الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء

الخَيْربَيْتي

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين الْحَمد لله الَّذِي لَهُ الْقُوَّة وَالْقُدْرَة وَالْملك، بتقديره تجْرِي السفن والفلك، وبحكمته الْبَقَاء والهلك. قل: اللَّهُمَّ مَالك الْملك لَك العظمة والكبرياء، والرفعة وَالثنَاء، وَالْمجد والبهاء، تؤتي الْملك من تشَاء، وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء، مِنْك السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، وبتقديرك الآلاء والنعماء، لَك الْبَقَاء ولغيرك الفناء تعز من تشَاء، وتذل من تشَاء. أَحْمَده، على جزيل النعم، وَأَعُوذ بِهِ من وبيل النقم، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه وخلفائه أَجْمَعِينَ، خُصُوصا على صَاحبه الْمصلى فِي محرابه، الْمُقدم على سَائِر أَصْحَابه، الْبر الشفيق، المكنى بعتيق (الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ) ، أبي بكر الصّديق. وعَلى الزَّاهِد الأواب، والفاروق التواب، زين الْأَصْحَاب، حَنَفِيّ الْمِحْرَاب، وَقَاتل المرتاب، أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب.

وعَلى الطَّاهِر من كل شين، الْمَخْصُوص بالابنتين، جَامع الْقُرْآن، مَعْدن الْجُود وَالْإِحْسَان، الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان. وعَلى ذِي النّسَب الرفيع، والجناب المنيع، لَيْث بني غَالب، ومظهر الْعَجَائِب، وَفَارِس الْمَشَارِق والمغارب، الإِمَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب. وعَلى الْإِمَامَيْنِ الهمامين، المظلومين المقتولين، السعيدين الشهيدين، وهما لنبينا بِمَنْزِلَة السّمع والعينين، الْحسن وَالْحُسَيْن.

وعَلى عميه الحمزة، وَالْعَبَّاس، وعَلى جَمِيع الصَّحَابَة الْكِرَام، من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا كثيرا. أما بعد: فَيَقُول العَبْد المفتقر إِلَى الله الْغَنِيّ الْوَدُود، الْجَلِيل، مَحْمُود بن الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الخيربيتي عَفا الله عَنْهُم، وَعَن كَافَّة الْمُسلمين أَجْمَعِينَ: لما كَانَ ملاقاة الْعلمَاء السلاطين، والأمراء والوزراء، والأجناد، من الْأُمُور المستحسنة شرعا، وَعند الملاقاة إيَّاهُم المحاورة مَعَهم، بِمَا يتَعَلَّق بهم، من مقتضيات الْأَحْوَال الَّتِي هِيَ من أَعلَى البلاغة والفصاحة، خُصُوصا حَضْرَة الجناب العالي، صَاحب الْقرَان الأعدل الْأَعْظَم الأعلم، مستخدم أَرْبَاب السَّيْف والقلم، كافل مصَالح أطوار الْأُمَم، افتخار صَنَادِيد الْعَرَب والعجم، عضد الْمُلُوك والسلاطين، ومغيث الملهوفين والمظلومين، ومربي الْعلمَاء وَالْمَسَاكِين، ذِي همة فلكية، وسيرة ملكية، الَّذِي جنابه كعبة الآمال، وعتبته مقبل الإقبال، وكل من محَاسِن شيمه أسنة الأقلام، وَقصر عَن شرح معاليه وأياديه أَلْسِنَة أَبنَاء اللَّيَالِي وَالْأَيَّام.

شعر: (الْكَامِل) (أبكى وأضحك خَصمه ووليه ... بِالسَّيْفِ والقلم الضحوك الباكي) (الدّرّ والدرى خافا جوده ... فتحصنا فِي الْبَحْر والأفلاك) سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، الْملك الظَّاهِر مُحَمَّد أَبُو سعيد جقمق أَعلَى الله - تَعَالَى - شَأْنه، وضاعف إحسانه، وأعز أنصاره وأعوانه، وَبلغ فِي الدَّاريْنِ إِرَادَته، كَمَا بلغه أبعد غايات الْعِزّ والإقبال، وَملكه أزمة أُمُور الأقاليم، كَمَا ملكه أَعِنَّة الْفضل والأفضال، وأسبغ ظلاله على مفاريق الْخَواص والعوام، وَجعل أياديه ذخْرا للأنام، بِحَق سيدنَا مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَوْلَاده المعصومين الْعِظَام، وَأَصْحَابه الْمُتَّقِينَ الْكِرَام. أردْت امْتِثَال أَمر من أمره طَاعَة، وَحقه لَا يُؤَدِّي على مَا يجب، وَلَكِن على قدر الِاسْتِطَاعَة، بِأَن أجمع لخزانته الشَّرِيفَة نُسْخَة مُشْتَمِلَة بضبط قَوَاعِد السلاطين، والقضاة، والأمراء، والوزراء والولاة، وَمِمَّا لَا بُد مِنْهُ للنَّاس من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة من المشكلات، والواقعات، وسميتها: (الدرة الغراء فِي نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء) . وأسأل الله تَعَالَى التَّوْفِيق فِي الْفَاتِحَة والخاتمة بمنه وجوده، إِنَّه على مَا يَشَاء قدير، وبالإجابة جدير، وجعلتها عشرَة أَبْوَاب شَامِلَة كَمَا قَالَ: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} " الْبَقَرَة: 196 ".

راجيا من الله تَعَالَى فِي ذَلِك الثَّوَاب، بِقدر الوسع والإمكان، بِفضل الْملك المنان وَذَلِكَ فِي غرَّة ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة. الْبَاب الأول: فِي الْإِمَامَة. الْبَاب الثَّانِي: فِي شُرُوط الْإِمَامَة. الْبَاب الثَّالِث: فِي حكم الإِمَام. الْبَاب الرَّابِع: فِي قَوَاعِد الْإِمَامَة، وَأَحْوَالهَا الْبَاب الْخَامِس: فِي الوزارة الْبَاب السَّادِس: فِي قَوَاعِد الأجناد الْبَاب السَّابِع: فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالأمراء والسلاطين. الْبَاب الثَّامِن: فِي الْحِيَل الشَّرْعِيَّة الْبَاب التَّاسِع: فِي تَنْبِيه الْمُجيب فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة الْبَاب الْعَاشِر: فِي الْمسَائِل المتفرقة اللَّهُمَّ اهدنا من عنْدك، وأفض علينا من فضلك، وانشر علينا من رحمتك، وَأنزل علينا من بركاتك، وألهمنا الْقيام بحقك، وَبَارك لنا فِي الْحَلَال من رزقك، وعد علينا فِي كل حَال برفقك، وانفعني بِمَا أَقُول والحاضرين من خلقك، بِرَحْمَتك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ، وَيَا خير الناصرين، آمين يَا رب الْعَالمين.

الباب الأول

الْبَاب الأول فِي الْإِمَامَة اعْلَم أَن الإِمَام اسْم لمن اؤتم بِهِ، وَالْمرَاد مِنْهُ: الْخلَافَة، وَهِي: رياسة

عَامَّة فِي الدّين وَالدُّنْيَا، لَا عَن دَعْوَى النُّبُوَّة، فَيخرج النُّبُوَّة وَالْقَضَاء.

وَفِي كتاب " التَّجْرِيد ": " الإِمَام ": خلَافَة شخص للرسول فِي إِقَامَة قوانين شَرْعِيَّة، وَحفظ حوزة الْإِسْلَام، على وَجه يجب اتِّبَاعه على كَافَّة الْأمة، وَبِه اخْتَار جَامع " الْحَقَائِق ". ثمَّ لَا بُد للنَّاس من نصب إِمَام يقوم بمصالحهم، من إنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم، وتنفيذ الْأَحْكَام، وتزويج الْأَيْتَام، وَقطع الْمُنَازعَة بَين الْأَنَام، وَإِقَامَة الأعياد وَالْجمع وَالْحُدُود، وَأخذ العشور وَالزَّكَاة وَالصَّدقَات، وصرفها إِلَى

مصارفها بِمُوجب الشَّرْع، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطَّرِيق، وَقبُول الشَّهَادَات الْقَائِمَة على الْحُقُوق، وَإِقَامَة السياسة على الْعَوام، والحراسة لبيضة الْإِسْلَام، وتجهيز جيوشهم، وتقسيم غنائمهم، وَحفظ أَمْوَال بَيت المَال، وأموال الْغَانِمين، وأموال الْيَتَامَى، وَإِقَامَة هَذِه الْأُمُور وَاجِبَة، وَمَا لَا يُمكن إِقَامَة الْوَاجِب إِلَّا بِهِ يكون وَاجِبا. وَاخْتلفُوا فِي نصب الإِمَام هَل يجب بِالسَّمْعِ، أَو بِالْعقلِ والسمع؟

أوجبه أهل السّنة - وَأكْثر الْمُعْتَزلَة على النَّاس بِالسَّمْعِ وَالْعقل.

أما الْعقل: فَظَاهر، وَأما السّمع: فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " من مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إِمَام فقد مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة. وَيدل أَيْضا على وجوب نصب الإِمَام إِجْمَاع الصَّحَابَة بعد موت الرَّسُول، وَلم يَقع الِاخْتِلَاف فِي نصب الإِمَام، بل الِاخْتِلَاف وَقع فِي تعْيين الإِمَام.

وَلَا يجوز نصب إمامين فِي عصر وَاحِد، خلافًا لبَعض الروافض، لأَنهم يَزْعمُونَ أَن فِي كل عصر إمامين: صَامت، وناطق، فَإِن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، لم يجوزوا ذَلِك، لِأَنَّهُ روى: أَن الْأَنْصَار قَالُوا: منا أَمِير

ومنكم أَمِير، قَالَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ: لَا يصلح سيفان فِي غمد وَاحِد، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، فَكَانَ كَون الإِمَام وَاحِدًا بِالْإِجْمَاع. وَلَو عقدت الْإِمَامَة لاثْنَيْنِ، فالإمام هُوَ الأول، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من بَايع إِمَامًا فَأعْطَاهُ صَفْقَة يَده، وَثَمَرَة قلبه، فليعطه إِن اسْتَطَاعَ، فَإِن جَاءَ آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ".

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا بُويِعَ لخليفتين، فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا ". وَإِن عقدتا مَعًا يسْتَأْنف العقد، وَالثَّانِي تَحت يَد الأول، وَإِن أَبى الثَّانِي يُقَاتل كالباغي. وَقَالَ فِي " الصحائف ": يجوز نصب إمامين فِي عصر وَاحِد، إِذا تبَاعد التلاقى بِحَيْثُ لَا يصل المدد من أَحدهمَا إِلَى الآخر. ثمَّ يَنْبَغِي أَن يكون الإِمَام ظَاهرا فِي كل عصر، ليمكنه الْقيام بِمَا نصب هُوَ لَهُ، لِأَن نصب الإِمَام لقِيَام مصَالح النَّاس، وَلَا يصلح ذَلِك بالمختفى خلافًا للروافض، فَإِنَّهُم ينتظرون إِلَى خُرُوج الْمهْدي.

الباب الثاني

الْبَاب الثَّانِي فِي شُرُوط الْإِمَامَة أما شُرُوط الْإِمَامَة فبعضها لَازم لَا تَنْعَقِد الْإِمَامَة إِلَّا بِهِ، وَبَعضهَا شَرط الْكَمَال يَصح للترجيح، وَبَعضهَا مُخْتَلف فِيهِ. أما اللَّازِم، فالذكورة، وَالْحريَّة، وَالْبُلُوغ، وَالْعقل، وَالْعلم، وأصل الشجَاعَة، وَهُوَ أَن يكون قوي الْقلب، وَأَن يكون قرشيا، أَو يكون مِمَّن نَصبه الْقرشِي.

أما " الذُّكُورَة ": فَلِأَن الْمَرْأَة لَا تصلح للقهر وَالْغَلَبَة، وجر العساكر، وتدبير الحروب، وَإِظْهَار السياسة غَالِبا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بقوله: " كَيفَ يفلح قوم تملكهم امْرَأَة ". وَأما " الْحُرِّيَّة "، و " الْبلُوغ "، و " الْعقل "، فَإِن العَبْد وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون مولى عَلَيْهِم فِي تصرفاتهم، فَمن لم تكن لَهُ ولَايَة على نَفسه، فَكيف تكون لَهُ الْولَايَة على غَيره؟ . وَأما " الْعلم "، فَلِأَن بِالْعلمِ تتضح الْأَشْيَاء الْخفية، وَيتم بِالْعلمِ السلطنة والإمارة، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر: " إِن الله - تَعَالَى - خير سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام بَين الْعلم وَالْملك، فَاخْتَارَ الْعلم، فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى الْملك وَالْعلم جَمِيعًا. وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد وَسليمَان علما وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ} (النَّمْل 15) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْعلمَاء مصابيح الْجنَّة وخلفاء الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.

وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله: " خير الْمُلُوك من جَالس أهل الْعلم ". وَقيل: إِن جَمِيع الْأَشْيَاء يتجمل بِالنَّاسِ، وَالنَّاس يتجملون بِالْعلمِ، وَتَعْلُو أقدارهم بِالْعقلِ، وَلَيْسَ للملوك أخير شَيْء من الْعلم وَالْعقل، فَإِن الْعلم سَبَب بَقَاء الْعِزّ ودوامه، وَالْعقل سَبَب بَقَاء السرُور ونظامه. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله: " إِن هَذَا الْعلم يزِيد الشريف شرفا، ويبلغ الْمَمْلُوك مقَام الْمُلُوك ". وَقَالَ الله تَعَالَى: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} . (النِّسَاء: 59) .

انحصر قَول الْمُفَسّرين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أَن المُرَاد من " أولى الْأَمر " الْأُمَرَاء وَالْعُلَمَاء. فَإِذا اتّصف الْأَمِير بِالْعلمِ يكون مرَادا بإجماعهم، فحقيق على من يقوم مقَام النُّبُوَّة أَن يُطِيع النَّاس لَهُ. وَقيل: لَا بُد لِلْأُمَرَاءِ من ثَلَاثَة أَشْيَاء: الْعلم، والمعرفة، وَالْعقل. فَمثل الْعلم كَالنُّجُومِ، فَإِنَّهَا كَثِيرَة لَا غَايَة لَهَا وَلَا نِهَايَة، وَمثل الْمعرفَة كَالشَّمْسِ، لِأَنَّهَا أبدا تكون مضيئة، ونورها لَا يَنْقَطِع، لَا يزِيد وَلَا ينقص. وَأما الْعقل فَمثله كَمثل الْقَمَر تَارَة يزِيد، وَتارَة ينقص وينكسف. وَيدل على شرف الْعلم أَن كل شَيْء أعطَاهُ الله تَعَالَى لنَبيه مُحَمَّد - عَلَيْهِ السَّلَام - لم يقل فِيهِ قل: " رب زِدْنِي " إِلَّا فِي الْعلم، فَقَالَ الله تَعَالَى لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام: {وَقل رب زِدْنِي علما} . (النِّسَاء 59) فَمن أَرَادَ أَن يكمل سلطنته وإمارته، يَنْبَغِي لَهُ أَن يكون عَالما، أَو يكون حَرِيصًا بحب الْعلمَاء وحضورهم عِنْده، وَيقبل نصيحتهم. وَأما أصل " الشجَاعَة ": يَكْفِي للْإِمَامَة بِحَيْثُ يكون بِحَال يُمكنهُ جر العساكر، وَإِقَامَة الْحُدُود، ومقاتلة الْعَدو، وَإِن لم يقدر أَن يُقَاتل مَعَ الْعَدو بِنَفسِهِ.

وَأما " نسب قُرَيْش "، فَلقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْأَئِمَّة من قُرَيْش " وَاللَّام تفِيد الْعُمُوم حَيْثُ لَا عهد. واتفقت الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ على قبُول هَذَا الحَدِيث، وَالْعَمَل بِهِ حِين رَوَاهُ أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - محتجا بِهِ على الْأَنْصَار.

وَأما شَرط " الْكَمَال ": فَهُوَ التَّقْوَى، يَعْنِي يَنْبَغِي أَن يكون الإِمَام متقيا عَن الْحَرَام والشبهات، وَيكون ورعا صَالحا ليأمن الْخَلَائق على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ، وتميل قُلُوب الْخَلَائق إِلَيْهِ، وَلَا تنفر عَنهُ، لما روى عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " كَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا بعث أحدا من أَصْحَابه فِي بعض أمره قَالَ: " بشروا وَلَا تنفرُوا ويسروا وَلَا تُعَسِّرُوا ". فالتقوى شَرط الْكَمَال عندنَا.

وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله هُوَ شَرط وَكَذَا كَون الإِمَام مَعْصُوما -

الْجَوَاز والانعقاد، وَكَذَا عِنْد الْخَوَارِج والمعتزلة، فَإِن عِنْد الشَّافِعِي رَحمَه الله الْفَاسِق لَيْسَ بِأَهْل للشَّهَادَة وَالْقَضَاء، فَأولى أَلا يكون أَهلا للخلافة، وَعند الْمُعْتَزلَة الْفَاسِق لَيْسَ بِمُؤْمِن، لِأَنَّهُ يخرج بِالْفِسْقِ عَن الْإِيمَان، وَعند الْخَوَارِج يكفر بِالْفِسْقِ، فَلَا يكون أَهلا للخلافة. وَذكر فِي فَتَاوَى " الْمنية ": " الْعَدَالَة فِي الْإِمَامَة والإمارة وَالْقَضَاء شَرط الْأَوْلَوِيَّة، لَا شَرط الصِّحَّة. وَأما عِنْد أبي حنيفَة وَأَصْحَابه رَحِمهم الله كَون الإِمَام من بني هَاشم لَيْسَ بِشَرْط، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. وَقَالَ بعض أهل الروافض: هُوَ شَرط.

وَأما كَونه " أفضل أهل زَمَانه ": فَعِنْدَ الشَّيْخ أبي مَنْصُور الماتريدي لَيْسَ بِشَرْط، وَهُوَ مَذْهَب الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ رَحمَه الله. وَقَالَ أَكثر الروافض: لَا تَنْعَقِد إِمَامَة الْمَفْضُول مَعَ قيام الْفَاضِل، وَوَافَقَهُمْ على ذَلِك بعض أهل السّنة، وَإِلَيْهِ مَال الْأَشْعَرِيّ. وَالصَّحِيح: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور رَحمَه الله.

أَي مَحْفُوظًا من الْعِصْيَان - لَيْسَ بِشَرْط عندنَا، خلافًا للباطنية.

وَأما انْعِقَاد الْخلَافَة فبأربعة أَشْيَاء: إِمَّا بتنصيص الله تَعَالَى: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} (الْبَقَرَة: 247) أَو بتنصيص رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات فِي حق سُلَيْمَان بتنصيص دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام. وكما جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات فِي حق أبي بكر الصّديق رَحمَه الله.

وَأما سَبَب انْعِقَاد خلَافَة سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام - فَمَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " نزل كتاب من السَّمَاء إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام مختوم

فِيهِ تسع مسَائِل أَن سل ابْنك سُلَيْمَان، فَإِن هُوَ أخرجهن، فَهُوَ الْخَلِيفَة بعْدك، فَدَعَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام سبعين قسا وَسبعين حبرًا، وأجلس سُلَيْمَان بَين أَيْديهم، وَقَالَ: نزل كتاب من السَّمَاء فِيهِ تسع مسَائِل أمرت أَن أَسأَلك إياهن، فَإِن أَنْت أخبرتهن، فَأَنت الْخَلِيفَة بعدِي، قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: ليسأل نَبِي الله عَمَّا بدا لَهُ، " وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه " (هود 88) . قَالَ: مَا أقرب الْأَشْيَاء؟ وَمَا أبعد الْأَشْيَاء؟ وَمَا آنس الْأَشْيَاء؟ وَمَا أوحش الْأَشْيَاء؟ ، وَمَا القائمان؟ وَمَا المختلفان؟ وَمَا المتباغضان؟ وَمَا الْأَمر الَّذِي إِذا رَكبه الرجل حمد آخِره؟ . وَمَا الْأَمر الَّذِي إِذا رَكبه الرجل ذمّ آخِره؟ قَالَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام: أما أقرب الْأَشْيَاء: فالآخرة. وَأما أبعد الْأَشْيَاء: فَمَا فاتك من الدُّنْيَا. وَأما آنس الْأَشْيَاء: فجسد فِيهِ روح، وَأما أوحش الْأَشْيَاء: فجسد لَا روح فِيهِ. فَأَما القائمان فالسماء وَالْأَرْض. وَأما المختلفان: فالليل وَالنَّهَار. وَأما المتباغضان فالموت والحياة، كل يبغض صَاحبه. وَأما الْأَمر الَّذِي إِذا رَكبه الرجل حمد آخِره: فالحلم على الْغَضَب. وَأما الْأَمر الَّذِي إِذا رَكبه الرجل ذمّ آخِره: فالحدة على الْغَضَب. قَالَ: ففك الْخَاتم، فَإِذا هَذِه الْمسَائِل سَوَاء على مَا نزل من السَّمَاء: فَقَالَ القسيسون والأحبار: لن نرضى بذلك حَتَّى نَسْأَلهُ عَن مَسْأَلَة، فَإِن هُوَ أخْبرهَا، فَهُوَ الْخَلِيفَة، من بعْدك، قَالَ: سلوه، قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: سلوني بِتَوْفِيق الله. قَالُوا: مَا الشَّيْء الَّذِي إِذا صلح صلح كل شَيْء مِنْهُ، وَإِذا فسد فسد كل شَيْء مِنْهُ؟ قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: هُوَ الْقلب، إِذا صلح صلح كل شَيْء مِنْهُ، وَإِذا فسد فسد كل شَيْء مِنْهُ. قَالُوا: صدقت، أَنْت الْخَلِيفَة بعده.

وَدفع إِلَيْهِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام قضيب الْملك، ومامات إِلَّا من الْغَد. فَملك خَمْسمِائَة سنة وَسِتَّة أشهر أهل الدُّنْيَا كلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس، وَالشَّيَاطِين وَالدَّوَاب وَالطير وَالسِّبَاع، وَأعْطِي علم كل شَيْء، ومنطق كل شَيْء حَتَّى قَالَ: " علمنَا منطق الطير وأوتينا من كل شَيْء ". (النَّمْل 16) وَقيل: تَنْعَقِد الْخلَافَة أَيْضا بتنصيص الإِمَام السَّابِق على تَعْيِينه، كَمَا ثبتَتْ إِمَامَة عمر - رَضِي الله عَنهُ - باستخلاف أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - إِيَّاه. وَقد نَص أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ من بعده، واستخلفه بَعْدَمَا شاور أجل الصَّحَابَة، فَقَالُوا: وليت علينا فظا غليظا، فَمَا أَنْت قَائِل لِرَبِّك إِذا سَأَلَك عَن استخلافه علينا؟ فَقَالَ: " أجلسوني، أبالله تخوفونني؟ خَابَ من تردد عَلَيْكُم من أَمركُم بظُلْم إِذن أَقُول لرَبي: اسْتخْلفت عَلَيْهِم خير عِبَادك ".

(صفحة فارغة)

وَلما قَالَ لأبي بكر ابْنه رَضِي الله عَنهُ: " إِن قُريْشًا تكره ولَايَة عمر - رَضِي الله عَنهُ - وتحب ولَايَة عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " نعم الرجل عُثْمَان، وَلَكِن الْوَالِي عمر ". وَأوصى أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " يَا عمر، احفظ حق الرّعية، فَإِن الله - تَعَالَى - يَسْأَلك عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة، كي لَا تَسْتَحي عَنهُ ".

وَقيل: تثبت الْخلَافَة بِاخْتِيَار أهل الْعدْل والرأي كَمَا ثَبت بِهِ إِمَامَة أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - فِي بعض الرِّوَايَات، وَهُوَ قَول أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَلَا خلاف فِي ذَلِك.

(صفحة فارغة)

وَقَالَ الروندي: الْإِمَامَة تثبت بالوراثة، وَهَذَا القَوْل يُخَالف إِجْمَاع الصَّحَابَة، رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.

وَأما لَو استولى مستعد لَهُ شَوْكَة على خطة الْإِسْلَام، فَلَا تثبت لَهُ الْإِمَامَة عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة عِنْد عدم الشَّرَائِط الْمَذْكُورَة فِيهِ، لَكِن الطَّاعَة وَاجِبَة عَلَيْهِ، دفعا للفتنة.

وَقَالَ بعض الروافض: الْإِمَامَة لَا تثبت إِلَّا بتنصيص الإِمَام. ثمَّ يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يكون اعْتِقَاده فِي تَفْضِيل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة بعد النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ - صلى الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - على من سواهُم من الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - على مَا اجْتمع عَلَيْهِ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَهُوَ أَن أَبَا بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أفضل النَّاس بعد رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ثمَّ بعد أبي بكر عمر الْفَارُوق أفضل، ثمَّ بعد عمر عُثْمَان أفضل، على قَول عَامَّة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، إِلَّا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة - رَحمَه الله - أَنه كَانَ يفضل عليا على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ قَول الْحسن بن الْفضل الْبَلْخِي رَحمَه الله، وَالصَّحِيح مَا عَلَيْهِ عَامَّة أهل السّنة، وَهُوَ الظَّاهِر من قَول أبي حنيفَة - رَحمَه الله - ثمَّ بعد عُثْمَان عَليّ رَضِي الله عَنهُ أفضل، إِذْ هُوَ خَاتم الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ". كَانَت سنتَيْن لأبي بكر، وَعشرَة لعمر، واثنى عشر لعُثْمَان، وَسِتَّة لعَلي، فتمت الْخلَافَة ثَلَاثِينَ سنة. شعر (الرجز) (حولان للصديق عشر للنقي ... ستان للعثمان سِتّ للعلي) وَأما القَوْل فِي أَوْلَادهم: قَالَ بَعضهم: لَا نفضل من بعدهمْ أحدا، إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالتَّقوى، وَالأَصَح أَن يفضل أَوْلَادهم على تَرْتِيب فضل آبَائِهِم، إِلَّا أَوْلَاد فَاطِمَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، فَإِنَّهُم يفضلون على أَوْلَاد أبي بكر وَعمر

وَعُثْمَان لقربهم من الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وهم العترة الطاهرة، والذرية الطّيبَة، الَّذين أذهب الله عَنْهُم الرجس، وطهرهم تَطْهِيرا. فَأَما القَوْل فِي عُمُوم الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - فهم أفضل الْأمة بعد هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة بِشَهَادَة النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - إيَّاهُم بالخيرية لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " خير الْقُرُون الْقرن الَّذِي أَنا فيهم " إِذْ هم المختارون بِصُحْبَة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- الْعَامِلُونَ بنصرة دين الله، فَمن السّنة أَن نعتقد محبتهم على الْعُمُوم، ونكف لساننا عَن الطعْن والقدح فِي وَاحِد مِنْهُم، وَلَا نذْكر مَا شجر بَينهم، بل نكل أَمرهم إِلَى الله - تَعَالَى - ونقول: {تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسئلون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} {الْبَقَرَة: 134} .

وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من أحب أَصْحَابِي، وأزواجي، وَأهل بَيْتِي، وَلم يطعن فِي وَاحِد مِنْهُم، وَخرج من الدُّنْيَا على محبتهم، كَانَ معي فِي درجتي يَوْم الْقِيَامَة ". ثمَّ بعد اعْتِقَاد الإِمَام أَن تَرْتِيب الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة - رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - فِي التَّفْضِيل كترتيبهم فِي الْخلَافَة، يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يصرف عمره إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ مَا قَالَ الْأَوْزَاعِيّ رَحمَه الله: " خمس كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لُزُوم الْجَمَاعَة، وَاتِّبَاع السّنة وَعمارَة الْمَسْجِد، وتلاوة الْقُرْآن، وَجِهَاد فِي سَبِيل الله ".

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أَربع إِلَى الْوُلَاة: الفئ، وَالْجُمُعَة، وَالْحُدُود، وَالصَّدقَات ". وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " ضمن الإِمَام أَرْبعا: الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، الْحُدُود، والفيء ". وكما حكى: أَن شقيقا الْبَلْخِي دخل على هَارُون الرشيد - رَحمَه الله - فَقَالَ لَهُ هَارُون الرشيد: أَنْت شَقِيق الزَّاهِد؟ فَقَالَ: أَنا شَقِيق، وَلست بزاهد، فَقَالَ لَهُ: أوصني. فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى قد أجلسك مَكَان الصّديق، وَإنَّهُ يطْلب مِنْك مثل صدقه، وأعطاك مَوضِع عمر بن الْخطاب الْفَارُوق، وَهُوَ يطْلب مِنْك الْفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل مثله، وأقعدك مَكَان ذِي النورين، وَإنَّهُ يطْلب مِنْك حياءه، وَكَرمه، وأقعدك مَوضِع عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - وَإنَّهُ يطْلب مِنْك الْعلم وَالْعدْل كَمَا يطْلب مِنْهُ.

فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي من وصيتك. فَقَالَ: نعم، إِن لله تَعَالَى دَارا تعرف بجهنم، وَإنَّهُ قد جعلك بواب تِلْكَ الدَّار، وأعطاك ثَلَاثَة أَشْيَاء: بَيت المَال، وَالسَّوْط وَالسيف، وأمرك أَن تمنع الْخلق من دُخُول النَّار بِهَذِهِ الثَّلَاثَة، فَمن جَاءَك مُحْتَاجا، فَلَا تَمنعهُ من بَيت المَال، وَمن خَالف أَمر دينه - تَعَالَى - فأدبه بِهَذَا السَّوْط، وَمن قتل نفسا بِغَيْر حق فاقتله بِالسَّيْفِ، بِإِذن ولي الْمَقْتُول، فَإِن لم تفعل مَا أَمرك الله - تَعَالَى - فَأَنت تكون الْغَرِيم لأهل النَّار، والمتقدم إِلَى أهل الْبَوَار. فَقَالَ: زِدْنِي من الْوَصِيَّة. فَقَالَ: إِنَّمَا مثلك كَمثل معِين المَاء، وَمثل سَائِر الْعلمَاء كَمثل السواقي، فَإِذا كَانَ الْمعِين صافيا لَا يضر كدر السواقي، وَإِذا كَانَ الْمعِين كدرا لَا ينفع صفاء السواقي وَالله أعلم وَأحكم.

الباب الثالث

الْبَاب الثَّالِث فِي كَيْفيَّة حكم الإِمَام قَالَ الله تَعَالَى: {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب} (ص 26) . وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " اللَّهُمَّ من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا، فشق عَلَيْهِم فاشقق عَلَيْهِ، وَمن ولي من أَمر أمتِي شَيْئا، فرفق بهم فارفق بِهِ ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن أحب النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأقربهم مِنْهُ مَجْلِسا إِمَام عَادل، وَإِن أبْغض النَّاس إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة وأبعدهم مِنْهُ مَجْلِسا إِمَام جَائِر ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا من أَمِير عشيرة إِلَّا يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة مغلولا حَتَّى يفك عَنهُ الْعدْل، أَو يوبقه الْجور ".

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من أهان سُلْطَان الله فِي الأَرْض، أهانه الله " أَي: من أذلّ حَاكما، بِأَن آذاه وَعَصَاهُ، أهانه الله. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: قَالَ الله - تَعَالَى - فِي بعض الْكتب: " أَنا الله ملك الْمُلُوك، وَمَالك الْملك، قُلُوب الْمُلُوك وَنَوَاصِيهمْ بيَدي، فَإِن الْعباد أطاعوني جعلتهم عَلَيْهِم رَحْمَة، وَإِن عصوني جعلتهم عَلَيْهِم عُقُوبَة، فَلَا تشتغلوا بسب الْمُلُوك، وَلَكِن تُوبُوا إِلَى أعطفهم عَلَيْكُم ". اعْلَم أَن الله - تَعَالَى - جلت عَظمته، وتوالت نعمه، وَتَتَابَعَتْ آلاؤه وسبقت رَحمته أثبت فِي الْآيَة السَّابِقَة عشرَة أَحْكَام، رَحْمَة للملوك والأمراء، وتنبيها على حفظ المملكة وَالْأَدَاء، وَكَمَال أدب السلطنة والمعدلة وَالْقَضَاء. الأول مِنْهَا: أَنه قَالَ: {إِنَّا جعلناك خَليفَة} (ص: 26) يَعْنِي: نَحن أعطيناك الْخلَافَة. فَيَنْبَغِي للملوك أَن يعلمُوا أَن السلطنة من الله تَعَالَى، وَمن نعمه على الْمُلُوك لَا من غَيره، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء} (آل عمرَان: 26) . وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَولا أَن يعرف قدر الْولَايَة، وَيعلم خطرها، فَإِن الْولَايَة نعْمَة من نعم الله تَعَالَى، من قَامَ بِحَقِّهَا نَالَ من السَّعَادَة مَا لَا نِهَايَة لَهُ، وَلَا سَعَادَة بعده، وَمن قصر عَن النهوض بِحَقِّهَا حصل فِي شقاوة لَا شقاوة بعْدهَا، إِلَّا الْكفْر بِاللَّه تَعَالَى، وَالدَّلِيل على عظم قدرهَا وجلالة خطرها، مَا روى عَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَنه قَالَ: " عدل السُّلْطَان يَوْمًا وَاحِدًا أفضل من عبَادَة سبعين سنة.

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة لَا يبْقى ظلّ وَلَا ملْجأ إِلَّا ظلّ الله تَعَالَى، وَلَا يستظل بظله إِلَّا سَبْعَة أنَاس: إِمَام عَادل عدل فِي رَعيته، وشاب نَشأ فِي عبَادَة ربه، وَرجل يكون فِي السُّوق وَقَلبه فِي الْمَسْجِد، ورجلان تحابا فِي الله، وَرجل ذكر الله تَعَالَى فِي خلوته، وأذرى دمعه من مقلته، وَرجل دَعَتْهُ إمرأة ذَات جمال وَمَال إِلَى نَفسهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف الله، وَرجل تصدق سرا بِيَمِينِهِ، وَلم يشْعر شِمَاله ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أحب النَّاس إِلَى الله - تَعَالَى - وأقربهم مِنْهُ السُّلْطَان الْعَادِل، وأبغضهم إِلَيْهِ وأبعدهم عَنهُ السُّلْطَان الجائر ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِنَّه ليرْفَع للسُّلْطَان الْعَادِل إِلَى السَّمَاء من الْعَمَل مثل عمل جملَة رَعيته، وكل صَلَاة يُصليهَا تعدل سبعين ألف صَلَاة ". فَإِذا كَانَ كَذَلِك، فَلَا نعْمَة أجل من أَن يعْطى العَبْد دَرَجَة السلطة، وَيجْعَل سَاعَة من عمره بِجَمِيعِ عمر غَيره، وَمن لم يعرف قدر هَذِه النِّعْمَة، واشتغل بظلمة وهواه يخَاف عَلَيْهِ أَن يَجعله الله تَعَالَى من جملَة أعدائه، كَمَا قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَام) : " مَا من عبد ولاه الله تَعَالَى أَمر رعية فغشهم، وَلم ينصح لَهُم، وَلم يشفق عَلَيْهِم إِلَّا حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ".

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من ولى أُمُور النَّاس وَلم يحفظهم كحفظه أهل بَيته، فقد تبوأ مَقْعَده من النَّار ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " رجلَانِ من أمتِي يحرمان شَفَاعَتِي: ملك ظَالِم ومبتدع غال فِي الدّين بتعدي الْحُدُود ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة السُّلْطَان الظَّالِم ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " خَمْسَة قد غضب الله عَلَيْهِم، وَإِن شَاءَ أمضى غَضَبه، ومقرهم النَّار: أَمِير قوم يَأْخُذ حَقه مِنْهُم، وَلَا ينصفهم من نَفسه، وَلَا يرفع الظُّلم عَنْهُم، وَرَئِيس قوم يطيعونه، وَهُوَ لَا يُسَاوِي بَين الْقوي والضعيف، وَيحكم بالميل والمحاباة، وَرجل لَا يَأْمر أَهله وَأَوْلَاده بِطَاعَة الله - تَعَالَى وَلَا يعلمهُمْ أُمُور الدّين، وَلَا يُبَالِي من أَيْن أطْعمهُم، وَرجل اسْتَأْجر أَجِيرا، فتم عمله وَمنعه أجرته، وَرجل ظلم زَوجته فِي صَدَاقهَا ". وَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يُؤْتى بالولاة يَوْم الْقِيَامَة، فَيَقُول الله جلّ وَعلا: أَنْتُم كُنْتُم رُعَاة خلقي وخزنة ملكي فِي أرضي: ثمَّ يَقُول لأَحَدهم: لم ضربت عبَادي فَوق الْحَد الَّذِي أمرت بِهِ؟ فَيَقُول: يَا رب، لأَنهم عصوك وخالفوك، فَيَقُول الله جلّ جَلَاله: لَا يَنْبَغِي أَن يسْبق غضبك غَضَبي، ثمَّ يَقُول لآخر: لم ضربت عبَادي أقل من الْحَد الَّذِي أمرت بِهِ؟ فَيَقُول: يَا رب رحمتهم، فَيَقُول جلّ وَعلا: كَيفَ تكون أرْحم مني؟ ثمَّ يَقُول الله جلّ وَعلا: خُذُوا الَّذِي زَاد، وَالَّذِي نقص فاحشوا بهما فِي زَوَايَا جَهَنَّم ".

وَعَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ - وَجَمَاعَة من أهل بَيته: إِنَّا كُنَّا نَدْعُو الله تَعَالَى أَن يرينا عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي الْمَنَام فرأيته بعد اثْنَتَيْ عشرَة سنة يَجِيء خلف رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف نَبِي وَمِائَة وَعشْرين نَبيا، فَقلت: يَا أبي، قف سَاعَة، فَقَالَ: لَيْسَ وَقت الْموقف، لِأَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- مَعَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء يذهبون بِي إِلَى مَوضِع الْحساب، ويشفعون لي، لَعَلَّ الله - تَعَالَى - يخلصني بشفاعتهم، فَقلت: يَا أَب، كَيفَ حالك فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة؟ قَالَ: كنت فِي عتاب الله تَعَالَى، فطلبني الله تَعَالَى من حِسَاب الرّعية، إِلَى أَن قَالَ: كَانَ فِي الشَّام قنطرة وَلها ثقب، فَرسَخ فِيهِ قَوَائِم عنَاق عَجُوز، فَكسر أحد قَوَائِم عنَاق الْعَجُوز، فَقَالَ لي: لم لم تعمر ذَلِك القنطرة كي لَا يكون زحمة لذَلِك العناق؟ فَقلت: يَا رب، إِنِّي كنت فِي الْمَدِينَة، فَلم يكن لي خبر من ذَلِك القنطرة فَقَالَ الله تَعَالَى: يَا عمر لم أخذت من ولَايَة الدُّنْيَا مِقْدَارًا لَا تقدر على خَبره؟ فَإِذا كَانَ حَال الْأَمِير الْعَادِل هَكَذَا، فَكيف حَال الْأَمِير الظَّالِم، الَّذِي يظلم كل يَوْم ألف فَقير وَألف عَجُوز. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: رأى عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَبَاهُ عمر، فَسَأَلَ عَن حَاله، فَقَالَ: لما وضعتموني فِي الْقَبْر فَذَهَبُوا بِي إِلَى شَفير جَهَنَّم، فسألوني عَن النقير والقطمير، وَعَن جَمِيع أَحْوَال رعيتي، إِلَى أَن قَالُوا: قد كَانَ فِي ولايتك امْرَأَة عَجُوز، وَلها بقرة، فعقدت ثديها بالحبل شَدِيدا، وَكَانَ ذَلِك فِي

ولايتك، لم غفلت عَن ظلم الْعَجُوز بِتِلْكَ الْبَقَرَة، وَلم تمنع ظلم الْعَجُوز عَن الْبَقَرَة؟ . فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن خطر الْولَايَة عَظِيم، وخطبها جسيم، وَالشَّرْح فِي ذَلِك طَوِيل، وَلَا يسلم الْوُلَاة مِنْهُ إِلَّا بمقارنة عُلَمَاء الدّين، ليعلموا الْوُلَاة طرق الْعدْل، وليسهلوا عَلَيْهِم خطر هَذَا الْأَمر، وَأَن يَجْعَل الْوَالِي كَلَام الله تَعَالَى نصب عَيْنَيْهِ، ويشتاق أبدا إِلَى رُؤْيَة عُلَمَاء الدّين، ويحرص على اسْتِمَاع نصحهمْ، ويحذر من رُؤْيَة عُلَمَاء السوء، الَّذين يحرصون على الدُّنْيَا، فَإِنَّهُم يثنون عَلَيْك، ويغرونك وَيطْلبُونَ رضاك طَمَعا فِيمَا فِي يدك من خَبِيث حطام، ووبيل حرَام، ليحصلوا مِنْهُ شَيْئا بالمكر والحيل، والعالم الصَّالح هُوَ الَّذِي لَا يطْمع فِيمَا عنْدك من المَال، ويبغضك فِي الْوَعْظ والمقال ". حِكَايَة: قيل: دخل أَبُو حَازِم على سُلَيْمَان فَقَالَ لَهُ الْملك: مَا لنا نكره الْمَوْت؟ فَقَالَ: لأنكم عمرتم دنياكم، وأخربتم آخرتكم، فَأنْتم تخافون أَن تَنقلُوا من الْعمرَان إِلَى الخراب. قَالَ: فَأَخْبرنِي كَيفَ قدوم الْخلق على الله تَعَالَى؟ فَقَالَ: أما المحسن، فكالقادم على أَهله فَرحا مَسْرُورا، وَأما المسئ، فكالعبد الْآبِق يقدم على مَوْلَاهُ خَائفًا مذعورا. قَالَ: فَأَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: أَدَاء الْفَرَائِض، وَاجْتنَاب الْمَحَارِم، قَالَ: فَأَي الدُّعَاء أفضل؟ قَالَ: دُعَاء الملهوف للمحسن إِلَيْهِ. قَالَ: فَأَي الصَّدقَات أفضل؟ قَالَ: جهد الْمقل لَا من فِيهِ وَلَا أَذَى. قَالَ: فَأَي القَوْل أفضل؟ قَالَ: كلمة الْحق فِي مَوضِع يخَاف فِيهِ. فَقَالَ: فاي النَّاس أفضل وأعقل؟ ، قَالَ: من عمل بِطَاعَة الله وَدلّ عَلَيْهَا، قَالَ: فَأَي النَّاس أَجْهَل؟ قَالَ: من بَاعَ آخرته لدُنْيَا غَيره. قَالَ: فعظني

قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، نزه رَبك أَن يراك حَيْثُ نهاك، أَو يفقدك حَيْثُ أَمرك. قَالَ: فَبكى سُلَيْمَان بكاء شَدِيدا، فَقَالَ لَهُ رجل من جُلَسَائِهِ: أَسَأْت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ لَهُ أَبُو حَازِم: اسْكُتْ فَإِن الله تَعَالَى أَخذ على الْعلمَاء ميثاقهم ليبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه. فَلَمَّا دخل سُلَيْمَان منزله أنفذ إِلَيْهِ جملَة من الدَّنَانِير، فَقَالَ أَبُو حَازِم لرَسُوله: ردهَا إِلَيْهِ، وَقل لَهُ: وَالله مَا أرضاها لَك، فَكيف أرضاها لنَفْسي؟ خُذْهَا فَأَنت المحاسب عَلَيْهَا. كَمَا حُكيَ أَن هِشَام بن عبد الْملك - كَانَ من خلفاء بني أُميَّة - فَسَأَلَ يَوْمًا أَبَا حَازِم: مَا التَّدْبِير فِي النجَاة من أُمُور الْخلَافَة؟ فَقَالَ: أَن تَأْخُذ كل دِرْهَم من وَجه حَلَال، وَأَن تضعه فِي مَوضِع حق. فَقَالَ: من يقدر على هَذَا؟ فَقَالَ: من يرغب فِي نعيم الْجنان، ويهرب من عَذَاب النيرَان. وَالثَّانِي مِنْهَا: أَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا جعلناك خَليفَة} (ص 26) يَعْنِي: أَخذنَا الْخلَافَة من الْغَيْر: ثمَّ أعطيناك، فَإِذا لم تُؤَد حق هَذِه النِّعْمَة، وَلم تشكر الله - تَعَالَى - بِمُقَابلَة هَذِه النِّعْمَة، أَخذنَا مِنْك الْخلَافَة وأعطيناها غَيْرك، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء} " آل عمرَان: 25 ". فَيَنْبَغِي للملوك أَن يعملوا فِي هَذِه المملكة الْعَارِية الفانية - الْعدْل وَالْعَمَل الصَّالح، ليحصل بِهِ سلطنة المملكة الْبَاقِيَة، وَيكون قصدهم أَلا يَكُونُوا محرومين فِي الدُّنْيَا من الثَّنَاء الْجَمِيل، وَفِي الْآخِرَة من الْأجر الجزيل.

