلاع ". (ن)

جواز لبس الحرير للرجال بقصد التداوي

وعليه أهل العلم. وفي " الأنوار ": " يجوز لبس الكتان والقطن والصوف والخز وإن كانت نفيسة ". (إذا كان فوق أربع أصابع) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [أصبعيه] (¬1) الوسطى والسبابة وضمهما. وفي لفظ لمسلم وغيره: نهى عن لبس الحرير؛ إلا موضع أصبعين، أو ثلاثة أو أربعة (¬2) . قال في " الحجة البالغة ": " لأنه ليس من باب اللباس، وربما تقع الحاجة إلى ذلك، ونهى عن لبس الحرير والديباج والقسي والمياثر والأرجوان ". اه. ( [جواز لبس الحرير للرجال بقصد التداوي] :) (إلا للتداوي) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما. ¬

_ (¬1) • كذا في " مسلم " (6 / 140) ، واللفظ له. (ن) (¬2) • و " أو " هنا للتنويع والتخيير؛ فقد أخرجه ابن أبي شيبة من هذا الوجه؛ بلفظ: " إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا - يعني: إصبعين، وثلاثا، وأربعا - "، وعند النسائي بلفظ: لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربع أصابع. كذا في " الفتح " (10 / 236) . (ن)

حكم افتراش الحرير

قال في " الحجة البالغة ": " لأنه لم يقصد حينئذ به الإرفاه، وإنما قصد به الاستشفاء ". ( [حكم افتراش الحرير] :) (ولا يفترشه) - أي: الحرير - لحديث حذيفة عند البخاري، قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه، وقال: " هو لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة ". وفي معنى ذلك أحاديث، وهذا نص في محل النزاع. وأما الاسترواح بالقياس على جواز افتراش ما فيه تصاوير؛ فقياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار. قال ابن القيم: " ولم لم يأت هذا النص؛ لكان النهي عن لبسه متناولا لافتراشه؛ كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لبس لغة وشرعا؛ كما قال أنس: قمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس. ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي؛ لكان القياس المحض موجبا لتحريمه؛ إما قياس المثل؛ أو قياس الأولى. فقد دل على تحريم الافتراش النص الخاص، واللفظ العام، والقياس الصحيح. ولا يجوز رد ذلك كله بالمتشابه من قوله - تعالى -: {خلق لكم ما في

الأرض جميعا} ، ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ظهارته؛ فإن الحكم في ذلك التحريم على أصح القولين، والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها؛ كحشو الفراش. فإن صح الفرق بطل القياس، وإن بطل الفرق منع الحكم. وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء؛ فحرموه على الرجال والنساء، وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي، وقابلهم من أباحه بنوعين. والصواب التفصيل؛ وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه، ومن حرم عليه حرم عليه، وهذا قول الأكثرين، وهي طريقة العراقيين من الشافعية ". اه. وفي " تنبيه الغافلين ": " الجلوس على الحرير والالتحاف به حرام على الرجال. وصحح الرافعي تحريم افتراشه على النساء. وخالفه النووي في ذلك. وحكى ابن الرفعة عن بعض العلماء أنه لا ينعقد النكاح بحضور الجالس على الحرير، واستبعد. وحكم القز (¬1) في التحريم حكم الحرير على الأصح، إذا كان على صبي ¬

_ (¬1) • هي " القسي " - بفتح القاف وتشديد المهملة -؛ وهو الحرير؛ نسبته إلى " قس ": بلد على ساحل مصر من جهة الشام، كما في " الفتح ". (ن)

لبس الثوب المعصفر حرام

غير بالغ ثوب حرير؛ قال الغزالي: " الصحيح أن ذلك منكر يجب نزعه عنه إن كان مميزا؛ بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " هذان حرامان على ذكور أمتي ". وكما يجب منع الصبي عن شرب الخمر؛ لا لكونه مكلفا؛ ولكن لكونه يأنس به، فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه، كذلك شهوة التزين بالحرير. وأما الصبي الذي لا تمييز له؛ فيضعف - يعني: التحريم - في حقه، ولا تخلو عن احتمال، والعلم فيه عند الله تعالى ". هذا كلام الغزالي. وصحح النووي الجواز مطلقا، والله - تعالى - أعلم ". اه. وروي عن ابن عباس، وأنس: أنه يجوز افتراش الحرير، وإليه ذهب الحنفية، واستدل لهم بأن افتراش الحرير إهانة، وليس هذا مما يستدل به على المسائل الشرعية على فرض عدم المعارض؛ فكيف وقد عارضه الدليل الصحيح الصريح؟ ! ( [لبس الثوب المعصفر حرام] :) (ولا المصبوغ بالعصفر) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو عند مسلم وغيره، قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ ثوبين معصفرين، فقال: " إن هذه من ثياب الكفار؛ فلا تلبسها ". وأخرج مسلم، وغيره - أيضا - من حديث علي، قال: " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي،

لبس ثوب الشهرة حرام

وعن القراءة في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر ". وفي الباب أحاديث. والعصفر يصبغ الثوب صبغا أحمر على هيئة مخصوصة، فلا يعارضه ما ورد في لبس مطلق الأحمر؛ كما في " الصحيحين " من حديث البراء، قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مربوعا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه ". وفي الباب أحاديث؛ يجمع بينها بأن الممنوع منه هو الأحمر الذي صبغ بالعصفر، والمباح هو الأحمر الذي لم يصبغ به (¬1) . ( [لبس ثوب الشهرة حرام] :) (ولا ثوب شهرة) ؛ لحديث ابن عمر: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا؛ ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة "، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، ورجال إسناده ثقات (¬2) . والمراد به الثوب الذي يشهر لابسه بين الناس، ويلحق بالثوب غيره من ¬

_ (¬1) • هذا هو الصواب؛ خلافا لقول ابن القيم في " الزاد " (1 / 172) : " والذي يقوم عليه الدليل؛ تحريم لباس الأحمر، أو كراهيته كراهية شديدة ". على أني أقول: إن النهي عن المصبوغ بالعصفر معلل في حديث ابن عمر بأنه من ثياب الكفار؛ وبانتفاء العلة ينتفي المعلول، والله أعلم. (ن) (¬2) • وسنده حسن، كما بينته في " حجاب المرأة المسلمة " (ص 88) (ن) .

لبس ثوب الرجل للمرأة حرام والعكس

الملبوس ونحوه مما يشهر به اللابس له لوجود العلة. ( [لبس ثوب الرجل للمرأة حرام، والعكس] :) (ولا ما يختص بالنساء، ولا العكس) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي (¬1) : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الرجل يلبس لبس المرأة، والمرأة تلبس لبس الرجل ". وفي " صحيح البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء ". وفي الباب أحاديث. ( [التحلي بالذهب للرجل حرام] :) (ويحرم على الرجال التحلي بالذهب لا بغيره) ؛ لما تقدم من الأحاديث الواردة في تحريم الذهب، وهو لا يكون إلا حلية؛ إذ لا يمكن لبسه. وأما ما يخلط في بعض الثياب بالحرير أو بغيره، فهو فضة لا ذهب، وإن سماه الناس ذهبا. ومن الأدلة على ذلك ما ورد في المنع من خاتم الذهب، وما ورد فيمن حلى حبيبا له ولو بخربصيصة (¬2) . ¬

_ (¬1) • وصححه الحاكم (4 / 194) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي؛ فأصابا. (ن) (¬2) الخربصيصة - بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وفتح الباء، وصادين مهملتين بينهما ياء مثناة -: هي الهنة تتراءى في الرمل، لها بصيص كأنها عين جرادة. والمراد هنا: الشيء الحقير من الحلي. وقع في " الأصل " بالجيم بدل الخاء؛ وهو خطأ. (ش)

وقد جمع الماتن رسالة مستقلة في تحريم التحلي بقليل الذهب وكثيره. وجمع أيضا رسالة مستقلة في تحلي النساء بالذهب، وهل يجوز ذلك أم لا؟ فليرجع إليهما. قال المجد في " القاموس ": " خربصيصة؛ أي: شيء من الحلي "، ونحوه في " تاج اللغات ". وفي " نهاية الحديث ": " الخربصيصة: الهنة التي تتراءى في الرمل، لها بصيص كأنها عين جرادة. قال في " الحجة البالغة ": " ومن تلك الرؤوس الحلي المترفة وهنا أصلان: أحدهما: أن الذهب هو الذي يفاخر به العجم، ويفضي جريان الرسم بالتحلي به إلى الإكثار من طلب الدنيا - دون الفضة -، ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب وقال: " ولكن عليكم بالفضة؛ فالعبوا بها " (¬1) . والثاني: أن النساء أحوج إلى التزين ليرغب فيهن أزواجهن، ولذلك جرت عادة العرب والعجم جميعا بأن يكون تزينهن أكثر من تزينهم، فوجب أن يرخص لهن أكثر مما يرخص لهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها ". وقال صلى الله عليه وسلم في خاتم ذهب في يد رجل: " يعمد أحدكم إلى جمر من نار فيجعله في يده "، ورخص عليه السلام في خاتم الفضة؛ لا سيما لذي ¬

_ (¬1) • هو تمام الحديث الآتي: " من أحب ... "؛ وسنده صحيح، كما قال المنذري (2 / 273) . (ن)

سلطان، وقال: " ولا تتمه مثقالا " (¬1) ؛ ونهى النساء عن غير المقطع من الذهب، وهو ما كان قطعة واحدة كبيرة، قال: " من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه من ذهب ". وذكر على هذا الأسلوب الطوق والسوار. وكذا جاء التصريح بقلادة من ذهب، وسلسلة من ذهب، وبين المعنى في هذا الحكم حيث قال: " أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به " (¬2) . وكان لأم سلمة أوضاح (¬3) من ذهب، والظاهر أنها كانت مقطعة. وقال صلى الله عليه وسلم: " أحل الذهب للإناث "؛ معناه: الحل في الجملة. هذا ما يوجبه مفهوم هذه الأحاديث، ولم أجد لها معارضا. ومذهب الفقهاء في ذلك معلوم ومشهور، وهو التحليل مطلقا بلا فرق بين المقطع وغيره، والله - تعالى - أعلم بحقيقة الحال ". ¬

_ (¬1) • ولكنه حديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وأحمد، واستغربه الترمذي؛ لأن فيه أبا طيبة المروزي؛ وهو ضعيف. (ن) (¬2) • رواه أبو داود، والنسائي؛ عن ربعي بن خراش، عن امرأته، عن أخت لحذيفة؛ مرفوعا: " يا معشر النساء {ما لكن في الفضة ما تحلين به؟} أما إنه ... . ". وامرأة ربعي مجهولة؛ فالحديث ضعيف. (ن) قلت: وانظر " آداب الزفاف " (ص 259) لشيخنا. (¬3) • الأوضاح؛ قال في " النهاية ": " هي نوع من الحلي يعمل من الفضة، سميت بها لبياضها، واحدها وضح ". فلعل تسميتها هنا أوضاحا؛ مع أنها من الذهب؛ للمعانها! (ن)

حكم التختم باليمين واليسار والسبابة والوسطى

( [حكم التختم باليمين، واليسار، والسبابة، والوسطى] :) أقول: وأما التختم؛ فقد أخرج أبو داود من حديث عمر، والنسائي من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يتختم في يساره. وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث علي، والترمذي، والنسائي - أيضا - من حديث أبي رافع، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتختم في يمينه ". فالكل جائز بدون كراهة، ولم يرد النهي إلا عن التختم في السبابة والوسطى؛ كما أخرجه مسلم، وأهل " السنن " من حديث علي بلفظ: نهائي أن أجعل الخاتم في هذه أو في التي تليها، وأشار إلى السبابة.

الكتاب السادس عشر كتاب الأضحية

(الكتاب السادس عشر: كتاب الأضحية)

كتاب الأضحية

(16 - كتاب الأضحية) ( [الباب الأول: أحكام الأضحية] ) ( [مشروعية الأضحية] :) (تشرع لأهل كل بيت) ؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري، قال: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، أخرجه ابن ماجه، والترمذي - وصححه - (¬1) . وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث أبي سريحة (¬2) بإسناد صحيح. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث مخنف (¬3) بن سليم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يا أيها الناس! على كل أهل بيت في كل عام أضحية " (¬4) . ¬

_ (¬1) • قلت: وسنده صحيح على شرط مسلم. (ن) (¬2) • في الأصل: (شريحة) ؛ بالشين المعجمة؛ والصواب: (سريحة) ؛ بالسين المهملة المفتوحة، بعدها راء مكسورة. وحديثه هذا؛ صححه الحاكم (4 / 228) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن) (¬3) بكسر الميم، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح النون. ووقع في الأصل بالحاء المهملة؛ وهو خطأ. (ش) (¬4) حديث حسن؛ انظر " صحيح سنن ابن ماجه " (2 / 200) .

حكم الأضحية

وفي إسناده أبو رملة، واسمه عامر؛ قال الخطابي: مجهول. ( [حكم الأضحية] :) وقد اختلف في وجوب الأضحية، فذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة، وبه قال مالك، وقال: لا أحب لأحد ممن قوي على ثمنها أن يتركها، وعليه الشافعي. وذهب ربيعة، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والليث، - وبعض المالكية - إلى أنها واجبة على الموسر، وحكي عن مالك، والنخعي. وتمسك القائلون بالوجوب بمثل حديث: " على كل أهل بيت أضحية " المتقدم، وبمثل حديث أبي هريرة عند أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم - وقال ابن حجر في " الفتح ": " رجاله ثقات؛ لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب؛ قاله الطحاوي وغيره (¬1) - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من وجد سعة فلم يضح؛ فلا يقربن مصلانا ". ومن أدلة الموجبين: قوله - تعالى - {فصل لربك وانحر} ، والأمر للوجوب. وقد قيل: إن المراد تخصيص الرب بالنحر لا للأصنام، ومن ذلك حديث جندب بن سفيان البجلي في " الصحيحين " وغيرهما، قال: قال رسول ¬

_ (¬1) • قلت: قد رواه مرفوعا غير واحد من الثقات؛ كما بينته في " التعليق على الترغيب "؛ فهو صحيح مرفوعا وموقوفا. (ن)

الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان ذبح قبل أن يصلي؛ فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا؛ فليذبح باسم الله ". ومن حديث جابر نحوه. وجعل الجمهور حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى عمن لم يضح من أمته بكبش - كما في حديث جابر عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، والترمذي، وأخرج نحوه أحمد، والطبراني، والبزار من حديث أبي رافع بإسناد حسن (¬2) - قرينة صارفة لما تفيده أدلة الموجبين. ولا يخفى أنه يمكن الجمع بأنه ضحى عن غير الواجدين من أمته؛ كما يفيده قوله: " من لم يضح من أمته "، مع قوله: " على كل أهل بيت أضحية ". وأما مثل حديث: " أمرت بالأضحى ولم يكتب عليكم " ونحوه؛ فلا تقوم بذلك الحجة؛ لأن في أسانيدها من رمي بالكذب ومن هو ضعيف بمرة. ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3 / 375) ؛ عن أبي عياش، عن جابر. وأبو عياش - هذا - لم يوثقه أحد؛ فهو مجهول. (ن) (¬2) • كلا؛ بل هو ضعيف، فيه علة خفية؛ وهي أن الحديث من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبي رافع؛ كذا أخرجه أحمد (6 / 8، 391، 392) . وابن عقيل - هذا - مختلف فيه، وقد اختلف عليه في إسناده، كما بينه الحافظ في " الفتح " (10 / 7 - 8) . وعلي بن الحسين إنما أدرك من حياة أبي رافع نحو ثلاث سنوات؛ فيبعد أن يكن سمع الحديث منه وحفظه. (ن) قلت: وآخر ما وصل إليه شيخنا فيه: أنه صحيح، كما تراه مفصلا في " الإرواء " (1138) .

الشاة تجزئ عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة

( [الشاة تجزئ عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة] :) (وأقلها شاة) ؛ لما تقدم. وقال المحلي: " البعير والبقرة تجزئ عن سبعة، والشاة تجزئ عن الواحد. وإن كان له أهل بيت حصلت بجميعهم، وكذا يقال في كل واحد من السبعة؛ يعني: المشتركين في البدنة والبقرة. فالتضحية سنة كفاية لكل أهل بيت، وسنة عين لمن ليس له بيت. وعند الحنفية: الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، والبقرة والبدنة لا تجزئان إلا عن سبعة سبعة. ولم يفرقوا بين أهل البيت وغيره. وتأويل الحديث عندهم أن الأضحية لا تجب إلى على غني، ولم يكن الغني في ذلك الزمان غالبا إلا صاحب البيت، ونسبت إلى أهل بيته على معنى أنهم يساعدونه في التضحية، ويأكلون لحمها، وينتفعون بها. ويصح اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة، وإن كانوا أهل بيوت شتى، وهو قول العلماء، وقاسوا الأضحية على الهدي، ولا أضحية عن الجنين، وهو قول العلماء ". ( [بيان وقت الأضحية] :) (ووقتها بعد صلاة عيد النحر) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان ذبح قبل أن نصلي؛ فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا؛ فليذبح باسم الله "، وهو في " الصحيحين " - كما تقدم قريبا -.

وفي " الصحيحين " من حديث أنس عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ". قال ابن القيم: " ولا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. سأله أبو بردة بن نيار عن شاة ذبحها يوم العيد؟ فقال: " أقبل الصلاة؟ "، قال: نعم، قال: " تلك شاة لحم " الحديث. قال: وهو صحيح صريح في أن الذبح قبل الصلاة لا يجزئ؛ سواء دخل وقتها؛ أو لم يدخل، وهذا الذي ندين الله به قطعا، ولا يجوز غيره ". اه. وفي الباب أحاديث، وفيه التصريح بأن المعتبر صلاة الإمام. ويمتد (إلى آخر أيام التشريق) ؛ لحديث جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " كل أيام التشريق ذبح "، أخرجه أحمد، وابن حبان في " صحيحيه "، والبيهقي، وله طرق يقوي بعضها بعضا (¬1) . وقد روي أيضا من حديث جابر، وغيره. وقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة، ومن بعدهم. والخلاف في المسألة معروف. وفي " الموطأ " عن ابن عمر: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى، ومثل ذلك عن علي بن أبي طالب (¬2) ، وعليه الحنفية. ¬

_ (¬1) • أحدها حسن الإسناد؛ عند الدارقطني، كما بينته في " التعليقات الجياد ". (ن) (¬2) • الذي نقله ابن القيم في " الزاد " عن علي بلفظ: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده؛ وجزم بنسبته إليه. وهذا خلاف ما عزاه المصنف إلى علي. (ن)

أفضل الأضحية

ومذهب الشافعية: أنه يمتد وقته إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق؛ لحديث الحاكم الدال على ذلك. ( [أفضل الأضحية] :) (وأفضلها) أي: الضحايا (أسمنها) ؛ لحديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين ... الحديث، وهو عند أحمد وغيره بإسناد حسن (¬1) . وأخرج البخاري من حديث أبي أمامة بن سهل، قال: " كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون ". أقول: الحق أن أفضل الأضحية الكبش الأقرن؛ كما ورد الحديث بذلك عن عبادة بن الصامت عند أبي داود (¬2) ، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي مرفوعا بلفظ: " خير الأضحية الكبش الأقرن ". وأخرجه أيضا الترمذي. وأخرجه أيضا ابن ماجه، والبيهقي، من حديث أبي أمامة، وفي إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) • فيه نظر؛ فإنه في " المسند " (6 / 392) ؛ عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن علي بن الحسين، عن أبي رافع؛ وقد سبق قريبا بيان ما فيه من الوهن. (ن) (¬2) • وفي سنده حاتم بن أبي نصر؛ وهو مجهول. وعفير بن معدان؛ إنما هو في سند حديث أبي أمامة فقط؛ وهو واه كما قال المنذري في " الترغيب " (2 / 103) . (ن)

يجزئ في الأضحية جذع من الضأن

والأضحية هي غير الهدي، وقد ورد النص فيها، فوجب تقديمه على القياس. وحديث الكبش الأقرن نص في محل النزاع، فإن كان خاصا بالفحل فظاهر، وإن كان شاملا له وللخصي؛ فالأفضلية لا تختص بالخصي، وتضحية النبي صلى الله عليه وسلم بالخصي لا تستلزم أن يكون أفضل من غيره؛ بل غاية ما هناك أن الخصي يجزئ. ( [يجزئ في الأضحية جذع من الضأن] :) (ولا يجزئ ما دون الجذع من الضأن) ؛ لحديث جابر عند مسلم، وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تذبحوا إلا مسنة؛ إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " (¬1) . وأخرج أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نعم - أو: نعمت - الأضحية الجذع من الضأن (1) " وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي، والطبراني من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجوز الجذع من الضأن ضحية " (1) . وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا بين أصحابه، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله! أصابني جذع؟ فقال: " ضح به ". ¬

_ (¬1) هذه أحاديث ضعيفة؛ تجد الكلام عليها مفصلا في " السلسلة الضعيفة " (64 - 65) .

يجزئ في الأضحية ثني من المعز

وقد ذهب إلى أنه يجزئ الجذع من الضأن الجمهور. ومن زعم أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد، أو عن ثلاثة فقط، أو زعم أن غيرها أفضل منها؛ فعليه الدليل. ولا يفيده ما ورد في الهدي، فذلك باب آخر. ( [يجزئ في الأضحية ثني من المعز] :) (و) لا يجزئ دون (الثني من المعز) ، وهو ما استكمل سنتين، وطعن في الثالثة؛ لحديث أبي بردة في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال: يا رسول الله! إن عندي داجنا جذعة من المعز؟ فقال: " اذبحها؛ ولا تصلح لغيرك ". وأما ما روي في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عقبة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ضح به أنت ". والعتود من ولد المعز: ما أتى عليه حول؛ فقد أخرج البيهقي عنه بإسناد صحيح، أنه قال: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي، فبقي عتود منها؟ فقال: " ضح به أنت، ولا رخصة لأحد فيه بعدك " (¬1) . وقد حكى النووي الاتفاق على أنه لا يجزئ الجذع من المعز. قلت: اتفقوا على أنه لا يجوز من الإبل والبقر والمعز دون الثني. والجذع من الضأن يجزئ عندهم. ¬

_ (¬1) انظر " إرواء الغليل " (1144) .

الأضحية التي لا تجزئ

ولا تجزئ مقطوعة الأذن؛ إلا أن أبا حنيفة قال: إن كان المقطوع أقل من النصف؛ فيجوز. ( [الأضحية التي لا تجزئ] :) (ولا الأعور والمريض والأعرج والأعجف (¬1) وأعضب القرن والأذن (¬2)) ؛ لحديث البراء عند أحمد، وأهل " السنن "، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها (¬3) ، والكسير التي لا تنقي (¬4) ؛ أي: التي لا مخ لها. ¬

_ (¬1) الأعجف: الهزيل، وشاة عجفاء: هزيلة؛ وجمع الأعجف: عجاف؛ على غير قياس. (ش) (¬2) هو ما ذهب نصف قرنه أو أذنه. (ش) (¬3) الضلع - بفتح الضاد واللام -: الميل والاعوجاج. قلت: هذا كلام صحيح بالجملة؛ أن الضلع - بفتح الضاد المعجمة واللام - هو الميل؛ وهو الذي ذكره ابن الأثير في " النهاية " (3 / 96) . لكن. . نص ابن الأثير نفسه (3 / 158) على أن الرواية؛ (الظلع) ؛ بفتح الظاء المعجمة، بعدها لام ساكنة، فقال تحت (باب الظاء مع اللام) : " الظلع - بالسكون -: العرج. . "، ثم قال: " ومنه حديث الأضاحي: (ولا العرجاء البين ظلعها ". (ش) (¬4) الكسير؛ فعيل بمعنى مفعول - وفي " الأصل ": الكسيرة بالهاء، وهو خطأ -: هي المنكسرة الرجل التي لا تقدر على المشي. ومعنى " لا تنقي " - بضم التاء، وإسكان النون، وكسر القاف -: أنها لا نقي - بكسر النون، وإسكان القاف - لها. والنقي: المخ. (ش)

وقد وقع في رواية: العجفاء، بدل: الكسيرة. وأخرج أحمد، وأهل " السنن " - وصححه الترمذي - من حديث علي، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نضحي بأعضب القرن والأذن "، قال قتادة: العضب: النصف فأكثر من ذلك. وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، والبخاري في " تاريخه " (¬1) قال: " إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسيرة، فالمصفرة: التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة: التي ذهب قرنها من أصله، والبخقاء: التي تبخق عينها (¬2) ، والمشيعة: التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا، والكسيرة: التي لا تنقي "، وهذا التفسير هو أصل الرواية. وفي الباب أحاديث. وأما مسلوبة الألية؛ فأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي من حديث أبي سعيد، قال: اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: " ضح به "، وفي إسناده جابر الجعفي، وهو ضعيف جدا. ¬

_ (¬1) يعني: من حديث عتبة بن عبد السلمي. (ش) (¬2) قوله: " عينها "؛ قال في " القاموس ": " البخق - محركة -: أقبح العور وأكثره غمصا، أو أن لا يلتقي شفر عينه على حدقته. بخق - كفرح ونصر -، والعين البخقاء والباخقة والبخيق والبخيقة: العوراء ". ا. هـ المراد منه. (ش) قلت: والحديث ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1149) .

كيف يوزع لحم الأضحية

( [كيف يوزع لحم الأضحية؟] :) (ويتصدق منها ويأكل ويدخر) ؛ لحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا وادخروا وتصدقوا "، وهو في " الصحيحين ". وفي الباب أحاديث. ( [مكان ذبح الأضحية:) (والذبح في المصلى أفضل) إظهارا لشعائر الدين؛ لحديث ابن عمر عند البخاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يذبح وينحر بالمصلى. ( [ما يسن لمن أراد أن يضحي] :) (ولا يأخذ من له أضحية من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي) ؛ لحديث أم سلمة عند مسلم، وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليسمك عن شعره وأظفاره ". وفي لفظ لمسلم، وغيره - أيضا -: " من كان له ذبح يذبحه؛ فإذا أهل هلال ذي الحجة؛ فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي ".

وقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب سعيد بن المسيب، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وداود، وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية. وقال الشافعي وأصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه. وحكى المهدي في " البحر " عن الشافعي وغيره: أن ترك الحلق والتقصير لمن أراد التضحية مستحب. وقال أبو حنيفة: لا يكره.

باب الوليمة

(2 - باب الوليمة) ( [الفصل الأول: أحكام وليمة العرس] ) ( [حكم الوليمة في العرس] :) (هي مشروعة) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بعد عوف: " أوْلم ولو بشاة "، وقد أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على نسائه، فأولم على صفية بتمر وسويق؛ كما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان من حديث أنس. وأخرج مسلم، وغيره من حديثه: " أنه جعل وليمتها التمر والأقط والسمن "، وهو في " الصحيحين " بنحو هذا. وفيه التصريح بأنه ما كان فيها من خبز ولا لحم. وفي " الصحيحين " أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أولم على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة. وقد قال بوجوب وليمة العرس مالك، وقيل: إن المشهور عنه أنها مندوبة.

حكم إجابة الداعي إلى وليمة العرس

وروي الوجوب عن أحمد، وبعض الشافعية، وأهل الظاهر، وهو الحق. ولم يأت في الأحاديث ما يشعر بصرف الأوامر بالوليمة عن المعنى الحقيقي (¬1) . وأما كونها بشاة فأكثر، فيمكن أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم صارفا للوجوب على فرض عدم الاختصاص به، ويمكن أن يكون الأمر بالشاة فما فوقها مقيدا بالتمكن من ذلك، فيكون واجبا مع التمكن. وذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة. ( [حكم إجابة الداعي إلى وليمة العرس] :) (ويجب الإجابة إليها) ، لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: " شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ". وفيهما من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها ". وفي لفظ لهما من حديثه: " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ". وفي آخر لمسلم، وغيره من حديثه: " من دعي فلم يجب؛ فقد عصى الله ورسوله ". ¬

_ (¬1) وهذا هو الصواب - إن شاء الله -.

وفي " مسلم "، وغيره من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك ". وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره: " إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم ". وقد نقل ابن عبد البر والقاضي عياض والنووي الاتفاق على وجوب الإجابة إلى وليمة العرس. قال في " الفتح ": وفيه نظر. نعم؛ المشهور من أقوال العلماء الوجوب. وصرح جمهور الشافعية، والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية، والحنابلة أنها مستحبة. وحكى في " البحر " عن الشافعي أن الإجابة إلى وليمة العرس مستحبة كغيرها. والأدلة المذكورة تدل على الوجوب؛ لا سيما بعد التصريح بأن من لم يجب فقد عصى الله ورسوله. أقول: أحاديث الأمر بإجابة دعوة الوليمة معناها حقيقة الوجوب، مقيدة بعدم المانع من منكر، أو مباهاة، أو حضور الأغنياء فقط، أو نحو ذلك. ولم يأت ما يدل على صرف تلك الأوامر عن معناها الحقيقي، ووقع

من يجيب إذا اجتمع الداعيان

الخلاف في إجابة دعوة غير العرس؛ هل تجب أم لا؟ فمن قال بالوجوب استدل بالرواية المطلقة المذكورة. ومن قال بعدم الوجوب قال: المطلقة محمولة على المقيدة. وقد أوضح الماتن ما هو الحق (¬1) في " شرح المنتقى ". قال البغوي: " من كان له عذر؛ وكان الطريق بعيدا يلحقه المشقة؛ فلا بأس أن يتخلف ". وفي " الأنوار ": " من شروط وجوب الإجابة إلى الوليمة أن يعم عشيرته، أو جيرانه، أو أهل حرفته؛ أغنياءهم وفقراءهم، فإن خص الأغنياء فلا يجب، ولو دعا أهل حرفته - وهم أغنياء - لزمتهم الإجابة ". قال في " المسوى ": " في كونه شرطا لوجوب الإجابة نظر؛ لأن معنى كلام أبي هريرة إثبات الشرية لهذا الطعام بوجه من الوجوه، وإثبات المعصية لمن لم يأتها وذلك صادق بأن يكون تخصيص الأغنياء مكروها للداعي، ولا يكون مانعا لتأكد الإجابة ". ( [من يجيب إذا اجتمع الداعيان؟] :) (ويقدم السابق ثم الأقرب بابا) ؛ لحديث حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن رجل من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ¬

_ (¬1) • وهو وجوب الإجابة؛ ومن الأدلة على ذلك؛ قوله صلى الله عليه وسلم: " من دعي إلى عرس أو نحوه؛ فليجب "؛ رواه مسلم، وأبو داود في رواية عن ابن عمر. انظر " الشوكاني " (6 / 152 - 153) . (ن)

شروط وجوب إجابة الدعوة

" إذا اجتمع الداعيان؛ فأجب أقربهما بابا؛ فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا، وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق "؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وفي إسناده زيد (¬1) بن عبد الرحمن الدالاني، وقد وثقه أبو حاتم، وضعفه ابن حبان (¬2) . وأخرج البخاري، وغيره من حديث عائشة: أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي جارين؛ فإلى أيهما أهدي؟ فقال: " إلى أقربهما منك بابا "، فهذا يشعر باعتبار القرب في الباب. ( [شروط وجوب إجابة الدعوة] :) (ولا يجوز حضورها إذا اشتملت على معصية) ؛ لحديث علي عند ابن ماجه (¬3) بإسناد رجاله رجال الصحيح، قال: صنعت طعاما؛ فدعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء، فرأى في البيت تصاوير، فرجع. وأخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مطعمين: عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل وهو منبطح على بطنه "، وفي إسناده انقطاع (¬4) . ¬

_ (¬1) • الصواب: " يزيد " كما في كتب الرجال، وهو مشهور بكنيته: أبو خالد. (ن) (¬2) • وهذا هو الصواب؛ أنه ضعيف لكثره خطإه، ثم هو مدلس. (ن) (¬3) • في " سننه " (2 / 323) ، وسنده صحيح. وله عنده شاهد من حديث سفينة - رضي الله عنه -. (ن) (¬4) • كذا قال! ولا أدري وجهه، بل لا معنى له؛ فإن الإسناد متصل؛ فإنه من طريق كثير بن هشام: ثنا جعفر بن برقان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقد سكت عنه أبو داود، وتبعه المنذري (5 / 353) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي. =

وقد ورد النهي عن القعود على المائدة التي تدار عليها الخمر من حديث عمر عند أحمد بإسناد ضعيف (¬1) ، ومن حديث جابر عند الترمذي - وحسنه -. وأخرجه أيضا أحمد، والنسائي، والترمذي، والحاكم من حديثه مرفوعا. وفي الباب غير ذلك. ويؤيده أدلة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر؛ ومن ذلك: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ". وهو في " الصحيحين "، وغيرهما. ¬

_ = ثم رجعت إلى الشوكاني؛ فإذا به يقول (6 / 157) : " وهو من رواية جعفر بن برقان، عن الزهري؛ ولم يسمع منه ". أقول: ولم أجد قبل الشوكاني من نفى سماعه من الزهري! بل ظاهر عبارات الأئمة أنه سمع منه، ولكنهم ضعفوا حديثه عنه خاصة، كما قال أحمد: " إذا حدث عن غير الزهري؛ فلا بأس به، وفي حديث الزهري يخطئ "؛ ونحوه عن ابن معين وغيره، وقال الحافظ في " التقريب ": " صدوق يهم في حديث الزهري "، وقال في " التهذيب ": " ومما أنكره العقيلي من حديثه عن الزهري حديث: " نهى عن مطعمين ... " الحديث ". (ن) قلت: ثم حكم الشيخ في " الإرواء " (1982) بنكارة هذا الحديث؛ فانظره. (¬1) • وهو كما قال، ولكن الحديث صحيح؛ لأن له طرقا كثيرة وشواهد أوردها المنذري في " الترغيب " (1 / 88 - 90) ، وقد تكلمت عليها في " التعليق الرغيب ". ومن أقواها؛ حديث جابر المذكور؛ فقد صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ: " إسناده جيد "، وهو كما قالوا، لولا أن أبا الزبير رواه عن جابر بالعنعنة. لكن رواه الترمذي من طريق ليث، عن طاوس، عن جابر؛ فهذه متابعة قوية؛ بيد أن ليثا - وهو ابن أبي سليم - فيه ضعف من قبل حفظه، فيصلح شاهدا للطريق الأول. (ن)

الباب الثاني أحكام العقيقة

( [الباب الثاني: أحكام العقيقة] ) ( [حكم العقيقة] :) (والعقيقة مستحبة) ، يدل على مشروعيتها حديث سلمان بن عامر الضبي عند البخاري، وغيره قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى ". وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، وصححه الترمذي، والحاكم، وعبد الحق من حديث الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل غلام رهينة بعقيقته؛ يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه ". وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا هذا الحديث (¬1) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

_ (¬1) • ويشهد لسماعه لهذا الحديث عن سمرة ما ساقه النسائي (2 / 189) عقب هذا الحديث بسنده الصحيح، عن حبيب بن الشهيد؛ قال له محمد بن سيرين: سل الحسن ممن سمع حديثه في العقيقة؟ فسألته؟ فقال: سمعته من سمرة. فالحديث صحيح. (ن)

ما يذبح عن الغلام والبنت

العقيقة؟ فقال: " لا أحب العقوق "، وكأنه كره الاسم، فقالوا: يا رسول الله {إنما نسألك عن أحدنا يولد له؟ قال: " من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل؛ عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة ". فكان هذا الحديث دليلا على أن الأحاديث الواردة في رهن الغلام بعقيقته ليست على الوجوب؛ بل للاستحباب فقط، ولو كان واجبا لم يكن مفوضا إلى الإرادة (¬1) ، ولما قال: لمن أحب أن ينسك. والأولى في تفسير قوله: " مرتهن بعقيقته ": أن العقيقة لما كانت لازمة؛ شبهت - باعتبار لزومها للمولود - بالرهن باعتبار لزومه. وقيل: إن معنى كونه مرهونا بعقيقته: أنه لا يسمى، ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها، وبه صرح صاحب " المشارق "، و " النهاية ". وقال أحمد بن حنبل: " إن معناه: إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه؛ لم يشفع لأبويه ". قلت: العقيقة سنة عند أكثر أهل العلم؛ إلا عند أبي حنيفة؛ فإنه قال: ليست بسنة. ( [ما يذبح عن الغلام والبنت] :) (وهي شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى) - وبذلك قال الشافعي - لحديث عمرو بن شعيب المذكور؛ ولحديث عائشة عند أحمد، والترمذي، وابن حبان، والبيهقي - وصححه الترمذي - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) قلت: ويرد عليه مثل قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} ؛ فليس كل ما فوض إلى الإرادة يكون دليلا على صرف الأوامر إلى الاستحباب؛ فافهم}

" عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة ". وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، والترمذي، والحاكم، والدارقطني، وصححه الترمذي من حديث أم كرز الكعبية. والمراد بقوله: " مكافأتان ": المستويتان أو المتقاربتان. ولا يعارض هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه عبد الحق وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا؛ لأن الأحاديث المتقدمة متضمنة للزيادة، وهي أيضا خطاب مع الأمة، فلا يعارضها فعله صلى الله عليه وسلم؛ كما تقرر في الأصول، والزيادة مقبولة إذا كانت غير منافية. فلا يكون الفاعل للعقيقة متسننا؛ إلا إذا ذبح عن الذكر شاتين لا شاة واحدة. وقد وقع الإجماع على أن العقيقة عن الأنثى شاة. وأما الذكر فذهب الجمهور إلى أن العقيقة عنه شاتان. وقال مالك: شاة. وقال المحلي: " يحصل أصل السنة في عقيقة الذكر بشاة وكمال السنة شاتان. وقال الشافعي: العقيقة في الأكل والتصدق كالأضحية، ويسن طبخها، ولا يكسر عظمها ". اهـ.

وقت الذبح

أقول: ليس على شيء مما ذكروه - من عدم الكسر، والفصل من المفاصل، وجميع العظام، ودفنها، وغير ذلك - دليل من كتاب ولا سنة، لا من عقل؛ بل هذه الأمور خيالات شبيهة بما يقع من النساء، ونحوهن من العوام؛ مما لا يعود على فاعله بنفع دنيوي ولا ديني. ( [وقت الذبح] :) (يوم سابع المولود) ؛ لحديث سمرة المتقدم، ولأنه لا بد من فصل بين الولادة والعقيقة، فإن أهله مشغولون بإصلاح الوالدة والولد في أول الأمر، فلا يكلفون حينئذ بما يضاعف شغلهم. وايضاً؛ فرب إنسان لا يجد شاة إلا بسعي، فلو سن كونها في أول يوم لضاق الأمر عليهم، والسبعة أيام مدة صالحة للفصل المعتد به غير الكثير. ( [وقت التسمية، وأحب الأسماء] :) (وفيه يسمى) ، وأحب الأسماء إلى الله - تعالى - عبد الله وعبد الرحمن - كما في الحديث - لأنهما أشهر الأسماء، ولا يطلقان على غيره - تعالى -، بخلاف غيرهما، وأنت تستطيع أن تعلم من هذا سر استحباب تسمية المولود بمحمد وأحمد (¬1) . فإن طوائف الناس أولعوا بتسمية أولادهم بأسماء أسلافهم المعظمين عندهم، وكان يكون ذلك تنويها بالدين، وبمنزلة الإقرار بأنه من أهله؛ وأصدق الأسماء همام، وحارث، وأخناها ملك الأملاك. ¬

_ (¬1) وحديث: " أحب الأسماء ما عبد وحمد ": فلا أصل له! ، انظر " الضعيفة " (408 - 411) .

وقت الحلق والأذان في أذن المولود

( [وقت الحلق، والأذان في أذن المولود] :) (ويحلق رأسه) ، وإماطة الأذى للتشبيه بالحاج، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة (¬1) . والسر فيه أن الأذان من شعائر الإسلام، وأعلام الدين المحمدي. ومن خاصية الأذان أن الشيطان يفر منه، والشيطان يؤذي الولد في أول نشأته؛ حتى ورد في الحديث أن استهلاله لذلك (¬2) . ( [حكم التصدق بوزن شعر المولود ذهبا أو فضة] :) (ويتصدق بوزنه ذهبا أو فضة) ؛ لأمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة الزهراء - عليها السلام - أن تحلق شعر رأس الحسن، وتصدق بوزنه من الورق. أخرجه أحمد، والبيهقي، وفي إسناده ابن عقيل، وفيه مقال (¬3) . ويشهد له ما أخرجه مالك، وأبو داود في " المراسيل "، والبيهقي من حديث جعفر بن محمد - زاد البيهقي - عن أبيه عن جده: " أن فاطمة وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، فتصدقت بوزنه فضة ". وأخرج الترمذي والحاكم من حديث علي، قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة، وقال: ¬

_ (¬1) ضعيف " الضعيفة " (321) . (¬2) كما في " صحيح البخاري " (4274) . (¬3) • والمتقرر فيه أنه حسن الحديث؛ إلا عند المخالفة. ولحديثه شواهد ذكرها المؤلف؛ ترتقي بها إلى الصحة. (ن)

" يا فاطمة! احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة "، فوزناه، فكان وزنه درهما أو بعض درهم. وأخرج الطبراني في " الأوسط " عن ابن عباس، قال: " سبعة من السنة في الصبي يوم السابع: يسمى، ويختن، ويماط عنه الأذى، ويثقب أذنه، ويعق عنه، ويحلق رأسه، ويلطخ بدم عقيقته، ويتصدق بوزنه ذهبا أو فضة "، وفي إسناده رواد بن الجراح، وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات. وفي لفظه ما ينكر؛ وهو ثقب الأذن، والتلطخ بدم العقيقة. وقد أخرج أبو داود (¬1) ، والنسائي، بإسناد صحيح من حديث بريدة الأسلمي، قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله بالإسلام؛ كنا نذبح شاة، ونحلق رأسه، ونلطخه بزعفران. وقد أخرج نحوه ابن حبان، وابن السكن، وصححاه من حديث عائشة. وقد ذهب الظاهرية، والحسن البصري إلى وجوب (¬2) العقيقة، وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة، وقيل: إنها عنده تطوع. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 9) ؛ وهو صحيح، كما قال المؤلف. (ن) (¬2) • وكذلك قال الليث بن سعد، كما قال في " الفتح " (9 / 482) ، قال: " وقد جاء الوجوب أيضا عن أبي الزناد، وهي رواية عن أحمد ". (ن)

الكتاب السابع عشر كتاب الطب

(الكتاب السابع عشر: كتاب الطب)

كتاب الطب

(17 - كتاب الطب) وحقيقته: التمسك بطبائع الأدوية الحيوانية، والنباتية، أو المعدنية، والتصرف في الأخلاط نقصا وزيادة. والقواعد الملية تصححه؛ إذ ليس فيه شائبة شرك، ولا فساد في الدين والدنيا؛ بل فيه نفع كثير، وجمع لشمل الناس. ( [مشروعية التداوي بالحلال] :) (يجوز التداوي) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله ". وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء ". وأخرج أحمد، وأبو داود (¬1) ، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، وصححه أيضا ابن خزيمة، والحاكم من حديث أسامة: قالت الأعراب: يا رسول ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 150) ؛ وسنده صحيح. (ن)

التوكل مع الصبر أفضل

الله {ألا نتداوى؟ قال: " نعم عباد الله} تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء؛ إلا داء واحدا "، قالوا: يا رسول الله {وما هو؟ قال: " الهرم ". وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي (¬1) - وحسنه - من حديث أبي خزامة، قال: قلت: يا رسول الله} أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها؛ هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله ". قلت: وعلى هذا اتفق المسلمون؛ لا يرون به بأسا. ( [التوكل مع الصبر أفضل] :) (والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين " وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته امرأة سوداء، فقال: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك "، قالت: أصبر. وفي " الصحيحين " أيضا من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ¬

_ (¬1) • في " السنن " (3 / 169) ؛ عن أبي خزامة، عن أبيه، ثم رواه في المكان المشار إليه وفي موضع آخر (3 / 199 - 200) ؛ عن ابن أبي خزامة، عن أبيه، ثم قال: " وقد روى غير واحد هذا: عن سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه؛ وهذا أصح ". قلت: فعلى هذا؛ فأبو خزامة هو تابعي الحديث ليس صحابيّه، وهو مجهول كما في " التقريب " وغيره؛ فالحديث ضعيف، ومن هذا الوجه رواه الحاكم (4 / 199) . ورواه عن صالح الأخضر، عن الزهري، عن عروة عن حكيم بن حزام ... به، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي { قلت: وصالح - هذا - ضعيف، وقد خالف ثقتين روياه عن الزهري بالسند الأول} (ن) قلت: ثم حسنه شيخنا في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " (11) .

التداوي بالمحرمات حرام

" يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب؛ هم الذي لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ". ولا يخالف هذا ما تقدم من الأمر بالتداوي، فالجمع ممكن بأن التفويض أفضل مع الاقتدار على الصبر؛ كما يفيده قوله: " إن شئت صبرت ". وأما مع عدم الصبر على المرض، وصدور الحرج، والحرد، وضيق الصدر من المرض؛ فالتداوي أفضل؛ لأن فضيلة التفويض قد ذهبت بعدم الصبر (¬1) . ( [التداوي بالمحرمات حرام] :) (ويحرم بالمحرمات) ؛ لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث، أخرجه مسلم، وغيره. وأخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا ¬

_ (¬1) خالف الشارح ما سار عليه في كتابه من أوله؛ وهو إبقاء العام على عمومه، وأن الأمر للوجوب إلا إن دل دليل على صرفه عنه؛ وهذا هو الحق عند الأصوليين والمحدثين والفقهاء، وجمع بين أحاديث الأمر بالتداوي وبين الأحاديث الأخرى بجمع غير منطبق على القواعد الصحيحة. والحق: أن التداوي واجب، وتركه حرام؛ لورود الأمر به صريحا في غير ما حديث، وأن الكي بالنار - وهو نوع منه - جائز، وتركه أفضل؛ للأحاديث الأخرى الدالة على الترغيب في تركه. وأما الرقى والدعاء؛ فليسا من أنواع الدواء، فمن فعلهما على طريقهما الشرعي فحسن، ومن تركهما فهو أفضل له؛ وبذلك يظهر أن لا تعارض بين الأحاديث أصلا، والله أعلم. (ش)

بحرام "، في إسناده إسماعيل بن عياش (¬1) . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالخمر؛ كما في " صحيح مسلم "، وغيره. وفي " البخاري " عن ابن مسعود، أنه قال: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". وقد ذهب إلى تحريم التداوي بالأدوية النجسة والمحرمة الجمهور. ولا يعارض هذا إذنه صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ كما في " الصحيح "؛ لأنها لم تكن نجسة ولا محرمة، ولو سلمنا تحريمها؛ لكان الجمع ممكنا ببناء العام على الخاص. قال في " المسوى ": " اختلف أهل العلم في التداوي بالشيء النجس: فأباح كثير منهم التداوي به إلا الخمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للرهط العرنيين شرب أبوال الإبل، وأما الخمر فقال: " إنها ليست بدواء، ولكنها داء ". وقال بعضهم: لا يجوز التداوي بالنجس، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث، والمراد به خبث النجاسة. وقال آخرون: المراد به الخبيث من جهة الطعم والسم ". اه. ¬

_ (¬1) • ليس هو علة الحديث؛ بل شيخه ثعلبة بن مسلم، وهو شامي، لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ: " مستور ". ولكن الحديث صحيح - من حيث معناه - لشواهده. (ن)

الكي يكره تنزيها

وفي " الحجة البالغة ": " إلا المداواة بالخمر؛ إذ للخمر ضراوة لا تنقطع، والمداواة بالخبيث - أي: السم ما أمكن العلاج بغيره - فإنه ربما يفضي إلى القتل، والمداواة بالكي - ما أمكن بغيره - لأن الحرق بالنار أحد الأسباب التي تنفر منها الملائكة ". اه. وقد استوفيت الكلام على هذه المسألة في كتابي " دليل الطالب إلى أرجح المطالب ". ( [الكي يكره تنزيهاً] :) (ويكره الاكتواء) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري - وغيره (¬1) -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي "، وفي لفظ: " وما أحب أن أكتوي ". وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - من ¬

_ (¬1) سيورده المصنف - بعد - معزواً إلى " الصحيحين ". (¬2) • في " المسند (4 / 427، 430) ، والترمذي (3 / 162) ، وابن ماجه (2 / 352) ، وكذا الحاكم (4 / 213) ، كلهم عن الحسن، عن عمران، به؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي {وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". قال المنذري في " اختصار السنن " (5 / 351) : " وفيما قاله نظر؛ فقد ذكر غير واحد من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران ". ولكن قد صح متصلا: عند أبي داود (2 / 152) ، وأحمد أيضا (4 / 444، 446) ، والحاكم (4 / 416) ؛ عن مطرف، عن عمران؛ وهذا سند صحيح على شرط مسلم، ومطرف - هذا -: هو ابن عبد الله بن الشخير، وقد لقي عمران؛ وليس هو ابن طريف كما توهم المنذري} ثم هو من شيوخ الحسن البصري، فلعله هو الواسطة بينه وبين عمران في هذا الحديث! ولعله لما سبق؛ قال الحافظ في " الفتح " (10 / 126) : " وسنده قوي ". (ن)

مشروعية الحجامة

حديث عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي، فاكتوينا؛ فما أفلحنا ولا أنجحنا. وقد ورد ما يدل على أن النهي عن الكي للتنزيه لا للتحريم؛ كما في حديث جابر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين. وأخرج الترمذي (¬1) - وحسنه - من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد ابن زرارة من الشوكة. ووجه الكراهة: أن في ذلك تعذيبا بالنار، ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار، وقد قيل: إن وجه الكراهة غير ذلك. وقد جمع بين الأحاديث بجموعات غير ما ذكرنا. ( [مشروعية الحجامة] :) (ولا بأس بالحجامة) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن كان في شيء من أدويتكم خير؛ ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي ". ¬

_ (¬1) • في " سننه " (3 / 162) ؛ وكذا الطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 385) ؛ عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس؛ وهذا سند صحيح إذا كان الزهري سمعه من أنس. وهو في " المستدرك " (4 / 417) من هذا الوجه. (ن)

وقد تقدم حديث ابن عباس مثله. وقد ثبت من حديث أنس عند الترمذي، وأبي داود بإسناد صحيح (¬1) ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل (¬2) ، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. وأخرج أبو داود (¬3) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من احتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين؛ كان شفاء من كل داء "، ولا بأس بإسناده. وفي الباب أحاديث متضمنة لذكر الأيام التي ينبغي فيها الحجامة. وليس المراد هنا إلا الاستدلال على جوازها. قلت: وعلى هذا عمل المسلمين. ¬

_ (¬1) • وقال الحاكم (4 / 210) : " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي؛ وفيه علة دقيقة؛ وهي: أنه من رواية قتادة عن أنس؛ وقتادة يدلس، وقد عنعنه. (ن) (¬2) الأخدعان: عرقان في جانب العنق. والكاهل: ما بين الكتفين. (ش) (¬3) • في " سننه " (2 / 151) ، وكذا الحاكم (4 / 210) ؛ من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا. وهذا إسناد حسن، وفي الجمحي ضعف يسير، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي. وللحديث شاهدان أشار إليهما الحافظ في " الفتح "، (10 / 166) ، فالحديث بهما صحيح (ن) .

مشروعية الرقية بالوارد

( [مشروعية الرقية بالوارد] :) (و) لا بأس (بالرقية) ، وحقيقتها: تمسك بكلمات لها تحقق في المثال وأثر. والقواعد الملية لا تدفعها؛ ما لم يكن فيها شرك؛ لا سيما إذا كان من القرآن أو السنة، أو ما يشبههما من التضرعات إلى الله - تعالى -. وكل حديث فيه نهي عن الرقي والتمائم والتولة (¬1) ؛ فمحمول على ما فيه شرك، أو انهماك في التسبب بحيث يغفل عن الباري جل شأنه. وفي " المسوى ": اختلفت الأحاديث في الاسترقاء، ووجه الجمع: أن تحمل على الأحوال المتغايرة، فالمنهي من الرقى ما كان فيه شرك، أو كان يذكر فيه مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو؟ ولعله يدخل فيه سحر أو كفر. وأما ما كان بالقرآن، وبذكر الله - تعالى - فإنه مستحب. ثم للرقية أنواع؛ بعضها مأثور (¬2) عن السلف؛ فقد روي عن عائشة أنها كانت لا ترى بأسا أن يعوذ في الماء - أي: يقرأ التعوذ، وينفث في الماء - ثم يعالج به المريض. وقال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض. ¬

_ (¬1) التولة - بكسر التاء المثناة، وفتح الواو -: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. (ش) (¬2) وجل هذا مما لم يصح سنده! فتنبه.