حِكَايَة: روى أَن الْخضر - عَلَيْهِ السَّلَام - ذهب عِنْد ملك لينصح لَهُ، فَقَالَ: يَا ملك اعْلَم وتفكر، إِنِّي مضيت يَوْمًا من الْأَيَّام من مدينتك، فَرَأَيْت هَذِه الْمَدِينَة مَدِينَة عَظِيمَة وعامرة، وَكَثُرت فِيهَا الحدائق وَالنعَم فغبت عَنْهَا ثَلَاثمِائَة سنة، فَلَمَّا رجعت إِلَى هَذِه الْمَدِينَة، فرأيتها قد كَانَت بحرا تجْرِي فِيهِ السفن مَمْلُوءَة من الْخَلَائق، يجيئون ويذهبون، ثمَّ غبت عَنْهَا خَمْسمِائَة سنة، ثمَّ رجعت إِلَى هَذِه الْبَلدة، وَقد كَانَت أيكة، وَفِي طرفها جَزِيرَة، وفيهَا كثير من الْخَلَائق، وعمروها ثَلَاثمِائَة سنة، ثمَّ غبت عَنْهَا خَمْسمِائَة سنة، ثمَّ جِئْت، فَرَأَيْت قد نبت فِيهَا الزَّعْفَرَان والكافور، وَكَانَت بِحَيْثُ لم يكن فِي الدُّنْيَا أعز من هَذِه الْمَدِينَة، ثمَّ غبت عَنْهَا خَمْسمِائَة سنة، ثمَّ جِئْت فرأيتك فِيهَا بِهَذِهِ الْإِمَارَة، فَيَنْبَغِي لَك أَن تفكر فكر الْآخِرَة، وَتعْتَبر بِأَن الْمُلُوك الْمَاضِيَة الَّذين مضوا قبلك عمروا هَذِه الْمَدِينَة أَكثر مِمَّا عمرت ثمَّ مَاتُوا، فتركوها لمن خَلفهم، فَلَا تغتر بِهَذِهِ الدُّنْيَا الدنية، فَإِنَّهَا غدارة مكارة لَيست بدار أنس وَعمارَة، بل دَار الْعِمَارَة هِيَ دَار الْآخِرَة، فَلَمَّا سمع الْملك هَذَا الحَدِيث نزل عَن تخته وَترك الْإِمَارَة، وَوضع على رَأسه التُّرَاب، واشتغل بِالطَّاعَةِ، وَالتَّوْبَة، والندامة، وَالِاسْتِغْفَار، إِلَى أَن مَاتَ. روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ يَوْمًا: " يَا أَبَا هُرَيْرَة، تُرِيدُ أَن أريك الدُّنْيَا؟ فَقلت: نعم، فَأخذ بيَدي، وَانْطَلق حَتَّى وقف بِي على رَأس مزبلة فِيهَا رُءُوس الْآدَمِيّين ملقاة، وبقايا عِظَام نخرة، وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الْآدَمِيّين. فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَة، هَذِه رُءُوس النَّاس الَّتِي ترَاهَا كَانَت مثل رءوسكم مملؤة من الْحِرْص وَالِاجْتِهَاد على جمع الدُّنْيَا، وَكَانُوا يرجون من الدُّنْيَا مَا ترجون، من طول الْأَعْمَار، وَكَانُوا يَجدونَ

فِي جمع المَال وَعمارَة الدُّنْيَا كَمَا تَجِدُونَ. فاليوم تَغَيَّرت عظامهم، وتلاشت أجسامهم، كَمَا ترى وَهَذِه الْخرق كَانَت أثوابهم الَّتِي يتزينون بهَا عِنْد التجمل وَوقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرّيح فِي النَّجَاسَات، وَهَذِه عِظَام دوابهم الَّتِي كَانُوا يطوفون بهَا أقطار الأَرْض على ظُهُورهمْ، وَهَذِه النَّجَاسَات كَانَت أطعمتهم اللذيذة، الَّتِي كَانُوا يحتالون فِي تَحْصِيلهَا وينهبها بَعضهم من بعض، قد ألقوها عَنْهُم بِهَذِهِ الفضيحة الَّتِي لَا يقربهَا أحد من نتنها. فَهَذِهِ جملَة أَحْوَال الدُّنْيَا كَمَا تشاهد وَترى، فَمن أَرَادَ أَن يبكي على الدُّنْيَا فليبك، فَإِنَّهَا مَوضِع الْبكاء " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ - فَبكى الْجَمَاعَة الْحَاضِرُونَ. اعْلَم يَا سُلْطَان الْعَالم: أَن بني آدم طَائِفَتَانِ: طَائِفَة نظرُوا إِلَى شَاهد حَال الدُّنْيَا وتمسكوا بتأمل الْعُمر الطَّوِيل، وَلم يتفكروا فِي النَّفس الْأَخير. وَطَائِفَة عقلاء جعلُوا نفسهم الْأَخير نصب أَعينهم، لينظروا إِلَى مَاذَا يكون مصيرهم، وَكَيف يخرجُون من الدُّنْيَا ويفارقونها وَإِيمَانهمْ سَالم؟ أخذُوا من الدُّنْيَا مَا ينزل مَعَهم فِي الْقُبُور، وَتركُوا لأعدائهم مَا يبْقى وباله ونكاله. وَهَذِه الفكرة وَاجِبَة على كَافَّة الْخلق، وَهِي على الْمُلُوك وَأهل الدُّنْيَا أوجب؛ لأَنهم كثيرا أزعجوا قُلُوب الْخلق، وفزعوا الْخلق، وَقتلُوا الخليقة، وأدخلوا فِي قُلُوبهم الرعب. فَإِن بِحَضْرَة الله - جلّ وَعلا - غُلَاما يُقَال لَهُ: عزرائيل، يعرف بِملك الْمَوْت، لَا مهرب لأحد من مُطَالبَته، وتشبيثه وكل موكلي الْمُلُوك يَأْخُذُونَ جعلهم ذَهَبا وَفِضة وَطَعَامًا، وَصَاحب هَذَا التَّوْكِيل لَا يَأْخُذ سوى الرّوح جعلا، وَسَائِر موكلي السلاطين تَنْفَع عِنْدهم الشَّفَاعَة، وَهَذَا الْمُوكل لَا تَنْفَع عِنْده شَفَاعَة الشافعين، وَجَمِيع الموكلين يمهلون من يوكلون بِهِ الْيَوْم أَو السَّاعَة، وَهَذَا الْمُوكل لَا يُمْهل نفسا وَاحِدًا.

وَالثَّالِث مِنْهَا: أَن يعلم السُّلْطَان أَن السلطة هِيَ الْخلَافَة من الله تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَن يتَصَرَّف فِي عباد الله - تَعَالَى - بالأخلاق الْحَسَنَة، والألطاف المرضية، والرأفة وَالرَّحْمَة، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " تخلقوا بأخلاق الله ". وكما رُوِيَ عَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَنه كَانَ إِذا بعث أحدا من أَصْحَابه فِي بعض أمره، قَالَ: " بشروا وَلَا تنفرُوا ويسروا وَلَا تُعَسِّرُوا ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " حسن الْخلق زِمَام من رَحْمَة الله تَعَالَى فِي أنف صَاحبه، والزمام فِي يَد ملك، وَالْملك يجر إِلَى الْخَيْر، وَالْخَيْر يجر إِلَى الْجنَّة، وَسُوء الْخلق زِمَام من عَذَاب الله تَعَالَى فِي أنف صَاحبه، والزمام فِي يَد الشَّيْطَان، والشيطان يجر إِلَى الشَّرّ، وَالشَّر يجر إِلَى النَّار ". وسئلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن خلقه عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَرَأت: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} (الْمُؤْمِنُونَ 1، 2) إِلَى عشر آيَات. وَقد مدح الله تَعَالَى نبيه عَلَيْهِ السَّلَام بقوله: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} (الْقَلَم 4) وَقَالَ الْجُنَيْد - رَحمَه الله -: " سمى خلقه عَظِيما، لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ همة سوى الله تَعَالَى.

وَقيل: سمى خلقه عَظِيما، لِأَنَّهُ امتثل تَأْدِيب الله - تَعَالَى - إِيَّاه بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: (أدبني رَبِّي أدبا حسنا) قَالَ: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} (الْأَعْرَاف: 199) . فَلَمَّا قبل ذَلِك مِنْهُ، قَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} (الْقَلَم: 4) . وَعَن أبي الدَّرْدَاء أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " مَا شَيْء أثقل فِي ميزَان الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة من خلق حسن، فَإِن الله تَعَالَى يبغض الْفَاحِش البذئ ".

وَعنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول: " مَا من شَيْء يوضع فِي الْمِيزَان أثقل من حسن الْخلق، وَإِن صَاحب حسن الْخلق ليبلغ دَرَجَة صَاحب الصَّلَاة وَالصَّوْم ". وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " سُئِلَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- عَن أَكثر مَا يدْخل النَّاس الْجنَّة، فَقَالَ: " تقوى الله وَحسن الْخلق ". وَعَن عبد الله بن الْمُبَارك - رَحمَه الله - أَنه وصف حسن الْخلق فَقَالَ: " هُوَ بسط الْوَجْه، وبذل الْمَعْرُوف، وكف الْأَذَى ". فَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَنه مهما أمكنه أَن يعْمل الْأَوَامِر بالرفق واللطف، فَلَا يعملها بالشدة والعنف. فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " كل وَال لَا يرفق برعيته لَا يرفق بِهِ يَوْم الْقِيَامَة ". ودعا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: " اللَّهُمَّ الطف بِكُل وَال يلطف برعيته واعنف على كل وَال يعنف على رَعيته ".

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْولَايَة والإمارة حَسَنَتَانِ لمن قَامَ بحقهما، وسيئتان لمن قصر فيهمَا ". وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَيْضا أَن يجْتَهد بِأَن يرضى عَنهُ جَمِيع رَعيته، بموافقة الشَّرْع، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لأَصْحَابه: " خير أمتِي الَّذين يحبونكم وتحبونهم، وَشر أمتِي الَّذين يبغضونكم وتبغضونهم، ويلعنونكم، وتلعنونهم ". وَيَنْبَغِي للوالي أَلا يغتر بِمن وصل إِلَيْهِ، وَأثْنى عَلَيْهِ، وَألا يعْتَقد أَن جَمِيع الرّعية مثله راضون، فَإِن الَّذِي يثنى عَلَيْهِ من خَوفه مِنْهُ يثنى، بل يَنْبَغِي أَن يرتب معتمدين يسْأَلُون الرّعية عَن أَحْوَاله، ويتجسسون، ليعلم عَيبه من أَلْسِنَة النَّاس. وايضا يَنْبَغِي للوالي أَلا يطْلب رِضَاء أحد من النَّاس بسخط الله بِسَبَب مُخَالفَة الشَّرْع، فَإِن من سخط بِخِلَاف الشَّرْع لَا يضر سخطه.

" كتب مُعَاوِيَة إِلَى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا: أَن عظيني عظة مختصرة، فَكتبت إِلَيْهِ، فَقَالَت: سَمِعت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: " من طلب رضَا الله بسخط النَّاس رَضِي الله عَنهُ وأرضى عَنهُ النَّاس، وَمن طلب رضَا النَّاس بسخط الله سخط الله عَلَيْهِ وأسخط الْخلق عَلَيْهِ، مثل: أَلا يَأْمُرهُم بِالطَّاعَةِ، وَلَا يعلمهُمْ أُمُور دينهم، ويطعمهم الْحَرَام، وَيمْنَع الْأَجِير أجرته، وَالْمَرْأَة مهرهَا، أَسخط الله عَلَيْهِ النَّاس ". وَالرَّابِع مِنْهَا: أَنه قَالَ: {فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} (ص: 26) أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه يَنْبَغِي أَن يحكم الْملك بَين الرّعية بِنَفسِهِ، وَلَا يعْتَمد على حكم غَيره، لِأَن الله تَعَالَى وضع فِي قلب الْأُمَرَاء والوزراء شَفَقَة الرّعية، كَمَا وضع فِي قلب الْوَالِدين شَفَقَة الْأَوْلَاد، لِأَن كَمَال الرَّحْمَة فِي خَمْسَة أَشْيَاء: الأول: رَحْمَة الله تَعَالَى على عباده. وَالثَّانِي: رَحْمَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام على أمته. وَالثَّالِث: رَحْمَة الْمُلُوك والأمراء على رَعيته. وَالرَّابِع: رَحْمَة الْوَالِد على أَوْلَاده. وَالْخَامِس: رَحْمَة الشَّيْخ على تلاميذه.

وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: دَعَاني عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - ذَات لَيْلَة، وَقَالَ: قد نزل بِبَاب الْمَدِينَة قافلة، وأخاف عَلَيْهِم إِذا نَامُوا أَن يسرق شَيْء من مَتَاعهمْ، فمضيت مَعَه، فَلَمَّا وصلنا، قَالَ: نم أَنْت، ثمَّ جعل يحرس الْقَافِلَة طول ليله. حِكَايَة: قَالَ زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ: " رَأَيْت لَيْلَة عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ يطوف مَعَ العسس، فتبعته فَقلت: أتأذن لي أَن أصحبك؟ قَالَ: نعم. فَلَمَّا خرجنَا من الْمَدِينَة رَأينَا نَارا من بعيد، فَقُلْنَا: رُبمَا يكون قد نزل هُنَاكَ من مُسَافر، فقصدنا النَّار، فَرَأَيْنَا امْرَأَة أرملة، وَمَعَهَا ثَلَاثَة أَطْفَال، وهم يَبْكُونَ، وَقد وضعت لَهُم قدرا على النَّار، وَهِي تشاغلهم، وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ أنصفني من عمر، وَخذ لي بِالْحَقِّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ شبعان، وأطفالي جِيَاع، فَلَمَّا سمع عمر - رَضِي الله عَنهُ - ذَلِك تقدم، وَسلم عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: أتأذنيني أَن أدنو إِلَيْك؟ قَالَت: إِن كَانَ بِخَير فبسم الله، فَتقدم عمر - رَضِي الله عَنهُ - إِلَيْهَا وسألها عَن حَالهَا، وَحَال أطفالها، فَقَالَت نعم، وصلت - وَهَؤُلَاء أطفالي معي - من مَكَان بعيد، وَأَنا جائعة، والأطفال جِيَاع،

وَقد بلغ مني وَمِنْهُم الْجهد والجوع، وَقد مَنعهم عَن الهجوع، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: وَأي شَيْء فِي هَذِه؟ فَقَالَت: فِيهَا مَا أشاغلهم بِهِ، لِيَظُنُّوا أَنه طَعَام، فيصبروا قَالَ: فَعَاد إِلَى الْمَدِينَة، وَقصد دكان بياع الدَّقِيق، وابتاع مِنْهُ ملْء جراب وَقصد دكان السمان، فَابْتَاعَ مِنْهُ سمنا، وَوضع الْجَمِيع على عَاتِقه، وَمضى يطْلب الْمَرْأَة والأطفال، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ناولنيه لأحمله عَنْك، فَقَالَ: إِن حَملته عَنى فِي الدُّنْيَا، فَمن يحمل ذُنُوبِي فِي الْآخِرَة، وَمن يحول بيني وَبَين دُعَاء تِلْكَ الْمَرْأَة؟ وَجعل يسْعَى - وَهُوَ يبكي - إِلَى الْمَرْأَة، فَقَالَت الْمَرْأَة: جَزَاك الله عني أفضل الْجَزَاء. فَأخذ عمر - رَضِي الله عَنهُ - جُزْءا من الدَّقِيق، وشيئا من السّمن، وَوَضعهمَا فِي الْقدر، وَجعل يُوقد النَّار، فَكلما أَرَادَت النَّار أَن تخمد نفخها، وَكَانَ الرماد يسْقط على وَجهه ومحاسنه، حَتَّى انطبخت الْقدر، فَوضع الطبيخ فِي الْقَصعَة، وَقَالَ للأطفال: كلوا، فَأكلت الْمَرْأَة والأطفال، فَقَالَ: أيتها الْمَرْأَة لَا تدعين على عمر، فَإِنَّهُ لم يكن لَهُ مِنْك وَلَا من أطفالك علم وَلَا خبر ". وَأول من دعى بأمير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، لِأَن أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يَدعُوهُ النَّاس بخليفة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَلَمَّا وصل الْأَمر إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ، دَعوه بخليفة خَليفَة رَسُول الله، وَكَانَ الْأَمر يطول على الْمُسلمين، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: أَلَسْت أميركم؟ قَالُوا: بلَى، فَقَالَ: سموني أميركم، وَإِن دعوتموني أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنِّي ذَلِك ابْن الْخطاب. حِكَايَة: كَانَ فِي زمن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - قحط عَظِيم، فوفد عَلَيْهِ وَفد من الْعَرَب، واختاروا رجلا من الْعَرَب للخطابة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّا أَتَيْنَاك من ضَرُورَة عَظِيمَة، وَقد يَبِسَتْ جلودنا على أَجْسَادنَا لفقد الطَّعَام، وَهَذَا المَال لَا يَخْلُو من ثَلَاثَة أَقسَام: إِمَّا أَن يكون لله، أَو لعباد الله، أَو لَك، فَإِن كَانَ لله، فَهُوَ غنى عَنهُ، وَإِن كَانَ لعباد الله تَعَالَى أَو لَك،

فَتصدق بِهِ علينا، فَإِن الله يَجْزِي المتصدقين، فتغرغرت عينا عمر - رَحمَه الله - بالدموع، وَقَالَ: هُوَ كَمَا ذكرت وَأمرت، فَقضى حوائجهم من بَيت مَال الْمُسلمين. فَلَمَّا هم الْأَعرَابِي بِالْخرُوجِ قَالَ لَهُ عمر: أَيهَا الْإِنْسَان الْخَيْر كَمَا رفعت إِلَى حوائج عباد الله، وأسمعتني كَلَامهم، فأوصل كَلَامي، وارفع حَاجَتي إِلَى الله تَعَالَى. فحول الْأَعرَابِي وَجهه نَحْو السَّمَاء، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اصْنَع مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز كصنعه فِي عِبَادك، فَمَا استتم كَلَامه حَتَّى ارْتَفع غيم فَأمْطر مَطَرا غزيرا، وَجَاء فِي الْمَطَر بردة كَبِيرَة، فَوَقَعت على صَخْرَة، فَانْكَسَرت، فَخرج مِنْهَا كاغد عَلَيْهِ مَكْتُوب: هَذِه بَرَاءَة من الله الْعَزِيز، إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز، بالنجاة من النَّار. وَالْخَامِس مِنْهَا: أَن الله تَعَالَى أَمر فِي الْآيَة بالحكم بِالْحَقِّ - أَي بِالْعَدْلِ - بِمُوجب الشَّرْع، لَا بالجور وَالظُّلم والميل والرشوة، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا من أَمِير عشيرة إِلَّا يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة مغلولا، حَتَّى يفك عَنهُ الْعدْل، أَو يوبقه الْجور ". فَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَو الْملك أَن يُسَاوِي بَين الْمَجْهُول الَّذِي لَا يعرف، وَبَين المحتشم صَاحب الجاه فِي مَكَان وَاحِد فِي وَقت الدَّعْوَى، وَينظر إِلَيْهِمَا فِي الدَّعْوَى نظرا مُسَاوِيا، وَلَا يفضل أَحدهمَا على الآخر، لأجل أَن أَحدهمَا غَنِي وَالْآخر فَقير. فَإِن فِي الْقِيَامَة الْجَوْهَر والخزف شَيْء وَاحِد، وَإِن كَانَ لرجل ضَعِيف على سُلْطَان حق أَو دَعْوَى، فَيَنْبَغِي للْحَاكِم أَن يَأْمر ذَلِك السُّلْطَان بِأَن يقوم من صدر مرتبته، ويساوي فِي الْقيام وَالْقعُود مَعَ الْغَرِيم الضَّعِيف وَيحكم الْحَاكِم بَينهمَا بِحكم الله، وينصف ذَلِك الضَّعِيف بِمُوجب الشَّرْع، ويرضيه فَلَا يخَاف، وَلَا يستحي من الْحق، لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} (النَّحْل: 90) فقد جَاءَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: " كل رَاع يسئل عَن غنمه، وكل سُلْطَان يسئل عَن رَعيته ". فَاعْلَم أَن الْمُلُوك القدماء كَانَت همتهم واجتهادهم فِي عمَارَة بِلَادهمْ، لعلمهم

أَنه كلما كَانَت الْولَايَة أعمر، كَانَت الرّعية أوفر وأشكر، وَكَانُوا يعلمُونَ أَن الَّذِي قالته الْحُكَمَاء، ونطقت بِهِ الْعلمَاء، صَحِيح لَا ريب فِيهِ، وَهُوَ قَوْلهم: إِن الدّين بِالْملكِ، وَالْملك بالجند، والجند بِالْمَالِ، وَالْمَال بعمارة الْبِلَاد، وَعمارَة الْبِلَاد بِالْعَدْلِ فِي الْبِلَاد والعباد ". فَمَا كَانَ الْمُلُوك القدماء يوافقون أحدا على الْجور وَالظُّلم، وَلَا يرضون لحشمهم بالجور والغشم علما مِنْهُم أَن الرّعية لَا تثبت على الْجور، وَأَن الْأَمَاكِن والبلاد تخرب إِذا استولى عَلَيْهَا الظَّالِمُونَ، وتتفرق أهل الْولَايَة، ويهربون إِلَى ولَايَة فِيهَا الْعدْل، وَيَقَع النَّقْص فِي الْملك، ويقل فِي الْبِلَاد الْبركَة، وتخلو الخزائن من الْأَمْوَال ويتكدر عَيْش الرعايا، لِأَن الرعايا لَا يحبونَ جائرا، وَلَا يزَال دِمَاؤُهُمْ عَلَيْهِ متواترا، فَلَا يتمتع بمملكته وتسرع إِلَيْهِ دواعي هَلَكته. وَقيل: الظُّلم نَوْعَانِ: أَحدهمَا: ظلم السُّلْطَان لرعيته، وجور الْقوي على الضَّعِيف، والغني على الْفَقِير. وَالثَّانِي: ظلمك لنَفسك، وَذَلِكَ من شُؤْم معصيتك، فَلَا تظلم لنَفسك، ليرْفَع عَنْك ظلم السلاطين. سُئِلَ ذُو القرنين فَقيل: أَي شَيْء من مملكتك أَنْت بِهِ أَكثر سُرُورًا؟ فَقَالَ: شَيْئَانِ: أَحدهمَا: الْعدْل والإنصاف. وَالثَّانِي: أَن أكافئ من أحسن إِلَيّ بِأَكْثَرَ من إحسانه. وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: إِن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: " لم يخلق الله تَعَالَى فِي الأَرْض شَيْئا أفضل من الْعدْل، وَالْعدْل ميزَان الله تَعَالَى فِي أرضه، من تعلق بِهِ أوصله إِلَى الْجنَّة ". وَقَالَ أَيْضا: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِن للمحسنين فِي الْجنَّة منَازِل حَتَّى المحسن إِلَى أَهله وَعِيَاله وَأَتْبَاعه ".

وَقَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: {أَلا تطغوا فِي الْمِيزَان} (الرَّحْمَن: 8) قَالَ: " أَرَادَ بِهِ الْعدْل ". وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: " إِن الله تَعَالَى لما أهبط آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَى الأَرْض أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَربع كَلِمَات، وَقَالَ: يَا آدم، عَمَلك وَعمل جَمِيع ذريتك على هَذِه الْكَلِمَات الْأَرْبَع وَهِي: كلمة لي، وَكلمَة لَك، وَكلمَة بيني وَبَيْنك، وَكلمَة بَيْنك وَبَين النَّاس. أما الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ لي: فَهِيَ أَن تعبدني وَلَا تشرك بِي شَيْئا. وَأما الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ لَك، فَإِنِّي أجازيك بعملك، وَأما الَّتِي بيني وَبَيْنك، فمنك الدُّعَاء ومني الْإِجَابَة، وَأما الْكَلِمَة الَّتِي بَيْنك وَبَين النَّاس: فَهِيَ أَن تعدل فيهم، وتنصف بَينهم ". وَقَالَ قَتَادَة: " الظُّلم ثَلَاثَة أضْرب: ظلم لَا يغْفر لصَاحبه، وظلم لَا يبْقى، وظلم يغْفر لصَاحبه. فَأَما الظُّلم الَّذِي لَا يغْفر لصحابه: فَهُوَ الشّرك بِاللَّه، لقَوْله تَعَالَى: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 13) . وَأما الظُّلم الَّذِي لَا يبْقى: فَإِنَّهُ ظلم الْعباد بَعضهم لبَعض. وَأما الظُّلم الَّذِي يغْفر لصَاحبه: فَهُوَ ظلم العَبْد نَفسه بارتكاب الذُّنُوب، ثمَّ يرجع إِلَى ربه وَيَتُوب، فَإِن الله يغْفر لَهُ برحمته، ويدخله الْجنَّة بفضله وَمِنْه ".

حِكَايَة: يرْوى أَنه كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، رجل يصيد السّمك، ويقوت بصيده أطفاله وَزَوجته، فَكَانَ بعض الْأَيَّام يتصيد فَوَقَعت فِي شبكته سَمَكَة كَبِيرَة، ففرح، وَقَالَ: أمضي بِهَذِهِ السَّمَكَة إِلَى السُّوق، فأبيعها وَأخرج ثمنهَا فِي نفقات الْأَوْلَاد، فَلَقِيَهُ بعض العوانية، فَقَالَ لَهُ: أتبيع هَذِه السَّمَكَة؟ فَقَالَ الصياد فِي نَفسه: إِن قلت: لَا، فَإِنَّهُ يُؤْذِينِي، وَإِن قلت لَهُ: نعم اشْتَرَاهَا مني بِنصْف ثمنهَا، فَقَالَ: لَا أبيعها، فَغَضب العواني، فَضَربهُ بخشبة كَانَت مَعَه على صلبه، وَأخذ السَّمَكَة مِنْهُ غصبا بِلَا ثمن، فَدَعَا الصياد عَلَيْهِ، وَقَالَ: إلهي خلقتني مِسْكينا ضَعِيفا، وخلقته قَوِيا عنيفا، فَخذ لي بحقي مِنْهُ فِي هَذِه الدُّنْيَا، فَمَا أَصْبِر إِلَى الْآخِرَة، ثمَّ إِن ذَلِك الْغَاصِب انْطلق بالسمكة إِلَى منزله، وَسلمهَا إِلَى زَوجته وأمرها أَن تشويها، فَلَمَّا شوتها ووضعتها بَين يَدَيْهِ على الْمَائِدَة ليَأْكُل مِنْهَا، فتحت السَّمَكَة فاها ونكزت أُصْبُعه نكزة سلبت قراره، وأزالت بِشدَّة عضتها اصطباره، فقصد الطَّبِيب، وشكا إِلَيْهِ، وَذكر لَهُ مَا ناله، فَقَالَ الطَّبِيب: يَنْبَغِي أَن تقطع هَذِه الْأصْبع لِئَلَّا يسري الْأَلَم إِلَى جَمِيع الْيَد، فَقطع أُصْبُعه فسرى الْأَلَم إِلَى جَمِيع الْكَفّ، فَقَالَ الطَّبِيب: يَنْبَغِي أَن تقطع الْكَفّ لِئَلَّا يسري الْأَلَم إِلَى الزند، فَقطع كَفه، فَسَار الْأَلَم إِلَى زنده، فَقطع زنده، فَسَار الْأَلَم إِلَى الساعد، وَزَالَ قراره، فَقَالَ الطَّبِيب: يَنْبَغِي أَن يقطع ساعده لِئَلَّا يسري الْأَلَم إِلَى الْكَتف، فَقطع ساعده، فتوجع كتفه، فَخرج من مَكَانَهُ هَارِبا على وَجهه، دَاعيا إِلَى ربه ليكشف مَا قد نزل بِهِ، فَرَأى شَجَرَة، فاتكأ عَلَيْهَا، فَأَخذه النّوم، فَنَامَ، فَرَأى فِي مَنَامه قَائِلا يَقُول لَهُ: يَا مِسْكين، إِلَى كم تقطع يدك؟ امْضِ إِلَى الصياد، وَأَرْض خصمك فانتبه من نَومه، وتفكر وتذكر، وَقَالَ: أَنا أخذت السَّمَكَة غصبا، وأوجعت الصياد ضربا، وَهِي الَّتِي تَرَكتنِي هَكَذَا، فَنَهَضَ، وَقصد الْمَدِينَة، وَطلب الصياد، فَوَجَدَهُ، فَوَقع بَين

يَدَيْهِ، وَالْتمس الْإِقَالَة من ذَنبه، وَأَعْطَاهُ شَيْئا من مَاله، وَتَابَ من فعاله، فرضى عَنهُ خَصمه، فَفِي الْحَال سكن ألمه، وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة، على فرَاشه، وَقد تَابَ عَمَّا كَانَ يصنع، ونام على تَوْبَة خَالِصَة، فَفِي الْيَوْم الثَّانِي تَدَارُكه ربه برحمته، ورد يَده كَمَا كَانَت بقدرته، فَنزل الْوَحْي إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: أَن يَا مُوسَى، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وقدرتي لَوْلَا أَن الرجل أرْضى خَصمه لعذبته مهما امتدت بِهِ حَيَاته. وَالسَّادِس مِنْهَا: لما أَمر الله تَعَالَى فِي الْآيَة الحكم بِالْعَدْلِ، يَنْبَغِي للْحَاكِم أَن يحكم لأجل الله - تَعَالَى - لَا لأجل خاطر الْخلق، وَلَا للرياء والسمعة، ليحصل لَهُ الثَّنَاء الْجَمِيل فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَاب الجزيل فِي العقبى، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " عدل فِي حكم سَاعَة خير من عبَادَة سبعين سنة وجور فِي حكم سَاعَة يحبط عبَادَة سبعين سنة ". وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " كل مجْلِس لَا ذكر لَهُ كبستان لَا ثَمَرَة لَهُ، وكل شَاب لَا أدب لَهُ كفرس لَا لجام لَهُ، وكل امْرَأَة لَا حَيَاء لَهَا كطعام لَا ملح لَهُ، وكل عَالم لَا ورع لَهُ كسراج لَا دهن لَهُ، وكل صديق لَا وَفَاء لَهُ كقوس لَا وتر لَهُ، وكل غَنِي لَا سخاوة لَهُ كنهر لَا مَاء لَهُ، وكل أَمِير لَا عدل لَهُ كبيت مظلم لَا نور لَهُ ". حِكَايَة: يحْكى عَن إِسْمَاعِيل الساماني فِي كتاب " سير الْمُلُوك "، أَنه قَالَ: كَانَ لجدي موليان، وَكَانَ فِي كل يَوْم يَأْمر الْمُنَادِي فِي وَقت الْعَصْر أَن

يُنَادي فِي النَّاس، وَكَانَ يرفع الْحجاب، ويرجو من الله الثَّوَاب، وَيَقُول: ليجئ كل من لَهُ ظلامة، وَيقف على جَانب الْبسَاط ويخاطبه، وَيعود وَيَقْضِي الْحَاجَات، وَكَانَ يقْضِي بَين الْخُصُوم مثل الْحُكَّام، إِلَى أَن تَنْقَضِي الدَّعَاوَى ثمَّ يعود مَوْضِعه، وَيقبض على محاسنه، وَيُوجه وَجهه نَحْو السَّمَاء، وَيَقُول: إلهي هَذَا جهدي وطاقتي قد بذلته، وَأَنت عَالم الْأَسْرَار، وَتعلم نيتي، وَلَا أعلم على أَي عبد جرت، وَلَا على أَي عبد ظلمت، وَمَا أنصفت، فَاغْفِر لي يَا إلهي من ذَلِك مَا لَا أعلم. فَلَمَّا كَانَ نقي النِّيَّة، جميل الطوية، لَا جرم علا أمره، وارتفع قدره، وَكَانَ عسكره ألف فَارس معدين بِالسِّلَاحِ، وببركة ذَلِك الْعدْل والإنصاف ظفره الله بِعَمْرو بن لَيْث، فَقَبضهُ وَفتح خُرَاسَان، ثمَّ إِن عَمْرو أنفذ إِلَيْهِ من السجْن وَقَالَ: لي ب " خُرَاسَان " أَمْوَال كَثِيرَة، وكنوز موفورة، وَأَنا أسلم إِلَيْك الْجَمِيع، وأطلقني من السجْن، فَلَمَّا سمع إِسْمَاعِيل ذَلِك ضحك، وَقَالَ: إِلَى الْآن لم يستقم معي ابْن لَيْث، ثمَّ يُرِيد أَن يَجْعَل الْمَظَالِم الَّتِي ارتكبها فِي عنقِي، ويتخلص من ثقل أَوزَارهَا فِي الْآخِرَة قُولُوا لَهُ: مَالِي فِي مَالك حَاجَة، وَأخرجه من السجْن، وأنفذه رَسُولا إِلَى بَغْدَاد، فنال من أَمِير الْمُؤمنِينَ، الْخلْع والتشريف، وَجلسَ إِسْمَاعِيل فِي مَمْلَكَته ب " خُرَاسَان " آمنا مطمئنا، فارغ البال حسن البال.

حِكَايَة: يحْكى أَن أنو شرْوَان كَانَ قد ولي عَاملا، فأنفذ إِلَيْهِ الْعَامِل زِيَادَة عَن الْخراج بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، فَأمر أنو شرْوَان بِإِعَادَة الزِّيَادَة إِلَى أَصْحَابهَا، وَأمر بصلب الْعَامِل، وَقَالَ: كل سُلْطَان أَخذ من الرّعية شَيْئا بالجور وَالْغَصْب وخزنه فِي خَزَائِن الْملك، كَانَ مثله كَمثل رجل عمل أساس حَائِط، فَلم يصبر عَلَيْهِ حَتَّى يجِف، ثمَّ وضع البنيات عَلَيْهِ، وَهُوَ رطب، فَلم يبْق الأساس وَلَا الْحَائِط. وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يهتم بِأُمُور الدّين، كَمَا يهتم بِأُمُور بَيته ليتنعم فِي الدُّنْيَا. وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يَأْخُذ مَا يَأْخُذ من الرّعية بِقدر، ويهب مَا يهب بِقدر، لِأَن لكل وَاحِد من هذَيْن الْأَمريْنِ حدا. حِكَايَة: " سَأَلَ الْإِسْكَنْدَر يَوْمًا حكماءه - وَكَانَ قد عزم على سفر - فَقَالَ: أوضحُوا لي من الْحِكْمَة لعلم أشغالي، واتقان أعمالي. فَقَالَ لَهُ كَبِير الْعلمَاء والحكماء: أَيهَا الْملك، لَا تدخل قَلْبك حب شَيْء وَلَا بغضه، فَإِن الْقلب خاصته كاسمه، وَإِنَّمَا سمي قلبا لتقلبه، وأعمل الْفِكر واتخذه وزيرا، وَاجعَل الْعقل صاحبا ومشيرا، واجتهد أَن تكون فِي الْملك متيقظا، وَلَا تشرع فِي عمل أَي شَيْء بِغَيْر مشورة، واجتنب الْميل والمحاباة، فِي وَقت الْعدْل والإنصاف، فَإِذا فعلت ذَلِك جرت الْأَشْيَاء على إيثارك، وتصرفت باختيارك ". وَيَنْبَغِي أَن يكون الْملك وقورا حَلِيمًا، وَلَا يكون عجولا. قَالَت الْحُكَمَاء: ثَلَاثَة أَشْيَاء قبيحة، وَهِي فِي ثَلَاثَة أقبح: الحدة فِي الْمُلُوك، والحرص فِي الْعلمَاء، وَالْبخل فِي الْأَغْنِيَاء. كتب الْوَزير يونان إِلَى الْملك الْعَادِل أنو شرْوَان وَصَايَا ومواعظ، فَقَالَ: يَنْبَغِي يَا ملك الزَّمَان أَن يكون مَعَك أَرْبَعَة أَشْيَاء: الْعدْل، وَالْعقل، وَالصَّبْر، وَالْحيَاء. وَيَنْبَغِي أَن تَنْفِي عَنْك أَرْبَعَة أَشْيَاء: الْحَسَد، وَالْكبر، وضيق الْقلب، يُرِيد بِهِ الْبُخْل، والعداوة.

وَاعْلَم يَا سُلْطَان الْعَالم، أَن الَّذين كَانُوا من قبلك من الْمُلُوك مضوا، وَالَّذين يأْتونَ بعْدك لم يصلوا، فاجتهد أَن يكون جَمِيع مُلُوك الزَّمَان محبيك ومشتاقيك. حِكَايَة: " يُقَال: إِن أَبُو شرْوَان ركب بعض أَيَّام الرّبيع على سَبِيل الفرجة، فَجعل يسير فِي الرياض المخضر، ويشاهد الْأَشْجَار المثمرة، وَينظر الكروم العامرة، فَنزل عَن فرسه شكرا لرَبه، وخر سَاجِدا، وَوضع خَدّه على التُّرَاب زَمَانا طَويلا، فَلَمَّا رفع رَأسه قَالَ لأَصْحَابه: إِن خصب السنين من عدل الْمُلُوك والسلاطين، وَحسن نيتهم إِلَى رعيتهم، فالمنة لله الَّذِي أظهر حسن نيتنا فِي سَائِر الْأَشْيَاء. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك، لِأَنَّهُ جربه بعض الْأَوْقَات. حِكَايَة: " يُقَال: إِن أنو شرْوَان الْعَادِل مضى يَوْمًا إِلَى الصَّيْد وَانْفَرَدَ من عسكره خلف الصَّيْد، فَرَأى ضَيْعَة بِالْقربِ مِنْهُ، وَكَانَ قد عَطش فقصد الضَّيْعَة، وأتى بَاب دَار قوم، وَطلب مَاء للشُّرْب، فَخرجت صبية فأبصرته، ثمَّ عَادَتْ إِلَى الْبَيْت، فدقت قَصَبَة وَاحِدَة من قصب السكر، ومزجت مَا عصرته مِنْهَا بِالْمَاءِ، وَوَضَعته فِي الْقدح، فَرَأى فِيهِ تُرَابا، فَشرب مِنْهُ قَلِيلا قَلِيلا، حَتَّى انْتهى إِلَى آخِره وَقَالَ للصبية: نعم المَاء لَوْلَا القذى، فَقَالَت: أَنا ألقيت فِيهِ القذى عمدا، فَقَالَ لَهَا: لم فعلت ذَلِك؟ قَالَت: رَأَيْتُك شَدِيد الْعَطش، فَلَو لم يكن فِي المَاء قذى لشربته عجلا نوبَة وَاحِدَة، وَكَانَ يَضرك شربه، فتعجب أنو شرْوَان من كَلَامهَا، وَعلم أَنَّهَا قَالَت ذَلِك عَن ذكاء وفطنة، ثمَّ قَالَ لَهَا: من كم دققت ذَلِك المَاء؟ قَالَت: من قَصَبَة وَاحِدَة، فتعجب أنو شرْوَان، وأضمر فِي نَفسه أَن ينظر فِي جَرِيدَة خراجها، وَأَن يزِيد عَلَيْهِم الْخراج، ثمَّ عَاد إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة بعد عودته بَلَده، واجتاز على ذَلِك الْقرْيَة مُنْفَردا وَطلب المَاء، فَخرجت تِلْكَ الصبية بِعَينهَا، فرأته فعرفته ثمَّ عَادَتْ لتخرج المَاء فأبطأت عَلَيْهِ، فاستعجلها أنو شرْوَان، وَقَالَ: لأي سَبَب أَبْطَأت؟ قَالَت: لِأَنَّهُ لم يخرج من قَصَبَة وَاحِدَة حَاجَتك، وَقد دققت ثَلَاث قصبات، وَلم يخرج مِنْهَا بِقدر مَا كَانَ يخرج من قَصَبَة وَاحِدَة.

فَقَالَ أَبُو شرْوَان مَا سَبَب هَذَا الْقَحْط؟ قَالَت الصبية: سَببه تغير نِيَّة السُّلْطَان، فقد سمعنَا من الْعلمَاء أَنه إِذا تغير نِيَّة السُّلْطَان على قوم زَالَت بركاتهم، وَقلت خيراتهم. فَعِنْدَ ذَلِك ضحك أنو شرْوَان، وأزال من نَفسه مَا كَانَ قد أضمر لَهُم، وَتزَوج بالصبية لتعجبه من ذكائها، وَحسن كَلَامهَا. وَالسَّابِع مِنْهَا: أَنه تَعَالَى قَالَ فِي الاية: {وَلَا تتبع الْهوى} (ص 26) يَعْنِي: لَا تتبع الْهوى فِي جَمِيع الْأَوْقَات، وَفِي جَمِيع الْأُمُور، وَاتِّبَاع الْهوى أصل جَمِيع الْمعاصِي، لِأَن فِرْعَوْن ادّعى الألوهية بِسَبَب الْهوى، وَبني إِسْرَائِيل عبدُوا الْعجل بِسَبَب الْهوى. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ} (الجاثية 23) وكل من يُخَالف هَوَاهُ فِي جَمِيع الْأَوْقَات والأمور، فَإِن الْجنَّة مثواه. قَالَ الله تَعَالَى: {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} (النازعات 40، 41) . وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه: " ويل لقَاضِي الأَرْض من قَاضِي السَّمَاء حِين يلقاه إِلَّا من عدل، وَقضى بِالْحَقِّ، وَلم يحكم بالهوى، وَلم يمل مَعَ أَقَاربه، وَلم يُبدل حكما لخوف أَو طمع، لَكِن يَجْعَل كتاب الله مِيزَانه، وَنصب عينه وَيحكم بِمَا فِيهِ ". فَلَا يَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يشْتَغل دَائِما بلعب الشطرنج، والنرد، وَشرب الْخمر، وَضرب الكرة، وَالصَّيْد، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء تلهي السُّلْطَان وتشغله عَن الْأَعْمَال، وَلكُل عمل وَقت، فَإِذا فَاتَ الْوَقْت، عَاد الرِّبْح خسرانا، وَالسُّرُور أحزانا. فَإِن الْمُلُوك القدماء قسموا النَّهَار أَرْبَعَة أَقسَام: قسم مِنْهَا: لعبادة الله تَعَالَى وطاعته. وَالْقسم الثَّانِي مِنْهَا: للنَّظَر فِي أُمُور السلطنة، وإنصاف المظلومين وسياسة الْجُمْهُور، وتنفيذ المراسيم والأوامر، وَكِتَابَة الْكتب، وإنفاذ الرُّسُل. وَالْقسم الثَّالِث: للْأَكْل وَالشرب، وَالنَّوْم، وَأخذ الحظوظ من الْفَرح وَالسُّرُور.

وَالْقسم الرَّابِع: للصَّيْد وَلعب الكرة والصولجان وَمَا يشبه ذَلِك. وَيُقَال: إِن بهْرَام كور قسم نَهَاره قسمَيْنِ، وَجعله نِصْفَيْنِ: فَفِي النّصْف الأول كَانَ يقْضِي حوائج النَّاس، وَفِي النّصْف الثَّانِي: كَانَ يطْلب الرَّاحَة. وَيُقَال: إِنَّه فِي جَمِيع أَيَّامه مَا اشْتغل يَوْمًا تَاما بِعَمَل وَاحِد. وَكَانَ أنو شرْوَان الْعَادِل يَأْمر أَصْحَابه أَن يصعدوا إِلَى أَعلَى مَكَان فِي الْبَلدة، فينظروا إِلَى بيُوت النَّاس، فَكل من لم يخرج من بَيته دُخان نزلُوا، وسألوا عَن حَاله وشأنه، فَإِن كَانَ فِي غم، أعلمُوا السُّلْطَان، وَكَانَ يحمل غمه، ويزيل همه. وَسَأَلَ مُعَاوِيَة أحنف بن قيس فَقَالَ: يَا أَبَا يحيى، كَيفَ الزَّمَان؟ فَقَالَ: الزَّمَان أَنْت: إِن صلحت صلح الزَّمَان، وَإِن فَسدتْ فسد الزَّمَان. وَقَالَ: إِن الدُّنْيَا عمرت بِالْعَدْلِ، فَكَذَلِك تخرب بالجور، لِأَن الْعدْل يضيء نوره، ويلوح تباشيره من مسيرَة ألف فَرسَخ، والجور يتراكم ظلامه، ويسود قِيَامه عَن مسيرَة ألف فَرسَخ. وَقَالَ الفضيل بن عِيَاض: " لَو كَانَ دعائي مستجابا، لم أدع لغير السُّلْطَان الْعَادِل، لِأَن السُّلْطَان الْعَادِل صَلَاح الْعباد، وزينة الْبِلَاد ".

وَجَاء فِي الْخَبَر: " المقسطون على مَنَابِر اللُّؤْلُؤ يَوْم الْقِيَامَة ". كلمة حِكْمَة: قَالَ الْإِسْكَنْدَر: خير الْمُلُوك من بدل السّنة السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَشر الْمُلُوك من بدل السّنة الْحَسَنَة بِالسنةِ السَّيئَة. حِكَايَة: إِن ملكا شَابًّا قَالَ: إِنِّي لأجد فِي الْملك لَذَّة، فَلَا أَدْرِي كَذَلِك يجدهَا الْمُلُوك أم أَجدهَا أَنا؟ فَقَالُوا لَهُ: كَذَلِك يجدهَا الْمُلُوك قَالَ: فَمَاذَا يُقيم الْملك؟ فَقيل: يقيمه لَك أَن تطيع الله، وَلَا تعصيه، فَدَعَا من كَانَ فِي بَلَده من الْعلمَاء والصلحاء، فَقَالَ لَهُم: كونُوا بحضرتي، ومجلسي، فَمَا رَأَيْتُمْ من طَاعَة الله تَعَالَى فأمروني بهَا، وَمَا رَأَيْتُمْ من مَعْصِيّة الله - تَعَالَى - فازجروني عَنْهَا، فَفَعَلُوا ذَلِك، فاستقام لَهُ الْملك أَرْبَعمِائَة سنة، ثمَّ إِن إِبْلِيس أَتَاهُ يَوْمًا على صُورَة رجل، وَدخل عَلَيْهِ، فَفَزعَ مِنْهُ الْملك، فَقَالَ: من أَنْت؟ فَقَالَ إِبْلِيس: أَنا ملك، وَلَكِن أَخْبرنِي من أَنْت؟ قَالَ الْملك: أَنا رجل من بني آدم، قَالَ إِبْلِيس: لَو كنت من بني آدم لمت كَمَا يَمُوت بَنو آدم، وَلَكِن أَنْت إِلَه، فَادع النَّاس إِلَى عبادتك، فَدخل فِي قلبه سوء، ثمَّ صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: أَيهَا النَّاس: إِنِّي أخفيت عَنْكُم أمرا حَان إِظْهَار وقته، تعلمُونَ أَنِّي ملككم، اربعمائة سنة، وَلَو كنت من بني آدم لمت كَمَا مَاتَ بَنو آدم، وَلَكِنِّي إِلَه، فاعبدوني، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ على لِسَان نَبِي زَمَانه: أَن أخبرهُ بِأَنِّي أَقمت لَهُ ملكه مَا استقام، فتحول من طَاعَتي إِلَى معصيتي، فبعزتي وَجَلَالِي لأسلطن عَلَيْهِ بخت نصر، فَلم يرجع عَن ذَلِك، فَسَلَّطَهُ عَلَيْهِ، فَضرب عُنُقه، وَحمل من خزينته سبعين سفينة من ذهب. وَالثَّامِن مِنْهَا: أَنه أَشَارَ بقوله: {فيضلك عَن سَبِيل الله} (ص 26) إِلَى أَن مُتَابعَة الْهوى يضل صَاحبه عَن طَرِيق الْحق، وَمُخَالفَة الْهوى يهدي صَاحبه إِلَى الْجنَّة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} (النازعات: 41) .

فَيَنْبَغِي أَن يكون الْملك متدينا، محبا للدّين، وَالْعُلَمَاء، وَالصَّالِحِينَ، لِأَن الدّين وَالْملك مثل أَخَوَيْنِ ولدا فِي بطن وَاحِد، فَيجب للْملك أَن يهتم بِأُمُور الدّين، وَيُؤَدِّي الْفَرَائِض، والواجبات، والنوافل فِي أَوْقَاتهَا،

ويجتنب الْهوى، والبدع، وَالْمُنكر، والشبهة، وكل مَا يرجع بِنُقْصَان الشَّرْع، وَإِن علم أَن فِي ولَايَته من يتهم فِي دينه ومذهبه، فيأمر بإحضاره، وتهديده، وزجره، ووعيده، فَإِن تَابَ وأناب فبها ونعمت، وَإِلَّا عاقبه، ونفاه عَن ولَايَته ليطهر الْولَايَة من إغوائه وبدعته، وتخلو الْولَايَة من أهل الْأَهْوَاء، ويعز الْإِسْلَام، ويستديم عمَارَة الثغور بإنفاذ العساكر، ويجتهد فِي إعزاز الْحق، ويحطاط الْملك عَن إِزَالَة رونق السّنة النَّبَوِيَّة والسيرة المرضية، ليحمد عِنْد الله تَعَالَى طَرِيقَته، وتعظم فِي الْقُلُوب هيبته، وَيخَاف سطوته أعداؤه، ويعلو قدره ومنزلته وبهاؤه. وَيجب أَن يعلم أَن صَلَاح النَّاس فِي حسن سيرة الْملك، فَيَنْبَغِي للْملك أَن ينظر فِي أُمُور رَعيته، وَيقف على قليلها وكثيرها، وعظيمها وحقيرها، وَلَا يُشَارك رَعيته فِي الْأَفْعَال المذمومة، وَيجب عَلَيْهِ احترام الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ، وَأَن يثبت على الْفِعْل الْجَمِيل، وَيمْنَع نَفسه من الْفِعْل الردئ الثقيل، ويعاقب من ارْتكب الْقبْح، وَلَا يحابى من أصر على الْقَبِيح، ليرغب النَّاس فِي الْخيرَات، ويحذر من السَّيِّئَات، وَمَتى كَانَ السُّلْطَان بِلَا سياسة، وَكَانَ لَا ينْهَى الْمُفْسد عَن فَسَاده، ويتركه على مُرَاده، أفسد سَائِر أُمُوره فِي بِلَاده.

وَالتَّاسِع مِنْهَا: أَنه أَشَارَ فِي الْآيَة بقوله: {إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب} (ص: 26) إِلَى أَن من ضل عَن سَبِيل الله، وأصر على ذَلِك، وَلم يسْتَغْفر، وَلم يتب عَن ضلاله، فَإِنَّهُ يعذب فِي الْعَذَاب الشَّديد، لِأَن الضَّلَالَة عَن سَبِيل الله سَبَب لنسيان الْآخِرَة، ونسيان الْآخِرَة سَبَب لنسيان الله تَعَالَى، ونسيان الله سَبَب للدخول فِي الْعَذَاب الشَّديد. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {نسوا الله فنسيهم} (التَّوْبَة: 67) . قَالَ بزرجمهر: لَا يَنْبَغِي للْملك أَن يكون فِي حفظ مَمْلَكَته أقل من البستاني فِي حفظ بستانه، إِذا زرع الريحان، وَنبت فِيهِ الْحَشِيش، استعجل فِي قلع الْحَشِيش، كي يضْبط أَمَاكِن الريحان. وَقَالَ أفلاطون: " عَلامَة السُّلْطَان المظفر على أعدائه، أَن يكون قَوِيا فِي نَفسه، حلوا فِي قُلُوب الرّعية، رَفِيقًا فِي سَائِر أَعماله، مجربا لعهد من تقدمه، خَبِيرا بأعمال من هُوَ أقدم مِنْهُ، صلبا فِي دينه ". وكل ملك اجْتمعت فِيهِ هَذِه الْخِصَال كَانَ فِي عين عدوه مهيبا، وَلَا يجد الْغَائِب إِلَيْهِ عَيْبا. وَقَالَ سقراط: " عَلامَة الْملك الَّذِي يَدُوم ملكه أَن يكون الدّين وَالْعقل حَبِيبِي قلبه، ليَكُون فِي قُلُوب الرّعية محبوبا، وَأَن يكون الْعقل قَرِيبا مِنْهُ، ليَكُون عِنْد الْعُقَلَاء قَرِيبا، وَأَن يكون طَالبا للْعلم ليتعلم من الْعلمَاء، وَأَن يكون فَضله كثيرا ليعظم عِنْد الْفُضَلَاء، وَأَن يكون مُبْعدًا عَن مَمْلَكَته طَالب الْعُيُوب، ليبعد عَنهُ الْعُيُوب ". وكل ملك لم يكن لَهُ مثل هَذِه الْخِصَال، لَا يفرح بمملكته، ويسرع إِلَيْهِ دواعي هَلَكته، ويتلف أقرباؤه على يَدَيْهِ. والعاشر مِنْهَا: أَن الله تَعَالَى أَشَارَ بِهَذِهِ الْآيَة إِلَى أَن الْخلَافَة من الْأُمُور الَّتِي تَجْتَمِع مَعهَا النُّبُوَّة، فَلَا يبْقى للملوك والأمراء عذر بِأَن قَالُوا: لَا يحصل بالخلافة الْعِبَادَة ومصالح الدّين، لِأَن الْمُلُوك يشتغلون بمصالح الْمُسلمين، بل الْخلَافَة أتم الْأُمُور الَّتِي بهَا يصلح أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، وَيقرب الْعباد بهَا إِلَى الله - تَعَالَى -

وَأَن الْعلم والنبوة يكملان بالخلافة، فَلذَلِك سَأَلَ سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - الْخلَافَة، وَلم يسْأَل الْعلم والنبوة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وهب لي ملكا لاينبغي لأحد من بعدِي} {ص 35} . وَمن الله تَعَالَى على آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - بالخلافة بقوله: {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} (الْبَقَرَة: 30) وخاطب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بالخلافة فَقَالَ: {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض} (ص: 26) وَلم يقل: جعلناك عَالما أَو نَبيا، وَلِأَن الْعلم والنبوة مَتى قرنا بالسلطنة يزِيد بهما أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، وثواب الْأَعْمَال الصَّالِحَة كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " عدل سَاعَة خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة ". وَلِأَن الدّين يقوى، وَيزِيد عزته، وشرفه بِالسَّيْفِ، وَهُوَ يخْتَص بالخلفاء كَمَا دَعَا عَلَيْهِ السَّلَام بقوله: " اللَّهُمَّ أعز الْإِسْلَام بعمر أَو بِأبي جهل "،. فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِي عمر - رَضِي الله عَنهُ - لتقديمه فِي الذّكر. ومدح النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - نَفسه بِالسَّيْفِ. بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " أَنا نَبِي السَّيْف ". فَلَمَّا كَانَت السلاطين والأمراء خَليفَة الله تَعَالَى فِي أرضه، يَنْبَغِي لَهُم أَن يعدلُوا بَين الرعايا بِالْعَفو والمساهلة، بِمُوجب الشَّرْع، ويمنعوا الظَّالِمين عَن الظُّلم، وَالْفِسْق، ويقووا الضُّعَفَاء، ويأدبوا الْأَغْنِيَاء، ويكرموا الصلحاء

والفقراء، ويوقروا الْعلمَاء، ويعظموهم غَايَة التَّعْظِيم، ليحرصوا على الِاشْتِغَال بتَعَلُّم الْعلم وتعليمه لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْخَبَر: " إِن لكل شَيْء عمادا، وعماد هَذَا الدّين الْفِقْه ". وَقَالَ الْحُكَمَاء: " لَيْسَ شَيْء أعز من الْعلم، لِأَن الْمُلُوك حكام على النَّاس، وَالْعُلَمَاء حكام على الْمُلُوك ". وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم بن أدهم رَحْمَة الله عَلَيْهِ رَحْمَة وَاسِعَة: " شرار الْأُمَرَاء أبعدهم من الْعلمَاء والفقراء، وشرار الْفُقَرَاء وَالْعُلَمَاء أقربهم من الْأُمَرَاء ". وَيَنْبَغِي للسلاطين والأمراء أَن يزِيدُوا فِي وظائف الْعلمَاء والفقراء وأوقافهم، لِأَن دولة السلاطين والملوك تزيد ببركة دُعَائِهِمْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء وَلَا يزِيد فِي الْعُمر إِلَّا الْبر ".

وَأَيْضًا يَنْبَغِي لَهُم أَن يشتاقوا أبدا إِلَى رُؤْيَة عُلَمَاء الدّين، ويحرصوا على اسْتِمَاع نصائحهم، وَأَن يحذروا عَن رُؤْيَة الْعلمَاء السوء الَّذين يحرصون على الدُّنْيَا، فَإِنَّهُم يثنون عَلَيْك، " ويغرونك " وَيطْلبُونَ رضاك، طَمَعا فِيمَا فِي يدك من خَبِيث الحطام، ونيل الْحَرَام ليحصلوا مِنْهُ شَيْئا بالمكر وَالْحِيلَة. والعالم الصَّالح هُوَ الَّذِي لَا يطْمع فِيمَا عنْدك من المَال، ويبغضك فِي الْوَعْظ والمقال. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أفضل الْجِهَاد من قَالَ كلمة الْحق عِنْد السُّلْطَان ". وَيَنْبَغِي للسلاطين والملوك أَن يقضوا حوائج الْخَلَائق، ويغتنموا قَضَاء حوائج الْخلق لِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِذا أحب الله تَعَالَى عبدا أَكثر حوائج الْخلق إِلَيْهِ ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من قضى حَاجَة لِأَخِيهِ الْمُسلم، قضى الله تَعَالَى لَهُ سبعين حَاجَة من حوائج الدُّنْيَا وَالْآخِرَة " وَلَا يحتجبوا عَن الْخَلَائق وَقت حَاجتهم، فَإِن الاحتجاب وَقت حوائج الْخَلَائق أعظم آفَة لزوَال دولة الْمُلُوك، وَأعظم سَبَب لخراب المملكة، فَإِنَّهُ بلغنَا أَن دَاوُد النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - إِنَّمَا ابتلى من شدَّة الْحجاب. كَمَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن مرّة عَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَنه قَالَ: " من ولاه الله - تَعَالَى - شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فاحتجب دون

حَاجتهم وخلتهم، وفقرهم احتجب الله دون حَاجته وَخلته، وَفَقره ". وَفِي رِوَايَة: " أغلق الله أَبْوَاب السَّمَاء دون خلته وَحَاجته ومسكنته ". فَائِدَة: المُرَاد باحتجاب الْوَالِي عَن أَرْبَاب الْحَوَائِج والمهمات أَي: يلجون عَلَيْهِ، فيعرضونها، فَترفع عَمَّن استمال ذَلِك. وَالْمرَاد باحتجاب الله تَعَالَى: أَلا يُجيب دَعوته، وَأَن يخيب آماله، ويبعده عَمَّا يبتغيه ويمنعه عَنهُ، فَلَا يجد سَبِيلا إِلَى حَاجته. وَالْفرق بَين الْحَاجة، والخلة، والفقر: أَن الأول يسْتَعْمل فِي الْإِضْرَار الْعَام. وَالثَّانِي: فِي الْإِضْرَار الْخَاص. وَالثَّالِث: فِيمَا كَانَ كاسرا لِلظهْرِ. وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من كَانَ وصلَة لِأَخِيهِ الْمُسلم، إِلَى ذِي سُلْطَان، فِي مَنْفَعَة بر، أَو يسر عسير أعين على إجَازَة الصِّرَاط يَوْم دحض الْأَقْدَام ". وَعَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: " ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، وأبلغوني حَاجَة من لَا يقدر على إبلاغ

حَاجته، فَإِنَّهُ من أبلغ سُلْطَانا حَاجَة من لَا يَسْتَطِيع لَهُ إبلاغها إِيَّاه، ثَبت الله قَدَمَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة على الصِّرَاط ". وَيَنْبَغِي للسلاطين والملوك أَن يأمروا بِالْمَعْرُوفِ، وينهوا عَن الْمُنكر بِمُوجب الشَّرْع، وَيكون قصدهم أَن يجْعَلُوا الرّعية على الرَّاحَة والأمن، ليشتغلوا على الطَّاعَة وَالْعِبَادَة مَعَ فرَاغ البال، ويؤمنوا الطّرق عَن السراق، وقطاع الطَّرِيق، ويدفعوا شَرّ الْكفَّار والمفسدين، عَن الْبِلَاد والعباد، ويكونوا حريصين على الْجِهَاد، ويحرضوا الْخَلَائق على الْجِهَاد، فَإِذا فعلوا هَذِه الْأَشْيَاء يحصل فِي ديوَان أَعْمَالهم مثل ثَوَاب عبَادَة جَمِيع أهل مملكتهم، وَحِينَئِذٍ يعمر الْولَايَة، وَيحصل الصِّحَّة والسلامة، وَالْبركَة فِي الأرزاق والأقوات والمياه، والأمطار، ويزداد عمر الْمُلُوك، وَيحصل الرخَاء، وَأما إِذا لم يعدلُوا بَين الرّعية، وَلم يعظموا الْعلمَاء وَلم يرحموا الْفُقَرَاء، وَلم يصرفوا الْأَوْقَاف مصارفها، وَقَطعُوا الْخيرَات، وَلم يأمروا بِالْمَعْرُوفِ، وَلم ينهوا عَن الْمُنكر، فَحِينَئِذٍ يُرْسل الله تَعَالَى عَلَيْهِم سَبْعَة أَشْيَاء، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: " إِذا قل الدُّعَاء نزل الْبلَاء، وَإِذا جَار السُّلْطَان حبس الْمَطَر، وَإِن قطر فَلَا مَنْفَعَة لَهُ، وَإِذا منع الزَّكَاة مَاتَت مَوَاشِيهمْ، وقحطت بِلَادهمْ، وَإِذا قلت الصَّدَقَة كثرت الْأَمْرَاض، وَإِذا خَافَ بَعضهم بَعْضًا صَارَت الدولة للْمُشْرِكين، وَإِذا ظهر الزِّنَا زلزلت الأَرْض على أَهلهَا، وَإِذا شهدُوا شَهَادَة الزُّور نزل الطَّاعُون - وَهُوَ الوباء ". ومصداقه قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} (الرَّعْد 11) . وَالله الْمُسْتَعَان

الباب الرابع

الْبَاب الرَّابِع فِي قَوَاعِد الْإِمَامَة وَأَحْوَالهَا أما قواعدها: فَهِيَ أَن السلطنة، والإمامة، والإمارة، أصل عَظِيم فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا خلَافَة الله - تَعَالَى - فِي أرضه، إِذا لم يُخَالف أَمر الله تَعَالَى، وَسنة رَسُوله، وَعدل فِي مَمْلَكَته، ورحم الرعايا. أما إِذا لم يكن الْأَمِير متصفا بِهَذِهِ الصِّفَات، يكون خَليفَة الشَّيْطَان. فَإِذا خص الله - تَعَالَى - أحدا من عباده بالإمارة من بَين النَّاس، وَأمر وَنهى بَين النَّاس وعظمه الله بقوله تَعَالَى: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} (النِّسَاء 59) . وَنفذ أمره على أَمْوَال الْخَلَائق وأنفسهم، يجب على ذَلِك الْأَمِير بعد أَدَاء جَمِيع مَا فَرْضه الله - تَعَالَى - عَلَيْهِ، أَن يعدل بَين النَّاس، وَيحسن إِلَيْهِم، وَيرْفَع منار الشَّرِيعَة وَالدّين، ويتيقن أَن كل ظلم يحصل من يَد أجناده، أَو من يَد الرّعية الَّتِي تَحت يَد الْملك، يكون إثمه عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذا علم وَقدر على مَنعه وَلم يمْنَع. وَأما إِذا عدل فِي الرّعية، وَحكم بِمُوجب الْكتاب وَالسّنة، يكون ثَوَاب عبَادَة يَوْم من طَاعَته مُقَابلا لثواب جَمِيع عبَادَة رَعيته، أَو أَزِيد مِنْهُ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " عدل سَاعَة خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة ". وَيكون من الَّذين يظلهم الله تَحت ظله. اعْلَم أَن الْأَمِير لَا يُقيم مصَالح النَّاس، وَلَا يعدل فِي رَعيته، إِلَّا بعد رِعَايَة عشر قَوَاعِد: الْقَاعِدَة الأولى: أَن كل قَضِيَّة تقع فِي النَّاس يقدر فِي ذَلِك الْقَضِيَّة أَن نَفسه رعية، والأمير غَيره، وكل شَيْء لَا يرضى لنَفسِهِ لَا يرضى لغيره.

الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: أَلا يعد انْتِظَار أَرْبَاب الْحَوَائِج فِي بَابه حَقِيرًا، ويحترز عَن خطر ذَلِك، فَإِن الله تَعَالَى لَا يطْلب مِنْهُ تَأْخِير قَضَاء حوائج الْخلق. حِكَايَة: يحْكى أَن أرسطاطاليس الْحَكِيم نصح يَوْمًا لذِي القرنين، وَقَالَ: يَا خَليفَة الله إِذا طلب أَرْبَاب الْحَوَائِج مِنْك حوائجهم، فَلَا تهاون فِي قَضَاء حوائجهم كي لَا تحرم عَن رَحْمَة الله ومغفرته. الْقَاعِدَة الثَّالِثَة: أَلا يسْتَغْرق جَمِيع أوقاته بالشهوات النفسانية، ويجتهد أَن يكون أَكثر أوقاته مصروفا بتدبير الْملك، وتدبير الرّعية. حِكَايَة: يحْكى أَن حكيما من حكماء اليونان نصح لملك، وَقَالَ: لَا تنم نوم الغافلين، كي لَا يحرم عَن بابك طالبو الْعدْل مِنْك، فيشكوا مِنْك إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يحصل لدولتك نقص، لِأَن دولة الْمُلُوك مثل الشَّمْس يَقع نوره فِي الصَّباح على جِدَار، وَفِي الْمسَاء على جِدَار آخر، وتزول الدولة بِأَدْنَى شَيْء من الْمعاصِي. قَالَ الْحُكَمَاء: ثَمَانِيَة أَشْيَاء سم قَاتل، وَثَمَانِية أُخْرَى ترياقها: الدُّنْيَا سم قَاتل، والزهد فِيهَا ترياق. وَالْمَال سم قَاتل، وَالزَّكَاة ترياق. وَالْكَلَام كُله سم قَاتل، وَذكر الله تَعَالَى ترياق. والعمر كُله سم قَاتل، وَالطَّاعَة ترياق. وَاللَّيْل وَالنَّهَار سم قَاتل، وَالصَّلَاة الْخمس فيهمَا ترياق. وَجَمِيع السّنة سم قَاتل، وَشهر رَمَضَان فِيهَا ترياق. وَالْمَعْصِيَة سم قَاتل، وَالتَّوْبَة النصوح ترياق. وَملك الدُّنْيَا سم قَاتل، وَالْعدْل فِيهَا ترياق. الْقَاعِدَة الرَّابِعَة: أَن يجْتَهد الْملك فِي كل أَمر أَن يحصله بالرفق والسهولة، لَا بالعنف، لِأَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - دَعَا لِلْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ارْفُقْ كل وَال رفق على رَعيته، واعنف على كل وَال عنف على رَعيته ".

حِكَايَة: يحْكى أَن هِشَام بن عبد الْملك كَانَ من أكَابِر الْخُلَفَاء، سَأَلَ عَن أبي حَازِم - وَهُوَ من مشاهير عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان وزهاده - وَقَالَ: كَيفَ التَّدْبِير عَن الْخَلَاص من الْمظْلمَة فِي الْإِمَارَة؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: إِن كنت تُرِيدُ الْخَلَاص عَن مظْلمَة الْإِمَارَة، يكن أخذك الْأَمْوَال من موَاضعهَا، وصرفك فِي محالها على وَجه الشَّرْع. فَقَالَ هِشَام: من يقدر على ذَلِك؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: من لَا يُطيق على عَذَاب جَهَنَّم. الْقَاعِدَة الْخَامِسَة: الِاجْتِهَاد بِقدر وَسعه وطاقته أَن يكون أَكثر الرّعية عَنهُ راضين بِحَسب مُوَافقَة الشَّرْع. حِكَايَة: وعظ عَالم من الْفُضَلَاء ملكا، فَقَالَ: إِن ترد أَن يكون الله تَعَالَى عَنْك رَاضِيا، وَرَحمته عَلَيْك متواليا، فَلَا تَشْتُم وَلَا تضرب الْخَلَائق من غير وَجه، وَمن غير سَبَب شَرْعِي، وَليكن قصدك رِضَاء الله - تَعَالَى - بِسَبَب رِضَاء الْخلق عَنْك. الْقَاعِدَة السَّادِسَة: هِيَ أَلا يطْلب الْملك رِضَاء أحد بمخالفة رِضَاء الله تَعَالَى، وَيقدم مواجب الشَّرْع على مُقْتَضى نَفسه، وَإِن حكم الْملك بِمُقْتَضى الشَّرْع عَليّ أحد من تعلقاته فعاداه بِسَبَب ذَلِك لَا يضر عداوته لذَلِك الْملك. الْقَاعِدَة السَّابِعَة: هِيَ إِن طلب الرّعية من الْملك الحكم عدل الْملك، وَإِن طلبُوا الرَّحْمَة عَفا عَنْهُم، وَإِن وعد لَهُم لَا يُخَالف مَا وعد لَهُم. كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْعَهْد من الدّين ". يَعْنِي إِيفَاء الْعَهْد من الدّين.

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن حسن الْعَهْد من الْإِيمَان، لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ ". وَقَالَ الْحُكَمَاء: الْأَمَانَة تجر الرزق، والخيانة تجر الْفقر، فلرب حافر حُفْرَة وَقع فِيهَا. الْقَاعِدَة الثَّامِنَة: هِيَ أَن يكون الْملك حَرِيصًا بملاقاة الْعلمَاء الْمُتَّقِينَ العاملين بعلمهم، وَيكون حَرِيصًا على سَماع وعظهم ونصيحتهم، ويجتنب عَن ملاقاة الْعلمَاء الَّذين يثنون على الْملك، وينصحون للْملك بموافقة مزاجه، ليعطي الْملك إيَّاهُم من مَتَاع الدُّنْيَا، سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمَتَاع حَلَالا أَو حَرَامًا. الْقَاعِدَة التَّاسِعَة: هِيَ أَن يجْتَهد الْملك أَن يتْرك الْمُفَاخَرَة، وَالْكبر، وَالْغَضَب، لِأَن الْغَضَب عَدو الْعقل، وَآفَة الْغَضَب كَثِيرَة لَا تحصى. الْقَاعِدَة الْعَاشِرَة: هِيَ أَلا يقنع الْملك أَلا يظلم بِنَفسِهِ وَحده، بل يجْتَهد أَلا يظلم أجناده، ونوابه، وَكتابه، وَمن هُوَ تَحت يَده - من عبيده وخدمه - على

رَعيته؛ لِأَن آفَة الظُّلم أسْرع لإِزَالَة دولة السلاطين. شعر: // (الرجز) // (سهم دموع الباكيات فِي السحر ... أنفذ فِي الْإِنْسَان من سهم الْوتر) . وكما قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم: الصَّائِم حِين يفْطر، وَالْإِمَام الْعَادِل، ودعوة الْمَظْلُوم يرفعها الله فَوق الْغَمَام، وَيفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيَقُول الرب: وَعِزَّتِي، وَجَلَالِي، لأنصرنك، وَلَو بعد حِين ". وَرُوِيَ عَن أبي ذَر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، مَا كَانَت صحف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: " أَمْثَالًا كلهَا: أَيهَا الْملك، الْمُسَلط، المبتلي، الْمَغْرُور، إِنِّي لم أَبْعَثك لِتجمع الدُّنْيَا بَعْضهَا على بعض، وَلَكِن بَعَثْتُك لِترد عني دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنِّي لَا أردهَا وَلَو كَانَت من كَافِر ". قلت: يَا رَسُول الله، مَا كَانَت صحف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: كَانَت عبرا كلهَا: عجبت لمن أَيقَن بِالْمَوْتِ كَيفَ يفرح؟ {وَعَجِبت لمن أَيقَن بِالْقدرِ ثمَّ هُوَ ينصب} وَعَجِبت لمن يرى الدُّنْيَا، وَتَقَلُّبهَا بِأَهْلِهَا ثمَّ يطمئن إِلَيْهَا {وَعَجِبت لمن أَيقَن بِالْحِسَابِ غَدا ثمَّ لَا يعْمل} .

وَعَن عَليّ - كرم الله وَجهه - أَنه خطب، وَقَالَ فِي خطبَته: " أَيهَا النَّاس سَمِعت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَنه كَانَ يَقُول: لَيْسَ من وَال وَلَا قَاض إِلَّا يُؤْتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُوقف بَين يَدي الله تَعَالَى على الصِّرَاط، ثمَّ تنشر الْمَلَائِكَة سيرته - يَعْنِي صحيفَة عمله مَعَ رَعيته، وَمَعَ من فِي تَحت يَده - أعدل أم جَار؟ فَيَقْرَؤُهَا على رُءُوس الْخَلَائق - يَعْنِي بَين الأشهاد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْم يقوم الأشهاد} (غَافِر: 51) - فَإِن كَانَ عدلا نجاه الله بعدله، وَإِن كَانَ غير عدل، انتفاضة بِهِ الصِّرَاط صَار بَين كل عُضْو من أَعْضَائِهِ مسيرَة مائَة سنة. وَيَنْبَغِي للْملك أَن يقرب إِلَيْهِ أَصْحَاب الرَّأْي وَالتَّدْبِير، وَأَصْحَاب الْعُقُول المتدينين، ويكرمهم، وَيقبل شفاعتهم ونصائحهم، وَتَكون مشورته مَعَهم، لِأَن بمشورتهم تثبت أوتاد الدولة، وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) .

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا مُظَاهرَة أوثق من الْمُشَاورَة ". وَكلما روعيت هَذِه الْقَوَاعِد االعشر فِي السلطنة والإمارة تزداد كل يَوْم دولة الْملك، ويزداد آثَار الْأَمْن وَعمارَة الْولَايَة، وينشر فِي الْبِلَاد آثاره الْحَسَنَة، ويفشو عدله فِي الْبِلَاد، وتميل إِلَيْهِ قُلُوب الْعباد، ويرتب أَحْوَال المملكة، وتنتفع الْخَلَائق من إحسانه وَكَرمه. حُكيَ: أَن حكماء اليونان قَالُوا: عَلامَة زِيَادَة دولة الْملك أَن يتَرَدَّد بِحَضْرَتِهِ أَرْبَاب الْعلم، والزهد، وَالْعقل، كل يَوْم وَلَيْلَة، وعلامة نقص الدولة، وخراب المملكة أَن يتَرَدَّد بِحَضْرَتِهِ الْفُسَّاق، والسفهاء، وَأهل الْبدع، والظلمة، ويجتنب الْعلمَاء عَن ملاقاته، ويكرهون الْحُضُور عِنْده. حِكَايَة: كتب ملك الرّوم إِلَى أنو شرْوَان: بِأَيّ شَيْء حفظت الْملك والرعية، مُنْذُ زمَان بِحَيْثُ لَا يخالفك أحد، وازدادت كل يَوْم دولتك، وَعمارَة مملكتك؟ فَقَالَ بسبعة أَشْيَاء: الأول: حفظت لساني من الشتم على الرّعية. الثَّانِي: مَا هزلت فِي الْأَمر وَالنَّهْي على الرّعية، بل كَانَ أَمْرِي بالجد، ونهيي بالجد. الثَّالِث: إِنِّي لم أُخَالِف بوعدي للرعية، بل كلما وعدت لَهُم شَيْئا أَعطيتهم ذَلِك، وَأَيْضًا لم أُخَالِف بوعيدي، بل كلما أوعدت النَّاس أصبت الْعقُوبَة إيَّاهُم.

الرَّابِع: فوضت كل أَمر إِلَى أَهله ومستحقه، من غير أَن يكون فِيهِ هواي وشهوتي. الْخَامِس: كلما أمرت بالعقوبة، أمرت بالعقوبة لأجل الْأَدَب، لَا لأجل الْغَضَب. السَّادِس: حفظت قُلُوب الرّعية بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم، لَا بالجور والإمساك عَنْهُم. السَّابِع: حببت نَفسِي فِي قُلُوب الرّعية بالْقَوْل الصدْق، لَا بِالْكَذِبِ والتبصبص. قَالَت الْحُكَمَاء: يَنْبَغِي للسُّلْطَان والأمراء والوزراء أَلا يتخذوا الْعمَّال السوء أجنادا، وَلَا يفوضوا الْأَمر الَّذِي يتَعَلَّق بالإمارة والمملكة إِلَى الْعمَّال السوء الَّذين لَا يشفقون على الرّعية، وَلَا يوقرون أهل الْعلم وَالْفضل، وَلَا يفرقون بَين الْحَلَال وَالْحرَام، لِأَنَّهُ إِذا فوض إِلَى الْعمَّال السوء أَمر المملكة يغتر بشفقة الْملك إِلَيْهِ، ويطاول يَده إِلَى أَمْوَال الرّعية ومحارمه، لمَنْفَعَة نَفسه، وَيكون جَمِيع همته وقصده أَن يكون نَفسه فِي رَاحَة فَقَط، سَوَاء كَانَ للرعية رَاحَة أَولا، فَحِينَئِذٍ ينفتح أَبْوَاب الْفساد وَالظُّلم، ويتعذر على الْملك والوزير سد ذَلِك الْبَاب، وَدفع ضَرَر ذَلِك. وعَلى الْحَقِيقَة مثل ضَرَر تصرف الْعمَّال السوء كَمثل الْغذَاء الَّذِي لَا نفع فِيهِ للبدن، كل يَوْم يَأْكُل الرجل مِنْهُ ذرة يحصل فِي بَاطِنه أخلاط سوء، وَيزِيد ذَلِك الأخلاط كل يَوْم فِي بَاطِنه، وبطول اللَّيَالِي وَالْأَيَّام يستحكم ذَلِك الْخَلْط، فَيظْهر أثر الْخَلْط فِي الأعصاب وَالْعُرُوق والأعضاء جَمِيعًا، فيمرض الرجل من ذَلِك، وتعجز الطبيعة عَن دفع ذَلِك، ويتغير مزاج ذَلِك الرجل، وَتذهب قوته بِالْكُلِّيَّةِ، فَيحْتَاج إِلَى الطَّبِيب الحاذق، والطبيب إِن كَانَ حاذقا لكنه يقصر فِي معالجته ويعجز عَنْهَا لِأَنَّهُ قرب إِلَى الْهَلَاك فَلَا يتَوَقَّع الشِّفَاء، والنجاة من ذَلِك الْمَرَض إِلَّا بعد المعالجة الْكَثِيرَة بطول الزَّمَان والزحمات الْكَثِيرَة، فَفِي الْحَقِيقَة أَن ضَرَر عَامل ظَالِم يَوْمًا فِي الرّعية لَا يصلحه عدل الْملك بطول الزَّمَان. وَقَالَ الْعُقَلَاء: يجب على الْمُلُوك الرِّعَايَة على ثَلَاثَة أَشْيَاء:

الأول: أَن يجْتَهد فِي عمَارَة الْولَايَة، وَلِهَذَا قَالُوا: إِن عدم عمَارَة الْولَايَة بشيئين: إِمَّا بعجز الْأَمِير أَو بالظلم فِي الرّعية. وَالثَّانِي: أَن يشفق وَيرْحَم على الرّعية ويعدل فِي الحكم بَينهم. الثَّالِث: أَلا يُعْطي الْملك الْأَمر الْعَظِيم بيد الرجل الحقير غير اللَّائِق بذلك الْأَمر، فَإِن ذَلِك سَبَب تخرب الْولَايَة. سُئِلَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : بِأَيّ سَبَب اسْتمرّ الْملك على آل " ساسان " لمدى اربعة آلَاف سنة؟ فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : لرأفتهم بالعباد وعمارتهم فِي الْبِلَاد. وَسُئِلَ عَن بعض أهل الساسان: بِأَيّ سَبَب انْعَزل أهل الساسان عَن المملكة بعد استقرارهم على الْملك أَرْبَعَة آلَاف سنة؟ فَقَالَ: سَبَب انعزالهم أَن يفوضوا الْأُمُور الْعِظَام إِلَى يَد الرجل الحقير الذميم الَّذِي لَا يسْتَحق لذَلِك الْأَمر، فَحِينَئِذٍ ضَاعَ أَصْحَاب الرَّأْي وَالتَّدْبِير، والأكابر، وَأهل الرَّأْي، وَأهل التجربة، وَأَصْحَاب الدول، والشرفاء، وَاسْتولى على الْملك الرِّجَال الَّذين صَارَت عُقُولهمْ أسرى لهوائهم، فآل الْأَمر إِلَى أَن خرجت المملكة عَن أَيْديهم. حِكَايَة: أخبروا أنو شرْوَان الْعَادِل، أَن أَمِير " خُرَاسَان " كَانَ نَائِما فِي دَاره، فَسرق من دَاره أَكثر أَمْوَاله، فَأمر أنو شرْوَان بِأَن يعْزل ذَلِك الْملك، على خُرَاسَان، وَقَالَ: " كل ملك لَا يقدر على حفظ بَيته من السَّارِق، فبطريق الأولى أَلا يقدر على حفظ ولايتنا ". فَيجب على السلاطين والأمراء، أَن ينصبوا على أُمُورهم رجَالًا عقلاء، أَصْحَاب الْمُرُوءَة، والشفقة، والتأني، وَالْوَقار، مميزين بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَبَين الْحَلَال وَالْحرَام. حِكَايَة: يحْكى أَن أرسطاطاليس نصح يَوْمًا لذِي القرنين عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ: " إِن ترد أَلا تكون فِي الدُّنْيَا ذليلا، فَلَا تخَالف أَمر الله تَعَالَى، وَإِن ترد أَلا تضيع مَالك فَلَا تَمنعهُ عَن مستحقيه، وَأَن ترد أَن يكون جَمِيع أَمرك صَوَابا، فَلَا تعجل فِي أَمرك، وَاجعَل رَأس مَالك الْعَمَل الصَّالح وَأمر الدّين ". حِكَايَة: سَأَلَ مُعَاوِيَة يَوْمًا أحنف بن قيس - وَكَانَ من أكَابِر ذَلِك الزَّمَان - " كَيفَ الزَّمَان؟ قَالَ أحنف بن قيس: " أَنْت الزَّمَان، إِذا صلحت صلح الزَّمَان، وَإِذا فَسدتْ فسد الزَّمَان ".