مشروعية الرقية من العين وغيرها

وأمر ابن عباس رجلا أن يكتب لامرأة تعسر عليها الولادة آيتين من القرآن وكلمات، ثم يغسل وتسقى. وسئل سعيد بن المسيب عن الصحف الصغار يكتب فيها القرآن؛ تعلق على النساء والصبيان؟ فقال: لا بأس بذلك إذا جعل في كبر (¬1) من ورق، أو شيء من الأديم، أو يخرز عليه. وقد روي النفث في الأحاديث المرفوعة. ( [مشروعية الرقية من العين وغيرها] :) (بما يجوز من العين وغيرها) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره، قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من العين والحمة (¬2) والنملة. والمراد بالحمة: السم من ذوات السموم، وبالنملة: القروح تخرج من الجنب. وأخرج مسلم، وغيره من حديث عوف بن مالك، قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: " اعرضوا علي رقاكم؛ لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ". وفي " صحيح مسلم " من حديث جابر، قال: نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) • أي: طبل صغير؛ وهو بفتحتين. (ن) (¬2) بضم الحاء وفتح الميم المخففة. (ش)

فقالوا: يا رسول الله {إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى؟ قال: فعرضوها عليه، فقال: " ما أرى بأسا؛ فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه ". وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله؛ نفث عليه بالمعوذات، فلما مرض مرضه الذي مات فيه؛ جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها أعظم بركة من يدي. وما ورد من الأدلة الدالة على النهي عن الرقى، وأنها من الشرك؛ فهي محمولة على الرقية بما لا يجوز؛ كالتي تكون بأسماء الشياطين والطواغيت، ونحو ذلك. وكذلك يحمل على هذا ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة عند أحمد (¬1) ، وابن ماجه، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اكتوى أو استرقى؛ فقد برئ من التوكل ". وقد ورد في " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين. وأخرج أحمد (¬2) ، والنسائي، والترمذي - وصححه - من حديث أسماء بنت عميس: " أنها قالت: يا رسول الله} إن بني جعفر تصيبهم العين؛ ¬

_ (¬1) • في " المسند " (4 / 249، 251، 252، 253) ؛ عن عقار بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه؛ ومن هذا الوجه رواه الآخرون. وهذا سند حسن؛ عقار - هذا - وثقه العجلي، وابن حبان، وقال الحافظ: " صدوق "، وقد صححه الحاكم (4 / 415) ، ووافقه الذهبي. (ن) (¬2) • في " المسند " (6 / 438) ؛ وسنده صحيح. وفي حديث ابن عباس عند مسلم (7 / 13 - 14) زيادة: " وإذا استغسلتم فاغتسلوا ". (ن)

أفنسترقي لهم؟ قال: " نعم؛ فلو كان شيء سابق القدر سبقته العين ". وأخرج نحوه مسلم، وغيره من حديث ابن عباس. وفي الباب أحاديث. وفيها ذكر الاستغسال من العين - أي: غسل وجه العائن، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخل (¬1) إزاره في قدح - ثم يصب الماء على من أصيب بالعين على رأسه وظهره من خلفه. أخرج ذلك أحمد (¬2) ، ومالك في " الموطأ "، والنسائي، وصححه ابن حبان. قال الزهري: يؤتى الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه فيمضمض، ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على كفه اليمنى في القدح، ثم يغسل يده اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبة اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبة اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة. ¬

_ (¬1) • وهو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن؛ ذكره المازري؛ كما في " الفتح ". (ن) (¬2) • في " المسند " (3 / 486 - 487) ؛ بسند صحيح. وكذلك رواه في " الموطأ " (3 / 118 - 119) . (ن)

الكتاب الثامن عشر كتاب الوكالة

(الكتاب الثامن عشر: كتاب الوكالة)

كتاب الوكالة

(18 - كتاب الوكالة) هي أن يكون أحدهما يعقد العقود لصاحبه. ( [مشروعية الوكالة] :) (يجوز لجائز التصرف أن يوكل غيره في كل شيء ما لم يمنع منه مانع) ؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في قضاء الدين؛ كما في حديث أبي رافع: أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن يقضي الرجل بكره، - وقد تقدم -. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في استيفاء الحد؛ كما في حديث: " واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها "، وهو في " الصحيح " (¬1) - وسيأتي -. وثبت عنه التوكيل في القيام على بدنة، وتقسيم جلالها وجلودها، وهو في " الصحيح " (¬2) . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في حفظ زكاة رمضان؛ كما في " صحيح البخاري " من حديث أبي هريرة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه، وقد ¬

_ (¬1) • أي " البخاري " (8 / 171) ، و " مسلم " (5 / 121) ؛ واللفظ لمسلم. (ن) (¬2) • " صحيح مسلم ". (ن)

تقدم في الضحايا. وثبت (¬1) عنه صلى الله عليه وسلم أنه وكل أبا رافع، ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة، وقد تقدم. وثبت عنه (¬2) صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر: " إذا أتيت وكيلي؛ فخذ منه خمسة عشر وسقا "؛ كما أخرجه أبو داود، والدارقطني. وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ما يفيد جواز الوكالة، فلا يخرج عن ذلك إلا ما منع منه مانع، وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للموكل أن يفعله ويجوز للوكيل؛ كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر، أو الخنزير، أو نحو ذلك؛ فإن ذلك لا يجوز، ولا يكون محللا للثمن؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه "، وقد تقدم. وقد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على جواز التوكيل؛ كقوله ¬

_ (¬1) • في ثبوت هذا نظر؛ فإنه من رواية سليمان بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع ... الحديث؛ رواه مالك (1 / 320 - 321) ، وهذا مرسل. ووصل الترمذي وغيره له - من طريق مطر الوارق، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع -؛ لا يعطيه قوة؛ لأنه لم يسنده غير مطر، كما قال الترمذي؛ ومطر هذا سيئ الحفظ، فلا يحتج بما خالف فيه الثقات. وإذا عرفت هذا؛ فلا يهمنا البحث في سماع سليمان من أبي رافع، أم لا {كما فعل الشوكاني (5 / 228) ؛ لأنه لو صح سماعه منه لكان مرسلا؛ لما عرفت من ضعف مطر؛ فتنبه} (ن) (¬2) • وفي ثبوت هذا نظر - أيضا -، وإن حسنه الحافظ - على ما نقله الشوكاني -؛ فإنه من رواية محمد بن إسحاق، عن وهب بن كيسان، عن جابر؛ أخرجه أبو داود (2 / 122) ، وعنه البيهقي (6 / 80) ، وعلق بعضه البخاري (6 / 180) . وعلته عنعنه ابن إسحاق؛ فإنه مدلس. (ن)

بيان حكم بيع الوكيل بزيادة على ما أذن به الموكل

- تعالى -: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ، وقوله: {اجعلني على خزائن الأرض} . وقد أورد البخاري في الوكالة ستة وعشرين حديثا؛ ستة معلقة، والباقية موصولة، وقد قام الإجماع على مشروعيتها. ( [بيان حكم بيع الوكيل بزيادة على ما أذن به الموكل] :) (وإذا باع الوكيل بزيادة على ما رسمه موكله؛ كانت الزيادة للموكل) ؛ لما ثبت في " صحيح البخاري "، وغيره من حديث عروة البارقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به له شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه. وأخرج الترمذي من حديث حكيم بن حزام: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار ... فذكر نحو حديث عروة البارقي، وفي إسناده انقطاع؛ لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت، عن حكيم، ولم يسمع منه. وأخرج أبو داود من حديث أبي حصين، عن شيخ من أهل المدينة، عن حكيم نحو ذلك، وفيه هذا الشيخ المجهول. وقد ذهب إلى ما ذكرنا الجمهور. وقال الشافعي - في الجديد - وأصحابه: إن العقد باطل - أي: عقد البيع الواقع من الوكيل في مثل الصورة المذكورة - لأنه لم يأمره الموكل بذلك.

حكم مخالفة الوكيل للموكل إلى ما هو أنفع

( [حكم مخالفة الوكيل للموكل إلى ما هو أنفع] :) (وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو إلى غيره ورضي به؛ صح) ؛ لكون الرضا مناطا مسوغا لذلك ومجوزا له، وإذا لم يرض؛ لم يلزمه ما وقع من الوكيل مخالفا لما رسمه له؛ لعدم المناط المعتبر. وقد ثبت في " البخاري "؛ وغيره من حديث معن بن يزيد، قال: كان أبي خرج بدنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت بها، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لك ما نويت يا يزيد {ولك يا معن} ما أخذت ". ولعل هذه الصدقة صدقة تطوع لا صدقة فرض، فقد وقع الإجماع على أنها لا تجزئ في الولد (¬1) . ¬

_ (¬1) وفي هذا الإجماع نظر؛ ليس هنا موضع بحثه.

الكتاب التاسع عشر كتاب الضمانة

(الكتاب التاسع عشر: كتاب الضمانة)

كتاب الضمانة

(19 - كتاب الضمانة) ( [ماذا يجب على من ضمن على حي أو ميت] :) (يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال؛ أن يغرمه عند الطلب) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث أبي أمامة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الزعيم غارم (¬1) "، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه ثقة في الشاميين، وقد رواه هنا عن شامي، وهو شرحبيل بن مسلم، فلم يصب ابن حزم في تضعيف الحديث بإسماعيل بن عياش. وقد أخرجه النسائي من طريقين: إحداهما من طريق أبي عامر الوصابي (¬2) ، والأخرى من طريق حاتم بن حريث؛ كلاهما عن أبي أمامة. وقد صححه ابن حبان من طريق حاتم هذه، وحاتم قد وثقه الدارمي. ¬

_ (¬1) الزعيم: الكفيل. والغارم: الضامن. (ش) (¬2) هو أبو عامر لقمان بن عامر الوصابي الحمصي. ووقع في الأصل: " عامر الوصالي " {وهو خطأ من وجهين: في الاسم والنسبة. و" الوصابي " - بفتح الواو، وتشديد الصاد المهملة، وآخره باء -: نسبة إلى " وصاب "؛ بطن من حمير؛ كذا ضبطه الذهبي في " المشتبه "؛ والسمعاني في " الأنساب "، والزبيدي في " شرح القاموس ". وضبطه ابن حجر في " التقريب " بتخفيف الصاد} وهو خطأ. (ش)

وقد أخرج الحديث ابن ماجه، والطبراني من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن أنس. وأخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس، وضعفه بإسماعيل بن زياد السكوني، ورواه أبو موسى المديني في " الصحابة " من طريق سويد بن جبلة. قال الدارقطني: لا تصح له صحبة، وحديثه مرسل؛ قال: وبعضهم يقول: له صحبة. ورواه الخطيب في " التلخيص " من طريق ابن لهيعة، عن عبد الله بن حبان الليثي (¬1) ، عن رجل، عن آخر منهم. وأخرج البخاري، وغيره من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه الدين، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله! وعلي دينه، فصلى عليه. وأخرج هذه القصة الترمذي من حديث أبي قتادة، وصححه. وأخرجهما أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم من حديث جابر. وفي لفظ من حديث جابر هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة: " قد أوفى الله حق الغريم، وبرئ منه الميت "، قال: نعم، فصلى عليه، فلما ¬

_ (¬1) حبان - هنا - في الأصل بالباء الموحدة. وفي " تلخيص الحبير " (ص 250) بالياء المثناة؛ ولم أجد له ترجمة، ولم أصل إلى تصحيح اسمه. (ش)

ماذا يجب على من ضمن بإحضار شخص

قضاها قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الآن بردت عليه جلده ". أخرج ذلك أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وصححه ابن حبان، والحاكم. (ويرجع على المضمون عنه إن كان مأمورا من جهته) (¬1) ؛ لكون الدين عليه، والأمر منه للضمين بالضمانة؛ كالأمر له بالتسليم، فيرجع عليه لذلك. ( [ماذا يجب على من ضمن بإحضار شخص؟] :) (ومن ضمن بإحضار شخص؛ وجب عليه إحضاره؛ وإلا غرم ما عليه) ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " الزعيم غارم ". والخلاف في الضمانة معروف، وهذا خلاصة ما ورد به الشرع. ¬

_ (¬1) • بخلاف ما إذا ضمن متبرعا؛ فإنه لا يرجع على المضمون عنه بشيء. (ن)

الكتاب العشرون كتاب الصلح

(الكتاب العشرون: كتاب الصلح)

كتاب الصلح

(20 - كتاب الصلح) ( [مشروعية الصلح] :) (هو جائز بين المسلمين) ؛ لقوله - تعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} . ( [متى يحرم الصلح؟] :) (إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا) ؛ لحديث عمرو بن عوف عند أبي داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، وابن حبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما "، وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، وهو ضعيف جدا؛ وقد صحح الحديث الترمذي! فلم يصب. وقد اعتذر له ابن حجر، فقال: كأنه اعتبر بكثرة طرقه؛ وذلك لأنه رواه أبو داود، والحاكم من طريق كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة؛ قال الحاكم: " على شرطهما (¬1) ". ¬

_ (¬1) • ليس هذا في نسختنا من " المستدرك "، وقد أخرجه في موضعين منه (4 / 101) ، (2 / 49) ؛ بل سكت عليه، وقال الذهبي في أحد الموضعين: " لم يصححه، وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره "، وفي " التقريب ": " صدوق يخطئ ". قلت: فمثله حسن الحديث، لا سيما إذا كان لحديثه شواهد كهذا؛ وإن كان غالبها ضعيفا جدا؛ وانظر " الدارقطني " (300) . (ن)

دليل جواز الصلح عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول

وصححه ابن حبان، وحسنه الترمذي. وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أنس، ومن حديث عائشة. [وكذلك] أخرجه الدارقطني. ( [دليل جواز الصلح عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول] :) (ويجوز عن المعلوم والمجهول بمعلوم وبمجهول) ؛ لحديث أم سلمة عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، وابن ماجه، قالت: جاء رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مواريث بينهما قد درست؛ ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن (¬2) بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار؛ يأتي بها إسطاما (¬3) في عنقه يوم القيامة "، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما (¬4) ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه "، وفي إسناد هذا الحديث أسامة بن زيد بن أسلم المدني، وفيه مقال، ولكن أصل الحديث في " الصحيحين ". ¬

_ (¬1) • في " المسند " (6 / 320) ، وأبو داود (2 / 115) ؛ بسند حسن. (ن) (¬2) في " النهاية ": " أراد أن بعضكم يكون أعرف بالحجة، وأفطن لها من غيره ". (ش) (¬3) الإسطام والسطام - بكسر أولهما -: الحديدة التي تحرك بها النار، وتسعر؛ أي: اقطع له ما يسعر به النار على نفسه؛ قاله ابن الأثير. (ش) (¬4) توخى الحق: قصده وتعمد فعله. والمعنى: اذهبا فاقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة، واقترعا ليظهر سهم كل واحد منكما، وليأخذ ما تخرجه القرعة من القسمة. (ش)

دليل جواز الصلح في حد القتل

وقد استدل به على جواز الصلح، والإبراء من المجهول. وأخرج البخاري من حديث جابر: أن أباه قُتل يوم أحد شهيداً وعليه دَين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: " سنغدو عليك "، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، ودعا في ثمرها بالبركة، فجددتها (¬1) ، فقضيتها، وبقي لنا من ثمرها. وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول. أقول: إسقاط الشيء فرع العلم به، فمن جهل ما يريد إسقاطه؛ فإما أن يعلمه بوجه من الوجوه، أو يجهله من جميع الوجوه، فإن علمه بوجه من الوجوه على صورة تتميز عنده بعض تميز - بحيث يغلب في ظنه أنه من الجنس الفلاني، وأن مقداره لا يجاوز كذا - فهذا يصح إسقاطه. وإن كان مجهولا من جميع الوجوه - بحيث لا يعرف جنسه، ولا مقداره كيفا ولا كما - فهذا لا يصح إسقاطه؛ لأنه قد يكون على صفة لو علم بها لم تطب نفسه بالإسقاط. ( [دليل جواز الصلح في حد القتل] :) (وعن الدم كالمال بأقل من الدية أو أكثر) ؛ لكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال، فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله - تعالى -: ¬

_ (¬1) جده جدا - من باب قتل -: قطعه، فهو جديد؛ فعيل بمعنى مفعول. والجداد - بفتح الجيم وكسرها -: صرام النخل؛ وهو قطع ثمرتها. (ش)

دليل جواز الصلح عن إنكار وسكوت

{أو إصلاح بين الناس} ، وتحت قوله صلى الله عليه وسلم: " الصلح جائز ". وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل متعمدا دُفع إلى أولياء المقتول؛ فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة (¬1) وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وذلك عقل العمد، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك تشديد العقل "، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه مقال (¬2) . ( [دليل جواز الصلح عن إنكار وسكوت] :) (ولو عن إنكار) ؛ لعموم الأدلة، واندراج الصلح عن إنكار تحتها، ولم يأت من منعه ببرهان. وقد ذهب إلى جوازه الجمهور، وحكى في " البحر " عن الشافعي، وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار. وقد ثبت في " الصحيح " عن كعب في قصة المتخاصمين في المسجد في ¬

_ (¬1) • هو من الإبل: ما دخل في السنة الرابعة إلى آخرها، والجذعة من الإبل: ما دخل في السنة الخامسة، والخلفة: الحامل من النوق: " نهاية ". (ن) (¬2) • هذا خطأ فاحش؛ يدل على أن المصنف كان لا يرجع في تخريج الأحاديث إلى الأصول! ذلك لأن هذا الحديث ليس فيه ابن جدعان - هذا - عند مخرجيه: أحمد (رقم 6717) ، والترمذي (2 / 304) وابن ماجه (2 / 137) ؛ بل هو عندهم من طرق؛ عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب ... به؛ وحسنه الترمذي فأصاب. وقد تابعه محمد بن إسحاق، عن عمرو ... عند أحمد (رقم 7033) . (ن)

دين، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدَّين أن يضع شطر دينه، ويتعجل الباقي، وهو دليل على جواز الصلح مع الخصام، ووضع البعض واستيفاء البعض. قال في " الحجة البالغة ": ومنه وضع جزء من الدين؛ كقصة ابن أبي حدرد (¬1) ، وهذا الحديث أحد الأصول في باب المعاملات. أقول: الظاهر أنها تجوز المصالحة عن إنكار؛ نحو أن يدعي رجل على آخر مائة دينار، فينكره في جميعها، فيصالحه على النصف من ذلك المقدار؛ لأن مناط الصلح التراضي، والمنكر قد رضي بأنه يكون عليه بعض ما أنكره، وأي مقتض يمنع هذا؟ ! وإن كان مثل حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه "، فهذا قد سلم بعضا مما أنكره طيبة به نفسه، وإن كان غير ذلك فما هو؟ ثم حديث كعب المتقدم المشتمل على وقوع التنازع بين الرجلين؛ إن كان التنازع بينهما في المقدار؛ فهو أيضا صلح عن إنكار، وقد جوزه الشارع. وإن كان التنازع بينهما في التعجيل والتأجيل؛ فهو أيضا صلح عن إنكار؛ لأن منكر الأجل قد صولح، على أن يتعجل البعض من دينه، ويسقط الباقي إلى مقابل دعوى صاحبه للأجل. ¬

_ (¬1) ستأتي في كتاب القضاء، في الكلام على جواز الشفاعة من القاضي للإصلاح بين الخصمين. (ش)

الكتاب الحادي والعشرون كتاب الحوالة

(الكتاب الحادي والعشرون: كتاب الحوالة)

كتاب الحوالة

(21 - كتاب الحوالة) وهي جائزة، وعليه أهل العلم. ( [دليل مشروعيتها] :) (من أحيل على مليء فليحتل) ، ويقبل ذلك لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مطل الغني ظلم، ومن أحيل على مليء فليحتل "، وفي لفظ لهما: " وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ". وقد أخرج نحوه ابن ماجه، وأحمد، والترمذي من حديث ابن عمر، وفي إسناد ابن ماجه إسماعيل بن توبة (¬1) ، وهو صدوق، وبقية رجاله رجال " الصحيح ". وفي " شرح السنة ": " قوله: " أتبع أحدكم " بالتخفيف معناه: إذا أحيل أحدكم على مليء ¬

_ (¬1) قال الخليلي: كان عالما كبيرا مشهورا. وقال ابن حبان في " الثقات ": " مستقيم الأمر في الحديث ". (ش) • ولكن فوقه - في السند - هشيم؛ مدلس؛ وإن كان من رجال الشيخين؛ وقد عنعن. قلت: والخليلي؛ هو أبو يعلى الخليل بن عبد الله القزويني، توفي سنة (446) . (ن)

هل تبرأ ذمة المحيل بالحوالة

فليتبع؛ أي: فليحتل؛ أي: فليقبل الحوالة، يقال: أتبعت غريمي على فلان، فتبعه؛ أي: أحلته، فاحتال، وقوله: " فليتبع ": ليس ذلك على طريق الوجوب (¬1) ؛ بل على طريق الإباحة؛ أي: الندب؛ إن اختار قبل الحوالة، وإن شاء لم يقبل ". انتهى. وقد قيل: إنه يشترط في صحتها رضا المحيل - بلا خلاف -، والمحتال - عند الأكثر -، والمحال عليه - عند بعض أهل العلم -. قال في " الحجة ": " هذا أمر استحباب لأن فيه قطع المناقشة. ( [هل تبرأ ذمة المحيل بالحوالة؟] :) (وإذا مطل المحال أو أفلس؛ كان للمحال أن يطالب المحيل بدينه) لكون الدين باقيا بذمة المحيل لا يسقط عنه؛ إلا بتسليمه إلى المحتال من المحال عليه، فإذا لم يحصل التسليم؛ كان دينه باقيا كما كان قبل الحوالة (¬2) ، ويستفاد ذلك من قوله: " على مليء "، فإن من مطل أو أفلس؛ ليس بالمليء الذي أرشد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدين أن يقبل الحوالة عليه. قال يحيى: سمعت مالكا يقول: الأمر عندنا في الرجل يحيل الرجل ¬

_ (¬1) • قلت: وهذا هو مذهب الجمهور. وذهب أهل الظاهر، وأكثر الحنابلة، وأبو ثور، وابن جرير إلى الوجوب؛ وإليه ذهب الصنعاني في " سبل السلام " (3 / 80) ، وهو الأقرب؛ لأنه لا دليل على صرفه إلى الندب. (ن) (¬2) • وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في " الاختيارات العلمية " (78) . (ن)

عل الرجل بدين له عليه؛ إن أفلس الذي أحيل عليه، أو مات، ولم يدّع وفاء؛ فليس للمحتال على الذي أحاله شيء، وأنه لا يرجع على صاحبه الأول، قال مالك، وهذا الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا. فأما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل آخر، ثم يهلك المتحمل، أو يفلس؛ فإن الذي تحمل له يرجع على غريمه الأول؛ كذا في " الموطأ ". قلت: وعليه الشافعي. وفي " شرح السنة ": " إذا قبل الحوالة؛ تحول الدين من المحيل إلى ذمة المحال عليه، ولا رجوع للمحتال على المحيل من غير عذر، فإن أفلس المحال عليه، أو مات، ولم يترك وفاء؛ قال الشافعي: لا رجوع له على المحيل بحال، وقال أبو حنيفة: يرجع إذا أفلس، أو مات، ولم يترك وفاء ".

الكتاب الثاني والعشرون كتاب المفلس

(الكتاب الثاني والعشرون: كتاب المفلس)

كتاب المفلس

(22 - كتاب المفلس) ( [بيان ما يجوز لأهل الدين أخذه من المدين] :) (يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه) ؛ أي: مع المفلس (إلا ما كان لا يستغنى عنه؛ وهو المنزل، وستر العورة، وما يقيه البرد، ويسد رمقه ومن يعول) ؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم، وغيره قال: أصيب رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال: تصدقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: " خذوا ما وجدتم؛ وليس لكم إلا ذلك ". وأخرج الدارقطني (¬1) ، والبيهقي، والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه. وأخرج سعيد بن منصور، وأبو داود، وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا، قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا، وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان؛ حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول ¬

_ (¬1) • في " سننه " (523) ، والبيهقي (9 / 48) ، والحاكم (3 / 273) ؛ وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي. (ن)

ما حكم من أدرك ماله عند المدين المفلس

الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله؛ حتى قام معاذ بغير شيء. قال عبد الحق: المرسل أصح، وقال ابن الطلاع في " الأحكام ": هو حديث ثابت (¬1) . فأفاد ما ذكرناه أن أهل الدين يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس. لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه، أو أخرجوه من منزله، أو تركوه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه، ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك. ( [ما حكم من أدرك ماله عند المدين المفلس؟] :) (ومن وجد ماله عنده بعينه؛ فهو أحق به) ؛ لأنه كان في الأصل ماله من غير مزاحمة، ثم باعه ولم يرض في بيعه بخروجه من يده إلا بالثمن، فكان البيع إنما هو بشرط إيفاء الثمن، فلما لم يؤد؛ كان له نقضه ما دام المبيع قائما بعينه، فإذا فات المبيع لم يمكن أن يرد البيع، فصار دينه كسائر الديون. ودليله حديث حسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وجد متاعه عند مفلس بعينه؛ فهو أحق به "، أخرجه أحمد، وأبو داود (¬2) ، وقال ابن حجر في " الفتح ": إسناده حسن؛ ولكن سماع الحسن، عن سمرة فيه مقال معروف. ¬

_ (¬1) ضعيف؛ وانظر " بيان الوهم والإيهام " (1 / 323) لابن القطان، و " الإرواء " (1435) لشيخنا. (¬2) • قلت: وكذا الدارقطني (301) ؛ ولفظه: " من وجد عين ماله عند رجل؛ فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه "؛ وهو لفظ أبي داود أيضا (2 / 108) . ولا يخفى أنه أعم من اللفظ الذي ذكره الشارح، ومن حديث أبي هريرة الآتي. (ن) قلت: وانظر " ضعيف سنن أبي داود " لشيخنا.

وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس؛ فهو أحق به من غيره ". وفي لفظ لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي يعدم: " إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه؛ أنه لصاحبه الذي باعه ". وفي لفظ لأحمد: " أيما رجل أفلس، فوجد رجل عنده ماله، ولم يكن اقتضى من ماله شيئا؛ فهو له ". وأخرج الشافعي (¬1) ، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم - وصححه - عن أبي هريرة، أنه قال في مفلس أتوه به: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أفلس أو مات، فوجد الرجل متاعه بعينه؛ فهو أحق به ". وأخرج مالك في " الموطأ "، وأبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقتض الذي باعه ¬

_ (¬1) • في " المسند " (2 / 191 - من " البدائع ") ، وأبو داود (2 / 107) ، وكذا ابن ماجه (2 / 63) ، والحاكم (2 / 50 - 51) ، وكذا البيهقي (6 / 46) ؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. وهو من أوهامهما؛ فإن في سنده عند الجميع أبا المعتمر بن عمرو بن نافع؛ قال الذهبي - نفسه - في " الميزان ": " لا يعرف "، وقال الحافظ: " مجهول الحال "، وكذا جهله ابن عبد البر وغيره. فالحديث ضعيف السند، منكر المتن؛ لمخالفة الطريق الآتي. (ن)

من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه؛ فهو أحق به، وإن مات المشتري؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء " (¬1) . وقد وصله أبو داود فقال: عن أبي هريرة، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه ههنا روى عن الزبيدي (¬2) ، وهو شامي، وهو قوي في الشاميين. وقد ذهب إلى أن البائع أولى بعين ماله الموجود عند المفلس الجمهور، وخالفت في ذلك الحنفية، فقالوا: لا يكون أولى به، والحديث يرد عليهم. وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن المشتري إذا كان قد قضى بعض الثمن؛ لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه؛ بل يكون أسوة الغرماء؛ كما أفاده ما تقدم في الرواية من قوله: " ولم يكن اقتضى من ماله شيئا " (¬3) ، وقال الشافعي: إن البائع أولى به. وهكذا إذا مات المشتري والسلعة قائمة؛ فذهب مالك وأحمد إلى أنها تكون أسوة الغرماء (3) وقال الشافعي: البائع أولى بها. ¬

_ (¬1) • قلت: وهذا المرسل صحيح، وكذا الذي وصله أبو داود. ولم يتفرد به ابن عياش، كما بينه ابن القيم في " التهذيب " (5 / 175 - 176) ، وصحح الحديث هناك؛ فراجعه. (ن) (¬2) • كان في الأصل: (الحارث الزبيدي) ، والصواب ما أثبتناه. واسمه: محمد بن الوليد الحمصي. (ن) (¬3) • قلت: وهو الصواب؛ لصحة الحديث بذلك، كما سبق. (ن)

متى يكون صاحب المتاع أسوة كالغرماء

( [متى يكون صاحب المتاع أسوة كالغرماء؟] :) (وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه؛ كان الموجود أسوة الغرماء) ؛ لأن ذلك هو العدل؛ لأن الديون اللازمة مستوية في استحقاق قضائها من مال المفلس، وليس بعضها بأولى به من بعض إلا لمخصص، ولا مخصص ههنا. وقد أشار إلى هذا ما تقدم في الرواية من قوله: " فصاحب المتاع أسوة الغرماء ". ( [هل يجوز حبس من تبين إفلاسه؟] :) (وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه) ؛ لأنه خلاف حكم الله - سبحانه - قال - تعالى -: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} . (و) لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليّ الواجد (¬1) ظلم) ، وهو حديث صحيح قد تقدم في الباب الذي قبل هذا (¬2) . والمفلس ليس بواجد. (يحل عرضه وعقوبته) . وأما إذا لم يتبين إفلاسه، ولا كونه واجدا؛ فهذا محل اللبس، والواجب ¬

_ (¬1) اللي: المطل. والواجد: القادر على قضاء دينه. (ش) قلت: تخريجه في التعليق بعد الآتي - من كلام شيخنا -. (¬2) • لم يتقدم إلا باللفظ الآتي. (ن)

البحث عن حاله بحسب الإمكان؛ حتى يتبين كونه واجدا؛ فيعاقب بالحبس أو نحوه؛ كما دل عليه حديث: " مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته ". وفي لفظ: " لي الواجد ظلم "، والكل (¬1) في " الصحيح "، أو تبين كونه غير واجد فينظر إلى ميسرة. وأما حبس من تبين إفلاسه؛ فلا يحل بوجه؛ فإنه ظلم بحت. قال في " الحجة البالغة ": " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أقول: هو أن يغلظ له في القول، ويحبس، ويجبر على البيع إن لم ¬

_ (¬1) • ليس كما قال. ولقد خبط الشارح في هذا الحديث خبط عشواء! فالحديث: " مطل الغني ظلم " في " الصحيحين "، لكن ليس تمامه: " يحل عرضه وعقوبته "، فراجعه في الكتاب السابق. وهذا التمام إنما هو للحديث الآخر؛ وهو: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته "؛ رواه أبو داود (2 / 122) ، والنسائي (2 / 234) ، وابن ماجه (2 / 80) ، والحاكم (4 / 102) ، والبيهقي (6 / 51) ، وأحمد (4 / 388 - 389) من طريق وبر بن أبي دليلة - شيخ من أهل الطائف -، عن محمد بن ميمون بن مسيكة - وأثنى عليه خيرا -، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، مرفوعا؛ وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وكذا العراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 132) ، وعلقه البخاري (5 / 47) بصيغة التمريض: " ويذكر "، وقال الحافظ: " وإسناده حسن "، وذكر الطبراني أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد. قلت: وفيه عندي ضعف؛ لأن ابن مسيكة - هذا - لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير ابن أبي دليلة، ولذلك قال الحافظ في " التقريب ": " مقبول "؛ يعني: عند المتابعة؛ وإلا فلين الحديث. وما دام أنه لم يتابع كما أفاده الطبراني؛ فالحديث لين؛ هذا هو الذي تقتضيه قواعد الحديث، وإن كانوا صححوه كما رأيت، والله أعلم. ثم إن الحديث أورده ابن تيمية في " المنتقى "، بلفظ: " لي الواجد ظلم ... "؛ ولفظة: " ظلم " لا أصل لها في شيء من مصادر الحديث التي وقفت عليها. (ن) قلت: انظر " إرواء الغليل " (1434) لشيخنا.

متى يجوز الحجر على المفلس

يكن له مال غيره. وفي " شرح السنة ": " وهذا قول أهل العلم: إن مال المفلس يقسم بين غرمائه على قدر ديونهم، فإن نفد ماله وفضل الدين ينظر إلى الميسرة. قال مالك: إذا كان على رجل مال وله عبد لا شيء له غيره، فأعتقه؛ لم يجز عتقه، وعند الشافعي تصرف المديون نافذ ما لم يحجر عليه القاضي، ثم بعد الحجر لا ينفذ تصرفه في ماله ". وفي " شرح السنة " - أيضا -: " أما المعسر فلا حبس عليه؛ بل ينظر؛ فإنه غير ظالم بالتأخير، وهذا قول مالك والشافعي؛ فإن كان له مال يخفيه؛ حبس وعزر حتى يظهر ماله. وذهب شريح إلى أن المعسر يحبس، وهو قول أهل الرأي ". ( [متى يجوز الحجر على المفلس؟] :) (ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله، ويبيعه لقضاء دينه) ؛ لحجره - صلى الله عليه وسلم - على معاذ كما تقدم، وكذلك يبيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه؛ كما فعله صلى الله عليه وسلم في مال معاذ. ( [متى يجوز الحجر على المبذر؟] :) (وكذلك يجوز له الحجر على المبذر، ومن لا يحسن التصرف) ؛ لقوله

- تعالى -: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} ؛ قال في " الكشاف ": السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها، والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم؛ كما قال - تعالى -: {ولا تقتلوا أنفسكم} ، وقال: {فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} . والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} . ومما يدل على ذلك عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على قرابة حبان أن يحجر عليه؛ صح ذلك (¬1) ، ويدل على ذلك رده صلى الله عليه وسلم للبيضة التي تصدق بها من لا مال له؛ كما أخرجه أبو داود (¬2) ، وصححه ابن خزيمة من حديث جابر. وكذلك رده صلى الله عليه وسلم صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه؛ كما أخرجه أهل " السنن "، وصححه (¬3) الترمذي، وابن حبان من حديث أبي سعيد. وكذلك رده صلى الله عليه وسلم عتق من أعتق عبدا له عن دبر، ولا مال له غيره؛ كما ¬

_ (¬1) • تقدم الكلام عليه في " البيوع ". (ن) (¬2) • في " سننه " (1 / 265) ، وكذا الدارمي (1 / 391) ، والبيهقي (4 / 181) ، وكذا الحاكم (1 / 413) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر {لأنه عند الجميع من رواية ابن إسحاق معنعنا، وهو مدلس. ثم إن فيه جملة استنكرتها، وهي قوله عن البيضة: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته} فهذه المعاملة منه صلى الله عليه وسلم بعيدة عما عرف من حلمه - عليه السلام -؛ لا سيما والرجل لم يصنع شيئا إلا أنه ألح مرارا بهذه الصدقة. (ن) (¬3) • وكذا صححه الحاكم (1 / 414) ، ووافقه الذهبي؛ وسنده حسن عندي. (ن)

أشار إلى ذلك البخاري، وترجم عليه: " باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل، وإن لم يكن حجر عليه الإمام ". وأخرج الشافعي في " مسنده " (¬1) ، والبيهقي عن عروة بن الزبير، قال: ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا، فقال علي - رضي الله عنه - لآتين عثمان فلأحجرن عليه، فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير، فقال: أنا شريكك في بيعتك، فأتى عثمان، فقال: احجر على هذا، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: أأحجر على رجل شريكه الزبير؟ ! ففي هذه القصة دليل على أن الحجر كان عندهم أمرا معروفا ثابتا في الشريعة، ولولا ذلك لأنكره بعض من اطلع على هذه القصة، ولكان الجواب من عثمان على علي بأن هذا غير جائز، وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر؛ لو كان مثل هذا الأمر غير جائز؛ لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة. وقد ذهب إلى جواز الحجر على السفيه الجمهور، وعليه أهل العلم. وفي " الوقاية ": " الحجر: منع نفاذ تصرف قولي، وسببه الصغر والجنون والرق؛ فإن أتلفوا شيئا ضمنوا ". وفي " المنهاج ": " ولا يصح من المحجور عليه بسفه بيع ولا شراء ولا عتاق وهبة ونكاح بغير إذن وليه، ويصح بإذن الولي نكاحه؛ لا التصرف المالي في الأصح ". ¬

_ (¬1) • (2 / 191 - من " البدائع ") ، والبيهقي (6 / 61) . (ن)

متى يمكن اليتيم من ماله

( [متى يمكن اليتيم من ماله؟] :) (ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد) ؛ لقوله - تعالى -: {فإن آنستم منهم رشدا} . في " المنهاج ": " حجر الصبي يرتفع ببلوغه رشيدا، فلو بلغ غير رشيد دام الحجر ". وفي " الوقاية ": " فإن بلغ غير رشيد؛ لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، وصح تصرفه قبله وبعده؛ يسلم إليه ولو بلا رشد ". ( [هل يجوز لولي اليتيم أن يأكل من ماله؟] :) (ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف) ؛ لقوله - تعالى -: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} . وقد ثبت في " الصحيحين "، عن عائشة أنها قالت: " نزلت هذه الآية في ولي اليتيم؛ إذا كان فقيرا أنه يأكل منه بالمعروف ". وأخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني فقير، وليس لي شيء، ولي يتيم؟ فقال: " كل من مال يتيمك؛ غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل (¬2) ". ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 6747، 7022) ؛ وسنده حسن. (ن) (¬2) أي: جامع؛ يقال: مال مؤثل، ومجد مؤثل؛ أي: مجموع. (ش)

والمراد بقوله: " ولا مبادر " ما في قوله - تعالى -: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا} ؛ أي: مسرفين ومبادرين كبر الأيتام، فهذه الآية والحديث مخصصان لقوله - تعالى -: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} . في " شرح السنة ": " اختلفوا في ذلك؛ فذهب قوم إلى أنه يأكل ولا يقضي، وعليه أحمد، وآخرون إلى أنه يأكل ويرد مثله إذا كبر ". أقول: اختاره محمد بن الحسن. والولي يتجر في أموال اليتامى ويضارب، ويفعل ما فيه الغبطة. قال مالك: قال عمر بن الخطاب: اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة. وكانت عائشة تعطي أموال اليتامى من يتجر لهم فيها. قال مالك: لا بأس بالتجارة في أموال اليتامى لهم (¬1) ، وإذا كان الولي مأمونا فلا أرى عليه ضمانا. قلت: وعليه الشافعي -[كما] في " المنهاج " -: وله - أي: للولي - بيع ماله بقرض ونسيئة للمصلحة، ويزكي ماله، وينفق عليه بالمعروف. ¬

_ (¬1) سبق القول في هذه المسألة، وتخريج الأحاديث والآثار الواردة فيها.

الكتاب الثالث والعشرون كتاب اللقطة

(الكتاب الثالث والعشرون: كتاب اللقطة)

كتاب اللقطة

(23 - كتاب اللقطة) ( [ما يفعل من وجد لقطة] :) (من وجد لقطة فليعرف عفاصها) : وهو الوعاء الذي تكون فيه من جلد، أو خرقة، أو غير ذلك؛ من العفص: وهو الثني والعطف، وبه سمي الجلد الذي يكون على رأس القارورة (¬1) . (ووكاءها) وهو الخيط الذي يشد به الوعاء، قيل: فائدة المعرفة: أنه لو ادعاها أحد ووصفها دفعها إليه. وقيل: أن لا تختلط بماله اختلاطا لا يمكن معه التمييز إذا جاء مالكها. في " شرح السنة ": " قال الشافعي: إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق؛ فله أن يعطيه، ولا أجبره عليه إلا ببينة؛ لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها. وفي " الهداية ": فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء ". انتهى (¬2) . ¬

_ (¬1) • يعني: سمي عصافا؛ كما صرح في " النهاية ". ولعله سقط من قلم المؤلف. (ن) (¬2) • قلت: وهذا خلاف ظاهر قوله [صلى الله عليه وسلم] الآتي: " فهو أحق بها "، وقوله: " فأعطها إياه ". قال الخطابي: " إن صحت هذه اللفظة؛ لم يجز مخالفتها ". =

كيف تسلم اللقطة إلى صاحبها

( [كيف تسلم اللقطة إلى صاحبها؟] :) (فإن جاء صاحبها دفعها إليه) ؛ لحديث عياض بن حمار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، أو ليحفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء صاحبها؛ فلا يكتم؛ فهو أحق بها، وإن لم يجيء صاحبها، فهو مال الله يؤتيه من يشاء "، أخرجه أحمد (¬1) ، وابن ماجه، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان. وفي " الصحيحين " من حديث زيد بن خالد، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب والورق؟ فقال: " اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ". وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: " ما لك ولها؟ ! دعها؛ فإن معها حذاءها وسقاءها؛ ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها ". وسأله عن الشاة؟ فقال: " خذها؛ فإنما هي لك، أو لأخيك (¬2) ، أو للذئب ". وفي لفظ لمسلم: " فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها ووكاءها؛ ¬

_ = قال الحافظ (5 / 59) : " قلت: قد صحت، فتعين المصير إليها "؛ يعني: من حديث أبيّ الآتي. (ن) (¬1) • في " المسند " (4 / 162، 266) ، وأبو داود (1 / 270) ، وسنده صحيح. (ن) (¬2) • قال الحافظ: (5 / 62) : " والمراد به ما هو أعم من صاحبها، أو من ملتقط آخر ". قلت: بل المراد صاحبها؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعا؛ بلفظ: " لك، أو لأخيك، أو للذئب؛ احبس على أخيك ضالته ". وسنده حسن؛ أخرجه الطحاوي في " شرح المعاني " (4 / 135) (ن) .

متى يجوز له صرف اللقطة

فأعطها إياه؛ وإلا فهي لك ". وفي " مسلم "، وغيره (¬1) من حديث أبي بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " عرفها؛ فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها؛ فأعطها إياه؛ وإلا فاستمتع بها ". فدل ما ذكرناه على أنه إذا جاء صاحبها دفعها إليه. وفي " إعلام الموقعين ": " قال: يا رسول الله! فاللقطة يجدها في سبيل العامرة؟ قال: " عرفها حولا؛ فإن وجدت باغيها فأدها إليه؛ وإلا فهي لك " قال: ما يوجد في الخراب؟ قال: " فيه وفي الركاز الخمس ". ذكره أحمد، وأهل السنن ". قال ابن القيم: " والإفتاء بما فيه متعين وإن خالفه من خالفه، فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه ". انتهى. ( [متى يجوز له صرف اللقطة؟] :) (وإلا عرف بها حولا، وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه، ويضمن مع مجيء صاحبها) ؛ يعني: إن جاء صاحبها بعد ذلك عرفها له، إن كان قد أتلفها، وأرجعها بعينها إن كانت باقية؛ كما يفيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه ". وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب التعريف بعد الحول. ¬

_ (¬1) ك " البخاري " (5 / 59) . (ن)

وقد ورد في لفظ للبخاري - من حديث أبيّ - ما يدل على أن التعريف يجب بعد الحول، ولفظه: قال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " عرفها حولا "، فعرفتها، فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثانيا، فقال: " عرفها حولا "، فلم أجد، ثم أتيته ثالثا، فقال: " احفظ وعاءها وعددها ووكاءها؛ فإن جاء صاحبها؛ وإلا فاستمتع بها "، فاستمتعت بها، فلقيته - بعد - بمكة (¬1) . وقد وقع الاختلاف بين الحفاظ في هذه الرواية: فعن بعضهم: أن الزيادة على العام غلط؛ كما جزم بذلك ابن حزم. قال ابن الجوزي: والذي يظهر لي أن سلمة أخطأ فيها، ثم ثبت واستمر على عام واحد. وجمع بعضهم بأن الزيادة على العام محمولة على مزيد الورع. والكلام في ذلك يطول. والمراد بقوله في الحديث: " ولتكن وديعة عندك ": أنه يجب ردها، فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب الرد؛ لعوضها بعد الاستنفاق بها. قال في " المسوى ": ¬

_ (¬1) • تنبيه: قوله: فلقيته - بعد - بمكة؛ ليس من كلام أبيّ؛ بل من كلام شعبة، والضمير يعود إلى شيخه سلمة بن كهيل، وتمامه في " الصحيحين ": فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحدا؟ ! وفي رواية لمسلم (5 / 136) قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: " عرفها عاما واحدا " (ن) .

المبالغة في تعريف لقطة مكة

" قوله: " عرف سنة " عليه الشافعي وأبو حنيفة. وخص منه الحقير؛ لحديث علي: أنه التقط دينارا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه (¬1) . وفي " المنهاج ": " والأصح أن الحقير لا يعرف سنة؛ بل زمنا يظن أن صاحبه يعرض عنه غالبا ". وفي " الوقاية ": " عرفت مدة لا تطلب بعدها ". ( [المبالغة في تعريف لقطة مكة] :) (ولقطة مكة) المكرمة زادها الله شرفا (أشد تعريفا من غيرها) ؛ لما ثبت في " الصحيح ": " أنها لا تحل لقطة مكة إلا لمعرف ". مع أن التعريف لا بد منه في لقطة مكة وغيرها؛ فحمل ذلك على المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج قد يرجع إلى بلده ولا يعود، فاحتاج الملتقط لها إلى المبالغة في التعريف، وقد قيل غير ذلك. ¬

_ (¬1) • رواه أبو داود (1 / 271) بسند حسن؛ كما في " التلخيص الحبير " (ص 261 - طبع الهند) . وأعله البيهقي بالاضطراب. وفي رواية عنده: فأمره أن يعرفه؛ وفي سنده انقطاع؛ انظر " الجوهر النقي " (6 / 187 - 188) . (ن)

هل يجوز له أن ينتفع بالشيء الحقير من اللقطة

( [هل يجوز له أن ينتفع بالشيء الحقير من اللقطة؟] :) (ولا بأس بأن ينتفع الملتقط بالشيء الحقير - كالعصا والسوط ونحوهما - بعد التعريف به ثلاثا) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث جابر، قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به. وفي إسناده المغيرة بن زياد، وفيه مقال، وقد وثقه وكيع، وابن معين، وابن عدي (¬1) . وفي " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: " لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ". وقد أخرج أحمد، والطبراني، والبيهقي من حديث يعلى بن مرة مرفوعا: " من التقط لقطة يسيرة؛ حبلا أو درهما أو شبه ذلك؛ فليعرفها ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك؛ فليعرفه ستة أيام ". زاد الطبراني: " فإن جاء صاحبها؛ وإلا فليتصدق بها ". وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) • قلت: وشيخه فيه عند أبي داود (1 / 272) أبو الزبير، وقد عنعنه. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (6 / 195) ؛ وقال: " في رفع هذا الحديث شك، وفي إسناده ضعف ". (ن)

ما يلتقط من الدواب

وأخرج عبد الرزاق من حديث أبي سعيد: أن عليا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينار وجده في السوق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عرفه ثلاثا "، ففعل، فلم يجد أحدا يعرفه، فقال: " كله " (¬1) . وأما إذا كان الشيء مأكولا؛ فلا يجب التعريف به؛ بل يجوز أكله في الحال؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في التمرة. ( [ما يلتقط من الدواب] :) (وتلتقط ضالة الدواب إلا الإبل) ؛ للحديث المتقدم عن زيد بن خالد، وإلحاق سائر الدواب بالشاة؛ لكونها مثلها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " هي لك أو لأخيك أو للذئب ". ولا يخرج من ذلك إلا الإبل؛ كما صرح به صلى الله عليه وسلم، ومما يفيد ذلك ما أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأوي (¬2) الضالة إلا ضال ما لم يعرفها "؛ فإن الضالة تصدق على الشاة وغيرها، وقد قيد ذلك بالتعريف؛ فدل على جواز الالتقاط، وخرجت الإبل بالحديث الآخر. في " المنهاج ": " والحيوان الممتنع من صغار السباع بقوة؛ أو بعدو أو طيران؛ إن وجد بمفازة فللقاضي التقاطه، ويحرم التقاطه للتملك، وإن وجد بقرية فالأصح جواز التقاطه للتملك، وما لا يمتنع منها - كشاة - يجوز التقاطه في القرية والمفازة، ولا فرق عند أبي حنيفة بين أن يكون بهيمة أو غيرها. ¬

_ (¬1) • وفي سنده انقطاع؛ فانظر " الجوهر النقي " (6 / 187) ، و " التلخيص ". (ن) (¬2) • في " اللسان ": " أويت الإبل؛ بمعنى آويتها ". (ن)

الكتاب الرابع والعشرون كتاب القضاء

(الكتاب الرابع والعشرون: كتاب القضاء)

كتاب القضاء

(24 - كتاب القضاء) ( [من يصح منه القضاء؟] :) (إنما يصح قضاء من كان مجتهدا) ؛ لما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله، ولا يعرف العدل إلا من كان عارفا بما في الكتاب والسنة من الأحكام، ولا يعرف ذلك إلا المجتهد؛ لأن المقلد إنما يعرف قول إمامه دون حجته. وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهدا؛ لا من كان مقلدا، فما أراه الله شيئا؛ بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه. ومما يدل على اعتبار الاجتهاد: حديث بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة؛ فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار "، أخرجه ابن ماجه، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، والحاكم - وصححه -، وقد جمع ابن حجر طرقه في جزء مفرد (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر " الإرواء " (2614) لشيخنا.

المقلد لا يجوز له أن يتقلد القضاء

ووجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا. ( [المقلد لا يجوز له أن يتقلد القضاء] :) وأما المقلد؛ فهو يحكم بما قال إمامه، ولا يدري أحق هو أم باطل؟ فهو القاضي الذي قضى للناس على جهل، وهو أحد قاضيي النار. ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله - تعالى -: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ، و {الظالمون} ، و {الفاسقون} ، ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل. ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال له: " بما تقضي؟ "، قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ "، قال: فبسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ "، قال: فبرأيي. قال الماتن: وهو حديث مشهور (¬1) ، قد بينت طرقه ومن خرجه في بحث مستقل. ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة، ولا رأي له، بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به، أو ليس بموجود فيجتهد برأيه. فإذا ادعى المقلد أنه حكم برأيه؛ فهو يعلم أنه يكذب على نفسه؛ ¬

_ (¬1) • ولكن إسناده ضعيف؛ فيه الحارث بن عمرو؛ مجهول، كما في " التقريب " وغيره. وقد بين الحافظ ضعف الحديث في " التلخيص " (ص 401) . (ن) قلت: وانظر " السلسلة الضعيفة " (881) ؛ وقد كنت كتبت منذ أكثر من عشر سنوات جزءا في تخريجه والكلام عليه؛ عنوانه " الإيناس "، ولم يطبع {}

لاعترافه بأنه لا يعرف كتابا ولا سنة، فإذا زعم أنه حكم برأيه؛ فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت. وللسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في تيسير الاجتهاد سماها: " إرشاد النقاد "، فليرجع إليها. أقول: الحاصل أن المقلد ليس ممن يعقل حجج الله إذا جاءته؛ فضلا عن أن يعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والراجح من المرجوح. بل لا ينبغي أن ينسب المقلد إلى العلم مطلقا، ولهذا نقل عضد الدين الإجماع على أنه لا يسمى المقلد عالما (¬1) . وأما ما صار يستروح إليه من جوز قضاء المقلد من قلة المجتهدين في الأزمنة الأخيرة، وأنه لو لم يل القضاء إلا من كان مجتهدا لتعطلت الأحكام! فكلام في غاية السقوط، فالمجتهدون في كل قطر، ولكنهم في زمان غربة: فمنهم من يخفي اجتهاده مخافة صولة المقصرين. ومنهم من يحتقره المقلدون عن أن يكون مجتهدا لضيق أعطانهم، وحقارة عرفانهم، وتبلد أذهانهم، وجمود قرائحهم، وخمود أفكارهم، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله. ولقد عرفت مشايخي الذين أخذت عنهم العلم؛ فأكثرهم مجتهدون. ¬

_ (¬1) • ونقله - أيضا - ابن عبد البر في " جامع بيان العلم "، وابن القيم " في إعلام الموقعين "، وأبو الحسن السندي في حاشيته على " سنن ابن ماجه "، والفلاني في " إيقاظ الهمم "، وغيرهم. (ن)

وفي مدينة صنعاء من المجتهدين من يستغنى به عن القضاة المقلدين في جميع الأقطار اليمنية، مع أنه لا يسلم لهم الاجتهاد إلا من كان مثلهم أو مقاربا لهم. وأما أسراء التقليد؛ فهيهات أن يذعن واحد منهم لأحد بالاجتهاد مع أن العلوم المعتبرة في الاجتهاد عند هؤلاء المقلدين؛ هي العلوم الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه (¬1) ، وهي بالنسبة إلى ما يحفظ من وصفناه من المجتهدين شيء يسير. قال الماتن - رحمه الله -: " ومن غريب ما أحكيه لك: أنه لما كثر الخلط من قضاة حضرة الخلافة؛ استأذنت الخليفة - حفظه الله - في جمعهم لقصد ترغيبهم في العدل، وترهيبهم عن الجور، فاجتمع منهم نحو أربعين قاضيا، فسألتهم عن شيء مما يتعلق بشروط القضاء المدونة في كتب الفروع؟ فلم يهتد أحد منهم إلى الجواب على وجه الصواب؛ بل اعترفوا جميعا بالقصور عن فهم دقائق التقليد؛ فضلا عن معرفة علوم الاجتهاد أو بعضها! وليت أنهم إذا قصروا في العلم لم يقصروا في الورع، فإن الورع يردع صاحبه عن المجازفة، ويرشده إلى أن شفاء العي السؤال، ويكفه عن التسلق لأموال المسلمين، ويرده عن التسرع إليها بأدنى شبهة. ولعمري أن القاضي إذا جمع بين الجهل وعدم الورع أشد على عباد الله من الشيطان؛ لأنه يقضي بين الناس بالطاغوت؛ موهما لهم أنه إنما يقضي ¬

_ (¬1) • وهي معرفة العربية، وأصول الفقه والمعاني والبديع، ومعرفة الآيات القرآنية الشرعية، ومعرفة جملة من الأخبار النبوية؛ انظر " تيسير الاجتهاد " (23 - 26) . (ن)

ما هي صفات القاضي

بينهم بالشريعة المطهرة، ثم ينصب الحبائل لاقتناص أموالهم، ويأكلها بالباطل؛ ولا سيما أموال اليتامى والنساء. اللهم {أصلح عبادك، وتداركهم من كل ما لا يرضيك ". انتهى. فإن قلت: حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عليا إلى اليمن قاضيا، فقال: يا رسول الله} بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء؟ قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدري، وقال: " اللهم اهده وثبت لسانه "، قال علي: فوالذي فلق الحبة؛ ما شككت في قضاء بين اثنين. أخرجه أهل " السنن "، وغيرهم (¬1) ؛ هل يدل على جواز قضاء من ليس بمجتهد؛ لقوله: أنا شاب ولا أدري ما القضاء؟ ! قلت: من تمسك بهذا؛ فليأتنا برجل يدعو للقاضي الذي لا علم له بالقضاء بمثل هذه الدعوة النبوية؛ حتى لا يشك بعدها كما لم يشك علي - كرم الله وجهه - بعد تلك الدعوة، فإذا فعل هذا فنحن لا نخالفه. والكلام على هذه المسألة يحتمل البسط، وقد قضينا عنها الوطر في كتابنا: " ظفر اللاضي (¬2) بما يجب في القضاء على القاضي "؛ فليراجع، فإن فيه ما يشفي العليل، ويهدي إلى سواء السبيل. ( [ما هي صفات القاضي؟] :) (متورعا عن أموال الناس، عادلا في القضية، حاكما بالسوية) ؛ لكون من ¬

_ (¬1) له طرق في " المسند " (636، 666، 1445) ؛ هو بها ثابت. (¬2) • من لضى؛ إذا حذق بالدلالة. " لسان ". (ن)

لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة، وهي تحول بينه وبين الحق؛ كما سيأتي. وهكذا من لم يكن عادلا - لجرأة فيه أو مداهنة أو محاباة - فهو يترك الحق وهو يعلم به، فهو أحد قضاة النار؛ لأنه عرف الحق وجار في الحكم. قال في " الحجة البالغة ": " أقول: لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلا بريئا من الجور والميل، وقد عرف منه ذلك، وعالما يعرف الحق؛ لا سيما في مسائل القضاء. والسر في ذلك واضح، فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها ". أقول: وأما توليه القضاء من جهة الظلمة؛ فالسلطان الذي أوجب الله طاعته في كتابه العزيز، وتواترت الأحاديث الصحيحة بذلك؛ هو من كان مسلما لم يفعل ما يوجب كفرا بواحا (¬1) ، وكان مقيما لأعظم أركان الإسلام وأجل شعائره؛ وهو الصلاة؛ فهذا هو السلطان الذي تجب على الناس طاعته، وامتثال أوامره، ويحرم عليهم أن ينزعوا أيديهم من طاعته، ولكن بشرط أن لا يكون ما يأمر به معصية؛ لما ثبت أن: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، وأن " الطاعة في المعروف "، فإذا أمر بما هو من الطاعة وجب الامتثال، وأمره للعالم بأن يكون قاضيا هو أمر بطاعة يجب امتثاله بنص الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) بفتح الباء والواو؛ أي: جهارا؛ من باح بالشيء: إذا أعلنه.