كَمَا قَالَ الشَّاعِر: // (الوافر) // (إِذا مَا اللَّحْم أنتن ملحوه ... ونتن الْملح لَيْسَ لَهُ دَوَاء) ثمَّ قَالَ الْأَحْنَف لمعاوية: " اجْعَل الْعدْل لنَفسك جنَّة، لكَي تخلص عَن عتاب الله تَعَالَى، وَتدْخل جنته ". كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْعدْل جنَّة واقية، وجنة بَاقِيَة ". حِكَايَة: يحْكى أَن فِي زمَان الْملك الْعَادِل صَاحب بن عباد أخبر أَن فلَانا التَّاجِر مَاتَ، وَترك مَالا عَظِيما، ووارثوه أَطْفَال، أعْطى كِفَايَة أطفاله من النَّفَقَة، وَوضع الْبَاقِي فِي بَيت مَال الْمُسلمين، فَكتب إِلَى الْمخبر بذلك: " الْمَيِّت رَحمَه الله، وَالْمَال وَرثهُ الله، وَالْوَارِث رزقه الله، والساعي لَعنه الله " ... وَالله الْمُوفق للصَّوَاب. وَأما أَحْوَال الْإِمَامَة: فَيَنْبَغِي للملوك أَن تكون أَحْوَالهم وسيرتهم بَين الرّعية على مُقْتَضى الْآيَة والْحَدِيث: أما الحَدِيث: فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن أفضل عباد الله عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام عَادل رَفِيق، وَإِن شَرّ عباد الله عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام جَائِر خرق ". وَأما الْآيَة: فَقَوله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} (النَّحْل: 90) . اعْلَم أَن للملوك ثَلَاثَة أَحْوَال: الأول مِنْهَا مَعَ أنفسهم. وَالثَّانِي: بَينهم وَبَين الرّعية وَالثَّالِث بَينهم وَبَين الله تَعَالَى، وَأَن الْمُلُوك فِي كل وَاحِد من هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة مأمورون بِثَلَاثَة، ومنهيون عَن ثَلَاثَة: مأمورون: بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَان، وإيتاء ذِي الْقُرْبَى. ومنهيون: عَن الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي، كَمَا نطق فِي الْآيَة.

فَفِي كل حَال من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة للملوك مَعَ هَذِه السِّتَّة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة معنى آخر مُنَاسِب لذَلِك الْحَال. أما الْحَالة الأولى للْملك مَعَ نَفسه: فِي الْعدْل: أَن يوحد الله تَعَالَى. وحاله فِي الْإِحْسَان: أَن يخرج نَفسه عَن عُهْدَة جَمِيع مَا فَرْضه الله تَعَالَى. وحاله فِي إيتَاء ذِي الْقُرْبَى: أَن يُرَاعِي حُقُوق جوارحه، وأعضائه، وَيُوجه قلبه إِلَى الله تَعَالَى، ويحفظ حواسه الظَّاهِرَة والباطنة، على الْأَشْيَاء الَّتِي أمره الله تَعَالَى، وَينْهى جَمِيع حواسه عَن الْأَشْيَاء الَّتِي نهى الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأما حَاله فِي الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي: أَن يبعد نَفسه عَن الْكَذِب، والغيبة، والبهتان، وَالزِّنَا، وَالْفِسْق، والفجور، وَالْكفْر، وَالْغَصْب على غير حق، والحرص والحسد، وَالْكبر، وَالْعجب، والجور، وَالظُّلم، والميل عَن الْحق، والحيف، وَغير ذَلِك. وَيُسمى عدل الْملك على نَفسه: الْعدْل الْخَاص، وَالْعدْل على الْخَلَائق: الْعدْل الْعَام فَمن لم يقدر على الْعدْل نَفسه لم يقدر على الْعدْل على الْخَلَائق، وعَلى مَمْلَكَته، ويشمل كلا نَوْعي الْعدْل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته ". يَعْنِي كل رجل ملك، ورعيته أعضاؤه، وجوارحه، وحواسه الْخَمْسَة، وَنَفسه، وَقَلبه، وروحه. وَعدل الرجل فِي جوارحه: أَن يحفظ كل وَاحِد مِنْهَا على مَا خلقه الله تَعَالَى لَهُ. فالعدل فِي الْعين: أَن يحفظها من النّظر فِي الْحَرَام وَالْعدْل فِي الْيَدَيْنِ: أَن يفعل بهما الْخَيْر، ويمنعهما من الشَّرّ وَالْعدْل فِي اللِّسَان: أَن يحفظه من الْغَيْبَة، والشتم، وَالْكذب. وَالْعدْل فِي الْبَطن، أَن يحفظه من الطَّعَام الْحَرَام، والشبهة. وَالْعدْل فِي الْأذن: أَن يحفظها من سَماع النميمة، والغيبة ومساوئ الْخلق.

وَالْعدْل فِي الْقلب: أَن يحفظه من الغل، والحقد، والحسد، والبغض والعداوة. وَالْعدْل فِي الْبدن: أَن يحفظه من لبس الْحَرَام. وَبعد ذَلِك يجب على الْملك أَن يحفظ جَمِيع الْمَذْكُورَات على طَاعَة الله تَعَالَى وعبادته، وَيمْنَع جَمِيع الْأَعْضَاء عَن الْعَمَل الَّذِي يدْخل بِسَبَبِهِ النَّار، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا} (التَّحْرِيم: 6) . فَمن خرج عَن عُهْدَة الْعدْل الْخَاص يُمكن أَن يخرج عَن عُهْدَة الْعدْل الْعَام، لقَوْل عَليّ كرم الله وَجهه: " رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر ". وَالْمرَاد من الْجِهَاد الْأَصْغَر الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار وَالْمرَاد من الْجِهَاد الْأَكْبَر: الْجِهَاد مَعَ النَّفس، بِأَن يحفظ نَفسه على مَا أَمر الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَيمْنَع نَفسه عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ. وَقيل: الْعدْل الْخَاص أسهل من الْعدْل الْعَام - وَهُوَ الْعدْل بَين الْخَلَائق - فكم من الْمُلُوك من يقدر على الْعدْل على نَفسه، وَلَا يقدر على الْعدْل بَين الْخَلَائق؟ لِأَن الْعدْل بَين الْخَلَائق هُوَ خلَافَة الله - تَعَالَى - عَبده فِي أرضه، وَهُوَ أشق الْأَشْيَاء، ولكثرة مشقته كَانَ ثَوَابه أعظم، وَلِهَذَا قيل: لَيْسَ للملوك أفضل شَيْء ثَوابًا من الْعدْل على رَعيته. وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن - وكلتا يَدَيْهِ يَمِين - الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم، وماولوا ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن أفضل عباد الله منزلَة إِمَام عَادل رَفِيق ". وَلأَجل شرف الْعدْل عِنْد الله تَعَالَى، وَرفع مَنْزِلَته عِنْده، كَانَ ثَوَابه سَاعَة مثل ثَوَاب عبَادَة سِتِّينَ سنة.

وَمِثَال من لَا يعدل على نَفسه، ويقصد أَن يعدل على رَعيته، كَمثل رجل لَا يقدر على نجاة نَفسه من الْغَرق، فمحال أَن يقدر على نجاة غَيره من الْغَرق فِي المَاء. وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " مَكْتُوب فِي عَصا مُوسَى أَربع كَلِمَات: أَولهَا: إِذا لم يكن للسُّلْطَان عدل فَهُوَ مَعَ فِرْعَوْن سَوَاء، وَإِذا لم يكن للْعَالم عمل فَهُوَ والإبليس سَوَاء، وَإِذا لم يكن للغني رَحْمَة للْفَقِير فَهُوَ مَعَ قَارون سَوَاء، وَإِذا لم يكن للْفَقِير صَبر فَهُوَ مَعَ الْكَلْب سَوَاء ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر فَهُوَ خَليفَة رَسُوله ".

دلّ الحَدِيث على أَن الْقيام بهما يسْتَحق الْعِزّ فِي الدَّاريْنِ، فَأَما المقصر فيهمَا يسْتَحق المذمة والمذلة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. فَأَما من رزقه الله تَعَالَى الْخلَافَة يَنْبَغِي لَهُ أَن يعدل أَولا على نَفسه، بِأَن يَطْرَحهَا فِي كورة الشَّرِيعَة، لتأتمر بأوامر الله تَعَالَى، وتنتهي عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ، فَحِينَئِذٍ تخرج نَفسه من خساسة الأمارية، ويوجهها إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى، فَيكون الْقلب متصفا بِالصِّفَاتِ الحميدة، وَالنَّفس مُجَرّدَة عَن الصِّفَات الذميمة، وَالروح مُتَعَلقَة بالأخلاق الْعلية، فيؤثر ذَلِك على جَمِيع الْبدن والجثة، فَحِينَئِذٍ خَشَعت النَّفس وخضعت فِي الْعِبَادَة، وَهُوَ سر قَوْله تَعَالَى: {الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} (الْمُؤْمِنُونَ 2) وسر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَو خشع قلب هَذَا لخشع جوارحه) . فَيصْرف الْملك حِينَئِذٍ جَمِيع عمره فِي عبَادَة الله تَعَالَى، وَلَا يخرج عَن حكم الشَّرْع طرفَة عين، لكَون نَفسه حِينَئِذٍ مطمئنة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} (الْفجْر 27، 28، 29، 30) فَحِينَئِذٍ يجب على الْخَلَائق طَاعَة ذَلِك الْأَمِير الْعَادِل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} {النِّسَاء 59} . اعْلَم أَن مُنَاسبَة هَذِه الْآيَة بِمَا قبلهَا: أَنه تَعَالَى لما أَمر الرُّعَاة والولاة بِالْعَدْلِ فِي الرّعية أَمر الرّعية بِطَاعَة الْوُلَاة فَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} (النِّسَاء: 59) ، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه: " حق على الإِمَام أَن يحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى وَيُؤَدِّي الْأَمَانَة، فَإِذا فعل ذَلِك، فَحق على الرّعية أَن يسمعوا ويطيعوا ". وَفِي سَبَب نزُول هَذِه الاية قَولَانِ:

أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي عبد الله بن حذافة بن قيس السَّهْمِي، إِذْ بَعثه النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي سَرِيَّة. أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ. وَالثَّانِي: أَن عمار بن يَاسر كَانَ مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد فِي سَرِيَّة، فهرب الْقَوْم، وَدخل رجل مِنْهُم على عمار، فَقَالَ: إِنِّي قد أسلمت، فَهَل يَنْفَعنِي، أَو أذهب كَمَا ذهب قومِي؟ فَقَالَ عمار: أقِم فَأَنت آمن، فَرجع الرجل وَأقَام

فجَاء خَالِد، فَأخذ الرجل، فَقَالَ عمار: إِنِّي قد أمنته، وَقد أسلم، قَالَ: أتجير عَليّ، وَأَنا الْأَمِير؟ فتنازعا، وقدما على رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَوْله: {أطِيعُوا الله} (النِّسَاء 59) ، أَي أطِيعُوا كتاب الله، وَقَوله: {وَأَطيعُوا الرَّسُول} (النِّسَاء 59) أَي: فِي حَيَاته امتثلوا أمره وَاجْتَنبُوا نَهْيه، وَبعد مماته اتبعُوا سنته. فَإِن قيل: إِن طَاعَة الرَّسُول هِيَ طَاعَة الله تَعَالَى، فَمَا معنى هَذَا الْعَطف؟ قُلْنَا: قَالَ القَاضِي: الْفَائِدَة فِي ذَلِك بَيَان الدلالتين: فالكتاب: يدل على أَمر الله تَعَالَى، ثمَّ يفهم مِنْهُ أَمر الرَّسُول لَا محَالة. وَالسّنة: تدل على أَمر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، ثمَّ يعلم مِنْهَا أَمر الله، لَا محَالة. فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن قَوْله: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} (النِّسَاء 59) يدل على وجوب مُتَابعَة الْكتاب وَالسّنة. وَفِي " أولي الْأَمر " أَرْبَعَة أَقْوَال: الأول: أَنهم الْأُمَرَاء، والولاة، قَالَه أَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة - وَزيد بن أسلم، وَالسُّديّ، وَمُقَاتِل.

قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: " حق على الإِمَام أَن يحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى، وَيُؤَدِّي الْأَمَانَة، فَإِذا فعل ذَلِك، فَحق على الرّعية أَن يسمعوا ويطيعوا ". وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله، وَمن يعصني فقد عصى الله، وَمن يطع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي، وَمن يعْص الْأَمِير فقد عَصَانِي ". عَن عبد الله عَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " السّمع وَالطَّاعَة على الْمَرْء الْمُسلم، فِيمَا أحب وَكره، مالم يُؤمر بِمَعْصِيَة، فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة، فَلَا سمع وَلَا طَاعَة ". وَالثَّانِي: أَنهم الْعلمَاء، رَوَاهُ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ قَول جَابر بن عبد الله، وَالْحسن، وَأبي الْعَالِيَة، وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ، وَالضَّحَّاك، وَرَوَاهُ حصيف عَن مُجَاهِد.

وَالثَّالِث: أَنهم أَصْحَاب النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - رَوَاهُ ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَبِه قَالَ بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ. وَالرَّابِع: أَنهم أَبُو بكر وَعمر، وَهُوَ قَول عِكْرِمَة. وَعَن مُعَاوِيَة بن صَالح قَالَ: حَدثنِي سليم بن عَامر قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يخْطب فِي حجَّة الْوَدَاع فَقَالَ:

" اتَّقوا الله وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زَكَاة أَمْوَالكُم، وَأَطيعُوا ذَا أَمركُم، تدْخلُوا جنَّة ربكُم ". وَقيل: المُرَاد من أولي الْأَمر: أُمَرَاء السَّرَايَا. قَوْله: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء} {النِّسَاء 59} . قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: اختلفتم وَقَالَ كل فريق: القَوْل قولي، واشتقاق الْمُنَازعَة: أَن كل وَاحِد ينتزع الْحجَّة. قَوْله: {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} (النِّسَاء 59) فِي كَيْفيَّة هَذَا الرَّد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن رده إِلَى الله رده إِلَى كِتَابه، ورده إِلَى رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام رده إِلَى سنته، هَذَا قَول مُجَاهِد، وَقَتَادَة، وَالْجُمْهُور. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَهَذَا الرَّد يكون من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِلَى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ باسمه وَمَعْنَاهُ. وَالثَّانِي: الرَّد إِلَيْهِمَا من جِهَة الدّلَالَة عَلَيْهِ، واعتباره من طَرِيق الْقيَاس والنظائر. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن رده إِلَى الله وَرَسُوله أَن يَقُول من لَا يعلم الشَّيْء: الله وَرَسُوله أعلم، ذكره قوم مِنْهُم الزّجاج. وَفِي المُرَاد بالتأويل أَرْبَعَة أَقْوَال: الأول: أَنه الْجَزَاء وَالثَّوَاب، وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَقَتَادَة.

وَالثَّانِي: أَنه الْعَاقِبَة، وَهُوَ قَول السّديّ، وَابْن زيد، وَابْن قُتَيْبَة، والزجاج. وَالثَّالِث: أَنه التَّصْدِيق، مثل قَوْله: {هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ} (يُوسُف 100) . قَالَه ابْن زيد. وَالرَّابِع: أَن مَعْنَاهُ: ردكم إِلَى الله وَرَسُوله أحسن من تأويلكم. ذكره الزّجاج. كَذَا فِي تَفْسِير " زَاد الْمسير " للْإِمَام ابْن الْجَوْزِيّ النواوي رَحْمَة الله عَلَيْهِ رَحْمَة وَاسِعَة. وَأما الْحَالة الثَّانِيَة للملوك: وَهِي الَّتِي بَينهم وَبَين الرّعية، فهم أَيْضا فِي هَذِه الْحَالة مأمورون بِثَلَاثَة أَشْيَاء وَهِي: الْعدْل، وَالْإِحْسَان، وإيتاء ذِي الْقُرْبَى. ومنهيون عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَهِي: الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي. أما الْعدْل: فَيَنْبَغِي للملوك أَن يعدلُوا فِي الرّعية بِمُوجب الشَّرْع، بألا يظلموا على الرّعية بِأَنْفسِهِم، وَيمْنَعُونَ الرّعية عَن أَن يظلم بَعضهم بَعْضًا، لِأَن الْملك إِذا علم ظلم الرّعية بَعضهم على بعض وَقدر على منع ذَلِك الظُّلم عَنْهُم، يكون ذَلِك الْملك شَرِيكا مَعَهم فِي الْإِثْم، لَا يجب طَاعَته على النَّاس.

كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق ". سَأَلَ عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - يَوْمًا أَبَا حَازِم الموعظة، فَقَالَ. لَهُ أَبُو حَازِم: " إِذا نمت فضع الْمَوْت تَحت رَأسك، وكل مَا تخْتَار أَن يَأْتِيك الْمَوْت، وَأَنت مصر عَلَيْهِ فالزمه، وكل مَا لَا تُؤثر أَن يَأْتِيك الْمَوْت، وَأَنت عَلَيْهِ فاجتنبه، فَرُبمَا كَانَ الْمَوْت مِنْك قَرِيبا ". فَيَنْبَغِي لصَاحب الْولَايَة أَن يَجْعَل هَذِه الْحِكَايَة نصب عَيْنَيْهِ، وَأَن يقبل المواعظ الَّتِي وعظ بهَا غَيره، وَكلما رأى عَالما سَأَلَهُ أَن يعظه. وَيَنْبَغِي للْعَالم أَن يعظ الْمُلُوك بِمثل هَذِه المواعظ، وَلَا يغرهم، وَلَا يدّخر عَنْهُم كلمة الْحق، وكل من غرهم فَهُوَ مشارك لَهُم فِي ظلمهم. فَيَنْبَغِي للْملك أَلا يقنع بِرَفْع يَده عَن الظُّلم، لَكِن يَنْبَغِي لَهُ أَن يمْنَع غلمانه، وَأَصْحَابه، وعماله، ونوابه، وَكتابه، وَغَيرهم، من الظُّلم والجور، وَلَا يرضى لَهُم بِمَا يظْلمُونَ، فَإِن الْملك يسئل عَن ظلمهم، كَمَا يسئل عَن ظلم نَفسه. كتب عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - إِلَى عَامله أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ: " أما بعد: فَإِن أسعد الْوُلَاة من سعدت بِهِ رَعيته، وَإِن أَشْقَى الْوُلَاة من شقيت بِهِ رَعيته، فإياك والتبسط، فَإِن عمالك يقتدون بك، وَإِنَّمَا مثلك مثل دَابَّة رَأَتْ مرعى مخضرا، فَأكلت كثيرا حَتَّى سمنت، فَكَانَ سمنها

سَبَب هلاكها، لِأَنَّهَا بذلك السّمن تذبح وتؤكل. وَفِي التَّوْرَاة مَكْتُوب: " كل ظلم علمه السُّلْطَان من عماله، فَسكت عَنهُ، كَانَ ذَلِك الظُّلم مَنْسُوبا إِلَيْهِ، وَأخذ بِهِ، وعوقب عَلَيْهِ ". وَيَنْبَغِي للوالي أَن يعلم أَنه لَيْسَ أحد أَشد عَيْبا مِمَّن بَاعَ دينه وآخرته بدنيا غَيره. وَجَمِيع الْعمَّال والغلمان لأجل نصِيبهم من الدُّنْيَا يغرون الْوَالِي، ويحسنون الظُّلم عِنْده، فيلقونه فِي النَّار، ليصلوا إِلَى أغراضهم، وَأي عَدو أَشد عَدَاوَة مِمَّن يسْعَى فِي هلاكك لأجل دِرْهَم حرَام يكتسبه ويحصله؟ وَفِي الْجُمْلَة يَنْبَغِي لمن أَرَادَ حفظ الْعدْل على الرّعية، أَن يرتب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أَحْوَال الْعمَّال وَينظر فِيهَا كَمَا ينظر فِي أَحْوَال أَهله، وَأَوْلَاده، ومنزله، وَلَا يتم لَهُ ذَلِك إِلَّا بِحِفْظ الْعدْل أَولا من بَاطِنه، وَذَلِكَ أَلا يُسَلط شَهْوَته وغضبه على عقله وَدينه، وَلَا يَجْعَل عقله وَدينه أسيري شَهْوَته وغضبه، بل يَجْعَل شَهْوَته وغضبه أسيري عقله وَدينه. وَأكْثر الْخلق فِي خدمَة شهواتهم، فَإِنَّهُم يصرفون همتهم فِي عمرهم على الْحِيَل، ليصلوا إِلَى مُرَادهم من الشَّهَوَات، وَلَا يعلمُونَ أَن الْعقل من جَوْهَر الْمَلَائِكَة، وَمن جند الْبَارِي جلت قدرته، وَأَن الشَّهْوَة وَالْغَضَب من جند

الشَّيْطَان، فَمن يَجْعَل جند الله - تَعَالَى - وَمَلَائِكَته أُسَارَى جند الشَّيْطَان، كَيفَ يعدل فِي غَيرهم؟ وَأول مَا تظهر شمس الْعدْل فِي الصَّدْر ثمَّ تَنْتَشِر نورها فِي أهل الْبَيْت فِي خَواص الْملك، فيصل شعاعها إِلَى الرّعية. وَاعْلَم أَيهَا السُّلْطَان وتيقظ، أَن ظُهُور الْعدْل من كَمَال الْعقل، وَكَمَال الْعقل أَن ترى الْأَشْيَاء كَمَا هِيَ، وتدرك حقائق بَاطِنهَا، وَلَا تغتر بظاهرها. مثلا: إِن كنت تجور على النَّاس لأجل الدُّنْيَا، فَانْظُر أَي شَيْء مقصودك من الدُّنْيَا؟ فَإِن كَانَ مقصودك أكل الطَّعَام الطّيب، فَيجب أَن تعلم أَن هَذِه شَهْوَة بهيمية فِي صُورَة آدَمِيّ، فَإِن الْحِرْص إِلَى الْأكل من طباع الْبَهَائِم. وَإِن كَانَ مقصودك لبس الديباج، فَإنَّك امْرَأَة فِي صُورَة رجل، لِأَن التزين والرعونة من أَعمال النِّسَاء. وَإِن كَانَ مقصودك أَن تمْضِي غضبك على أعدائك، فَأَنت أَسد أَو سبع فِي صُورَة آدَمِيّ، لِأَن إِمْضَاء غضب الْقلب من طباع السبَاع. وَإِن كَانَ مقصودك أَن يخدمك النَّاس، فَإنَّك جَاهِل فِي صُورَة عَاقل، لِأَنَّك لَو كنت عَاقِلا لعَلِمت أَن الَّذين يخدمونك إِنَّمَا هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم، وَأَن خدمتهم وتواضعهم لأَنْفُسِهِمْ، لَا لَك، وعلامة ذَلِك أَنهم لَو سمعُوا إرجافا، أَن الْولَايَة تُؤْخَذ مِنْك وتعطى لسواك، لأعرضوا بأجمعهم عَنْك، وتقربوا إِلَى ذَلِك الشَّخْص، وَفِي أَي مَوضِع علمُوا الدِّرْهَم فِيهِ، خدموا وسجدوا لذَلِك الْموضع، فعلى الْحَقِيقَة لَيست هَذِه خدمَة وَإِنَّمَا هِيَ ضحكة، والعاقل من نظر فِي أَرْوَاح الْأَشْيَاء وحقائقها، وَلم يغتر بصورها، وَحَقِيقَة هَذِه الْأَعْمَال مَا ذَكرْنَاهُ، وأوضحناه، وكل من لَا يتَيَقَّن ذَلِك فَلَيْسَ بعاقل، وَمن لم يكن عَاقِلا، لم يكن عادلا، بل يكون ظَالِما، لَا تعمر الْولَايَة على يَدَيْهِ، ومقره النَّار، فَلهَذَا السَّبَب كَانَ رَأس مَال كل السَّعَادَة الْعقل.

وَأما الْإِحْسَان فِي الرّعية بِأَن يُوصل آثَار الْكَرم والمروءة إِلَى الرّعية بِأَن يحسن للْفُقَرَاء، ويؤدب الْأَغْنِيَاء، ويداري بهم، وَيُعْطِي الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، وَأَبْنَاء السَّبِيل، خُصُوصا الغرباء الَّذين جَاءُوا من بعيد بالمشقة، والزحمة، راجين من إحسانه وَكَرمه، ليحصل بذلك للْملك فِي الدُّنْيَا الثَّنَاء الْجَمِيل، وَفِي الْآخِرَة الْأجر الجزيل. وَيَنْبَغِي أَيْضا أَن يوقر الْعلمَاء، وَيرْفَع عَنْهُم مؤنتهم، كي يشتغلوا بتَعَلُّم الْعلم وتعليمه، وَيكرم طلبة الْعلم بألوان النعم، وَيُعْطِي وظائفهم، وَيزِيد فِيهَا وَلَا يقطع وظائفهم، ويرغبهم فِي التَّعَلُّم والتحصيل، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون الْمُلُوك فِي ثَوَاب علمهمْ مشتركين. وَيَنْبَغِي للملوك أَن يحترموا أهل التصوف، والصلحاء، والزهاد، والعباد، ويتبركوا بدعائهم، ويغتنموا قَضَاء حوائجهم، ويعدوا لقاءهم غنيمَة عَظِيمَة، ونعمة من الله جسيمة، ويوصل الْملك إنعامه وإحسانه وصدقاته من الرزق الْحَلَال، أَو من بَيت المَال، أَو من الْخمس، إِلَى المجاورين فِي الخانقاه، والزوايا، والرباطات، من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين. وَإِن لم يسْأَلُوا الْملك ويعرضوا أَحْوَالهم إِلَيْهِ، كي يشتغلوا بالحضور إِلَى عبَادَة الله تَعَالَى؛ لِأَن عمَارَة الدُّنْيَا وَزِيَادَة دولة السلاطين والأمراء قَائِمَة ببركة دُعَائِهِمْ. وَأَيْضًا يَنْبَغِي للملوك أَن يَكُونُوا أشْفق الْخَلَائق؛ لِأَن الشَّفَقَة على خلق الله سَبَب لدُخُول الْجنَّة بعد الْإِيمَان، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لزيد: " بدلاء أمتِي لم يدخلُوا الْجنَّة بِكَثْرَة صَوْم، وَلَا صَلَاة، وَلَكِن دخلوها برحمة الله تَعَالَى، وسلامة الصُّدُور وسخاوة النُّفُوس، وَالرَّحْمَة لجَمِيع الْمُسلمين ".

وَأَيْضًا يَنْبَغِي للملوك أَن يحترموا السادات غَايَة الاحترام، وَيُعْطى لَهُم من الْخمس أَو من غَيره. أما إِذا لم يكن إِحْسَان الْملك مصروفا على هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، يكون ذَلِك الْملك ظَالِما، وَتذهب الْبركَة من الأرزاق، وَيخرب المملكة، وتتفرق الرعايا إِلَى الْأَطْرَاف، وينتشر فِي الْأَطْرَاف اسْمه بالظلم، وَسُوء الْعَمَل، وَعدم الصلاحية، وَجَمِيع ذَلِك بمخالفة حكم الشَّرْع. وَيَنْبَغِي للملوك أَن يوصلوا إحسانهم إِلَى الْخَلَائق جَمِيعًا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك} (الْقَصَص: 77) . وكما قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " أحسن قبل أَن يفوتك الْإِحْسَان ". وَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه: " بِالْبرِّ يستعبد الْحر ". وَقَالَ الشَّاعِر: // (الوافر) // (إِذا هبت رياحك فاغتنمها ... فَإِن لكل خافقة سُكُون) (فَلَا تغفل عَن الْخيرَات فِيهَا ... فَلَا تَدْرِي السّكُون مَتى يكون؟) وَكَانَ فناخسرو من أكَابِر الْحُكَمَاء اليونانية، سُئِلَ عَنهُ: أَي شَيْء أحب عنْدك من أَنْوَاع الْإِحْسَان؟ قَالَ: الْعَفو عَن ذَنْب المذنبين.

حِكَايَة: يحْكى أَن حُسَيْن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - صَامَ يَوْمًا، فجَاء عِنْد الْإِفْطَار غُلَامه، وَوضع بَين يَدَيْهِ الخوان، فَلَمَّا قصد الْخَادِم أَن يَجِيء بالقصعة الَّتِي فِيهَا الطَّعَام، زلق رجله، وصب مَا فِي الْقَصعَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ حُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، فَنظر إِلَى غُلَامه بِالْغَضَبِ، فَقَالَ الْغُلَام: {والكاظمين الغيظ} (آل عمرَان 134) فَقَالَ الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ: أذهبت الغيظ عني، فَقَالَ الْغُلَام: {وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} (آل عمرَان 134) . قَالَ الْحُسَيْن: عَفَوْت عَنْك، فَقَالَ الْغُلَام: {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} (آل عمرَان 134) ، قَالَ الْحُسَيْن: أَعتَقتك لوجه الله. عَن سهل بن معَاذ - رَضِي الله عَنْهُمَا - عَن أَبِيه أَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- قَالَ: " من كظم غيظه، وَهُوَ قَادر على أَن ينفذهُ، دَعَاهُ الله تَعَالَى على رُؤُوس الْخَلَائق، حَتَّى يخيره أَي الْحور الْعين ". وَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " مَا تجرع عبد جرعة، أفضل عِنْد الله، من جرعة غيظ يكظمها ابْتِغَاء وَجهه ". " والكظم ": عبارَة عَن حبس الشَّيْء عِنْد امتلائه. وكظم الغيظ: عبارَة عَن أَن يمتلئ الرجل غيظا، فَيردهُ فِي جَوْفه وَلَا يظهره.

وَقَوله تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} (آل عمرَان 134) . روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَنه قَالَ: " مَا زَاد عبد بِعَفْو إِلَّا عزا ". وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا قدرت على عَدوك فَاجْعَلْ الْعَفو عَنهُ شكرا لله تَعَالَى على الْقُدْرَة عَلَيْهِ ". وَشتم رجل عمر بن ذَر - رَحمَه الله - فَقَالَ لَهُ، لَا تفرطن فِي سبنا، ودع للصلح موضعا، فَإنَّا لَا نكافئ من عصى الله فِينَا، إِلَّا أَن نطيع الله فِيهِ. وَشتم رجل الشّعبِيّ - رَضِي الله عَنهُ - فَجعل يَقُول: أَنْت كَذَا، وَأَنت كَذَا، فَقَالَ الشّعبِيّ: إِن كنت صَادِقا يغْفر الله لي، وَإِن كنت كَاذِبًا يغْفر الله لَك. وَقيل للفضل بن مَرْوَان: إِن فلَانا يشتمك، فَقَالَ: لأغضبن من أمره بذلك، يغْفر الله لنا وَله، فَقيل: من أمره بذلك؟ قَالَ: الشَّيْطَان.

وَقَالَ الْعلمَاء: الْإِحْسَان أشرف الْأَشْيَاء، إِن وصل إِلَى الْأَجَانِب يصيرون بِهِ أصدقاء، وَإِن وصل إِلَى الأصدقاء يصيرون بِهِ عبيدا. حِكَايَة: يحْكى أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - لما رَجَعَ من الطّور رأى أَن السامري صنع من الذَّهَب كصورة الْعجل، فوسوس إِلَى قوم مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - حَتَّى عبدُوا الْعجل، فَجمع النَّار بَين قومه، وأحرق الْعجل فِي النَّار، وَطلب السامري فَلم يجده إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَبعد ذَلِك وجدوا السامري وَجَاءُوا بِهِ إِلَى عِنْد مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فَلَمَّا رأى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - السامري قَالَ: أَيْن كنت مُنْذُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ قَالَ: يَا رَسُول الله، كنت مَسْتُورا تَحت خبز وَاحِد. يَعْنِي: لما علم السامري غضب مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - عَلَيْهِ خَافَ مِنْهُ خوفًا شَدِيدا، فَأعْطى مِسْكينا خبْزًا وَاحِدًا، حفظه الله - تَعَالَى - أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلم يره أحد، بِسَبَب هَذَا الْقدر من الْإِحْسَان. وَأما إيتَاء ذِي الْقُرْبَى فِي الرّعية: فَهُوَ أَن يقْضِي حُقُوقهم وحوائجهم، لِأَن الرّعية بِمَنْزِلَة الْقَرَابَة للْملك، بل الرّعية للْملك بِمَنْزِلَة أَوْلَاده وَعِيَاله، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من ولى أُمُور الْمُسلمين وَلم يحفظهم كحفظه أهل بَيته فقد تبوأ مَقْعَده من النَّار ". وَلِهَذَا وصّى النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي آخر حَيَاته " الصَّلَاة وَمَا ملكت أَيْمَانكُم. يَعْنِي: أَدّوا الصَّلَاة فِي وَقتهَا، بفرائضها، وواجباتها، وسننها، وتعديل أَرْكَانهَا، وأدوا حُقُوق الرعايا الَّتِي تَحت أَيْدِيكُم.

وَحُقُوق الرعايا: أَن ينصفهم. ويعدل بَينهم، وَيحسن إِلَيْهِم، ويكرمهم، ويداري بهم، ويلطف ويواسي لَهُم، ويحرس حوزتهم عَن شَرّ قطاع الطَّرِيق، والظالمين. وكل ذَلِك من صلَة رحم الْمُرُوءَة للسلطنة، وَمن دوَام ثبات أوتاد المملكة. كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " الْعدْل وَالْملك توءمان " وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " الْملك يبْقى مَعَ الْكفْر وَلَا يبْقى مَعَ الظُّلم ". السُّلْطَان الْعَادِل من عدل بَين الْعباد، وحذر من الْجور وَالْفساد، وَالسُّلْطَان الظَّالِم شُؤْم لَا يبْقى ملكه، وَلَا يَدُوم، فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن عمَارَة الدُّنْيَا وخرابها من الْمُلُوك، فَإِذا كَانَ السُّلْطَان عادلا انعمرت الدُّنْيَا، وَأمنت الرعايا، كَمَا كَانَ فِي عهد أنو شرْوَان، وَإِذا كَانَ السُّلْطَان ظَالِما جائرا خربَتْ الدُّنْيَا، كَمَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد الضَّحَّاك. وكل سنة حَسَنَة وَضعهَا الْملك فِي الرّعية يستريح الرعايا بهَا، أَو كل بِدعَة سَيِّئَة يرفع الْملك ذَلِك من الرعايا، فثواب جَمِيع ذَلِك، وَمن عمل بهَا، يكْتب فِي كتاب أَعمال ذَلِك الْملك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَأما إِذا ظلم الْملك على الرّعية وَيَضَع الْبِدْعَة فِي الرّعية ابْتِدَاء بِأَن لم يكن تِلْكَ الْبِدْعَة فِي الزَّمَان الْمَاضِي، أَو وضعت الْبِدْعَة قبل زَمَانه، فَقدر على منعهَا، وَلم يمْنَع تِلْكَ الْبِدْعَة عَن الرعايا، فإثم ذَلِك، وَمن عمل بِتِلْكَ الْبِدْعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يكْتب فِي صحيفَة أَعماله. كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " من سنّ سنة حَسَنَة، فَلهُ أجرهَا، وَأجر من عمل بهَا، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة، فَلهُ وزرها، ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَيجب أَيْضا على الْمُلُوك أَن يرفعوا جَمِيع الْبدع وَزِيَادَة الْعشْر وَالْخَرَاج الَّتِي وضعت زِيَادَة عَن قَوَاعِد الشَّرْع، وَلَا يقنع الْملك بِهَذَا القَوْل بِأَن يَقُول:

إِنَّمَا يلْزم على رفع الْبِدْعَة الَّتِي وضعت فِي زماني، وَلَا يلْزم على رفع الْبِدْعَة الَّتِي وضعت قبل زماني، فَهَذَا الْعذر لَا يقبل من الْملك، بل يُعَاقب الْملك على جَمِيع ذَلِك، إِذا قدر على مَنعه، وَلم يمْنَع كُله، لِأَن الْملك كَالرَّاعِي، والرعية كثلة الْغنم، يجب على الرَّاعِي أَن يحفظ تِلْكَ الثلَّة من شَرّ الْأسد، وَالذِّئْب، وَسَائِر السبَاع جَمِيعًا، فَإِن وجد الرَّاعِي بَين الثلَّة كَبْشًا ذَا قرن تعدى على من لَا قرن لَهُ، يجب على ذَلِك الرَّاعِي أَن يمْنَع ضَرَر صَاحب الْقرن عَمَّن لَا قرن لَهَا. // (الوافر) //. (وراعي الشَّاة يحمي الذِّئْب عَنْهَا ... فَكيف إِذا الرُّعَاة لَهُم ذئاب؟) مثلا: الْكفَّار والظلمة ذئاب ثلة الْإِسْلَام، يجب على الْمُلُوك والسلاطين الَّذين هم رُعَاة ثلة الْإِسْلَام، أَن يمنعوا شَرّ الْكفَّار والظالمين من ثلة الْإِسْلَام، وَعَن الرعايا جَمِيعًا، فَإِذا لم يمْنَع الْمُلُوك شَرّ الْكفَّار، وَشر قطاع الطَّرِيق، وَشر الظَّالِمين، والمفسدين، عَن الرّعية، يحرم على الْمُلُوك مَا أكلُوا من تِلْكَ الْولَايَة، وَمن تِلْكَ الرّعية، لِأَن الْمُلُوك حِينَئِذٍ لم يحفظوا الرّعية كَمَا يجب حفظهَا، وَيُحَاسب الله تَعَالَى الْمُلُوك، والسلاطين على ذَلِك، كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " أَلا كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته، فالإمام الَّذِي على النَّاس رَاع، وَهُوَ مسئول عَن رَعيته، الرجل رَاع على أَهله بَيته، وَهُوَ مسئول عَن رَعيته، وَالْمَرْأَة راعية على بَيت زَوجهَا وَولده، وَهِي مسئولة عَنْهُم، وَعبد الرجل رَاع على مَال سَيّده، وَهُوَ مسئول عَنهُ، أَلا وكلكم رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته ".

وَإِذا قصد الْكفَّار على الْمُسلمين، يفْرض على الْمُسلمين الْقِتَال مَعَهم، أما إِذا لم يقْصد الْكفَّار على الْمُسلمين، يجب على الْمُلُوك والسلاطين أَن يغزوا الْكفَّار، ويأخذوا أَمْوَالهم، ويفتحوا بِلَادهمْ، وَيكون غرضهم إعلاء كلمة الله تَعَالَى، وقهر أَعدَاء الله، وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام. وَأما النَّهْي عَن الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي فِي الرّعية: فبأن ينْهَى الْمُلُوك، والسلاطين الْفُسَّاق، وَأهل الْفُجُور عَن الْفسق، والجور، وَالظُّلم، والتعدي على الرّعية، بعد أَن يكون الْمُلُوك والسلاطين لَا يظْلمُونَ بِأَنْفسِهِم على الرّعية، لِأَن الظُّلم وَإِن كَانَ حَقِيرًا فِي الدُّنْيَا يكون جَزَاؤُهُ عَظِيما فِي الْآخِرَة، كَمَا قيل: " الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة ". حِكَايَة: كَمَا حكى أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مر على قبر، فَرَأى فِيهِ عذَابا، فَدَعَا الله تَعَالَى أَن يحيي أهل هَذَا الْقَبْر، فأحياه الله تَعَالَى بقدرته، فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: لم تعذب فِي الْقَبْر؟ قَالَ: كنت جَالِسا فِي سوق مصر، وَقد كنت تناولت شَيْئا، وَأَنا مُحْتَاج إِلَى الشظية - أَي الْخلال - فنزعت من حزمة رجل شَوْكَة، فشظيت بهَا أسناني، ومت مُنْذُ أَرْبَعَة آلَاف سنة، وَأَنا فِي عَذَابهَا، فَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - عِنْد ذَلِك: هَذَا عَذَاب الشظية، فَكيف عَذَاب صَاحب الْجذع؟ ثمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: كَيفَ وجدت الْمَوْت وَسَكَرَاته؟ قَالَ: يَا روح الله، مت مُنْذُ أَرْبَعَة آلَاف سنة، ومرارة الْمَوْت بعد فِي حلقي. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - عِنْد ذَلِك: اللَّهُمَّ يسر علينا سَكَرَات الْمَوْت. وَلِأَن الْملك إِذا لم يمْنَع أهل الْفسق، وَالظُّلم والجور عَن فسقهم وجورهم، وظلمهم على الرّعية، يَقع الْفِتْنَة وَالْفساد والجور فِي أَمْوَال الرّعية، وأزواجهم، وَأَبْنَائِهِمْ ومحارمهم، بِالزِّنَا، واللواطة، والخيانة، وَغير ذَلِك، فينتشر اسْم الْملك فِي الْعَالم بالقبح وَالظُّلم، ويختل أَمر الْمَعْرُوف وَنهى الْمُنكر، ويضعف أَمر الدّين، وَيَقَع الهوان والمذلة على أهل الْعلم، والزهد،

وَالصَّلَاح، ويفشو الظُّلم وَالْفِسْق، وَيفتح حِينَئِذٍ أَبْوَاب الشَّرّ، ويستولى الَّذين لَا أصل لَهُم، وَلَا دين لَهُم، وَلَا صَلَاح لَهُم، على أهل الْحيَاء وَالصَّلَاح، وَالْعُلَمَاء، ويضيع الدّين، واحترام الْعلمَاء، والزهاد، وتزيد كل يَوْم الْبِدْعَة فِي الرّعية، ويتهمون النَّاس بِغَيْر حق، وَلَا يخَافُونَ وزره، ليَأْخُذ الْملك من النَّاس بسب تِلْكَ التُّهْمَة من أَمْوَالهم ومواشيهم، وَيَقَع فِي أَيْديهم شَيْء من ذَلِك الْحَرَام، ويتصرفون حِينَئِذٍ فِي أَمْوَال الْأَيْتَام والأوقاف، تَصرفا مُخَالفا للشَّرْع، وَيمْنَعُونَ الْحق عَن الْمُسْتَحقّين، وَيَأْخُذُونَ الرِّشْوَة، ويقطعون أوقاف الْمدَارِس والمساجد والرباطات، ووظائف الْعلمَاء والسادات وطلاب الْعلم. فَإِذا كَانَ كَذَلِك، يمْنَع أَرْبَاب الْحَوَائِج عَن أَبْوَاب الْمُلُوك والسلاطين، وَيرْفَع الْعدْل، ويفشو الْجور، وتنفر طباع النَّاس عَن ذَلِك الْملك، وَيكون الْملك محروما عَن أدعية الصَّالِحين، وَيكون إِثْم جَمِيع مَا فعل من تَحت يَده على ذَلِك الْملك، لِأَن الْملك كَانَ سَببا لفعلهم، وَحِينَئِذٍ تخرب الْولَايَة، ويقذف الله تَعَالَى الرعب فِي قُلُوب جَيش الْملك، وَتذهب الْبركَة عَن الأرزاق، وَيكون الْملك خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ويستولي على تِلْكَ المملكة الأعادي حِينَئِذٍ. فَهَذِهِ الوقائع كلهَا تحصل فِي الدُّنْيَا بِسَبَب عدم النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي. وَأما فِي الْآخِرَة فَيُطَالب الْمُلُوك عِنْد الله تَعَالَى بإيصال الْحُقُوق إِلَى مستحقاتها، يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون، إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم، وَيُحَاسب الْمُلُوك إِلَى مِقْدَار مِثْقَال ذرة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} . (الزلزلة 7، 8) . وَأما الْحَالة الثَّالِثَة: وَهِي الْحَالة الَّتِي بَين الْمُلُوك وَبَين الله تَعَالَى، أما فِي الْعدْل: فَهِيَ أَن يَسْتَقِيم ظَاهره وباطنه وسره وعلانيته مَعَ الله تَعَالَى، وَيكون غَرَض الْمُلُوك فِي الْإِمَارَة والسلطنة رَضِي الله تَعَالَى، وإيصال الْحق إِلَى الْمُسْتَحق، وارتفاع الظُّلم والبدع عَن الْخَلَائق، لإرضاء أنفسهم وأصحابهم وَأَوْلَادهمْ وَأهل بَيتهمْ وأقاربهم.

وَأما فِي الْإِحْسَان: أَن يعبد الْملك الله تَعَالَى بالإخلاص، كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " الْإِحْسَان: أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك ". ويشتغل بعد الْفَرَائِض والواجبات وَالسّنَن، بنوافل الطَّاعَات، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، ويشتغل بمصالح الْخَلَائق، وَلَا يحرم أَصْحَاب الْحَوَائِج عَن بَابه، وَلَا يغْفل عَن صَلَاح المملكة وفسادها، وَلَا يُعْطي الرّعية فِي أَيدي الظلمَة، ويتفحص عَن أَحْوَال الْبَلَد والعباد كل يَوْم وَلَيْلَة، ويشتغل برعاية حُقُوق الْمُسلمين، ويتصرف بَين عباد الله تَعَالَى بِأَحْكَام الشَّرِيعَة كَأَنَّهُ يرى الله تَعَالَى. فَإِن لم تقع هَذِه الْحَالة فِي قلبه تَيَقّن فِي اعْتِقَاده وَقَلبه أَن الله تَعَالَى يرَاهُ، وَينظر إِلَيْهِ، ويشاهده، فَإِذا كَانَ كَذَلِك، فَكل حكم يحكم الْملك فِي الرّعية يكون بِمُوجب كَلَام الله تَعَالَى، وَيكون عِنْد الله تَعَالَى من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْنهمْ: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر} (الْقَمَر 54) . وَأما فِي إيتَاء ذِي الْقُرْبَى: فَإِنَّهُ صلَة رحم الْعُبُودِيَّة. يَعْنِي لَا يرفع الْملك رَأسه من الْعُبُودِيَّة فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} (الْفَتْح 29) . وَلَا يكون الْملك مغرورا بزخارف الدُّنْيَا ولذاتها، كي لَا يحرم عَن نعيم الْجنَّة ولذاتها، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} (لُقْمَان 33) . وَأما النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي: فَهُوَ أَلا يتكبر، وَلَا يعد نَفسه مستغنيا عَن الله عز وَجل بِكَثْرَة احْتِيَاج الْخَلَائق إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يتَوَلَّد من ذَلِك الطغيان، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} (العلق 6، 7) بل

ينظر إِلَى عباد الله تَعَالَى بِنَظَر المرحمة، والمسكنة، والحقارة، كي لَا يسْقط الْملك عَن نظر الله تَعَالَى وَرَحمته، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء " وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا رَأَيْتُمْ المتواضعين فتواضعوا، وَإِذا رَأَيْتُمْ المتكبرين فتكبروا " لِأَن التكبر على المتكبر صَدَقَة. وروى عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ: " مَا من عبد إِلَّا وَفِيه سلسلتان مشدودتان: إِحْدَاهمَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة، وَالْأُخْرَى إِلَى الأَرْض السَّابِعَة، فَإِذا تواضع رفع إِلَى السَّمَاء الْعليا، وَإِذا تكبر وضع إِلَى الأَرْض السُّفْلى ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إيَّاكُمْ والتكبر، فَإِنَّهُ أهلك من كَانَ قبلكُمْ ". وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من الْكبر ". وَالله الْمُوفق

الباب الخامس

الْبَاب الْخَامِس فِي الوزارة قَالَ الله تَعَالَى: {وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي اشْدُد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إِنَّك كنت بِنَا بَصيرًا} (طه 29 - 35) . وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا أَرَادَ الله بِملك خيرا، جعل لَهُ وزيرا صَالحا، فَإِن نسى ذكره، وَإِن ذكر أَعَانَهُ، وَإِذا أَرَادَ الله بِهِ غير ذَلِك، جعل لَهُ وَزِير سوء، إِن نسى لم يذكرهُ، وَإِن ذكر لم يعنه ". اعْلَم أَن الوزارة تَابع السلطنة، وركن أعظم المملكة، وَلَا بُد للْملك من وَزِير صَالح ذِي رَأْي، مُشفق للرعية، عَالم، عَادل، لِأَن الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام - كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى الْوَزير، كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن حَال مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه طلب من الله تَعَالَى وزيرا فَقَالَ - {وَاجعَل لي وزيرا} (طه 29) فبطريق الأولى أَن يكون السلاطين والأمراء مُحْتَاجين إِلَى الْوَزير، وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " لي وزيران فِي السَّمَاء، ووزيران فِي الأَرْض، أما وزيراي فِي السَّمَاء: فجبريل وَمِيكَائِيل، وَأما وزيراي فِي الأَرْض: فَأَبُو بكر وَعمر "، رضى الله عَنْهُمَا، وَعَن بَاقِي الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ. فَإِذا لم يكن للْملك وَزِير كَامِل، ذُو حُرْمَة عِنْد الْملك، فَلَيْسَ لذَلِك الْملك زين، وَشرف، وطراوة، وثبات فِي دولته.

وَيَنْبَغِي للملوك والسلاطين أَن ينصبوا على أَبْوَابهم حاجبا، أَو صَاحب قصَّة، مُعْتَمدًا متدينا، خَالص الِاعْتِقَاد، كي يعرض الْوَزير أَحْوَال أَرْبَاب الْحَوَائِج، وأحوال المظلومين إِلَى الْحَاجِب، والحاجب يعرض جَمِيع ذَلِك، إِمَّا بالقصة أَو بالرسالة إِلَى حَضْرَة الْملك. وَيَنْبَغِي للْملك أَن يعلم أَن قَضَاء حوائج الرّعية من الْأُمُور الْوَاجِبَة عَلَيْهِ ويعد الْملك قَضَاء حوائج الْخلق غنيمَة عَظِيمَة على نَفسه، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر: " إِذا أحب الله عبدا أَكثر حوائج الْخلق إِلَيْهِ ". فمهما كَانَ لأحد من الْمُسلمين حَاجَة إِلَى الْملك، يَنْبَغِي للْملك أَلا يشْتَغل بنوافل الْعِبَادَات عَن قَضَائهَا، فَإِن قَضَاء حوائج الْمُسلمين أفضل من نوافل الْعِبَادَات. وَيَنْبَغِي للملوك والسلاطين، أَن ينصبوا فِي ولايتهم قَاضِيا عَالما، متدينا، محترزا عَن أكل الْحَرَام والشبهات، وَيكون صَالحا، ذَا مُرُوءَة وإنصاف، لَا يطاول يَده على مَال الْأَيْتَام وميراثهم، وَلَا يَأْخُذ الرِّشْوَة، ويقنع بوظيفة نَفسه وَعِيَاله من بَيت المَال، وَيقطع طمعه عَمَّا فِي أَيدي النَّاس. وَيَنْبَغِي أَيْضا أَن يكون خَادِم القَاضِي عَالما، متدينا، صَالحا، زاهدا، لَا يجور فِي الدَّعَاوَى، وَلَا يطْمع طَمَعا فَاسِدا، وَلَا يبطل الْحق، وَلَا يحِق الْبَاطِل بل يَجْعَل كتاب الله نصب عينه. سُئِلَ أردشير بن بابك: أَي الْأَصْحَاب يصلح للْملك؟ فَقَالَ: الْوَزير الْعَاقِل، المشفق، الْأمين، الصَّالح، الْمُدبر، ليدبر الْملك مَعَه أَمر المملكة، وَيسر إِلَيْهِ بِمَا فِي نَفسه.

وترتيب الوزراء، أَنهم مهما أمكنهم إصْلَاح أَمر الْملك بالكتب يتجاوبون بالكتب، فَإِن لم يصلح الْأَمر بالمكتب، فبالاحتيال وَالتَّدْبِير، فيجتهدون فِي تأني التَّدْبِير، بإعطال الْأَمْوَال، وبذل الصلات، وَمَتى انهزم عَسْكَر الْملك يَنْبَغِي للوزراء الْعَفو عَن ذنُوب الْجند، وَلم يستعجلوا بِقَتْلِهِم، لِأَنَّهُ قد يُمكن قتل الْأَحْيَاء، وَلَا يُمكن إحْيَاء الْقَتْلَى، فَإِن الرجل يصير رجلا فِي أَرْبَعِينَ سنة، وَمن أَرْبَعِينَ رجلا يصلح رجل لخدمة الْمُلُوك، وَإِن أسر أحد من الْجند، أَو أَخذ من أَصْحَاب الْملك، كَانَ على الْوَزير أَن ينقذه، ويفتديه، وَيُخَلِّصهُ، ويشتريه، ليسمع الْجند بصنيع الْوَزير، فيقوى قُلُوبهم إِذا باشروا حروبهم، وعَلى الْوَزير أَن يحفظ أرزاق الْجند، ويرتب جامكية كل إِنْسَان على قدره، وَأَن يُهَيِّئ الرِّجَال الشجعان بآلات الْحَرْب، وَأَن يخاطبهم بِأَحْسَن الْكَلَام، ويلين للأجناد فِي الْخطاب، ويلطف لَهُم الْجَواب، ويتحمل على فعلهم عَلَيْهِ، فَإِن الْجند قتلوا كثيرا من الوزراء فِي قديم الْأَيَّام، وسالف الأعوام، وَمن سَعَادَة السُّلْطَان، ويمن طالعه، وعلو جده، أَن يَجْعَل الله تَعَالَى لَهُ وزيرا صَالحا، ومشيرا ناصحا، كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا أَرَادَ الله - تَعَالَى - بأمير خيرا، قيض لَهُ وزيرا ناصحا، صَادِقا، صبيحا، إِن نسى ذكره، وَإِن اسْتَعَانَ بِهِ أَعَانَهُ.

وعلى السلطان أن يعامل الوزير بثلاثة أشياء

وَقَالَ العتابي: " من عرض نَفسه للدنية، عرض نَفسه للمنية، وَأَن مِمَّا يعين على الْعدْل ارْتِفَاع من يُؤثر التقى، واطراح من يقبل الرشا، واستكفاء من يعدل فِي الْقَضِيَّة، واستخلاف من يشفق على الرّعية. وَقَالَ أنو شرْوَان: " مَا عدل من جَار وزيره، وَلَا صلح من فسد مشيره. وَقَالَ أردشير: حقيق على كل ملك أَن يتفقد وزيره، ونديمه، وكاتبه، وحاجبه، فَإِن وزيره قوام ملكه، ونديمه بَيَان عقله، وكاتبه دَلِيل مَعْرفَته، وحاجبه برهَان سياسته. قيل: من تعزز بِاللَّه لم يذله السُّلْطَان، وَمن توكل عَلَيْهِ لم يضرّهُ إِنْسَان، من اسْتغنى بِاللَّه عَن النَّاس أَمن عوارض الإفلاس، وَمن صَحَّ دينه صَحَّ يقينه. قَالَ أنو شرْوَان: شَرّ الْوَزير من جرأ السُّلْطَان على الْحَرْب، وجرأه على الْقِتَال فِي مَوضِع يُمكن أَن يصلح بِغَيْر حَرْب، وَلَا خشونة، لِأَن فِي الْحَرْب تفنى ذخائر الْأَمْوَال، وتفنى كرائم النُّفُوس. وَقَالَ أَيْضا: " كل ملك كَانَ وزيره جَاهِلا، فَمثله كَمثل الْغَيْم الَّذِي يَبْدُو وَيظْهر وَلَا يمطر. وعَلى السُّلْطَان أَن يُعَامل الْوَزير بِثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: إِذا ظَهرت مِنْهُ زلَّة، أَو وجدت مِنْهُ هفوة، لَا يعالجها بالعقوبة. وَالثَّانِي: إِذا اسْتغنى فِي خدمَة الْملك لَا يطْمع فِي مَاله وثروته. وَالثَّالِث: إِذا سَأَلَهُ حَاجَة لَا يتَوَقَّف فِي قَضَاء حَاجته.

وَيَنْبَغِي للْملك أَلا يمْنَع الْوَزير من ثَلَاثَة أَشْيَاء: وَهُوَ أَنه: مَتى أحب أَن يرَاهُ لَا يمنعهُ من رُؤْيَته، وَألا يسمع فِي حَقه كَلَام مُفسد، وَلَا يكتم عَنهُ شَيْئا من سره، لِأَن الْوَزير الصَّالح حَافظ سر السُّلْطَان، ومدبر أَمر الدخل، وَعمارَة الْولَايَة والخزائن، وزينة المملكة، وَله الْكَلَام على الْعمَّال، واستماع الْأَجْوِبَة، وَبِه يكون سرُور الْملك، وقمع أعدائه، وَهُوَ أَحَق النَّاس بالاستمالة، وتعظيم الْأَمر، وتفخيم الْقدر. وَقَالَ لُقْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - لوَلَده: " أكْرم وزيرك، لِأَنَّهُ إِذا رآك على أَمر لَا يجوز لمملكتك لَا يوافقك عَلَيْهِ ". وَيَنْبَغِي للوزير أَن يكون مائلا فِي الْأُمُور إِلَى الْخَيْر، متوقيا من الشَّرّ، وَإِذا كَانَ السُّلْطَان حسن الِاعْتِقَاد، مشفقا على الْعباد، كَانَ لَهُ عونا على ذَلِك، وآمرا لَهُ بالازدياد، وَإِذا كَانَ السُّلْطَان ذَا حيف، كَانَ غير ذِي سياسة، كَانَ على الْوَزير أَن يرشده قَلِيلا بألطف وَجه، ويهديه إِلَى الطَّرِيقَة المحمودة، وَيَنْبَغِي للْملك أَن يعلم أَن أول إِنْسَان يحْتَاج الْملك أَو السُّلْطَان إِلَيْهِ الْوَزير الصَّالح. وَسُئِلَ بهْرَام كور: إِلَى كم من الْأَشْيَاء يحْتَاج السُّلْطَان إِلَيْهِ حَتَّى يتم سلطنته، وتدوم بالسرور دولته؟ فَقَالَ: إِلَى سِتَّة من الْأَصْحَاب: الْوَزير الصَّالح ليظْهر إِلَيْهِ سره، وَيُدبر مَعَه رَأْيه، ويسوس أمره، وَالْفرس الْجواد لينجيه يَوْم الْحَاجة إِلَى النجَاة، وَالسيف الْقَاطِع، وَالسِّلَاح الْحصين، وَالْمَال الْكثير الَّذِي يخف حمله، كالجوهر واللؤلؤ والياقوت، وَالزَّوْجَة الْحَسْنَاء الصَّالِحَة لتَكون مؤنسة لِقَلْبِهِ مزيلة لكربه، والطباخ الْخَبِير الَّذِي إِذا أمسك طبعه دبر شَيْئا يلطف طبعه.

اعْلَم أَن مِثَال المملكة كمثال خيمة، والوزير الْكَامِل كمثال عَمُود الْخَيْمَة، وَمِثَال أطناب الْخَيْمَة كمثال الْأُمَرَاء تَحت يَد الْملك، سَوَاء كَانَ صَغِيرا أَو كَبِيرا، وَمِثَال الأجناد كمثال الْحلق الَّتِي تتصل بأذيال الْخَيْمَة، وَفِي الْحَقِيقَة أوتاد الْخَيْمَة الَّتِي لَا قوام للخيمة إِلَّا بهَا، مثل الْعدْل للمملكة، كَمَا لَا تَسْتَقِر الْخَيْمَة فِي الأَرْض إِلَّا بالأوتاد، كَذَلِك لَا تَسْتَقِر المملكة إِلَّا بِالْعَدْلِ، وَإِن كثرت الأجناد وَالْأَمْوَال. وَلما كَانَ الْوَزير للْملك مثل العمود للخيمة، كَمَا يَنْبَغِي للعمود أَربع خِصَال: أَحدهَا: أَن يكون مُسْتَقِيمًا. وَالثَّانِي: أَن يكون عَالِيا. وَالثَّالِث: أَن يكون ثَابتا. وَالرَّابِع: أَن يكون متحملا. يَنْبَغِي للوزير أَيْضا أَن يكون لَهُ ثَلَاثَة أَحْوَال: أول حَاله: أَن يكون بَينه وَبَين الله تَعَالَى. وَثَانِي حَاله: أَن يكون بَينه وَبَين السُّلْطَان. وثالث حَاله: أَن يكون بَينه وَبَين الأجناد والرعايا. فَفِي كل حَال من هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة يَنْبَغِي للوزير أَن يعْمل الْخِصَال الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة مناسبا لذَلِك الْحَال. أول حَال الْوَزير وَهُوَ أَن يكون بَينه وَبَين الله تَعَالَى: فِي الْخصْلَة الأولى - وَهِي الاسْتقَامَة - هِيَ أَن يكون كَمَا أَمر الله - تَعَالَى - لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام: {فاستقم كَمَا أمرت} {هود 112} يَعْنِي: لَا تخرج عَن جادة طَريقَة الشَّرِيعَة، لِأَن طَريقَة الشَّرِيعَة هُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ} (الْأَنْعَام 153) . يَعْنِي راعو فِي جَمِيع أوقاتكم جَانب الْحق، وَإِن تركْتُم جَانب الْخلق فَلَا ضَرَر عَلَيْكُم، لِأَن من كَانَ لله كَانَ الله لَهُ. وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الثَّانِيَة وَهِي الْعُلُوّ: فَيَنْبَغِي للوزير أَن تكون همته عالية وَنَفسه عزيزة عَمَّا فِي أَيدي النَّاس من زخارف الدُّنْيَا والجاه وَالْمَال، فَلَا يغتر الْوَزير بِمَال الدُّنْيَا. نُكْتَة: يَنْبَغِي للعاقل أَن يتَصَوَّر أَن زخارف الدُّنْيَا بِمَنْزِلَة الزَّاد وَالرَّاحِلَة للْحَاج وَمُدَّة الْعُمر بِمَنْزِلَة أشهر الْحَج، وَوقت الْأَجَل بِمَنْزِلَة يَوْم وَقْفَة عَرَفَة،

وَيتَصَوَّر نَفسه كالحاج الَّذِي يقْصد زِيَارَة بَيت الله تَعَالَى، وَيعلم يَقِينا أَنما أعْطى الزَّاد وَالرَّاحِلَة للعاقل ليقطع الْبَادِيَة، ويزور بَيت الله تَعَالَى، يَعْنِي إِنَّمَا أعْطى الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ زخارف الدُّنْيَا، ووسع أَجله، ليقطع بهما بادية صِفَات النَّفس الأمارة الَّتِي كَانَت حِجَابا بَين العَبْد وَبَين الله تَعَالَى، فَكَمَا لَا يُوصل إِلَى الْكَعْبَة إِلَّا بِقطع الْبَادِيَة، كَذَلِك لَا يُوصل إِلَى رِضَاء الله تَعَالَى وَرَحمته وجنته إِلَّا بِقطع بادية النَّفس الأمارة بالسوء، وَهِي شهواتها النفسانية. وَأما إِذا صرف الزَّاد وَالرَّاحِلَة لأجل هَوَاهُ، وَهُوَ طرف شط بَغْدَاد، ويشتغل كل يَوْم بِمُقْتَضى نَفسه من شرب الشَّرَاب الْمُسكر، وغفل عَن حَال قوافل الْحَج، وَقد قصد أَولا لِلْحَجِّ، فوصلت الْقَافِلَة إِلَى الْكَعْبَة ووقفوا فِي عَرَفَات، وَحصل مُرَادهم بإتمام الْحَج، فانتبه الرجل عَن نوم الْغَفْلَة كَمَا قيل: " النَّاس نيام فَإِذا مَاتُوا انتبهوا " وتحسر وَنَدم على غفلته، وفوت الْحَج عَنهُ، واشتعل نَار الندامة فِي جَوْفه، فَلم ينفع حِينَئِذٍ النَّدَم والتحسر، كَذَلِك من لم يصرف مَا فِي يَده من نعيم الدُّنْيَا على وُجُوه الْخيرَات، وَلم يصرف جَمِيع عمره وأوقاته إِلَى طَاعَة الله تَعَالَى، فَلَمَّا حَضَره الْأَجَل نَدم على صرف عمره فِي الْغَفْلَة، فَلم ينفع حِينَئِذٍ النَّدَم. وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الثَّالِثَة وَهِي الثَّبَات: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يكون اعْتِقَاده فِي أَمر الدّين مُسْتَقِيمًا وثابتا، وكل عمل يعمله الْوَزير يَنْبَغِي لَهُ أَن يعمله لرضاء الله تَعَالَى، فَلَا يحول وَجهه عَن ذَلِك الْأَمر لأجل خاطر الْخلق، ورضاء الْخلق، وَلَا يخَاف عَن شَرّ جَمِيع الْخَلَائق، إِذا كَانَ ذَلِك الْأَمر لأجل الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم} (الْمَائِدَة 54) .

وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الرَّابِعَة وَهِي التَّحَمُّل: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يتَحَمَّل الْأَمَانَة الَّتِي عرضهَا الله تَعَالَى على السَّمَاوَات وَالْأَرْض، فعجزوا عَن تحملهَا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان} (الْأَحْزَاب 72) . وَالْمرَاد بالأمانة فِي هَذِه الْآيَة على قَول بعض الْمُفَسّرين: الْفَرَائِض الَّتِي افترضها الله تَعَالَى على الْعباد، وَشرط عَلَيْهِم أَن من أَدَّاهَا جوزي بِالْإِحْسَانِ، وَمن خَان فِيهَا عُوقِبَ. وَقيل: الْعَهْد الَّذِي يلْزم الْوَفَاء بِهِ، وَلَا يخون الْوَزير فِي ذَلِك الْأَمَانَة كي لَا يخجل عِنْد رد الْأَمَانَة إِلَى أَهلهَا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء 58) . واما الْحَالة الثَّانِيَة للوزير، وَهِي الَّتِي بَين الْوَزير والأمير: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يُرَاعِي فِي هَذِه الْحَالة أَيْضا أَرْبَعَة خِصَال: أَحدهَا: الاسْتقَامَة. وَالثَّانِي: الْعُلُوّ. وَالثَّالِث: الثَّبَات. وَالرَّابِع: التَّحَمُّل. أما حَال الْوَزير فِي الاسْتقَامَة: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يكون ظَاهره وباطنه مَعَ الْأَمِير وَاحِدًا، وَأَن يطهر الْوَزير قلبه عَن الْحَسَد، والخيانة، والغل، والغش، فِي حق الْملك. وَأَيْضًا يَنْبَغِي للوزير إِذا دخل عِنْد الْملك أَن يسكت، وَلَا يبْدَأ الْكَلَام حَتَّى يتَكَلَّم الْملك، وَكلما تكلم الْملك من الْكَلَام الطّيب والردئ يَقُول الْوَزير: صدق الْأَمِير، ويراعي الْوَزير مزاج الْأَمِير وَالْملك، وَلَا ينافق الْأَمِير وَالْملك بِأَن يَقُول إِذا خرج من عِنْد الْملك مساوئ الْملك للنَّاس، وينكر أَقْوَال الْملك وأفعاله، ويشكو النَّاس عَن الْملك وَيَقُول: إِن الْملك ظَالِم وجاهل، وَلَا يسند الْوَزير طمعه فِي أَمْوَال النَّاس إِلَى الْملك، وَيُبرئ نَفسه عَن ذَلِك الطمع، وكل ذَلِك من النِّفَاق.

وَيَنْبَغِي للوزير إِذا تكلم الْملك أَن يصغي إِلَى كَلَام الْملك، وَلَا يكون عَاشِقًا لكَلَام نَفسه، فَإِذا تكلم الْملك كلمة غير مُوَافق للحق يسمع الْوَزير ذَلِك الْكَلَام، وَيكرهُ فِي قلبه، وَلَا يعْتَرض للْملك فِي ذَلِك الْحَال، فَإِذا وجد فرْصَة فِي الْخلْوَة يرد ذَلِك الْكَلَام فِي نفس الْملك. فَفِي الْجُمْلَة لَا يستر الْوَزير الْحق، وَلَا يرضى الْمُنكر فِي الشَّرْع، بل يَقُول للْملك قولا لينًا على وَجه التأني والاعتراض، فِي غير حَالَة الْغَضَب، ليرْجع الْملك عَن ذَلِك الْكَلَام الْمُنكر. وَحكي عَن أردشير أَنه قَالَ: حقيق على الْملك أَن يكون طَالبا أَرْبَعَة أَشْيَاء، فَإِذا وجدهَا يكون الْملك أحفظهم من سَائِر الْأَنْبِيَاء: الْوَزير الْأمين، وَالْكَاتِب الْعَالم، والحاجب المشفق، والنديم الناصح، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْوَزير أَمينا، دلّ على بَقَاء الْملك وسلامته عَن الزَّوَال، وَإِذا كَانَ الْكَاتِب عَالما، دلّ على عقل الْملك ورزانته، وَإِذا كَانَ الْحَاجِب مشفقا، لم يغْضب الْملك على أهل مَمْلَكَته، وَإِذا كَانَ النديم ناصحا، دلّ على انتظام الْأَمر ومصلحته. وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الثَّانِيَة وَهِي الْعُلُوّ مَعَ الْملك: فَهِيَ أَن يخْدم الْوَزير الْملك مَعَ علو الهمة، لَا أَن يقْصد الْوَزير فِي خدمَة الْملك الطمع الْفَاسِد من زخارف الدُّنْيَا، وَأَن يكون الْوَزير عَزِيز النَّفس، قانعا بِأَدْنَى شَيْء من المَال، وَلَا يطول يَده فِي أَمْوَال الرّعية بِغَيْر إِذن الْملك، فَإِذا كَانَ الْوَزير على هَذِه الصِّفَات، ينظر الْملك إِلَى الْوَزير بِنَظَر الفراسة، وَيكون الْوَزير فِي نظر الْملك مَقْبُولًا، وَفِي قلبه محبوبا، وموقرا، ومحترما. وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الثَّالِثَة، وَهِي الثَّبَات مَعَ الْملك: فَهِيَ أَن يكون الْوَزير فِي خدمَة الْملك صَاحب وَفَاء وعهد، وثابت الْقدَم، بِحَيْثُ لَو اجْتمع جَمِيع معاندي الْملك عِنْد الْوَزير، واجتهدوا، لَا يقدرُونَ على أَن يُغيرُوا الْوَزير عَن خدمته بِالصّدقِ، وَإِن عرضوا للوزير أَمْوَالًا كَثِيرَة.

وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الرَّابِعَة وَهِي التَّحَمُّل مَعَ الْملك: فَيَنْبَغِي للوزير التَّحَمُّل إِذا غضب الْملك للوزير، وَلَا يَقع فِي قلب الْوَزير كدوره من ذَلِك الْغَضَب، وَلَا يكون الْوَزير عبوس الْوَجْه من ذَلِك الْحَال، وَيتَكَلَّم مَعَ الْأَمِير كَلِمَات ليطفيء نَار غضب الْملك، ويحترز فِي المكالمة مَعَ الْأَمِير عَن الْكَلَام الَّذِي يتَوَلَّد مِنْهُ الْغَضَب والحقد، ويجتهد الْوَزير أَلا يخرج الْملك إِلَى الْقِتَال إِلَّا فِي غَايَة الضَّرُورَة، فَإِن كَانَ جند الْخصم كثيرا وجند الْملك قَلِيلا يَنْبَغِي للوزير أَن يُقَوي قلب الْملك بقوله تَعَالَى: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين} (الْبَقَرَة 249) . وَأَن يلقى الْوَزير فِي غَالب الْأَوْقَات على قلب الْملك أُمُور الدّين، والأمور الَّتِي فِيهَا مصلحَة الرّعية وراحة الرّعية، وَلَا يلقى الْوَزير فِي قلب الْملك الْأُمُور الَّتِي فِيهَا فَسَاد الرّعية وَفَسَاد الدّين، وَأَن يدل الْوَزير الْملك على الْخيرَات، فَإِذا كَانَ الْوَزير متصفا بِهَذِهِ الصِّفَات الحميدة، ومتزينا بِهَذِهِ الْآدَاب الشَّرِيفَة (والأخلاق المرضية) ، يكون حِينَئِذٍ عضد السلطنة والمملكة قَوِيا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {سنشد عضدك بأخيك} . (الْقَصَص 35) ، وَالله الْمُوفق. وَأما الْحَالة الثَّالِثَة للوزير وَهِي الَّتِي بَين الرّعية والوزير: فَيَنْبَغِي للوزير أَيْضا أَن يُرَاعِي فِي هَذِه الْحَالة أَربع خِصَال أَيْضا: الأول: الاسْتقَامَة. وَالثَّانِي: الْعُلُوّ. وَالثَّالِث: الثَّبَات. وَالرَّابِع: التَّحَمُّل. أما حَال الْوَزير فِي الاسْتقَامَة مَعَ الرّعية: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يعِيش بَين الرّعية بِالْعَدْلِ والإنصاف، وَيكون أشْفق الْخَلَائق فِي كل أَحْوَال الرّعية، ويشتغل فِي جَمِيع عمره بالاعتناء بشأنهم كالحدقة للعين، وَيقبل الْوَزير الزحمة على نَفسه، لتَكون الرّعية فِي الرَّاحَة عَن الْأُمُور الشاقة. وَهَذِه الْمعَانِي إِنَّمَا تحصل للوزير إِذا كَانَ الْوَزير حَرِيصًا على عمَارَة الْولَايَة، وزراعة الدهاقين، وَالْحَال أَلا يكون الْملك حَرِيصًا فِي جمع المَال، فَإِن كَانَ

الْملك حَرِيصًا على جمع المَال، فَلَا بُد أَن يظلم الْملك على الرّعية، وَيَضَع الْبدع فِي الرّعية، وَينْقص وظائف الأجناد وَالْعُلَمَاء والفقراء، فَحِينَئِذٍ يخرب الرّعية وَالْولَايَة، وَيكون الرّعية حِينَئِذٍ كَالْعَيْنِ بِلَا حدقة، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " يكون فِي آخر الزَّمَان الْأُمَرَاء كالأسد، وَالْعُلَمَاء كالنمر، والقضاة كَالْكَلْبِ، وَالْفُقَهَاء كالذئب، وَالنَّاس كالشاة " فَكيف حَال الشَّاة مَعَ هَؤُلَاءِ؟ // (الوافر) //. (وراعي الشَّاة يحمي الذِّئْب عَنْهَا ... فَكيف إِذا الرُّعَاة لَهَا ذئاب؟) وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " سَيَأْتِي على أمتِي زمَان لَا يعْرفُونَ الْعلمَاء إِلَّا بِثَوْب حسن، وَلَا يعْرفُونَ الْقُرَّاء إِلَّا بِصَوْت حسن، وَلَا يعْبدُونَ الله إِلَّا فِي شهر رَمَضَان. وَإِذا كَانَ كَذَلِك سلط الله عَلَيْهِم سُلْطَانا لَا علم لَهُ، وَلَا حلم لَهُ، وَلَا رحم لَهُ، وَلَا عقل لَهُ ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " سَيَأْتِي على أمتِي زمَان لَا يَأْتِي الْمَسْجِد إِلَّا تَاجر قلبه فِي صندوقه، أَو زارع قلبه فِي مزرعته، فَإِذا سلم الإِمَام وثب كَمَا وثب الصَّيْد، فَإِذا كَانَ كَذَلِك ابْتَلَاهُم الله تَعَالَى بأَرْبعَة أَشْيَاء: أَولهَا سُلْطَان جَائِر، وَالْخَوْف من الْأَعْدَاء، والزلزلة، والقحط، فَإِن تَابُوا تَابَ الله عَلَيْهِم، وَإِن لم يتوبوا زَاد الله عَلَيْهِم ".

فَالْحَاصِل إِذا ظلم الْملك فِي الرّعية خربَتْ الْولَايَة، ويتفرق الرعايا إِلَى الْأَطْرَاف، وَيكون الْملك فِي تزلزل واضطراب، لِأَنَّهَا وَقعت النفرة والتنفير فِي قُلُوب الرّعية بِسَبَب طمع الْملك وظلمه على الرّعية، وَحِينَئِذٍ تقع الْفِتَن الْمُخْتَلفَة فِي الْولَايَة، وَلَا يدْفع ذَلِك الْفِتَن الخزائن الْعُظْمَى، أما إِذا كَانَت المملكة على قراره، وَالْملك يقْعد مَحَله بِالْعَدْلِ والإنصاف، وَيجْرِي أَحْكَام الشَّرِيعَة والسياسة على الرّعية، يكون جَمِيع مَا فِي الدُّنْيَا خَزَائِن ذَلِك الْملك، وَجَمِيع النَّاس وَالْمَلَائِكَة أجناده وأعوانه. وَلَا يَنْبَغِي للوزير أَن يضع الْبدع على الرّعية ليتقرب بهَا عِنْد الْملك، فَإِن ذَلِك سَبَب عَدَاوَة الْملك، لِأَن بِوَضْع الْبدع ينتشر اسْم الْملك فِي الدُّنْيَا بالظلم، وَيحصل للْملك بِسَبَب الْبدع فِي الْآخِرَة عِقَاب أَلِيم، وَتَدْعُو الرّعية على الْملك بالسوء، فَيحصل حِينَئِذٍ الِاضْطِرَاب فِي المملكة، وتزول دولة الْملك، وتنتزع المملكة من يَده، لِأَن الْحُكَمَاء قَالُوا: يَنْبَغِي للْملك من الأجناد، وأجناد الْملك نَوْعَانِ: جند اللَّيْل، وجند النَّهَار. أما جند اللَّيْل: فهم الْفُقَرَاء، وَالْمَسَاكِين، وَالْعُلَمَاء والزهاد، والعباد، وَلِهَذَا قَالُوا: دَعْوَة عَجُوز وَاحِدَة وَقت السحر للْملك يزِيد عِنْد الله أَثَره من شجاعة مائَة فَارس. وَأما أجناد النَّهَار: فهم الَّذين يَجْتَمعُونَ عِنْد الْملك وَقت الْقِتَال. وَقَالَ حكماء الْهِنْد: " لَا ملك إِلَّا بِالرِّجَالِ، وَلَا رجال إِلَّا بِالْمَالِ، وَلَا مَال إِلَّا بالرعية، وَلَا رعية إِلَّا بِالْعَدْلِ والسياسة " فَيكون الْعدْل أصل جَمِيع ذَلِك. وَيَنْبَغِي للسلاطين والوزراء أَلا يهملوا السياسة، ويكونوا مَعَ السياسة عادلين، لِأَن السُّلْطَان خَليفَة الله فِي أرضه، يجب أَن تكون هيبته بِحَيْثُ إِذا رَأَتْهُ الرّعية أَو إِذا كَانُوا بَعيدا عَنهُ خَافُوا مِنْهُ، وسلطان هَذَا الزَّمَان يجب أَن يكون أوفى سياسة، وَأتم هَيْبَة، لِأَن أنَاس هَذَا الزَّمَان لَيْسُوا كالمتقدمين، فَإِن زَمَاننَا

هَذَا زمَان السُّفَهَاء والأشقياء، وَإِذا كَانَ السُّلْطَان - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - بَينهم ضَعِيفا، أَو كَانَ غير ذِي سياسة وهيبة، فَلَا شكّ أَن ذَلِك يكون سَبَب خراب الْبِلَاد، وَأَن الْخلَل يعود على الدّين وَالدُّنْيَا، وَلم يكن لذَلِك السُّلْطَان فِي أعين النَّاس خطر، وَلَا يسمعُونَ كَلَامه، وَلَا يطيعون أمره، وَيكون الْخلق عَلَيْهِ ساخطين. اعْلَم أَن من أكمل شَرَائِط الوزارة أَن يسْعَى الْوَزير باستزادة الدَّعْوَات الصَّالِحَات، واستزادة الْخيرَات والصلات وَيسْعَى فِي استراحة الرّعية فِي إِجْرَاء أَحْكَام الشَّرِيعَة، وإجراء الْوُقُوف مصارفها، على الشُّرُوط الَّتِي شَرطهَا الواقفون فِي المبرات، ويوصل الصَّدقَات والصلات إِلَى الصادرين من الْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء، والفقراء والسادات، والزهاد، والعباد، وَأهل التصوف، والصلحاء، وَغَيرهم ليزِيد المملكة ويستديم السلطنة ببركة دُعَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَة يرفع درجاته وقربته إِلَى الله تَعَالَى. وَيَنْبَغِي للوزير أَن تكون خيراته أَزِيد من خيرات الْأَمِير، وَيكون بَابه مَفْتُوحًا لأرباب الْحَوَائِج، وَلَا يكون خلقه سَيِّئًا، وَلَا قلبه ضيقا، وَلَا يكون متكبرا على خلق الله تَعَالَى، وَتَكون معاشرته مَعَ الْخَلَائق بالرأفة، وَالرَّحْمَة، والأخلاق الْحَسَنَة، وَالْإِكْرَام، والإعزاز، بِأَن يرحم الصغار، ويوقر الْكِبَار، ويبجل الْعلمَاء، كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " من لم يرحم صَغِيرنَا، وَلم يوقر كَبِيرنَا، وَلم يبجل عالمنا، فَلَيْسَ منا ".

وايضا يَنْبَغِي للسلاطين والوزراء، أَن يجتهدوا أَولا فِي إحْيَاء الْخيرَات والأوقاف الَّتِي أجريت فِي الزَّمَان الْمَاضِي، ثمَّ بعد ذَلِك يجتهدون فِي ابْتِدَاء وضع الْخيرَات والأوقاف لأَنْفُسِهِمْ. كَمَا حُكيَ أَن ملكا من الْمُلُوك الْمَاضِيَة كَانَ اسْمه صَلَاح الدّين - رَحمَه الله - وَكَانَ من عَادَته كلما فتح بَلْدَة ينشيء فِيهَا بِنَاء الْخيرَات، وَكَانَ لَهُ وَزِير مَعَ أَنه كَانَ قَاضِيا لَهُ صَالحا فَاضلا، فَلَمَّا فتح ذَلِك الْملك الْمصر قَالَ لوزيره: أُرِيد أَن أبني فِي الْمصر خانقاها، فَقَالَ الْوَزير للْملك: إِنِّي أُرِيد أَن يبْنى لملك الْإِسْلَام فِي الْمصر ألف بقْعَة خير. فَقَالَ الْملك: كَيفَ يُمكن أَن يبْنى ألف بقْعَة خير؟ قَالَ الْوَزير: أدام الله - تَعَالَى - دولة الْملك، إِن فِي الْمصر ألف بقْعَة خير كُله خراب الْآن ومندرسة، فَإِن قصد ملك الْإِسْلَام أَن يَأْمر بِأَن يعمروا تِلْكَ الْبِقَاع الخربات، ويأخذوا أوقاف تِلْكَ الْبِقَاع من أيد المستأكلة، وَينصب ملك الْإِسْلَام مُتَوَلِّيًا بارعا متدينا كي يصرف الْأَوْقَاف مصارفها على الشَّرَائِط الَّتِي شَرطهَا الواقفون، يحصل ثَوَاب جَمِيع ذَلِك لملك الْإِسْلَام كثواب الْأَوْقَاف الَّتِي أَنْشَأَهَا ملك الْإِسْلَام، فَأمر ملك الْإِسْلَام صَلَاح الدّين - عَلَيْهِ الرَّحْمَة - بِأَن يعمروا رقبات الْوَقْف، ويصرفوا أوقافها على مصارفها، ثمَّ بعد ذَلِك وفْق الله - تَعَالَى - إِيَّاه أنشأ خيرات كَثِيرَة، تقبل الله مِنْهُ وشكر سَعْيه.