الجمع بين أحاديث الترغيب في القضاء والترهيب منه

ولا يقدح في ذلك كونه مرتكبا لشيء مما لا يحل له، أو يظلم الرعية في بعض ما لا يحل له، فإن ذلك أمر آخر لا يوجب سقوط طاعته، ونعم القدوة السلف الصالح، فقد كانوا يعملون لسلاطين بني أمية الأعمال، ويلون لهم القضاء؛ مع كونهم في العلم والعمل بمكان لا يجهله أحد، وسلاطين تلك الأزمنة فيهم من يستحل الدماء بغير حقها، والأموال بدون حلها (¬1) . نعم؛ القضاء قد ورد فيه ما يدل على الترغيب تارة والترهيب أخرى، بل ورد في الإمارة - التي هي أعم من القضاء - ما يشعر بأن تجنبها أولى. ( [الجمع بين أحاديث الترغيب في القضاء والترهيب منه] :) والجمع بين الأحاديث - فيما يظهر لي - يرجع إلى الأشخاص: فمن علم من نفسه القيام بالحق، والصدع به، وعدم الضعف في الأمر، وقوة الصلابة في القضاء والعفة عن الأموال، والتسوية بين القوي والضعيف؛ فالدخول في القضاء أولى له إن لم يكن واجبا عليه؛ بشرط أن يكون في العلم على الصفة التي قدمنا ذكرها. ومن كان يضعف عن هذه الأوصاف؛ فالترك أولى به، وقد يجب عليه الترك. ومما يرشد إلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: " إني أراك ضعيفا "، ثم أرشده إلى عدم الدخول في الإمارة؛ كما ثبت ذلك في الحديث المشهور (¬2) . ¬

_ (¬1) قارن بكتابي " صيحة نذير بخطر التكفير ". (¬2) رواه مسلم (1826) .

ما حكم من يحرص على القضاء

وقد أوضحت المقام في رسالتي في القضاء، وبسطت المقال على مسائل الإمامة في كتابي " إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة "، وهما هما في هذين البابين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو المستعان، وبه التوفيق. ( [ما حكم من يحرص على القضاء؟] :) (ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه) ؛ لحديث عبد الرحمن بن سمرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه - (¬1) من حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده ". وأخرج البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إنكم ستحرصون على الإمارة؛ وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ". ¬

_ (¬1) • قلت: وفيه نظر؛ لأن مداره على عبد الأعلى الثعلبي، عن بلال بن مرداس الفزاري؛ والأول ضعفه الجمهور؛ كما قال الشوكاني (8 / 214) ، والآخر جهله ابن القطان، وإن وثقه ابن حبان. ثم إن في سنده اختلافا بينه الترمذي نفسه في " سننه " (2 / 275) ؛ وانظر " التلخيص " (ص 410) . (ن)

هل يحل للإمام تولية من طلب القضاء

ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه (¬1) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عدله جوره؛ فله الجنة، ومن غلب جوره عدله؛ فله النار "؛ لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب، وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور. قال الماتن في " نيل الأوطار ": " وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف، واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم؛ حتى عمت البلوى بهم جميع الأقطار اليمنية ". اه. قلت: ومثل ذلك وقع في الحرمين الشريفين من جهة الترك، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ( [هل يحل للإمام تولية من طلب القضاء؟] :) (ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك) ؛ أي: حريصا على القضاء أو طالبا له؛ لحديث أبي موسى في " الصحيحين "، قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله {أمِّرنا على بعض ما ولاك الله - عز وجل -، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: " إنا - والله - لا نولي هذا العمل أحدا يسأله؛ أو أحدا يحرص عليه ". ¬

_ (¬1) • كذا قال} وهو فيه تبع للشوكاني (8 / 214) ! وفيه علة ظاهرة؛ وهي الجهالة؛ لأنه عند أبي داود (2 / 113 - 114) ؛ من طريق موسى بن نجدة. قال الذهبي: " لا يعرف "، وقال الحافظ: " مجهول ". (ن)

حكم أخذ الأجر على القضاء

والسر فيه: أن الطالب لا يخلو غالبا من داعية نفسانية؛ من مال أو جاه، أو التمكن من انتقام عدو، ونحو ذلك، فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات. ( [حكم أخذ الأجر على القضاء] :) أقول: وأما أخذ الرزق على القضاء؛ فمال الله موضوع لمصالح المسلمين، ولهذا قيل له: بيت مال المسلمين. ومن أعظم مصالح دينهم ودنياهم القاضي العادل في أحكامه، العارف من الشريعة المطهرة بما يحتاج إليه في حله وإبرامه؛ بل ذلك هو المصلحة التي لا توازنها مصلحة؛ لأنه يرشدهم إلى مناهج الشرع، ويفصل خصوماتهم بأحكام الله، فهو المتحمل لأعباء الدين، المترجم عنه لمن يحتاج إليه من المسلمين، فرزقه من بيت المال من أهم الأمور؛ ولا سيما إذا استغرق أوقاته في فصل خصوماتهم، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدون، ومن بعدهم من السلف الصالح يقسمون أموال الله بين المسلمين، ويجعلون للعلماء نصيبا موفرا. فالقاضي إذا كان متورعا عن أموال العباد، قائما بمصالح الحاضر منهم والباد؛ فقد استحق ما يكفيه من بيت المال من جهات؛ منها كونه من المسلمين، ومنها كونه عالما، ومنها كونه قاضيا. وأما ما اعتاده جماعة من القضاة من أخذ الأجرة من الخصوم على الرقوم، فمن كان مكفيا من بيت مال المسلمين؛ لا يحل له ذلك! لأنه قد

القاضي المتأهل على خطر عظيم

قبض أجرته من بيت المال، وإن أظهر من يأتيه أن نفسه طيبة به، فالذي أوجب طيبها كونه قاضيا، وكون الأعراف قد جرت بمثل ذلك، وإلا فهو لا يسمح له بماله لو لم يكن كذلك، وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة. وأما إذا لم يكن مكفيا من بيت المال؛ فشرط الحل أن يأخذ مقدار أجرته بطيبة من نفس من يقصده، ويكون كالأجير له حكمه؛ لكونه غير مؤجر من بيت مال المسلمين. ( [القاضي المتأهل على خطر عظيم] :) (ومن كان متأهلا للقضاء؛ فهو على خطر عظيم) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من جعل قاضيا بين الناس؛ فقد ذبح بغير سكين (¬1) ". قال في " الحجة البالغة ": ¬

_ (¬1) • حديث صحيح؛ فرواه أحمد (2 / 365) ، وأبو داود (2 / 113) ، وابن ماجه (2 / 48) ، والدارقطني (ص 511) ، والحاكم، وكذا النسائي في " الكبرى " (3 / 2) ، (4 / 91) ، والبيهقي (10 / 96) ؛ من طريق عثمان بن محمد الأخنسي، والترمذي (2 / 275) ، والدارقطني، وكذا أبو داود، والبيهقي؛ عن عمرو ابن أبي عمرو - كلاهما -، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وصححه الحاكم، والذهبي، والعراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 280) . وأعله المنذري (5 / 205) بالأخنسي هذا {فسها عن المتابعة التي ذكرتها، وتبعه على هذا السهو الشوكاني (8 / 217) ، وكذا المؤلف؛ إلا أن هذا وقع في وهم آخر؛ وهو أنه ذكر أن الأخنسي هذا في سند الحديث الذي بعد هذا} وليس كذلك؛ لما سترى. (ن)

" هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل، وأن الإقدام عليه مظنة للهلاك؛ إلا أن يشاء الله ". انتهى. وأخرج أحمد (¬1) ، وابن ماجه، والبيهقي من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من حاكم يحكم بين الناس؛ إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم، ثم يرفع رأسه إلى الله - عز وجل - فإن قال: ألقه، ألقاه في مهوي، فهوى أربعين خريفا "، وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي، وفيه مقال (¬2) . وأخرج ابن ماجه، والترمذي وحسنه، والحاكم في " المستدرك "، وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وكله إلى نفسه ". وفي لفظ الترمذي: " فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان ". وفي الباب أحاديث مشتملة على الترهيب، وأحاديث مشتملة على الترغيب، وقد استوفاها الماتن في " شرح المنتقى ". ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 4097) ، وابن ماجه (2 / 49) ، والبيهقي (10 / 96 - 97) ؛ عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله. ومجالد فيه ضعف. (ن) (¬2) وثقه ابن معين، والبخاري، وابن حبان. (ش)

إذا أصاب القاضي له أجران وإذا أخطأ له أجر

( [إذا أصاب القاضي له أجران، وإذا أخطأ له أجر] :) (وله مع الإصابة أجران، ومع الخطأ أجر؛ إن لم يأل جهدا في البحث) ؛ يعني: بذل طاقته في اتباع الدليل؛ وذلك لأن التكليف بقدر الوسع، وإنما وسع الإنسان أن يجتهد، وليس في وسعه أن يصيب الحق البتة. ودليله حديث عمرو بن العاصي الثابت في " الصحيحين "، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ". وقد ورد في روايات (¬1) : " أنه إذا أصاب فله عشرة أجور ". ( [الرشوة حرام وخاصة على القاضي] :) (وتحرم عليه الرشوة) ؛ وفي " الأنوار " في تفسير الرشوة وجهان: الأول: أن الرشوة هي التي يشترط على قابلها الحكم بغير الحق، أو الامتناع عن الحكم بالحق. والثاني: بذل المال لأحد ليتوسل بجاهه إلى أغراضه، إذا كان جاهه بالقضاء والعمل، فذلك هو الرشوة. ويحرم على الرعية إعطاء الرشوة للحاكم ليتوسلوا بذلك إلى ظلم، ويحرم على الحاكم أخذها؛ قال الله - تعالى -: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم ¬

_ (¬1) • قلت: وكلها ضعيفة منكرة، لا يستشهد بشيء منها، والعمدة في الباب على حديث " الصحيحين ". (ن)

الهدية حرام على القاضي

بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} ؛ كذا في " المسوى ". وروى مالك بإسناده أن عبد الله بن رواحة قال ليهود خيبر: فأما ما عرضتم من الرشوة؛ فإنما هي سحت، وإنا لا نأكلها. ( [الهدية حرام على القاضي] :) (والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضيا) ؛ لحديث أبي هريرة عند أحمد (¬1) ، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم ". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه -، وابن حبان، والطبراني، والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو - كحديث أبي هريرة -. وأخرج أحمد، والحاكم من حديث ثوبان، قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي والرائش - يعني: الذي يمشي ¬

_ (¬1) • في " المسند " (2 / 387) ، والترمذي (2 / 279) ، والحاكم (4 / 103) ؛ عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة - وحسنه الترمذي -. وعمر - هذا - فيه ضعف، وقد تفرد بقوله: " في الحكم ". فهذا القدر من حديثه ضعيف، وسائره صحيح؛ لأن له شواهد. (ن) قلت: وانظر " الضعيفة " (1235) .

بينهما -، وفي إسناده ليث بن أبي سليم؛ قال البزار: إنه تفرد به. وفي إسناده أيضا أبو الخطاب؛ قيل: وهو مجهول. وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم، وعن عائشة، وأم سلمة - أشار إليهما الترمذي -. وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة، وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله - تعالى -: {أكالون للسحت} ؛ كما روي عن الحسن، وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك. وحكي عن مسروق عن ابن مسعود: أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال: لا؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ، و {الظالمون} ، و {الفاسقون} ؛ ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته، فيهدي لك، فإن أهدى لك فلا تقبل. وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا. ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضيا حديث: " هدايا الأمراء غلول ". أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث ابن حميد؛ قال ابن حجر: وإسناده ضعيف. ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز. وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي هريرة؛ قال ابن حجر:

وإسناده أشد ضعفا. وأخرجه سنيد بن داود في " تفسيره " من حديث جابر، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف. وأخرجه الخطيب في " تلخيص المتشابه " من حديث أنس، بلفظ: " هدايا العمال سحت ". وأخرج أبو داود من حديث بريدة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: " من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا؛ فما أخذه بعد ذلك فهو غلول ". وقد بوب البخاري في أبواب القضاء " باب هدايا العمال "، وذكر فيه حديث ابن اللتبية المشهور (¬1) . ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضيا نوع من الرشوة عاجلا أو آجلا. قال ابن القيم: " أما الهدية؛ ففيها تفصيل: " فإن كانت بغير سبب الفتوى - كمن عادته يهاديه، أو من لا يعرف أنه مفت - فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافئ عليها. ¬

_ (¬1) انظر " فتح الباري " (ج: 13: ص 132 - 135) . (ش)

قضاء القاضي وهو غضبان

وإن كانت بسبب الفتوى؛ فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له؛ لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء. وأما أخذ الرزق من بيت المال؛ فإن كان محتاجا إليه جاز له ذلك. وإن كان غنيا عنه ففيه وجهان - وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم -؛ فمن ألحقه بعامل الزكاة؛ قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ. وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي؛ بل القاضي أولى بالمنع. وأما أخذ الأجرة؛ فلا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه؛ كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة، أو سئل عن حلال أو حرام، فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة، فهذا حرام قطعا، ويلزمه رد العوض ولا يملكه ". انتهى. ( [قضاء القاضي وهو غضبان] :) (ولا يجوز له الحكم حال الغضب) : لحديث أبي بكرة في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ". ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير، عن أبيه في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه اختصم هو وأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير:

" اسق يا زبير {ثم أرسل الماء إلى أخيك "، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله} أن كان ابن عمتك؟ {فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " اسق يا زبير} ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (¬1) "؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في غضبه ورضائه، بخلاف غيره؛ فإن الغضب يحول بينه وبين الحق، ويختلط حال الغضب، ويتشوش خاطره، ويتكدر ذهنه، ويذهل عن الصواب. فلا يصلح الاستدلال بقضائه صلى الله عليه وسلم حال غضبه لهذا الفرق. فالحق: أن حكم الحاكم حال الغضب حرام. وأما كونه يصح أو لا يصح؛ فينبغي النظر في نفس الحكم، فإن كان واقعا على الصواب فالاعتبار بذلك، ومجرد صدوره حال الغضب لا يوجب بطلانه، وهو صواب، وإن كان واقعا على خلاف الصواب فهو باطل. وإذا التبس الأمر: هل هو صواب أو خطأ؟ - كما يحصل الاشتباه في كثير من مسائل الخلاف - فالاعتبار بما رآه الحاكم صوابا؛ لأنه متعبد باجتهاده، فإن وجد حكمه الواقع حال الغضب بعد سكون غضبه صحيحا موافق لما يعتقده حقا؛ فهو صحيح لازم للمحكوم عليه، وإن كان آثما بإيقاع الحكم حال الغضب - كما تقدم - فلا ملازمة بين الإثم وبطلان الحكم، ثم ظاهر النهي التحريم. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان إن وافق الحق. ¬

_ (¬1) • هو الجدار؛ والمراد به أصل الحائط، وقيل: أصول الشجر، والصحيح الأول؛ كذا في " النيل ". (ن)

متى يسوي القاضي بين الخصمين

قال ابن القيم: " ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد، أو جوع مفرط، أو هم مقلق، أو خوف مزعج، أو نعاس غالب، أو شغل قلب مستول عليه، أو حال مدافعة الأخبثين، بل متى أحس من نفسه شيئا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله، وكمال تثبته وتبينه؛ أمسك عن الفتوى، فإن أفتى في هذه الحال بالصواب صحت فتياه، ولو حكم في هذه الحال؛ فهل ينفذ حكمه أو لا ينفذ؟ فيه ثلاثة أقوال: النفوذ، وعدمه، والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ؛ وبين أن يكون سابقا على فهم الحكومة فلا ينفذ في مذهب الإمام أحمد ". ( [متى يسوي القاضي بين الخصمين؟] :) (وعليه التسوية بين الخصمين؛ إلا إذا كان أحدهما كافرا) ؛ لحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في " الكنى ": أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي، فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك؛ لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تساووهم في المجالس "، وقد قال أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه: إنه منكر. وأورده ابن الجوزي في " العلل " من هذا الوجه، وقال: لا يصح.

لا يقتصر على السماع من أحد الخصمين دون الآخر

ورواه البيهقي (¬1) من وجه آخر من طريق جابر الجعفي، عن الشعبي، قال: خرج علي إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعا، فعرف علي الدرع ... وذكر الحديث، وفي إسناده عمرو بن سمرة (¬2) ، عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان. وأخرج أحمد وأبو داود، والبيهقي، والحاكم - وصححه - من حديث عبد الله بن الزبير، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم. وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير؛ وهو ضعيف. ( [لا يقتصر على السماع من أحد الخصمين دون الآخر] :) (والسماع منهما قبل القضاء) ؛ لحديث علي عند أحمد، وأبي داود، والترمذي - وحسنه -، وابن حبان - وصححه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي! إذا جلس إليك الخصمان؛ فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما ¬

_ (¬1) • في " السنن " (10 / 136) ، لكن ليس فيه: " لا تساووهم في المجالس ". ولفظه: " لا تصافحوهم، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، ولجوهم إلى مضايق الطرق، وصغروهم كما صغرهم الله ". (ن) (¬2) • الصواب: " شمر " كما في البيهقي وغيره. وقول المؤلف فيه: " ضعيف "؛ فيه تسامح سبقه إليه الشوكاني (8 / 229) تبعا لابن حجر في " التلخيص " (405) ؛ فإنه كذاب وضاع، قال فيه الحاكم - على تساهله -: " كان كثير الموضوعات عن جابر الجعفي، وليس يروي تلك الموضوعات الفاحشة عن جابر غيره "، وقال أبو نعيم نحوه. أقول: فإذا لم يثبت في هذا الباب حديث؛ فالواجب - حينئذ - التسوية مطلقا، بدون الاستثناء المذكور؛ لعموم قوله - تعالى -: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} . (ن)

على القاضي أن يسهل الدخول عليه

سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء "؛ وللحديث طرق (¬1) . ( [على القاضي أن يسهل الدخول عليه] :) (و) يجب عليه (تسهيل الحجاب) ؛ لحديث عمرو بن مرة عند أحمد (¬2) ، والترمذي، والحاكم، والبزار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة (¬3) والمسكنة؛ إلا أغلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ". وأخرج أبو داود (¬4) ، والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي - مرفوعا - بلفظ: " من تولى شيئا من أمر المسلمين؛ فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم؛ احتجب الله عنه دون حاجته "؛ قال ابن حجر في " الفتح ": إن سنده جيد. وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ: ¬

_ (¬1) • وقد ذكرها وتكلم عليها الحافظ في " التلخيص " (401) ، وصحح بعض طرقه الحاكم (4 / 93) ، ووافقه الذهبي. (ن) (¬2) • في " المسند " (4 / 231) ؛ من طريق أبي حسن، عن عمرو بن مرة. وأبو حسن - هذا -: هو الجزري، وهو مجهول؛ كما في " التقريب ". ومن طريقه أخرجه الحاكم (4 / 94) ، وصححه، ووافقه الذهبي. (ن) قلت: وهو حديث صحيح؛ كما في " الصحيحة " (629) . (¬3) الخلة - بفتح الخاء -: الحاجة والفقر. (ش) (¬4) • في " سننه " (2 / 25) ؛ وسنده صحيح. ورواه الحاكم (4 / 95) ؛ وفي سنده بقية؛ وقد عنعنه. (ن)

حكم اتخاذ القاضي للأعوان

" أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم؛ احتجب الله عنه يوم القيامة "؛ قال ابن أبي حاتم: هو حديث منكر. (بحسب الإمكان) ؛ لأن لنفسه عليه حقا، ولأهله عليه حقا، فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته، فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه، ولا يحتجب كل أوقاته، فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات. وقد ثبت في " الصحيح " من حديث أبي موسى: أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على قف (2) البئر. وثبت في " الصحيح " أيضا في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا: أن عمر استأذن له الأسود لما قال له: يا رباح! استأذن لي. وقد ثبت في " الصحيح " أيضا: أنه كان لعمر حاجب يقال له: يرفأ. ( [حكم اتخاذ القاضي للأعوان] :) (ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة) ؛ لما ثبت في " البخاري " من حديث أنس: أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم. ( [يجوز للقاضي الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح] :) (و) يجوز للحاكم (الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح) ؛ لحديث هامش (2) قف البئر - بضم القاف -: هو الدكة التي تجعل حولها.

حكم القاضي لا يحلل الحرام

كعب بن مالك في " الصحيحين " وغيرهما: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: " يا كعب {" فقال: لبيك يا رسول الله} قال: " ضع من دينك هذا "، وأومأ إليه؛ أي: الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله! قال: " قم فاقضه ". وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح؛ لأنه شفاعة لمن عليه الدين باستيضاع من له الدين بعضه، وفيه إرشاد إلى الصلح أيضا. وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة، والقاضي داخل في عموم الأدلة. ( [حكم القاضي لا يحلل الحرام] :) (وحكمه ينفذ ظاهرا فقط) ؛ لحديث أم سلمة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن (¬1) بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ". وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحل الحرام. قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا ¬

_ (¬1) • أي: أبلغ - كما في رواية في " الصحيحين " - (ن) .

الحديث الصحيح وللإجماع المذكور. وبالجملة؛ فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا، ويحلل الحرام، وقد جاؤوا في هذا المقام بما لا ينفق على من له في العلم قدم. وتفصيل ذلك في " نيل الأوطار " و " مسك الختام ". واللحن مفتوحة الحاء: الفطنة، يقال: لحنت للشيء - بكسر الحاء - ألحن له لحنا، أي: فطنت، وأما اللحن بسكون الحاء؛ فهو: الخطأ. قال في " المسوى ": " اتفق أهل العلم عن أن القضاء في الدماء والأملاك المطلقة لا ينفذ إلا ظاهرا. واختلفوا في العقود والفسوخ؛ فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينفذ القضاء فيها ظاهرا وباطنا؛ حتى لو شهد شاهدان زورا أن فلانا طلق امرأته، فقضى به القاضي؛ وقعت الفرقة بينهما بقضائه، ويجوز لكل من الشاهدين أن ينكحها. وقال الشافعي: لا ينفذ باطنا. وأما المسائل المختلف فيها؛ مثل أن يقضي حنفي بشفعة الجار لرجل لا يعتقد ثبوتها، أو مات رجل عن جد وأخ؛ فقضى القاضي بالميراث للجد على مذهب الصديق - رضي الله تعالى عنه -، والمحكوم له يرى رأي زيد، أو مات رجل عن خال لا يرى توريث ذوي الأرحام؛ فقضى له القاضي بالمال؛ فأكثر أصحاب الشافعي على أنه ينفذ ظاهرا وباطنا؛ لأنه أمر مجتهد فيه لا يتصور

ظهور الخطأ فيه يقينا في الدنيا. وفي الحديث دليل على أن كل مجتهد ليس بمصيب؛ إنما الإصابة لواحد. وإثم الخطأ موضوع عن الآخر؛ لكونه معذورا فيه؛ وعليه أكثر أهل العلم. وفي الحديث دليل على أن بينة المدعي مسموعة بعد يمين المدعى عليه، وعليه الشافعي (¬1) ". انتهى. (فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع) لما تقرر أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني - في إيقاع أو وقوع - فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا، فلا يحل به الحرام ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه، ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع. ويجبر من امتنع منه، فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له بباطل لم يحلل له قبوله، ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق. ومن قال: ينفذ حكم الحاكم ظاهرا وباطنا؛ فمقالته باطلة، وشبهتها داحضة، وقد دفعها الله - عز وجل - في كتابه العزيز بقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} ، ودفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار ". ¬

_ (¬1) أين الاستدلال على هذا في الحديث الذي سبق؟ {وسيأتي في آخر (كتاب الخصومة) اختيار المصنف والشارح عدم قبول البينة بعد اليمين، ولم يأت هناك بشيء من الأحاديث للاستدلال على أحد القولين} (ش)

هذا على تقدير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها، والذي في كتبهم تخصيص ذلك بما عدا الأموال. ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب! ومن لا يقول بذلك؛ لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر، وما هو الحكم عند الله - عز وجل - وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران "، فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى، ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي. وبهذا نعرف أن المراد بقول من قال: كل مجتهد مصيب؛ أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ؛ لا من الإصابة التي تنافيه؛ والله أعلم.

الكتاب الخامس والعشرون كتاب الخصومة

(الكتاب الخامس والعشرون: كتاب الخصومة)

كتاب الخصومة

(25 - كتاب الخصومة) ( [البينة على المدعي] :) (على المدعي البينة) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه "؛ كما في " الصحيحين " من حديث الأشعث بن قيس. وأخرجه مسلم من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: " ألك بينة؟ "، قال: لا، قال: " فلك يمينه ". ( [اليمين على المنكر] :) (وعلى المنكر اليمين) : لحديث ابن عباس في " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه. وأخرجه البيهقي (¬1) بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ". وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه. وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه. ¬

_ (¬1) • في " السنن الكبرى " (10 / 252) ؛ وسنده صحيح كما قال. (ش)

يحكم الحاكم بالإقرار

وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وروي عن مالك أنه لا يتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط؛ لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل. وهو رد للرواية بمحض الرأي. (1 -[يحكم الحاكم بالإقرار] :) (ويحكم الحاكم بالإقرار) ؛ وليس في ذلك خلاف، ودلالة الكتاب العزيز على لزوم حكم الإقرار للمقر، وفيه من ذلك الكثير الطيب؛ فإن الله سبحانه رتب في كتابه العزيز أحكاما وعقوبات على حصول أمور هي إقرارات؛ وإن لم يذكر فيها لفظ الإقرار، وهو أقوى مستندات الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان، ولزوم المقر لما أقر به؛ وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى إيراد الأدلة عليه؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسفك به الدماء، ويقيم الحدود، ويقطع الأموال؛ بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم؛ كما وقع من المقر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث: " واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها "، وهو في " الصحيح " كما سيأتي؛ فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم؟ (2 -[الحكم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين] :) (و) الحكم (بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين) ؛ لنص القرآن الكريم، وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين؛ كما قال - تعالى -: {ممن ترضون من الشهداء} .

يحكم الحاكم بشهادة رجل ويمين المدعي

(3 -[يحكم الحاكم بشهادة رجل ويمين المدعي] :) (أو رجل ويمين المدعي) ؛ لحديث ابن عباس - عند مسلم وغيره -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد؛ وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والبيهقي، من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد؛ وهو من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. قد روي من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق؛ أخرجه أحمد، والدارقطني. وقد صحح حديث جابر أبو عوانة، وابن خزيمة. وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد، ورجال إسناده ثقات، وصححه أبو حاتم وأبو زرعة. وأخرجه ابن ماجه، وأحمد من حديث سرق، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا الراوي له عن سرق؛ فإنه مجهول. وقد ذكر ابن الجوزي في " التحقيق " عدد من روى هذا الحديث - يعني: حكمه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين من الصحابة -؛ فزاد على عشرين صحابيا (¬1) . وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم. ¬

_ (¬1) • ذكره الحافظ في " التلخيص " (ص 410) ؛ وقال: " وأصح طرقه: حديث ابن عباس، ثم حديث أبي هريرة ". (ن)

ويروى عن زيد بن علي، والزهري، والنخعي، وابن شبرمة، والحنفية: أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين. وأحاديث هذا الباب ترد عليهم. قلت: قال مالك في " الموطأ ": مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد؛ يحلف صاحب الحق مع شاهده، ويستحق حقه، فإن نكل أو أبى أن يحلف؛ أُحلف المطلوب؛ فإن حلف سقط عنه ذلك الحق، وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه. قال مالك: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، ولا يقع ذلك في شيء من الحدود، ولا في نكاح، ولا في طلاق، ولا في عتاقة، ولا في سرقة، ولا في فرية. قال مالك: ومن الناس من يقول: لا يكون اليمين مع الشاهد الواحد، ويحتج بقول الله - تبارك وتعالى -: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} ؛ يقول: فإن لم يأت برجل وامرأتين فلا شيء له، ولا يحلف مع شاهده. قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول؛ أن يقال له: أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا؛ أليس يحلف المطلوب: ما ذلك الحق عليه؛ فإن حلف بطل ذلك عنه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق: إن حقه لحق، وثبت حقه على صاحبه؟ فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس، ولا ببلد من البلدان، فبأي شيء أخذ هذا؟ وفي أي كتاب الله وجده؟ فإذا أقر

بهذا فليقر باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن ذلك في كتاب الله، وإنه ليكفي ذلك ما مضى من السنة، ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة؛ ففي هذا يجيء بيان؛ إن شاء الله تعالى. قال في " المسوى ": " وعلى هذا أهل العلم؛ إلا مسألة القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدعي في الأموال خاصة: قال الشافعي: يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وقد قال - تعالى - في حد القذف: {فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} ، وقال في الطلاق: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وقال في الدَّين: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} . وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - وهو عامل على الكوفة -: أن اقض باليمين مع الشاهد. وإن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا: هل يقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم. والحاصل: أن شهود الزنا أربعة، وشهود سائر الحقوق اثنان، وشهود

يجوز للحاكم أن يحكم بيمين المنكر

الأموال رجلان؛ أو رجل وامرأتان، فإن لم يتيسر؛ قضي بيمين المدعي مع الشاهد الواحد ". أقول: الحق: أن الحكم بالشاهد العدل واليمين واجب، وقد ثبت ذلك في السنة ثبوتا لا ينكره إلا من لا يعرف السنة. وجملة من رواه من الصحابة زيادة على عشرين رجلا، وللمانعين من ذلك أجوبة خارجة عن الإنصاف. وأشف ما تمسكوا به: أن الله تعالى أمر بإشهاد رجلين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " شاهداك أو يمينه ". ولا يخفاك أنه ليس في ذلك ما يفيد الحصر؛ بل غاية ما فيه: أن مفهومه يدل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين، ولا حكم لهذا المفهوم مع وجود المنطوق؛ وهو القضاء بالشاهد واليمين؛ مع أن هذا المفهوم هو مفهوم لقب؛ وهو مما لا يعمل به نحارير الأصول؛ كما ذلك معروف. وقد استوفى الماتن حجج الجميع في " شرح المنتقى "، فليرجع إليه. (4 -[يجوز للحاكم أن يحكم بيمين المنكر] :) (و) يجوز الحكم (بيمين المنكر) ؛ لما قدمنا من أن اليمين على المنكر. وقد ثبت في " صحيح مسلم " من حديث وائل بن حجر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للكندي: " ألك بينة؟ "، قال: لا، قال: " فلك يمينه "، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر؛ لا يبالي على ما حلف

يجوز للحاكم أن يحكم بيمين الرد

عليه، وليس يتورع من شيء؟ ! فقال: " ليس لك منه إلا ذلك ". (5 -[يجوز للحاكم أن يحكم بيمين الرد] :) (و) يجوز الحكم (بيمين الرد) ؛ لأن من عليه الحق قد رضي بها؛ سواء قلنا: إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر؛ أم لا. وقد استدل من لم يجعلها مستندا بمفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: " ولكن اليمين على المدعي عليه "؛ كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره، ولقوله في حديث وائل: " ليس لك منه إلا ذلك ". ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر. وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد، إذا طلبها المنكر ورضي بها؛ وقبل ذلك المدعي فحلف؛ فلا. وأما ما رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق: فلو صح؛ لكان صالحا لتخصيص ما تقدم؛ ولكن في إسناده محمد بن مسروق، وهو غير معروف، وفي إسناده أيضا إسحاق بن الفرات، وفيه مقال (¬1) . وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين بقوله: {أن ترد أيمان بعد أيمانهم) (¬2) ، ولكن فيه احتمال؛ إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها. ¬

_ (¬1) وانظر " الإرواء " (2642) لشيخنا. (¬2) • أي: إلى الورثة {بعد أيمانهم} ؛ أي: إيمان الشهيدين اللذين ظهر أنهما استحقا الإثم بالكذب، أو الكتمان في الشهادة؛ انظر: " تفسير المنار " (7 / 215 - 224) الآيات (109 - 112) من سورة المائدة. (ن)

يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه

وأما النكول؛ فلا يجوز الحكم به؛ لأن غاية ما فيه: أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها، وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق؛ بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله: " ولكن اليمين على المدعى عليه ". فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد الأمرين: إما اليمين التي نكل عنها؛ أو الإقرار بما ادعاه المدعي، وأيهما وقع؛ كان صالحا للحكم به؛ كما مر. (6 -[يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه] :) (و) يجوز الحكم (بعلمه) ؛ لأن ذلك من العدل والحق اللذين أمر الله بالحكم بهما، وليس في الأدلة ما يدل عى المنع من ذلك. وحديث: " شاهداك أو يمينه "؛ لا حصر فيه. ومما يؤيد جواز الحكم بعلم الحاكم: ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي: " ألك بينة؟ "؛ فإن البينة ما يتبين بالأمر، وليس بعد العلم بيان، بل هو أعلى أنواع البيان؛ فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم إلا مجرد الظن بأن المقر صادق في إقراره، والحالف بار في يمينه، والشاهد صادق في شهادته، وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن؛ فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين؟ وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة. وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح، ولا تنطبق على محل النزاع. وأقربها: ما أخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم من حديث أبي هريرة، قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للمدعي: " أقم البينة "، فلم

يقمها، فقال للآخر: " احلف "، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد فعلت، ولكن غفر لك بإخلاص (لا إله إلا الله) ". وفي رواية الحاكم: " بل هو عندك؛ ادفع إليه حقه " (¬1) . وأما أقوال الصحابة؛ فلا تقوم بها الحجة؛ إلا إذا أجمعوا على ذلك - عند من يقول بحجية الإجماع -. أقول: حكم القاضي بعلمه؛ هذا هو الحق، ومن منع من ذلك لم يأت بحجة واضحة، وليس في الأدلة المقتضية لوجوب الشاهدين - أو اليمين، أو ما يقوم مقام أحدهما - دليل يدل على انحصار مستند الحكم فيها، ولا ريب أن الحاصل عن مثل الشهادة من عدلين، أو يمين من ثقة، أو نكول، أو إقرار: هو مجرد الظن للحاكم فقط؛ لأن من الجائز أن يكذب الشاهدان، ويفجر الحالف في يمينه، ويكذب المقر في إقراره. وأما العلم؛ فلا يكون إلا عن مشاهدة، أو ما يقوم مقامها، وهو أولى من الظن بلا نزاع. وقد تقرر في الأصول: أن فحوى الخطاب معمول به عند جميع المحققين، وهذا منه؛ فإن العلم أولى من الظن عقلا وشرعا ووجدانا، والأدلة. ¬

_ (¬1) • في صحته نظر؛ فإن في سنده عطاء بن السائب؛ وكان قد اختلط. وقد اضطرب في سنده كما تراه في " نيل الأوطار " (8 / 242) . ومن ذلك أن الحاكم أخرجه (4 / 95) ؛ عن عطاء، عن أبي يحيى، عن ابن عباس ... به نحوه؛ فجعله من مسند ابن العباس، لا من مسند أبي هريرة. وقد رواه شعبة؛ عن عطاء ... مختصرا جدا ليس فيه موضع الشاهد. وسماع شعبة منه قديم؛ فهو صحيح مختصرا. (ن)

من لا تقبل شهادته

العامة شاملة له - كالآيات التي ذكروها -. وتخصيص الحدود بقول عمر (¬1) مما لا يرتضيه الإنصاف؛ لأن المقام من مجالات الاجتهاد، واجتهاده ليس بحجة على غيره. ودعوى الإجماع؛ هي من تلك الدعاوى التي قد عرفناك بها غير مرة. وقد حقق الماتن هذا البحث في " شرح المنتقى " (¬2) بما لم أجده لغيره. ( [من لا تقبل شهادته] :) (1 -[غير العدل] ) (ولا تقبل شهادة من ليس بعدل) ؛ لقوله - تعالى -: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (¬3) ، وقوله - تعالى -: {ممن ترضون من الشهداء} (¬4) ، وقوله - تعالى -: ¬

_ (¬1) • يعني: قوله: لولا أن يقول الناس: زاد عمر آية في كتاب الله؛ لكتبت آية الرجم؛ رواه البخاري. قلت: وهذا ليس صريحا فيما نحن فيه، ويعارضه ما هو أصرح منه؛ وهو حكم عمر بعلمه على أبي سفيان في قصة رواها ابن عبد البر؛ انظر " الجوهر النقي " (10 / 143) . (ن) (¬2) • (8 / 239 - 242) . (ن) (¬3) • هذه الآية في إمساك المطلقة أو مفارقتها. (ن) (¬4) • قال شيخ الإسلام في " الاختيارات " (ص 211) - تعليقا على هذه الآية -: " يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيدا بينهم، ولا ينظر إلى عدالته، كما يكون مقبولا عليهم فيما ائتمنوه عليه، وقوله تعالى في آية الوصية والرجعة: {اثنان ذوا عدل} ؛ أي: صاحبا عدل. العدل في المقال: هو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان، كما بينه الله - تعالى - في قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} ، والعدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها، فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر، وبهذا يمكن الحكم بين الناس؛ وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات - كما كان الصحابة -؛ لبطلت الشهادات كلها أو غالبها ". (ن)

{إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية. وقد حكى في " البحر " الإجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق. قلت: شرط الشاهد كونه مسلما حرا مكلفا؛ أي: عاقلا بالغا ضابطا ناطقا عدلا ذا مروءة؛ ليست به تهمة، وعليه أكثر أهل العلم في الجملة؛ غير أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل: فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الإطلاق. وقال أبو حنيفة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة، وإن اختلفت مللهم. وشهادة الصبيان لا تقبل عند الأكثرين؛ إلا عند مالك في الجراح فيما بينهم خاصة؛ ما لم يصلوا إلى أهل بيتهم. وأثر عبد الله بن الزبير - أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح؛ معارض بقول ابن عباس: إنها لا تجوز؛ لأن الله - تعالى - يقول: {ممن ترضون من الشهداء} . وحد العدالة: أن يكون محترزا عن الكبائر، غير مصر على الصغائر. والمروءة: هي ما تتصل بآداب النفس؛ مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيا مما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب؛ يعلم به قلة مروءته، وترد شهادته؛ وإن كان ذلك مباحا.

والخائن والعدو

(2 و 3 -[الخائن] و [العدو] :) (ولا) تقبل شهادة (الخائن ولا ذي العداوة) ؛ وإن كان مقبول الشهادة على غيره؛ لأنه متهم في حق عدوه، ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به، فإن شهد لعدوه تقبل؛ إذا لم يظهر في عداوته فسق. (4 و 5 -[المتهم] و [القانع] :) (والمتهم والقانع لأهل البيت) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، والبيهقي -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر (¬2) على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت "، والقانع: الذي ينفق عليه أهل البيت. ولأبي داود في رواية: " ولا زان ولا زانية ". قال ابن حجر في " التلخيص ": " وسنده قوي ". والغمر - بكسر المعجمة، وسكون الميم، بعدها راء مهملة -: الحقد؛ أي: لا تقبل شهادة العدو على العدو. وأخرج الترمذي، والدارقطني، والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا؛ بلفظ: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر لأخيه، ولا ظنين (¬3) ، ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 6698، 6899، 6940) ، وأبو داود (4 / 117) ، وابن ماجه (2 / 65) ؛ من طرق عن عمرو ... به. ورواه البيهقي (10 / 155) ؛ وإسناده حسن، كما قال العراقي في " التخريج " (3 / 130) . (ن) (¬2) • حقد. (ن) (¬3) الظنين: المتهم؛ فعيل بمعنى مفعول؛ من الظنة - بكسر الظاء -؛ وهي التهمة والشك. (ش)

ولا قرابة "، وفي إسناده يزيد بن زياد الشامي، وهو ضعيف. وقد أخرج الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه، وفي إسناده عبد الأعلى، وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي، وهما ضعيفان. وأخرج أبو داود في " المراسيل " من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث مناديا: أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين. ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة (¬1) "، يعني: الذي بينك وبينه عداوة. ورواه الحاكم من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة يرفعه مثله؛ قال ابن حجر: وفي إسناده نظر (¬2) . والمراد بالمتهم: هو من يظن به أنه يشهد زورا لمن يحابيه؛ كالقانع، والعبد لسيده. وقد حكى في " البحر " الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده. قال في " المسوى ": " ولا تجوز شهادة الوالد لولده (¬3) ولا الولد لوالده، ويجوز عليهما. ¬

_ (¬1) الحنة - بكسر الحاء وفتح النون المخففة -: العداوة؛ وهي لغة قليلة في الإحنة. (ش) (¬2) • قلت: وذلك لأن في سنده - عند الحاكم (4 / 99) - مسلم بن خالد الزنجي؛ وهو صدوق كثير الأوهام، كما في " التقريب ". ولكن حديثه هذا صحيح؛ لما له من الشواهد المتقدمة. (ن) (¬3) • والحق أن شهادة كل منهما تقبل في الآخر، والعكس قول مبتدع، لم يكن عليه الصحابة، كما بينه ابن القيم في المكان الذي سأشير إليه قريبا.

القاذف

وكذا لا تقبل شهادة من جر إلى نفسه نفعا؛ كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها، أو شهد للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل، أو شهد على رجل أنه قتل مورثه؛ فهذه كلها مواضع التهمة. واتفقوا على قبول شهادة الأخ للأخ وسائر الأقارب. واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ فلم يجزها أبو حنيفة، وأجازها الشافعي. أقول: الحق: أن القرابة - بمجردها - ليست بمانعة؛ سواء كانت قريبة أو بعيدة؛ إنما المانع التهمة، فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية الجاهلية، ولا يردعه عن العصبية دين ولا حياء؛ فشهادته غير مقبولة. وإن كان على العكس من ذلك؛ فشهادته مقبولة (¬1) . والأصل في المنع من قبول شهادة المتهم حديث: " لا تقبل شهادة ذي الظنة والحنة "؛ والظنة: هي التهمة، ولم يرد ما يدل على منع شهادة القريب لأجل القرابة. (6 -[القاذف] :) (والقاذف) : لقوله - تعالى -: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، بعد قوله: {والذين يرمون المحصنات} ، وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في ¬

_ (¬1) • وقد حقق هذا البحث ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 131 - 144) ، وصحح ما ذهب إليه الشارح، وقال: " إنه نص عليه أحمد "؛ فراجعه؛ فإنه نفيس. (ن)

حكم التوبة المذكورة في آخر الآية: قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الذي يجلد الجلد ثم تاب وأصلح؛ تجوز شهادته، وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك. قلت: وعليه الشافعي. وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف، فإذا حد فيه؛ ردت شهادته على التأبيد؛ وإن تاب. وأصل المسألة: أن الاستثناء يعود إلى الفسق فقط في قول أهل العراق، وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعا في قول أهل الحجاز. وقال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين يحد؛ لأن الحدود كفارات، فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه؟ {وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا؛ كيف لا تقبلون توبة القاذف؛ وهو أيسر ذنبا؟} قيل: معنى قول أبي حنيفة؛ أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقا وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا، فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد؛ صار مكذبا بحكم الشرع؛ لقوله - تعالى -: {فأولئك عند الله هم الكاذبون} (¬1) ، فوجب رد شهادته. ثم رد شهادة المحدود في القذف تأبيدي عنده؛ لقوله - تعالى -: {ولا ¬

_ (¬1) • الآية بتمامها: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} . (ن)

البدوي على صاحب القرية

تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، والتأبيد ينافي التعليق؛ فلا يجري فيه القياس. وقال الواحدي: أبد كل إنسان؛ مقدار مدته فيما يتصل بقصته، يقال: الكافر لا يقبل منه شيء أبدا؛ معناه: ما دام كافرا. كذلك القاذف لا تقبل شهادته أبدا ما دام قاذفا، فإذا زال عنه الكفر زال عنه أبده، وإذا زال عنه الفسق زال أبده؛ لا فرق بينهما في ذلك (¬1) . (7 -[البدوي على صاحب القرية] :) (ولا) تقبل شهادة (بدوي على صاحب قرية) ؛ لحديث أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ". أخرجه أبو داود (¬2) ، وابن ماجه، والبيهقي. قال المنذري: رجال إسناده احتج بهم مسلم في " صحيحيه ". قال في " النهاية ": ¬

_ (¬1) • وقد مال إلى هذا ابن القيم - رحمه الله -؛ حيث عقد فصلا خاصا لهذه المسألة في " الإعلام " (1 / 145 - 152) ؛ أورد فيه حجج الفريقين وما لها وما عليها، ثم استقر بحثه على ما ذكرنا؛ وهو الأقرب إلى الحق، وظاهر النص القرآني: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} . (ن) (¬2) في " سننه " (2 / 117) ، وكذا الحاكم (4 / 99) ؛ عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة؛ مرفوعا. وهذا سند حسن، وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: " لم يصححه المؤلف؛ وهو حديث منكر على نظافة سنده "! ولم يظهر لي وجه النكارة. والحديث رواه ابن ماجه أيضا. (ن)

حكم من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة

" إنما كره شهادة البدوي؛ لما فيه من الخفاء في الدين، والجهالة بأحكام الشرع، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ". وبنحو هذا قال الخطابي. وروي نحوه عن أحمد بن حنبل، وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد، وبه قال مالك وأبو عبيد، وذهب الأكثر إلى القبول. قال ابن رسلان: " وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو، والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم ". انتهى. وهذا توجيه قوي، ومحمل سوي. ( [حكم من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة] :) (وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة) ؛ لأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى يخصصه من عموم الأدلة. وأيضا حديث قبول خبر المرضعة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد خبرها: " كيف وقد قيل؟ "، ورتب على خبرها التحريم - وقد تقدم في الرضاع -؛ وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى. ولم يستدل المانع إلا على (¬1) أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله؛ لم يخل من تهمة، وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة. ¬

_ (¬1) لعل صوابه: إلا بأن الشاهد ... إلخ. (ش)

شهادة الزور من أكبر الكبائر

وأما تحليف الشهود عند الريبة؛ فالظاهر أنه من جملة التثبت المأمور به؛ ولا سيما مع فساد الزمان، وتواثب كثير من الناس على شهادة الزور، وكثيرا ما يتحرج بعض المتساهلين في الشهادة عن اليمين الفاجرة، والبعض بالعكس من ذلك. ولم يرد دليل على المنع من تحليف الشهود. وأما الاستدلال بقوله - تعالى -: {فيقسمان بالله} ؛ ففي انطباقه على محل النزاع خلاف. وأما تفريق الشهود؛ فهو من أعظم ما يستعان به على الفرق بين صدق الشهادة وكذبها؛ ولا سيما إذا سألهم الحاكم عن بعض الأحوال التي لا يجوز تواطؤهم عليها. قال الماتن - رحمه الله - في " حاشية الشفاء ": " ولقد انتفعت بتفريق الشهود، وتنويع سؤالهم، وقل ما تصح شهادة بعد ذلك، والحاكم لا يحل له التساهل؛ بل يجب عليه إكمال البحث عن كل ما يتوصل به إلى كشف الحقيقة، وهذا منه ". ( [شهادة الزور من أكبر الكبائر] :) (وشهادة الزور من أكبر الكبائر) ؛ لحديث أنس - في " الصحيحين "، وغيرهما - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر، أو سئل عن الكبائر؟ فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين "، وقال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ! قول الزور - أو قال: شهادة الزور - ".

ما يلزم إذا تعارضت البينتان

وفي " الصحيحين " أيضا من حديث أبي بكرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ {"، قلنا: بلى يا رسول الله} قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين "، وكان متكئا؛ فجلس وقال: " ألا وقول الزور؛ وشهادة الزور "، فما زال يكررها؛ حتى قلنا: ليته سكت! ثم أقول: المراد بالشهادة: الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم بأي لفظ كان، وعلى أي صفة وقع، ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه، فإذا قال مثلا: رأيت كذا وكذا، أو: سمعت كذا وكذا؛ فهذه شهادة شرعية. وقد أحسن المحقق ابن القيم - رحمه الله - حيث قال في " فوائده ": " ليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل؛ لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ". انتهى. وقد تقرر في محله: أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء، ولا وصل إلى أن يعقل أن الألفاظ غير مرادة لذاتها، وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها، فإذ قد حصلت التأدية للمعنى المراد؛ فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية. ( [ما يلزم إذا تعارضت البينتان] :) (وإذا تعارض البينتان، ولم يوجد وجه ترجيح؛ قسم المدعى) ؛ لحديث أبي

موسى - عند أبي داود (¬1) ، والحاكم، والبيهقي -: أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث كل واحد منهما بشاهدين، فقسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين. وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة (¬2) - وصححه -. وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث تميم بن طرفة. ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قسمة المدعى؛ إذا لم يكن للخصمين بينة: فأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي من حديث أبي موسى: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة؛ فجعلها بينهما نصفين. وثبتت قسمة المدعى عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المذكور أولا؛ بزيادة ذكرها النسائي، فقال: ادعيا دابة وجداها عند رجل، فأقام كل منهما شاهدين، ¬

_ (¬1) • (2 / 120) ، والحاكم (4 / 95) ، والبيهقي (10 / 257) ؛ وقال: " والحديث معلول عند أهل الحديث؛ مع الاختلاف في إسناده على قتادة ". وأما الحاكم فقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. وهذا هو الأقرب؛ فإن الاختلاف الذي أشار إليه البيهقي لا يضر، وبيان ذلك لا يتسع له المكان. (ن) (¬2) • وكذلك رواه البيهقي (10 / 258) ؛ وسنده صحيح إذا سلم من الاختلاف الذي سبق في كلام البيهقي. (ن)

حكم يمين المنكر في حال انعدام بينة المدعي

فلما أقام كل واحد منهما شاهدين؛ نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما (¬1) . ( [حكم يمين المنكر في حال انعدام بينة المدعي] .) (وإذا لم يكن للمدعي بينة؛ فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا) ؛ لحديث الأشعث بن قيس - في " الصحيحين "، وغيرهما -، قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " شاهداك أو يمينه "، فقلت: إنه إذن يحلف ولا يبالي {فقال: " من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان ". وأخرج مسلم، وغيره من حديث وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: " ألك بينة؟ "، قال: لا، قال: " فلك يمينه "، فقال: يا رسول الله} الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء {فقال: " ليس لك منه إلا ذلك ". ( [حكم بينة المدعي بعد يمين المنكر] :) (ولا تقبل البينة بعد اليمين) ؛ لما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه ". فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي؛ فهي مستند للحكم صحيح، ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها؛ لأنه لا يحصل بكل واحد منهما إلا مجرد ظن، ولا ينتقص الظن بالظن. وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم، والخلاف معروف. ¬

_ (¬1) • تكرار لا وجه له} (ن)

ما هي شروط المعترف

( [ما هي شروط المعترف؟] :) (ومن أقر بشيء - عاقلا بالغا غير هازل ولا بمحال عقلا أو عادة -؛ لزمه ما أقر به كائنا ما كان) ؛ لما تقدم. وأما تقييده بكون المقر عاقلا بالغا؛ فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين؛ فلا حكم لإقرارهما. وأما تقييده بكونه غير هازل؛ فلكون إقرار الهازل ليس هو الإقرار الذي يجوز أخذه به. وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة؛ لأن كذبه معلوم، ولا يجوز الحكم بالكذب. (ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها؛ كما سيأتي) ؛ لكون المقر بالشيء على نفسه قد لزمه إقراره. واعتبار التكرار في الحدود سيأتي أنه لم يثبت عليه دليل يوجب المصير إليه.

الكتاب السادس والعشرون كتاب الحدود

(الكتاب السادس والعشرون: كتاب الحدود)

كتاب الحدود

(26 - كتاب الحدود) (1 - باب حد الزاني) والزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان؛ قال - تعالى -: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} ، وعلى هذا اتفق المسلمون؛ وإن كان لهم في حد الزنا اختلاف. ( [حد البكر الزاني] :) (إن كان بكرا حرا جلد مئة جلدة) ؛ لقوله - تعالى -: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . وفي قوله: {لا تأخذكم بهما رأفة} : نهي عن تعطيل الحدود، وقيل: نهي عن تخفيف الضرب؛ بحيث لا يحصل وجع معتد به، وقوله: {ليشهد عذابهما} ؛ قيل: يجب حضور ثلاثة فما فوقهم، وقيل: أربعة بعد شهود الزنا، وقال أبو حنيفة: الإمام والشهود إن ثبت الزنا بالشهود. والأحاديث في هذا الباب كثيرة. (وبعد الجلد يغرب عاما) ؛ لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في

" الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله {أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم؛ فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قل "، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا؛ فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمئة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم؟ فأخبروني أن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده؛ لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغد يا أنيس} - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمهما "، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فرجمت. قال مالك: العسيف: الأجير. وفي " البخاري "، وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن؛ بنفي عام وإقامة الحد عليه. وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر؛ جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم ". وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن: الجمهور؛ حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب " الإجماع " الاتفاق على نفي الزاني البكر؛ إلا عن الكوفيين.

حد الثيب الزاني

وقد حكى ابن المنذر أنه عمل بالتغريب: الخلفاء الراشدون، ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعا. ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة، وغاية ما تمسكوا به؛ عدم ذكره في بعض الأحاديث، وذلك لا يستلزم العدم. واختلف من أثبت التغريب؛ هل تغرب المرأة أم لا؟ فقال مالك والأوزاعي: لا تغريب على المرأة؛ لأنها عورة، وظاهر الأدلة عدم الفرق. قلت: والتغريب من جملة الإيذاء الذي أمر به القرآن، قال: {فآذوهما} ، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يغرب. ( [حد الثيب الزاني] :) (وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر) ؛ بما تقدم من الأدلة وبغيرها؛ كرجمه صلى الله عليه وسلم لماعز، ورجمه صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية، ورجمه للغامدية (¬1) ، والكل في " الصحيح ". (ثم يرجم حتى يموت) ؛ والرجم كان متلوا ثم نسخت تلاوته. وأيضا يتناوله الإيذاء، وعلى هذا أكثر أهل العلم. وتكلموا في ترتيب هذه الدلائل مع حديث عبادة: " الثيب بالثيب جلد ¬

_ (¬1) قصة ماعز واليهوديين والغامدية؛ لم يذكر فيها الجلد، وإنما اقتصر الرواة فيها على حكاية الرجم، فكيف يستدل بها الشارح على وجوب الجلد؟ {لا أدري} (ش)

يثبت الزنا بالإقرار مرة والتربيع فيه للتثبت

مئة والرجم "، وجمع علي - كرم الله وجهه - بين الرجم والجلد: فقالوا: الجلد منسوخ فيمن وجب عليه الرجم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين، ولم يجلد واحدا منهم، وقال لأنيس الأسلمي: " فإن اعترفت فارجمها "، ولم يأمر بالجلد، وهذا آخر الأمرين؛ لأن أبا هريرة قد رواه، وهو متأخر الإسلام، فيكون ناسخا لما سبق من الحدين: الجلد والرجم، ثم رجم الشيخان أبو بكر، وعمر في خلافتهما، ولم يجمعا بين الرجم والجلد. قال في " المسوى ": " في حديث عبادة ما يدل على أنه من آخر أحكام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن لفظه: " خذوا عني " إلخ؛ فيه إشارة إلى قوله - تعالى -: {أو يجعل الله لهن سبيلا} ، فهو متأخر عن هذه الآية، وهذه الآية في سورة النساء، وهي من آخر ما نزل، فلا تدل رواية أبي هريرة إياه على النسخ. بل الظاهر عندي؛ أنه يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد والرجم، ويستحب له أن يقتصر على الرجم؛ لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجم. والحكمة في ذلك: أن الرجم عقوبة تأتي على النفس، فأصل الرجم المطلوب حاصل به، والجلد زيادة عقوبة رخص في تركها، فهذا هو وجه الاقتصار على الرجم عندي، والعلم عند الله تعالى ". ( [يثبت الزنا بالإقرار مرة والتربيع فيه للتثبت] :) (ويكفي إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد

الاستثبات) ؛ لأن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة. فمن أوجب تكرار الإقرار في فرد من أفراد الشريعة؛ كان الدليل عليه، ولا دليل ههنا بيد من أوجب تربيع الإقرار؛ إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أو أمر غيره بأن يكرر الإقرار، ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات. وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول؛ لقصد التثبت في أمره، ولهذا قال له - صلى الله عليه وسلم -: " أبك جنون؟ "، ووقع منه صلى الله عليه وسلم السؤال لقوم ماعز عن عقله؟ وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار مرة واحدة. كما ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: " واغد يا أنيس {إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها ". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه رجم الغامدية، ولم تقر إلا مرة واحدة؛ كما في " صحيح مسلم "، وغيره. وكما أخرجه أبو داود، والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة (¬1) . ¬

_ (¬1) • رواه أبو داود (2 / 232 - 233) ، وكذا البيهقي (8 / 218) ، وأحمد (3 / 479) ؛ من طريق محمد بن عبد الله بن علاثة: ثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن خالد ... به. وهذا سند فيه ضعف؛ لأن ابن علاثة، وشيخه عبد العزيز؛ كلاهما صدوق سيئ الحفظ؛ كما في " التقريب ". ثم إن في الاستدلال بالحديث نظرا؛ لأن الاعتراف وقع من الرجل مرتين - عند أبي داود، والبيهقي -} (ن)

ومن ذلك: حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها، فأمر برجمه، ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل، فرجمه. وفي رواية: أنه عفا عنه، والحديث في " سنن النسائي " و " الترمذي " (¬1) . ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية؛ فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار، فلو كان الإقرار أربع مرات شرطا في حد الزاني؛ لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة له في عدة قضايا. فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد - بعد صدور الإقرار مرة - على من كان أمره ملتبسا في ثوب العقل وعدمه، والصحو والسكر؛ ونحو ذلك. وأحاديث إقامة الحد - بعد الإقرار مرة - على من كان معروفا بصحة العقل ونحوه. وأما اعتبار كون الشهود أربعة؛ فذلك لمزيد الاحتياط في الحدود؛ لكونها تسقط بالشبهة، ولا وجه للاحتياط بعد الإقرار؛ فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة؛ بخلاف شهادة الشهود عليه، وهذا أمر واضح. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 334 - 335) ؛ وصححه بالرواية الأولى. والرواية الأخرى عند البيهقي (8 / 284) واشار إلى أنها خطأ. قلت: وفي سند هذه أسباط بن نصر؛ وهو كثير الخطأ، كما في " التقريب ". وللرواية الأولى طريق آخر عند الترمذي والبيهقي (8 / 235) . ولها شاهد من حديث سهل بن سعد عند الحاكم (4 / 270) ؛ وصححه، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر؛ لأنه من طريق مسلم بن خالد الزنجي؛ وفيه ضعف، لكن لا بأس فيه في الشواهد. (ن)

أو يثبت الزنا بأربعة شهداء

وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم. وحكاه صاحب " البحر " عن أبي بكر، وعمر، والحسن البصري، ومالك، وحماد، وأبي ثور، والبتي، والشافعي. وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار. أقول: هذه المسألة من المعارك. والحق: أن الإقرار الذي يستباح به الجلد والرجم؛ لا يشترط فيه أن يكون زيادة على مرة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم وأمر بالرجم، وجلد بمجرد الإقرار مرة واحدة؛ كما ثبت ذلك في عدة أحاديث. وأما سكوته صلى الله عليه وسلم في مثل قضية ماعز حتى أقر أربعا؛ فليس فيها أن ذلك شرط؛ بل غاية ما فيها أن الإمام إذا تثبت في بعض الأحوال حتى يقع الإقرار مرات؛ كان له ذلك. وقد بسط الماتن المسألة في " شرح المنتقى "، فليرجع إليه، فالمقام حقيق بالتحقيق. ( [أو يثبت الزنا بأربعة شهداء] :) (وأما الشهادة فلا بد من أربعة) ؛ ولا أعلم في ذلك خلافا، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. قال في " المسوى ":

" يثبت الزنا بالإقرار وبأربعة شهداء؛ قال الله - تعالى -: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} ". قلت: على هذا أهل العلم. (ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت؟ {"، فقال: لا؛ يا رسول الله} قال: " أفنكتها؟ " - لا يكني - قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه. أخرجه البخاري، وغيره من حديث ابن عباس. وأخرج أبو داود، والنسائي، والدارقطني من حديث أبي هريرة، قال: جاء الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما - أربع مرات -؛ كل ذلك يعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة، فقال: " أنكتها؟ "، قال: نعم، قال: " كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ "، قال: نعم ... الحديث، وفي إسناده ابن الهصهاص (¬1) . قال البخاري: حديثه في أهل الحجاز؛ ليس يعرف إلا بهذا الواحد (¬2) . وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا، والقصة معروفة. ¬

_ (¬1) اسمه عبد الرحمن بن الصامت. ووقع هنا، وفي " شرح أبي داود " (ج 4: ص 256) بالصاد المهملة، وهو خطأ؛ صوابه بالضاد المعجمة؛ كما في " التهذيب "، و " التقريب "، و " الخلاصة ". (ش) (¬2) صوابه: " إلا بهذا الواحد "، كما في " شرح أبي داود " و " التهذيب ". (ش)

الشبهات مسقطة للحد

( [الشبهات مسقطة للحد] :) (ويسقط) الحد (بالشبهات المحتملة) ؛ لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادرأوا الحدود على المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة "، أخرجه الترمذي. وقد رواه الترمذي أيضا من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة. وقد أعل الحديث بالوقف (¬1) . وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا؛ بلفظ: " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا " (¬2) . وقد روي من حديث علي مرفوعا: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " (¬3) . وروي نحوه عن عمر، وابن مسعود بإسناد صحيح. وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه ويقويه. ومما يؤيد ذلك؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كنت راجما أحداً بغير بينة لرجمتها "؛ يعني: امرأة العجلاني؛ كما في " الصحيحين " من حديث ابن عباس. ¬

_ (¬1) وضعفه شيخنا في " الإرواء " (2355) . (¬2) ضعفه في " الإرواء " (2356) . (¬3) ضعفه في " الإرواء " (2316) .

الرجوع عن الإقرار مسقط للحد

( [الرجوع عن الإقرار مسقط للحد] :) (وبالرجوع عن الإقرار) ؛ لحديث أبي هريرة - عند أحمد، والترمذي -: أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد؛ حتى مر برجل معه لحي (¬1) جمل؛ فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: " هلا تركتموه {". قال الترمذي: " إنه حديث حسن، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ". انتهى. ورجال إسناده ثقات. وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث جابر نحوه، وزاد: أنه لما وجد مس الحجارة صرخ: يا قوم} ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه؛ قال: " فهلا تركتموه وجئتموني به! ". وقد أخرج البخاري، ومسلم طرفا من هذا الحديث. وفي الباب روايات. وقد ذهب إلى ذلك أحمد، والشافعية، والحنفية، وهو مروي عن مالك في قوله له. ¬

_ (¬1) اللحي: عظم الحنك. (ش)

تبطل الشهادة ويندفع الإقرار لوجود مانع النكاح في المرأة أو الرجل

وقد ذهب ابن أبي ليلى، والبتي، وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار. ( [تبطل الشهادة ويندفع الإقرار لوجود مانع النكاح في المرأة أو الرجل] :) (وبكون المرأة عذراء (¬1) أو رتقاء (¬2) ، وبكون الرجل مجبوبا أو عنينا) : لكون المانع موجودا، فتبطل به الشهادة أو الإقرار؛ لأنه قد علم كذب ذلك قطعا، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية، فذهب فوجده يغتسل في ماء، فأخذ بيده، فأخرجه من الماء ليقتله، فرآه مجبوبا؛ فتركه، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، والقصة مشهورة، وهذا معناه. قلت: وقد أخرج مسلم وغيره ما حكاه الماتن، وذكره جمع من أهل السير. ( [تحرم الشفاعة في الحدود] :) (وتحرم الشفاعة في الحدود) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فهو مضاد لله في أمره ". وفي " الصحيحين " من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي ¬

_ (¬1) • يقال: إنه يمكن أن تقع في الزنا وتظل عذراء! (ن) (¬2) الرتق ضد الفتق، والرتقاء: المرأة التي التصق ختانها؛ فلا يصل الرجل إليها؛ لشدة انضمام فرجها. (ش)

مشروعية الحفر للمرجوم

سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: " أتشفع في حد من حدود الله؟ {". وفي لفظ: " لا أراك تشفع في حد من حدود الله ". وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، وصححه الحاكم، وابن الجارود (¬1) : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه -: " هلا كان قبل أن تأتيني به} ". وفي الباب أحاديث. ( [مشروعية الحفر للمرجوم] :) (ويحفر للمرجوم إلى الصدر) ؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحفر للغامدية إلى صدرها، وهو في " صحيح مسلم "، وغيره: أنه حفر لماعز حفرة، ثم أمر به فرجم؛ كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز. وأخرجها أحمد، وزاد: فحفر له حفرة، فجعل فيها إلى صدره. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج، عن أبيه: أنه اعترف رجل بالزنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحصنت؟ "، قال: نعم، فأمر برجمه، فذهبنا فحفرنا له؛ حتى أمكننا، ورميناه بالحجارة حتى هدأ. وقد ثبت في " مسلم "، وغيره من حديث أبي سعيد، قال: لما أمرنا ¬

_ (¬1) يعني: من حديث صفوان بن أمية؛ وسيأتي في أول باب السرقة. (ش)

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك؛ خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه. ويؤيد هذا؛ ما وقع في حديث غيره أنه هرب؛ كما تقدم، ولكن ترك الحفر له لا ينافي ثبوت مشروعية الحفر. قال ابن القيم - بعد تخريج حديث ماعز المتقدم بألفاظ -: " وكل هذه الألفاظ صحيحة، وفي بعضها أنه أمر فحفرت له حفيرة؛ ذكرها مسلم، وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر (¬1) ؛ وإن كان مسلم روى له في " الصحيح "؛ فالثقة قد يغلط، على أن أحمد وأبا حاتم قد تكلما فيه. وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية، فسرى إلى ماعز، والله تعالى أعلم ". انتهى. أقول: وجمع بين الحديثين؛ بأنه قد كان حفر له حفرة صغيرة، ثم خرج منها، ورجموه وهو قائم؛ كما تدل عليه رواية أبي سعيد. وأما الحفر للمرأة فثابت. وقد اختلف في مشروعيته، والحق أنه مشروع. ¬

_ (¬1) • قال الحافظ في " التقريب ": " صدوق لين الحديث ". وقد تابعه على القصة علقمة بن مرثد؛ فلم يذكر الحفر، كما أنه قال: عن سليمان بن بريدة، عن أبيه؛ بينما قال الأول: عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. وكلاهما في " صحيح مسلم " (5 / 119 - 120) . (ن)

متى يقام الحد على الحبلى من الزنا

( [متى يقام الحد على الحبلى من الزنا؟] :) (ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها؛ إن لم يوجد من يرضعه) ؛ لحديث سليمان بن بريدة، عن أبيه - عند مسلم، وغيره -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة - من غامد من الأزد -، فقالت: طهرني يا رسول الله {فقال: " ويحك} ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه "، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ {قال: " وما ذاك؟ "، قالت: إني حبلى من الزنا، قال: " أنت؟ "، قالت: نعم، فقال لها: " حتى تضعي ما في بطنك "، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: " إذن؛ لا نرجمها وندع ولدها صغير السن، ليس له من يرضعه "، فقام رجل من الأنصار، فقال: إلي رضاعه يا نبي الله} قال: " فارجمها ". وأخرج مسلم، وغيره من حديث عمران بن حصين: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله! أصبت حدا فأقمه علي، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: " أحسن إليها؛ فإذا وضعت فأتني "، ففعل، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ... الحديث. وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وابن عباس. وأحاديثهم عند مسلم.

جواز الجلد بعثكال للزاني الضعيف

وقد اختلفت الروايات؛ ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة، وفي بعضها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر رجمها إلى الفطام، فجاءت بعد ذلك فرجمت، وقد جمع بينهما بجموعات. ( [جواز الجلد بعثكال للزاني الضعيف] :) (ويجوز الجلد حال المرض بعثكال (¬1) ونحوه) ؛ لحديث أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عبادة، قال: كان بين أبياتنا رجل ضعيف مخدج، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وكان ذلك الرجل مسلما، فقال: " اضربوه حده "، قالوا: يا رسول الله! إنه أضعف مما تحسب؛ لو ضربناه مئة قتلناه، فقال: " خذوا له عثكالا فيه مئة شمراخ (¬2) ، ثم اضربوه به ضربة واحدة "، قال: ففعلوا. رواه أحمد (¬3) ، وابن ماجه، والشافعي، والبيهقي. ورواه الدارقطني، عن فليح، عن أبي سالم، عن سهل بن سعد. ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد الخدري. ¬

_ (¬1) العثكال: العذق من أعذاق النخل. (ش) (¬2) الشمراخ: الغصن من أغصان العثكال. (ش) (¬3) • في " المسند " (5 / 222) ، وابن ماجه (2 / 121) ، والبيهقي (8 / 330) ؛ وفيه محمد ابن إسحاق، وقد عنعنه. لكن رواه الشافعي (2 / 288) ؛ من طريقين، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن رجلا ... وسنده صحيح؛ فإن رجاله كلهم ثقات، وأبو أمامة - هذا -؛ اسمه أسعد؛ وهو صحابي صغير. (ن)

حد اللواط القتل للفاعل والمفعول به بكرا أم محصنا

ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار. وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه. وإسناد الحديث حسن. وقد أخرج مسلم (¬1) ، وغيره من حديث علي، قال: إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها؛ فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن [أنا جلدتها] (¬2) أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أحسنت؛ اتركها حتى تماثل ". وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول؛ بأن المريض إذا كان مرضه مرجوا أمهل، كما في الحديث الآخر، وإن كان مأيوسا جلد؛ كما في الحديث الأول. وقد حكى في " البحر " الإجماع على أنه تمهل البكر: حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو. فإن كان مأيوسا؛ فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول؛ إن احتمله. ( [حد اللواط: القتل للفاعل والمفعول به بكرا أم محصنا] :) (ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرا؛ وكذلك المفعول به إذا كان مختارا) ؛ لحديث ابن عباس - عند أحمد (¬3) ، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، ¬

_ (¬1) • (5 / 125) . (ن) (¬2) في الأصل: أجلدها؛ والصواب ما أثبتناه. (ن) (¬3) • في " المسند " (2727، 2732) ، والبيهقي (8 / 232) ؛ من طرق عن عكرمة، عنه. فهو سند صحيح. وقد صح القول بمقتضاه من رواية ابن عباس؛ كما يأتي. (ن)

والحاكم، والبيهقي -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". قال ابن حجر: رجاله موثقون؛ إلا أن فيه اختلافا. وأخرج ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به؛ أحصنا أو لم يحصنا "، وإسناده ضعيف. قال ابن الطلاع في " أحكامه ": " لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه، وثبت عنه أنه قال: " اقتلوا الفاعل والمفعول به "، رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة (¬1) ". انتهى. وأخرج البيهقي (¬2) ، عن علي: أنه رجم لوطيا. قال الشافعي: وبهذا نأخذ؛ نرجم اللوطي؛ محصنا كان أو غير محصن. وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر (¬3) : أنه جمع الناس في حق رجل ¬

_ (¬1) • حديث أبي هريرة؛ رواه ابن عساكر في " تحريم الابنة " (1 / 166) . (ن) (¬2) • في " سننه " (8 / 232) ؛ وفيه رجل لم يسم؛ وهو الراوي عن علي. نعم؛ سماه في رواية: " يزيد "؛ قال الراوي: أراه ابن مذكور، لكن فيه رجل آخر لم يسم. ثم رأيت الدوري رواه في " ذم اللواط " (2 / 159) ؛ من طريق آخر، وسمى الرجل: " يزيد بن قيس الخارفي ". (ن) قلت: وانظر " إرواء الغليل " (2350) . (¬3) • هذا يوهم أنه متصل؛ وليس كذلك؛ فقد أخرجه البيهقي بسنده؛ من طريق صفوان بن =

ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب، قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة؛ صنع الله بها ما قد علمتم؛ نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقوه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار. وأخرج أبو داود (¬1) ، عن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس: في البكر يوجد على اللوطية؛ يرجم. وأخرج البيهقي (¬2) ، عن ابن عباس أيضا: أنه سئل عن حد اللوطي؟ فقال: ينظر أعلى بناء في القرية؛ فيرمى به منكسا، ثم يتبع الحجارة. وقد اختلف أهل العلم في عقوبة اللواط - بعد اتفاقهم على تحريمه، وأنه من الكبائر -: فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا؛ سواء كان فاعلا أو مفعولا به، وإليه ذهب الشافعي. ¬

_ = سليم: أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق في خلافته، يذكر له أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر جمع الناس ... إلخ. وهذا مرسل كما قال البيهقي؛ لأن صفوان هذا تابعي، ثم إن في الطريق إليه إبراهيم بن علي، وهو ابن أبي رافع المديني - نزيل بغداد -؛ ضعيف، وكذبه بعضهم. ثم وجدته في " تحريم الابنة " لابن عساكر (163 / 1 - 2) ؛ من طريق غيره؛ فهو مرسل فقط. (ن) (¬1) • في " سننه " (2 / 238) ، وعنه البيهقي (8 / 232) ؛ وسنده صحيح. (ن) (¬2) • قلت: وسنده صحيح، وكذلك رواه الدوري (1 / 159) ، (2 / 160) . (ن)

وحكى صاحب " شفاء الأوام " إجماع الصحابة على القتل. وحكى البغوي عن الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق: أنه يرجم محصنا كان أو غير محصن. وروي عن النخعي أنه قال: لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين؛ لرجم اللوطي. وقال المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك (¬1) . وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني. وقال الشافعي: في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا؛ إن كان محصنا رجم؛ وإلا جلد وغرب، وحد المفعول به الجلد والتغريب، وفي قول: كالفاعل، وفي قول: يقتل الفاعل والمفعول به. وقال أبو حنيفة: يعزز باللواط، ولا يجلد ولا يرجم (¬2) . أقول: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الفاعل والمفعول به، وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر، وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير ¬

_ (¬1) • حرق عبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك؛ رواه الدوري في " ذم اللواط " في الأثر السابق عن صفوان بن سليم مرسلا. (ن) (¬2) • ونقل الحافظ ابن كثير في " تفسيره " (2 / 455) عن الإمام أبو حنيفة أنه قال في اللوطي: إنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط. قلت: وهذا قول ابن عباس؛ كما تقدم (ن) .

حد ناكح البهيمة التعزير

فرق بين بكر وثيب، ووقع ذلك في عصرهم مرات، ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم؛ مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرئ مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين، وكان في ذلك الزمن: الحق مقبول من كل من جاء به؛ كائنا من كان. فإن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزاني؛ فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل؛ سواء كان محصنا أو غير محصن. وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا؛ ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي. ( [حد ناكح البهيمة: التعزير] :) (ويعزز من نكح بهيمة) ؛ لكون (¬1) الحديث المروي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من وقع على بهيمة؛ فاقتلوه واقتلوا البهيمة ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. فقد روى الترمذي، وأبو داود من حديث أبي رزين، عن ابن عباس، أنه قال: من أتى بهيمة فلا حد عليه. وقال: إنه أصح من الحديث الأول (¬2) . ¬

_ (¬1) لعل خبر " كون " سقط من الأصل، والمراد واضح؛ وهو أن الحديث ضعيف. (ش) • قلت: بل هو حديث صحيح؛ روي من طرق عن عكرمة، عن ابن عباس، كما بينه المعلق أحمد شاكر في تعليقه على " المسند "، فراجع (رقم 2420) . (ن) (¬2) • قلت: وفي هذا نظر من وجهين: الوجه الأول: أن هذا موقوف وذاك مرفوع، ولا يعارض بالموقوف؛ لأن العبرة برواية الراوي لا برأيه. الثاني: أن هذا من رواية عاصم ابن بهدلة؛ وفي حفظه ضعف، ومثله راوي الحديث المرفوع عمرو بن أبي عمرو، وكلاهما حسن الحديث. فلو جاز إيجاد التعارض بين روايتيهما؛ لرجحت رواية عمرو على رواية عاصم؛ لأنه لم يتفرد بها كما سبقت الإشارة إليه؛ بخلاف رواية عاصم؛ فكيف ولا تعارض بينهما كما سبق بيانه آنفا؟ ! (ن)

قال: والعمل على هذا عند أهل العلم. وقد روى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل؛ ولكن في إسناده عبد الغفار (¬1) ؛ قال ابن عدي؛ إنه رجع عنه، وذكر أنهم كانوا لقنوه. وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة؛ كما حى ذلك صاحب " البحر ". ووقع الخلاف بين أهل العلم. فقيل: يحد كحد الزاني. وقيل: يعزر فقط؛ إذ ليس بزنا. وقيل: يقتل. ووجه ما ذكرنا من التعزير: أنه فعل محرما مجمعا عليه، فاستحق العقوبة بالتعزير، وهذا أقل ما يفعل به. والحاصل: أن من وقع على بهيمة؛ فقد ورد ما يدل على أنه يقتل، ولكن لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة، ولا وقع من الصحابة مثل ما وقع في اللواط، وفي النفس شيء من دخوله تحت أدلة الزنا العامة. فالظاهر التعزير فقط؛ من غير فرق بين بكر وثيب. ¬

_ (¬1) هو عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير؛ ولم أجد له ترجمة؛ انظر " تلخيص الحبير " (ص 352) . (ش)

حد المملوك نصف حد الحر

( [حد المملوك نصف حد الحر] :) (ويجلد المملوك نصف جلد الحر) ؛ لقوله - تعالى -: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} ، ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد؛ كما حكى ذلك صاحب " البحر ". وقد أخرج عبد الله بن أحمد في " المسند " (¬1) من حديث علي، قال: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمة سوداء زنت؛ لأجلدها الحد، فوجدتها في دمها، فأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إذا تعالت من نفاسها؛ فاجلدها خمسين "، وهو في " صحيح مسلم "؛ كما تقدم بدون ذكر الخمسين. وأخرج مالك في " الموطإ " عن عبد الله بن عياش المخزومي (¬2) ، قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا. وذهب ابن عباس إلى أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج؛ تمسكا بقوله - تعالى -: {فإذا أحصن} الآية. وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا: الإسلام. ¬

_ (¬1) • رقم (1142) ؛ وفيه عبد الأعلى الثعلبي؛ وهو ضعيف. وله في " المسند " (رقم 820) طريق آخر، ورجاله ثقات، لكن حجاج - وهو ابن أرطاة - مدلس؛ وقد عنعنه. (ن) (¬2) عياش؛ بالياء والشين المعجمة. (ش) • قلت: وهو مستور؛ انظر " الجرح " (2 / 2 / 125) . (ن)

قلت: الإحصان في كلام العرب: المنع، ويقع في القرآن والسنة على الإسلام والحرية والعفاف والتزوج؛ لأن الإسلام يمنعه عما لا يباح له، وكذلك الحرية والعفاف والتزوج. وقوله - تعالى -: {والمحصنات من النساء} ؛ أراد: المزوجات. وقوله - تعالى -: {أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم} ؛ أراد به: الحرائر. وقوله - تعالى -: {والذين يرمون المحصنات} ؛ أراد: العفاف. وقوله - تعالى -: {محصنين غير مسافحين} ؛ أراد: المتزوجين. وقوله - تعالى -: {فإذا أحصن} ؛ أي: تزوجن. وعلى هذا أهل العلم (¬1) . ¬

_ (¬1) • هذا خطأ من الشارح - رحمه الله -؛ فإن قوله - تعالى -: {فإذا أحصن} ؛ معناه: أسلمن؛ عند جمهور أهل العلم؛ كما قال الشوكاني (7 / 101) ؛ خلافا لابن عباس ومن تبعه. وقد قال الشافعي: " وإنما تركنا قوله بما مضى من السنة الصحيحة، وأقاويل الأئمة "؛ ذكره البيهقي (8 / 243) . أقول: هذا لبيان أن ما عليه الجمهور خلاف ما أوهمه الشارح! وإلا؛ فظاهر الآية يؤيد قول ابن عباس؛ فإن نصها: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ... فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} الآية. وقد ثبت في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: " إن زنت؛ فاجلدوها ... " الحديث. والجمع بين الآية والحديث يقتضي إقامة الحد عليها مطلقا. وعليه؛ فالشرط المذكور في الآية لا مفهوم له؛ والله أعلم. (ن)

من يحد المملوك

( [من يحد المملوك؟] :) (ويحده سيده أو الإمام) ؛ لعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد. ولحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا زنت أمة أحدكم؛ فتبين زناها؛ فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت؛ فليجلدها الحد ولا يثرب (¬1) عليها، ثم إن زنت الثالثة؛ فليبعها ولو بحبل من شعر ". وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه: جماعة من السلف. قال الشافعي: للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان. وقال أبو حنيفة: يرفعه المولى إلى السلطان، ولا يقيمه بنفسه. ¬

_ (¬1) أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. (ش)

باب السرقة

(2 - باب السرقة) (1 -[من شروط القطع أن يكون السارق مكلفا] :) (من سرق مكلفا مختارا) ، وقد تقدم وجه اشتراط التكليف والاختيار. (2 -[أن يكون المسروق من حرز] :) (من حرز) ؛ أي: مال محرز، واستدل على ذلك بما أخرجه أبو داود (¬1) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: " فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطنه ففيه القطع؛ إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن " قال: يا رسول الله! فالثمار وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: " من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة؛ فليس عليه شيء (¬2) ، ومن احتمل؛ فعليه ثمنه ¬

_ (¬1) هذه الرواية ليست رواية أبي داود؛ بل نسبها صاحب " المنتقى " ل " مسند أحمد "، و " سنن النسائي "؛ وهي في " سنن النسائي " بلفظ قريب من هذا اللفظ (ج 2: ص 261) . (ش) • قلت: هذا اللفظ هو بتمامه لأحمد (رقم 6683) ؛ إلا أنه قال في أوله: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية له (رقم 6891) ؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلا من مزينة يسأله. وهو في " سنن أبي داود " (1 / 270) ، (2 / 225 - 226) ، و " الحاكم " (4 / 381) ، و " البيهقي " (8 / 263، 278) . وكذا الترمذي (2 / 261) مختصرا - وحسنه -. (ن) قلت: وقد حسنه شيخنا في " الإرواء " (2413) . (¬2) • أي: وهو ذو حاجة؛ كما في رواية. (ن)

مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه؛ ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ". وقد أخرجه - أيضا - أحمد، والنسائي، والحاكم - وصححه -، وحسنه الترمذي. والحريسة (¬1) : التي ترعى وعليها حرس. وكذا حديث: " لا قطع في ثمر ولا كثر (¬2) " - عند أحمد (¬3) ، وأهل " السنن "، والحاكم، وصححه ابن حبان، والبيهقي من حديث رافع بن خديج. وقد ذهب إلى اعتبار الحرز: الأكثر. وذهب أحمد وإسحاق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره، واستدلوا على عدم الاعتبار -؛ وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم -؛ ¬

_ (¬1) الحريسة: هي ما يحرس بالجبل. وفي الأصل: الحرسية؛ وهو خطأ؛ انظر " النسائي " (ج 2: ص 261) ، و " الشوكاني " (ج 7: ص 300) . (ش) • و " المستدرك " (4 / 381) . (ن) (¬2) الكثر - بفتح الكاف والثاء -: جمار النخل. (ش) (¬3) • في " المسند " (3 / 463 - 464) ، (4 / 140 - 142) ؛ عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رافع؛ وهذا منقطع. لكن وصله النسائي (2 / 261) ، والترمذي، والبيهقي (8 / 263) ، فقالوا: عن محمد - هذا -، عن عمه واسع بن حبان، عن رافع؛ وهذا سند صحيح. وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ راجع " التلخيص " (ص 356) . (ن)

بما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، ومالك في " الموطإ " (¬1) ، والشافعي، والحاكم - وصححه - (¬2) من حديث صفوان بن أمية، قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي؛ فسرقت، فأخذنا السارق، فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله! أفي خميصتي ثمن ثلاثين درهما؟ أنا أهبها له، قال: " فهلا كان قبل أن تأتيني به؟ ". وأخرج أحمد (¬3) ، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء؛ ثمنه ثلاثة (¬4) دراهم. وقد أخرج مسلم معناه. وقد روي نحو حديث صفوان؛ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وضعف إسناده ابن حجر. ويجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز؛ بأن المساجد حرز لما دخل إليها، ولو كان على صاحبه، فيكون الحرز أعم مما وقع تبيينه في كتب الفقه، ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد الوديعة، وسيأتي. ¬

_ (¬1) • (3 / 49) ؛ وسنده صحيح. (ن) (¬2) في " المستدرك " (ج 4: ص 380) ؛ ولم نر فيه تصحيحه له. (ش) (¬3) • ومن طريقه رواه أبو داود (2 / 225) ، والنسائي (2 / 258) ؛ وسنده صحيح. وأصله في " مسلم " (5 / 113) ؛ لكنه لم يسق لفظه؛ بل أحال على حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم. (ن) (¬4) • وهي تساوي ربع دينار في ذلك الوقت، كما كان الأمر في زمان عثمان بن عفان على ما يأتي مني. (ن)

ويمكن أن يكون ذلك خاصا بما ورد فيه، فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره. قال في " المسوى ": " ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في سرقة شيء من الفواكه الرطبة، ولا الخشب، ولا الحشيش؛ عملا بعموم حديث رافع. وتأوله الشافعي على معنى اشتراط الحرز، وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها؛ فلا تكون محرزة، وإنما خرج الحديث مخرج العادة، يوضح ذلك حديث الجرين، وقطع عثمان في أترجة (¬1) ". قال في " الحجة البالغة ": " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح أو الجرين (¬2) ؛ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ". أقول: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرز شرط القطع، وسبب ذلك: أن غير المحرز يقال فيه: الالتقاط، فيجب الاحتراز عنه ". قلت: والحرز ما يعده الناس حرزا لمثل ذلك المال، فالمتبن حرز للتبن، والإصطبل للدواب، والمراح للغنم، والجرين للثمار. ¬

_ (¬1) • رواه مالك؛ عن عمرة بنت عبد الرحمن: أن سارقا سرق في زمان عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم، فقومت بثلاثة دراهم - من صرف اثني عشر درهما بدينار -؛ فقطع عثمان يده. (ن) (¬2) هو موضع تجفيف التمر. (ش)

أن يبلغ المسروق ربع دينار

وأما إذا كان المال في صحراء أو في مسجد؛ فإنما حرزه أن يكون له ناظر؛ بحسب ما جرت العادة من النظر، وعليه أهل العلم في الجملة. (3 -[أن يبلغ المسروق ربع دينار] :) (ربع دينار فصاعدا) ؛ لحديث عائشة - في " الصحيحين " وغيرهما -، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا. وفي رواية لمسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ". وفي لفظ لأحمد (¬1) : " اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا في ما هو أدنى من ذلك "، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما. وفي رواية للنسائي؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن "، قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر، قال: " قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن؛ ثمنه ثلاثة دراهم. وقد عرفت أن الثلاث الدراهم هي صرف ربع دينار؛ كما تقدم في رواية أحمد. قال الشافعي: وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما بدينار، وهو موافق لما في تقدير ¬

_ (¬1) • في " المسند " (6 / 80) ؛ وسنده حسن. (ن)

الديات من الذهب بألف دينار، ومن الفضة باثني عشر ألف درهم. وقد ذهب - إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم -: الجمهور من السلف والخلف، ومنهم الخلفاء الأربعة. وفي المسألة اثنا عشر مذهبا؛ قد أوضحها الماتن في " شرح المنتقى ". وأما ما روي من حديث أبي هريرة - في " الصحيحين " وغيرهما -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله السارق يسرق البيضة؛ فتقطع يده، ويسرق الحبل؛ فتقطع يده ": فقد قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم؛ كذا في " البخاري "، وغيره. قال في " الحجة البالغة ": " الحاصل: أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شيء واحد في زمانه صلى الله عليه وسلم ثم اختلف بعده، ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه، فاختلف المسلمون في الحديثين الأخيرين: فقيل: ربع دينار. وقيل: ثلاثة دراهم. وقيل: بلوغ المال إلى أحد القدرين، وهو الأظهر عندي. وهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فرقا بين التافه وغيره؛ لأنه لا يصلح للتقدير

جنس دون جنس؛ لاختلاف الأسعار في البلدان، واختلاف الأجناس - نفاسة وخساسة - بحسب اختلاف البلاد. فمباح قوم وتافههم؛ مال عزيز عند آخرين، فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن. وقيل: لا يعتبر فيها، وأن الحطب - وإن كان قيمته عشرة دراهم - لا يقطع فيه ". قال في " المسوى ": " ذهب الشافعي إلى حديث عائشة؛ أن نصاب السرقة ربع دينار. وذهب مالك إلى حديث ابن عمر. والجواب من قبل الشافعي عن حديث ابن عمر: أن الشيء التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم، وكانت الثلاثة دراهم تبلغ قيمتها ربع دينار. يوضح ذلك حديث عثمان (¬1) ؛ فإنه يدل على أن العبرة بالذهب، ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم. ويوضح ذلك أيضا: وقوع اثني عشر ألف درهم موضع ألف دينار في الدية. وقال أبو حنيفة: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم ". ¬

_ (¬1) • يعني حديث الأترجة المتقدم (ص 298) . (ن)

يقطع الكف الأيمن للسارق

أقول: أصح ما روي: أن ثمن المجن ثلاثة دراهم، وهي ربع دينار، وقد ورد التقدير بربع دينار في الروايات الصحيحة، والنهي عن القطع فيما دونه، فنصاب السرقة: إما ثلاثة دراهم أو ربع دينار؛ هذا هو الحق. وما روي من زيادة ثمن المجن؛ فقد بين سقوط الاستدلال به في " شرح المنتقى ". ( [يقطع الكف الأيمن للسارق] :) (قطعت كفه اليمنى) ؛ لقوله - تعالى -: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . قلت: اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة؛ تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى، واختلفوا فيما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله؛ فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى (¬1) ، ثم إذا سرق أيضا تقطع رجله اليمنى، ثم إذا سرق أيضا يعزر ويحبس. وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ ولكن يعزر ويحبس. ( [تثبت السرقة بأحد أمرين] :) (1 -[إقرار السارق مرة واحدة] :) (ويكفي الإقرار مرة واحدة) ؛ لما قدمنا في الباب الأول. ¬

_ (¬1) • وقد صح هذا عن أبي بكر وعمر؛ عند البيهقي (8 / 284) . (ن)

شهادة عدلين

وقد قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - يد سارق المجن، وسارق رداء صفوان، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار. وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قوله للسارق الذي اعترف بالسرق: " ما إخالك سرقت! "، قال: بلى - مرتين أو ثلاثا -؛ فهذا هو من باب الاستثبات؛ كما تقدم. وقد ذهب إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة: مالك والشافعية والحنفية. وذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى اعتبار المرتين. والحق: هو الأول. (2 -[شهادة عدلين] :) (أو شهادة عدلين) ؛ لكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين. ( [لا بأس بتلقين السارق ما يسقط عنه الحد] :) (ويندب تلقين المسقط (¬1)) ؛ لحديث أبي أمية المخزومي - عند أحمد، وأبي داود، والنسائي بإسناد رجاله ثقات (¬2) -: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف ¬

_ (¬1) • أي: النادم. في " القاموس ": " وسقط في يده وأسقط - مضمومتين -: زل، وأخطأ، وندم وتحير ". (ن) (¬2) • فيه نظر؛ فإنه في " المسند " (5 / 293) ، و " أبي داود " (2 / 224) ، و " النسائي " (2 / 255) ، وكذا " الدارمي " (2 / 173) ، و " البيهقي " (8 / 276) ؛ عن أبي المنذر - مولى أبي ذر -، عن أبي أمية المخزومي. قلت: وأبو المنذر - هذا - لا يعرف؛ كما قال الذهبي. لكن له شاهد من حديث أبي هريرة بسند صحيح؛ يأتي بعده. (ن)

يحسم موضع القطع في زيت مغلي

اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت {"، قال: بلى - مرتين أو ثلاثا -. وقد روي عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قال: لا، وسمى أبا بكر وعمر. أخرجه عبد الرزاق. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. ( [يحسم موضع القطع في زيت مغلي] :) (ويحسم موضع القطع) ؛ لئلا يسري فيهلك؛ فإن الحسم سبب عدم السراية؛ لما أخرجه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي - وصححه ابن القطان - (¬1) من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله} إن هذا قد سرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما إخاله سرق {"، فقال السارق: بلى يا رسول الله} فقال: " اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به "، فقطع؛ فأتي به، فقال: تب إلى الله "، فقال: قد تبت إلى الله، قال: " تاب الله عليك ". ( [يستحب أن تعلق يد السارق في عنقه للعبرة] :) (وتعلق اليد في عنق السارق) ؛ لما أخرجه أهل " السنن " - وحسنه ¬

_ (¬1) • وصححه الحاكم أيضا (4 / 381) ؛ وهو كما قال، وبيض له الذهبي. وهو عند البيهقي (8 / 271، 275، 276) . (ن)

يسقط الحد إذا عفا صاحب المال قبل رفعه إلى السلطان

الترمذي - من حديث فضالة بن عبيد قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق؛ فقطعت يده، ثم أمر بها، فعلقت في عنقه. وفي إسناده الحجاج بن أرطاة؛ قال النسائي: هو ضعيف لا يحتج بحديثه (¬1) . قال في " الحجة البالغة ": " إنما فعل هذا للتشهير، وليعلم الناس أنه سارق، وفرقا بين ما يقطع اليد ظلما؛ وبين ما يقطع حدا ". ( [يسقط الحد إذا عفا صاحب المال قبل رفعه إلى السلطان] :) (ويسقط بعفو المسروق عليه (¬2) قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده؛ فقد وجب) ؛ لحديث صفوان المتقدم. وأخرج النسائي (¬3) ، وأبو داود، والحاكم - وصححه - من حديث عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من ¬

_ (¬1) • لكن ثبت التعليق من فعل علي - رضي الله عنه -؛ أخرجه البيهقي (8 / 275) ؛ من طريقين، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنه. وهذا سند صحيح. (ن) (¬2) • لعله: (عنه) . (ن) (¬3) • في " السنن "، وأبو داود (2 / 223) ، وعنه البيهقي (8 / 331) ، والحاكم (4 / 383) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "؛ ووافقه الذهبي. وفيه نظر؛ فإن مداره على ابن جريج، عن عمرو بن شعيب؛ ولم يصرح بسماعه منه عند الجميع، وهو مدلس، كما بينه الذهبي نفسه وغيره. ولهذا؛ فقول الحافظ ابن حجر في " الفتح " - فيما نقله الشوكاني (7 / 114) -: " وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح "؛ ليس بصحيح، ولو كان كذلك لكان الحديث حسنا. (ن)

لا قطع في أربعة

حد فقد وجب ". قلت: وعليه أهل العلم. ويحرم الشفاعة للسارق - إذا بلغ أمره السلطان - أن لا يقطع يده. ( [لا قطع في أربعة] :) (1 -[الأكل من الثمر ولم يحمل إلى بيته] :) (ولا قطع في ثمر ولا كثر؛ ما لم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة (¬1) ؛ وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب. والكثر: جمار النخل أو طلعها. وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك؛ بل قال: " وضرب نكال "؛ ليجمع له بين عقوبة المال والبدن. والخبنة: ما يحمله الإنسان في حضنه، وقد تقدم ضبطها وتفسيرها. (2 و 3 و 4 -[الخائن] و [المنتهب] و [المختلس] :) (وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع) ؛ لحديث جابر - عند أحمد، ¬

_ (¬1) الخبنة - بضم الخاء وإسكان الباء -: معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه؛ قاله ابن الأثير. (ش)

جاحد العارية سارق يقام عليه الحد

وأهل " السنن "، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي (¬1) ، وابن حبان -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ". وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر. وأخرج ابن ماجه أيضا والطبراني من حديث أنس نحوه. قلت: وعلى هذا أهل العلم. ( [جاحد العارية سارق يقام عليه الحد] :) (وقد ثبت القطع في جحد العارية) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: كانت امرأة مخزومية (¬2) تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 332) ؛ ومداره عند الجميع على ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر؛ وابن جريج وأبو الزبير مدلسان، وقد أجيب عن ذلك بأن ابن جريج صرح بالتحديث عند عبد الرزاق في " مصنفه "، وكذا النسائي فيما ذكروا؛ فالظاهر أنه في " الكبرى " له. قلت: وكذا عند الدارمي أيضا (2 / 175) . وبأنه تابعه عن أبي الزبير: المغيرة بن مسلم، وأشعث بن سوار عند النسائي (2 / 262) . وأما عنعنة أبي الزبير؛ فأجاب عنها الحافظ في " التلخيص " (ص 356) بقوله: إنه غير قادح؛ فقد أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " عن ابن جريج، وفيه التصرح بسماع أبي الزبير له من جابر. قلت: فإذا صح هذا؛ فالحديث صحيح، لا سيما وله شاهد من حديث ابن عوف مختصرا: " ليس على المختلس قطع "؛ وسنده صحيح؛ كما قال الشارح تبعا للحافظ. (ن) (¬2) • وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؛ كما في رواية لأبي داود (2 / 227) . ولها شاهد من حديث جابر عند النسائي (2 / 256) ؛ وإسناد حديث ابن عمر عندهما صحيح. (ن)

وأخرج أحمد، والنسائي، وأبو داود، وأبو عوانة في " صحيحه " من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة. وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية؛ من لم يشترط الحرز، وهم من تقدم. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع يد جاحد العارية؛ قالوا: لأن الجاحد للعارية ليس بسارق لغة، وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق. ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقا لغة؛ فهو سارق شرعا، والشرع مقدم على اللغة. وقد ثبت الحديث من طريق عائشة، وابن عمر كما تقدم، وكذا من حديث جابر، وابن مسعود (¬1) ، وغير هؤلاء. وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود (1) عند ابن ماجه، والحاكم - وصححه -: أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت: أنها سرقت حليا. ¬

_ (¬1) • هذا خطأ، تبع الشارح فيه الشوكاني (7 / 111) ؛ فالحديث عند ابن ماجه (2 / 113) ، والحاكم (4 / 379) من حديث مسعود بن الأسود، ليس هو عن ابن مسعود! ثم إن في سنده محمد بن إسحاق؛ وهو مدلس، وقد عنعنه. وبه أعله البوصيري. (ن)

فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية (¬1) . ¬

_ (¬1) • لا حاجة لهذا الجمع بعد ثبوت ضعف الحديثين. أما حديث مسعود؛ فلعنعنة ابن إسحاق، وأما حديث حبيب؛ فلإرساله. والتسليم بهذا الجمع يقضي على القول بأن القطع ثبت في جحد العارية؛ كما لا يخفى. (ن)

باب حد القذف

(3 - باب حد القذف) رمي المحصنات بالزنا كبيرة؛ قال الله - تعالى -: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} ، واتفق على ذلك المسلمون. ( [حد القاذف ثمانون جلدة] :) (من رمى غيره بالزنا؛ وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة) ؛ لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} . وقد أجمع أهل العلم على ذلك، واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا؟ فذهب الأكثر إلى الأول، وروى مالك (¬1) عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء - هلم جرا -؛ فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين. وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف؛ لعموم الآية. أقول: الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد، والغضاضة بقذف ¬

_ (¬1) • (3 / 45) . (ن)

شرائط الإحصان

العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد؛ لا من الكتاب ولا من السنة. ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله - تعالى - في حد الزنا: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} ، ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف، فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال؛ لا سيما مع اختلاف العلة، وبكون أحدهما حقا لله محضا، والآخر مشوبا بحق آدمي. قال في " المسوى ": " من رمى إنسانا بالزنا؛ فإن كان المقذوف محصنا؛ يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حرا، فإن كان عبدا فجلد أربعين، فإن كان المقذوف غير محصن؛ فعلى قاذفه التعزير. وكذا لا حد في النسبة إلى غير الزنا؛ إنما فيه التعزير ". ( [شرائط الإحصان] :) وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة من الزنا. حتى إن من زنى في أول بلوغه، ثم تاب وحسنت حالته، وامتد عمره، فقذفه قاذف؛ لا حد عليه. وعلى هذا أهل العلم. وإذا عفا المقذوف؛ لم يجلد قاذفه، وإذا قذف أبوا رجل وقد هلكا؛

فله المطالبة بالحد. وفي " الأنوار ": " حد القاذف وتعزيره حق الآدمي، يورث عنه، ويسقط بعفوه وعفو وارثه؛ إن مات أو قذفه ميتا، وهو حق جميع الورثة ". وفي " الهداية ": " لا يصح عفو المقذوف عندنا، وفيها لو قال: يا ابن الزانية! وأمه ميتة محصنة، فطالب الابن بحد القذف؛ حد القاذف؛ لأنه قذف محصنة، ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه، وهو الوالد والولد. ومذهب الشافعية والحنفية: أن الوالد لا يجلد بقذف ولده. وإذا قذف جماعة؛ جلد حدا واحدا، وعليه أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا اختلف المقذوف فلا تداخل، والتعريض الظاهر ملحق بالصريح، وعليه مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلحق به ولا يحد إلا بالصريح ". أقول: التحقيق: أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله - عز وجل -: هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل - لغة، أو شرعا، أو عرفا - على الرمي بالزنا، ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك، ولم يأت بتأويل

يثبت حد القذف بأمرين

مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة. وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا، أو يحتمله احتمالا مرجوحا، وأقر أنه أراد الرمي بالزنا؛ فإنه يجب عليه الحد. وأما إذا عرض بلفظ محتمل، ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال. ( [يثبت حد القذف بأمرين] :) (1 -[إقرار القاذف] :) (ويثبت ذلك بإقراره مرة) ؛ لكون إقرار المرء لازما له. ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين؛ فعليه الدليل، ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة. (2 -[شهادة عدلين] :) (أو بشهادة عدلين) ؛ كسائر ما تعتبر فيه الشهادة؛ كما أطلقه الكتاب العزيز. ( [القاذف ساقط العدالة حتى يتوب] :) (وإذا لم يتب لم تقبل شهادته) ؛ لقوله - تعالى -: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ، ثم ذكر بعد ذلك التوبة.

يسقط الحد عن القاذف بأمرين

( [يسقط الحد عن القاذف بأمرين] :) (1 -[إذا جاء القاذف بأربعة شهود] ) (فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود) ؛ يشهدون على المقذوف بأنه زنى (سقط عنه الحد) ؛ لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفا؛ بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة، فيقام الحد على الزاني. (2 -[إذا أقر المقذوف بالزنا] :) (وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا) ؛ فلا حد على من رماه به؛ بل يحد المقر بالزنا. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلد أهل الإفك؛ كما في " مسند أحمد "، و " أبي داود "، و " ابن ماجه "، و " الترمذي " - وحسنه -، وأشار إلى ذلك البخاري في " صحيحه ". فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن. ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا؛ حيث لم تكمل الشهادة، وذلك معروف ثابت.