وَالْمَقْصُود من هَذِه الْحِكَايَة: أَنه يَنْبَغِي للوزير أَن يكون مشفقا على أَحْوَال الْخلق كَمَا يكون مشفقا على حَال نَفسه. وَحكى أَن أَصْحَاب الْوَظَائِف اجْتَمعُوا فِي مَوضِع وَاحِد فِي زمن هَارُون الرشيد رَحمَه الله، وَكَتَبُوا كتابا مضمونه: نَحن عباد الله، وبعضنا أَوْلَاد الأكابر، وبعضنا حفاظا، وبعضنا من آل الرَّسُول، وبعضنا من أهل الْعلم، وبعضنا من الْمَشَايِخ، وبعضنا فُقَرَاء، وبعضنا من الْمَسَاكِين، وَلكُل وَاحِد منا نصيب من بَيت المَال، وَأَنت كل يَوْم تَأْكُل وتشرب وتلبس مَا تشْتَهي، وَنحن مَا نجد الْخبز، إِن أَنْت تُعْطِي نصيبنا فبها، وَإِلَّا فنشكو من يدك إِلَى الله تَعَالَى، وندعو الله تَعَالَى ليَأْخُذ بَيت المَال من يدك، وَيُعْطِي الرجل الَّذِي لَا يقطع وظائفنا ونصيبنا ويشفق علينا. فَلَمَّا علم هَارُون الرشيد مَضْمُون الْقِصَّة تغير لَونه وحزن وَذهب بَيته الْخَاصَّة ثمَّ سَأَلته زَوجته الْمُسَمَّاة زبيدة عَن حَاله فَقَالَت: مَا كَانَ بك الْيَوْم؟ فَأخْبر مَضْمُون الْكتاب فَقَالَت زبيدة: انْظُر وتفكر كَيفَ فعل قبلك الْخُلَفَاء المتقدمون والأمراء والأكابر الماضون الَّذين قضوا بِالْحَقِّ، وَبِه كَانُوا يعدلُونَ، فافعل أَنْت مثلهم، وَلَا شكّ أَن بَيت المَال لمصَالح الْمُسلمين، وَأَنت تتصرف من بَيت المَال أَكثر من نصيبك وحقك مِنْهُ، فَيَنْبَغِي لَك أَن تتصرف فِي بَيت مَال الْمُسلمين، كَمَا يتَصَرَّف الْمُسلمُونَ فِي مَالك، وَإِن كَانُوا يَتَضَرَّعُونَ أَن ينْزع الله تَعَالَى الْملك من يدك، وَيُعْطِيه فِي يَد غَيْرك، فَالْحق فِي أَيْديهم، فَإِن الله تَعَالَى يُجيب دَعْوَة الْمَظْلُوم. فَلَمَّا نَامَا تِلْكَ اللَّيْلَة رأى هَارُون الرشيد وَزَوجته فِي الْمَنَام أَن الْقِيَامَة قد قَامَت، وَأَن جَمِيع الْمَخْلُوقَات حَضَرُوا فِي مَوضِع الْحساب، وَالنَّبِيّ -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يشفع لأمته، فَلَمَّا قصد هَارُون وَزَوجته إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى لِلْحسابِ، فجَاء ملك، ومنعهم من الذّهاب إِلَى عِنْد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ هَارُون للْملك: لم تَمْنَعنَا من الذّهاب إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى؟ فَقَالَ الْملك: قَالَ لي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام:

امْنَعْ هَارُون الرشيد عَن المجئ عِنْدِي، لِأَنِّي أستحي من الله - تَعَالَى - بِسَبَبِهِ، لِأَن هَارُون أكل مَال الْخَلَائق بِغَيْر حق، وَقطع أنصباء الْمُسْتَحقّين، وجعلهم محرومين عَن حُقُوقهم، وَالْحَال أَنه جلس فِي الدُّنْيَا مَكَاني. فَلَمَّا انتبها من النّوم حزن هَارُون الرشيد، فَسَأَلت زبيدة عَن حَاله، فَأَخْبرهَا كَمَا رأى فِي الْمَنَام، فَقَالَت زبيدة: إِنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام كَذَلِك، ثمَّ شكر الله تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ الْغَد فتح هَارُون أَبْوَاب الخزائن، ونادى الْمُنَادِي فِي السُّوق، فَقَالَ: يَا أَصْحَاب الْأَوْقَاف والوظائف والأنصباء، احضروا عِنْد هَارُون الرشيد فَحَضَرُوا عِنْده بِغَيْر حِسَاب، فقسم بَيت المَال جَمِيعًا لَهُم، وَلم يبْق شَيْء من بَيت المَال، فَقَالَت زبيدة: إِن بَيت المَال حق الْخَلَائق، فَلَا شكّ أَنهم يطْلبُونَ ذَلِك مِنْك، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَة، فَمَا أدّيت خرجت بِهِ من عُهْدَة الْبَعْض الَّذِي منعت، وَأما أَنا إِن أنفقت من مَالِي وجهازي فلوجه الله تَعَالَى، فأنفقت ألف ألف دِينَار فِي سَبِيل الله تَعَالَى، وَأمرت أَن يعمر من بَاب " الْكُوفَة " إِلَى الْكَعْبَة منَازِل وآبارا، فَفعلت الْخيرَات فِي طَرِيق الْكَعْبَة الَّتِي لم يَفْعَلهَا قبل ذَلِك أحد، وَأمر لعمالها أَن يشتروا بباقي أموالها آلَات الْغُزَاة، ثمَّ أمرت أَن يشتروا بباقيها الْقرى والضياع والكروم والبيوت، ليَكُون هَؤُلَاءِ وَقفا لمجاوري الْكَعْبَة وَالْمَدينَة والقدس. قيل: إِن الْقَوْم كتبُوا هَذِه الْحِكَايَة ونقلوها إِلَيْنَا قرنا بعد قرن ليعْمَل بهَا، فَإِذا كَانَ وجوب الْعَمَل ثَابتا بالرؤيا فَمَا جوابك إِن قَالَ الْحَكِيم: أما كَانَ كتابي عنْدك منزلَة الرُّؤْيَا؟ . وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الثَّانِيَة وَهِي الْعُلُوّ مَعَ الرّعية: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يكون مَعَ الرّعية ذَا همة عالية، وَلَا يتَوَقَّع من الرّعية شَيْئا، وَلَا يَأْخُذ من الرّعية رشوة لأجل قَضَاء حوائجهم، ويبذل مروءته وَكَرمه على الرّعية، ويوصل صلَاته إِلَيْهِم.

وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الثَّالِثَة وَهِي الثَّبَات مَعَ الرّعية: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يكون مَعَ الرّعية ثَابت الْقدَم فِي أَحْوَال الرّعية، يَعْنِي كلما أعْطى الْأَمِير أحدا من الأجناد أَو الرّعية شَيْئا، أَو جعل الْأَمِير أَو السُّلْطَان أحدا على شغل من أشغال الْإِمَارَة، أَو فوض أحدا منصبا، فَلَا يُغير الْوَزير ذَلِك، وَلَا يُبدل، كي لَا يَقع التهاون فِي أَمر السلاطين بل يُقرر وَيثبت مَا أَمر السُّلْطَان، وَلَا يسمع الْوَزير كَلَام صَاحب الْأَغْرَاض على الرّعية بِغَيْر بَيِّنَة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} (الحجرات 6) . وَإِذا ثَبت جِنَايَة أحد، مثل الْقصاص على أحد أَو وجوب الْحَد على أحد، فَلَا يُؤَخر الْوَزير ذَلِك إِذا ثَبت عِنْد الْحَاكِم أَو عِنْد الْملك لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} (النُّور 2) . لِأَنَّهُ إِذا أخر الْوَزير أَو القَاضِي أَو الْملك زواجر الشَّرْع عَن مُسْتَحقّه بالشفاعة أَو بالرشوة يفشو الظُّلم وَالْفساد فِي الرّعية، وَيطول أَيدي الظلمَة فِي الرّعية بِالْفَسَادِ، وَأخذ الْأَمْوَال، وَيفتح أَبْوَاب الْفسق. وَيَنْبَغِي للسلاطين والوزراء أَن يفوضوا كل أَمر إِلَى مُسْتَحقّه، لِأَنَّهُ إِذا لم يُعْط الْأَمر إِلَى مُسْتَحقّه يفْسد الدّين وَالدُّنْيَا، وَيخرب الْولَايَة ويتفرق الرعايا. وَأما حَال الْوَزير فِي الْخصْلَة الرَّابِعَة وَهِي التَّحَمُّل مَعَ الرّعية: فَيَنْبَغِي للوزير أَن يكون فِي التَّحَمُّل كعمود الْخَيْمَة، يَعْنِي يتَحَمَّل الْوَزير جَمِيع زحمات الرّعية والمملكة بالهمة والشفقة وَالرَّحْمَة على الرّعية، وَإِن صدر عَن الرّعية ذَنْب صَغِير بالسهو أَو الْخَطَأ يعْفُو الْوَزير ذَلِك عَنْهُم، وَلَا يكون ملولا فِي وَقت عرضهمْ أَحْوَالهم عِنْده، ويعرك أذن الْفُسَّاق والظلمة، ويؤدبهم، ليَكُون نصيحة على غَيرهم، وَيكون فِي قلبه أَنه يفعل جَمِيع الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لأجل رِضَاء الله تَعَالَى، لَا لأجل رِضَاء الْأَمِير، وَلَا لأجل رِضَاء نَفسه، وَلَا لأجل رِضَاء غَيرهمَا.

اعْلَم أَنه كَمَا يجب على الْوَزير الْأُمُور الْمَذْكُورَة، يجب على الْقُضَاة والنواب وَأَصْحَاب الْقَلَم والعمال أَن يراعوا فِي أُمُورهم الدّيانَة، وَالْأَمَانَة، وجانب الْحق، ويجتهدوا فِي إِجْرَاء أَحْكَام الشَّرِيعَة، وَتَخْفِيف الرعايا من المؤنات والأمور الشاقة، ليستوجبوا بذلك المثوبة والقربة عِنْد الله تَعَالَى، فَإِن الله تَعَالَى يسألهم عَن جَمِيع ذَلِك. وايضا يَنْبَغِي لَهُم أَن يشتغلوا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار بِذكر لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالتَّسْبِيح وَالِاسْتِغْفَار، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَفِي الصُّبْح بِقِرَاءَة قل هُوَ الله أحد عشر مَرَّات، وبقراءة سُورَة يس، وَسورَة الْوَاقِعَة، وَسورَة {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} ، وَسورَة {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} ، وَلَا يتْركُوا صَلَاة التَّهَجُّد - وَهِي الصَّلَاة فِي جَوف اللَّيْل - وَإِن كَانَت رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَاة الضُّحَى وَإِن كَانَت رَكْعَتَيْنِ، وَيَنْبَغِي لَهُم أَن يعملوا بِمُوجب هَذَا الحَدِيث كل يَوْم وَلَيْلَة، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- أَنه قَالَ: " من قَرَأَ حِين يصبح آيَة الْكُرْسِيّ، وآيتين من أول {حم تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم} (غَافِر: 2) ، حفظ فِي يَوْمه ذَلِك حَتَّى يُمْسِي، فَإِن قَرَأَهَا حِين يُمْسِي حفظ فِي ليلته تِلْكَ حَتَّى يصبح ".

وَعَن عَليّ بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه - أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِن فَاتِحَة الْكتاب، وَآيَة الْكُرْسِيّ، وآيتين من آل عمرَان: " شهد الله إِلَى قَوْله: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} (آل عمرَان: 19) و {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك} (آل عمرَان: 26) ، معلقات، مَا بَينهُنَّ وَبَين الله حجاب، قُلْنَ: يَا رب تهبطنا إِلَى أَرْضك، وَإِلَى من يعصيك، قَالَ الله عز وَجل: بِي حَلَفت لَا يقرؤكن أحد من عبَادي دبر كل صَلَاة، إِلَّا جعلت الْجنَّة مثواه على مَا كَانَ مِنْهُ، وأسكنته حضيرة الْقُدس، وَنظرت بِعَين الْمكنون كل يَوْم سبعين مرّة، ولقضيت كل يَوْم سبعين حَاجَة أدناها الْمَغْفِرَة، ولأعذته من كل عَدو وحاسد، ونصرته مِنْهُم ". وَالله الْمُوفق

الباب السادس

الْبَاب السَّادِس فِي قَوَاعِد الأجناد، وآدابها اعْلَم أَنه لَا يخفى فِي الْعَالم أَن خدمَة السلاطين والأمراء والملوك أَمر عَظِيم، وكل من يَجْعَل نَفسه فِي خدمَة الْملك، فَإِنَّهُ فِي معرض الْخطر وَالْخَطَأ، وَمن أجل ذَلِك قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " من اقْترب أَبْوَاب السُّلْطَان افْتتن ". وَتقول الْعَرَب: من شرب من كأس الْمُلُوك احترقت شفتاه. فَفِي الْجُمْلَة إِن قدر الله - تَعَالَى - لرجل خدمَة الْمُلُوك، والتقرب عِنْدهم يَنْبَغِي لَهُ أَلا يخَاف الْملك فِي كل الْأَحْوَال، لِأَن النَّبِي _ عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " إِن الله ليغضب على من خَالف السُّلْطَان ". وَقَالَ الْحُكَمَاء: من خدم السُّلْطَان خدمه الإخوان، إِذا تغير السُّلْطَان تغير الزَّمَان.

وَاعْلَم أَنما يَلِيق الرجل لخدمة السُّلْطَان إِذا حَافظ عشر قَوَاعِد، فَحِينَئِذٍ يَأْمَن من غضب الْمُلُوك، وَيبعد عَن شرورهم، وَيكون ذَا عزة عِنْد الْمُلُوك: الْقَاعِدَة الأولى: يَنْبَغِي لأجناد الْملك وخدامه أَلا ينكروا على أَفعَال الْملك وأقواله، وَإِن كَانَت تِلْكَ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال مُنكرَة فِي الشَّرْع، بل الأجناد يمْنَعُونَ الْملك عَن مُنكرَات الشَّرْع بالتأني والتدريج. الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: هِيَ أَن يشْتَغل الأجناد والخدام جَمِيع أوقاتهم باستمالة قلب الْملك، وكل شَيْء يعْمل الأجناد والخدام، يَنْبَغِي أَن يكون على وَجه الْعُبُودِيَّة والخضوع. الْقَاعِدَة الثَّالِثَة: هِيَ أَلا يُعَارض الْخَادِم للْملك بِالْحجَّةِ، وَلَا يُخَالف أَمر الْملك. الْقَاعِدَة الرَّابِعَة: هِيَ أَلا يغتر الأجناد والخدام ببساطة وَجه الْملك واستمالته، وَلَا يَأْمَن من مكر الْملك، بل يعلم محبته من عطائه، فَإِن كَانَ عطاؤه كثيرا يعلم أَن محبته مَعَه كثير، وَإِن كَانَ عطاؤه قَلِيلا يعلم أَن محبته مَعَه قَلِيل، وَقَالَ الْحُكَمَاء: ثَلَاثَة أَشْيَاء على مِقْدَار عقول أَرْبَابهَا: الْكتاب يدل على مِقْدَار عقل كَاتبه، وَالرَّسُول يدل على مِقْدَار عقل مرسله، والهدية تدل على مِقْدَار همة مهديها. الْقَاعِدَة الْخَامِسَة: هِيَ أَن يحفظ الْخَادِم لِسَانه عَن الْخُصُومَة فِي حَضْرَة الْملك مَعَ رجل آخر، وَلَا يغْضب رجلا عِنْد الْملك، لِأَنَّهُ إِذا أغضب الْخَادِم رجلا عِنْد الْملك، فَكَأَنَّهُ يغْضب الْملك. الْقَاعِدَة السَّادِسَة: إِذا كَانَت الأجناد أَو الخدام فِي خضرَة الْملك يتَوَجَّه بِعَيْنِه وإذنه إِلَى أَمر الْملك، ويمتثل بإشارته وَأمره. الْقَاعِدَة السَّابِعَة: هِيَ أَن الْخَادِم إِذا خَاطب الْملك يَنْبَغِي للخادم أَن يكون لين الْكَلَام، وَيكون كَلَامه أَخفض من كَلَام الْملك، وَلَا يتحاج من الْملك.

الْقَاعِدَة الثَّامِنَة: هِيَ أَلا يكثر الْخَادِم طلب الْحَوَائِج من الْملك كي لَا ينقص حرمته عِنْد الْملك، وَإِن عرض الْخَادِم حَاجَة للْملك، فَلم يقْض الْملك حَاجته، فَيَنْبَغِي للخادم أَلا يغتم بذلك، وَلَا يغْضب الْخَادِم الْملك لذَلِك السَّبَب، وَلَا يبعد عَن خدمَة الْملك لأجل عدم قَضَائِهِ الْحَاجة، لِئَلَّا يكون هَلَاك الْخَادِم فِي ذَلِك الْغَضَب والبعد. الْقَاعِدَة التَّاسِعَة: هِيَ أَن يعْتَاد الْخَادِم فِي خدمَة الْملك أَن يكون على أطيب خلق وطلاقة وَجه، ويحترز عَن الْحزن وعبوس الْوَجْه عِنْد الْملك. الْقَاعِدَة الْعَاشِرَة: أَلا يعْقد الْخَادِم مَعَ خدام الْملك الْعَدَاوَة، وَإِن كَانَ بَينه وَبَين خَادِم آخر عَدَاوَة، فَلَا يظْهر تِلْكَ الْعَدَاوَة عِنْد الْملك، وَإِن شكا الْخَادِم من خَادِم آخر إِلَى الْملك، فَيَنْبَغِي للخادم أَن يعرض الشكاية للْملك على طَرِيق النَّصِيحَة والتعريض، ليَقَع كَلَامه مَحل الْقبُول عِنْد الْملك. فَفِي الْجُمْلَة يَنْبَغِي للأجناد والخدام أَن يكون شعارهم ودثارهم عِنْد الْملك الصَّبْر والرفق والمداراة وَالْأَدب، لِأَن الْأَدَب مُفِيد فِي جَمِيع الْمَوَاضِع، أما فِي مجْلِس الْملك أعظم فَائِدَة. قَالَ أفلاطون: يَنْبَغِي للعاقل أَلا يكلم الْملك بالمجاهرة وَالْغَضَب، وَلَا يجاري على الْملك فِي الْكَلَام، وَلَا يغتر باستمالة الْمُلُوك، وَلَا بالتقرب عِنْدهم، لِأَن فِي التَّقَرُّب عِنْدهم حُصُول خطر الْبعد عَن الْملك، وَفِي الْقبُول عِنْدهم يحصل الخذلان والهوان. وَقَالَ سقراط: إِذا عَفا الْملك عَن جرم رجل يَنْبَغِي أَن يعرف الرجل حق ذَلِك الْعَفو، وَلَا يَنْبَغِي للرجل أَن يفعل مرّة أُخْرَى ذَلِك الجرم. وَقَالَ أفلاطون الْحَكِيم: " لَا يُمكن خدمَة الْملك إِلَّا بِثَلَاثَة أَشْيَاء: أَن يغمض عينه عَن مساوئ الْملك، وَيقصر يَده عَن أَخذ مَال الْملك بِغَيْر أمره، ويحفظ لِسَانه عَن غيبَة الْملك ". وَقَالَ حكماء اليونان: ثَلَاثَة أَشْيَاء من عَلَامَات عدم السَّعَادَة: الأول: أَلا يرى عَيبه. وَالثَّانِي: أَن يطْلب عيب غَيره، وَالثَّالِث: الْكَذِب فِي القَوْل.

وَقَالَ أنو شرْوَان الْعَادِل: لَا يبلغ الرجل مُرَاده فِي خدمَة الْمُلُوك، فَإِذا لم يبلغ مُرَاده، فَيَنْبَغِي أَلا يمْنَع إحسانه من أصدقائه. وَيَنْبَغِي للوزير وَالْخَادِم أَلا يرجع السَّائِلين من بَابه محرومين، فَإِنَّهُ من أعظم الْعُيُوب عِنْد الْعُقَلَاء. عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّد: " إياك وَالسُّؤَال، فَإِنَّهُ يخلق الْوَجْه وَيذْهب بهاءه، ويطفئ نوره، وَيَضَع الأقدار، ويحط الأخطار، ويكسو الذلة وَالصغَار ". وَقَالَ الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " من رجا نوالا فقد بَاعَ حَيَاته بِالْمَوْتِ، واستبدل بالعز الذل ". وَقَالَ الْمُهلب لِبَنِيهِ: " إيَّاكُمْ ورد السَّائِلين، فَإِنِّي مَا رَأَيْت شَيْئا أذلّ من السُّؤَال، فَلَا تجمعُوا عَلَيْهِ ذلين، ذل السُّؤَال، وذل الرَّد ". وَقَالَ حَكِيم: مَا أحب أَن أرد ذَا حَاجَة، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون كَرِيمًا فأصون وَجهه، أَو لئيما فأصون عرضي عَنهُ. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يُوصي إِلَى وَلَده وَيَقُول: " إِن افْتَقَرت فمت

قبل أَن تسْأَل، وَإِن اسْتَغْنَيْت فأعط قبل أَن تسئل، وَإِيَّاك ورد الطَّالِب، فَإِنَّهُ قد بَاعَ نَفسه ". وَقَالَ بزرجمهر: " يَنْبَغِي للرجل أَن يعِيش مَعَ الْملك كَمَا يعِيش العَبْد مَعَ سَيّده، لِأَن الْملك لَا يخرج عَن كَونه ظلّ الله، والرعية لَا تخرج عَن ذل الْعُبُودِيَّة ". وَقَالَ الْحُكَمَاء: فَسَاد الرّعية بِلَا ملك كفساد الْجِسْم بِلَا روح. إِذا تغير السُّلْطَان، تغير الزَّمَان. شعر: // (الوافر) // (إِذا مَا اللَّحْم أنتن ملحوه ... ونتن الْملح لَيْسَ لَهُ دَوَاء) وَقَالَ الْحُكَمَاء: " احْذَرُوا من لَا يُرْجَى خَيره، وَلَا يُؤمن شَره ". قيل لحكيم: " لم لَا تشرب الشَّرَاب؟ قَالَ: أكره أَن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ". وَيَنْبَغِي للأجناد والخدام أَن يَكُونُوا أَصْبِر الْخَلَائق على أَذَى الْملك، لِأَن الْعُقَلَاء قَالُوا: إِن فِي الصَّبْر خمس فَوَائِد، كل ذَلِك مستحسن ومطلوب، وَفِي العجلة خَمْسَة أَشْيَاء، كل ذَلِك مَذْمُوم: الأول: فِي الصَّبْر رَجَاء الْفرج، كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " الصَّبْر مِفْتَاح الْفرج ". فَعلم من هَذَا الحَدِيث أَن فِي العجلة لَا يُرْجَى الْفرج.

وَالثَّانِي: أَن فِي الصَّبْر رَجَاء الصَّوَاب، وَفِي العجلة رَجَاء الْخَطَأ، كَمَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " من تأنى أصَاب أَو كَاد وَمن تعجل أَخطَأ أَو كَاد ". وَالثَّالِث: أَن فِي الصَّبْر رَجَاء النُّصْرَة، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن النَّصْر مَعَ الصَّبْر " فَيعلم مِنْهُ أَن فِي العجلة عدم النَّصْر، وَهُوَ الْهَزِيمَة. وَالرَّابِع: أَن فِي الصَّبْر رَجَاء الْحَسَنَة، لِأَنَّهُ ذكر فِي التَّوْرَاة: " لَا حَسَنَة أَعلَى من الصَّبْر " فَعلم من ذَلِك أَن فِي العجلة السَّيئَة. وَالْخَامِس: أَن فِي الصَّبْر الِاقْتِدَاء بالرسل - عَلَيْهِم السَّلَام - كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {فاصبر كَمَا صَبر أولو الْعَزْم من الرُّسُل، وَلَا تستعجل لَهُم} {الْأَحْقَاف 35} . فَعلم من هَذِه الْآيَة أَن الصَّبْر من المأمورات، والعجلة من قبيل المنهيات، لِأَنَّهَا ضد الصَّبْر. قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه: " كل رجل يبعد عَن أَرْبَعَة أَشْيَاء، فَإِن ذَلِك الرجل يكون بَعيدا عَن السيء وَالْمَكْرُوه: الأول: العجلة. وَالثَّانِي: الْغَضَب. وَالثَّالِث: الْعجب. وَالرَّابِع: التكاسل ". وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " التَّعْجِيل لَا يُبَاح فِي الْمَأْمُور إِلَّا فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: الأول: فِي تَزْوِيج الْبِنْت، وَالثَّانِي: فِي دفن الْمَيِّت، وَالثَّالِث: فِي إِحْضَار الطَّعَام إِلَى الضَّيْف ".

فصل في الموعظة والنصيحة

فصل فِي الموعظة (والنصيحة) كتب أَبُو الدَّرْدَاء إِلَى مسلمة بن مخلد: " سَلام عَلَيْك، أما بعد: فَإِن العَبْد إِذا عمل بِطَاعَة الله تَعَالَى، أحبه الله تَعَالَى، وَإِذا أحبه الله تَعَالَى حببه إِلَى عباده، وَإِن العَبْد إِذا عمل بِمَعْصِيَة الله، أبغضه الله، وَإِذا أبغضه بغضه إِلَى عباده ". وَكَانَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول: " يَا أَبَا ذَر، أوصيك بِوَصِيَّة إِن لزمتها قرت عَيْنك، انْظُر إِلَى من هُوَ دُونك، وَلَا تنظر إِلَى من هُوَ فَوْقك، فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك خشع قَلْبك، وَإِن لم تفعل شمخ قَلْبك، فشمخ مَعَه السّمع وَالْبَصَر ". شعر: // (الْبَسِيط) // (من رام عَيْشًا رغيدا يَسْتَفِيد بِهِ ... فِي دينه ثمَّ فِي دُنْيَاهُ إقبالا) (فلينظرن إِلَى من فَوْقه عملا ... ولينظرن إِلَى من دونه مَالا) وَقَالَ لُقْمَان الْحَكِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - لِابْنِهِ: " لَا تجمع المَال لولدك، فَإِن كَانَ الْوَلَد من الْأَبْرَار، فَإِن الله لَا يضيع الْأَبْرَار، وَإِن كَانَ من الْفجار فَلَا تجمع المَال للفجار ".

شعر: // (الوافر) // (جرى قلم الْقَضَاء بِمَا يكون ... فسيان التحرك والسكون) (جُنُون مِنْك أَن تسْعَى لرزق ... فيرزق فِي غشاوته الْجَنِين) وَقَالَ بعض النصاح: " أما ينفعك موعظة مُشَاهدَة جَنَازَة والدك، وحضورك وَفَاة أَخِيك، وَأَنت بَينهمَا عَارِية ". وَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ربه أَن يَجْعَل فِي كل ألف من بني إِسْرَائِيل واعظا يَعِظهُمْ، فَأوحى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: " أَن يَا مُوسَى أَنِّي قد أَقمت بَين كل خَمْسَة مِنْهُم واعظا يَعِظهُمْ " يَعْنِي الْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة - فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: من ذَلِك الْوَاعِظ يَا رب؟ فَقَالَ: الْمَيِّت على السرير يعظ حامليه الْأَرْبَعَة. حِكَايَة: يحْكى أَن رجلا كَانَ لَهُ ابْن صَغِير يكون مَعَه فِي الْفراش، فليلة اضْطربَ الابْن وَلم ينم، فَقَالَ لَهُ أَبوهُ: مَا لَك يَا بني؟ أبك وجع؟ قَالَ: لَا يَا أَبَت، وَلَكِن غَدا يَوْم الْخَمِيس، يَوْم يعرض المتعلم على الْمعلم فَأَخَاف من ذَلِك، فَقَامَ الرجل إِلَى صحن الدَّار، وَوضع التُّرَاب على رَأسه وَقَالَ: أَنا أَحَق بِهَذَا الْبكاء، لِأَنِّي أعرض يَوْم الْقِيَامَة على رَبِّي. قَالَ رجل لحاتم الْأَصَم إِنِّي أُرِيد سفرا فأوصني، فَقَالَ: إِن أردْت الأنيس فَعَلَيْك بِالْقُرْآنِ، وَإِن أردْت الرفيق فالملائكة الْكِرَام، وَإِن أردْت الحبيب فَالله تَعَالَى فَرح قُلُوب أحبابه. وَعَن الْأَنْطَاكِي - رَحمَه الله - قَالَ: " خمس من دَوَاء الْقلب: مجالسة الصَّالِحين، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وخلاء الْبَطن، وَقيام اللَّيْل، والتضرع عِنْد الصِّحَّة ".

وَقَالَ رجل لذِي النُّون الْمصْرِيّ: أوصني، فَقَالَ: " إِن أردْت أَن تذْهب قساوة قَلْبك فأدم الصّيام، وَإِن وجدت قساوة، فأطل الْقيام، وَإِن وجدت قساوة فذر الْحَرَام، وَإِن وجدت قساوة فصل الْأَرْحَام، فَإِن وجدت قساوة فالطف بالأيتام ". اعْلَم أَن الْقلب عبارَة عَن قِطْعَة من دم جامدة سَوْدَاء، وَهُوَ مستكن فِي الْفُؤَاد، وَهُوَ بَيت النَّفس ومسكن الْعقل، وقساوة الْقلب عبارَة عَن عدم قبُول ذكر الله تَعَالَى، وَالْخَوْف، والرجاء، وَغير ذَلِك من الْخِصَال الحميدة، وَعدم هَذِه الْخِصَال لبعد النَّاس من الله تَعَالَى. وَقَالَ رجل لحامل اللفاف: عظني، فَقَالَ: اجْعَل لدينك غلافا كغلاف الْمُصحف، لِئَلَّا يدنسه الْآفَات، فَقَالَ الرجل: مَا غلاف ذَلِك؟ قَالَ: ترك طلب الدُّنْيَا إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ، وَترك مُخَالطَة النَّاس إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ. حِكَايَة: كَانَ لعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - صحيفَة يكْتب جَمِيع مَا كَانَ يفعل فِي أُسْبُوع من الْخَيْر وَالشَّر، فَإِذا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة يعرض أَعمال الْأُسْبُوع على نَفسه، فَلَمَّا بلغ شَيْئا لم يكن فِيهِ رِضَاء الله - تَعَالَى - جعل يضْرب الدرة على نَفسه، وَيَقُول: لم فعلت هَذَا؟ فَلَمَّا مَاتَ وَأَرَادُوا إِخْرَاج ثِيَابه، فَإِذا ظَهره وجنبه مسودة من كثر الضَّرْب. أوحى الله - تَعَالَى - إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: يَا دَاوُد، هَل تَدْرِي من أَغفر لَهُ ذنُوبه؟ قَالَ: من هُوَ يَا رب؟ قَالَ: الَّذِي إِذا ذكر ذنُوبه ارتعدت فرائصه، فَذَلِك العَبْد الَّذِي آمُر ملائكتي أَن تمحو عَنهُ ذنُوبه.

وَقَالَ دَاوُد: أَيْن أجدك إلهي إِذا طلبتك؟ قَالَ: عِنْد المنكسرة قُلُوبهم من مخافتي. وَقَالَ أبوعلي الرُّوذَبَارِي رَحمَه الله: إِن الله - تَعَالَى - وضع لِعِبَادِهِ ثَلَاث شبكات: شبكة الْعَفو للمذنبين، وَطرح حواليها حبوب التَّوْبَة، فَإِذا تَابَ العَبْد وَنَدم جرته شبكة الْعَفو إِلَى مغفرته ورضوانه، وَوضع شبكة الْبشَارَة لِلنَّبِيِّينَ، وَطرح حواليها حبوب الطَّاعَة، فَإِذا أطَاع العَبْد ربه، جرته شبكة الْبشَارَة إِلَى التَّوْفِيق والاعتصام والانقطاع عَمَّا سواهُ، وَوضع شبكة بره للعارفين، وَطرح حواليها حبوب الْمحبَّة، فَإِذا طلب الْمُحب مرضاة حَبِيبه، جرته شبكة بره إِلَى أياديه الْقَدِيمَة، وَإِلَى بره الأزلي. ويروى أَن رجلا أَتَى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- فَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد بَارك الله لهَذِهِ الْأمة، فخصني بخصلة خير فَقَالَ: " عَلَيْك بِالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَة، فَإِن فِيهَا النجَاة، وَإِن علمت أَن فِيهَا الهلكة، وَعَلَيْك بِطَلَب الْعلم، فَإِنَّهُ شرف لَك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِذا أردْت أمرا فَتدبر عاقبته، فَإِن كَانَ رشدا فأمضه، وَإِن كَانَ غيا فَأمْسك نَفسك عَنهُ ". قيل لوَاحِد من الْحُكَمَاء: لماذا لَا تتعلم الْفِقْه وَالْعلم؟ فَقَالَ: تعلمت ثَلَاث مسَائِل من كتب الْفِقْه: من كتاب النِّكَاح: أَن الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حرَام بِالنَّصِّ، فَقلت: الدُّنْيَا أُخْت الْآخِرَة فَلَا أجمع بَينهمَا.

وَمن كتاب الطَّلَاق: أَن مُطلقَة النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - لَا يجوز نِكَاحهَا بِالنَّصِّ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا} {الْأَحْزَاب 53} ، فَقلت: الدُّنْيَا مُطلقَة النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَلَا يجوز أَن أَتَزَوَّجهَا. وَمن كتاب الْبيُوع: " الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ مثلا بِمثل يدا بيد، وَالْفضل رَبًّا، فَقلت: الصَّاع من الْعُمر بِصَاع من الرزق، وَالْفضل رَبًّا حرَام ". قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه: " الفتوة أَرْبَعَة: الْعَفو عِنْد الْمقدرَة والتواضع عِنْد الرّفْعَة، والنصيحة عِنْد الْعَدَاوَة، والعطية بِغَيْر منَّة ". قَالَ الْأَصْمَعِي: لما حج أَمِير الْمُؤمنِينَ هَارُون الرشيد - رَحمَه الله - وَانْصَرف إِلَى " الْكُوفَة " بقى بهَا أَيَّامًا، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف، وبدت هوادجه تخرج، خرج النَّاس ينظرُونَ إِلَى بهجة الْخلَافَة، وَبَين يَدَيْهِ الطَّرْد وَالدَّفْع وَالْمَنْع، فَإِذا بهْلُول الْمَجْنُون، وَالصبيان حوله فَقَالَ: من هَذَا الَّذِي يجرء علينا طريقنا هَذِه؟ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن الْأَحْنَف: هَذَا بهْلُول المشوش يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَخرج إِلَيْهِ هَارُون، فَأخذ بعنان فرسه، وَأَقْبل عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَاجَتك يَا بهْلُول؟ فَقَالَ: النَّصِيحَة لوجه الله، والتذكير لطاعة الله - تَعَالَى - فَقَالَ: بلَى. قَالَ: يَا هَارُون، حَدثنِي أبي عَن جدي عَن أَحْمد بن وَائِل عَن سمي مولى أبي بكر عَن أبي صَالح السمان، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، عَن

النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: أَنه خرج من مَكَّة يُرِيد الْمَدِينَة على هَذِه المحجة الَّتِي أَنْت عَلَيْهَا، وَهُوَ على بغلته الدلْدل، وَلَيْسَ بَين يَدَيْهِ طرد وَلَا دفع وَلَا منع، وَهُوَ يَقُول: " يَا أَيهَا النَّاس رحمكم الله، ليلطف بَعْضكُم على بعض فَإِن الله لطيف بالعباد ". قَالَ هَارُون: زِدْنِي يَا بهْلُول، قَالَ: نعم يَا هَارُون، حَدثنِي أَحْمد بن وَائِل، عَن معبد العامري، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- يَقُول، وَهُوَ بِعَرَفَات وَبِيَدِهِ قضيبه الممشوق: " من رزقه الله جمالا فِي الدُّنْيَا ومالا، فأتعب جماله فِي طَاعَة الله تَعَالَى، وبذل مَاله فِي مرضاة الله، كَانَ حَقِيقا على الله أَن يسكنهُ فِي ديوَان الْأَبْرَار يَوْم الْقِيَامَة ". قَالَ لَهُ هَارُون: أتأخذ مني جَائِزَة يَا بهْلُول؟ قَالَ: وَالله مَا أرضاها لَك، فَكيف لنَفْسي؟ اصرفها على الَّذِي أَخَذتهَا مِنْهُ، فَهُوَ أَحَق بهَا، قَالَ: فأجري عَلَيْك عطائي من مَالِي يَا بهْلُول، قَالَ: يَا هَارُون، أَلَيْسَ رِزْقِي ورزقك على الله؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: يَا هَارُون فتظن أَنه يذكرك وينساني؟ ثمَّ ركب القصبة وَجعل يكر على الصّبيان ". حِكَايَة: قيل: لما حج هَارُون الرشيد مَاشِيا فرش لَهُ من الْعرَاق إِلَى الْحجاز اللبود والمرعزي، لِأَنَّهُ قد حلف أَن يحجّ مَاشِيا فاستند يَوْمًا إِلَى ميل من الْحجر - وَقد تَعب تعبا شَدِيدا - فَإِذا سعدون الْمَجْنُون قد غَار مِنْهُ فَأَنْشد شعرًا: // (الهزج) //: (هَب الدُّنْيَا تواتيك ... أَلَيْسَ الْمَوْت يَأْتِيك؟) (فَمَا تصنع بالدنيا؟ ... وظل الْميل يَكْفِيك؟) (أَلا يَا طَالب الدُّنْيَا ... دع الدُّنْيَا لشانيك) (كَمَا أضْحكك الدَّهْر ... كَذَاك الدَّهْر يبكيك) فشهق الرشيد، وخر مغشيا عَلَيْهِ، وَقد فَاتَهُ ثَلَاث صلوَات. قيل: أوحى الله - تَعَالَى - إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: " انصب كرسيا للقمان، واسمع مِنْهُ الْحِكْمَة، فَفعل ذَلِك، قَالَ: يَا دَاوُد، اسْمَع مني سِتّ كَلِمَات يدْخل فِيهَا علم الْأَوَّلين والاخرين: ليكن همك على الدُّنْيَا بِمِقْدَار مقامك فِيهَا،

وَليكن عَمَلك للآخرة بِقدر لبثك فِيهَا، ولتكن جرأتك على الْمعاصِي بِقدر صبرك على النَّار، وَليكن خدمتك لمولاك بِقدر حَاجَتك إِلَيْهِ، وَليكن انفكاك رقبتك على النَّار بِقدر طَاعَتك وَإِذا اردت أَن تَعْصِي مَوْلَاك، فاختر موضعا لَا يراك. لما حَان للخضر ومُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَام - أَن يَتَفَرَّقَا، قَالَ: يَا مُوسَى، لَو صبرت عَليّ لأتيت على ألف عَجِيبَة كل أعجب مِمَّا رَأَيْت، فَبكى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على فِرَاقه، وَقَالَ للخضر: أوصني يَا نَبِي الله، فَقَالَ: يَا مُوسَى، اجْعَل همك فِي معادك، وَلَا تخض فِيمَا لَا يَعْنِيك، وَلَا تأمن الْخَوْف فِي أمنك، وَلَا تيأس من الْأَمْن فِي خوفك، وَلَا تذر الْإِحْسَان فِي قدرتك. قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: زِدْنِي - رَحِمك الله - فَقَالَ لَهُ الْخضر: إياك والإعجاب بِنَفْسِك، والتفريط فِيمَا بقى من عمرك، وهم من لَا يغْفل عَنْك. قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: زِدْنِي رَحِمك الله، فَقَالَ لَهُ الْخضر: إياك واللجاج، وَلَا تمش فِي غير حَاجَة، وَلَا تضحك من غير عجب، وابك على خطيئتك يَا ابْن عمرَان. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: قد بلغت فِي الْوَصِيَّة، فَأَتمَّ الله - تَعَالَى - عَلَيْك نعْمَته، وغمرك فِي رَحمته وكلأك من عدوه. فَقَالَ لَهُ الْخضر: آمين، فأوصني أَنْت يَا مُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: إياك وَالْغَضَب إِلَّا فِي أَمر الله تَعَالَى. فَقَالَ لَهُ الْخضر: قد أبلغت فِي الْوَصِيَّة، فأعانك الله على طَاعَته، وحببك إِلَى خلقه، ووسع عَلَيْك من فَضله، فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: آمين. ثمَّ قَالَ لَهُ مُوسَى: يَا نَبِي الله من أجل أَي شَيْء أَعْطَاك الله الْحَيَاة من بَين الْعباد، فَلَا تَمُوت حَتَّى تسْأَل الله تَعَالَى ذَلِك، واطلعت على مَا فِي قُلُوب الْعباد؟ فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى على الصَّبْر على مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَالشُّكْر لله فِي نعْمَته، وسلامة الْقلب، لَا أَخَاف وَلَا أَرْجُو غير الله تَعَالَى يَا ابْن عمرَان. وَالله أعلم. قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " ناجى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - ربه فَقَالَ: يَا رب إِنِّي خفت من الْفقر، وَمن عَذَاب الْقَبْر، وَمن سَكَرَات الْمَوْت وَمن أهوال الْقِيَامَة، قَالَ الله تَعَالَى: يَا مُوسَى، إِن خفت من الْفقر فَعَلَيْك بِصَلَاة الضُّحَى، وَإِن خفت من عَذَاب الْقَبْر، فَعَلَيْك بِرَكْعَتَيْنِ بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَإِن خفت من سَكَرَات الْمَوْت فَعَلَيْك بِقِيَام اللَّيْل، وَإِن خفت من أهوال الْقِيَامَة، فَعَلَيْك بإطعام الْمَسَاكِين ". وَالله الْمُوفق

الباب السابع

الْبَاب السَّابِع فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالقضاة والسلاطين والأمراء قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} (المجادلة 11) ، وَقَالَ لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام: {وَقل رب زِدْنِي علما} (114 طه) . وَقَالَ النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام -: " إِذا مَاتَ الْمُؤمن، وَترك ورقة عَلَيْهَا علم، تكون الورقة سترا فِيمَا بَينه وَبَين النَّار، وَأَعْطَاهُ الله بِكُل حرف عَلَيْهَا مَدِينَة أوسع من الدُّنْيَا تسع مَرَّات ". وَقَالَ النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام -: " من درس مَسْأَلَة من الْعلم - مثلا رجل مَاتَ وَترك ابْنا فَالْمَال كُله لَهُ - أعطَاهُ الله - تَعَالَى - ثَوَاب أَرْبَعِينَ ألف سنة ". وروى: " أَن الله - تَعَالَى - خير سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - بَين الْعلم وَالْملك، فَاخْتَارَ الْعلم، فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى الْملك وَالْعلم جَمِيعًا ". وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا بُد لكل مُؤمن ومؤمنة من أَرْبَعَة أَشْيَاء: دَار وَاسع، وَفرس جواد، ولباس جيد، وسراج مُنِير ". قيل يَا رَسُول الله، مَا الدَّار الْوَاسِع؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الصَّبْر. قيل: وَمَا الْمركب الْجواد؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْعقل. قيل: وَمَا اللبَاس الْجيد؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْحيَاء، قيل: وَمَا السراج الْمُنِير؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْعلم ".

وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام " إِن لكل شَيْء عمادا، وعماد هَذَا الدّين الْفِقْه ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْعلمَاء مصابيح الْجنَّة وخلفاء الْأَنْبِيَاء ". وَقَالَ أَبُو عَليّ رَحمَه الله: " من أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيهِ بِالْعلمِ، وَمن أَرَادَ الْآخِرَة فَعَلَيهِ بِالْعَمَلِ ". وروى عَن الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: " الْعلم قلادة، وَالْأَدب إِفَادَة، ومجالسة الْعلمَاء زِيَادَة ". وَقيل: " الْعلم كنز مؤبد، وَعز سرمد ". وَقيل: الْعلم نسب لمن لَا نسب لَهُ، وَحسب لمن لَا حسب لَهُ. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله: " إِن هَذَا الْعلم يزِيد الشريف شرفا، ويبلغ الْمَمْلُوك مجَالِس الْمُلُوك ". وَقيل: الْعلم أفضل من الْعقل عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، خلافًا للمعتزلة. وَعَن عُرْوَة بن الزبير - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ لأولاده: " تعلمُوا فَإِنَّكُم إِن تَكُونُوا صغَار قوم، عَسى أَن تَكُونُوا كبار قوم آخَرين ". وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا رَاحَة لِلْمُؤمنِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي ثَلَاث: فِي ترك الدُّنْيَا، وَطلب الْعلم، وصحبة الصَّالِحين ".

وَعَن أبي يُوسُف - رَحمَه الله - قَالَ: " اخْتلفت إِلَى أبي حنيفَة - رَحمَه الله - تسع عشرَة سنة مَا فَاتَنِي صَلَاة الْغَدَاة مَعَ ابْن أبي ليلى. وَعَن زفر - رَحمَه الله - قَالَ: " اخْتلفت إِلَى أبي حنيفَة - رَحمَه الله - خمْسا وَعشْرين سنة مَا فَاتَنِي فطر وَلَا أضحى ". مَسْأَلَة: قَالَت لَهُ امْرَأَته: يَا نحس، فَقَالَ الرجل: إِن كنت نحسا فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا. قَالَ الْعلمَاء: إِن كَانَ الْحَالِف من أهل خوارزم، ينظر: إِن كَانَ

لَهُ مَال لم يَحْنَث، وَإِن لم يكن حنث، لِأَن من عَادَتهم أَن من لم يكن لَهُ مَال يعدونه نحسا. وَإِن كَانَ من أهل " بُخَارى ": إِن كَانَ لَهُ علم لَا يَحْنَث، وَإِن كَانَ جَاهِلا حنث. وَإِن كَانَ من أهل " خجند ": إِن كَانَ لَهُ جمال لَا يَحْنَث، وَإِن لم يكن حنث. كَذَا يعْتَبر عرف كل بلد. وَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " الْقُضَاة ثَلَاثَة: اثْنَان فِي النَّار، وَوَاحِد فِي الْجنَّة: رجل عَالم يقْضِي بِمَا علم بِهِ فَهُوَ فِي الْجنَّة، لِأَنَّهُ أظهر الْحق بِعلم، وأنصف الْمَظْلُوم من خَصمه، فَهُوَ فِي الْجنَّة، وَرجل جَاهِل فَقضى بِالْجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّار، لِأَنَّهُ قضى بالجور، وَرجل عَالم فَقضى بِغَيْر علمه فَهُوَ فِي النَّار، لِأَنَّهُ كَابر الْحق، وأقدم الْبَاطِل عَن بَصِيرَة ". إِنَّمَا يسْتَحبّ التَّحَرُّز عَن الدُّخُول فِي الْقَضَاء، إِذا كَانَ وَرَاءه فِي الْبَلَد من يصلح للْقَضَاء، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تحرزه عَن الْقَضَاء لَا يخْتل.

رُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله: " الْقُضَاة ثَلَاثَة: قَاض يقبل قَوْله مُجملا ومفصلا، وَهُوَ الْفَقِيه الْوَرع. وقاض يقبل قَوْله مفصلا لَا مُجملا، وَهُوَ الْوَرع غير الْفَقِيه. وقاض لَا يقبل قَوْله لَا مُجملا وَلَا مفصلا، وَهُوَ أَلا يكون فَقِيها وَلَا ورعا. الإِمَام الجائر لَا يقبل قَوْله فِي الْمُحرمَات، نَحْو أَخذ الْأَمْوَال، وَالْقَتْل، إِلَّا إِذا علم. الْعَدَالَة فِي الْإِمَامَة، والإمارة، وَالْقَضَاء، شَرط الْأَوْلَوِيَّة، لَا شَرط الصِّحَّة. السُّلْطَان إِذا حكم بَين الْخصم: قَالَ أَبُو الْقَاسِم: لَيْسَ لمن ولى الْحَرْب والحلب من الْقَضَاء شَيْء، إِنَّمَا ذَلِك إِلَى مُتَوَلِّي الْقَضَاء. أَرَادَ بالحلب الرِّشْوَة. وَذكر الْخصاف: أَنه يجوز، لِأَن قَضَاء غَيره إِنَّمَا نفذ، لِأَنَّهُ تقلده، فَلِأَن ينفذ قَضَاؤُهُ كَانَ أولى. وَالْفَتْوَى على قَول الْخصاف، وَإِن كَانَ فِي تَعْلِيله نظر. مَسْأَلَة: من قَالَ لسلطان هَذَا الزَّمَان: عَادل، كفر، لِأَنَّهُ لَا شكّ فِي جوره، والجور حرَام بِيَقِين، فَمن جعله حَلَالا وعدلا فقد كفر.

قَالَ لسلطان ظَالِم: إِنَّه عَادل. قَالَ أَبُو مَنْصُور الماتريدي: يكفر. وَقَالَ السَّيِّد الإِمَام: لَا يكفر، لِأَنَّهُ عدل فِي شَيْء. رُوِيَ عَن بشر عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله: أَن القَاضِي إِذا كَانَ غير عدل، فقضاياه كلهَا مَرْدُودَة. وَإِذا كَانَ الْأَمِير الَّذِي تولى الْقَضَاء جائرا لم يجز حكمه، وَيجوز حكم قُضَاته، كَمَا جَازَ قَضَاء من تقلد الْقَضَاء من مُعَاوِيَة مَعَ أَنه كَانَ جائرا. قَضَاء القَاضِي فِي غير مَكَان ولَايَته لَا يَصح. يجب أَن يذكر القَاضِي فِي مكتوباته مَكَانَهُ. وَيجوز قَضَاء الْأَمِير الَّذِي تولى الْقَضَاء، وَكَذَلِكَ كِتَابه إِلَى القَاضِي، إِلَّا أَن يكون القَاضِي من جِهَة الْخَلِيفَة، فقضاء الْأَمِير لَا يجوز. اعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي القَاضِي والأمير إِذا جَار وارتشى: قَالَ بَعضهم: هما سَوَاء، وينعزلان بِنَفس الْجور والخيانة، لِأَنَّهُمَا أمينان فِي الشَّرْع، والأمين إِذا جَار لَا يبْقى أَمينا. وَقَالَ بَعضهم: يَنْعَزِل القَاضِي دون الْأَمِير، لأَنا تركنَا الْقيَاس فِي الْأَمِير بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " وَلَو أَمر عَلَيْكُم عبد حبشِي أجدع "، وَلَا نَص فِي القَاضِي، فَيعْمل فِيهِ بِالْقِيَاسِ، وَبِه أَخذ أَبُو بكر الْبَلْخِي رَحمَه الله. وَقَالَ بَعضهم: لَا يَنْعَزِل، بل يعزلان. وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَن الْإِنْسَان لَا يَخْلُو عَن ذَنْب. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام إِسْمَاعِيل الزَّاهِد: " إِنِّي أحفظ عَن أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله: أَن القَاضِي يَنْعَزِل، لَكِن أدع هَذِه الرِّوَايَة، وَلَا أُخَالِف أَصْحَابِي، فَأَقُول: لَا يَنْعَزِل مَا لم يعْزل، وَينفذ قَضَاؤُهُ إِلَّا فِيمَا ارتشى، فَإِنَّهُ لَا ينفذ قَضَاؤُهُ، بل يكون حكمه فِيهِ بَاطِلا، حَتَّى لَا يحل لأحد من الْقُضَاة تَصْحِيح ذَلِك الحكم، بل يردهُ ويبطله.

وَذكر الْخصاف أَيْضا عَن أَصْحَابنَا رَحِمهم الله: " لَو أَن قَاضِيا أَخذ الرِّشْوَة ليحكم، فَحكم، كَانَ حكمه بَاطِلا، وَصَارَ معزولا من الْقَضَاء. قَالَ الناطقي: " قَوْله: " كَانَ حكمه بَاطِلا - مجْرى على ظَاهره. وَأما قَوْله: " صَار معزولا " مَعْنَاهُ: أَن يعْزل، أَلا يرى أَنه لَو رد الرِّشْوَة، وَحكم، صَحَّ حكمه، وَلَو صَار معزولا لاحتيج إِلَى تَقْلِيد آخر؟ ". كَذَا ذكره الناطقي عَن تَأْوِيل رِوَايَة الْخصاف. والخصاف لم يؤول، بل أَخذ بظاهرها، فَقَالَ: يعْزل. لَكِن الْفَتْوَى على أَنه يسْتَحق الْعَزْل، وَلَا يَنْعَزِل. وَلَو ارتشى ولد القَاضِي، أَو كَاتبه، أَو أحد فِي ناحيته ليعين الراشي عِنْد الْقَضَاء، ليقضي لَهُ وَهُوَ حق، فَقضى القَاضِي، وَلم يعلم بذلك، أَثم الراشي، وَحرم على الْقَابِض، وَنفذ الْقَضَاء، وَلَو علم القَاضِي بذلك، فقضاؤه مَرْدُود، كَمَا لَو ارتشى بِنَفسِهِ. وَاعْلَم أَن الرِّشْوَة والارتشاء حرَام، إِلَّا لدفع خوف عَن نَفسه، أَو لدفع طمع ظَالِم فِي مَاله، حل الْإِعْطَاء وَلَا يحل الْأَخْذ، وَكَذَا لَو رشاه ليسوي أمره بَين السُّلْطَان، يحل الْإِعْطَاء، دون الْأَخْذ، وَالْحِيلَة فِي حل أَخذ تِلْكَ

فصل في كيفية جلوس القاضي للقضاء

الرِّشْوَة أَن يَقُول الْآخِذ: استأجرني يَوْمًا إِلَى اللَّيْل لأَقوم بعملك بِبَدَل، فيستأجره، يَصح، وَلَو أعطَاهُ بَعْدَمَا سوى أمره ونجاه عَن ظلمه، يحل للآخذ، وَهُوَ الصَّحِيح. مَسْأَلَة: أَبرَأَهُ عَن الدّين ليصلح مهمة عِنْد السطان، لَا يبرأ، وَهُوَ رشوة. رزق القَاضِي وأعوانه مِقْدَار كِفَايَته، وكفاية أَهله وأعوانه من بَيت المَال، ثمَّ قَالَ بعض الْمَشَايِخ: لَا يسْتَحق الْكِفَايَة يَوْم البطالة. وَقَالَ مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر: إِنَّه يسْتَحق، وَهُوَ الْأَصَح. فصل فِي كَيْفيَّة جُلُوس القَاضِي للْقَضَاء وَيجْلس القَاضِي للْحكم فِي الْمَسْجِد، وَإِن كَانَ الْخصم امْرَأَة حَائِضًا أَو نفسَاء يَأْتِي القَاضِي إِلَى بَاب الْمَسْجِد، فَينْظر فِي خصومتها، كَمَا لَو وَقعت

الْخُصُومَة فِي الدَّابَّة، يخرج القَاضِي لسَمَاع الدَّعْوَى وَالشَّهَادَة. وَلَا بَأْس بِأَن يجلس فِي بَيته، وَيَأْذَن للنَّاس بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلَا يقْضِي مَاشِيا، وَلَا بَأْس مُتكئا. وَلَا بَأْس بِالسَّلَامِ على القَاضِي، وَإِن تَركه وَسعه، والخصوم لَا يسلمُونَ على القَاضِي، وَهُوَ لَا يسلم عَلَيْهِم إِذا جلس للْقَضَاء. وَذكر الرَّازِيّ فِي " أدب القَاضِي " أَن من دخل على القَاضِي فِي مجْلِس حكمه وَسعه أَن يتْرك السَّلَام عَلَيْهِ هَيْبَة لَهُ واحتشاما، وَبِهَذَا جرى الرَّسْم أَن الْوُلَاة والأمراء إِذا دخلُوا عَلَيْهِم لَا يسلمُونَ، وعَلى الْأَمِير أَن يسلم وَلَا يتْرك السّنة.

وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ إِذا دخل القَاضِي الْمَسْجِد، ثمَّ يَدْعُو الله - تَعَالَى - أَن يوفقه، ويسدده للحق، ويعصمه من الْخَطَأ والذلل، ثمَّ يجلس للْحكم، وَيسْتَقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ، وَيسْتَحب أَن يجلس مَعَه قوما من أهل الْفِقْه وَالْأَمَانَة قَرِيبا مِنْهُ، وَيَضَع القمطرة إِلَى جنبه عَن يَمِينه. ويتخذ كَاتبا مُسلما حرا، عدلا، ورعا، وَيقْعد حَيْثُ يرى، فَيكْتب خُصُومَة كل خصمين وشهودهما فِي صحيفَة بَيْضَاء - وَهِي الْمحْضر - وَيَنْبَغِي أَن يكْتب اسْم الْمُدَّعِي، وَاسم أَبِيه، وجده، وكنيته، وصناعته، وقبيلته، وَمَا يعرف بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ؟ وَيكْتب للشُّهُود مَوَاضِع مَنَازِلهمْ ومحالهم ومصلاهم فِي رقْعَة، ويشدها فِي رَأس الْمحْضر، للمسألة عَنْهُم إِن كَانَ القَاضِي لَا يعرفهُمْ، وَإِن كَانَ يعرفهُمْ لم يحْتَج إِلَى ذَلِك. وَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يَتَّقِي الله تَعَالَى، وَيَقْضِي بِالْحَقِّ، وَلَا يقْضِي لهوى يضله، وَلَا لرغبة يعزه، وَلَا لرهبة يزجره، بل يُؤثر طَاعَة ربه على رِضَاء خلقه، فَيتبع الْحِكْمَة، وَفصل الْخطاب، قيل: هُوَ الْعلم بِالْقضَاءِ. وَقيل: هُوَ الْفَصْل بَين الْخُصُوم. وَإِذا تقدم إِلَيْهِ خصمان، فَالسنة أَن يقعدا بَين يَدي القَاضِي جثوا،

وَيُسَوِّي بَين الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوس، وَالنَّظَر، والمنطق، وَلَا يرفع صَوته على أَحدهمَا، إِلَّا أَن يسئ، وَلَا يعين وَلَا يلقن أَحدهمَا، وَلَا يعرض عَنْهُمَا بَعْدَمَا كَانَ مُقبلا عَلَيْهِمَا. وَلَو اعتراه هم، أَو نُعَاس، أَو غضب، أَو جوع، أَو عَطش، أَو حَاجَة حيوانية، كف عَن الْقَضَاء، وَلَا يتَطَوَّع بِالصَّوْمِ فِي يَوْم الْقَضَاء وَلَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي فِي مجْلِس الْقَضَاء بِنَفسِهِ، وَلَا بَأْس بذلك فِي غير مجْلِس الْقَضَاء. ويجيب الدعْوَة الْعَامَّة كالعرس والختان، وَلَا يُجيب الْخَاصَّة، وَهِي الْعشْرَة وَمَا دونهَا وَمَا فَوْقهَا عَامَّة، إِلَّا إِذا كَانَ رجلا متخذا الضِّيَافَة للْقَاضِي قبل الْقَضَاء لصداقة بَينهمَا، فَيُجِيبهُ بعد الْقَضَاء، كالمستقرض إِذا أهْدى للمقرض شَيْئا أَو

أَضَافَهُ، إِن كَانَ فعل بِهِ قبل الْقَرْض فَلَا بَأْس بِالْقبُولِ، وَإِلَّا فَلَا يقبل. ويجيب دَعْوَة الْخَاص من الْقَرَابَة، وَيقبل هديتهم بالِاتِّفَاقِ، وَإِن كَانَ للقريب خُصُومَة لَا يُجيب وَلَا يقبل هديته.

(صفحة فارغة)

وَلَا يضيف القَاضِي أحد الْخَصْمَيْنِ، إِلَّا أَن يكون خَصمه مَعَه. وَيكرهُ للْقَاضِي أَن يُفْتِي فِي مجْلِس الْقَضَاء للخصومات والدعاوى، وَفِي غير مجْلِس الْقَضَاء، قيل: لَا يكره. وَقيل: يكره. وَيكرهُ أَن يَأْذَن أحد الْخَصْمَيْنِ أَن يدْخل فِي منزله، وَلَا بَأْس لمن لَا خُصُومَة لَهُ أَن يدْخل للْحَاجة. فَفِي الْجُمْلَة يجب أَن يكون الْمُفْتِي: حَلِيمًا، رزينا لين القَوْل، منبسط الْوَجْه.

عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " رَأس الْعقل أَن يعْفُو الرجل عَمَّن ظلمه، وَأَن يتواضع لمن دونه، وَأَن يتدبر ثمَّ يتَكَلَّم ". وَإِذا أجَاب الْمُفْتِي يَنْبَغِي أَن يكْتب عقيب جَوَابه: وَالله أعلم، وَنَحْو ذَلِك. وَقيل: فِي الْمسَائِل الدِّينِيَّة الَّتِي اجْتمع عَلَيْهَا أهل السّنة وَالْجَمَاعَة يَنْبَغِي أَن يكْتب: وَالله الْمُوفق، أَو يكْتب: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَة. وَإِذا اتّفق أَصْحَابنَا فِي شَيْء مثل أبي حنيفَة - رَحمَه الله - وصاحبيه، لَا يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يخالفهم بِرَأْيهِ، لِأَن الْحق لَا يعدوهم، وَإِن اخْتلفُوا فِيمَا بَينهم. قَالَ المتقدمون من مَشَايِخنَا: يُؤْخَذ بقول أبي حنيفَة رَحمَه الله. وَقَالَ الْمُتَأَخّرُونَ: إِذا اجْتمع اثْنَان مِنْهُم على شَيْء وَفِيهِمَا أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - يُؤْخَذ بقولهمَا، وَإِن كَانَ أَبُو حنيفَة - رَحمَه الله - فِي جَانب، وهما فِي جَانب يتَخَيَّر القَاضِي فِي ذَلِك إِن كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد وَإِلَّا يستفتي غَيره، فَيَأْخُذ بقول الْمُفْتِي بِمَنْزِلَة الْعَاميّ، وَلَا يَسعهُ أَن يتَعَدَّى إِلَى غَيره.

مسألة

وَإِن كَانَ فِي الْمصر فقيهان اخْتلفَا فِي شَيْء يَأْخُذ بِمَا هُوَ أصوبهما عِنْده، وَإِن كَانُوا ثَلَاثَة فاتفق اثْنَان أَخذ بقولهمَا. وَلَا يجوز للحنفي أَن يَأْخُذ بقول مَالك وَالشَّافِعِيّ فِيمَا خَالف مذْهبه، وَله أَن يَأْخُذ بقول القَاضِي إِذا حكم عَلَيْهِ بِخِلَاف مذْهبه. وَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يشاور أهل الْفِقْه فِي الحكم. وَلَو قضى القَاضِي بِخِلَاف مذْهبه نفذ قَضَاؤُهُ عِنْد أبي حنيفَة - رَحمَه الله - خلافًا لَهما. وَلَو قضى بِرَأْي غَيره، ثمَّ ظهر لَهُ رَأْي بِخِلَاف مَا قضى، ينْقض قَضَاؤُهُ عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله، وَعند أبي يُوسُف - رَحمَه الله - لَا ينْقض، وَهُوَ الْأَظْهر. مَسْأَلَة رجل خَاصم السُّلْطَان إِلَى القَاضِي فَجَلَسَ السُّلْطَان مَعَ القَاضِي فِي مَجْلِسه، والخصم على الأَرْض، يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يقوم من مقَامه، وَيجْلس فِيهِ خصم السُّلْطَان، وَيقْعد على الأَرْض، ثمَّ يقْضِي بَينهمَا، كي لَا يكون مفضلا بَين الْخَصْمَيْنِ على الآخر.

مسألة

مَسْأَلَة قضى بِجَوَاز نِكَاح مزنية الْأَب، لَا يجوز عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله، وَالْقَاضِي الثَّانِي يُبطلهُ. وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: جَازَ، وَلَا يُبطلهُ الثَّانِي. وَلَو قضى بِشَهَادَة الابْن لِأَبِيهِ، أَو عَكسه، فَالْخِلَاف على الْعَكْس.

مسألة

مَسْأَلَة نسى القَاضِي مذْهبه، فَقضى غَيره، أَو قضى بِهِ مَعَ علمه بِمذهب نَفسه، ينفذ عِنْد الإِمَام، خلافًا لَهما. وَقيل: إِذا قضى بِخِلَاف مذْهبه مَعَ الْعلم بِهِ لم يجز فِي قَوْلهم الْحَاصِل عَن الإِمَام فِي الْقَضَاء، بِخِلَاف مذْهبه مَعَ الْعلم بِهِ، رِوَايَتَانِ.

مسألة

إِذا كَانَ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ شفعويا، وَالْمُدَّعِي حنفيا، يقْضى بِمَا هُوَ مَذْهَب القَاضِي بِالْإِجْمَاع. وَمِنْهُم من قَالَ: إِذا كَانَ الْمُدَّعِي شفعويا يسْأَله القَاضِي: هَل يعْتَقد هَذَا؟ إِن قَالَ: نعم، قضى لَهُ، وَإِن قَالَ: لَا، لَا يقْضى، وَهَذَا القَوْل أعدل. مَسْأَلَة وَلَو انْهَدم جِدَار، فَظهر للْمَيت مَال، وَأَخذه القَاضِي، فَعلم بذلك الظلمَة، فَدفع إِلَيْهِم، ضمن القَاضِي. السَّاعِي إِلَى السُّلْطَان، إِذا سعى بِغَيْر ذَنْب أصلا يضمن، كَذَا اخْتَارَهُ مَشَايِخنَا الْمُتَأَخّرُونَ، مِنْهُم: القَاضِي الإِمَام السَّعْدِيّ، وَالْحَاكِم الإِمَام عبد الرَّحْمَن، وَغَيرهمَا، وجعلاه بِمَنْزِلَة الْمُودع إِذا دلّ السَّارِق على السّرقَة. إِذا لم يكن مَأْذُونا فِي الِاسْتِخْلَاف، فاستخلف، فَحكم الْخَلِيفَة فِي مجْلِس القَاضِي بَين يَدَيْهِ، جَازَ كَالْوَكِيلِ إِذا وكل غَيره بِالْبيعِ، فَبَاعَ الثَّانِي بِمحضر الأول. ويتوقت الْقَضَاء بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان.

مسألة

وَإِذا قلد السُّلْطَان رجلا قَضَاء بَلْدَة، لَا يدْخل فِيهِ السوَاد والقرى، مَا لم يكْتب فِي منشوره الْبَلَد والسواد. السُّلْطَان أَو الإِمَام الْأَكْبَر فوض قَضَاء نَاحيَة إِلَى اثْنَيْنِ، فَقضى أَحدهمَا لم يجز، كَأحد وَكيلِي بيع. تَعْلِيق تَقْلِيد الْقَضَاء والإمارة بِالشّرطِ مُضَافا إِلَى وَقت فِي الْمُسْتَقْبل جَازَ، بِأَن قَالَ: إِذا قدم فلَان فَأَنت قَاضِي بَلْدَة كَذَا، أَو إِذا قدمت بَلْدَة كَذَا فَأَنت أميرها، أَو قَالَ: إِن قدم فلَان أَو إِن قدمت. فَأَما تَعْلِيق التَّحْكِيم بَين اثْنَيْنِ، بِأَن قَالَ: إِذا قدم فلَان فاحكم بَيْننَا فِي هَذِه الْحَادِثَة، لم يَصح عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله، وَبِه يُفْتِي، وَفِيه خلاف مُحَمَّد رَحمَه الله. تَعْلِيق عزل القَاضِي بِالشّرطِ بِأَن قَالَ: إِذا وصل كتابي إِلَيْك، فَأَنت مَعْزُول، قيل: يَصح، وَقيل: لَا، وَبِه يُفْتِي. وَإِذا كَانَ للسُّلْطَان أَو القَاضِي من الْعلم مَا يجوز قَضَاؤُهُ، لم يَسعهُ أَن يمْتَنع، وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَعَة. قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: لَا يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يُفْتِي فِي الْخُصُومَات، وَلَا يُفْتِي أَيْضا أحد يرى أَنه من قبل خصم يُخَاصم إِلَيْهِ. مَسْأَلَة مَاتَ وَال لَا يَنْعَزِل قُضَاته. مَسْأَلَة خوارج غلبوا على بَلْدَة، وقلدوا قَاضِيا من الْخَوَارِج، لم يجز، وَإِن قلدوا من أهل الْعدْل، جَازَ.

فصل في البغاة

فصل فِي الْبُغَاة غلب الْبُغَاة على الْمَدِينَة، واستعملوا عَلَيْهَا قَاضِيا مِنْهُم، فَقضى بأَشْيَاء، ثمَّ ظهر أهل الْعدْل، ينفذ قضاياه قَاضِي الْعدْل، إِذا كَانَ حَقًا، أَو مُخْتَلفا فِيهِ. وَأهل الْبَغي: كل فِئَة لَهُم مَنْعَة، ويقاتلوننا بِتَأْوِيل، أَي قَالُوا: الْحق مَعنا، وادعو الْولَايَة حَتَّى لَو لم يَكُونُوا متأولين لم يَكُونُوا بغاة. وَيحل لأهل الْعدْل قتال أهل الْبَغي، فَالْحَاصِل تغلب قوم مُسلمُونَ على بلد، وَخَرجُوا عَن طَاعَة الإِمَام دعاهم الإِمَام إِلَى الْجَمَاعَة، وكشف عَن شبهتهم الَّتِي استندوا لَهَا فِي خُرُوجهمْ عَن طَاعَة الإِمَام، وَلَا يبْدَأ الإِمَام الْبُغَاة بِقِتَال، بل الإِمَام يبْدَأ أَولا بكشف شبهتهم، لِأَنَّهُ أَهْون على الإِمَام، فَإِن بَدَأَ الْبُغَاة بِالْقِتَالِ قَاتلهم حَتَّى يفرق جمعهم. وَإِذا أصَاب أهل الْعدْل كرَاع الْبُغَاة، وسلاحهم، يجوز أَن يستعملوها فِي قِتَالهمْ، فَإذْ فرغوا عَن الْقِتَال ردوهَا عَلَيْهِم، وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: لَا يجوز. وَإِذا بلغ الإِمَام أَن الْبُغَاة يشْتَرونَ السِّلَاح، ويتأهبون لِلْقِتَالِ، يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يَأْخُذهُمْ ويحبسهم، حَتَّى يقلعوا عَن ذَلِك، ويحدثوا تَوْبَة، دفعا للشر بِقدر

مسألة

الْإِمْكَان وَإِن كَانَت لَهُم فِئَة أجهز - أَي أسْرع - على جريحهم، وَاتبع موليهم. وَإِن لم يكن لَهُم جمَاعَة لَا يفعل الإِمَام كَذَلِك، لِأَن شرهم مندفع بِدُونِهِ، وَلَا يسبى لَهُم ذُرِّيَّة، وَلَا يقسم مَال، لأَنهم مُسلمُونَ، معصومون، وَلَكِن يحبس مَالهم حَتَّى يتوبوا، فَيرد عَلَيْهِم وَكَذَا أسيرهم لَا يقتل، إِذا لم يكن لَهُم فِئَة. وَإِذا قتل الْعَادِل مُوَرِثه الْبَاغِي وَرثهُ، لِأَن قَتله بِحَق، قَالَ الله تَعَالَى: {وقاتلوا الَّتِي تبغى حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} {الحجرات 9} . وَإِن قتل الْبَاغِي وَقَالَ: كنت على حق، وَأَنا الْآن على حق، وَرثهُ. وَعند أبي يُوسُف - رَحمَه الله - لَا يَرث الْبَاغِي، سَوَاء قَالَ: أَنا على حق أَو لَا. الْمَرْأَة الباغية تقَاتل، أخذت، وحبست، وَلَا تقتل، وَإِن قتلت فِي الْمُحَاربَة جَازَ، كَمَا فِي الحربية. مَسْأَلَة أعَان قوم من أهل الذِّمَّة الْبُغَاة، لم يكن نقضا للْعهد، وَيكون ذِمِّيا بَاغِيا، فَيقْتل، وَلَا يسترق. وَفِي " الْهِدَايَة ": الْعَادِل إِذا أتلف نفس الْبَاغِي أَو مَاله لَا يضمن، وَكَذَا إِذا أتلف الْبَاغِي مَال الْعَادِل أَو نَفسه. وَفِي " الْمُحِيط " و " الْوَجِيز ": الْعَادِل إِذا أتلف مَال الْبَاغِي يُؤْخَذ بِالضَّمَانِ. وَفِيمَا ذكر فِي الْهِدَايَة مَحْمُول على مَا إِذا أتْلفه حَال الْقِتَال، وَأما إِذا أتلفوا فِي غير هَذِه الْحَالَات فَلَا معنى لمنع الضَّمَان، لِأَن مَالهم مَعْصُوم. وَلَو أتلف الْبَاغِي مَال الْعَادِل لَا يجب الضَّمَان، لِأَن الْبَاغِي يسْتَحل مَال الْعَادِل، وَلَيْسَ لنا ولَايَة الْإِلْزَام عَلَيْهِم، فَلَا يُفِيد إِيجَاب الضَّمَان، وَلَا كَذَلِك الْعَادِل. الْعَادِل لَا يقتل ذَا رحم محرم مِنْهُ من الْبُغَاة، إِلَّا دفعا عَن نَفسه، وَيحل لَهُ أَن يقتل دَابَّته ليترجل الْبَاغِي فيقتله غَيره. مَسْأَلَة السَّارِق الَّذِي يصلبه السُّلْطَان فَفِي الصَّلَاة عَلَيْهِ اخْتِلَاف.

فصل في أحكام قطاع الطريق

فصل فِي أَحْكَام قطاع الطَّرِيق وَإِذا خرج جمَاعَة ممتنعون - أَي قادرون على أَن يمنعوا عَن أنفسهم تعرض الْغَيْر - أَو وَاحِد مُمْتَنع لقطع الطَّرِيق، فَأخذُوا قبل التَّوْبَة، حبسوا ليتوبوا. وَقَيَّدنَا بقولنَا: " قبل التَّوْبَة "، لأَنهم لَو أخذُوا بعد التَّوْبَة لم يحدوا، بل يُؤْخَذ مِنْهُم المَال الْقَائِم، وَيضمن الْهَالِك. فَإِن أخذُوا مَال مُسلم أَو ذمِّي - وَنصِيب كل نِصَاب - قطعت أَيْديهم وأرجلهم من خلاف. وَقَيَّدنَا بِمَال الذِّمِّيّ، لأَنهم لَو أخذُوا مَال الْمُسْتَأْمن لَا يجب الْقطع. وَإِن قتلوا قتلوا حدا، من جِهَة أَنه حق الله، وَلَا يلْتَفت إِلَى عَفْو الْأَوْلِيَاء، وَإِن جمعُوا، فالإمام إِن شَاءَ جمع بَين الْقطع وَالْقَتْل والصلب، وَإِن شَاءَ اكْتفى بِالْقَتْلِ، أَو الصلب عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله، وَعند أبي يُوسُف - رَحمَه الله - يَكْتَفِي بالصلب، سَوَاء قتل وَأخذ المَال، أَو قتل فَقَط، ويصلب حَيا ويشق بَطْنه بِرُمْح إِلَى أَن يَمُوت، وَلَا يتْرك أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام، وَيقْتلُونَ بِمُبَاشَرَة أحدهم. وَإِن كَانَ فيهم صَغِير، أَو مَجْنُون، أَو ذُو رحم محرم من الْمَقْطُوع عَلَيْهِ، أَو أَخذ بعد التَّوْبَة - وَقد قتل عمدا - صَار الْقَتْل إِلَى الْأَوْلِيَاء، إِن شَاءُوا استوفوا وَإِن شَاءُوا عفوا. وَإِنَّمَا قيدنَا بعد التَّوْبَة، لأَنهم لَو أخذُوا قبلهَا - وَقد قتلوا - لَيْسَ لوَلِيّ الْقَتِيل الْعَفو، بل قَتلهمْ الإِمَام حدا. وَلَو قطع الطَّرِيق بِقرب الْعمرَان بمنعة، أَو أَخذ فِي الْمصر مَالا مغالبة، لَا يَجْعَل قَاطع الطَّرِيق عِنْد الثَّلَاثَة، خلافًا للشَّافِعِيّ، فَحكمه أَنه يحبس، ويؤدب، وَيسْتَرد مَا أَخذ، وَيتَخَيَّر ولي الْقَتِيل - إِذا قتلوا - إِن شَاءَ قتل، وَإِن شَاءَ عَفا.

مسألة

مَسْأَلَة للسُّلْطَان حبس الْغلَّة المدركة حَتَّى يَأْخُذ الْعشْر وَالْخَرَاج. من لَا ولي لَهُ، إِذا قتل عمدا للسُّلْطَان أَن يَسْتَوْفِي الْقصاص أَو يُصَالح وَلَا يعْفُو، وَكَذَا القَاضِي فِي الْقصاص الَّذِي ثَبت للصَّغِير. وَلَو أَن أَمِير الْعَسْكَر فِي أَرض الْحَرْب بعث رَسُولا إِلَى ملك الْعَدو، فَأجَاز ملك الْعَدو لرَسُوله جَائِزَة، فأخرجها، فَهِيَ للرسول خَاصَّة، لِأَنَّهُ ملكه، إِذا لم يُعْطه لرغبة، وَلَا لرهبة. وَلَو اسْتَأْجر أَمِير الْعَسْكَر أَجِيرا للعسكر بِأَكْثَرَ من أجر الْمثل، لَا يتَغَابَن النَّاس فِيهِ، فَعمل الْأَجِير وَانْقَضَت الْمدَّة، فَالزِّيَادَة بَاطِلَة، لِأَن الْأَمِير مَأْمُور بِالْعَمَلِ بِشَرْط أَلا يضر، وَذَلِكَ يُوجب تَقْيِيد الْأَمر بِأَجْر الْمثل، وَصَارَ كَالْقَاضِي إِذا اسْتَأْجر أَجِيرا للْيَتِيم بِأَكْثَرَ من أجر الْمثل، وَعمل الْأَجِير، كَانَت الزِّيَادَة بَاطِلَة. وَلَو قَالَ أَمِير الْعَسْكَر أَو القَاضِي: استأجرته، وَأَنا أعلم أَنه لَا يَنْبَغِي، فالأجر كُله فِي مَاله، لِأَن القَاضِي إِذا قضى بالجور، فَإِن أَخطَأ، كَانَ خَطؤُهُ على الْمقْضِي لَهُ، وَأَن تعمد ذَلِك، كَانَ الْغرم على القَاضِي فِي مَاله. وَلَو اسْتَأْجر أَمِير الْعَسْكَر قوما مشاهرة ليسوقوا الْغنم والأرماك حَيْثُ مَا يَدُور، وَلم يبين الْمَكَان، جَازَ، وَله أَن يزيدهم غنما بعد غنم، وأرماكا بعد أرماك قدر مَا يتحملون، لأَنهم أجيروا حد. وَلَو قَالَ أَمِير الْعَسْكَر لمُسلم أَو ذمِّي: أَن قتلت ذَلِك الْفَارِس، فلك مائَة دِرْهَم، فَقتله لَا شَيْء لَهُ، وَلَو كَانُوا قَتْلَى فَقَالَ الْأَمِير: من قطع رُءُوسهم فَلهُ عشرَة دَرَاهِم، جَازَ الِاسْتِئْجَار عَلَيْهِ.

مسألة

إِذا كتب الْوَالِي إِلَى أَمِير الْعَسْكَر: إِنَّا قد ولينا فلَانا، فأمير الْعَسْكَر على حَاله مالم يعزله أَو يلْحق بِهِ الثَّانِي، وَجَاز فعله قبل حُضُور الثَّانِي. فرق بَين هَذَا وَبَين مَا إِذا كتب إِلَيْهِ: إِنَّا قد عزلناك، حَيْثُ يصير معزولا حِين وصل إِلَيْهِ الْكتاب. وَالْفرق: أَن الْمَسْأَلَة الأولى لَو انْعَزل الأول إِنَّمَا يَنْعَزِل بصيرورة الثَّانِي أَمِيرا، وَلَا يصير الثَّانِي أَمِيرا حَتَّى يلْحق الْعَسْكَر، فَكَذَا لَا يَنْعَزِل الأول مَا لم يلْحق الثَّانِي الْعَسْكَر، وَلَا كَذَلِك فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَلِهَذَا لَو كتب الْخَلِيفَة إِلَى أَمِير الْمصر: إِنَّا قد ولينا فلَانا، جَازَ للْأولِ أَن يُصَلِّي بهم الْجُمُعَة قبل حُضُور الثَّانِي، وَلَو كتب إِلَيْهِ: إِنَّا قد عزلناك، فَلَيْسَ لَهُ أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِذا وصل الْكتاب إِلَيْهِ. مَسْأَلَة لَا بَأْس بالمصافحة وتقبيل يَد الْعَالم أَو الْأَمِير الْعَادِل: أما المصافحة: لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا التقى المؤمنان: فتصافحا، تناثرت ذنوبهما كتناثر الْوَرق الْيَابِس من الشّجر ". وَأما التَّقْبِيل: لما روى أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - كَانُوا يقبلُونَ أَطْرَاف رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَأَبُو بكر قبل بَين عَيْني رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وَأما تَقْبِيل يَد غَيرهمَا، فقد تكلمُوا فِيهِ: مِنْهُم من قَالَ: إِن كَانَ الرجل يَأْمَن على نَفسه، وَيَنْوِي حبه - وَهُوَ تَعْظِيم الْمُسلم وإكرامه - لابأس بِهِ.

مسألة

وَالْمُخْتَار: أَنه لَا يرخص فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا رخصَة عَن الْمُتَقَدِّمين إِلَّا فِيمَا ذكرنَا. وَلَو قبل رجل الأَرْض بَين يَدي أحد من أَصْحَاب السُّلْطَان تَعْظِيمًا لَهُ، لَا يكفر، لِأَنَّهُ يُرِيد بِهِ التَّحِيَّة لَا الْعِبَادَة. إِذا قيل لمُسلم: اسجد للْملك وَإِلَّا قتلتك، فَالْأَفْضَل أَلا يسْجد، لِأَنَّهُ كفر، وَالْأَفْضَل أَلا يَأْتِي بِمَا هُوَ كفر صُورَة، وَإِن كَانَ فِي حَالَة الْإِكْرَاه. وَإِن سجد سُجُود التَّحِيَّة، فَالْأَفْضَل أَن يسْجد، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكفْر، فَهَذَا دَلِيل على أَن السُّجُود بنية التَّحِيَّة إِذا كَانَ خَائفًا لَا يكون كفرا، فعلى هَذَا الْقيَاس، من سجد عِنْد السلاطين على وَجه التَّحِيَّة لَا يصير كَافِرًا. مَسْأَلَة رجل يَدعُوهُ الْأَمِير، فيسأله عَن أَشْيَاء، فَمَا يتَكَلَّم بِمَا يُوَافق الْحق يَنَالهُ الْمَكْرُوه، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَكَلَّم بِخِلَاف الْحق، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من تكلم عِنْد ظَالِم مَا يرضيه بِغَيْر حق يُغير الله قلب الظَّالِم عَلَيْهِ، ويسلطه عَلَيْهِ ". وَهَذَا إِذا لم يخف الْقَتْل، أَو تلف بعض جسده، أَو أَخذ مَاله، فَإِن خَافَ ذَلِك، لَا بَأْس بذلك، لِأَنَّهُ مكره عَلَيْهِ.

عَن أبي اللَّيْث الْحَافِظ أَنه قَالَ: " كنت أُفْتِي بِثَلَاثَة أَشْيَاء، فَرَجَعت عَنْهَا: كنت أُفْتِي أَلا يحل للمعلم أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَلَا يَنْبَغِي للْعَالم أَن يدْخل على السُّلْطَان، وَكنت أُفْتِي أَنه لَا يَنْبَغِي لصَاحب الْعلم أَن يخرج إِلَى الْقرى ن فيذكرهم بِشَيْء، فيجمعوا لَهُ شَيْئا، فَرَجَعت عَن ذَلِك كُله. وَإِنَّمَا رَجَعَ تَحَرُّزًا عَن ضيَاع الْقُرْآن والحقوق وَالْعلم. وَمن قذف مَمْلُوكا أَو كَافِرًا بِالزِّنَا، أَو قذف مُسلما ب " يَا كَافِر "، يَا فَاسق - وَهُوَ لَيْسَ بفاسق - أَو يَا خَبِيث، يَا لص، يَا فَاجر، يَا مُنَافِق، يَا لوطي، يَا من يلْعَب بالصبيان، يَا آكل الرِّبَا، يَا شَارِب الْخمر، يَا مخنث، يَا خائن، يَا ابْن القحبة، يَا زنديق، يَا قرطبان، يَا مأوي الزواني - عزّر. وَأكْثر التعزيز تِسْعَة وَتسْعُونَ، وَأَقل التعزيز ثَلَاثَة، وَصَحَّ حَبسه بعد الضَّرْب. وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله: التَّعْزِير بِأخذ المَال يجوز للسُّلْطَان. ثمَّ تَعْزِير الْأَشْرَاف كالفقهاء والعلوية: الْإِعْلَام فَقَط، بِأَن يَقُول: بَلغنِي أَنَّك فعلت كَذَا، فَلَا تفعل. وتعزير أوساط النَّاس كالسوقية: الْإِعْلَام، والجر، وَالْحَبْس، وتعزير الأخساء: الْإِعْلَام، والجر، وَالضَّرْب، وَالْحَبْس.