باب حد الشرب

(4 - باب حد الشرب) شرب الخمر كبيرة، وعليه أهل العلم. ( [شروط وجوب الحد] :) (من شرب مسكرا مكلفا مختارا) ؛ وقد تقدم دليله. ( [كم حد شارب الخمر، وبم يضرب؟] :) (جلد على ما يراه الإمام؛ إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر؛ ولو بالنعال) ؛ لما ثبت في " الصحيحين " من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. وفي " مسلم " من حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر؛ استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر. وفي " البخاري " وغيره من حديث عقبة بن الحارث، قال: جيء بالنعيمان - أو ابن النعيمان (¬1) - شاربا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه، فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد. ¬

_ (¬1) • الراجح أنه النعيمان - لا ابنه -؛ كما حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " المسند " (9 / 71 - 72) . (ن)

وفيه أيضا من حديث السائب بن يزيد، قال: كنا نؤتى بالشارب - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمرة أبي بكر، وصدرا من إمرة عمر -؛ فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا؛ حتى كان صدرا من إمرة عمر؛ فجلد فيها أربعين؛ حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين (¬1) . وفيه أيضا من حديث أبي هريرة نحوه. وفي الباب أحاديث يستفاد من مجموعها: أن حد السكر لم يثبت تقديره عن الشارع، وأنه كان يقام بين يديه على صور مختلفة؛ بحس ما يقتضيه الحال. فالحق: أن جلد الشرب غير مقدر؛ بل الذي يجب فعله؛ هو إما الضرب باليد، أو بالعصا، أو النعل، أو الثوب على مقدار يراه الإمام؛ من قليل أو كثير، فيكون على هذا من جملة أنواع التعزير. وفي " الصحيحين "؛ عن علي أنه قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت، وأجد في نفسي شيئا؛ إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وديته؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه. قلت: وعليه أهل العلم؛ إلا أن الشافعي يقول: أصل حد الخمر أربعون، وما زاده عمر على الأربعين كان تعزيرا (¬2) ؛ لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) عتوا؛ من العتو: وهو التجبر، والمراد هنا انهماكهم في الطغيان، والمبالغة في الفساد في شرب الخمر؛ قاله ابن حجر (ج 12: ص 59) . ولفظ الحديث الذي هنا؛ ليس لفظ البخاري؛ بل هو لفظ أحمد في " المسند " (ج 3: ص 449) . (ش) (¬2) • وهو الأظهر؛ كما قال ابن تيمية في " منهاج السنة " (3 / 139) . (ن)

أتي بشارب، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب؛ فقومه أربعين، فضرب أربعين حياته، ثم عمر، حتى تتايع الناس، فاستشار عمر؛ فضرب ثمانين، ثم قال علي - حين أقام الحد على وليد بن عقبة لما بلغ أربعين -: حسبك؛ جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. قال في " الحجة البالغة ": " ثم قال: - أي النبي صلى الله عليه وسلم -: " بكتوه "، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله؟ {ما خشيت الله؟} ما استحييت من رسول الله (¬1) ؟ ! وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ ترابا من الأرض، فرمى به وجهه ". انتهى. وروى مالك، عن ابن شهاب: أنه سئل عن حد العبد في الخمر؟ فقال: بلغني أن عليه نصف الحد في الحر، وأن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر. ولا يجوز للإمام أن يعفو عن حد. قال سعيد بن المسيب: ما من شيء؛ إلا يحب الله أن يعفو عنه؛ ما لم يكن حدا. قلت: وعليه أهل العلم. ¬

_ (¬1) • رواه - بنحوه - البيهقي (8 / 312) عن أبي هريرة، ورجاله ثقات؛ غير عبيد بن شريك؛ فلم أعرفه. (ن)

يثبت الحد على شارب الخمر بالإقرار أو بشهادة عدلين

( [يثبت الحد على شارب الخمر بالإقرار أو بشهادة عدلين] :) (ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين) ؛ لمثل ما تقدم، ولعدم وجود دليل يدل على اعتبار التكرار. (ولو على القيء) ؛ لكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها، والأصل عدم المسقط، ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان؛ أحدهما أنه شربها؛ والآخر أنه تقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها؛ كما في " مسلم "، وغيره. ( [قتل شارب الخمر في الرابعة: منسوخ] :) (وقتله في الرابعة منسوخ) ؛ لما رواه الترمذي (¬1) ، والنسائي، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن شرب الخمر فاجلدوه؛ فإن عاد في الرابعة فاقتلوه "، ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة؛ فضربه ولم يقتله. ومثله ما أخرج أبو داود، والترمذي من حديث قبيصة (¬2) بن ذؤيب، وفيه: ثم أتي به - يعني: في الرابعة -؛ فجلده ورفع القتل. ¬

_ (¬1) • قلت: الترمذي إنما رواه معلقا (2 / 330) . وإنما وصله النسائي في " السنن الكبرى " له، كما ذكر غير واحد، وكذا البيهقي (8 / 314) ، والحاكم (4 / 373) ؛ عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر. وابن إسحاق مدلس وقد عنعنه؛ ومع ذلك صححه أحمد شاكر (9 / 69) ! (ن) (¬2) • بفتح القاف؛ وهو من أولاد الصحابة؛ فالحديث مرسل كما جزم ابن التركماني (8 / 313) ، قال: " وفيه علة أخرى؛ وهي أن الزهري لم يسمعه من قبيصة؛ رواه الطحاوي " في الرد على الكرابيسي "، عن ابن شهاب، أنه بلغه، عن قبيصة بن ذؤيب ... فذكر الحديث؛ وسنده على شرط مسلم ". (ن)

جواز التعزير في المعاصي التي لا توجب حدا

وفي رواية لأحمد (¬1) من حديث أبي هريرة: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة؛ فخلى سبيله. أقول: قد وردت الأحاديث بالقتل في الثالثة في بعض الروايات، وفي الرابعة في بعض، وفي الخامسة في بعض (¬2) ، وورد ما يدل على النسخ من فعله صلى الله عليه وسلم، وأنه رفع القتل عن الشارب، وأجمع على ذلك جميع أهل العلم، وخالفه فيه بعض أهل الظاهر (¬3) . ( [جواز التعزير في المعاصي التي لا توجب حدا] :) (والتعزير في المعاصي التي لا توجب حدا ثابت؛ بحبس أو ضرب أو نحوهما، ولا يجاوز عشرة أسواط) ؛ لحديث أبي بردة بن نيار في " الصحيحين "، وغيرهما -، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ". ¬

_ (¬1) • عزوه لأحمد من حديث أبي هريرة خطأ؛ فإن الذي عنده (رقم 7898) من حديثه؛ إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: " إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة. فاضربوا عنقه "، قال الزهري: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل سكران في الرابعة، فخلى سبيله. فهذا القدر مرسل من قول الزهري؛ فلا يصح. (ن) (¬2) • أكثر الأحاديث على أن القتل في الرابعة. وقد استقصى الكلام عليها، وخرج طرقها: المحقق أحمد شاكر بما لا يوجد في غيره، فراجعه (9 / 49 - 92) . وهو بحث عظيم حقق فيه أن القتل في الرابعة محكم غير منسوخ، وهو الصواب؛ ولكننا نرى أنه من باب التعزير؛ إذا رآه الإمام قتل، وإن لم يره لم يقتل؛ بخلاف الجلد؛ فهو الحد الذي لا بد منه، كما حكاه هو نفسه عن ابن القيم؛ وإن لم يرتضه! (ن) (¬3) • وإليه مال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (7 / 483) . (ن)

وأخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وحسنه -، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد " -؛ من حديث بهز بن حكيم [، عن أبيه، عن جده] (¬2) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلا في تهمة يوما وليلة. وقد ثبت أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته (¬3) ، لما عزله عن إمارة الجيش - كما في كتب السير -؛ وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شيء من أموال الله. وتقدم في باب السرقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وضرب نكال ". أقول: هذا الفصل يراد به كل عقوبة ليست بحد من الحدود المتقدمة والآتية؛ فمنها الضرب، ولكن يكون عشرة أسواط فما دون؛ لحديث أبي بردة المتقدم، ولا تجوز الزيادة على ذلك. ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على وجوب التعزير؛ بل غاية ما فيه الجواز فقط، وقد اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جماعة ارتكبوا ذنوبا لا توجب حدا؛ فلم يضربهم، ولا حبسهم، ولا نعى ذلك عليهم؛ كالمجامع في نهار رمضان، والذي لقي امرأة فأصاب منها ما ¬

_ (¬1) • لم أجده في " المسند "، ولم يعزه إليه الحافظ في " التلخيص " (ص 361) . وصححه الحاكم (4 / 102) ، ووافقه الذهبي؛ وهو حسن فقط. (ن) (¬2) • زيادة لا بد منها. (ن) (¬3) • لم يذكر هذه الرواية ابن كثير في " البداية " (7 / 18) ، وإنما ذكر أمر عمر لأبي عبيدة بنزع عمامة خالد عن رأسه وأن يقاسمه ماله نصفين. والنزع هنا؛ ليس ليربط بها؛ كما هو ظاهر؛ فالله أعلم بصحة هذه الرواية. (ن)

يصيب الرجل من زوجته؛ غير أنه لم يجامعها، وغير ذلك كثير. ومن أنواع التعزير: الحبس، ويجوز الحبس مع التهمة، وهكذا يجوز حبس من كان يخشى على المسلمين من معرته وإضراره بهم لو كان مطلقا؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بقدر الإمكان، ولا يمكن القيام بهما في حق من عرف بذلك؛ إلا بالحيلولة بينه وبين الناس بالحبس. ومنها: النفي؛ كما فعله صلى الله عليه وسلم بجماعة من المخنثين. ومنها ترك المكالمة، كما فعله صلى الله عليه وسلم بالثلاثة الذين تخلفوا عنه؛ حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ومنها: الشتم الذي لا فحش فيه؛ كقول الله - تعالى - حاكيا عن موسى - عليه السلام -: {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين} ، ومن ذلك: قول يوسف - عليه السلام - لإخوته: {أنتم شر مكانا} ؛ لما نسبوه إلى السرقة. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: " إنك امرؤ فيك جاهلية " - كما في " البخاري " (¬1) - لما سمعه - صلى الله عليه وسلم - يسب امرأة. وفي " مسلم: أن رجلا أكل بشماله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " كل بيمينك "، فقال: لا أستطيع، فقال: " لا استطعت! ما منعه إلا الكبر "، قال: فما رفعها إلى فيه. ¬

_ (¬1) هو فيه (30) ، وفي " مسلم " (1661) - كذلك -.

وفي " مسلم ": " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد؛ فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا ". وفي " مسلم " أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " لا وجدت ". وفي " الترمذي ": " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد؛ فقولوا: لا أربح الله تجارتك ". وقال صلى الله عليه وسلم للخطيب: " بئس خطيب القوم أنت "؛ أخرجه مسلم، وغيره. ووقع منه صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس شيء كثير. وكذلك وقع من الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح - من ذلك - ما يرشد إلى جوازه؛ إذا ظن فاعله تأثيره في المرتكب للذنب.

باب حد المحارب

(5 - باب حد المحارب) ( [عقوبة الحرابة] :) (هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن: القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو نفي من الأرض) ؛ لقوله - تعالى -: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} . قلت: أكثر أهل العلم على أن هذه الآية نزلت في أهل الإسلام لا الكفار؛ بدليل قوله - تعالى -: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} ، والإسلام يحقن الدم؛ سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها. وإنما أضاف الحرب إلى الله ورسوله؛ إيذانا بأن حرب المسلمين كأنه حرب الله - تعالى - ورسوله. أقول: ظاهر القرآن الكريم: أن من صدق عليه أنه محارب لله ورسوله، ساع في الأرض فسادا؛ فإن عقوبته: إما القتل، أو الصلب، أو القطع من خلاف، أو النفي من الأرض؛ من غير فرق بين كونه قتل أو لم يقتل. والظاهر: أنه لا يجمع له بين هذه الأنواع، ولا بين اثنين منها، ولا

يجوز تركه عن أحدها؛ هذا معنى النظم القرآني. فإن قلت: كيف عقوبة الصلب؟ هل يفعل به ما يصدق عليه مسمى الصلب ولو كان قليلا؟ قلت: يفعل به ما يصدق عليه أنه صلب عند أهل اللغة؛ فإن كان الصلب عندهم هو الذي يفضي إلى الموت فذاك، وإن كان أعم منه؛ فالامتثال يحصل بفرد من أفراده (¬1) . وقال الشافعي: المكابرون في الأمصار قطاع. وقال أبو حنيفة: لا. وظاهر مذهب الشافعي في صفة الصلب: أنه يقتل ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب ثلاثا، ثم ينزل ويدفن. وقيل: يصلب حيا، ثم يطعن حتى يموت مصلوبا. وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى على قاطع الطريق. ومعنى النفي عند الحنفية: الحبس حتى يرى عليه أثر الصلاح. وعند الشافعي: للإمام أن يحبس أو يغرب أو يطلبه للتعزير، والطلب نفي أيضا؛ لأنه حامل على هربه. ¬

_ (¬1) • تردد المصنف - هنا - في معنى الصلب، وجزم في (ص 327) بأن يشمل النوعين؛ فتنبه! (ن)

الإمام مخير في الحكم على المحاربين بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي

( [الإمام مخير في الحكم على المحاربين بالقتل أو الصلب أو القطع أو النفي] :) (يفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا لكل من قطع طريقا - ولو في المصر - إذا كان قد سعى في الأرض فسادا (¬1)) ؛ هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز؛ من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب (¬2) ؛ فإن الله - سبحانه - قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} ، فضم إلى محاربة الله ورسوله - أي: معصيتهما - السعي في الأرض فسادا، فكان ذلك دليلا على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فسادا؛ كان حده ما ذكره الله في الآية. ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق - وهم العرنيون -؛ كان دخول من قطع طريقا تحت عموم الآية دخولا أوليا. ثم حصر الجزاء في قوله: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} ، فخير بين هذه الأنواع؛ فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحا منها. فإن لم يكن إمام؛ فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات. فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم، ولم يأت من الأدلة النبوية ما ¬

_ (¬1) • وحكاه ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (28 / 310) عن بعض أهل العلم. ولكنه في مكان آخر صرح بأن الآية ليست على التخيير ولا على الترتيب؛ بل بحسب الجرائم؛ في بحث له هام ودقيق؛ فليراجع في (16 / 75 - 79) . (ن) (¬2) • استصوبه ابن تيمية (28 / 315) . (ن)

يصرف ما يدل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب. وأما ما روي عن ابن عباس؛ كما أخرجه الشافعي في " مسنده ": أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا الأموال؛ صلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال؛ قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا؛ قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا؛ نفوا من الأرض: فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة على أحد. ولو فرضنا أنه في حكم التفسير للآية - وإن كان مخالفا لها غاية المخالفة -: ففي إسناده ابن أبي يحيى؛ وهو ضعيف جدا (¬1) ، لا تقوم بمثله الحجة. وأما ما روي عن ابن عباس أيضا: أن الآية نزلت في المشركين - كما أخرجه أبو داود، والنسائي عنه (¬2) -: فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين، وقد كانوا أسلموا؛ كما في الأمهات. ¬

_ (¬1) • بل هو كذاب، كما شهد به يحيى بن سعيد القطان، وابن معين، وابن المديني، وغيرهم؛ واسمه إبراهيم بن محمد. (ن) (¬2) هو إلى الضعف أقرب، وانظر تفصيل ذلك في كتاب " مرويات ابن عباس في التفسير " (1 / 327) للدكتور عبد العزيز الحميدي.

ولو سلمنا ما روي عن ابن عباس؛ لم تقم به حجة من قال باختصاص ما في الآية بالمشركين؛ لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ؛ لا بخصوص السبب. على أن في إسناد ذلك: علي بن الحسين بن واقد، وهو ضعيف. وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف؛ كالحسن البصري، وابن المسيب، ومجاهد. وأسعد الناس بالحق: من كان معه كتاب الله. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرنيين: أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية، وهو القطع؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس. والمراد بالصلب المذكور في الآية: هو الصلب على الجذوع أو نحوها حتى يموت؛ إذا رأى الإمام ذلك، أو يصلبه صلبا لا يموت فيه؛ فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت، والصلب الذي لا يفضي إلى الموت. ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت؛ لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل؛ لأن الصلب هو قتل خاص. وأما النفي من الأرض؛ فهو طرده من الأرض التي أفسد فيها. وقد قيل: إنه الحبس؛ وهو خلاف المعنى العربي.

توبة المحارب قبل القدرة عليه

( [توبة المحارب قبل القدرة عليه] :) (فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك) ؛ لنص القرآن بذلك، وهو قوله - تعالى -: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} . قلت: معناه عند الشافعي: إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه؛ يسقط عنه من العقوبة ما يختص بقطع الطريق. فإن كان قتل يسقط تحتم القتل، ويبقى عليه القصاص، فالولي فيه بالخيار؛ إن شاء استوفاه، وإن شاء عفا عنه. وإن كان قد أخذ المال؛ سقط عند قطع اليد والرجل، وقيل في سقوط قطع اليد: حكمه حكم السارق في البلد إذا تاب. وإن كان قد قتل وأخذ المال؛ سقط عنه تحتم القتل والصلب. وإذا تاب بعد القدرة؛ لا يسقط عنه شيء من العقوبات. ولا يسقط سائر الحدود بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أظهر قولي الشافعي. والقول الثاني: أن كل عقوبة تجب حقا لله تعالى - مثل عقوبات قاطع الطريق، وقطع السرقة، وحد الزنا، والشرب -؛ تسقط بالتوبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (¬1) . ¬

_ (¬1) هو نص حديث صحيح؛ انظر تخريجه في " الضعيفة " (تحت الحديث 615) لشيخنا

وأقول: الآية ليس فيها إلا الإشارة إلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة، وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب. ولو سلم القطع؛ فذلك في الذنوب التي أمرها إلى الله، فيسقط بالتوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله. وأما الحقوق التي للآدميين - من دم، أو مال، أو عرض -: فليس في الآية ما يدل على سقوطها. ومن زعم أن ثم دليلا يدل على السقوط؛ فما الدليل على هذا الزعم؟ !

باب من يستحق القتل حدا

(6 - باب من يستحق القتل حدا) (1 -[الحربي] :) (هو الحربي) ، ولا خلاف في ذلك؛ لأوامر الله - عز وجل - بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز، ولما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا متواترا من قتالهم، وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث، ويأمر بذلك من يبعثه للقتال. ((2) [المرتد] ) (والمرتد) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من بدل دينه فاقتلوه "؛ وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس. وحديث: " لا يحل دم امرئ مسلم؛ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان ... " الحديث؛ وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن مسعود. ولحديث أبي موسى في " الصحيحين " أيضا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " اذهب إلى اليمن "، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه؛ ألقى له وسادة، وقال: انزل؛ وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل؛ قضاء الله ورسوله!

أقوال العلماء في المرتدة

قال في " المسوى ": " من ارتد عن الإسلام؛ إن كان في منعة من قومه؛ جمع الإمام - المسلمين - وقاتلهم؛ قال - تعالى -: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} ؛ وفي هذه الآية إخبار عما علم الله - تعالى - وقوعه. وقد ارتد أكثر العرب في زمن أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه -؛ فبعث إليهم المسلمين؛ وقاتلهم حتى رجعوا. وعلى هذا أهل العلم. ومن ارتد عن الإسلام وليس له منعة؛ قتل. وعليه أهل العلم؛ إذا كان المرتد رجلا ". ( [أقوال العلماء في المرتدة] :) واختلفوا في المرتدة؛ قال الشافعي: تقتل، وقال أبو حنيفة: لا تقتل؛ ولكن تحبس حتى تسلم. أقول: الأدلة الدالة على قتل المرتد عامة، ولم يرد ما يقتضي تخصيصها. وأما حديث النهي عن قتل النساء؛ فذلك إنما هو في حال الحرب؛ فإن

بيان خطإ من قال إن المتأول كالمرتد

النساء المشركات لا يقتلن، وليس ذلك محل النزاع. ثم قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قتل عدة نساء؛ كاللاتي أمر بقتلهن يوم الفتح؛ لما كان يقع منهن السب له، وكذلك قتل امرأتين من بني قريظة، وغير ذلك. ثم ليس النهي عن قتل النساء مستلزما لتركهن على الكفر؛ إذا امتنعن من الإسلام والجزية؛ فإنه لا يجوز التقرير على الكفر. فإذا قالت امرأة: لا أسلم أبدا، ولا أعطي الجزية، وصممت على ذلك؛ كان تركها حينئذ كافرة غير جائز لأحد من المسلمين. ومن ههنا؛ يلوح لك أن النهي عن قتل النساء؛ إنما هو لأجل كونهن مستضعفات، يحصل منهن الانقياد للإسلام بدون ذلك، وليس عندهن غناء في القتال. ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة؛ فقال: " ما كانت هذه لتقاتل {"، ثم نهى عن قتلهن. فانظر كيف جعل النهي عن قتلهن معللا بعدم المقاتلة؟} ( [بيان خطإ من قال: إن المتأول كالمرتد] :) وأما قول بعض أهل العلم: إن المتأول كالمرتد؛ فههنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله، بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين؛ من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان.

بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين؛ لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، والسراب في البقيعة (¬1) . في الله وللمسلمين من هذه الفاقرة (¬2) التي هي أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين! وأنت - إن بقي فيك نصيب من عقل، وبقية من مراقبة الله - عز وجل -، وحصة من الغيرة الإسلامية -: علمت - وعلم كل من له علم بهذا الدين - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام؟ قال - في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه -: إنه إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والأحاديث بهذا المعنى متواترة. فمن جاء بهذه الأركان الخمسة، وقام بها حق القيام؛ فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك؛ كائنا من كان، فمن جاءك بما يخالف هذا - من ساقط القول، وزائف العلم بالجهل -؛ فاضرب به في وجهه، وقل له: قد تقدم هذيانك هذا: برهان محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه -: (دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر) ¬

_ (¬1) كذا الأصل، وصوابه القيعة: جمع قاع؛ كالجيرة: جمع جار. والقاع: ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب. (ش) (¬2) الفاقرة: الداهية التي تكسر الظهر. (ش)

وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام؛ فقد حكم لمن آمن - بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره - بالإيمان، وهذا منقول عنه نقلا متواترا. فمن كان هكذا؛ فهو المؤمن حقا، وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين، والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه: ما يدل - بفحوى الخطاب - على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية؟ {فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، وجرأة لا تماثلها جرأة} وأين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في " الصحيح " أيضا -: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه "؟ { ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه في " الصحيح " أيضا -: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "؟} ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم؛ عليكم حرام "؟ {وهو أيضا في " الصحيح ". وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية؟} والهداية بيد الله - عز وجل -: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} ": هذا ما أفاده الماتن العلامة في " السيل ". وقال أيضا: " اعلم أن الحكم على الرجل المسلم - بخروجه من دين

الإسلام ودخوله في الكفر -؛ لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه؛ إلا ببرهان أوضح من شمس النهار؛ فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة - المروية من طريق جماعة من الصحابة - أن: " من قال لأخيه: يا كافر {فقد باء بها أحدهما "؛ هكذا في " الصحيح ". وفي لفظ آخر في " الصحيحين "، وغيرهما: " من دعا رجلا بالكفر؛ أو قال: عدو الله} وليس كذلك؛ إلا حار عليه "؛ أي: رجع. وفي لفظ في " الصحيح ": " فقد كفر أحدهما ". ففي هذه الأحاديث - وما ورد موردها - أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن السراع في التكفير. وقد قال - عز وجل -: {ولكن من شرح بالكفر صدرا} ؛ فلا بد من شرح الصدر بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه. فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك؛ لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام. ولا اعتبار بصدور فعل كفري؛ لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر. ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر؛ وهو لا يعتقد معناه. فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما؛ كما تقدم،

وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع؛ كما في حديث: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "، ونحوه مما ورد مورده، وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر؛ وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر { قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل، ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث؛ فعليك أن تقرها كما وردت، وتقول: من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر؛ فهو كما قال. ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا؛ إلا من شرح بالكفر صدرا، فحينئذ تنجو من معرة الخطر، وتسلم من الوقوع في المحنة؛ فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه، ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة. فكيف إذا كان على نفسه - إذا أخطأ - أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا؟} أفهذا يقود إليه العقل؛ فضلا عن الشرع؟ ! ومع هذا؛ فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب، وقد أمكن هنا بما ذكرناه، فتعين المصير إليه. فحتم على كل مسلم؛ أن لا يطلق كلمة الكفر؛ إلا على من شرح به صدرا، ويقصر ما ورد مما تقدم على مورده:

الساحر

(وهذا الحق لي به خفاء ... فدعني عن بنيات (¬1) الطريق) و (يأبى (¬2) الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح) وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر؟ ! فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما يأبى عنه الحصر؛ من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار. وهكذا؛ لا يحكم بكفر من كفر مكرها؛ فقد استثناه القرآن الكريم بقوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ؛ وكفى به ". اه. (3 -[الساحر] :) (والساحر) ؛ لكون عمل السحر نوعا من الكفر؛ ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد. وقد روى الترمذي، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم من حديث جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حد الساحر ضربة بالسيف ". قال الترمذي: " والصحيح عن جندب موقوفا ". ¬

_ (¬1) بنيات الطريق - بالتصغير -: هي الطرق الصغار التي تتشعب من الجادة. (ش) (¬2) (ويأبى) ؛ الواو للعطف؛ وليست من البيت. اه. (ش)

قال: " والعمل على هذا عند بعض أهل العلم؛ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس. وقال الشافعي: " إنما يقتل الساحر؛ إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر؛ لم نر عليه قتلا ". اه. وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف. وأخرج أحمد، وعبد الرزاق، والبيهقي: أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. والأرجح ما قاله الشافعي؛ لأن الساحر إنما يقتل لكفره، فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجبا للكفر. قال في " المسوى ": " السحر كبيرة "؛ قال - تعالى -: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} ، واختلف في ذلك أهل العلم. فقال مالك وأحمد: يقتل الساحر. وقال الشافعي ما تقدم. ولو قتل الساحر رجلا بسحره، وأقر: إني سحرته، وسحر يقتل غالبا؛ يجب عليه القود عند الشافعي، ولا يجب عند أبي حنيفة. ولو قال: سحري قد يقتل وقد لا يقتل؛ فهو شبع عمد.

الكاهن

ولو قال: أخطأت إليه من غيره؛ فهو خطأ تجب فيه الدية المخففة، وتكون في ماله؛ لأنه ثبت باعترافه؛ إلا أن تصدقه العاقلة فتكون عليهم ". أقول: لا شك أن من تعلم السحر بعد إسلامه؛ كان بفعل السحر كافرا مرتدا، وحدّه حد المرتد، وقد تقدم. وقد ورد في الساحر بخصوصه أن حده القتل، ولا يعارض ذلك ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره (¬1) ؛ فقد يكون ذلك قبل أن يثبت أن حد الساحر القتل، وقد يكون ذلك لأجل خشية معرة اليهود - وقد كانوا أهل شوكة - حتى أبادهم الله، وفل شوكتهم، وأقلهم وأذلهم. وقد عمل الخلفاء الراشدون على قتل السحرة، وشاع ذلك وذاع، ولم ينكره أحد. (4 -[الكاهن] :) (والكاهن؛ لكون الكهانة نوعا من الكفر؛ فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر. ¬

_ (¬1) • قصة السحر هذه صحيحة ثابتة في " الصحيحين " وغيرهما من حديث عائشة. وله شاهد من حديث زيد بن أرقم عند النسائي (2 / 172) ، وأحمد (4 / 367) بسند صحيح؛ كما قال العراقي في " تخريج الإحياء " (2 / 336) . وله طريق أخرى عند الحاكم (4 / 360) - وصححه، ووافقه الذهبي -. فلا يلتفت إلى من طعن في صحة هذه القصة من جهة المعنى؛ فإن الأمر سهل لا يمس مقام النبوة بسوء مطلقا؛ إلا إن كان يمسه بشيء كونه - عليه السلام - بشرا! (ن)

الساب لله أو لرسوله أو للكتاب أو للسنة أو للإسلام

وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر؛ فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا بصحة الكهانة. ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا أو عرافا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وفي الباب أحاديث. (5 -[الساب لله أو لرسوله أو للكتاب أو للسنة أو للإسلام] :) (والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين) ، وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح، ففاعلها مرتد؛ حده حده. وقد أخرج أبو داود من حديث علي: أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها. ولكنه من رواية الشعبي، عن علي، وقد قيل: إنه ما سمع منه. وأخرج أبو داود (¬1) ، والنسائي من حديث ابن عباس: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلها، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمها؛ ورجال إسناده ثقات. وأخرج أبو داود (¬2) ، والنسائي عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر، ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 221) ، والنسائي (2 / 171) ، وسنده صحيح. (ن) (¬2) • وسنده صحيح أيضا، وقال النسائي عقبه " هذا الحديث أحسن الأحاديث وأجودها " (ن) .

فتغيظ علي رجل، فاشتد غضبه، فقلت: أتأذن لي يا خليفة رسول الله! أن أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إلي، فقال ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله؛ ما كان لبشر بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قتله. ونقل أبو بكر الفارسي - أحد أئمة الشافعية - في كتاب " الإجماع " أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح؛ كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة. وخالفه القفال؛ فقال: كفر بالسب، فيسقط القتل بالإسلام. قال الخطابي: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما. اه. وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فبالأولى من سب الله - تبارك وتعالى -؛ أو سب كتابه أو الإسلام، أو طعن في دينه وكفر؛ من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان. أقول: وقريب من هذا: من جعل سب الصحابة شعاره ودثاره؛ فإنه لا مقتضى لسبهم قط، ولا حامل عليه أصلا؛ إلا غش الدين في قلب فاعله، وكراهة الإسلام وأهله، فإن هؤلاء هم أهله على الحقيقة؛ أقاموه بسيوفهم، وحفظوا هذه الشريعة المطهرة، ونقلوها إلينا كما هي.

الزنديق

فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأقمأ (¬1) المشتغلين بثلبهم وتمزيق أعراضهم المصونة. وقد رأينا في التواريخ ما صار يفعله أهل مصر والشام والمغرب؛ من قتل من كان كذلك؛ بعد مرافعته إلى حكام الشريعة، وحكمهم بسفك دمائهم. وهذا؛ وإن كان عندنا غير جائز - لما عرفناك من عصمة دم المسلم، حتى يقوم الدليل الدال على جواز سفكه -؛ ولكن فيه القيام التام بحقوق أساطين الإسلام. (6 -[الزنديق] :) (والزنديق) ؛ وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويعتقد بطلان الشرائع؛ فهذا كافر بالله وبدينه، مرتد عن الإسلام أقبح ردة؛ إذا ظهر منه ذلك بقول أو فعل. وقد اختلف أهل العلم؛ هل تقبل توبته أم لا؟ والحق: قبول التوبة. قال في " المسوى " - " في باب حكم الخوارج والقدرية وأشباههم -: " قال الشافعي: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات وأكفروهم؛ لم يحل بذلك قتالهم. ¬

_ (¬1) القماءة: الذلة والصغار. وأقمأه: صغره وذلّله. (ش)

بلغنا أن عليا - رضي الله تعالى عنه - سمع رجلا يقول: (لا حكم إلا لله) في ناحية المسجد، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل! لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال. وقال أهل الحديث من الحنابلة: يجوز قتلهم. أقول: الظاهر عندي - دراية ورواية - قول أهل الحديث: أما رواية؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأين (¬1) لقيتموهم فاقتلوهم ". وأما قول علي؛ فمعناه: أن الإنكار على الإمام والطعن فيه لا يوجب قتلا؛ حتى ينزع يده من الطاعة، فيكون باغيا أو قاطع طريق، وإذا أنكر ضروريا من ضروريات الدين؛ يقتل لذلك لا للإنكار على الإمام. بيان ذلك: أن المفتي إذا سئل عن بعض أفعال زيد؟ حكم بالجواز، وإذا سئل عن بعضها الآخر؟ حكم بالفسق، ثم إذا سئل عن بعضها الآخر؟ حكم بالكفر؛ فههنا لم يظهر هذا الرجل عنده إلا الإنكار في مسألة التحكيم، فحكم حسبما أظهر، ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة، أو إنكار الحوض [أو] الكوثر، وما يجري مجرى ذلك من الثابت في الدين بالضرورة؛ لحكم بالكفر. ¬

_ (¬1) • الصواب: " فأينما "، والحديث في " البخاري " (12 / 241) بلفظ: " سيخرج قوم في آخر الزمان؛ حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول - وفي رواية: قول خير - البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ". (ن)

وأما حديث: " أولئك الذين نهاني الله عنهم "؛ ففي المنافقين دون الزنادقة. بيان ذلك: أن المخالف للدين الحق؛ إن لم يعترف به، ولم يذعن له لا ظاهرا ولا باطنا؛ فهو الكافر، وإن اعترف بلسانه وقلبه على الكفر؛ فهو المنافق، وإن اعترف به ظاهرا وباطنا؛ لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة؛ فهو الزنديق. كما إذا اعترف بأن القرآن حق، وما فيه من ذكر الجنة والنار حق؛ لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة، والمراد بالنار هي الندامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة، وليس في الخارج جنة ولا نار؛ فهو الزنديق؛ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أولئك الذين نهاني الله عنهم "؛ في المنافقين دون الزنادقة. وأما دراية؛ فلأن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد؛ ليكون مزجرة للمرتدين وذبا عن الملة التي ارتضاها؛ فكذلك نصب القتل في هذا الحديث وأمثاله جزاء للزندقة؛ ليكون مزجرة للزنادقة، وذبا عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به. ثم التأويل تأويلان: تأويل لا يخالف قاطعا من الكتاب والسنة واتفاق الأمة. وتأويل يصادم ما يثبت بقاطع؛ فذلك الزندقة. فكل من أنكر الشفاعة، أو أنكر رؤية الله يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، أو أنكر الصراط والحساب - سواء قال: لا أثق بهؤلاء الرواة، أو قال: أثق بهم لكن الحديث مؤول، ثم ذكر تأويلا فاسدا لم

متى يقام حد القتل على المستحقين

يسمع ممن قبله -؛ فهو الزنديق. وكذلك من قال في الشيخين أبي بكر وعمر - مثلا -: ليسا من أهل الجنة؛ مع تواتر الحديث في بشارتهما، أو قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة، ولكن معنى هذا الكلام: أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي، وأما معنى النبوة - وهو كون الإنسان مبعوثا من الله - تعالى - إلى الخلق، مفترض الطاعة - معصوما من الذنوب ومن البقاء على الخطإ فيما يرى -؛ فهو موجود في الأئمة بعده؛ فذلك هو الزنديق. وقد اتفق جماهير المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى، والله - تعالى - أعلم ". اه. ( [متى يقام حد القتل على المستحقين؟] :) (بعد استتابتهم) ؛ لحديث جابر عند الدارقطني، والبيهقي: أن امرأة - يقال لها: أم مروان - ارتدت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإسلام؛ فإن تابت وإلا قتلت. وله طريقان (¬1) ضعفهما ابن حجر. ¬

_ (¬1) • أخرجهما البيهقي (8 / 203) ، وضعف الطريق الأول بقوله: " فيه بعض من يجهل "، وفي الطريق الأخرى معمر بن بكار السعدي، قال الذهبي: " صويلح "، قال العقيلي: " في حديثه وهم، ولا يتابع على أكثره "، قال الحافظ: " وذكر ابن أبي حاتم [فلم يذكر فيه جرحا، وذكره] في الثقات. قلت: فمثله حسن الحديث عند المتابعة كما هنا. ويشهد له حديث عائشة الآتي بعده، وعليه عمل الصحابة، قال ابن عبد البر: " لا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد ". وقد ساق بعض الآثار عنهم في ذلك البيهقي، فتراجع. (ن)

وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف، عن عائشة: أن امرأة ارتدت يوم أحد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب؛ فإن تابت وإلا قتلت. وأخرج أبو الشيخ في " كتاب الحدود " عن جابر: أنه - صلى الله عليه وسلم - استتاب رجلا أربع مرات؛ وفي إسناده العلاء بن هلال، وهو متروك. وأخرجه البيهقي من وجه آخر. وأخرج الدارقطني، والبيهقي: أن أبا بكر استتاب امرأة - يقال لها: أم قرفة -، كفرت بعد إسلامها، فلم تتب؛ فقتلها. قال ابن حجر: وفي السير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل أم قرفة (¬1) يوم قريظة، وهي غير تلك. وأخرج مالك في " الموطأ " (¬2) ، والشافعي: أن رجلا قدم على عمر بن ¬

_ (¬1) أم قرفة؛ في " الزرقاني على المواهب ": " بكسر القاف، وسكون الراء، وتاء التأنيث ". (ش) (¬2) • (2 / 211) ، وعنه الشافعي (2 / 281 - 282) ؛ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل ... ومحمد بن عبد الله - هذا - أورده ابن أبي حاتم (2 / 2 / 300) ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وأما ابنه عبد الرحمن؛ فروى (2 / 2 / 281) عن ابن معين أنه ثقة، ولم يوردهما السيوطي في " إسعاف المبطإ برجال الموطإ "؛ وله من هذا القبيل الشيء الكثير { وهذا الأثر رواه البيهقي من طريق مالك، ثم روى (8 / 207) قصته في جماعة ارتدوا فقتلوا، فاسترجع عمر، فقيل له: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟} قال: نعم، كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الإسلام فإن أبوا استودعناهم السجن. وسنده حسن. (ن)

الخطاب من قبل أبي موسى، فسأله عن الناس؟ فأخبره، فقال: هل من مغربة خبر (¬1) ؟ قال: نعم؛ رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال قربناه فضربنا عنقه، فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا؛ واستتبتموه؟ {لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم} إني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني. وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة؛ ثم كيفيتها. والظاهر: أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف؛ كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو أهل الشرك، ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال، ولا يقاتلهم حتى يدعوهم. فهذا ثبت في كل كافر، فيقال للمرتد: إن رجعت إلى الإسلام؛ وإلا قتلناك، وللساحر، والكاهن، والساب لله، أو لرسوله، أو للإسلام، أو للكتاب، أو للسنة، أو للطاعن في الدين، أو الزنديق: قد كفرت بعد إسلامك؛ فإن رجعت إلى الإسلام؛ وإلا قتلناك، فهذه هي الاستتابة، وهي واجبة؛ كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام. وأما كونه يقال للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثة، أو في ثلاثة أيام، أو أقل أو أكثر؛ فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك. بل يقال لكل واحد من هؤلاء: ارجع إلى الإسلام، فإن أبى قتل مكانه. ¬

_ (¬1) (مغربة) - بضم الميم، وفتح الغين، وتشديد الراء المكسورة -؛ أي: هل من خبر جديد جاء من بلد بعيد؟ قاله في " اللسان ".

قال في " المسوى ": " اختلفت الروايات عن أبي حنيفة والشافعي في ذلك: في " المنهاج ": ويجب استتابة المرتد والمرتدة، وفي قول: يستحب وهي في الحال، وفي قول: ثلاثة أيام؛ فإن أصرّا قتلا. وفي " الهداية ": " إذا ارتد المسلم عن الإسلام؛ عرض عليه الإسلام، فإن كانت له شبهة؛ كشفت عنه، ويحبس ثلاثة أيام؛ فإن أسلم وإلا قتل. وفي " الجامع الصغير ": يعرض عليه الإسلام؛ فإن أبى قتل. قيل: تأويل الأول؛ أنه إن استمهل يمهل ثلاثة أيام. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يستحب أن يؤجله؛ طلب ذلك أو لم يطلب ". اه. أقول: الأدلة الصحيحة المصرحة بقتل المرتد؛ لم يثبت في شيء منها الاستتابة؛ بل فيها الأمر بالقتل للفور. وما ورد عن بعض الصحابة من إنكار قتل المرتدين قبل الاستتابة؛ فليس بحجة، ولا يصلح لتقييد ما ثبت عن الشارع، ودعوى أن ذلك إجماع - بواسطة عدم الإنكار - دعوى باطلة. فالحق: أن المرتد يقال له: ارجع إلى الإسلام، فإن أجاب وجب حقن دمه، وإن لم يجب تعين قتله في ذلك الوقت، وقد حصل الدعاء المشروع بمجرد قولنا له: ارجع إلى الإسلام.

لم يصح في قتل الديوث شيء

(والزاني المحصن واللوطي مطلقا والمحارب) ، وقد تقدم الكلام فيهم. ( [لم يصح في قتل الديوث شيء] :) وأما الديوث؛ فلم يصح في قتله شيء. وأصل دم المسلم العصمة، وليس كل معصية مبيحة للقتل؛ بل معاصي مخصوصة ورد الشرع بها، ولا سيما بعد ورود الحصر في حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم؛ إلا بإحدى ثلاث "؛ وليس هذا منها. فالحاصل: أن الديوث من أعظم العصاة؛ مع ما في ذلك من الهجنة المنافية للدين والمروءة. وأما أنه يقتل؛ فلا؛ ولا كرامة. ( [حكم الإسلام في الباطنية] :) وأما قتل الباطنية؛ فالحق أنهم - مع تسترهم بالكفر -؛ لا يحل قتل أحد منهم؛ إلا بعد أن يفعل أو يقول ما هو كفر بدون تأويل؛ ولا سيما والمشهور عنهم؛ أنهم يظهرون لعوامهم الإسلام والصلاح، ويوهمونهم أنهم على الحق. فإن صح هذا؛ فجميع عوامهم لا يعلمون أنهم على الكفر؛ بل يعتقدون أنهم على الحق؛ فهم إلى تعريفهم بالحق أحوج منهم إلى القتل، فلا يجوز قتل أحد من الباطنية - وهم البواهر في أرض الهند - إلا بعد أن يظهر منه كفر بواح؛ لأن كلمتهم إسلامية، ودعوتهم نبوية؛ وإن كانوا على شفا جرف هار من أمور الدين.

الكتاب السابع والعشرون كتاب القصاص

(الكتاب السابع والعشرون: كتاب القصاص)

كتاب القصاص

(27 - كتاب القصاص) ( [الدليل على وجوب القصاص] :) ووجوبه بنص الكتاب العزيز: {كتب عليكم القصاص في القتلى} ، {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} ، وبمتواتر السنة كحديث: " لا يحل دم امرئ مسلم؛ إلا بإحدى ثلاث "؛ منها: " والنفس بالنفس "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن مسعود. وفي " مسلم "، وغيره من حديث عائشة. وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين؛ إما أن يفتدي؛ وإما أن يقتل ". وأخرجه أحمد (¬1) ، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أصيب بدم أو خبل - والخبل الجراح -؛ فهو بالخيار بين إحدى ¬

_ (¬1) • في " المسند " (4 / 31) ، والبيهقي (8 / 52) ، وسنده ضعيف لما ذكره الشارح. لكن له طريق أخرى عند أبي داود (2 / 245) ، وأحمد (4 / 32) مختصرا، مثل حديث أبي هريرة وسنده صحيح، وصححه الترمذي (2 / 309) . (ن)

على من يجب القصاص

ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة؛ فخذوا على يده ". وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمي، وفيه مقال، وفيه أيضا محمد بن إسحاق، وقد عنعن. وقد أخرج البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله - تعالى - لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر} الآية، {فمن عفي له من أخيه شيء} ، قال: فالعفو: أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف: أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} : فيما كتب على من كان قبلكم، ولا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب القصاص عند وجود المقتضي وانتفاء المانع. ( [على من يجب القصاص؟] ) (يجب على المكلف المختار) ، وقد تقدم وجهه (العامد) ؛ لما أخرجه أبو داود (¬1) ، والنسائي، والحاكم - وصححه - من حديث عائشة بلفظ: " لا يحل قتل مسلم؛ إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الإسلام، فيحارب الله ورسوله؛ فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض ". ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 219) ، والحاكم (4 / 467) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)

أنواع القتل ثلاثة

وأخرج الترمذي (¬1) ، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ بلفظ: " من قتل متعمدا؛ أسلم إلى أولياء المقتول؛ فإن أحبوا قتلوا ... " الحديث. وهي معلوم - بالأدلة والإجماع من أهل الإسلام -: أن القصاص لا يجب إلا مع العمد، ولا بد أن يكون عدوانا؛ لأن من قتل - عمدا مقتولا يستحق القتل شرعا -: لم يجب القصاص عليه. ( [أنواع القتل ثلاثة] :) (1 -[عمد محض] :) قلت: عند الشافعي: القتل على ثلاثة أنواع: عمد محض: وهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا؛ سواء كان بمحدد أو مثقل؛ فيجب فيه القصاص عند وجود المكافئ، أو الدية مغلظة في مال الجاني حالة. (2 -[شبه العمد] :) والثاني: شبه العمد: وهو أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا؛ بأن ضربه بعصا خفيفة - أو حجر صغير - ضربة أو ضربتين فمات؛ فلا يجب فيه القصاص، ويجب به الدية مغلظة على عاقلته، ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 304) - وحسنه، وابن ماجه (2 / 137) ؛ من طريق محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو ... به. قلت: وهذا سند حسن. (ن)

الخطأ المحض

مؤجلة إلى ثلاث سنين، فإن كان المضروب صغيرا أو مريضا يموت منه غالبا، أو كان قويا - غير أن الضارب والى عليه بالضرب حتى مات -: يجب القَوَد. (3 -[الخطأ المحض] :) والثالث: الخطأ المحض: وهو أن لا يقصد ضربه، وإنما قصد غيره فأصابه، أو حفر بئرا فتردى فيه إنسان، أو نصب شبكة حيث لا يجوز، فتعلق بها رجل ومات؛ فلا قود عليه، وتجب الدية مخففة على العاقلة في ثلاث سنين. ثم القتل ينقسم باعتبار المقتولين إلى أقسام، ولكل قسم حكم يخصه؛ إما في القود، وإما في الدية، وإما فيهما جميعا: قتل الحر، وقتل العبد، وقتل الذكر، وقتل الأنثى، وقتل المسلم، وقتل الكافر، وقتل الجنين. ولا اعتبار لكون المقتول شريفا أو وضيعا، جميلا أو دميما، صغيرا أو كبيرا؛ غنيا أو فقيرا. وإذا وجب القود على إنسان، فترك له شيء من الدم - بأن عفا أحد الورثة -: صار موجبه الدية للآخرين، وسيأتي تفصيلها. ( [لا دليل على إنكار القصاص في دار الحرب] :) وأما إنكار القصاص في دار الحرب مطلقا؛ فلا وجه له من كتاب، ولا سنة، ولا قياس صحيح، ولا إجماع؛ فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها،

من حق الورثة التنازل عن القصاص وطلب الدية

فما أوجبه الله - تعالى - على المسلمين من القصاص؛ ثبت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها؛ مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش؛ إلا مجرد الخيال المبني على الهباء؛ فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض، يجب الحكم له به على خصمه، وهو مفوض إلى اختياره. وغاية ما ثبت في هذا: ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية، وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين؛ فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام، ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل؛ وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع؛ من لزوم القصاص ولزوم الأرش. ( [من حق الورثة التنازل عن القصاص وطلب الدية] :) (إن اختار ذلك الورثة؛ وإلا فلهم طلب الدية) ؛ لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين ". ( [اتفاق العلماء في قتل المرأة بالرجل والعبد بالحر والكافر بالمسلم] :) (وتقتل المرأة بالرجل، والعكس، والعبد بالحر، والكافر بالمسلم) ؛ لما أخرج مالك، والشافعي من حديث عمرو بن حزم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن: أن الذكر يقتل بالأنثى. ورواه أبو داود، والنسائي؛ من طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. . مرسلا.

ورواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي - موصولا مطولا - من حديث الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. وفي هذا الحديث كلام طويل، وقد صححه ابن حبان، والحاكم (¬1) ، والبيهقي. وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، يستغنى بشهرته عن الإسناد؛ لأنه أشبه بالمتواتر في مجيئه؛ لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: " قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره - الزهري - بالصحة لهذا الكتاب " (¬2) . ومما استدل به على ذلك: ما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ¬

_ (¬1) • ووافقه الذهبي (1 / 395 - 397) ، وفيه نظر؛ لأنه من رواية سليمان بن داود، عن الزهري وسليمان - هذا -؛ الراجح أنه سليمان بن أرقم، كما قال الذهبي نفسه في ترجمة ابن داود. وابن أرقم ضعيف جدا. (ن) (¬2) لم أجده مطولا في " النسائي "؛ كما قال الشارح؛ إلا أن يكون في " السنن الكبرى " للنسائي ولم نرها. وهو في " مستدرك الحاكم " مطولا (ج 1: ص 395) . (ش)

اختلاف العلماء في قتل الرجل بالمرأة والحر بالعبد والمسلم بالكافر

أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء به، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فرضّ رأسه بين حجرين. وقد استوفى الماتن ذلك البحث في " شرح المنتقى ". وإلى ذلك: ذهب الجمهور، واختلفوا؛ هل تستوفي ورثة الرجل من ورثة المرأة نصف الدية أم لا؟ وقد حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل بالمرأة؛ إلا رواية عن علي، وعن الحسن، وعطاء. ورواه البخاري عن أهل العلم؛ هذا في قتل الرجل بالمرأة. وأما قتل المرأة بالرجل؛ فالأمر واضح، وهكذا قتل العبد بالحر، والكافر بالمسلم، والفرع بالأصل، وليس في ذلك خلاف. ( [اختلاف العلماء في قتل الرجل بالمرأة، والحر بالعبد والمسلم بالكافر] :) وأما العكس من هذه الصور الثلاث؛ فقد قيل: إنه يقتل الحر بالعبد، وهو محكي عن الحنفية، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري؛ هذا إذا كان العبد مملوكا لغير القاتل. وأما إذا كان مملوكا له؛ فقد حكى في " البحر " الإجماع على أنه لا يقتل السيد بعبده؛ إلا عن النخعي. وهكذا حكى الخلاف - عن النخعي وبعض التابعين -: الترمذي.

واستدل المثبتون بما أخرجه أحمد، وأهل " السنن " - وحسنه الترمذي - من حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع (¬1) عبده جدعناه "، وفي إسناده ضعف؛ لأنه من رواية الحسن، عن سمرة، وفي سماعه منه خلاف مشهور. واستدل المانعون بقوله - تعالى -: {الحر بالحر والعبد بالعبد} . وفي الاستدلال بالآية إشكال كالإشكال في استدلال من استدل بقوله - تعالى -: {النفس بالنفس} . واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقد به، وأمره أن يعتق رقبة. وفي إسناده إسماعيل بن عياش، ولكنه رواه عن الأوزاعي، وهو شامي، وإسماعيل قوي في الشاميين. وفي إسناده أيضا محمد بن عبد العزيز الشامي، وهو ضعيف. وأخرج البيهقي، وابن عدي من حديث عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده "؛ وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي، وهو منكر الحديث؛ كما قال البخاري. ¬

_ (¬1) الجدع: قطع الأنف والأذن والشفة، وهو بالأنف أخص، فإذا أطلق غلب عليه؛ قاله ابن الأثير. (ش)

الدليل على عدم قتل المؤمن بالكافر

وأخرج الدارقطني والبيهقي، من حديث ابن عباس مرفوعا: " لا يقتل حر بعبد "؛ وفي إسناده جويبر، وغيره من المتروكين. وأخرج البيهقي عن علي قال: من السنة: أن لا يقتل حر بعبد؛ وفي إسناده جابر الجعفي، وهو متروك. وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث عمرو بن شعيب. وفي الباب أحاديث تشهد لهذه وتقويها (¬1) . ( [الدليل على عدم قتل المؤمن بالكافر] :) (لا العكس) ؛ أي: لا يقتل مؤمن بكافر؛ لحديث علي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا لا يقتل مؤمن بكافر ". وأخرجه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم - وصححه -. وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه. وأخرجه ابن حبان في " صحيحيه " من حديث ابن عمر. وأخرج البخاري وغيره عن علي: أنه قال له أبو جحيفة (¬2) : هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة؛ ¬

_ (¬1) انظر تحقيق الكلام على هذه الروايات - وبيان صحيحها من ضعيفها - في " إرواء الغليل " (208 - 214) . (¬2) قوله: أبو جحيفة؛ بتقديم الجيم على الحاء. اه. من

لا يقتل الأصل بالفرع

إلا فهماً يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ". وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقتل المسلم بالكافر الحربي. وأما بالذمي؛ فذهب إلى ذلك الجمهور، وبه قال أبو حنيفة (¬1) . ولم يأت من ذهب إلى قتل المسلم بالذمي بما يصلح للاستدلال به. قال مالك: الأمر عندنا: أن لا يقتل مسلم بكافر؛ إلا أن يقتله المسلم قتل غيلة؛ فيقتل به (¬2) . قلت: وعليه الشافعي؛ إلا أنه أسقط هذا الاستثناء؛ لأن الأحاديث الصحيحة في هذا الباب - مثل حديث علي وعبد الله بن عمر - ساكتة عنه. ( [لا يقتل الأصل بالفرع] :) (والفرع بالأصل لا العكس) ؛ أي: لا يقتل الأصل بالفرع؛ لحديث: " لا يقتل الوالد بالولد ". ¬

_ (¬1) • المعروف عن أبي حنيفة أنه يقول بقتل المسلم بالذمي. فالظاهر أن في عبارة الكتاب سقطا، ولعله من الطابع؛ انظر " نيل الأوطار " (7 / 9) ؛ وقد ذكر فيه حجج من قال بقوله، وردها كلها، وفيها حديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد، وأنه ضعيف؛ فراجعه. (ن) (¬2) • وحجته في ذلك قصة رويت عن عمر، وقد أشار الشافعي إلى تضعيفها. (ن)

يثبت القصاص في الأعضاء والجروح

أخرجه الترمذي من حديث عمر، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة (¬1) . ولكن له طريق أخرى عند أحمد، والبيهقي، والدارقطني، ورجال إسنادها ثقات. وأخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث سراقة، وفي إسنادها ضعف. وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس. وقد أجمع أهل العلم على ذلك، لم يخالف فيه؛ إلا البتي ورواية عن مالك. ( [يثبت القصاص في الأعضاء والجروح؟] :) (ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان) ؛ لقوله - تعالى -: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} ، وهي - وإن كانت حكاية عن بني إسرائيل -؛ فقد قرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن الربيع كسرت ثنية جارية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص. وأما تقييد ذلك بالإمكان؛ فلكون بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها؛ كعدم إمكان الاقتصار على مثل ما في المجني عليه، وخطاب الشرع ¬

_ (¬1) • وقد تابعه محمد بن عجلان عند الدارقطني، والبيهقي؛ وسنده حسن. وحديث ابن عباس له إسناد صحيح عند الدارقطني، كما بينت ذلك في فصل خاص عندي لهذا الحديث. (ن)

يسقط القصاص بإبراء أحد الورثة

محمول على الإمكان من دون مجاوزة للمقدار الكائن في المجني عليه، فإذا كان لا يمكن إلا بمجاوزة للمقدار، أو بمخاطرة وإضرار؛ فالأدلة الدالة على تحريم دم المسلم، وتحريم الإضرار به - بما هو خارج عن القصاص - مخصصة لدليل الاقتصاص. قلت: إن كل طرف له مفصل معلوم، فقطعه ظالم من مفصله من إنسان اقتص منه؛ كالإصبع يقطعها من أصلها، أو اليد يقطعها من الكوع، أو من المرفق، أو الرجل يقطعها من المفصل؛ يقتص منه. وكذلك لو قلع سنه، أو قطع أنفه، أو أذنه، أو فقأ عينه، أو جب ذكره، أو قطع أنثييه؛ يقتص منه. وكذلك لو شجه موضحة (¬1) في رأسه أو وجهه؛ يقتص منه. ولو جرح رأسه دون الموضحة، أو جرح موضعا آخر من بدنه، أو هشم العظم؛ فلا قود فيه؛ لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه. وكذلك لو قطع يده من نصف الساعد؛ فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ حكومة لنصف الساعد. وعلى هذا أكثر أهل العلم في الجملة، وفي التفاصيل لهم اختلاف. ( [يسقط القصاص بإبراء أحد الورثة] :) (ويسقط بإبراء أحد الورثة، ويلزم نصيب الآخرين من الدية) : لما تقدم من ¬

_ (¬1) من: أوضحت الشجة بالرأس فهي موضحة؛ يعني: كشف العظم. (ش)

كون أمر القصاص والدية إلى الورثة، وأنهم بخير النظرين، فإذا أبرأوا من القصاص سقط، وإن أبرأ أحدهم سقط؛ لأنه لا تبعض، ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية. وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وعلى المقتتلين أن ينحجزوا؛ الأول فالأول؛ وإن كانت امرأة ". وأراد بالمقتتلين: أولياء المقتول. وينحجزوا؛ أي: ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كانت امرأة (¬1) . وقوله: " الأول فالأول "؛ أي: الأقرب فالأقرب. هكذا فسر الحديث أبو داود. وفي إسناده حصن بن عبد الرحمن - ويقال: ابن محصن - أبو حذيفة الدمشقي؛ قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم من روى عنه غير الأوزاعي، ولا أعلم أحدا نسبه (¬2) . وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى: أن يعقل (¬3) عن المرأة ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ انظر " ضعيف الجامع ". (¬2) وذكره ابن حبان في " الثقات ". (ش) (¬3) العقل: هو الدية، وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول؛ أي: شدها في عقلها؛ ليسلمها إليهم؛ قاله ابن الأثير. (ش)

متى يؤخر القصاص

عصبتها (¬1) من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها. وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد (¬2) . فقوله: وهم يقتلون قاتلها: يفيد أن ذلك حق لهم؛ يسقط بإسقاطهم أو إسقاط بعضهم. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه. ( [متى يؤخر القصاص؟] :) (فإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه) ؛ دليله: ما قدمنا من أن ذلك حق لجميع الورثة، ولا اختيار للصبي قبل بلوغه (¬3) . ( [متى يهدر القصاص؟] :) (ويهدر ما سببه من المجني عليه) ؛ لحديث عمران بن حصين في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل؟ ! لا دية لك ". وفيهما أيضا من حديث يعلى بن أمية (¬4) . ¬

_ (¬1) • أي أقاربها من جهة أبيها. (ن) (¬2) حديث حسن: " الإرواء " (2302) . (¬3) هي خلافية، والخلاف مفصل في " بداية المجتهد " (ج 2: ص 336 - 337) لابن رشد. (ش) (¬4) يعني: نحوه. (ش)

ما حكم من أمسك رجل ليقتله آخر

وإلى ذلك ذهب الجمهور. ( [ما حكم من أمسك رجل ليقتله آخر] ) (وإذا أمسك رجل وقتل آخر؛ قتل القاتل وحبس الممسك) ؛ لحديث ابن عمر - عند الدارقطني (¬1) -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا أمسك الرجل الرجل، وقتله الآخر؛ يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك "، وهو من طريق الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه معمر، وغيره، عن إسماعيل؛ قال الدارقطني: والإرسال أكثر. وأخرجه أيضا البيهقي، ورجح المرسل، وقال: إنه - موصولا - غير محفوظ. قال ابن حجر: ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان. وأخرج الشافعي، عن علي: أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا، وأمسكه آخر، قال: يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت. وقد ذهب إلى ذلك: الحنفية والشافعية، ويؤيده قوله - تعالى -: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} . وبالجملة: فقتل القاتل مندرج تحت الأدلة المثبتة للقصاص. وأما حبس الممسك؛ فذلك نوع من التعزير استحقه بسبب إمساكه للمقتول. وقد روي عن النخعي، ومالك، والليث: أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل؛ لأنهما شريكان. ¬

_ (¬1) • وكذا أبو نعيم في " الحلية " (7 / 160) . (ن)

وفي " الموطإ ": أن عمر بن الخطاب قتل نفرا - خمسة أو سبعة - برجل واحد قتلوه قتل غيلة، وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء؛ لقتلتهم جميعا. قال مالك: الأمر عندنا: أنه يقتل في العمد الرجال الأحرار بالرجل الحر الواحد، والنساء بالمرأة كذلك، والعبيد (¬1) بالعبد كذلك أيضا. في " المسوى ": " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم؛ قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد يقتلون به قصاصا ". اه. أقول: إذا اشترك جماعة من الرجال - أو الرجال والنساء في قتل رجل عمدا بغير حق -؛ قتلوا به كلهم، وهذا هو الحق؛ لأن الأدلة القرآنية والحديثية لم تفرق بين كون القاتل واحدا أو جماعة. والحكمة التي شرع القصاص لأجلها - وهي حقن الدماء وحفظ النفوس -: مقتضية لذلك. ولم يأت من قال بعدم جواز قتل الجماعة بالواحد بحجة شرعية؛ بل غاية ما استدلوا به على المنع تدقيقات ساقطة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير (¬2) ؛ كما فعله الجلال في " ضوء النهار "، والمقبلي. ¬

_ (¬1) في الأصل: " بالعبيد "، وهو خطأ صححناه من " الموطإ " (ص 342 - طبع الهند) . (ش) (¬2) القبيل: ما وليك، والدبير: ما خالفك. ويقال: القبيل: فتل القطن، والدبير: فتل الكتان والصوف. ومعنى قولهم: " ما يعرف قبيله من دبيره ": ما يدري شيئا؛ ملخص من " اللسان ". وجعله الزمخشري من المجاز؛ وهو ظاهر. (ش)

ما هي عقوبة قتل الخطإ

وقد نقض الماتن ذلك في أبحاث أجاب بها على بعض علماء العصر، واستوفى جميع الحجج. وقوله: قتلوه غيلة؛ أي: حيلة، يقال: اغتالني فلان: إذا احتال حيلة يتلف بها ماله. ويقال: الغيلة؛ هي أن يخدعه؛ حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه، ثم يقتله. تمالأ عليه أهل صنعاء؛ أي: تعاونوا عليه، واجتمعوا إليه. قال في " الهدي ": " وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا؛ فلا يسقط العفو، ولا نعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا وأفتى به ". اه. وقال قبل هذا ما لفظه: " وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرتهم؛ فإنه من المعلوم: أن كل واحد منهم - يعني: العرنيين - لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ". اه. ( [ما هي عقوبة قتل الخطإ] :) (وفي قتل الخطإ الدية والكفارة) ؛ لنص الكتاب العزيز؛ على ما في النظم القرآني من القيود والتفاصيل.

ما هو قتل الخطإ

وقد وقع الإجماع على وجوب الدية والكفارة في الجملة، وإن وقع الخلاف في بعض الصور؛ كوجوب الكفارة من مال الصغير إذا قتل؛ لأن عمده خطأ. والخلاف في وجوب الكفارة من ماله معروف، فمن لم يوجبها؛ جعل إيجابها من باب التكليف، فقال: لا تجب إلا على مكلف، ومن أوجبها؛ جعله من خطاب الوضع، وهكذا المجنون. والكفارة هي ما ذكر الله - سبحانه -: من تحرير الرقبة وما بعده من الإطعام الصوم. وأما الدية؛ فسيأتي بيانها، وبيان الخطإ المحض، والخطإ الذي هو شبه العمد. ( [ما هو قتل الخطإ؟] :) (وهو ما ليس بعمد أو من صبي أو مجنون) ؛ قال مالك في " الموطإ ": " الأمر المجتمع عليه عندنا: أنه لا قود بين الصبيان، وأن عمدهم خطأ؛ ما لم تجب عليهم الحدود ويبلغوا الحلم، وأن قتل الصبي لا يكون إلا خطأ ". قلت: وعلى هذا أكثر أهل العلم. ( [على من تجب دية قتل الخطأ؟] ) (وهي على العاقلة، وهم العصبة (¬1)) ؛ لحديث أبي هريرة - في ¬

_ (¬1) • العصبة: الأقارب من جهة الأب؛ لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم؛ أي: يحيطون به ويشتد بهم: " نهاية ". (ن)

" الصحيحين " - قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان - سقط ميتا - بغرة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة (¬1) توفيت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها. وفي لفظ لهما: وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وفي " مسلم "، وغيره من حديث جابر، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة (¬2) . وأخرج أبو داود، وابن ماجه (¬3) : أن امرأتين - من هذيل - قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ميراثها لزوجها وولدها ". وصححه النووي؛ وفي إسناده مجالد، وهو ضعيف (¬4) . وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب - قريبا - وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن تعقل عن المرأة عصبتها ... الحديث. ¬

_ (¬1) • في " النهاية ": " الغرة ": العبد نفسه، وأصل الغرة: البياض الذي يكون في وجه الفرس ... ، والغرة عند الفقهاء: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء، وإنما تجب الغرة في الجنين إذا سقط ميتا، فإن سقط حيا ثم مات؛ ففيه الدية كاملة ". (ن) (¬2) بضم العين، وإنما دخلت الهاء لإفادة المرة الواحدة؛ قاله الشوكاني. (ش) (¬3) يعني: من حديث جابر. (ش) (¬4) قلت: لكن حديثه هذا حسن؛ كما في " صحيح سنن ابن ماجة " (2 / 99) لشيخنا.

وقد أجمع العلماء على ثبوت العقل، وإنما اختلفوا في التفاصيل، وفي مقدار ما يلزم كل واحد من العاقلة. أقول: الأدلة قد وردت بما يستفاد منه: أن القبيلة تعقل عن الجاني منها، وأن البطن يعقل عن الجاني منه، والقرابة يعقلون عن القريب الجاني. ولا منافاة بين هذه الأحاديث؛ بل يجمع بينها؛ بأن القرابة إذا قدروا على تسليم ما لزم؛ فهم أخص من غيرهم، وإن احتاج اللازم إلى زيادة عليهم، ولم يقدروا على الوفاء؛ لزم البطن (¬1) ، ثم القبيلة. وبمجموع ما ورد في العقل: يرد على من قال: إنه غير ثابت في الشريعة، مستدلا بمثل قوله - تعالى -: {لا تزر وازرة وزر أخرى} ، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يجني جان إلا على نفسه "؛ لأن أدلة العقل أخص مطلقا؛ فالعمل بها واجب. والظاهر: أن العقل لازم في كل جنايات الخطإ؛ من غير فرق بين الموضحة وما دونها وما فوقها. ¬

_ (¬1) • هو ما دون القبيلة. (ن)

الكتاب الثامن والعشرون كتاب الديات

(الكتاب الثامن والعشرون: كتاب الديات)

كتاب الديات

(28 - كتاب الديات) (1 - أحكام الدية والشّجاج) الأصل في الدية أنها تجب أن تكون مالا عظيما يغلبهم وينقص من مالهم، ويجدون له ألما عندهم، ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر، وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص. ( [مقدار دية الرجل المسلم] :) (دية الرجل المسلم مائة من الإبل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مائتا حلة) ؛ تقدير الدية بذلك؛ لحديث عطاء بن أبي رباح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة "، رواه أبو داود، مسندا ومرسلا، وفيه عنعنة محمد بن إسحاق. وأخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث عمرو ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 7090) ؛ من طريق محمد بن راشد: حدثنا سليمان بن موسى، عن عمرو ... به. ولم يتفرد به ابن راشد؛ فقد أخرجه أحمد (رقم 7033) ، عن ابن إسحاق: وذكر عمرو بن شعيب. وابن إسحاق مدلس؛ ولم يذكر سماعه. وهو من الطريق الأولى حسن. (ن)

ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من كان عقله في البقر؛ على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء؛ ألفي شاة "، وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه غير واحد، ووثقه جماعة. وفي حديث عمرو بن حزم: " أن في النفس الدية مائة من الإبل ". وهو حديث صحيح - قد تقدم تخريجه في قتل الرجل بالمرأة، وفيه أيضا -: " وعلى أهل الذهب ألف دينار ". وأخرج أبو داود (¬1) من حديث ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا. وأخرجه الترمذي مرفوعا ومرسلا. وأخرج أبو داود (¬2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ¬

_ (¬1) • في " الديات " (رقم 4546) ، وكذا الترمذي (1 / 261) ؛ عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس ... به؛ وقال الترمذي: " لا نعلم أحدا يذكر فيه: عن ابن عباس غير محمد بن مسلم ". قلت: وفيه ضعف. (ن) (¬2) • في " سننه " (2 / 251) ، وعند البيهقي (8 / 77) ؛ وفيه عبد الرحمن بن عثمان البكراوي، وهو ضعيف. لكن رواه أحمد (رقم 7033) ، والبيهقي؛ من طريق أخرى، عن عمرو بن شعيب ... به مرفوعا، بلفظ: " كان يقوّم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل، فإذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها وبلغت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة إلى ثلاثمائة دينار أو عدلها من الورق؛ ثمانية آلاف، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاة فألفا شاة "؛ وسنده حسن. (ن)

كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، قال: فكان كذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا، فقال: ألا إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. ولا يخفى أن هذا لا يعارض ما تقدم؛ فقد وقع التصريح فيه برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف أهل العلم في مقادير الدية، والحق: ما ثبت من تقدير الشارع؛ كما ذكرناه. وفي " الموطأ ": أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق. قلت: عليه مالك، وهو القول القديم للشافعي؛ إلا أنه قال: يقدر بتقدير عمر بن الخطاب عند إعواز الإبل، والإبل هي الأصل في باب الديات، ثم رجع، وقال: الأصل فيها الإبل، فإذا أعوزت؛ تجب قيمتها بالغة ما بلغت، وتأول حديث عمر على أن قيمة الإبل كانت قد بلغت في زمانه اثني عشر ألف درهم، أو ألف دينار؛ لحديث عمرو بن شعيب المتقدم. وقال أبو حنيفة: الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وقال صاحباه: على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب

متى تغلظ الدية

والورق ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاء ألفا شاة، وعلى أهل الحلل ألف حلة ". ( [متى تغلظ الدية؟] :) (وتغلظ دية العمد وشبهه) ، واتفقوا على أن التغليظ لا يعتبر؛ إلا في الإبل دون الذهب والورق. أقول: قد اختلفت الأحاديث في الديات تغليظا وتخفيفا ولكل قسم: فالدية المغلظة في الخطأ الذي هو شبه العمد، والدية المخففة في الخطأ المحض، والأحاديث مصرحة بذلك، فليرجع إليها، والمذاهب مختلفة. وليس الحجة إلا في الدليل؛ لا في القال والقيل. ( [كيف تغلظ الدية؟] :) (بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها) ، لحديث عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة، فقال: " ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر؛ فيه دية مغلظة مائة من الإبل؛ منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة (¬1) ". ¬

_ (¬1) الثنية من الإبل: ما دخل في السادسة. والبازل: الذي أتم ثماني سنين ودخل في التاسعة؛ وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته؛ وبعد ذلك؛ يقال له: بازل عام، وبازل عامين. والخلفة - بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام -: الحامل من النوق. (ش)

أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في " تاريخه "، وساق اختلاف الرواة فيه (¬1) . وأخرجه أيضا الدارقطني. وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عقل شبه العمد مغلظ كعقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون دماء في غير ضغينة، ولا حمل سلاح ". وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري في " التاريخ "، والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " وصححه ابن حبان، وابن القطان (¬3) . وأخرج هذا الحديث من تقدم ذكره من حديث ابن عمر. وفي الباب أحاديث. وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد، وخطأ، وشبه عمد: ¬

_ (¬1) • وكذلك صنع النسائي (3 / 247) . (ن) قلت: وهو حديث صحيح؛ انظر " الإرواء " (2197) لشيخنا. (¬2) • (رقم 6717، 7033) وسنده حسن. (ن) (¬3) • وهو كما قالا؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ انظر " النسائي " (2 / 247) . (ن)

مقدار دية الذمي

ففي العمد القصاص، وفي الخطأ الدية، وفي شبه العمد - وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة؛ كالعصا والسوط والإبرة، مع كونه قاصدا للقتل - دية مغلظة، وهي مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. وممن ذهب إلى هذا: زيد بن علي، والشافعية، والحنفية، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك والليث: إن القتل ضربان: عمد وخطأ: فالخطأ ما وقع بسب من الأسباب، أو غير مكلف، أو غير قاصد للمقتول ونحوه، أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة. والعمد ما عداه، والأول لا قود فيه. وقد حكى صاحب " البحر " الإجماع على هذا؛ مع كون مذهب الجمهور على خلافه! ( [مقدار دية الذمي] :) (ودية الذمي نصف دية المسلم) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عقل الكافر نصف دية المسلم ". أخرجه أحمد، والنسائي، والترمذي وحسنه، وابن الجارود وصححه. وأخرجه أيضا ابن ماجه بنحوه. وأخرج ابن حزم من حديث عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

" دية المجوسي ثمانمائة درهم ". وأخرجه أيضا الطحاوي، والبيهقي، وابن عدي، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وأخرج الشافعي، والدارقطني، والبيهقي، عن سعيد بن المسيب، قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة. وقد ذهب إلى كون دية الذمي نصف دية المسلم مالك. وقال الشافعي: إن دية الكافر أربعة آلاف درهم؛ كذا روي عنه. والذي في " منهاج النووي ": " أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم ". قال شارحه المحلي: إنه قال بذلك عمر وعثمان وابن مسعود. وحكى في " البحر " عن زيد بن علي وأبي حنيفة أن دية المجوسي كالذمي. وذهب الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو حنيفة: إلى أن دية الذمي كدية المسلم. وروي عن أحمد: أن ديته مثل دية المسلم إن قتل عمدا؛ وإلا فنصف الدية. احتج القائلون بتنصيف دية الذمي بالنسبة إلى دية المسلم بما تقدم. واحتج القائلون بأنها كدية المسلم بقوله - تعالى -: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله} .

مقدار دية المرأة ودية أطرافها

ويجاب بأن هذا الإطلاق مقيد بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من كونها على النصف من دية المسلم. وعند الترمذي: " عقل الكافر نصف عقل المؤمن ". قال ابن القيم: " هذا حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث ". وعند أبي داود: " كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ: النصف من دية المسلم، فلما كان عمر رفع دية المسلمين، وترك دية أهل الذمة، لم يرفعها فيما رفع من الدية ". انتهى. ( [مقدار دية المرأة، ودية أطرافها] :) (ودية المرأة نصف دية الرجل، والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقل المرأة مثل عقل الرجل؛ حتى يبلغ الثلث من ديته " أخرجه النسائي (¬1) ، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 248) ، والدارقطني (ص 327) ؛ من طريق إسماعيل بن عياش، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب ... به. وهذا سند ضعيف؛ ابن جريج مدلس، وقد عنعنه، وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن الحجازيين، وهذه منها؛ كما في " نصب الراية " (4 / 364) ؛ فلا أدري ما وجه تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث؟ ! لكن أخرج البيهقي (8 / 96) معناه عن زيد بن ثابت من قوله؛ وسنده صحيح؛ لولا أن الشعبي لم يسمع من زيد. (ن) قلت: وقد ضعفه شيخنا في " الإرواء " (2254) .

وأخرج البيهقي من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " دية المرأة نصف دية الرجل "؛ قال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله (¬1) . وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي، أنه قال: دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل (¬2) . وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن عمر. وقد أفاد الحديث المذكور: أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وأن أرشها (¬3) إلى الثلث من الدية مثل أرش الرجل، وقد وقع الخلاف في ذلك بين السلف والخلف. وأخرج مالك في " الموطأ "، والبيهقي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، قلت: فكم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل، قلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل، قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: هي السنة يا ابن أخي! (¬4) ¬

_ (¬1) انظر - لزاما - " الإرواء " (2252) لشيخنا. (¬2) • وهو منقطع كما قال البيهقي (8 / 96) . ولكن رواه أيضا من طريق الشعبي، عن علي، وقال: " وهذا يؤكد رواية إبراهيم ". قلت: ورجاله ثقات إلا أن الشعبي لم يسمع من علي. (ن) (¬3) قال أبو منصور: أصل الأرش الخدش، ثم قيل لما يؤخذ دية لها: أرش؛ نقله في " اللسان ". (ش) (¬4) • قلت: وسنده صحيح؛ ثم هو موقوف على الراجح من علم الأصول. (ن)

مقدار دية الأعضاء والشجاج

( [مقدار دية الأعضاء والشّجاج] :) (وتجب الدية كاملة في العينين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين، وفي الواحدة منها نصفها، وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان والذكر والصلب، وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشرها، وفي الهاشمة عشرها، وفي كل سن نصف عشرها، وكذا في الموضحة) (¬1) ؛ لحديث عمرو بن حزم الذي تقدم تخريجه وتصحيحه، وفيه: " أن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل ". وأخرج أحمد (¬2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملا، وإذا جدعت ¬

_ (¬1) المأمومة: هي الجناية البالغة أم الدماغ. والجائفة: هي الطعنة التي تبلغ الجوف. والمنقلة: هي التي تنقل العظم أو تكسره. والهاشمة: هي الشجة التي تهشم العظم. (ش) • المأمومة؛ أي: الشجة التي تصل إلى أم الدماغ؛ وهي جلدة فوق الدماغ. والمنقلة: شجة يخرج منها صغار العظم وتنتقل عن أماكنها. والموضحة: الشجة التي توضح العظم؛ أي: تظهره. (ن) (¬2) • في " المسند " (رقم 7033، 7092) ، وأبو داود أيضا (2 / 254) ؛ وسنده حسن. (ن)

أرنبته فنصف العقل، وقضى في العين نصف العقل، والرّجل نصف العقل، واليد نصف العقل، والمأمومة ثلث العقل، والمنقلة خمسة عشر من الإبل. وقد أخرجه أبو داود، وابن ماجه بدون ذكر العين والمنقلة، وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه جماعة، ووثقه جماعة (¬1) . وأخرج الترمذي (¬2) - وصححه - من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دية أصابع اليدين والرجلين سواء؛ عشر من الإبل لكل أصبع ". وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان من حديث أبي موسى. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في كل أصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء ". وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، وابن خزيمة، وابن الجارود - وصححاه - من حديث عمرو بن شعيب أيضا، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " في المواضح خمس من الإبل ". وفي " البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هذه وهذه - يعني: الخنصر والإبهام - سواء ". ¬

_ (¬1) والحق أنه ثقة. (¬2) • في " سننه " (2 / 305) ، وكذا أبو داود (2 / 254) نحوه؛ وسندهما صحيح. (ن)

وأخرج أبو داود (¬1) ، وابن ماجه من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأسنان سواء؛ الثنية والضرس سواء ". والمراد بالمأمومة: الجناية التي بلغت أم الدماغ، أو الجلدة الرقيقة التي عليه. وإلى إيجاب ثلث الدية فيها؛ ذهب علي وعمر والحنفية والشافعية. والمراد بالجائفة: الجناية التي تبلغ الجوف. وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب الجمهور. والمراد بالمنقلة: الجناية التي تنقل العظام عن أماكنها. وقد ذهب إلى إيجاب خمسة عشر ناقة فيها علي وزيد بن ثابت والشافعية والحنفية. والمراد بالهاشمة: التي تهشم العظم. وقد أخرج الدارقطني، والبيهقي، وعبد الرزاق من حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشرا من الإبل. ¬

_ (¬1) • في " السنن " (2 / 253 - 254) ؛ وسنده صحيح. (فائدة) : في دية الأذن روى البيهقي (8 / 85) بسند صحيح، عن ابن شهاب، قال: قرأت كتاب رسول الله الذي كتبه لعمرو بن حزم ... فكتب فيه: " وفي الأذن خمسون من الإبل ". ويقويه قول عمر وعلي بما فيه؛ كما في " البيهقي " بسندين صحيحين. (ن)

مقدار أرش الجروح غير المسماة

وقد قيل: إنه موقوف؛ لكن لذلك حكم الرفع في المقادير. والمراد بالموضحة: التي تبلغ العظم ولا تهشم. وقد اختلف في المنقلة والهاشمة والموضحة؛ هل هذا الأرش هو بالنسبة إلى الرأس فقط أم في الرأس وغيره؟ والظاهر: أن عدم الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال؛ كما تقرر في الأصول. ( [مقدار أرش الجروح غير المسماة] :) (وما عدا هذه المسماة فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا) ؛ لأن الجناية قد لزم أرشها بلا شك؛ إذ لا يهدر دم المجني عليه بدون سبب، ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش لم يبق إلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع. وبيان ذلك: أن الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية - كما ثبت عن الشارع - نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجنايات، فإن أخذت الجناية نصف اللحم، وبقي نصفه إلى العظم؛ كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة، وإن أخذت ثلثه؛ كان الأرش ثلث أرش الموضحة، ثم هكذا. وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع؛ إلى جميعها، فأرش نصف الأصبع عشر الدية، ثم كذلك. وهكذا الأسنان؛ إذا ذهب نصف السن؛ كان أرشه نصف أرش السن.

ويسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف، فإذا كان الذاهب نصفه؛ ففيه نصف الدية، والذكر، ونحو ذلك. فهذا أقرب المسالك إلى الحق، ومطابقة العدل، وموافقة الشرع. أقول: اعلم أن كل جناية فيها أرش مقدر من الشارع - كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل، وفي غيره مما ورد في معناه - فالواجب الاقتصار في المقدار على الوارد في النص. وكل جناية ليس فيها أرش من الشارع - بل ورد تقدير أرشها عن صحابي أو تابعي، أو من بعدهما - فليس في ذلك حجة على أحد. بل المرجع في ذلك نظر المجتهد، وعليه أن ينظر في مقدار نسبتها من نسبة الجناية، التي ورد فيها أرش مقدر من الشارع، فإذا غلب في ظنه مقدار النسبة؛ جعل لها من الأرش مقدار نسبتها. مثلا الموضحة ورد في الشرع تقدير أرشها، فإذا كانت الجناية دون الموضحة كالسِّمحاق والمتلاحمة والباضعة والدامية (¬1) ؛ فعليه أن ينظر - مثلا - مقدار ما بقي من اللحم إلى العظم، فإن وجده مقدار الخمس، والجناية قد قطعت من اللحم أربعة أخماس؛ جعل في الجناية أربعا من الإبل، أو أربعين مثقالا؛ لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإبل، أو خمسون مثقالا، وإن وجد الباقي من اللحم ثلثا؛ جعل أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش ¬

_ (¬1) السمحاق: جلدة رقيقة فوق قحف الرأس، إذا انتهت إليها الشجة؛ سميت سمحاقا. والمتلاحمة: هي التي أخذت في اللحم ولم تبلغ السمحاق. والباضعة: هي التي تقطع الجلد، وتدمي؛ إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال؛ فهي دامية. (ش)

مقدار دية الجنين إذا خرج ميتا

الموضحة، ثم كذلك إذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر، وهكذا في سائر الجنايات التي لم يرد تقدير أرشها، فإنه ينبغي النسبة بينها وبين ما ورد تقدير أرشه من جنسها، وحينئذ لا يحتاج الحاكم العالم إلى تقليد غيره من المجتهدين كائنا من كان. ولا يبقى تقسيم للجناية إلى ما يجب فيه أرش مقدر، وما تجب فيه حكومة. ( [مقدار دية الجنين إذا خرج ميتا] :) (وفي الجنين إذا خرج ميتا الغرة) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة: عبد أو أمة، وهو ثابت في " الصحيحين " بنحو هذا من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة. والغرة - بضم المعجمة وتشديد الراء -: أصلها البياض في وجه الفرس، وهنا هي (¬1) العبد أو الأمة، كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله. وأما إذا خرج الجنين حيا ثم مات من الجناية؛ ففيه الدية أو القود. وهذا إنما هو في الجنين الحر. والخلاف في الغرة طويل؛ قد استوفاه الماتن في " شرح المنتقى ". ( [مقدار دية العبد وأرشه] ) (وفي العبد قيمته، وأرشه بحسبها) ، لا خلاف في ذلك، وإنما اختلفوا إذا ¬

_ (¬1) في الأصل: " في "؛ وهو خطأ. (ش)

بيان حكم قتل الدابة والجناية عليها

جاوزت قيمته دية الحر؛ هل تلزم الزيادة أم لا؟ والأولى اللزوم. وأرش الجناية عليه منسوب من قيمته؛ فما كان فيه في الحر نصف الدية، أو ثلثها أو عشرها، أو نحو ذلك؛ ففيه في العبد نصف القيمة، أو ثلثها، أو عشرها، أو نحو ذلك. أقول: وجه قول من قال: " إنها تجب قيمة العبد وإن جاوزت دية الحر ": أن العبد عين من الأعيان التي يصح تملكها، فكما يجب على متلف العين قيمتها وإن جاوزت دية الحر؛ كذلك يجب على متلف العبد. ووجه قول من قال: " إنه لا يلزم ما زاد على دية الحر ": أن العبد من نوع الإنسان، وهو دون الحر في جميع الصفات المعتبرة، فغاية ما ينتهي إليه أن يكون إنسانا حرا في الكمال، فتجب فيه الدية. وأما الزيادة على ذلك فلا؛ لأن دية الحر هي نهاية ما يجب في الفرد من هذا النوع الإنساني، والأول أرجح من حيث الرأي. وأما من طريق الرواية؛ فلم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء. وقد روي عن علي مثل القول الأول، وروي عنه مثل القول الثاني. ( [بيان حكم قتل الدابة والجناية عليها] ) وأما الدابة إذا قتلها قاتل؛ ففيها قيمتها، وإذا جنى عليها؛ كان الأرش مقدار نقص قيمتها بالجناية.

وهذا وإن لم يقم عليه دليل بخصوصه؛ فهو معلوم من الأدلة الكلية؛ لأن العبد وسائر الدواب من جملة ما يملكه الناس، فمن أتلفه كان الواجب عليه قيمته، ومن جنى عليه جناية تنقصه؛ كان الواجب عليه أرش النقص، كما لو جنى على عين مملوكة من غير الحيوانات؛ وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر الدواب؛ يجب في الجناية عليه نقص القيمة.

باب القسامة

(2 - باب القسامة) ( [بيان صورة القسامة] :) صورة القسامة: أن يوجد قتيل، وادعى وليه على رجل أو على جماعة، وعليهم لوث ظاهر. واللوث: ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم؛ كقتيل خيبر (¬1) وجد بينهم، والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة، أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه، أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله، أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤوا متفرقين؛ بحيث يؤمن تواطؤهم (¬2) ، ونحو ذلك من أنواع الموت، فيبدأ بيمين المدعي؛ فيحلف خمسين يمينا، ويستحق دعواه، فإن نكل المدعي عن اليمين؛ ردت إلى المدعى عليه؛ فيحلف خمسين يمينا على نفي القتل. ويجب بها الدية المغلظة، فإن لم يكن هناك لوث؛ فالقول قول المدعى ¬

_ (¬1) سيأتي حديثه. (¬2) هذا بناء على ما شاع، وفهمه الفقهاء - قديما وحديثا -؛ من أن البينة هي شهادة شاهدين حرين ذكرين عدلين. ولسنا نرى هذا رأيا صحيحا، ولا دليل عليه لديهم؛ بل البينة كل ما بين الحق وأظهره، فإذا شهد جماعة من العبيد أو النساء متفرقين - وأمن تواطؤهم، وتبين صدقهم -؛ فشهادتهم بينة صحيحه يجب الحكم بالقصاص عندها؛ وهذا هو الحق الواضح! (ش)

عليه مع يمينه، كما في سائر الدعاوى. ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا؛ قولان؛ أصحهما الأول. فإن كان المدعون جماعة؛ توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين، ويجبر الكسر. والقول الثاني: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن كان المدعى عليهم جماعة، ووزع على عدد رؤوسهم على أصح القولين؛ إن كان الدعوى في الأطراف - سواء كان اللوث أو لم يكن - فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. هذا كله بيان مذهب الشافعي. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي؛ بل يحلف المدعى عليه، وقال: إذا وجد قتيل في محلة؛ يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها، ويحلفهم على أنهم ما قتلوه، ولا عرفوا له قاتلا، ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة (¬1) ، فإن لم يعرفوا؛ فمن سكانها. أقول: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل، ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين ¬

_ (¬1) • وهذا يخالف الحديث الآتي: " فيدفع برمته ". قال الخطابي في " المعالم " (6 / 315) : " وفي إلزامه اليهود بقوله: " فيدفع برمته "؛ دليل على أن الدية تجب على سكان المحلة دون أرباب الخطة؛ لأن خيبر كانت للمهاجرين والأنصار "، قال: " وظاهر الحديث حجة لمن رأى وجوب القتل بالقسامة، وإليه ذهب مالك، وأحمد، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وغيرهم: لا يقاد بالقسامة؛ إنما تجب بها الدية ". (ن)

بم تثبت القسامة

الأيمان والدية، بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الأيمان فقط، وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط. والحاصل: أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية، ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل، ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت، وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه، ولهذا ذهب جماعة من السلف - منهم أبو قلابة، وسالم بن عبد الله، والحكم بن عتيبة، وقتادة، وسليمان بن يسار، وإبراهيم ابن علية، ومسلم بن خالد، وعمر بن عبد العزيز - إلى أن القسامة غير ثابتة؛ لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه؛ قد ذكرها الماتن - رحمه الله - في " شرح المنتقى "، وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور، فليراجع. ( [بم تثبت القسامة؟] :) (إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت، وهي خمسون يمينا) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا "؛ وهو في " الصحيحين " من حديث سهل بن أبي حثمة. ( [يخير المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية] :) (يختارهم ولي القتيل، والدية إن نكلوا عليهم، وإن حلفوا سقطت) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية.

على من تكون الدية إذا التبس الأمر

وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم، بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية؛ كما في القسامة التي كانت في بني هاشم - كما أخرجه البخاري، والنسائي من حديث ابن عباس - وهي قصة طويلة، وفيها: أن القاتل كان معينا، وأن أبا طالب قال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل؛ فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فأخبرهم، فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم،؛ كانت قد ولدت منه، فقالت: يا أبا طالب {أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين، ولا تصبر (¬1) يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب} أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل، فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما مني، ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده؛ ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف. ( [على من تكون الدية إذا التبس الأمر؟] :) (وإن التبس الأمر كانت من بيت المال) ؛ لحديث سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة أبناء ¬

_ (¬1) الصبر - في الأصل -: الحبس، واليمين المصبورة: المحبوسة. وقيل لها ذلك؛ وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور - لأنه ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة له من جهة الحكم؛ لأنه إنما صبر - أي: حبس - من أجلها؛ فوصفت بذلك مجازا. (ش)

مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: " كبر كبر "، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، فقال: " أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ "، فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ {قال: " فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا؟ " فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما. وفي لفظ: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة. وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا، وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق، وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة. وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته "، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟} وقد أخرج أحمد والبيهقي، عن أبي سعيد، قال: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذرع ما بينهما، فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر، فألقى ديته عليهم. قال البيهقي: تفرد به أبو إسرائيل عن عطية، ولا يحتج بهما. وقال العقيلي: هذا الحديث ليس له أصل. وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي، عن الشعبي: أن قتيلا وجد بين وادعة وشاكر، فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى وادعة أقرب، فأحلفهم خمسين يمينا؛ كل رجل: ما قتلته، ولا

علمت قاتلا، ثم أغرمهم الدية، فقالوا: يا أمير المؤمنين {لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق. وأخرج نحوه الدارقطني، والبيهقي، عن سعيد بن المسيب، وفيه: أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر، وفيه عمر بن صبيح (¬1) ؛ أجمعوا على تركه. وقال الشافعي: ليس بثابت؛ إنما رواه الشعبي، عن الحارث الأعور. وهذا لا تقوم به حجة؛ لضعف إسناده - على فرض رفعه -. وأما مع عدم الرفع؛ فليس في ذلك حجة؛ سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح، والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب، وقد تقدم ذكرها. وقد أخرج أبو داود (¬2) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود - وبدأ بهم -: ¬

_ (¬1) صبيح؛ بالتصغير؛ كذا هو في " التقريب ". وفي " التهذيب ": " صبح " بإسكان الباء؛ وضبطه بذلك الخزرجي في " الخلاصة ". والحديث في " سنن الدارقطني " (ص 359) ؛ وفيه عمر بن صبيح؛ كما هنا؛ وعمر - هذا - كذاب يضع الحديث. (ش) (¬2) • في " سننه " (2 / 248) ، وعنه البيهقي (8 / 122) ؛ من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار ... به، وهذا سند صحيح. لكن خولف معمر في لفظه، كما بينه البيهقي، ثم ابن القيم في " التهذيب " (6 / 323) ، فراجعه} (ن)

" يحلف منكم خمسون رجلا "، فأبوا، فقال للأنصار: " استحقوا "، فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟ ! فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم. وهذا - إذا صح - لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا، ولكنه مخالف لما ثبت في " الصحيحين " إن كانت هذه القصة هي تلك القصة. وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه (¬1) . ¬

_ (¬1) • أخذ المصنف هذا عن المنذري في " مختصره "، وهذا هو الصواب: أن الحديث ضعيف للمخالفة التي سبقت الإشارة إليها؛ فلا تغتر بما في " الجوهر النقي " لابن التركماني. (ن)

الكتاب التاسع والعشرون كتاب الوصية

(الكتاب التاسع والعشرون: كتاب الوصية)

كتاب الوصية

(29 - كتاب الوصية) ( [متى تجب الوصية؟] :) (تجب على من له ما يوصي فيه) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه؛ إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ". وقد ذهب إلى الوجوب: عطاء، والزهري، وأبو مجلز، وطلحة بن مصرف، وآخرون، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق، وداود، وأبو عوانة، وابن جرير. وذهب الجمهور إلى أن الوصية مندوبة وليست بواجبة، ويجاب عنه بقوله - تعالى -: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} . ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها في غير ذلك، ويجاب عنه أيضا بحديث الباب، فإنه يفيد الوجوب. قال في " المسوى ": " وعليه أهل العلم، قال محمد: وبهذا نأخذ، هذا حسن جميل.

متى تحرم الوصية

قال النووي: قال الشافعي: معنى الحديث: الجزم والاحتياط، وأن المستحب تعجيل الوصية، وأن يكتبها في صحته ". ( [متى تحرم الوصية؟] :) (ولا تصح ضرارا) ؛ لحديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الرجل ليعمل - أو المرأة - بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار "، ثم قرأ أبو هريرة: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله} إلى قوله: {وذلك الفوز العظيم} . أخرجه أبو داود والترمذي. وأخرج أحمد وابن ماجه معناه، وقالا فيه: " سبعين سنة "، وقد حسنه الترمذي (¬1) ، وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال، وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأخرج سعيد بن منصور موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس: " الإضرار في الوصية من الكبائر ". وأخرجه النسائي مرفوعا (¬2) بإسناد رجاله ثقات. ¬

_ (¬1) قلت: والصواب ضعفه؛ كما في " ضعيف سنن ابن ماجه " (ص 216) لشيخنا. (¬2) بل هو - عنده في " التفسير " (112) - موقوفا. وأما المرفوع فهو عند الدارقطني (4 / 151) وغيره؛ وسنده ضعيف، وانظر " نصب الراية " (4 / 402) .

أمثلة على أنواع الضرار بالوصية

والآية الكريمة مغنية عن غيرها؛ ففيها تقييد الوصية المأذون بها بعدم الضرار. وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار. والحاصل: أن وصية الضرار ممنوعة بالكتاب السنة. ( [أمثلة على أنواع الضرار بالوصية] :) ومن جملة أنواع الضرار: تفضيل بعض الورثة على بعض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا؛ كما في حديث النعمان بن بشير الصحيح. ومن جملتها: أن تكون لإخراج المال مضارة للورثة؛ فإن من أوصى بماله؛ أو جزء منه لقربة من القرب؛ مريدا بذلك إحرام الورثة جميع ميراثهم أو بعضه؛ فوصيته باطلة؛ لأنه مضار. وظاهر الأدلة: أنه لا ينفذ من وصية الضرار شيء؛ سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه؛ بل هي رد على فاعلها، فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعدم الضرار، وقد جمع الماتن - رحمه الله - في هذا رسالة مختصرة. ( [الدليل على أن الوصية لا تصح لوارث] :) (ولا) تصح (لوارث) ؛ لحديث عمرو بن خارجة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث ". أخرجه أحمد، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، والدارقطني،

والبيهقي، وصححه الترمذي. وأخرجه أيضا أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه من حديث أبي أمامة، وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وهو قوي إذا روى عن الشاميين، وهذا الحديث من روايته عنهم؛ لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم، وهو شامي ثقة، وقد حسنه الحافظ أيضا. وأخرجه أيضا الدارقطني، من حديث ابن عباس؛ قال ابن حجر: رجاله ثقات، ولفظه: " لا تجوز وصية لوارث؛ إلا أن تشاء الورثة " (¬1) . وأخرج الدارقطني، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا وصية لوارث؛ إلا أن تجيز الورثة " (1) . قال في " التلخيص ": إسناده واه. وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه. وعن جابر عند الدارقطني. وعن علي عنده أيضا. وقد قال الشافعي: " إن هذا المتن متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم - من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم - لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث "، ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من ¬

_ (¬1) منكر؛ وانظر " الإرواء " (1656 - 1657) .

الدليل على أن الوصية لا تصح في المعصية

أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد ". انتهى. فيكون هذا الحديث مقيدا لقوله - تعالى -: {من بعد وصية يوصي بها} ، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. قال مالك في " الموطأ ": السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها: أنه لا يجوز وصية لوارث؛ إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت ". قلت: وعليه أهل العلم. ( [الدليل على أن الوصية لا تصح في المعصية] :) [ولا] تصح (في معصية) ؛ لحديث أبي الدرداء عند أحمد، والدارقطني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم؛ ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم " (¬1) . وأخرجه ابن ماجه (¬2) والبزار، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وفي إسناده ضعف. وأخرجه أيضا الدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي أمامة، وإسناده ضعيف. وأخرجه العقيلي في " الضعفاء " من حديث أبي بكر الصديق، وفيه متروك. وأخرجه ابن السكن، وابن قانع، وأبو نعيم، والطبراني، من حديث ¬

_ (¬1) حسن؛ وانظر " الإرواء " (1641) . (¬2) • في " سننه " (2 / 158) ؛ وفيه طلحة بن عمرو؛ وهو ضعيف جدا. (ن)

بيان مقدار الوصية في القرب

خالد بن عبد الله السلمي، وهو مختلف في صحبته. وهي تنتهض بمجموعها، وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات، والوصية في المعصية معصية؛ قد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلو لم يرد ما يدل على تقييد الوصية بغير المعصية؛ لكانت الأدلة الدالة على المنع من معصية الله مفيدة للمنع من الوصية في المعصية. ( [بيان مقدار الوصية في القرب] :) (وهي في القرب من الثلث) ؛ لحديث ابن عباس في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: لو أن الناس غضوا من الثلث؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الثلث والثلث كثير ". ومثله حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " الثلث والثلث كثير - أو كبير - " لما قال: أتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا "، قال: فالشطر؟ قال: " لا "، قال: فالثلث؟ قال: " الثلث والثلث كثير - أو كبير -؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما. وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث، ولو لم يكن للموصي وارث. وجوز الزيادة مع عدم الوارث: الحنفية، وإسحاق، وشريك، وأحمد في رواية، وهو قول علي، وابن مسعود.

واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية، فقيدتها السنة بمن له وارث، فبقي من لا وارث له على الإطلاق. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، من حديث أبي زيد الأنصاري: أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق اثنين وأرق أربعة. وفي لفظ لأبي داود، أنه قال صلى الله عليه وسلم: " لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين ". وقد أخرج الحديث مسلم وغيره من حديث عمران بن حصين. وفي لفظ لأحمد: أنه جاء ورثته من الأعراب، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع، فقال: " أو فعل ذلك؟ ! لو علمنا - إن شاء الله - ما صلينا عليه ". اعلم أن الثلث المأذون به لكل أحد هو باعتبار ما يفعله الميت لنفسه من القرب المقربة، التي لم تكن قد وجبت عليه بإيجاب الله - تعالى -، فما كان من هذا القبيل؛ فهو من الثلث المأذون به، وأما ما كان قد تقدم له وجوب على الميت - سواء كان حقا لله - عز وجل - كالزكاة والكفارات التي يعتقد الميت وجوبها والحج، أو حق الآدمي كالديون - فإنه يجب إخراجه من رأس المال قبل كل شيء، ولا وجه للتفصيل الذي ذكروه بين ما يتعلق بالمال ابتداء وما يتعلق به انتهاء؛ فإن ذلك لا تأثير له أصلا. فالحاصل: أن الميت إذا مات وجب إخراج ما قد وجب عليه من حقوق الله، وحقوق الآدميين من رأس تركته، ثم ينظر فيما بقي، فإن كان الميت قد أوصى بقرب - لم يتقدم لها وجوب عليه؛ بل أراد التقرب بها؛ إخراجها من

ثلث الباقي؛ لأن الله - سبحانه - قد أذن له أن يتصرف بثلث ماله كيف شاء؛ بشرط عدم الضرار؛ كتفضيل بعض الورثة على بعض، أو إخراج المال عنهم لا لمقصد ديني؛ بل لمجرد إحرامهم. ثم ينظر في تلك القرب التي جعلها الميت لنفسه عند الموت، فإن استغرقت ثلث الباقي، من دون زيادة ولا نقصان؛ فإنفاذها واجب، وإن زادت لم ينفذ الزائد؛ إلا بإذن من الورثة. فإذا أذنوا؛ فقد رضوا على أنفسهم بخروج جزء مما يملكونه؛ سواء كان قليلا أو كثيرا، وإن نقصت عن استغراق الثلث؛ كان الفاضل من الثلث للورثة. فهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه. وأما جعل بعض حقوق الله الواجبة من الثلث، وبعضها من رأس المال؛ فلا أصل لذلك؛ إلا مجرد خيالات مختلة. ثم اعلم أن الظاهر عندي: أنه لا فرق بين حقوق الله الواجبة، وحقوق الآدميين في مخرجها من التركة، وأنه لا يجب تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله؛ بل جميعها مستوية في ذلك؛ لأنها قد اشتركت في وجوبها على الميت، ولا فرق بين واجب وواجب. ومن زعم أن بعضها أقدم من بعض؛ فعليه الدليل. على أنه لو قال قائل: إن حقوق الله أقدم من حقوق بني آدم؛ مستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " فدين الله أحق أن يقضى "؛ لم يكن بعيدا من الصواب، لولا أن المراد بقوله: " يقضى "؛ أي: يفعله الفاعل؛ كالقريب يحج

قضاء الديون مقدم على الوصية وجوبا

عن قريبه ويصوم عنه، لا أن المراد أنه يدفع المال ليفعل ذلك فاعل آخر؛ فإن ذلك يحتاج إلى دليل يدل على أنه يصح؛ فضلا عن أنه يجب. ( [قضاء الديون مقدم على الوصية وجوبا] :) (ويجب تقديم قضاء الديون) ؛ لحديث سعيد الأطول (¬1) عند أحمد، وابن ماجه، بإسناد رجاله رجال الصحيح (¬2) : أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه "، فقال: يا رسول الله {قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة؛ وليس لها بينة} قال: " فأعطها؛ فإنها محقة ". وليس في ذلك خلاف، وقد دل عليه قوله - تعالى -: {من بعد وصية يوصى بها أو دين (¬3) } . ¬

_ (¬1) كذا بالأصل تبعا للشوكاني {والصواب: " سعد بن الأطول "؛ كما في جميع كتب التراجم، وفي نسخة صحيحة مخطوطة عتيقة من " المنتقى "، وكذا " مسند أحمد " (ج 4: ص 136) ، و (ج 5: ص 7) ، وفي " طبقات ابن سعد " (ج 7: قسم 1: ص 39) ،. (ش) (¬2) • هذا خطأ؛ فإن فيه عند أحمد، وابن ماجه (2 / 82) عبد الملك أبا جعفر؛ وليس رجال الصحيح} ثم إنه لم يرو عنه غير حماد بن سلمة، ولم يوثقه غير ابن حبان؛ فهو مجهول عندي، وفي " التقريب ": " مقبول "، يعني: عند المتابعة؛ وإلا فلين الحديث، وانظر " نيل الأوطار " (6 / 45) . (ن) قلت: وانفصل شيخنا - أخيرا - إلى صحته في " أحكام الجنائز " (ص 25 - 26) . (¬3) • ليس في الآية ما يدل على تقديم الدين على الوصية؛ بل ظاهرها يشهد للعكس! وقد أجيب عن ذلك أن الآية ليس فيها ترتيب؛ بل المراد أن المواريث، إنما تقع بعد قضاء الدين، ثم إنفاذ الوصية؛ أي: أنها لم تسق لبيان ما الذي يقدم منهما؛ الدين أو الوصية. وقد ذكر الشوكاني نقلا عن العلماء ستة أمور من مقتضيات تقديم الوصية على الدين، مع أنه مقدم عليها في التنفيذ؛ فراجعه. (ن)

السلطان يقضي دين من مات ولم يترك ما يقضي دينه

( [السلطان يقضي دين من مات ولم يترك ما يقضي دينه] :) (ومن لم يترك ما يقضي دينه؛ قضاه السلطان من بيت المال) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: " من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا (¬1) أو دينا (¬2) ؛ فكله إلي ودينه علي ". وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني، من حديث جابر (¬3) . وأخرجه أيضا البيهقي، والدارقطني، من حديث أبي سعيد. وأخرجه أيضا الطبراني، من حديث سلمان. وأخرجه ابن حبان في " ثقاته "، من حديث أبي أمامة. ¬

_ (¬1) الكل - بفتح الكاف -: العيال والثقل من كل ما يتكلف. (ش) (¬2) • زاد البخاري (12 / 7) : " ... ولم يترك وفاء ... ". (ن) (¬3) وكذلك أخرجه مسلم في حديث آخر لجابر (3 / 11) . (ن)

الكتاب الثلاثون كتاب المواريث

(الكتاب الثلاثون: كتاب المواريث)

كتاب المواريث

(30 - كتاب المواريث) ( [المواريث واضحة في كتاب الله] :) (هي مفصلة في الكتاب العزيز) ، ومعلومة لأهل العلم والتمييز. قال الماتن: " لم نتعرض ههنا لذكرها، واقتصرنا على ذكر ما ثبت في السنة أو الإجماع، ولم نذكر ما كان لا مستند له إلا محض الرأي؛ كما جرت به عادتنا في هذا الكتاب، فليس مجرد الرأي مستحقا للتدوين، فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل، ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر. وإذا عرفت هذا؛ اجتمع لك مما في الكتاب العزيز، وما ذكرناه ههنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنة، فإن عرض لك من المواريث ما لم يكن فيهما؛ فاجتهد فيه برأيك؛ عملا بحديث معاذ المشهور (¬1) ". انتهى. ( [مراتب الورثة: أصحاب الفروض أولا ثم العصبات ثانيا] :) (ويجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة، وما بقي فللعصبة) (¬2) لحديث ابن ¬

_ (¬1) • قلت: وهو مع شهرته ضعيف من قبل إسناده؛ ضعفه البخاري وغيره، كما بينته في " الأحاديث الضعيفة " (رقم 881) . (ن) (¬2) • وهم كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة، ليس بينه وبين الميت أنثى، فمتى انفرد أخذ جميع المال، وإن كان مع ذوي فروض غير مستغرقين؛ أخذ ما بقي؛ وإلا فلا شيء له: " نووي ". (ن)

مثال على العصبة

عباس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى (¬1) رجل ذكر ". والمراد بالفرائض هنا: الأنصباء المقدرة. وأهلها: هم المستحقون لها بالنص. وما بقي بعد إعطاء ذوي الفرائض فرائضهم؛ فهو لأولى رجل ذكر. ( [مثال على العصبة] :) (والأخوات مع البنات عصبة) ؛ أي: يأخذن ما بقي من غير تقدير؛ كما يأخذه الرجل بعد فروض أهل الفروض؛ لحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس؛ تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. وقد أفاد هذا أن لبنت الابن مع البنت السدس؛ تكملة الثلثين. ( [المستحقون للسدس] :) (1 -[بنت الابن مع البنت] :) (ولبنت الابن مع البنت السدس؛ تكملة الثلثين) ، وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه. ¬

_ (¬1) • أي: أقرب في النسب إلى المورث، والمراد به العمة مع العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، وبنت العم مع ابن العم؛ انظر " الفتح " (12 / 9) . (ن)

الأخت لأب مع الأخت لأبوين

(2 -[الأخت لأب مع الأخت لأبوين] :) (3 -[الجدة مع عدم الأم] :) (وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين، وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم) ؛ لحديث قبيصة بن ذؤيب عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي، وصححه وابن حبان، والحاكم؛ قال: " جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر، قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر، فسألته ميراثها؟ فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولكن هو ذاك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيكما خلت به فهو لها (¬1) . قال ابن حجر: وإسناده صحيح لثقة رجاله؛ إلا أن صورته مرسل؛ فإن قبيصة لا يصح سماعه من الصديق، ولا يمكن شهوده القصة؛ قاله ابن عبد البر، وقد اختلف في مولده، والصحيح: أنه ولد عام الفتح، فيبعد شهوده القصة. وأخرج عبد الله بن أحمد في " مسند أبيه "، وابن منده في " مستخرجه "، والطبراني في " الكبير "، من حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما، وهو من رواية إسحاق بن يحيى عن عبادة، ولم يسمع منه (¬2) . ¬

_ (¬1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1680) . (¬2) ضعفه في " الإرواء " (1681) .

وأخرج أبو داود والنسائي، من حديث بريدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم. وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وابن الجارود، وقواه ابن عدي، وفي إسناده عبيد الله العتكي، وهو مختلف فيه. وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن يزيد - مرسلا -، قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث جدات السدس؛ ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم " (¬1) . وأخرجه أيضا أبو داود في " المراسيل " عن إبراهيم النخعي. وأخرجه أيضا البيهقي من مرسل الحسن. وأخرجه الدارقطني من طرق عن زيد بن ثابت. وفي الباب آثار غير ما ذكر. قال في " البحر ": مسألة: فرضهن - يعني: الجدات - السدس وإن كثرن إذا استوين، وتستوي أم الأم وأم الأب؛ لا فضل بينهما، فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب، ولا يسقطهن إلا الأمهات. والأب يسقط الجدات من جهة، والأم من الطرفين. أقول: التفاصيل والتفاريع المذكورة في الكتب ينبغي إمعان النظر في ¬

_ (¬1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة - رواية ودراية - في " تنقيح التحقيق " (3 / 130) لابن عبد الهادي.

للجد مع من لا يسقطه

مستنداتها، ومجرد اجتهاد فرد من أفراد الصحابة ليس بحجة على أحد، وكذلك اجتهاد جماعة منهم لم يبلغوا حد الإجماع. (4 -[للجد مع من لا يسقطه] :) (وهو للجد مع من لا يسقطه) ؛ لحديث عمران بن حصين: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن ابن ابني مات؛ فما لي من ميراثه؟ قال: " لك السدس "، فلما أدبر دعاه، قال: " لك سدس آخر "، فلما أدبر دعاه، فقال: " إن السدس الآخر طعمة " (¬1) . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصححه -. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن الحسن: أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد؟ فقام معقل بن يسار المزني، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ماذا؟ قال: السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري، قال: لا دريت؛ فما تعني إذن؟ ! وهو منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عمر (¬2) . وقد أخرج البخاري ومسلم في " صحيحيهما " حديث الحسن عن معقل. وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم اختلافا كثيرا، ورويت عنهم قضايا متعددة. ¬

_ (¬1) ضعفه شيخنا في تعليقه على " المشكاة " (3060) . (¬2) وهو حديث حسن؛ كما في " صحيح سنن ابن ماجه " (2 / 114 - 115) لشيخنا.

بيان أنه لا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب

وقد دل الدليل على أنه يستحق السدس، وأنه فرضه، فإذا صار إليه زيادة عليه؛ فهو طعمة، وذلك كما في حديث عمران. وإنما قيدنا استحقاقه للسدس بعدم المسقط؛ لأنه إذا كان معه من يسقطه كالأب؛ فلا شيء له، وهكذا إذا كان مع الجد؛ من يسقطه الجد فله بالميراث كله. أقول: ليس في الأحاديث المتقدمة ذكر من كان معه من الورثة، ولم يبق بعد ذلك إلا مجرد روايات من علماء الصحابة ومن بعدهم، وتمثيلات وتشبيهات ليست من الحجة في شيء، ولا يبعد أن يقال: بأنه أحق الميراث من الأخوة والأخوات مطلقا؛ لأنه إن لم يكن والدا حقيقة، فهو بمنزلة الوالد، والأب يسقط الأخوة والأخوات مطلقا. ومن زعم أنه وجد في الأب من المزايا ما لا يشاركه فيها الجد؛ فعليه الدليل، ومن قال: إن ثم دليلا يقتضي أن الجد يقاسم الأخوة، ويأخذ الباقي بعد الأخوات؛ فعليه أيضا الدليل. ( [بيان أنه لا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب] :) (ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الابن أو الأب) ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. ( [بيان الخلاف في ميراث الإخوة والأخوات مع الجد] :) (وفي ميراثهم مع الجد خلاف) ؛ لعدم ورود الدليل الذي تقوم به الحجة:

بيان أن الأخوة يرثون مع البنات إلا الأخوة لأم

فذهب جماعة من الصحابة - منهم أبو بكر - وعمر - إلى أن الجد أولى من الإخوة، وذهب جماعة - منهم علي وابن مسعود وزيد بن ثابت - إلى أن الجد يقاسم الإخوة. والخلاف في المسألة يطول، فمن قال: إنه يسقط الإخوة؛ قال: إنه يصدق عليه اسم الأب، وأجاب الآخرون بأنه مجاز لا تقوم به الحجة. ووقع الخلاف في كيفية المقاسمة؛ كما هو مبين في كتب الفرائض. ( [بيان أن الأخوة يرثون مع البنات؛ إلا الأخوة لأم] :) (ويرثون) ؛ أي: الأخوة (مع البنات؛ إلا الإخوة لأم) ؛ لحديث جابر عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، والحاكم، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع؛ قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا بمال؟ فقال: " يقضي الله في ذلك "، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: " أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك " (¬1) ، فهذا دليل على ميراث الإخوة مع البنات. وأما الإخوة لأم؛ فلا يرثون مع البنت؛ لقوله - تعالى -: {وإن كان رجل يورث كلالة} الآية، وهي في الإخوة لأم كما في بعض القراءات. ( [بيان أن الأخ لأب يسقط مع الأخ لأبوين] :) (ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين) ؛ لحديث علي، قال: إنكم تقرؤون ¬

_ (¬1) حسنه شيخنا في " الإرواء " (1677) .

المرتبة الثالثة للورثة ذوي الأرحام

هذه الآية: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} ، وإن رسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات؛ الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والحاكم، وفي إسناده الحارث الأعور (¬1) . ولكنه قد وقع الإجماع على ذلك، والمراد بالأعيان: الإخوة لأبوين، والمراد ببني العلات: الإخوة لأب، ويقال للإخوة لأم: الأخياف. ( [المرتبة الثالثة: للورثة ذوي الأرحام] :) (وأولو الأرحام يتوارثون، وهم أقدم من بيت المال) ؛ لقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} ؛ فإنها تفيد أنه إذا مات ميت، ولا وارث له إلا من هو من ذوي أرحامه - وهو من عدا العصبات وذوي السهام في مصطلح أهل الفرائض - فإنه يرثه، وقوله - تعالى -: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} ، ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام. ومما يؤيد ذلك: حديث المقدام بن معد يكرب عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وابن حبان وصححاه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له؛ أعقل عنه وأرثه، ¬

_ (¬1) حسنه شيخنا في " الإرواء " (1667) .

والخال وارث من لا وارث له؛ يعقل عنه ويرثه ". وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، من حديث عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ: " والخال وارث من لا وارث له ". وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عائشة: الترمذي، والنسائي، والدارقطني، وحسنه الترمذي، وأعله الدارقطني بالاضطراب. وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينة. وأخرجه العقيلي، وابن عساكر عن أبي الدرداء. وأخرجه ابن النجار عن أبي هريرة. كلها مرفوعة؛ وهو حديث له طرق؛ أقل أحواله أن يكون حسنا لغيره. ومن ذلك: حديث: " ابن أخت القوم منهم "، وهو حديث صحيح. ومن ذلك: ما ثبت من جعله - صلى الله عليه وسلم - ميراث ابن الملاعنة لورثة أمه، وهم لا يكونون إلا ذوي الأرحام. والكلام على هذه الأحاديث مبسوط في " شرح المنتقى ". ويمكن أن يقال: إن حديث: " فما أبقت الفرائض؛ فلأولى رجل ذكر ": يدل على أن الذكور من ذوي الأرحام أولى من الإناث، فيكون حديث نفي ميراث العمة والخالة مفيدا لهذا المعنى ومقويا له؛ مع حديث: " الخال وارث ".

وبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد قال بمثل ذلك أبو حنيفة، وقد اختلف في ذلك الصحابة فمن بعدهم، وإلى توريث ذوي الأرحام ذهب الجمهور. وهذه الأدلة - كما تفيد إثبات التوارث بين ذوي الأرحام - تفيد تقديمهم على بيت المال، ومما يؤيد ذلك: حديث عائشة عند أحمد، وأهل " السنن "، وحسنه الترمذي: أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم خر من عذق نخلة، فمات، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " هل له من نسب أو رحم؟ "، قالوا: لا، قالوا: " أعطوا ميراثه بعض أهل قريته ". فقوله: " أو رحم ": فيه دليل على تقديم ميراث ذوي الأرحام على الصرف إلى بيت مال المسلمين. وأخرج أبو داود، من حديث ابن عباس، قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ ذلك آية الأنفال، فقال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} ، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، وفيه مقال. وأخرجه أيضا الدارقطني. وأخرج نحوه ابن سعد، عن أبي الزبير. وفي ذلك دليل على أن الآية في توريث ذوي الأرحام محكمة، وبها

متى يصار إلى العول

نسخ ما كان من الميراث بالمخالفة. ( [متى يصار إلى العول؟] :) (فإن تزاحمت الفرائض فالعول) (¬1) ، وذلك هو الحق الذي لا يمكن الوفاء بما أمر الله به؛ إلا بالمصير إليه. وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة سماها " إيضاح القول في إثبات مسألة العول "، ودفع جميع ما قاله النافون للعول. وقد أوضحت المقام في " دليل الطالب على أرجح المطالب "، فليراجع. ( [من يرث ولد الملاعنة والزانية؟] :) (ولا يرث ولد الملاعنة والزانية؛ إلا من أمه وقرابتها، والعكس) ؛ لحديث سهل بن سعد في " الصحيحين " وغيرهما في حديث الملاعنة: " أن ابنها كان ينسب إلى أمه، فجرت السنة: أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها ". وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها. وفي إسناده أبو محمد (¬2) . ¬

_ (¬1) " يقال: عالت الفريضة: إذا ارتفعت وزادت سهامها على أصل حسابها الموجب عن عدد واريثها "؛ كذا في " النهاية ". (¬2) ويشهد له ما قبله.

وأخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث واثلة ابن الأسقع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عنه "؛ قال الترمذي: حسن غريب، وفي إسناده عمر بن روبة (¬1) التغلبي، وفيه مقال. وقد صحح هذا الحديث الحاكم. وأخرج أحمد، وأبو داود، من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا مساعاة (¬2) في الإسلام، من ساعى في الجاهلية؛ فقد ألحقته بعصبته، ومن ادعى ولدا من غير رشدة (¬3) ؛ فلا يرث ولا يورث ". وأخرج الترمذي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما رجل عاهر بحرة أو أمة؛ فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث "؛، ¬

_ (¬1) في الأصل: " روبية "؛ وهو خطأ؛ صوابه: " روبة "؛ بضم الراء وسكون الواو؛ كما ضبطه ابن حجر في " التقريب ". والحديث رواه الحاكم في " المستدرك " وصححه (ج 4: ص 341) . (ش) قلت: والحديث قد ضعفه شيخنا الألباني في " الإرواء " (1576) . (¬2) المساعاة: الزنا؛ يقال: ساعت الأمة؛ إذا فجرت، وساعاها فلان؛ إذا فجر بها. (ش) (¬3) رشدة: بكسر الراء، وإسكان الشين؛ يقال: هذا ولد رشدة؛ إذا كان لنكاح صحيح. ويجوز فتح الراء أيضا. (ش) قلت: وقد ضعفه الشيخ شاكر في تعليقه على " المسند " (3416) .

متى يرث المولود

وفي إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي؛ قال البيهقي: ليس بمشهور (¬1) . وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب - أيضا - عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مستلحق ولد زنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة، وذلك فيما استلحق في أول الإسلام. وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الشامي، وفيه مقال (¬2) . وقد أجمع العلماء على أن ولد الملاعنة وولد الزنا لا يرثان من الأب، ولا من قرابته، ولا يرثونهما، وأن ميراثهما يكون لأمهما ولقرابتها، وهما يرثان منهم. ( [متى يرث المولود؟] :) (ولا يرث المولود إلا إذا استهل) ؛ لحديث أبي هريرة عند أبي داود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا استهل المولود ورث " (¬3) ، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف. وقد روي عن ابن حبان تصحيحه. وأخرج أحمد في رواية ابنه عبد الله في " المسند " عن المسور بن مخرمة ¬

_ (¬1) وثقه دحيم. (ش) قلت: والحديث في " صحيح سنن ابن ماجه " (2217) . (¬2) وهو - أيضا - في " صحيح سنن ابن ماجه " (2218) . (¬3) حديث صحيح بشواهده؛ كما في " الإرواء " (1707) .

وجابر بن عبد الله، قالا: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يرث الصبي حتى يستهل " (¬1) . وأخرجه أيضا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، بلفظ: " إذا استهل السقط صلي عليه وورث " (1) ، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف. قال الترمذي: وروي مرفوعا، والموقوف أصح، وبه جزم النسائي، وقال الدارقطني في " العلل ": لا يصح رفعه. والمراد بالاستهلال: صدور ما يدل على حياة المولود من صياح، أو بكاء، أو نحوهما. ولا خلاف بين أهل العلم في اعتبار الاستهلال في الإرث. (وميراث العتيق لمعتقه، ويسقط بالعصبات، وله الباقي بعد ذوي السهام) ؛ لحديث: " الولاء لمن أعتق "، وهو ثابت في " الصحيح ". وأخرج أحمد عن قتادة، عن سلمى بنت حمزة: " أن مولاها مات وترك ابنته، فورث النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته النصف، وورث يعلى النصف، وكان ابن سلمى " (¬2) ، ورجال أحمد رجال الصحيح، ولكن ¬

_ (¬1) انظر " الصحيحة " (152 - 153) لشيخنا. (¬2) انظر " إرواء الغليل " (1696) لشيخنا الألباني.

قتادة لم يسمع من سلمى بنت حمزة. وأخرجه أيضا الطبراني. وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس: " أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته النصف، وابنة حمزة النصف ". وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابنة حمزة. وكذلك أخرجه النسائي، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو ضعيف. وقد وقع الاختلاف في اسم ابنة حمزة، فقيل: سلمى، وقيل: فاطمة. وفي الحديثين دليل على أن لذوي سهام العتيق سهامهم، والباقي للمعتق أو لعصبته. وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه؛ فروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس: أن مولى العتاق لا يرث؛ إلا بعد ذوي الأرحام، وذهب غيرهم إلى أنه يقدم على ذوي الأرحام، ويأخذ الباقي بعض ذوي السهام، ويسقط بالعصبات. وقد روي: أن المولى كان لحمزة، واستدل به من قال: إنه يكون لذوي سهام المعتق الباقي بعد ذوي سهام العتيق.

بيان تحريم بيع الولاء وهبته

والصحيح: أنه مولى ابنة حمزة. وقد أخرج ابن أبي شيبة، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا ترث النساء من الولاء؛ إلا ولاء من أعتقن، أو أعتقه من أعتقن " (¬1) . وأخرج البيهقي، عن علي، وعمر، وزيد بن ثابت: أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء؛ إلا ولاء من أعتقن (1) . وأخرج البرقاني على شرط الصحيح، عن هذيل بن شرحبيل، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير، فقال: إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة، فمات وترك مالا ولم يدع وارثا؟ قال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته؛ فلك ميراثه، وإن تأثمت وتحرجت في شيء؛ فنحن نقبله ونجعله في بيت المال. ( [بيان تحريم بيع الولاء وهبته] :) (ويحرم بيع الولاء وهبته) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن بيع الولاء وهبته. وفي الباب أحاديث - قد تقدم بعضها -: ¬

_ (¬1) قلت: ليس في " المصنف " (11 / 388، 390) إلا آثار موقوف في هذا الباب؛ ليس منها شيء مرفوع.

لا توارث بين ملتين

منها: حديث: " الولاء لحمة كلحمة النسب؛ لا يباع ولا يوهب " (¬1) ، وقد صححه ابن حبان. والبيهقي من حديث ابن عمر أيضا. وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع الولاء وهبته، وخالف في ذلك مالك، وتقدمه بعض الصحابة. ( [لا توارث بين ملتين] :) (ولا توارث بين أهل ملتين) ؛ لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، وابن السكن، من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يتوارث أهل ملتين شتى ". وأخرج الترمذي، من حديث جابر مثله بدون لفظ: " شتى (¬2) "، وفي إسناده ابن أبي ليلى. وأخرج البخاري، وغيره من حديث أسامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) صححه شيخنا في " الإرواء " (1668) . (¬2) في الأصل: " شيئا "؛ وهو يوافق بعض نسخ " أبي داود "، ولكن الصحيح: " شتى "؛ وهو الذي شرح عليه الشارحون، وهو الموافق لنسخة " التحقيق " لابن الجوزي العتيقة الصحيحة؛ التي بدار الكتب المصرية؛ انظر " عون المعبود " (3 / 85) . ويوافق رواية الدارقطني (457) : " لا يتوارث أهل ملتين شتى مختلفتين "؛ فهذا اللفظ يؤكد أن الرواية: " شتى "؛ للوصف بالاختلاف.

بيان أنه لا يجوز للقاتل أن يرث من المقتول

- قال: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "؛ وهو أيضا في " مسلم ". وأخرج البخاري، وغيره حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ! "، وكان عقيل وطالب كافرين. وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يرث المسلم من الكافر، ولا الكافر من المسلم، والخلاف في توارث الملل الكفرية المختلفة. وعموم حديث عبد الله بن عمرو وجابر يقتضي عدم التوارث. قال في " المسوى ": " والكفر ملة واحدة؛ يرث اليهودي من النصراني، وبالعكس ". أقول: وأما المرتد؛ فكافر ليس من أهل ملة الإسلام، فقد شملته الأحاديث المتقدمة. فمن زعم أنه يرث مال المرتد قرابته المسلمون؛ فعليه الدليل الصالح للتخصيص. ( [بيان أنه لا يجوز للقاتل أن يرث من المقتول] :) (ولا يرث القاتل من المقتول) ؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يرث القاتل شيئا ".

أخرجه أبو داود (¬1) والنسائي، وأعله الدارقطني، وقواه ابن عبد البر. وأخرج مالك في " الموطأ "، وأحمد، وابن ماجه، والنسائي، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليس لقاتل ميراث " وفيه انقطاع. وأخرج الدارقطني، من حديث ابن عباس مرفوعا: " لا يرث القاتل شيئا " وفي إسناده كثير بن سليم (¬2) ، وهو ضعيف. وأخرج البيهقي عنه حديثا آخر بلفظ: " من قتل قتيلا فإنه لا يرثه؛ وإن لم يكن له وارث غيره ". وفي لفظ: " وإن كان والده أو ولده "، وفي إسناده عمرو بن برق (¬3) ، وهو ضعيف. وأخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ: " القاتل لا ¬

_ (¬1) أنا في شك كثير من نسبة هذا الحديث لأبي داود؛ لأني لم أجده في " السنن "، ولم ينسبه ابن حجر في " التلخيص " إليه؛ والشوكاني إنما يأخذ من " التلخيص "؛ والله أعلم. (ش) قلت: بل هو فيه (4564) - مطولا -؛ وصححه شيخنا في " الإرواء " (1671) . (¬2) في الأصل: " مسلم "؛ وهو خطأ صححناه من " تلخيص الحبير "، ومن كتب التراجم. (ش) (¬3) لم أجد له ترجمة؛ ولكن نقل تضعيفه ابن حجر في " التلخيص " (ص 265) ؛ ويفهم تضعيفه أيضا من كلام لأحمد، وعبد الرزاق؛ نقله البخاري في " التاريخ الصغير " (ص 214) . (ش) قلت: وقد ضعف الحديث شيخنا الألباني في " الإرواء " (1672) بهذا اللفظ.

يرث " وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو ضعيف. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، وهي تدل على أنه لا يرث القاتل؛ من غير فرق بين العامد والخاطئ، وبين الدية وغيرها من مال المقتول. وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم. وقال مالك والنخعي: إن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية، وهو تخصيص بغير مخصص (¬1) . ويرده على الخصوص ما أخرجه الطبراني: أن عمر بن شيبة (¬2) قتل امرأته خطأ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعقلها ولا ترثها ". وما أخرجه البيهقي: أن عديا الجذامي (¬3) كان له امرأتان اقتتلتا، فرمى إحداهما فماتت، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه ¬

_ (¬1) بل استدلوا بحديث فيه التفرقة بين قتل الخطإ والعمد؛ وفيه كلام طويل. والظاهر؛ أنه ضعيف؛ أنظر " نصب الراية " (2 / 334 - 335) للزيلعي. (ش) (¬2) ليس في الصحابة من هذا اسمه! وإنما تبع المؤلف الشوكاني، والشوكاني تبع نسخة " التلخيص "؛ وفيها خطأ من الناسخ؛ وصوابه: " عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي، عن أبيه "؛ وأبوه - هذا - اختلف في اسمه كثيرا، وفي إسناد الحديث إليه. ونقل ابن الأثير عن سعيد القرشي، قال: " ما أرى له صحبة "؛ انظر " أسد الغابة " (3 / 8) ، و " الإصابة " (3 / 218 - 219) . (ش) قلت: والصواب أن هذا الحديث موقوف على علي من قوله. (¬3) عدي - هذا - مختلف في إسناد الحديث إليه؛ انظر " أسد الغابة " (3 / 391 - 394) ، و " الإصابة " (4 / 233) . (ش)

بيان إرث المماليك

فذكر ذلك له، فقال له: " أعقلها ولا ترثها ". وأخرج البيهقي أيضا: أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه، فطالب في ميراثها، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " حقك من ميراثها الحجر "، وأغرمه الدية، ولم يعطه من ميراثها شيئا. وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة مصرحة بذلك؛ ساقها البيهقي وغيره. قلت: وعليه عامة أهل العلم: أن من قتل مورثه لا يرثه؛ عمدا كان القتل أو خطأ. إلا أن أبا حنيفة قال: قتل الصبي لا يمنع الميراث! كذا في " المسوى ". ( [بيان إرث المماليك] :) وأما إرث المماليك من بعضهم البعض، أو من مواليهم؛ فقد قيل: إنه وقع الإجماع على أن الرق من موانع الإرث، وفي دعوى الإجماع نظر؛ فإن الخلاف في كون العبد يملك أو لا يملك معروف، ومقتضى ذلك إثبات الميراث. وليس في المقام ما يدل على عدم الإرث، وقد ورد من حديث ابن عباس: أن رجلا مات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم

-، ولم يترك وارثا إلا عبدا؛ فأعطاه ميراثه، أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وحسنه الترمذي (¬1) ، وقد قيل: إنه صرف إليه ذلك صرفا، وهو خلاف الظاهر. ¬

_ (¬1) حديث ضعيف؛ انظر " الإرواء " (1669) لشيخنا.

الكتاب الحادي والثلاثون كتاب الجهاد والسير

(الكتاب الحادي والثلاثون: كتاب الجهاد والسير)

كتاب الجهاد والسير

(31 - كتاب الجهاد والسير) ( [الفصل الأول: أحكام الجهاد] ) ( [فضل الجهاد والترغيب فيه] :) (الجهاد) (¬1) ؛ قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف، وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم، وحررت فيه كتاب " العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة "، وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر. وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال، وأوجب على عباده أن ينفروا إليه، وحرم عليهم التثاقل عنه. وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لغدوة (¬2) أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها "، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس. ¬

_ (¬1) • (فائدة) : قال شيخ الإسلام في " الاختيارات " (ص 184) : " والجهاد: منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغاية ما يمكنه، ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم ". (ن) (¬2) الغدوة: المرة من الغدو، وكذلك الروحة: المرة من الرواح. (ش)

متى يكون الجهاد فرض عين ومتى يكون فرض كفاية

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الجنة تحت ظلال السيوف "، كما في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي موسى، وابن أبي أوفى. وثبت في " صحيح البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من اغبرت قدماه في سبيل الله؛ حرمه الله على النار ". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها "، كما في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد. وأخرج أهل " السنن " (¬1) - وصححه الترمذي - من حديث معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قاتل في سبيل الله فواق (¬2) ناقة؛ وجبت له الجنة ". فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة، ويحرمه على النار، ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها. ( [متى يكون الجهاد فرض عين؟ ومتى يكون فرض كفاية؟] :) (فرض كفاية) ؛ لما أخرجه أبو داود، عن ابن عباس قال: " {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} ، و {ما كان لأهل المدينة} إلى قوله: {يعملون} : ¬

_ (¬1) • رواه أبو داود (1 / 399) ، والترمذي (3 / 15) ؛ من طريقين عن مالك بن يخامر، عن معاذ؛ فهو إسناد صحيح. وله شاهد عن أبي هريرة؛ أخرجه الترمذي (3 / 14) ، وقال: " حديث حسن ". (ن) (¬2) بفتح الفاء وضمها: وهو ما بين الحلبتين من الراحة. (ش)

نسختها الآية التي تليها: {وما كان المؤمنون} "، وقد حسنه ابن حجر (¬1) . قال الطبري: يجوز أن يكون {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} خاصا، والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع، قال ابن حجر: والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة، وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري؛ كما روى ذلك الطبري عنهما. ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية: أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه، وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين، وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة، والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله. وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور. وقال الماوردي: إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم. وقال السهيلي: كان عينا على الأنصار. وقال ابن المسيب: إنه فرض عين. وقال قوم: إنه كان فرض عين في زمن الصحابة. أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة: أكثر من أن تكتب ¬

_ (¬1) • وهو كما قال الحافظ - رحمه الله -؛ وإنما لم يصححه مع أن رجاله كلهم ثقات؛ لأن أحدهم - وهو علي بن الحسين بن واقد - في حفظه ضعف. وقد أشار الحافظ إلى هذا في ترجمته من " التقريب "؛ فقال: " صدوق يهم "، والحديث في " السنن " (2 / 392) . (ن)

ههنا، ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف، وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر، ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله - سبحانه - من لم ينفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله - عز وجل -: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ، فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي، وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد. وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن، فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ. وأما غزو الكفار، ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام، أو تسليم الجزية، أو القتل؛ فهو معلوم من الضرورة الدينية؛ ولأجله بعث الله - تعالى - رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله - سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه. وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة؛ فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال؛ مع ظهور القدرة عليهم، والتمكن من حربهم، وقصدهم إلى ديارهم (¬1) . وأما غزو البغاة إلى ديارهم - فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل ¬

_ (¬1) وهي شروط معتبرة قوية.

لا يشترط السلطان العادل لوجوب الجهاد

الإسلام؛ إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم - فذلك واجب دفعا لضررهم، وإن كان ضررهم لا يتعدى؛ فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام، والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين، ولا شك أن ذلك معصية عظيمة. لكن إذا كانوا مع هذا مسلّمين للواجبات، غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم؛ تركوا وشأنهم؛ مع تكرير الموعظة لهم، وإقامة الحجة عليهم. وأما إذا امتنعوا من ذلك؛ فقد تظاهروا بالبغي، وجاهروا بالمعصية، وقد قال الله - عز وجل -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة. وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك. ( [لا يشترط السلطان العادل لوجوب الجهاد] :) (مع كل بر وفاجر) ؛ لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد - من الكتاب والسنة - وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا. بل هذه فريضة من فرائض الدين، أوجبها الله - تعالى - على عباده المسلمين؛ من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص، أو عدل أو جور. فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم، وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل، وقد ورد بهذا الشرع؛ كما هو معروف.

في جهاد التطوع لا بد من إذن الوالدين

وأخرج أحمد في " المسند " - من رواية ابنه عبد الله (¬1) -، وأبو داود (¬2) ، وسعيد بن منصور من حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا تكفره بذنب، ولا تخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ". ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله ". ( [في جهاد التطوع: لا بد من إذن الوالدين] :) (إذا أذن الأبوان) ؛ لحديث عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلى النبي ¬

_ (¬1) الأحسن التعبير بأن يقول: وأخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد مسند أبيه "؛ لأن أحمد لم يرو عن ابنه ما زاد؛ بل عبد الله روى عن أبيه " المسند "، وروى في أثنائه بعض أحاديث زائدة عن غير أبيه؛ وقد كثر للشارح هذا التعبير؛ وهو خطأ {. (ش) (¬2) • ومن طريقه رواه أبو داود (1 / 397) ؛ فكان اللائق بالمؤلف أن يشير لذلك، ولكن أنى له هذا؛ وهو لا ينقل من الأصول؟} ثم إن إسناده ضعيف؛ فيه يزيد بن أبي نشبة؛ وهو مجهول. (ن)

- صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد، فقال: " أحي والداك؟ "، قال: نعم، قال: " ففيهما فجاهد " (¬1) . وفي رواية لأحمد، وأبي داود، وابن ماجه: قال: يا رسول الله {إني جئت أريد الجهاد معك، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان؟ قال: " فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ". وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر (¬2) . وأخرج أبو داود (¬3) من حديث أبي سعيد، أن رجلا هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: " هل لك أحد باليمن؟ "، فقال: أبواي، فقال: " أذنا لك؟ "، فقال: لا، فقال: " ارجع إليهما واستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد؛ وإلا فبرهما "، وصححه ابن حبان. وأخرج أحمد (¬4) والنسائي، والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي: أن جاهمة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله} أردت الغزو، وجئتك أستشيرك،؟ فقال: " هل لك من أم؟ "، قال: نعم، فقال: " الزمها؛ فإن الجنة عند رجليها "، وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا. ¬

_ (¬1) • لعله سقط من قلم المؤلف أو الناسخ: " رواه البخاري ومسلم "؛ فقد أخرجاه. ويشعر بهذا عطفه بقوله: " وفي رواية لأحمد ... ". (ن) (¬2) • (8 / 3) ؛ وهو عند مسلم باللفظ الآخر. (ن) (¬3) • في " سننه " (1 / 396) ؛ وسنده ضعيف، وإن صححه الحاكم (2 / 104) . وأما حديث ابن عمرو قبله؛ فصحيح بروايتيه. (ن) (¬4) • في " المسند " (3 / 429) ، والنسائي (2 / 54) ، وصححه الحاكم (2 / 104) ، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (9 / 26) . (ن)

الجهاد بإخلاص يكفر الخطايا إلا حقوق الآدميين

وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد، ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن. ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر (¬1) ، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عن أفضل الأعمال؟ قال: " الصلاة "، قال: ثم مه؟ قال: " الجهاد "، قال: فإن لي والدين، قال: " آمرك بوالديك خيرا "، فقال: والذي بعثك نبيا؛ لأجاهدن ولأتركنهما، قال: " فأنت أعلم ". قالوا: وهو محمول على جهاد فرض العين، أي: حيث يتعين على من له أبوان أو أحدهما؛ توفيقا بين الحديثين (¬2) . ( [الجهاد بإخلاص يكفر الخطايا؛ إلا حقوق الآدميين] :) (وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا؛ إلا الدين) ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم، وغيره أن رجلا قال: يا رسول الله {أرأيت إن قتلت في سبيل الله؛ يكفر عن خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) • الصواب: " عمرو " بالواو؛ كذلك ذكره الحافظ في " الفتح " (6 / 106) برواية ابن حبان. ومن حديثه رواه أحمد في " المسند " رقم (6602) ؛ عن ابن لهيعة: حدثني حيي بن عبد الله، أن أبا عبد الرحمن حدثه عنه، وابن لهيعة ضعيف. (ن) (¬2) ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين؛ أن يجعل ذلك إلى رأي الإمام أو المكلف، فإن كانت المصلحة تقضي بأحدهما؛ وجب تقديمه. وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون، ولم نر في شيء من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو} (ش)

بيان حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد

" نعم؛ وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر؛ إلا الدين؛ فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ". وأخرج مثله أحمد (¬1) والنسائي من حديث أبي هريرة. وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يغفر الله للشهيد كل ذنب؛ إلا الدَّين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك ". وأخرج الترمذي - وحسنه - من حديث أنس نحوه. (ولحق به) ؛ أي: بالدين كل (حقوق الآدميين) ؛ من غير فرق بين دم، أو عرض، أو مال؛ إذ لا فرق بينها. ( [بيان حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد] :) (ولا يستعان فيه) ؛ أي: في الجهاد (بالمشركين؛ إلا لضرورة) ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد الجهاد معه من المشركين: " ارجع فلن أستعين بمشرك "، فلما أسلم استعان به، وهو في " صحيح مسلم "، وغيره من حديث أبي هريرة (¬2) . ¬

_ (¬1) • في " المسند " (2 / 308، 330) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم، والنسائي (2 / 61) ؛ بسند آخر حسن. (ن) (¬2) • هذا سبق قلم من المؤلف - رحمه الله -؛ وإنما الحديث من رواية عائشة - رضي الله عنها -؛ كذلك هو في " صحيح مسلم " (5 / 200 - 201) ، و " مشكل الآثار " (3 / 236) ، و " المسند " (6 / 67 - 68، 148 - 149) ، و " سنن البيهقي " (9 / 37) . (ن)

وأخرج أحمد، والشافعي، والبيهقي، والطبراني نحوه من حديث حبيب (¬1) بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، ورجال إسناده ثقات. وأخرج أحمد، والنسائي، من حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تستضيئوا بنار المشركين "، وفي إسناده أزهر بن راشد، وهو ضعيف، وبقية إسناده ثقات. وقد أخرج الشافعي (¬2) من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر. وأخرجه أبو داود في " مراسيله " من حديث الزهري. وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا. وقد أخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث ذي مخبر (¬3) قال: ¬

_ (¬1) • كذا، والصواب: خبيب - بالخاء المعجمة مصغرا -؛ كما في " المسند " (3 / 454) ، والبيهقي (9 / 37) . وقال: " جده خبيب بن يساف له صحبة ". وأبوه في حكم المجهول عندي؛ لأنه لم يوثقه إلا ابن حبان، وأورده ابن أبي حاتم (2 / 2 / 230) ؛ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. (ن) (¬2) • ومن طريقه رواه البيهقي (9 / 53) ، وقال (9 / 37) : " لم أجده إلا من حديث الحسن ابن عمارة؛ وهو ضعيف ". قلت: ويشهد له أنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود في غزوة أحد إلى أن يقاتلوا معه أبا سفيان؛ كما رواه الطحاوي (3 / 239) . ثم تبين أن فيه جهالة: " الضعيفة " (6092) . (ن) (¬3) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الباء - ويقال: بميم مفتوحة بدل الباء -؛ وهو ابن أخي النجاشي (ش) .

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستصالحون الروم صلحا، وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم ". وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وذهب آخرون إلى جوازها. وقد استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين في يوم أحد، وانخزل (¬1) عنه عبد الله بن أبي بأصحابه. وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين. وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له: قزمان، خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وهو مشرك، فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليأزر (¬2) هذا الدين بالرجل الفاجر ". وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون. فيجمع بين الأحاديث؛ بأن الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة؛ لا إذا لم تكن ثم ضرورة (¬3) . ¬

_ (¬1) انخزل - بالزاي -؛ أي: انفرد. (ش) (¬2) يقال: أزره أزرا، وآزره؛ إذا أعانه. وقرأ ابن عامر: {فأزره فاستغلظه} ، وقرأ الباقون: {فآزره} . (ش) (¬3) • انظر رأي الشافعي في " الأم " (4 / 89) ؛ ففيه تفصيل جيد. (ن)

متى تجب على الجيش طاعة الأمير

( [متى تجب على الجيش طاعة الأمير؟] :) (وتجب على الجيش طاعة أميرهم؛ إلا في معصية الله) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ". وعن ابن عباس في قوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ؛ قال: " نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ". أخرجه أحمد (¬1) ، وأبو داود، وهو في " الصحيحين ". وفيهما - أيضا - من حديث علي، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فعصوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا! ؟ فقالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ¬

_ (¬1) • في " المسند " رقم (3124) ، و " السنن " (1 / 409) بسند صحيح على شرط الشيخين؛ وقد أخرجاه وبقية أصحاب " السنن " إلا ابن ماجه. واعلم أن الآية - وإن كان نزولها في طاعة الأمراء -؛ فهي بعمومها تشمل العلماء أيضا، وهذا اختيار ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 10، 53، 54) ، (2 / 329) ، وابن كثير (1 / 518) . (ن)

على الأمير مشاورة الغزاة والرفق بهم

" لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا "، وقال: " لا طاعة في معصية الله؛ إنما الطاعة في المعروف ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله. ( [على الأمير مشاورة الغزاة والرفق بهم] :) (وعليه) ؛ أي: على الأمير (مشاورتهم، والرفق بهم، وكفهم عن الحرام) ؛ لدخول ذلك تحت قوله: {وشاورهم في الأمر} ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينوبه، ووقع منه ذلك في غير موطن. وأخرج مسلم، وغيره من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان ... ، والقصة مشهورة، وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله: " والذي نفسي بيده؛ لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ". وأخرج أحمد، والشافعي (¬1) من حديث أبي هريرة، قال: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم {من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم؛ فارفق به ". ¬

_ (¬1) وهو في " مسند الشافعي " (626) منقطعا. وليس هو في " مسند أحمد "} وغزاه السيوطي في " الدر المنثور " (2 / 359) لابن أبي حاتم، وعلقه الترمذي (4 / 214) بصيغة التمريض. وروى أبو الشيخ - نحوه - في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " (763) ؛ عن عائشة؛ بسند ضعيف.

وأخرج مسلم - أيضا - من حديث معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم؛ إلا لم يدخل الجنة ". وأخرج أبو داود (¬1) من حديث جابر، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير، فيرجي الضعيف، ويردف ويدعو لهم ". وأخرج أحمد، وأبو داود من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيق الناس الطريق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: " من ضيق منزلا، أو قطع طريقا؛ فلا جهاد له ". وفي إسناده إسماعيل بن عياش، وسهل بن معاذ ضعيف (¬2) . وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن ¬

_ (¬1) • في: " السنن " (1 / 411) ؛ وسنده صحيح. (ن) (¬2) • قلت: هذا الإطلاق ليس بصواب؛ بل الصواب التفصيل في سهل، وكذا في إسماعيل. أما الأول؛ فقال الحافظ فيه: " لا بأس به إلا في روايات زبان عنه ". قلت: وهذه ليست منها. وأما إسماعيل؛ فهو ثقة في روايته عن الشاميين؛ وهذه منها. فإنه يرويه أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي؛ وهو شامي رملي ثقة، وسائر الرواة ثقات. فالحديث حسن إن شاء الله تعالى. وهو في " السنن " (1 / 410) ، و " المسند " (3 / 441) . (ن)

مشروعية التورية إذا أراد غزوا

المنكر، وأحق الناس بذلك الأمير. ( [مشروعية التورية إذا أراد غزوا] :) (ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده) ؛ لحديث كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، وهو في " الصحيحين "، وغيرهما. ( [مشروعية الاستطلاع إذا أراد الإمام غزوا] :) (و) يشرع له (أن يذكي (¬1) العيون، ويستطلع الأخبار) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: " من يأتيني بخبر القوم؟ "، قال الزبير: أنا ... الحديث. وثبت في " صحيح مسلم "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان. وثبت أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر، وغيره. وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو، ويقف في المواضع التي بينه وبينهم. وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات. ( [مشروعية ترتيب الجيش واتخاذ الرايات] :) (و) يشرع له أن (يرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والألوية) ، وقد وقع منه ¬

_ (¬1) • أي: يرسل. (ن)

وجوب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال

صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور، وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان، وآخرين في المكان الآخر، وقال للرماة يوم أحد: إنهم يقفون حيث عينه لهم، ولا يفارقوا ذلك المكان، ولو تخطفه هو ومن معه الطير. وقد كانت له رايات؛ كما في حديث ابن عباس عند الترمذي (¬1) ، وأبي داود، قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب، عن رجل من قومه، عن آخر منهم، قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، وفي إسناده مجهول. وأخرج أهل " السنن "، والحاكم، وابن حبان من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض (¬2) . وفي حديث الحارث بن حسان: أنه رأى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات سودا، أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ورجاله رجال الصحيح. وفي الباب أحاديث. ( [وجوب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال] :) (وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، أو ¬

_ (¬1) • في " السنن " (3 / 24) ، وقال: " حديث غريب ". قلت: وسنده حسن، ولم أجده في " أبي داود "؛ وإنما عزاه المباركفوري في " شرح الترمذي " لابن ماجه، والحاكم. (ن) (¬2) • قلت: وفيه شريك القاضي؛ وهو ضعيف لسوء حفظه، وكأنه لذلك استغربه الترمذي! وذكر عن البخاري أن متن الحديث خطأ، وأن الصواب: دخل مكة وعليه عمامة سوداء. (ن)

حكم قتل النساء والشيوخ والأطفال

الجزية، أو السيف) ؛ لحديث سليمان بن بريدة، عن أبيه عند مسلم، وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية؛ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك؛ فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها؛ فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا؛ فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، وإن أبوا؛ فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... " الحديث. وفي الباب أحاديث. وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تقديم الدعوة لمن لم تبلغهم الدعوة، ولا تجب لمن قد بلغتهم. وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا. وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا. ( [حكم قتل النساء والشيوخ والأطفال] :) (ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا) ؛ أن يقاتلوا، فيدفعوا بالقتل

(لضرورة) ؛ لحديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. وأخرج أبو داود من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا صغيرا، ولا امرأة "، وفي إسناده خالد بن الفرز (¬1) ، وفيه مقال. وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث رباح (¬3) بن ربيع؛ أنه قال صلى الله عليه وسلم: " لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا "، والعسيف: الأجير. وأخرج أحمد (¬4) من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع "، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وهو ضعيف، وقد وثقه أحمد. وأخرج أحمد أيضا، والإسماعيلي في " مستخرجه " من حديث كعب بن ¬

_ (¬1) الفرز؛ بكسر الفاء وفتحها وسكون الراء وآخره زاي. (ش) قلت وهو حسن بالشواهد؛ فانظر " الصحيحة " (701) . (¬2) • في " المسند " (3 / 488) ؛ وسنده صحيح، ثم رواه (4 / 178 - 179) . (ن) (¬3) اختلف في اسمه؛ هل هو (رباح) بفتح الراء والباء، أو (رياح) بكسر الراء وبالياء المثناة؟ والراجح الثاني؛ وبه جزم البخاري، وابن حبان، والدارقطني، وابن عبد البر، وغيرهم. (ش) (¬4) (1 / 300) بسند ضعيف، ولكن له شواهد تحسنه.

مالك (¬1) ، عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر؛ نهى عن قتل النساء والصبيان، ورجاله رجال الصحيح (¬2) . وأخرج أحمد، والترمذي - وصححه - من حديث سمرة مرفوعا، بلفظ: " اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم (¬3) ". وقد قيل: إنه وقع الاتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان؛ إلا إذا كان ذلك لضرورة؛ كأن يتترس بهم المقاتلة أو يقاتلون. وقد أخرج أبو داود في " المراسيل " عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين، فقال: " من قتل هذه؟ "، فقال رجل: أنا يا رسول الله {غنمتها وأردفتها خلفي، فلما رأت الهزيمة فينا؛ أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني، فقتلتها، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووصله الطبراني في " الكبير " (¬4) . ¬

_ (¬1) كذا في الأصل} وفي " نيل الأوطار ": " ابن كعب بن مالك، عن عمه "؛ وكلاهما مشكل {ولم أستطع العثور على الحديث في " مسند أحمد "، ولم أعرف من (ابن كعب) هذا؟} فإنه إن كان المراد به أحد أبناء كعب بن مالك الأنصاري السلمي الشاعر - وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم؛ فقد نص ابن حجر في " الإصابة " على أنه ليس له أخ؛ فلا يكون - إذن - لابنه عم { وإن كان غيره؛ فلا أدري من هو؟} والعلم عند الله!. (ش) (¬2) • قلت: وكذا هو في " المجمع " (5 / 315) ، وقال: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ". وقد رواه البيهقي في " سننه " (9 / 77) ؛ وسنده صحيح. وابن كعب لم يسم، وله خمسة أولاد، وكلهم ثقات من رجال الشيخين؛ غير ابنه محمد؛ فمن رجال مسلم. (ن) (¬3) الشرخ: الشاب. قال أحمد بن حنبل: " الشيخ لا يكاد يسلم، والشباب أقرب إلى الإسلام "؛ نقله ابن حجر في " التلخيص " (370) . (ش) (¬4) وفي سنده الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيف، وانظر " التلخيص الحبير " (4 / 12) ، و " المراسيل " (333) .

المثلة حرام

قلت: قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التمييز والتفرد، وأما البينات فيجوز، وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم. ( [المثلة حرام] :) (والمثلة) ؛ لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن جده، وفيه: " ولا تمثلوا ". وأخرج نحو ذلك أحمد، وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال. وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة. ( [حكم الحرق بالنار للمحارب والمتاع والمال] :) (والإحراق بالنار) ؛ لحديث أبي هريرة عند البخاري، وغيره، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين - فاحرقوهما بالنار "، ثم قال حين أردنا الخروج: " إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما ". وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع؛ فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع؛ إذا كان فيه مصلحة. ( [حكم الفرار من الزحف] :) (و) يحرم (الفرار من الزحف إلا إلى فئة) ، وقد نطق بذلك القرآن

حكم تبييت العدو ليلا

الكريم؛ قال الله - تعالى -: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} . وثبت في " الصحيحين "، وغيرهما: أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات. ولا خلاف في ذلك في الجملة، وإن اختلفوا في مسوغات الفرار. وقد جوز الله - تعالى - الفرار إلى الفئة. وأما التحرف للقتال؛ فهو وإن كان فيه تولية الدبر؛ لكنه ليس بفرار على الحقيقة. قال في " المسوى ": " قوله: {متحرفا لقتال} : هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من مكان منكشف إلى مستتر، ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال. قوله: {أو متحيزا} ؛ أي: يصير إلى حيز فئة من المسلمين؛ يستنجدهم ويقاتل معهم. وبالجملة؛ يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار، والفرار حينئذ كبيرة. ( [حكم تبييت العدو ليلا] :) (ويجوز تبييت الكفار) ؛ لحديث الصعب بن جثامة في " الصحيحين "،

الكذب في الحرب جائز

وغيرهما، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون، فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ ثم (¬1) قال: " هم منهم ". وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث سلمة ابن الأكوع، قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق، وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والبيات: هو الغارة بالليل. قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل، وأن يبيتوا، وكرهه بعضهم، قال أحمد وإسحاق: لا بأس به؛ أن يبيت العدو ليلا. ( [الكذب في الحرب جائز] :) (والكذب في الحرب) ؛ لما ثبت عند مسلم (¬3) ، وغيره من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف؛ قال: يا رسول الله! فأذن لي فأقول، قال: " قد فعلت "؛ يعني: يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا؛ كما وقع منه في هذه القصة، وهي أيضا في " البخاري ". ¬

_ (¬1) • لعل حرف: " ثم " مقحم؛ فإنه لا معنى له؛ وليس هو في رواية البخاري (4 / 61) . ومسلم (5 / 144) . وفي رواية له: " فقال ". (ن) (¬2) • في " المسند " (4 / 46) ؛ وسنده صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه في " صحيحه " (5 / 150) نحوه. (ن) (¬3) • في " صحيحيه " (4 / 184 - 185) ، وفي " البخاري " (6 / 119 - 120) . (ن)

الخداع في الحرب جائز

وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة، قالت: لم أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء من الكذب - مما يقول الناس - إلا في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. وهذا الكذب المذكور هنا: هو التعريض والتلويح بوجه من الوجوه؛ ليخرج عن الكذب الصراح؛ كما قاله جماعة من أهل العلم (¬1) . ( [الخداع في الحرب جائز] :) (والخداع) في الحرب؛ لما في " الصحيحين " من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة (¬2) ". وفيهما من حديث أبي هريرة، قال: سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرب خدعة. قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن؛ إلا أن يكون فيه نقض عهد. ¬

_ (¬1) • كذا قال! والظاهر خلافه؛ وهو الذي رجحه النووي، فقال: " الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى "، وقال ابن العربي: " الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه "؛ ذكره في " الفتح " (6 / 121) . (ن) (¬2) بفتح الخاء وإسكان الدال؛ وهي أفصح الروايات وأصحها؛ كما قال ابن الأثير. (ش)

الفصل الثاني أحكام الغنائم

( [الفصل الثاني: أحكام الغنائم] ) ( [كيف تقسم الغنيمة على الجيش والمصارف الأخرى؟] :) (وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه، وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه) ؛ لقوله - تعالى -: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى (¬2) واليتامى والمساكين} . قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس؛ فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن، وأربعة أخماسها للغانمين. وقوله - تعالى -: {فأن لله خمسه} : ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله - تعالى - فيه للتبرك به، وإضافة هذا المال إليه لشرفه، ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها. واختلفوا في سهم ذوي القربى: قال أبو حنيفة: إنما يعطون لفقرهم. وقال الشافعي: لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالميراث، غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى، ولا يفضل عنده فقير على غني، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما، ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفيء والغنيمة. ¬

_ (¬2) • أي: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، عند جمهور العلماء. وفي ذلك حديث صحيح عن جبير بن مطعم: أنه صلى الله عليه وسلم قسم يوم خيبر لبني عبد المطلب وبني هاشم؛ رواه أبو داود (2 / 31) . (ن)

كيف توزع الغنيمة بين الفارس والراجل

وأخرج أبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن عبسة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلم؛ أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: " ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا؛ إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ". وأخرج نحوه أحمد، والنسائي، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت، وحسنه ابن حجر. وأخرج نحوه - أيضا - أحمد، وأبو داود، والنسائي، ومالك، والشافعي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وحسنه أيضا ابن حجر. وروي نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية. ( [كيف توزع الغنيمة بين الفارس والراجل؟] :) (ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، والراجل سهما) ؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث. منها حديث ابن عمر في " الصحيحين "، وغيرهما، وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل سهما. وفيهما معنى ذلك من حديث أنس، ومن حديث عروة البارقي. ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وحديث أبي رهم عند الدارقطني، وأبي يعلى، والطبراني. وحديث أبي هريرة عند الترمذي، والنسائي.

يتساوى القوي والضعيف من أفراد الجيش

وحديث جرير عند مسلم، وغيره. وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود. وحديث جابر، وأسماء بنت يزيد عند أحمد. وفي الباب أحاديث. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين، والراجل سهما؛ وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد، وأبي داود (¬1) ، وقال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة؛ فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما. وهذا الحديث في إسناده ضعف. قال أبو داود: إن فيه وهما، وإنه قال: ثلثمائة فارس! وإنهم كانوا مائتين. ( [يتساوى القوي والضعيف من أفراد الجيش] :) (ويستوي في ذلك القوي والضعيف، ومن قاتل ومن لم يقاتل) ؛ لحديث ¬

_ (¬1) • في " السنن " (1 / 429 - 430) ، (2 / 40) ، وكذا الحاكم (2 / 131) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. قلت: وفيه يعقوب بن مجمع بن يزيد؛ لم يوثقه غير ابن حبان، وفي " التقريب "؛ أنه مقبول؛ يعني: عند المتابعة. (ن)

ابن عباس عند أبي داود (¬1) والحاكم، وصححه أبو الفتح (¬2) في " الاقتراح " على شرط البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل، ونزول قوله - تعالى -: {يسألونك عن الأنفال} . وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت. وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك، قال: قلت: يا رسول الله {الرجل يكون حامية القوم؛ ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: " ثكلتك أمك ابن أم سعد} وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ {". وأخرجه البخاري أيضا، والنسائي عن مصعب بن سعد، قال: رأى سعد أن له فضلا على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟} ". وأخرج نحوه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي - وصححه -. قال في " الحجة البالغة ": " ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش - كالبريد والطليعة والجاسوس - يسهم ¬

_ (¬1) • في " السنن " (1 / 430) ، والحاكم (2 / 131 - 132) ، وقال: " صحيح؛ فقد احتج البخاري بعكرمة، واحتج مسلم بداود بن أبي هند ". قلت: وهو كما قال، وقول الذهبي: " قلت: هو على شرط البخاري "؛ خطأ؛ لأن البخاري لم يحتج بداود. (ن) (¬2) • هو الإمام ابن دقيق العيد؛ واسمه: محمد بن علي بن وهب القشيري الصعيدي. (ن)

تنفيل بعض الجيش جائز بحسب المصلحة

له؛ وإن لم يحضر الواقعة؛ كما كان لعثمان يوم بدر ". ( [تنفيل بعض الجيش جائز بحسب المصلحة] :) (ويجوز تنفيل بعض الجيش) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل؛ جمعهما له. وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - وعزاه المنذري في " مختصر السنن " إلى مسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا. وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه. واختلف العلماء؛ هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس؟ وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد، وأبي داود، وابن ماجه، وصححه ابن الجارود، وابن حبان، والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته (¬1) . وأخرج نحوه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت. ¬

_ (¬1) انظر " صحيح ابن ماجه " (2302) .

للإمام صفي وسهم

وأخرج أحمد وأبو داود، وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا نفل إلا بعد الخمس ". وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله. وفيهما: أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا. وفي الباب أحاديث. قال في " الحجة البالغة ": " وعندي: إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل، أو للرماة شيئا، أو يفضل العراب على البراذين (¬1) لشيء دون السهم؛ فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي، ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله. وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الباب ". ( [للإمام صفي وسهم] :) (وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش) ؛ لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي، وسكت عنه أبو داود (¬2) ، والمنذري قال: كنا ¬

_ (¬1) العراب: الخيل العربية، والبراذين: التركية. (¬2) • في " سننه " (2 / 36) ؛ وسنده إلى الرجل صحيح على شرطهما. (ن)

بالمربد (¬1) ؛ إذ دخل رجل معه قطعة أديم، فقرأناها، فإذا فيها: " من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش (¬2) : إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم الصفي؛ فأنتم آمنون بأمان الله ورسوله ". فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله، وسمى الرجل النمر ابن تولب. وأخرج أبو داود (¬3) عن الشعبي - مرسلا - قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي؛ إن شاء عبدا، وإن شاء أمة، فرسا؛ يختاره قبل الخمس. وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون (¬4) مرسلا نحوه. ¬

_ (¬1) بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء: محلة بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها. (ش) (¬2) بضم الهمزة وفتح القاف وإسكان الياء وآخره شين معجمة. (¬3) • في " السنن " (2 / 35) ؛ وسنده - على إرساله - صحيح على شرطهما. (ن) (¬4) • هو عبد الله بن عون بن أرطبان: ثقة ثبت؛ وليس الحديث من مرسله، كما ذكر المصنف؛ بل هو من روايته عن محمد - وهو وابن سيرين - مرسلا؛ كذلك رواه أبو داود (2 / 35) بسند صحيح، ثم قال: كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء. وصححه الحافظ (7 / 386) ، وجعله تفسيرا للصفي. (ن)

ما جاء في الرضخ من الغنيمة لمن حضر

وأخرج أحمد، والترمذي (¬1) - وحسنه - من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر. وأخرج أبو داود (¬2) من حديث - عائشة -، قالت: كانت صفية من الصفي. وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه. ويعارضه ما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث أنس - أيضا - قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: إنه اشتراها منه بسبعة أرؤس. ( [ما جاء في الرضخ من الغنيمة لمن حضر] :) (ويرضخ من الغنيمة لمن حضر) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم، وغيره: أنه سأله سائل عن المرأة والعبد؛ هل كان لهما سهم معلوم إذا حضرا البأس؟ فأجاب: أنه لم يكن لهما سهم معلوم؛ إلا أن يحذيا (¬3) من غنائم القوم. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (2 / 382 - 383) ، وكذا الحاكم (2 / 129) ؛ وصححه، ووافقه الذهبي؛ وفيه نظر؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفي حفظه ضعف، والظاهر أنه حسن الحديث. (ن) (¬2) • في " السنن " (2 / 35) ؛ وسنده صحيح، وكذا حديث أنس الذي بعده صحيح، وحديث عائشة صححه ابن حبان، والحاكم كما في " الفتح " (7 / 386) . وهذا الحديث يفصله حديث أنس الآتي في " الصحيحين "، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصطفها لنفسه مباشرة؛ بل بعد ما أعطاها لدحية، ثم استرجعها منه بسبعة أرؤس؛ تعويضا له، كما بينه الحافظ في " الفتح " (7 / 379) . (ن) (¬3) حذاه حذوا: أعطاه، وأحذيته من الغنيمة: أعطيته منها. والحذوة - بكسر الحاء وضمها مع إسكان الذال فيها -: العطية. (ش)

وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء؛ فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم (¬1) ؛ فلم يضرب لهن ". وأخرج أبو داود (¬2) ، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - من حديث عمير مولى آبي اللحم: أنه شهد خيبر مع مواليه، فأمر له صلى الله عليه وسلم بشيء من خرثي (¬3) المتاع. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث حشرج بن زياد، عن جدته، أم أبيه: أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إلينا، فجئنا، فرأينا فيه الغضب، فقال: " مع من خرجتن؟ {وبإذن من خرجتن؟} "، فقلنا: يا رسول الله {خرجنا نغزل الشعر، ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى، ونناول السهم ونسقي السويق، فقال: " قمن فانصرفن (¬4) ، حتى إذا فتح الله عليه خيبر؛ أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال: فقلت لها: يا جدة} وما كان ذلك؟ قالت: تمرا. وفي إسناده رجل مجهول، وهو حشرج. ¬

_ (¬1) في الأصل: " وأما السهم "؛ وصححناه من " صحيح مسلم " (5 / 197) ، و " نيل الأوطار " (8 / 113) . وفي رواية الترمذي (1 / 294) : " يسهم " بالياء؛ مضارع (أسهم) . (ش) (¬2) • في " السنن " (1 / 429) ؛ من طريق أحمد؛ وهو في " المسند " (5 / 223) و " الدارمي " (2 / 226) ؛ وسنده صحيح. (ن) (¬3) الخرثي - بضم الخاء المعجمة، وإسكان الراء، وكسر الثاء، وتشديد الياء -: أردأ المتاع والغنائم؛ وهي سقط المتاع. (ش) (¬4) لفظ الحديث كله هنا هو لفظ أبي داود (3 / 26) ؛ إلا قوله: " فانصرفن "؛ فإنه ليس فيه؛ بل هو في رواية " مسند أحمد بن حنبل " (5 / 271) . (ش)

للإمام إيثار المؤلفين

وقال الخطابي " إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة. وأخرج الترمذي عن الأوزاعي - مرسلا - قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر. وحديث حشرج - كما عرفت - ضعيف، وهذا مرسل؛ فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم. وقد حمل الإسهام هنا على الرضخ جمعا بين الأحاديث. وقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان؛ بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك. ( [للإمام إيثار المؤلفين] :) (ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا) ؛ لحديث أنس في " البخاري "، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم، وترك الأنصار والمهاجرين. وهكذا ثبت في " الصحيح " من حديث ابن مسعود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب. والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها. والمراد بأشراف قريش: أكابر مسلمة الفتح؛ كأبي سفيان بن حرب،

المالك أحق بماله إذا رده الكفار

وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية. ( [المالك أحق بماله إذا رده الكفار] :) (وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين؛ كان لمالكه) ؛ لحديث عمران بن حصين عند مسلم، وغيره: أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت، فركبتها امرأة من المسلمين، ورجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد ". وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عمر: أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبق عبد له، فلحق بأرض الروم، وظهر عليه المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لأبي داود: أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم. وقد ذهب الشافعي، وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها. وروي عن علي، والزهري، وعمرو بن دينار، والحسن: أنه لا يرد أصلا، ويختص به أهل المغانم.

بيان تحريم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل تقسيمها

وروي عن عمر، وسليمان بن ربيعة، وعطاء، والليث، ومالك، وأحمد، وآخرين: إن وجده صاحبه قبل القسمة؛ فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة؛ فلا يأخذه إلا بالقيمة. وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا، وإسناده ضعيف جدا. وروي عن الفقهاء السبعة. قال في " المسوى ": " وعليه أكثر أهل العلم في الجملة، ولهم في التفاصيل اختلاف ". ( [بيان تحريم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل تقسيمها] :) (ويحرم الانتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف) ؛ لحديث رويفع بن ثابت عند أحمد (¬1) ، وأبي داود، والدارمي، والطحاوي، وابن حبان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة ¬

_ (¬1) • في " المسند " (4 / 108، 108 - 109) ، وأبو داود (1 / 424) ، والدارمي (2 / 226 - 227 - 230) بإسناد رجاله كلهم ثقات، وابن إسحاق إنما يخشى تدليسه، وقد صرح بالتحديث في رواية لأحمد؛ فالحديث حسن الإسناد. وقد توبع عند البيهقي (9 / 62) . (ن)

من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه "، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف. وقال ابن حجر: إن رجال إسناده ثقات، وقال أيضا: إن إسناده حسن. وأخرج البخاري من حديث ابن عمر، قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه. زاد أبو داود (¬1) : فلم يؤخذ منهما الخمس، وصحح هذه الزيادة ابن حبان. وأخرج أبو داود (1) ، والبيهقي - وصححه من حديث ابن عمر - أيضا -: أن جيشا غنموا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما وعسلا؛ فلم يأخذوا منهم الخمس. وأخرج مسلم، وغيره من حديث عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبسما. وأخرج أبو داود (¬2) ، والحاكم، والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى، قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق. ¬

_ (¬1) • في " سننه " (1 / 423) ؛ وسنده صحيح على شرط البخاري. وهو في البيهقي (9 / 59) . (ن) (¬2) • في " سننه " (1 / 423) ، والحاكم (2 / 126) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي، فأصابا. (ن)

وأخرج أبو داود (¬1) من حديث القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا، وأخرجتنا مملوءة منه، وقد تكلم في القاسم غير واحد. وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور؛ سواء أذن الإمام أو لم يأذن. وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره. وقال سليمان بن موسى: يأخذ؛ إلا أن ينهى الإمام. قال مالك في " الموطأ ": " لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله؛ قبل أن تقع في المقاسم ". وقال أيضا: " أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام؛ يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو؛ كما يأكلون من الطعام ". وقال: " ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم؛ أضر ذلك بالجيوش ". ¬

_ (¬1) • في " سننه " (1 / 424) ، وكذا البيهقي (9 / 61) ؛ من طريق ابن حرشف الأزدي، عن القاسم ... به، وابن حرشف هذا مجهول، كما في " التقريب "؛ فهو علة الحديث، ليس القاسم كما فعل الشارح. (ن)

بيان تحريم الغلول وما جاء في الترهيب منه

قال: " فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله؛ على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله ". قلت: وعليه أهل العلم. ( [بيان تحريم الغلول وما جاء في الترهيب منه] :) (ويحرم الغلول) ؛ لحديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما في قصة العبد الذي أصابه سهم، فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة يا رسول الله {فقال: " كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن الشملة لتلتهب عليه نارا؛ أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم "، قال: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أو شراكين، فقال: يا رسول الله} أصبت هذا يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراك من نار، أو شراكان من نار ". وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم خيبر؛ قتل نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ". وأخرج البخاري، وغيره من حديث ابن عمر، قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة (¬1) ، فمات، فقال ¬

_ (¬1) اختلف في ضبطه: فقيل: بفتح الكافين، وقيل بكسرهما. وقال النووي: إنما اختلف في كافه الأولى، وأما الثانية فهي مكسورة اتفاقا. (ش)

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو في النار "، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها، وقد قال الله - سبحانه -: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} . وثبت في " البخاري "، وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس، على رقبته شاة ... " الحديث. وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر. وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود، والحاكم، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال، وضربوه، وفي إسناده زهير بن محمد الخراساني (¬1) . ¬

_ (¬1) زهير ثقة؛ وإنما أنكروا عليه بعض أحاديث؛ وقد روى له الجماعة كلهم؛ وإنما شك في هذا الحديث البيهقي؛ فقد ظن أن زهيرا هنا غير زهير بن محمد الخراساني التميمي، وزعم أنه مجهول. ولكن الحديث ثابت عن الخراساني؛ انظر " عون المعبود " (3 / 23) ، و " الجوهر النقي في الرد على البيهقي " (ج 2: ص 202) . (ش) • قلت: بل أنكروا عليه ما كان من رواية أهل الشام عنه، قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام؛ فإنه مناكير، وقال أحمد نحوه. قلت: وهذا الحديث من رواية الوليد بن مسلم الدمشقي عنه؛ فهذا يقتضي الحكم على الحديث بالضعف؛ لا سيما وقد اختلف على الوليد فيه: فرواه الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة: ثنا الوليد، عن زهير بن محمد، عن عمرو بن شعيب، قوله. فهذا موقوف على عمرو. قال الحافظ في " الفتح " (6 / 141) : " وهو الراجح ". (ن)

يجوز للإمام أن يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى

وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي من حديث عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا وجدتم الغال قد غل؛ فأحرقوا متاعه واضربوه "، وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة؛ تكلم فيه غير واحد (¬1) . ( [يجوز للإمام أن يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى] :) (ومن جملة الغنيمة: الأسرى) ؛ ولا خلاف في ذلك. (ويجوز القتل أو الفداء أو المن) ؛ لقوله - تعالى -: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} ، وقوله - تعالى -: {فإما منا بعد وإما فداء} . وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأسرى، وأخذ الفداء منهم، والمن عليهم؛ ثبوتا متواترا في وقائع: ففي يوم بدر قتل بعضهم، وأخذ الفداء من غالبهم. وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له ". ¬

_ (¬1) وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال البخاري: هو باطل ليس بشيء. وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، وهذا حديث لم يتابع عليه؛ ولا أصل لهذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: " المستدرك " (ج 2: 137) ، و " عون المعبود " (ج 3: 21) . (ش)

الفصل الثالث أحكام الأسير والجاسوس والهدنة

وفي " مسلم " من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر، الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتقهم، فأنزل الله - عز وجل -: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} الآية. وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى؛ فيقتل، أو يأخذ الفداء، أو يمن. وقال الزهري، ومجاهد، وطائفة: لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا. وعن الحسن، وعطاء: لا يقتل الأسير؛ بل يتخير بين المن والفداء. وعن مالك: لا يجوز المن بغير فداء. وعن الحنفية: لا يجوز المن أصلا؛ لا بفداء ولا بغيره. ( [الفصل الثالث: أحكام الأسير والجاسوس والهدنة] ) ( [بيان جواز استرقاق الكفار من عرب أو عجم] :) (ويجوز استرقاق العرب) ؛ لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار؛ من غير فرق بين عربي وعجمي، وذكر وأنثى، ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم؛ بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين.

منها: حديث أبي هريرة في " الصحيحين "، وغيرهما: أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقيها؛ فإنها من ولد إسماعيل ". وأخرج البخاري، وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين جاء وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين؛ إما السبي، وإما المال ... " الحديث. وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر: أن جويرية بنت الحارث - من سبي بني المصطلق - كاتبت عن نفسها، ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقضي كتابتها، فلما تزوجها؛ قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأرسلوا ما بأيديهم من السبي. وأخرجه أحمد من حديث عائشة. وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب: الجمهور. وحكى في " البحر " عن الحنفية: أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام، أو السيف، واستدل بقوله - تعالى - {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية. ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب، ولو سلم ذلك؛ كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك، وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن

والفداء، فقال: {فإما منا بعد وإما فداء} ، ولم يفرق بين عربي وعجمي. واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي، والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: " لو كان الاسترقاق جائزا على العرب؛ لكان اليوم؛ إنما هو أسرى "، وفي إسناده الواقدي، وهو ضعيف جدا. ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض، وهو أشد ضعفا من الواقدي. وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفدية من ذكور العرب في بدر، وهو فرع الاسترقاق. أقول: فقد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم، وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم. وبالغ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " من فعل كذا؛ فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل "، وقال لأهل مكة: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " (¬1) . والحاصل: أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة؛ من التخيير في كل مشرك بين القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، فمن ادعى تخصيص نوع منهم، أو فرد من أفرادهم؛ فهو مطالب بالدليل. ¬

_ (¬1) • هذا الحديث مشهور في السيرة، ولم أقف له على إسناد صحيح. وإنما رواه ابن إسحاق بسند معضل، كما تبين من مراجعة " تاريخ ابن كثير " (4 / 300 - 301) . (ن)

حكم قتل الجاسوس

وأما أسر نساء العرب؛ فالأمر أظهر من أن يذكر، والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث: " الصحيحين "، وغيرهما، وفي كتب السير جميعها. ( [حكم قتل الجاسوس] :) (وقتل الجاسوس) ، لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره؛ قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اطلبوه فاقتلوه "، فسبقتهم إليه فقتلته، فنفلني سلبه. وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي. وأما المعاهد والذمي؛ فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك. وأخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود عن فرات بن حيان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من ¬

_ (¬1) • في " المسند " (4 / 336) ؛ من طريق بشر بن السري، وأبو داود (1 / 413) ، وكذا البيهقي (9 / 147) ؛ من طريق محمد بن محبب - كلاهما -، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن فرات. قلت: وهذا سند ظاهر الصحة إلا أن أبا إسحاق - وهو عمرو بن عبد الله السبيعي - مدلس، وقد عنعن؛ ففي صحة الحديث عندي وقفة، والله أعلم. ورواه الحافظ أبو العباس بن عقدة؛ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق. . به، ولفظه أتم؛ فراجعه إن شئت في " الإصابة " (3 / 196) . (ن) • قلت: والظاهر أنه اشتبه عليه ب " محمد بن مجيب "، وهذا متروك؛ بخلاف الأول؛ فإنه ثقة اتفاقا. (ن)

بيان أن الحربي إذا أسلم طوعا أحرز أمواله

الأنصار، فقال: إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! إنه يقول: إنه مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم؛ منهم فرات بن حيان "، وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب، ولا يحتج بحديثه (¬1) ، وهو يرويه عن سفيان. ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري، وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم (¬2) . ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني، وهو ثقة (¬3) ( [بيان أن الحربي إذا أسلم طوعا أحرز أمواله] :) (وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه، أحرز أمواله) ؛ لحديث صخر ابن عيلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أسلم الرجل؛ فهو أحق بأرضه وماله ". ¬

_ (¬1) أبو همام ثقة: وثقه أبو حاتم وأبو داود والحاكم والبغوي. وإنما زعم ذلك المنذري. (ش) (¬2) رواية بشر؛ رواه أحمد في " مسنده " عن علي بن المديني، عن بشر: (ج 4: 336) ؛ وإسناده صحيح جدا. (ش) (¬3) • لم يتعرض المؤلف لمسألة قتل الجاسوس المسلم؛ وقد اختلف العلماء فيها: فذهب مالك إلى أنه يقتل. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل. والفريقان احتجوا بقصة حاطب بن أبي بلتعة - في كتابته إلى أهل مكة: أن محمدا يريد أن يغزوكم -، وهي في " الصحيحين "؛ وقد قرر ابن القيم في " الزاد " (2 / 238) ، وجه استدلال الفريقين ثم قال: " والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام؛ فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان إبقاؤه أصلح استبقاه، والله أعلم ". (ن)

أخرجه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات (¬1) . وفي لفظ: " إن القوم إذا أسلموا؛ أحرزوا أموالهم ودماءهم ". وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: " من أسلم على شيء فهو له ". وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة. قال البيهقي: " وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة - مرسلا - ". وقد أخرجه عن عروة - مرسلا - سعيد بن منصور برجال ثقات: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة، فأسلم ثعلبة وأسد بن سعيه (¬2) ، فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار. ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: " فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها ". ¬

_ (¬1) • كذا قال! وهو عند أبي داود (2 / 49) ؛ من طريق أبان بن عبد الله بن أبي حازم، قال: حدثني عثمان بن أبي حازم، عن أبيه، عن جده. وعثمان، ووالده أبو حازم لا يعرفان؛ وإن وثق الأول ابن حبان. لكن رواه أحمد (4 / 310) ؛ عن أبان: حدثني عمومتي، عن جدهم صخر بن علية ... به. فهذه طريق أخرى تقوي الأولى، والله أعلم. (ن) (¬2) (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين؛ ويروى: (أسد) بالتكبير؛ ورواه ابن إسحاق في " السيرة ": (أسيد) بالتصغير؛ وخطأه الذهبي في " المشتبه ". و (سعيه) : بفتح السين وإسكان العين وفتح الياء المثناة وآخره هاء؛ وقيل: (سعنة) بالنون؛ وهو خطأ. وثعلبة: أخو أسيد؛ فصواب العبارة: " فأسلم ثعلبة، وأسيد ابنا سعيه "؛ كما هو ظاهر. (ش)

بيان أن عبد الكافر إذا أسلم ثبتت له الحرية

وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا؛ كانت جميع أمواله في ملكه، ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام. ( [بيان أن عبد الكافر إذا أسلم ثبتت له الحرية] :) (وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد (¬1) ، وابن أبي شيبة، قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين. وأخرجه أيضا سعيد بن منصور - مرسلا -. وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في " صحيح البخاري ". ورواها أبو داود عن الشعبي، عن رجل من ثقيف، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة، وكان مملوكنا، فأسلم قبلنا، فقال: " لا؛ هو طليق الله، ثم طليق رسوله ". وأخرج أبو داود، والترمذي - وصححه - من حديث علي، قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني: يوم الحديبية - قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم، فقالوا: والله يا محمد {ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هربا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله} ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 1959، 2111، 3267، 3415) ؛ وفيه الحجاج؛ وهو ابن أرطاة؛ مدلس وقد عنعن! (ن)

حكم الأرض المغنومة مفوض إلى الإمام يفعل فيها ما فيه المصلحة

" ما أراكم تنتهون يا معشر قريش {حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا "، وأبى أن يردهم، وقال: " هم عتقاء الله عز وجل " (¬1) . وأخرج أحمد عن أبي سعد الأعسم، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد؛ إذا جاء فأسلم، ثم جاء مولاه فأسلم: أنه حر، وإذا جاء المولى، ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه: فهو أحق به، وهو مرسل (¬2) . ( [حكم الأرض المغنومة مفوض إلى الإمام يفعل فيها ما فيه المصلحة] :) (والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام، فيفعل الأصلح من قسمتها، أو تركها مشتركة بين الغانمين، أو بين جميع المسلمين) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين، وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين، وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس. كما أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث بشير بن يسار، عن رجال من الصحابة. وأخرج نحوه - أيضا - أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة. وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين} ¬

_ (¬1) • " سنن أبي داود " (1 / 423) ، وكذا البيهقي؛ عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، وأحمد (رقم 1335) ؛ عن شريك - كلاهما -، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن علي. وهذا سند صحيح إن شاء الله. (ن) (¬2) لم أره في " المسند " {وليس هو من مظانه} ! وهو في " مصنف ابن أبي شيبة " (10 / 164) و " سنن سعيد بن منصور " (2 / 313) بسند ضعيف مرسل.

يقسمون خراجها بينهم. وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وعمل عليه الخلفاء الراشدون. وأخرج مسلم، وغيره من حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما قرية أتيتموها، فأقمتم فيها، فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله؛ فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم ". أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين - من خراج، ومعاملة، وجزية، وصلح، وغير ذلك - ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته، ويبذل جهده في مصالحهم، فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم، ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها، ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح؛ فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام؛ فعل، وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر، أو الأسبوع، أو اليوم؛ فعل. ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم، وما يدخر لدفع ما ينوبهم؛ جعل ذلك في مناجزة الكفرة، وفتح ديارهم، وتكثير جهات المسلمين، وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح؛ فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد، وجلب المصالح.

ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال، وتوسيع دائرته العدل في الرعية، وعدم الجور عليهم، والقبول من محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم. وهذا معلوم بالاستقراء في جميع دول الإسلام والكفر، فما عدل ملك في رعيته؛ إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر بجوره، مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب - عز وجل - في هذه الدار، أو في دار الآخرة؛ فإنها جرت عادة الله - سبحانه - بمحق نظام الظلم، وخراب بنيانه، وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين؛ فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر، ومن نظر في تواريخ الدول؛ رأى من هذا ما يقضي منه العجب. فالحاصل: أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة: أما خسران الآخرة؛ فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة. وأما خسران الدنيا؛ فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف، ونغص وتحيل، ووحشة من رعيته، فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم، وهم مع ذلك على بغضه، وهو منطو على بغضهم، وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر، وخراب البلاد، وهلاك الرعية، وفقر أغنيائهم، ففي كل عام هو في نقص؛ مع ما جرت به عادة الله - عز وجل - من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة. فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما، وهذا هو الغالب، وما

بيان أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا

خالفه فنادر. فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية، المحبوبين عندهم، الممتعين بلذة العدل؛ مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف؛ التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت؟ ! ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه؛ بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله، وما وعد به العادلين في الآخرة؛ مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ لكان مغنيا. ( [بيان أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا] :) (ومن أمنه أحد المسلمين؛ صار آمنا) ؛ لحديث علي عند أحمد (¬1) وأبي داود، والنسائي، والحاكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ذمة المسلمين واحدة؛ يسعى بها أدناهم ". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - مرفوعا - بلفظ: " يد المسلمين على من سواهم؛ تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 615، 959، 991، 993، 1037، 1297) ؛ بأسانيد أكثرها صحيح. وأخرج أحدها الحاكم (2 / 141) ؛ من طريق أحمد، وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. (ن)

ويرد عليهم أقصاهم (¬1) ، وهم يد على من سواهم ". وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " من حديث ابن عمر مطولا. وأخرجه ابن ماجه من حديث - معقل بن يسار - مختصرا - بلفظ: " المسلمون يد على من سواهم؛ تتكافأ دماؤهم ". وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة - مختصرا - أيضا -. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة - أيضا - بلفظ: " إن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ". وهو في " الصحيحين " من حديث علي. وأخرجه البخاري من حديث أنس. وفي الباب أحاديث. وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا. قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة ". انتهى. ¬

_ (¬1) • " أي: أبعدهم؛ وذلك في الغزو إذا دخل العسكر أرض الحرب، فوجه الإمام منه السرايا، فما غنمت من شيء أخذت منه ما سمي لها، ورد ما بقي على العسكر؛ لأنهم - وإن لم يشهدوا الغنيمة -؛ درء للسرايا وظهر يرجعون إليهم ": " نهاية " (ن) .

بيان أن الرسول كالمؤمن

وأما العبد؛ فأجاز أمانه الجمهور. وأما الصبي؛ فقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز ". انتهى. وأما المجنون؛ فلا يصح أمانه بلا خلاف. قلت: إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين؛ إذا أمن واحدا أو اثنين. فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم؛ فلا يصح إلا من الإمام؛ على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة، كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لآحاد الناس؛ صار ذريعة إلى إبطال الجهاد. ( [بيان أن الرسول كالمؤمِّن] :) (والرسول كالمؤمن) ؛ لحديث ابن مسعود عند أحمد (¬1) ، وأبي داود والنسائي، والحاكم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرسولَي مسيلمة: " لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما ". وأخرج أحمد (¬2) ، وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما: " والله؛ لولا أن ¬

_ (¬1) • في " المسند " (3708، 3761، 3837، 3855) ؛ بأسانيد بعضها حسن، وله طريقان آخران عنده (3642، 3851) بنحوه؛ فالحديث صحيح. (¬2) • " في المسند " (3 / 487 - 488) بسند حسن. (ن) وأخرجه الحاكم أيضا (2 / 143) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو حسن فقط! (ن)

توسيط القول في جواز مهادنة الكفار

الرسل لا تقتل؛ لضربت أعناقكما ". وقد أخرج أحمد (¬1) ، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان - وصححه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي رافع لما بعثته قريش إليه، فقال: يا رسول الله {لا أرجع إليهم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن - يعني: الإسلام -؛ فارجع ". ( [توسيط القول في جواز مهادنة الكفار] :) (وتجوز مهادنة الكفار) وملوكهم وقبائلهم؛ إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين، فعرفوا نفع المسلمين في ذلك، ولم يخافوا من الكفار مكيدة. (ولو بشرط، وإلى أجل أكثره عشر سنين) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره: أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فاشترطوا عليه: أن من جاء منكم لا نرده عليكم، ومن جاء منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله} أنكتب (¬2) هذا؟ قال: " نعم؛ إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ". وهو في " البخاري "، وغيره من حديث المسور بن مخرمة، ومروان ¬

_ (¬1) • في " المسند " (6 / 8) ، وأبو داود (1 / 433 - 434) ، وكذا الحاكم (3 / 598) - وسكت عليه هو والذهبي -؛ وسنده صحيح. وهو عند النسائي في (السير) من " سننه الكبرى ". (ن) (¬2) بالنون كما في " صحيح مسلم " طبع الآستانة. (ش)

بيان قدر مدة الصلح مع الكفار

- مطولا -، وفيه: أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين. وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما، وفعله صلى الله عليه وسلم قد دل على جواز ذلك، ولم يثبت ما يقتضي نسخه. ( [بيان قدر مدة الصلح مع الكفار] :) وأما قدر مدة الصلح؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله - سبحانه - قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها، ولكنه لما وقع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها، ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل، وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب. وقد قيل: إنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: لا تجوز مجاوز سنتين. ( [تفصيل القول في جواز تأبيد المهادنة بالجزية] :) (ويجوز تأبيد المهادنة بالجزية) ؛ لما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم - بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال؛ منها الجزية. وحديث عمرو بن عوف الأنصاري - في " الصحيحين "، وغيرهما -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين، أمر

عليهم العلاء ابن الحضرمي. وأخرج أبو عبيد (¬1) ، عن الزهري - مرسلا - قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين، وكانوا مجوسا. وأخرج أبو داود (¬2) من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدا إلى أكيدر دومة (¬3) ، فأخذوه فأتوا به، فحقن دمه، وصالح على الجزية. وأخرج أبو عبيد في كتاب " الأموال "، عن الزهري: أن أول من أعطى الجزية أهل نجران، وكانوا نصارى. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن؛ على كل حالم دينارا كل سنة، أو قيمته من المعافري (¬4) ، يعني: أهل الذمة منهم؛ رواه الشافعي في " مسنده " عن عمر بن عبد العزيز، وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود. وأخرج البخاري، وغيره من حديث المغيرة بن شعبة: أنه قال لعامل كسرى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية. ¬

_ (¬1) في " الأموال " (203) ، وابن زنجويه (642) ؛ وعبد الرزاق في " المصنف " (10 / 326) ، وهو ضعيف لإرساله! (¬2) • في " سننه " (2 / 44) ، ورجاله ثقات؛ لكن محمد بن إسحاق مدلس؛ وقد عنعنه. وسكت عنه المنذري في " مختصره " (4 / 249) . (ن) (¬3) • وهو رجل من العرب؛ يقال: هو من غسان؛ قاله الخطابي في " المعالم ". (ن) (¬4) • ثياب تكون باليمن، كما صرح به بعض الرواة في آخر حديث معاذ - المشار إليه فيما يأتي في الكتاب -؛ وهو عند أبي داود (2 / 44) بسند صحيح. (ن)

وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح، قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير؛ وأهل اليمن عليهم دينار؟ {قال: جعل ذلك من قبيل اليسار. وقد وقع الاتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم؛ من اليهود، والنصارى، والمجوس. قال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام: إنها تقبل من جميع الكفار؛ من العرب وغيرهم (¬1) . وقال الشافعي: إن الجزية تقبل من أهل الكتاب؛ عربا كانوا أو عجما، ويلحق بهم المجوس في ذلك. وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط؛ بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد (¬2) ، والترمذي - وحسنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش؛ أنه يريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، ويؤدي إليهم بها العجم الجزية؛ يعني: كلمة الشهادة. ¬

_ (¬1) • وهذا الذي رجحه ابن تيمية، حتى ولو كانوا مشركين غير أهل كتاب؛ انظر رسالته: " قاعدة في قتال الكافر ". (ن) (¬2) • في " المسند " (رقم 2008، 3419) ، والترمذي (4 / 172 - 173) ، وكذا الحاكم (2 / 432) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي - كلهم -؛ من طريق يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عنه وقال الترمذي: " حسن صحيح ". كذا قالوا} ويحيى - هذا - في اسمه اختلاف؛ ولم يوثقه غير ابن حبان، والذهبي يقول فيه: " تفرد عنه الأعمش "؛ فهو في حكم المجهول، ولهذا قال الحافظ: إنه مقبول، يعني: عند المتابعة وإلا فلين الحديث. فالحديث في نقدي ضعيف، والله أعلم. (ن)

وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب؛ ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة - المتقدم -: " وإذا لقيت عدوك من المشركين؛ فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - "، وفيها الجزية. قال في " المسوى " - في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب -: " قال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} . قلت: عليه أهل العلم في الجملة. وقال الشافعي: الجزية على الأديان لا على الأنساب؛ فتؤخذ من أهل الكتاب؛ عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان. والمجوس لهم شبهة كتاب. وقال أبو حنيفة: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف. وفي حديث ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر (¬1) . وفي حديث جعفر بن علي بن محمد، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ ! فقال عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) • " البربر: جيل، الجمع: البرابرة، وهم بالغرب، وأمة أخرى بين الحبوش والزنج ": " قاموس ". (ن)

بيان مقدار الجزية

عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (¬1) . قلت: وعليه أهل العلم. قال مالك: مضت السنة: أن لا جزية على نساء أهل الكتاب (¬2) ، ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم. قلت: وعليه أهل العلم. ( [بيان مقدار الجزية] :) وأما قدرها: فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام. قلت: قد صح (¬3) من حديث معاذ؛ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل حالم دينار أو عدله معافريا. فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر: ¬

_ (¬1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (1248) . وللحديث طريقان - يحتملان التحسين -؛ كما في " نصب الراية " (3 / 172) ، و " تحفة الطالب " (237) ، و " تنقيح التحقيق " (3 / 364، 460) . (¬2) • لحديث معاذ المشار إليه آنفا، والآتي لفظه قريبا؛ فإن قوله: " من كل حالم " خاص بالرجل؛ لأن " الحالم "؛ عبارة عن الرجل، كما قال الخطابي في " المعالم " (4 / 249) . (ن) (¬3) " صحيح ابن خزيمة " (2268) .

فقال الشافعي: أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة، ويستحب للإمام المماسكة ليزداد، ولا يجوز أن ينقص من دينار، وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير. وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين، وحديث معاذ على الفقراء؛ لأن أهل اليمن أكثرهم فقراء، فقال: على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط ديناران، وعلى كل فقير دينار. وعن عمر بن عبد العزيز: من مر بك من أهل الذمة؛ فخذ بما يديرون به من التجارات؛ من كل عشرين دينار؛ فما نقص فبحساب ذلك؛ حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثلث دينار؛ فدعها ولا تأخذ منها شيئا، واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول. قلت: عليه أبو حنيفة. وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور: هو ما صولحوا وقت عقد الذمة (¬1) . وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون. قلت: عليه أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) • لعل الأقرب إلى الصواب؛ أن يقال أن لا حد في الجزية يرجع إليه، فيقدرها ولي الأمر بحسب المصلحة. وبهذا قال ابن تيمية في رسالته المذكورة آنفا (ص 145) . (ن)

بيان منع المشركين وأهل الذمة من توطن جزيرة العرب

وقال الشافعي: لا تسقط بالإسلام ولا بالموت؛ لأنه دين حل عليه كسائر الديون ". انتهى. ( [بيان منع المشركين وأهل الذمة من توطن جزيرة العرب] :) (ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من (¬1) جزيرة العرب) ؛ لحديث ابن عباس - في " الصحيحين "، وغيرهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى عند موته بثلاث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم "، ونسيت الثالثة - والشك (¬2) من سليمان الأحول -. وأخرج مسلم، وغيره من حديث عمر: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب،؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلما ". وأخرج أحمد من حديث عائشة: أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان ": وهو من رواية ابن إسحاق؛ قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عنها (¬3) . ¬

_ (¬1) سكن: يتعدى بنفسه وبالباء وب (في) . وأما ب (من) ؛ فلم أره، ولا أظنه صحيحا؛ بل هو استعمال ينبو عن كلام الفصحاء. (ش) (¬2) • والصواب: والنسيان. (ن) (¬3) • وسنده حسن (ن) .

والأدلة - هذه - قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب؛ سواء كان ذميا أو غير ذمي، وقيل: إنما يمنعون من الحجاز فقط؛ استدلالا بما أخرجه أحمد (¬1) ، والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح، قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ". وهذا لا يصلح لتخصيص العام؛ لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح. وقد حكى ابن حجر في " فتح الباري " عن الجمهور: أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة؛ قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها؛ لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة (¬2) . وعن الحنفية: يجوز مطلقا؛ إلا المسجد الحرام. وعن مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة. وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا؛ إلا بإذن الإمام. أقول: الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه؛ لأنه قد ¬

_ (¬1) • في " المسند " (رقم 1691، 1694، 1699) ، وسنده صحيح. (ن) (¬2) • في " القاموس ": " وجزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، ومن جدة إلى أطراف ريف العراق عرضا ". قال: " والحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، ومخاليفها؛ لأنها حجزت بين نجد وتهامة ".

تقرر في الأصول: أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا؛ إلا عند الدقاق. ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من مواضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه؛ هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه. وقد جمع المغربي - مؤلف شرح " بلوغ المرام " - رسالة رجح فيها التخصيص، وقد دفعها الماتن - رحمه الله - بأبحاث، ليس هذا موضع ذكرها. قال في " المسوى " - في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر -: " قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} ". قلت: قوله {فلا يقربوا المسجد الحرام} : معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم (¬1) ؛ يدل عليه قوله - تعالى -: {وإن خفتم عيلة} ، وعليه أهل العلم؛ قالوا: لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال؛ سواء كان ذميا أو لم يكن، وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام، وهو في الحرم؛ فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه، أو يبعث من يسمع رسالته. قلت: قد صح في غير حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل الكفار في مسجده. ¬

_ (¬1) • ويؤيده أمره صلى الله عليه وسلم عليا قبيل حجة الوداع أن ينادي في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك؛ فإن هذا يستلزم الوقوف بعرفة والمزدلفة وغيرهما (ن) .

من ذلك: ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد: فقال الشافعي: لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم. وقال آخرون: يجوز له الدخول ولو بغير إذن، وتأويل الآية على قولهم: أنهم أخيفوا بالجزية. أقول: لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين؛ فهم الذين لا يتطهرون من جنابة، ولا يغتسلون من نجاسة، فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات، او استهزاؤهم بالعبادة مظنونا؛ فذلك مفسدة، وكل مفسدة ممنوعة؛ ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد؛ لما يسمعه ويراه من المسلمين؛ فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقدر قدرها. وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون؛ فلا وجه للمنع؛ ولا سيما قد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف، وهو أفضل من غيره من المساجد؛ غير المسجد الحرام ". ثم قال في " المسوى ": " قال مالك: قال ابن شهاب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى يهود خيبر. قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران، وفدك. فأما يهود خيبر؛ فخرجوا منها، ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء.

الفصل الرابع حكم قتال البغاة

وأما يهود فدك؛ فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض، فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر، ونصف الأرض قيمته؛ من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها. قلت: عليه أهل العلم، قالوا: الحجاز؛ يجوز للكافر دخولها بالإذن، ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر؛ فإن عمر - رضي الله تعالى عنه - لما أجلاهم؛ أجل - لمن يقدم منهم تاجرا - ثلاثا ". انتهى. ( [الفصل الرابع: حكم قتال البغاة] ) ( [بيان وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق] :) (ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق) ؛ لقوله - تعالى -: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، فأوجب الله - سبحانه - قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم، أو على طائفة منهم. قال في " المسوى ": " قال الواحدي والبغوي وغيرهما: نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال، فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم (¬1) . ¬

_ (¬1) • وثبت هذا في " صحيح البخاري " (5 / 327 - 328) ، و " مسلم ". (ن)

والظاهر: أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين؛ حيث يكون حكم الله - تعالى - معلوما؛ لقوله - تعالى -: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وليست في البغاة؛ وهم الذين لهم منعة وشبهة، فنصّبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل؛ إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه؛ بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله. وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي - رضي الله تعالى عنه - حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان، وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية، والعلم عند الله تعالى ". انتهى. أقول: اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة - رضي الله عنهم - وأكثر من روي عنه في ذلك؛ علي - كرم الله وجهه -، ولم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ إلا حديث ابن مسعود الآتي، وقد ضعفه جماعة من المسلمين (¬1) ، وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام؛ كعدم جواز سبي البغاة. والحاصل: أن أصل دم المسلم وماله العصمة، ولم يأذن الله - عز وجل - بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء، فيجب الاقتصار على هذا، ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء؛ وإن كان جريحا أو منهزما؛ من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له؛ ما دام مصرا على بغيه. وأما المال؛ فلا يجوز أخذ شيء منه. هذا ما عندي في ذلك، فإن ثبت ما يخالفه؛ فالثابت شرعا أولى بالاتباع. ¬

_ (¬1) • لعله: العلماء! (ن)

بيان حكم قتل أسير البغاة وغنيمة أموالهم والإجهاز على جريحهم

( [بيان حكم قتل أسير البغاة وغنيمة أموالهم والإجهاز على جريحهم] ) (ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجاز (¬1) على جريحهم، ولا تغنم أموالهم) : لما أخرجه الحاكم، والبيهقي، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: " يا ابن أم عبد! ما حكم من بغى من أمتي؟ "، قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم ". وفي لفظ: " ولا يذفف (¬2) على جريحهم، ولا يغنم منهم "؛ سكت عنه الحاكم. وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ. وقال البيهقي: ضعيف. وقال صاحب " بلوغ المرام ": إن الحاكم صححه فوهم؛ لأن في إسناده كوثر بن حكيم، وهو متروك (¬3) . وصح عن علي من طرق نحوه - موقوفا -. ¬

_ (¬1) • وكذا في النسخة البولاقية؛ وفي " الدراري المضيئة " للشوكاني - نفسه -. وهي لغة صحيحة؛ قال في " القاموس ": " وأجزت على الجريح: اجهزت ". (ن) (¬2) • تذفيف الجريح: الإجهاز عليه، وتحرير قتله. (ن) (¬3) وكذلك قال الذهبي في " مختصر المستدرك "؛ انظر " المستدرك " (ج 2: ص 155) . (ش) قلت: وتفصيله في " الإرواء " (2462) .

والصحيح: أنه نادى بذلك منادي علي يوم صفين، ولم يثبت الرفع. وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقي من طريق عبد خير، عن علي بلفظ: نادى منادي علي يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم. وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم، قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن. وأخرج أحمد - في رواية الأثرم، واحتج به -، عن الزهري، قال: هاجت الفتنة - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون -؛ فأجمعوا: أن لا يقاد أحد، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن؛ إلا ما وجد بعينه. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة، قال: شهدت صفين؛ فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا. وأخرج البيهقي، عن علي، أنه قال يوم الجمل: إن ظفرتم على القوم؛ فلا تطلبوا مدبرا، ولا تجيزوا على جريح، وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه، وما سوى ذلك؛ فهو لورثتهم ". قال البيهقي: هذا منقطع. والصحيح أنه لم يأخذ شيئا، ولم يسلب قتيلا. ويؤيد جميع هذه الآثار: أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة؛

بيان أنه لا قصاص في أيام الفتنة

فلا يحل شيء منها إلا بدليل شرعي. والمراد بالإجازة على الجريح، والإجهاز، والتذفيف: أن يتمم قتله ويسرع فيه. ( [بيان أنه لا قصاص في أيام الفتنة] :) وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود؛ يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة، وقد أخرج هذا الأثر - عن الزهري - البيهقي؛ بلفظ: هاجت الفتنة الأولى، فأدركت - يعني: الفتنة - رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد معه بدرا، وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة؛ لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل، ولا حد في سبي امرأة سبيت، ولا يرى عليها حد، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة، ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد، ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر، ويرى أن يرثها زوجها الأول ". انتهى. قال في " البحر ": ولا يجوز سبيهم، ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا؛ لبقائهم على الملة. وحكى عن النفس الزكية، والحنفية، والشافعية: أنه لا يغنم منهم شيء. ( [بيان حكم من حارب عليا رضي الله عنه] :) أقول: وأما الكلام فيمن حارب عليا - كرم الله وجهه -؛ فلا شك ولا

شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه. أما طلحة والزبير ومن معهم؛ فلأنهم قد كانوا بايعوه، فنكثوا بيعته بغيا عليه، وخرجوا في جيوش من المسلمين، فوجب عليه قتالهم. وأما قتاله للخوارج؛ فلا ريب في ذلك، والأحاديث المتواترة قد دلت على أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وأما أهل صفين؛ فبغيهم ظاهر؛ لو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: " تقتلك الفئة الباغية "؛ لكان ذلك مفيدا للمطلوب. ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي، ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام (¬1) ؛ لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان، فنفق ذلك عليهم، وبذلوا بين يديه دماءهم وأموالهم، ونصحوا له؛ حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار. وليس العجب من مثل عوام الشام؛ إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه، بعض فضلاء التابعين، فليت شعري؛ أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر؛ حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين؛ وقد سمعوا قول الله - تعالى -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ، وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان ¬

_ (¬1) الغتمة - بضم الغين المعجمة وإسكان التاء -: عجمة في المنطق؛ ورجل أغتم: لا يفصح شيئا. (ش)

الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا، وسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار أنه: " تقتله الفئة الباغية "؟ { ولولا عظيم قدر الصحابة، ورفيع فضل خير القرون؛ لقلت: حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأمة كما فتن خلفها} اللهم غفرا (¬1) {} ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة، وحديث عمار بن ياسر المتقدم، فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله - تعالى - على عباده، ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين، ودفع مفاسدهم من غير بصيرة، ولا على وجه المناصحة، فإن انضم إلى ذلك المحاربة له والقيام في وجهه؛ فقد تم البغي، وبلغ إلى غايته، وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: {فإن بغت إحداهما} الآية. وليس القعود عن نصرة الحق من الورع؛ بعد قول الله - عز وجل -: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} . والحاصل: أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس، ولا دخل في الصلح؛ كان ¬

_ (¬1) دخل الشارح في مأزق لا قبل له به، ولا قوة لديه فيه {فما له وما للصحابة؟} ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه {والحاضر يرى ما لا يرى الغائب} وهذه الفتن قد تنسي الحليم نفسه، والذكي عقله {فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة - رضي الله عنهم -؟} وقد غلب على الشارح ما يغلب على الأعجام من التشيع المزري بأهل الأنصاف { وظهور الحجة، وقيام الأدلة على أن الحق بجانب علي؛ لا يسيغ لنا أن نحكم بالبغي على الصحابة الذين خالفوه؛ فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها} ومآل الجميع إلى مولاهم؛ يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل؛ والله أعلم! (ش)

القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به، وأما مع اللبس؛ فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل؛ لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به. وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل؛ فإنه ما زال المجتهدون هكذا، ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل كما ورد في الحديث: أنه يأخذ بيده، ويخلو به ويبذل له النصيحة (¬1) ، ولا يذل سلطان الله. ولا يجوز الخروج على الأئمة - وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ -؛ ما أقاموا الصلاة (¬2) ، ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيه في معصية الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد ابتلي علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم، وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم -؛ فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول؛ أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد؛ فليس أحدهما أولى من الآخر؛ بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما، حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على التخالف؛ كان على أهل ¬

_ (¬1) انظر " السنة " (1096) لابن أبي عاصم. (¬2) • كما في حديث عوف بن مالك في " صحيح مسلم " (6 / 24) . ونحوه حديث أم سلمة عنده (6 / 23) . وحديث عوف يأتي. (ن)

الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك. وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام، أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره، أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته. فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر. فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته، وبايعه أهله؛ كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار؛ فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدري من قام منهم أو مات. فالتكليف بالطاعة - والحال هذه -؛ تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد؛ فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب؛ فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر؛ لا يدرون بمن له الولاية في اليمن، وهكذا العكس. فاعرف هذا؛ فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما يدل عليه

الفصل الخامس من أحكام الإمامة

الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته؛ فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن؛ أوضح من شمس النهار. ومن أنكر هذا؛ فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها، والله المستعان! (¬1) ( [الفصل الخامس: من أحكام الإمامة] ) ( [بيان وجوب طاعة الإمام إلا في معصية الله] :) (وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله) ؛ باتفاق السلف الصالح؛ لقوله - تعالى -: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ، وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة؛ منها: ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا: " اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي؛ كأن رأسه زبيبة (¬2) ؛ ما أقام فيكم كتاب الله ". وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني ". ¬

_ (¬1) وفي كتابي " مسائل علمية في الدعوة والسياسة الشرعية " - المطبوع بمراجعة شيخنا الألباني - تفصيل جيد لهذه المسألة. (¬2) • أي: " حبة عنب سوداء. .، والمراد: وشعر رأسه مقطقط؛ إشارة إلى بشاعة صورته "؛ كذا في " فيض القدير ". (ن)

متى يجوز الخروج على الإمام

وفي " الصحيحين " - أيضا - من حديث ابن عمر، عنه صلى الله عليه وسلم: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره؛ إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا. ( [متى يجوز الخروج على الإمام؟] :) (ولا يجوز الخروج) بعد ما حصل الاتفاق. (عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا) ؛ لحديث عوف بن مالك - عند مسلم (¬1) ، وغيره -، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم "، قال: قلنا: يا رسول الله {أفلا ننابذهم عند ذلك؟} قال: " لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة؛ ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية، ولا ينزعن يدا عن طاعة ". وأخرج مسلم - أيضا -، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال؛ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان "، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله! إن أدركت ذلك؟ ¬

_ (¬1) • (6 / 24) . (ن)

قال: " تسمع وتطيع؛ وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك؛ فاسمع وأطع ". وأخرج مسلم - أيضا -، وغيره من حديث عرفجة الأشجعي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم - وأمركم جميع على رجل واحد -؛ يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه ". وفي " الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[على السمع والطاعة] (¬1) في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ " إلا أن تروا كفرا بواحا؛ عندكم فيه من الله برهان ". والبواح - بالموحدة والمهملة -؛ قال الخطابي: معنى قوله: بواحا: يريد ظاهرا. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه، صلى الله عليه وسلم: " من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة؛ فميتته جاهلية " (¬2) . وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر. وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر: " من حمل علينا السلاح؛ فليس منا ". ¬

_ (¬1) • زيادة لا بد منها. (ن) (¬2) • لفظه في " صحيح مسلم " (6 / 21) : " ثم مات؛ مات ميتة جاهلية ". (ن)

بيان وجوب الصبر على جور الأئمة

وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وسلمة بن الأكوع. والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها. وقد ذهب إلى ما ذكرناه: جمهور أهل العلم. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة - أو وجوبه -؛ تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب، ولا تعارض بين عام وخاص، ويحمل ما وقع من جماعة من أفاضل السلف على اجتهاد منهم، وهم أتقى لله، وأطوع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم. قال في " الحجة البالغة ": " ثم إن استولى من لم يجمع الشروط؛ لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. وبالجملة؛ فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين؛ حل قتاله - بل وجب -؛ وإلا لا؛ وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه؛ بل يخاف مفسدته على القوم، فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله ". انتهى. ( [بيان وجوب الصبر على جور الأئمة] :) (ويجب الصبر على جورهم) ؛ لما تقدم من الأحاديث.

بيان وجوب النصيحة للأئمة

وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى من أميره شيئا يكرهه؛ فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا، فمات؛ فميتته جاهلية ". وفيهما من حديث أبي هريرة - مرفوعا -: " أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ". وأخرج أحمد (¬1) من حديث أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا ذر {كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفيء؟ "؛ قال: والذي بعثك بالحق؛ أضع سيفي على عاتقي، وأضرب حتى ألحقك، قال: " أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟} تصبر حتى تلحقني ". وفي الباب أحاديث كثيرة. ( [بيان وجوب النصيحة للأئمة] ) (وبذل النصيحة لهم) ؛ لما ثبت في " الصحيح " من أن: " الدين النصيحة؛ لله ولرسوله ولأئمة المسلمين " - من حديث تميم الداري بهذا اللفظ -. والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة، وأحق الناس بها الأئمة. ( [بيان ما يجب على الأئمة نحو رعيتهم] :) (وعليهم) ؛ أي: على الأئمة (الذب عن المسلمين، وكف يد الظالم، ¬

_ (¬1) في " المسند " (5 / 180) ؛ وأبو داود (4759) ، وفي سنده جهالة.

وحفظ ثغورهم، وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال، وتفريق أموال الله في مصارفها، وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف، والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة) ؛ وذلك معلوم من أدلة الكتاب والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها. ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام، وهذه الأمور هي التي شرع الله - تعالى - نصب الأئمة لها، فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشيء منها؛ فهو غير مجتهد لرعيته، ولا ناصح لهم؛ بل غاش خائن. وقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد يسترعيه الله رعية؛ يموت - يوم يموت - وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة ". وفي لفظ لمسلم: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم؛ إلا لم يدخل الجنة ". وأخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئا، فرفق بهم؛ فارفق به ". وبالجملة؛ فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر؛ فإنه إن فعل ذلك؛ كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة. وحاصلها: الفوز بنعيم الدنيا والآخرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. (تم الكتاب وربنا محمود ... وله المكارم والعلا والجود) (وعلى النبي محمد صلواته ... ما ناح قمري وأورق عود) [انتهى المجلد الثالث من كتاب " التعليقات الرضية على الروضة الندية "، وبه يتم الكتاب؛ والحمد لله الملك الوهاب] . (¬1) ¬

_ (¬1) • فرغنا من قراءته بمناسبة الاعتداء على مصر ليلة السبت (000 / 4 / 77 هـ) . ثم فرغنا من قراءته كله - حاشا كتاب الوصية - ليلة السبت (29 / 8 / 1379 هـ) . (ن)

§1/1