مسألة

أهل الْبَغي إِذا قَاتلُوا أهل الْعدْل، وَجب على أهل الْعدْل أَن يقاتلوا أهل الْبُغَاة ليرجعوا إِلَى أَمر الله. (الْآيَة) . وَأما الحَدِيث الَّذِي يرْوى فِي ذَلِك الْبَاب: " الْقَاتِل والمقتول فِي النَّار "، فَمَحْمُول عَليّ مَا إِذا كَانَا باغيين يقتتلان لأجل الدُّنْيَا من المملكة، وَكَذَا إِذا قَاتل أهل الْمحلة للحمية والعصبية لَيْسَ لأحد أَن يعاون أهل إِحْدَاهمَا. مَسْأَلَة استأجروا رجلا ليرْفَع أَمرهم إِلَى السطان، وَيدْفَع الظَّالِم عَنْهُم، جَازَ إِن وقتوا. وَإِن لم يوقتوا جَازَ أَيْضا فِيمَا يتهيأ إصْلَاح الْأَمر يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ. وَقيل: إِن كَانَ ذَلِك لَا يصلح إِلَّا بِمدَّة، فَإِن وقتوا للإجازة وقتا مَعْلُوما، فالإجازة جَائِزَة، وَالْأَجْر كُله لَهُ، وَإِن لم يوقتوا الْإِجَازَة فَهِيَ فَاسِدَة، وَله أجر مثل عَلَيْهِم، على قدر مؤنتهم ومنافعهم فِي ذَلِك. مَسْأَلَة القَاضِي إِذا زوج الصَّغِير أَو الصَّغِيرَة يكون العقد لَازِما، وَلَيْسَ لَهما خِيَار الْبلُوغ، لِأَن ولَايَة القَاضِي كَامِلَة، فَتكون ملزمة كَالْأَبِ وَالْجد، لَكِن ولَايَة تَزْوِيج الصغار إِنَّمَا تثبت للْقَاضِي إِذا شَرط السُّلْطَان للْقَاضِي فِي منشوره، وَلَو لم يكن مَشْرُوطًا فِي منشوره، فزوجهم القَاضِي، فَأجَاز السُّلْطَان مَا صنعه، يجوز على الْأَصَح. وَعَن أبي حنيفَة رَحمَه الله: لَهما خِيَار الْبلُوغ فِي تَزْوِيج القَاضِي، وَهُوَ مُخْتَار الرِّوَايَة، لِأَن ولَايَة القَاضِي مُتَأَخِّرَة عَن ابْن الْعم، فَإِذا ثَبت الْخِيَار لَهما فِي تَزْوِيج الْحَاجِب، فَأولى أَن يثبت فِي المحجوب، وَهُوَ القَاضِي.

مسألة

مَسْأَلَة رجل لَا يحل لَهُ الصَّدَقَة، فَالْأَفْضَل أَلا يقبل جَائِزَة السُّلْطَان، لِأَنَّهَا تشبه الصَّدَقَة وَلَا يحل لَهُ قبُول الصَّدَقَة، فَكَذَا مَا يشبه الصَّدَقَة، وَهَذَا إِذا أدّى من بَيت المَال. وَأما إِذا أدّى من مَال موروث لَهُ، جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يشبه الصَّدَقَة. أما إِذا كَانَ فَقِيرا، فَإِن كَانَ السُّلْطَان لَا يَأْخُذ ذَلِك غصبا من النَّاس، يحل لَهُ، لِأَنَّهُ يحل الصَّدَقَة حَقِيقَة، فَهَذَا أولى. وَإِن كَانَ يَأْخُذ غصبا، فَإِن كَانَ لَا يخلط بِدَرَاهِم أُخْرَى، لَا يحل لَهُ الْأَخْذ، لِأَنَّهُ دفع ملك الْغَيْر. وَإِن كَانَ يخلط، لَا بَأْس بِهِ، لِأَنَّهُ صَار ملكا لَهُ فِي قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله، حَتَّى وَجب عَلَيْهِ الْحَج وَالزَّكَاة، وَيُورث عَنهُ، وَقَوله: أرْفق بِالنَّاسِ، إِذْ قل مَال لَا يَخْلُو من الْغَصْب. مَسْأَلَة رجل دخل على السُّلْطَان، فَقدم إِلَيْهِ شَيْئا من الْمَأْكُول، فَهَذَا على ثَلَاثَة أوجه: إِمَّا أَن اشْتَرَاهُ بِالثّمن، أَو لم يشتره، وَهَذَا الرجل لَا يعلم أَنه من الْمَغْصُوب، أَو يعلم. فَفِي الْوَجْه الأول وَالثَّانِي حل لَهُ أكلهَا. أما الأول: فَلِأَن العقد لم يَقع على الثّمن الْمشَار إِلَيْهِ، فَلَا يتَمَكَّن الْخبث فِي نفس الْمَبِيع. وَأما الثَّانِي: فَلِأَن الْأَشْيَاء على أصل الْإِبَاحَة، إِن لم يتَبَيَّن دَلِيل الْحُرْمَة. وَأما الثَّالِث: فَحَرَام، لِأَنَّهُ على حرمته. وَلَو أَن السُّلْطَان الجائر أَخذ الصَّدقَات: من الْمُتَأَخِّرين من قَالَ: إِن نوى الْمُؤَدِّي عِنْد الْأَدَاء إِلَيْهِ الصَّدَقَة عَلَيْهِ، لَا يُؤمر بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا، لأَنهم فُقَرَاء حَقِيقَة. وَمِنْهُم من قَالَ: الْأَحْوَط أَن يُفْتى بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا، كَمَا لَو ينْو لعدم لعدم الِاخْتِيَار الصَّحِيح.

وَأما إِذا لم ينْو: مِنْهُم من قَالَ: يُفْتِي أَرْبَاب الصَّدقَات بِالْأَدَاءِ ثَانِيًا بَينهم، وَبَين الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يوضع موضعهَا. وَقَالَ الْفَقِيه أَو جَعْفَر رَحمَه الله: لَا يُؤمر، لِأَن أَخذ السُّلْطَان مِنْهُم قد صَحَّ، لِأَن ولَايَة الْأَخْذ للسُّلْطَان، فَسقط عَن أَرْبَاب الصَّدقَات، فَبعد ذَلِك إِن لم يضع السُّلْطَان موضعهَا، لَا يبطل بَينهم وَبَين الله تَعَالَى أَخذه عَنْهُم، وَبِه يُفْتِي. وَهَذَا فِي صدقَات الْأَمْوَال الظَّاهِرَة. أما إِذا أَخذ السُّلْطَان من النَّاس أَمْوَالًا مصادرة، فنووا هَذَا أَدَاء الزَّكَاة إِلَيْهِ، فعلى قَول أُولَئِكَ الْمَشَايِخ يجوز. وَالصَّحِيح: أَنه لَا يجوز، وَبِه يُفْتِي، لِأَنَّهُ لَيْسَ للطَّالِب ولَايَة الْأَخْذ فِي الْأَمْوَال الْبَاطِنَة، وَبِه نَأْخُذ. جَاءَ إِلَيّ رجلَيْنِ من أعوان السُّلْطَان، فَأقر عِنْدهمَا أَن لفُلَان على دين كَذَا، وَفُلَان من أنَاس السُّلْطَان، ثمَّ طلب مِنْهُمَا الشَّهَادَة على إِقْرَار هَذَا الْمقر، وَالْمقر يزْعم: أَنِّي إِنَّمَا أَقرَرت خوفًا من الْمقر لَهُ، فَإِن الشَّاهِدين يبحثان عَن هَذَا الْأَمر، فَإِن وَقعا على أَمر فِيهِ خوف، أَو إِكْرَاه امتنعا عَن الشَّهَادَة، لِأَن قَوْله تأيد بمؤيد، وَإِن لم يقعا على ذَلِك، يَشْهَدَانِ على إِقْرَاره، ويخبران القَاضِي أَنه أقرّ وَمَعَهُ أعوان السُّلْطَان، حَتَّى يتأهل القَاضِي قَول الآخر. وَيقبل شَهَادَة عَامل السُّلْطَان الَّذِي يَأْخُذ الْحُقُوق كالخراج والجزية وَنَحْوهمَا، لِأَن الْعَمَل لَيْسَ بفسق، وَلِهَذَا كَانَ أكَابِر الصَّحَابَة عمالا. وَفِي " الْكَافِي ": كَانَ هَذَا فِي زمانهم، وَفِي زَمَاننَا لَا تقبل شَهَادَة الْعمَّال، لغَلَبَة ظلمهم. وَفِي " النِّهَايَة ": لَا تقبل شَهَادَة من يبخل بالواجبات، كَالزَّكَاةِ، وَنَفَقَة الْأَقَارِب، والزوجات.

مسألة

من صادره السُّلْطَان، وَلم يعين بيع مَاله، فَبَاعَ مَاله، صَحَّ البيع، لِأَن الْإِكْرَاه مَا وَقع على البيع، فَصَارَ البيع خَالِيا عَن القسر. مَسْأَلَة خوفها زَوجهَا بِالضَّرْبِ حَتَّى وهبت مهرهَا، لم يَصح - إِن قدر على الضَّرْب - لِأَن الْهِبَة تفْسد بِالْإِكْرَاهِ. وَلَو اسْتحْلف الْوَالِي رجلا ليعلمنه فَاسِقًا أَو خائنا دخل الْبَلَد، تقيد بِقِيَام ولَايَته. رجل فِي يَده مَال إِنْسَان، فَقَالَ لَهُ سُلْطَان جَائِر: إِن لم تدفع إِلَيّ هَذَا المَال حبستك شهرا، أَو ضربتك ضربا، أَو أَطُوف بك فِي النَّاس، لَا يجوز لَهُ أَن يدْفع، فَإِن دفع فَهُوَ ضَامِن. وَإِن قَالَ: أقطع يدك، أَو أضربك خمسين ضربا، فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، لِأَن دفع مَال الْغَيْر لَا يجوز إِلَّا لخوف التّلف، وَقد انْعَدم فِي الْوَجْه الأول، وَوجد فِي الْوَجْه الثَّانِي. مَسْأَلَة سعى رجل رجلا عِنْد الْوَالِي، فَأخذُوا مِنْهُ مَالا، فَإِن كَانَت السّعَايَة بِغَيْر حق من كل وَجه، ضمن السَّاعِي عِنْد زفر رَحمَه الله، وَبِه يُفْتِي. مَسْأَلَة لص مَعْرُوف وجده رجل يذهب مَشْغُولًا بِالسَّرقَةِ، لَيْسَ لَهُ أَن يقاتله، وَله أَن يَأْتِي بِهِ إِلَى الإِمَام فيحبسه. وَلَو قَالَ وَال ظَالِم لبَعض التُّجَّار: أَدّوا إِلَى كَذَا لترجعوا على أصحابكم المختفين بِالْحِصَصِ، لَا يلْزم الغائبين شَيْء إِلَّا بِالْتِزَام المختفين. لَو أَن بَلْدَة وَقعت فِيهَا فَتْرَة، وَلم يبْق فِيهَا وَال ليُصَلِّي بهم صَلَاة الْعِيد، فضحوا بعد طُلُوع الْفجْر، جَازَ، وَهُوَ الْمُخْتَار، لِأَن الْبَلدة صَارَت فِي هَذَا الحكم كالسواد وَالْمَكَان.

فضل في الجمعة

الإِمَام إِذا صلى الْعِيد يَوْم عَرَفَة، وضحى النَّاس، وَكَانَ شهد عِنْده شُهُود على هِلَال ذِي الْحجَّة، جَازَت الصَّلَاة والتضحية، لِأَن التَّحَرُّز عَن هَذَا الْخَطَأ غير مُمكن، والتدارك أَيْضا غير مُمكن غَالِبا، فَيحكم بالجوار صِيَانة لجَمِيع الْمُسلمين، وَمَتى جَازَت الصَّلَاة جَازَت التَّضْحِيَة ضَرُورَة، وَإِن لم يشْهد عِنْده شُهُود على هِلَال ذِي الْحجَّة، لم يجز، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة إِلَى التجويز، وَمَتى لم تجز الصَّلَاة لم تجز التَّضْحِيَة. وَإِذا رأى الْوَالِي هِلَال شَوَّال وَحده لم يخرج، وَلَا يَأْمر بِالْخرُوجِ إِلَى الْمصلى. وَإِذا قلد العَبْد عمل نَاحيَة، فصلى بِالْمُسْلِمين الْجُمُعَة أَو الْعِيد، جَازَت صلَاتهم، للْحَدِيث الْمَعْرُوف، وَلَو استقضى، فَقضى، لَا يجوز، لِأَن أهل الْقَضَاء من كَانَ أَهلا للشَّهَادَة. فضل فِي الْجُمُعَة يشْتَرط لأَدَاء الْجُمُعَة الْمصر، وَهُوَ - عِنْد أبي حنيفَة - كل بَلْدَة فِيهَا سِكَك وأسواق وَلها رساتيق - أَي قرى - ووال لدفع الْمَظَالِم، وعالم يرجع إِلَيْهِ فِي الْحَوَادِث، هَذَا هُوَ الْأَصَح، كَذَا فِي " التَّبْيِين ". وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله: كل مَوضِع لَهُ أَمِير وقاض ينفذ الْأَحْكَام، وَهُوَ مُخْتَار الْكَرْخِي، وَعنهُ أَيْضا: أَنه يبلغ سكانه عشرَة آلَاف. وَمن شَرط الْجُمُعَة أَيْضا: الْوَالِي - وَهُوَ السُّلْطَان - أَو نَائِبه، وَهُوَ الْأَمِير أَو القَاضِي.

مسألة

وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: الْوَالِي لَيْسَ بِشَرْط، اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات. وَلنَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من ترك الْجُمُعَة - وَله إِمَام جَائِر أَو عَادل - لَا جمع الله شَمله ". شَرط فِيهِ أَن يكون لَهُ إِمَام. شَرط الْجمع بَين صَلَاة الظّهْر وَصَلَاة الْعَصْر فِي عَرَفَة اثْنَان: الْجَمَاعَة، وَالْإِمَام الْأَكْبَر - وَهُوَ السُّلْطَان - عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله، خلافًا لَهما. صَلَاة الْجُمُعَة خلف المتغلب الَّذِي لَا عهد لَهُ - أَي لَا منشور لَهُ - من الْخَلِيفَة تجوز إِن كَانَت سيرته فِي الدّين عَلَيْهِم سيرة الْأُمَرَاء، يحكم بَين رَعيته بِحكم الْولَايَة، لِأَن بِهَذَا تثبت الْإِمَامَة فَيتَحَقَّق الشَّرْط. إِذا افْتتح الإِمَام الْجُمُعَة، ثمَّ حضر وَال آخر، يمْضِي على صلَاته، لِأَن افتتاحه قد صَحَّ، فَصَارَ كَرجل أمره الإِمَام أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَة، ثمَّ حجر عَلَيْهِ، إِن حجر عَلَيْهِ قبل الدُّخُول عمل حجره، وَإِن حجر عَلَيْهِ بعد الدُّخُول لَا، ويمضي على صلَاته، كَذَا هَذَا. مَسْأَلَة وَإِلَى مصر مَاتَ، وَلم يبلغ مَوته الْخَلِيفَة حَتَّى مَضَت لَهُم جمع، فَإِن صلى بهم خَليفَة الْمَيِّت، أَو صَاحب شرطة، أَو القَاضِي، جَازَ، لِأَنَّهُ فوض إِلَيْهِم أَمر الْعَامَّة، وَلَو اجْتمع الْعَامَّة على أَن يقدموا رجلا لم يَأْمُرهُ القَاضِي، وَلَا خَليفَة الْمَيِّت، لم يجز، وَلم يكن لَهُم الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ لم يُفَوض إِلَيْهِم أُمُورهم، إِلَّا إِذا لم يكن ثمَّة قَاض، وَلَا خَليفَة الْمَيِّت، بِأَن كَانَ الْكل هُوَ الْمَيِّت، فَالْآن جَازَ للضَّرُورَة. أَلا ترى أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - صلى بِالنَّاسِ، وَعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - مَحْصُور، لِأَنَّهُ اجْتمع النَّاس على عَليّ رَضِي الله عَنهُ.

وَلَو مَاتَ الْخَلِيفَة، وَله وُلَاة وأمراء على الْأَشْيَاء من أُمُور الْمُسلمين، كَانُوا على ولايتهم، يُقِيمُونَ الْجمع، لأَنهم أقِيمُوا لأمور الْمُسلمين، فهم على حَالهم مَا لم يعزلوا. وَمن شَرَائِط الْجُمُعَة الْمصر أَو فناؤه، حد الْمصر ذكر قبل، أما فنَاء الْمصر: وَهُوَ مَا أعد لحوائج الْمصر، من ركض الْخَيل، وَالْخُرُوج للرمي، وَنَحْوهمَا. وَفِي " الْخَانِية ": لَا بُد أَن يكون فنَاء الْمصر مُتَّصِلا بِالْمِصْرِ، حَتَّى لَو كَانَ بَينه وَبَين الْمصر فُرْجَة من الْمزَارِع والمراعي لَا يكون فنَاء لَهُ. وَمِقْدَار الفناء عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله: أَرْبَعمِائَة ذِرَاع، وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله: ميلان. وفناء الْمصر فِي حكم الْمصر فِي حق إِقَامَة صَلَاة الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، لِأَنَّهُمَا من حوائج أهل الْمصر، فَألْحق بِالْمِصْرِ فِي حق أَدَاء الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ، بِخِلَاف الْمُسَافِر إِذا خرج عَن عمرَان الْمصر حَيْثُ يقصر الصَّلَاة، لِأَن قصر الصَّلَاة لَيْسَ من حوائج أهل الْمصر، فَلَا يلْحق الفناء بِالْمِصْرِ فِي حق هَذَا الحكم. وَفِي " الْمُحِيط ": " الْقَرَوِي إِذا دخل الْمصر، وَنوى أَن يمْكث يَوْم الْجُمُعَة يلْزمه الْجُمُعَة، لِأَنَّهُ صَار كواحد من أهل الْمصر، وَإِن نوى أَن يخرج فِي يَوْمه وَذَلِكَ قبل دُخُول وَقت الصَّلَاة أَو بعده لَا يلْزمه. وَأهل الْقرْيَة إِذا اجْتَمعُوا على ترك الْوتر، أدبهم الإِمَام وحبسهم، فَإِن لم يمتنعوا يقاتلهم. وَإِذا امْتَنعُوا عَن أَدَاء السّنَن، فجواب أَئِمَّة " بُخَارى ": أَن الإِمَام يقاتلهم، كَمَا يقاتلهم على ترك الْفَرَائِض، لما روى عَن عبد الله بن الْمُبَارك - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: " لَو أَن أهل بَلْدَة أَنْكَرُوا سنة السِّوَاك، يقاتلهم الإِمَام كَمَا يُقَاتل أهل الرِّدَّة ".

مسالة

مسالة أهل الْبَغي إِذا قتلوا فِي الْحَرْب لَا يصلى عَلَيْهِم، وَإِن قتلوا بَعْدَمَا وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا صلى عَلَيْهِم، وَكَذَا قطاع الطَّرِيق إِذا قتلوا فِي حَال حربهم لَا يصلى عَلَيْهِم، وَإِن أَخذهم الإِمَام وقتلهم صلى عَلَيْهِم، لأَنهم مَا داموا محاربين كَانُوا من جملَة أهل الْبَغي، وَإِذا وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا تركُوا الْبَغي. ومشايخنا جعلُوا حكم المقتولين بالمعصية حكم أهل الْبَغي، حَتَّى قَالُوا هَذَا التَّفْصِيل. مَسْأَلَة رجل صلى على جَنَازَة، وَالْوَلِيّ خَلفه، وَلم يرض، فَهَذَا على وَجْهَيْن: إِمَّا إِن تَابعه، وَصلى مَعَه، أَو لم يُتَابع. فَفِي الْوَجْه الأول: لَا يُعِيد الْوَلِيّ، لِأَنَّهُ صلى مرّة. وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: إِن كَانَ الْمُصَلِّي سُلْطَانا، أَو الإِمَام الْأَعْظَم، أَو القَاضِي، أَو الْوَالِي على الْبَلدة، أَو إِمَام حَيَّة، لَيْسَ لَهُ أَن يُعِيدهَا، لِأَن هَؤُلَاءِ أولى مِنْهُ، وَإِن كَانَ غَيرهم، فَلهُ الْإِعَادَة. مَسْأَلَة كَافِر أذن فِي وَقت صَلَاة، أَو صلى فِي جمَاعَة، صَار مُسلما، وَإِن أذن فِي غير وَقت الصَّلَاة، لَا يصير مُسلما. مَسْأَلَة ديباج الْكَعْبَة صَار خلقا، لَا يجوز أَخذه، لَكِن يَبِيعهُ السُّلْطَان، ويستعين بِهِ على أَمر الْكَعْبَة.

مسألة

مَسْأَلَة السُّلْطَان إِذا طمع فِي مَال الْيَتِيم، فَإِن أمكن للْوَصِيّ دَفعه بِلَا إِعْطَاء طَائِفَة من المَال، لَا يحل لَهُ الْإِعْطَاء، وَيضمن، وَإِلَّا حل لَهُ الْإِعْطَاء، وَلم يضمن. وَفِي " الْمُلْتَقط ": " ظَالِم متغلب طلب بعض مَال الْيَتِيم، فَأعْطى الْوَصِيّ، يضمن، إِلَّا إِذا خَافَ الْقَتْل أَو إِتْلَاف عُضْو مِنْهُ، أَو أَخذ مَاله، فَأعْطى حِينَئِذٍ لَا يضمن. وَإِن خَافَ الْحَبْس، أَو الْقَيْد، أَو أَخذ بعض مَاله، ويبقي لَهُ قدر الْكِفَايَة، لَا يحل لَهُ أَن يُؤَدِّي مَال الْيَتِيم، وَلَو أدّى يضمن، وَلَو أَن الظَّالِم أَخذ بِنَفسِهِ، لَا ضَمَان على الْوَصِيّ ". مَسْأَلَة من رأى أَن الْخراج ملك السُّلْطَان، فقد كفر. مَسْأَلَة لَو ترك السُّلْطَان لرجل خراج أرضه، يجوز عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَعند مُحَمَّد - رَحمَه الله - لَا يجوز. وَلَو وهب الْعشْر مِنْهُ، لَا يجوز بِالْإِجْمَاع. وَالْفرق لأبي يُوسُف رَحمَه الله: أَن للسُّلْطَان فِي الْخراج حَقًا، فَإِذا تَركه صَحَّ، وَهُوَ بِمَنْزِلَة صلَة مِنْهُ، وَلَا حق لَهُ فِي الْعشْر، بل هُوَ حق الْفُقَرَاء على الخلوص، فَلَا يملك صلته. وَلَو عجل الْخراج، ثمَّ عجز عَن الزِّرَاعَة، يرد إِلَيْهِ، إِن كَانَ قَائِما، وَإِن كَانَ دَفعه إِلَى الْمُقَاتلَة، فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، كَمَا فِي الزَّكَاة. وَذكر مُحَمَّد - رَحمَه الله - فِي نَوَادِر الزَّكَاة إِن زَرعهَا السّنة الثَّانِيَة يحْسب ذَلِك بِمَا عَلَيْهِ. يجوز النُّقْصَان عَن وَظِيفَة عمر - رَضِي الله عَنهُ - عِنْد قلَّة الرّيع، وَعدم الطَّاقَة.

مسألة

وَلَا يجوز الزِّيَادَة على وَظِيفَة عمر رَضِي الله عَنهُ، وعَلى مَا وظفه إِمَام آخر فِي أَرض مثل مَا وظفه عمر رَضِي الله عَنهُ، لما فِيهِ من مُخَالفَة إِجْمَاع الصَّحَابَة، أَو فِيهِ مُخَالفَة حكم أَمْضَاهُ الأول بِاجْتِهَادِهِ، وَذَلِكَ لَا يجوز. وَلَو وظفه على أَرض ابْتِدَاء، تجوز الزِّيَادَة على وَظِيفَة عمر - رَضِي الله عَنهُ - بِقدر مَا يُطيق - عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله، وَلَا يجوز عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله. وَظِيفَة عمر رَضِي الله عَنهُ: فِي كل جريب يصلح للزِّرَاعَة: دِرْهَم وقفيز مِمَّا يزرع مِنْهَا. " فالفقير ": هُوَ الصَّاع - ثَمَانِيَة أَرْطَال - و " الدِّرْهَم ": هُوَ الْفضة الْخَالِصَة، وَزنه سَبْعَة. وعَلى كل جريب رطبَة: خَمْسَة دَرَاهِم. وعَلى كل جريب كرم: عشرَة دَرَاهِم. والجريب: سِتُّونَ ذِرَاعا فِي سِتِّينَ ذِرَاعا بِذِرَاع الْملك أنو شرْوَان، وذراع أنو شرْوَان سبع قبضات، وَفِي الجريب الَّذِي فِيهِ أَشجَار مثمرة ملتفة لَا يُمكن زَرعهَا. قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: يوظف عَلَيْهَا بِقدر مَا يُطيق. وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: يوظف بِقدر مَا يُطيق، وَلَا يُزَاد على جريب الْكَرم. مَسْأَلَة قَرْيَة فِيهَا أرضون خراجها مُتَفَاوِتَة، إِذا لم يعرف ابْتِدَاء وضع الْخراج، يتْرك كَمَا كَانَ، لَا يُزَاد، وَلَا ينقص. وَلَو أَخذ السُّلْطَان الْخراج من المُشْتَرِي، وَلم يبْق من السّنة مَا يُمكن استغلالها فِيهِ، لَا يرجع المُشْتَرِي بِمَا أدّى على البَائِع. وَلَو أَخذ الْخراج من الأكار، لَهُ أَن يرجع إِلَى الدهاقين، اسْتِحْسَانًا.

مسألة

مَسْأَلَة الْخراج فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة على رب الأَرْض، ونقصان الأَرْض على الْغَاصِب. وَنصِيب الأكرة طيب لَهُم من الْأَرَاضِي الْمَغْصُوبَة، إِذا أخذُوا الأَرْض مُزَارعَة، أَو استأجروها. وَإِن كَانَ الْحَوْز كروما وأشجارا يعرف أَرْبَابهَا لَا يطيب للأكرة، وَلَا يجوز لأحد أَن يَأْكُل مِنْهَا، وَإِن لم يعرف أَرْبَابهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَة أَرض بَيت المَال، يتَصَدَّق السُّلْطَان بِمَا يحصل لَهُ مِنْهَا، فَإِن لم يفعل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَنصِيب الأكرة طيب لَهُم، فِي عرف أهل " بَلخ ". فَإِن صَالح الإِمَام مَعَ أهل الْحَرْب بِمَال للْحَاجة كَانَ كالجزية قبل حصارهم - يَعْنِي: يصرف ذَلِك المَال مصرف الْجِزْيَة - وكالغنيمة بعده - يَعْنِي: يصرف مصرف الْغَنِيمَة بعد حصارهم - وَلَا يجوز دفع المَال إِلَيْهِم ليوادعهم إِلَّا لخوف الْهَلَاك. مَسْأَلَة من ذبح وَجه إِنْسَان شَيْئا وَقت الخلعة وَمَا أشبه ذَلِك: قيل: يكفر الذَّابِح، والمذبوح ميتَة. وَقَالَ إِسْمَاعِيل الزَّاهِد: يكره أَشد الْكَرَاهَة، وَلَا يكفر، لأَنا لَا نسئ الظَّن بِالْمُؤمنِ أَنه يتَقرَّب إِلَى الْآدَمِيّ بِهَذَا النَّحْر. مَسْأَلَة رجل مَاتَ، وَعَلِيهِ دين قد نَسيَه، أيؤخذ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؟ فَهَذَا على وَجْهَيْن: إِمَّا إِن كَانَ الدّين من جِهَة التِّجَارَة، أَو من جِهَة الْغَصْب.

مسألة

فَفِي الْوَجْه الأول: يُرْجَى أَلا يُؤْخَذ، لِأَنَّهُ نَاس، وَقد رفع عَن الْأمة النسْيَان بِالْحَدِيثِ. وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: يُؤْخَذ، لِأَنَّهُ فِي أَوله جَائِر. مَسْأَلَة حفر بِئْرا فِي مفازة بِغَيْر إِذن الإِمَام - وَلَيْسَ بممر وَلَا طَرِيق لإِنْسَان - فجَاء إِنْسَان، فَوَقع فِيهَا، لَا يضمن الْحَافِر، وَكَذَا لَو قعد فِي الْمَفَازَة، أَو نصب خيمة، فعثر بِهِ إِنْسَان، بِخِلَاف طَرِيق النَّاس. قعد فِي الطَّرِيق يَبِيع بِإِذن السُّلْطَان، فتعثر بِهِ إِنْسَان، فَتلف، لم يضمن. حريق وَقع فِي محلّة، فهدم رجل دَار غَيره، بِغَيْر أمره، وَبِغير أَمر السُّلْطَان، حَتَّى يَنْقَطِع عَن دَاره، ضمن، وَلم يَأْثَم. مسالة أَتَى بالآبق، فَالْقَاضِي أَو السُّلْطَان يحْبسهُ والضال لَا يحْبسهُ. رد عبدابنه، أَو أمه، أَو امْرَأَته، أَو زَوجهَا، لم يسْتَحق الْجعل. وَكَذَا لَو كَانَ سُلْطَانا، أَو وَصِيّا، وَكَذَا شحنة كاروان، وَرُهْبَان إِذا رد المَال من أَيدي قطاع الطَّرِيق. وللوالي أَن يقطع من طَرِيق الجادة، إِن لم يضر بِالْمُسْلِمين، وَإِن كَانَ يضر، لَا يقطعهم، وَلَيْسَ لَهُ أَن يقطع الطَّرِيق - وَإِن كَانَ لَهُ طَرِيق آخر - وَإِن فعل ذَلِك فَهُوَ آثم، وَإِن رفع إِلَى قَاض رده.

مسألة

مَسْأَلَة من تقبل بعض القانص من السُّلْطَان، فاصطاد فِيهِ غَيره، كَانَ الصَّيْد لمن أَخذه. مَسْأَلَة كرى الْفُرَات وَنَحْوه على السطان. مسَائِل مَوَاضِع موَات على شط جيحون عمرها أَقوام، واستنزلوا، كَانَ للسُّلْطَان أَن يَأْخُذ الْعشْر من غلاتها، وَهَذَا يَسْتَقِيم على قَول مُحَمَّد رَحمَه الله، لِأَن مَاء الجيحون مَاء عشرى، والمؤنة تَدور مَعَ المَاء. وَلَا يجوز دفع المَال إِلَى الْكفَّار للصلح، إِلَّا لخوف الْهَلَاك.

وَإِذا فتح الإِمَام بَلْدَة عنْوَة - أَي قهرا - قسمهَا إِن شَاءَ، وَإِلَّا وضع الْخراج على أراضيهم وعَلى أنفسهم، وَيقسم الْمَنْقُول، وَيقتل الْأُسَارَى، أَو يسترقهم، أَو يتركهم أهل ذمَّة، وَلَا يردهم إِلَى دَار الْحَرْب، وَالْإِمَام لَا يفادى بهم عِنْد أبي حنيفَة - رَحمَه الله - أَي: لَا يُعْطي الإِمَام الْكفَّار أساراهم ليَأْخُذ بدلهم مَالا مِنْهُم أَو أُسَارَى الْمُسلمين. وَأَجَازَ أَبُو يُوسُف - رَحمَه الله - أَن يفْدي الإِمَام أساراهم باسارى الْمُسلمين. وَلَا يجوز الْفِدَاء بِالْمَالِ فِي الْمَشْهُور من الرِّوَايَات، وَلَا يجوز الْمَنّ عَلَيْهِم أَيْضا. وَعند الشَّافِعِي - رَحمَه الله - يجوز الْمَنّ وَالْفِدَاء بِالْمَالِ. وَلَا بَأْس للْإِمَام أَن يحرض الْغُزَاة حَال الْقِتَال، فَيَقُول الإِمَام: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ". فَحِينَئِذٍ يَأْخُذ الْقَاتِل مَا على الْمَقْتُول من ثِيَابه وسلاحه ومركبه، وسرجه، وآلته، وَمَا مَعَ الْمَقْتُول من دِرْهَم أَو دِينَار، وَمَا يكون مَحْمُولا على دَابَّته من مَال، أَو يَجْعَل الإِمَام لسرية الرّبع بعد الْخمس، أَي: بعد إِخْرَاج الْخمس.

(صفحة فارغة)

مسائل

وَلَو قَالَ الْأَمِير للعسكر: من جَاءَ بالدابة فَهِيَ لَهُ، يَقع على الْخَيل وَالْبِغَال، إِلَّا إِذا كَانُوا يسمون غَيرهَا دَابَّة. مسَائِل اشْترى جَارِيَة مأسورة لم يؤد مِنْهَا الْخمس من الْأَمِير ينفذ، وَيحل وَطْؤُهَا، وَإِن اشْتَرَاهَا مِمَّن وَقعت فِي سَهْمه، نفذ البيع فِي أَرْبَعَة أخماسها، وَلَا يحل لَهُ وَطْؤُهَا. وَلَو أَن امْرَأَة سبيت بالمشرق، وَجب على أهل الْمغرب أَن يستخلصوها مَا لم تدخل فِي دَار الْحَرْب. عَن أبي مُطِيع رَضِي الله عَنهُ: " الرِّبَاط الَّذِي جَاءَ الْأَثر فِي فَضله، أَن يكون الرِّبَاط فِي مَوضِع لَا يكون وَرَاءه إِسْلَام ". وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة رَضِي الله عَنهُ: " إِذا أغار الْعَدو على مَوضِع مرّة، فَذَلِك الْموضع رِبَاط أَرْبَعِينَ سنة، وَإِن أغار مرَّتَيْنِ، يكون رِبَاطًا إِلَى مائَة وَعشْرين سنة، وَإِذا أغار ثَلَاث مَرَّات، فَهُوَ رِبَاط إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَلَو وجد العَبْد الْآبِق، أَو الْمُدبر، أَو الْمكَاتب، أَخذه صَاحبه مجَّانا، وعوضه الإِمَام من بَيت المَال.

مسألة

وَلَو أَخذ غريما لإِنْسَان، فانتزعه من يَده، لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَلَكِن يعززه الإِمَام. عَن مُحَمَّد - رَحمَه الله - فِيمَن خدع ابْنة رجل أَو امْرَأَته، وأخرجها من منزله - قَالَ: أحبسه أبدا حَتَّى تَأتي، أَو أعلم أَنَّهَا قد مَاتَت. شَابة تخرج متزينة إِلَى الولائم والمآتم، لَا يحل للِابْن منعهَا، مَا لم يثبت فَسَادهَا، فَإِن صَحَّ ذَلِك رفع إِلَى الْحَاكِم حَتَّى يمْنَعهَا. مَسْأَلَة إِذا شقّ زق الْخمر لمُسلم حسبَة، ضمن الزق لَا الْخمر، وَإِن فعلهَا بِإِذن الإِمَام لَا يضمن. وَلَو حلف لَا يكْتب، فَأمر غَيره فَكتب - والحالف سُلْطَان لَا يكْتب بِنَفسِهِ - يَحْنَث، وَإِن كَانَ يكْتب بِنَفسِهِ لَا يَحْنَث. مسَائِل وقف أَرضًا ثمَّ إِن الْقيم يخَاف عَلَيْهَا من سُلْطَان أَو وَارِث، يَبِيعهَا، وَيتَصَدَّق بِثمنِهَا، وَكَذَا كل قيم خَافَ شَيْئا من ذَلِك، فَلهُ أَن يَبِيع وَيتَصَدَّق بِثمنِهَا. وَالْفَتْوَى على أَنه لَا يَبِيع، لِأَن الْوَقْف إِذا صحت شَرَائِطه لَا يحْتَمل البيع. إِذا غرم السُّلْطَان الْقرْيَة، فأرادوا الْقِسْمَة: قَالَ بَعضهم: يقسم على قدر الْأَمْلَاك. وَقَالَ بَعضهم: يقسم على قدر الرؤوس. وَقَالَ بَعضهم: ينظر إِن كَانَت الغرامة لتحصين الْأَمْلَاك، قسمت على قدر الْأَمْلَاك، وَإِن كَانَت لتحصين الرُّءُوس، قسمت على عدد الرُّءُوس الَّتِي يتَعَرَّض لَهُم، لِأَنَّهَا مُؤنَة الرُّءُوس، وَلَا شَيْء على النِّسَاء وَالصبيان، لِأَنَّهُ لَا يتَعَرَّض لَهُم.

الْأَمَانَات تنْقَلب مَضْمُونَة بِالْمَوْتِ عَن تجهيل، إِلَّا فِي ثَلَاث مسَائِل: إِحْدَاهَا: مُتَوَلِّي الْأَوْقَاف إِذا مَاتَ وَلَا يعرف حَال غَلَّتهَا الَّتِي أَخذهَا، وَلم يبين، لَا ضَمَان عَلَيْهِ. الثَّانِيَة: خرج السُّلْطَان إِلَى الْغَزْو، وغنموا، فأودع بعض الْغَانِمين، ثمَّ مَاتَ، وَلم يبين عِنْد من أودع. الثَّالِثَة: أحد الْمُتَفَاوضين مَاتَ وَفِي يَده مَال الشّركَة، وَلم يبين، لَا ضَمَان. وَلَو أَن رجلا أَتَى القَاضِي فَقَالَ: إِن لي على فلَان حَقًا، وَهُوَ فِي منزله، وَقد توارى عني، وَلَيْسَ يحضر معي، فَإِن القَاضِي يكْتب إِلَى الْوَالِي فِي إِحْضَاره، لِأَن الْوَالِي إِنَّمَا نصب لإحياء حُقُوق النَّاس، فَكَانَ للْقَاضِي أَن يعين فِي إِحْضَار الْخصم. وَالصَّحِيح أَن مُؤنَة الْمحْضر على المتمرد، لِأَنَّهُ لما تمرد فقد تحقق مِنْهُ سَبَب وجوب ذَلِك. مَاتَ وَترك ابْنَتَيْن وعصبة، فَطلب السُّلْطَان التَّرِكَة، وَلم يقر الْعصبَة، فغرم الْوَصِيّ للسُّلْطَان الدَّرَاهِم من التَّرِكَة بِأَمْر الابنتين حَتَّى ترك السُّلْطَان التَّعَرُّض. إِن لم يقدر الْوَصِيّ على تحصين التَّرِكَة إِلَّا بِمَا غرم للسُّلْطَان، فَذَلِك مَحْسُوب من جملَة الْمِيرَاث، وَلَهُمَا أَن يحسبا ذَلِك من نصيب الْعصبَة.

مَاتَ وَترك وَرَثَة ومالا، فَأخذ السُّلْطَان شَيْئا من المَال، فالمأخوذ يحمل على الْجُمْلَة، كسارق يسرق، وَيبقى الْبَاقِي بَين الْوَرَثَة على فَرَائض الله. كَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَقيل: يفصل تَفْصِيلًا. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا إِذا كَانَ كل الْوَرَثَة بِحَيْثُ يَرِثُونَ. على الِاخْتِلَاف كَمَسْأَلَة ذَوي الْأَرْحَام، جعل الْمَأْخُوذ من نصيب الْمُخْتَلف فِيهِ خَاصَّة، لِأَن السُّلْطَان أَخذ بِاجْتِهَاد نَفسه، أَو بتقليد غَيره، وَذَلِكَ مِنْهُ ضرب من الِاجْتِهَاد فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد، فنفذ، وَالْفَتْوَى على الأول. هَذَا إِذا لم يعين السُّلْطَان جِهَة الْأَخْذ، أما إِذا عين كمن مَاتَ، وَترك ابْنة وَابْن عَم، فَأنْكر السُّلْطَان ابْن الْعم، وَأخذ نصف المَال، فَإِن أقرَّت الْبِنْت أَنه ابْن الْعم، فالباقي بَينهمَا نِصْفَانِ، فالسلطان أَخذ ظلما من النَّصِيبَيْنِ. وَلَو مَاتَت، وَتركت زوجا وعمة، أَو خَالَة - وَالزَّوْج مقرّ لذَلِك - فجَاء السُّلْطَان، وَأخذ نصيب الْعمة، أَو الْخَالَة، فَلَا شَيْء للعمة وَالْخَالَة، وَالنّصف الْبَاقِي للزَّوْج، لِأَن للزَّوْج أَن يَقُول: السُّلْطَان أَخذ بِحَق على قَول زيد، أَرَأَيْت لَو كَانَ زيد فِي الْأَحْيَاء، أَخذ بذلك كنت ترجع على مَا فِي يَدي بِشَيْء لَا يرجع، فَكَذَا هَاهُنَا. قَالَ أستاذنا - رَحمَه الله - فِي فصل ابْن الْعم: يجب أَن يكون الْجَواب كَذَلِك، كغاصب الشّرْب الْمشَاع إِذا زعم: أَنِّي غصبت نوبَة فلَان، كَانَ كَمَا قَالَ، كَذَا هُنَا.

مسائل

مسَائِل من لَا وَارِث لَهُ، وَله عِنْد رجل وَدِيعَة، أَو على رجل دين، فللإمام أَن يَأْخُذهُ، ويضعه فِي بَيت مَال الْمُسلمين، ليصرف إِلَى مصالحهم. وَلَو أَن رجلا لَا وَارِث لَهُ، أقرّ أَن هَذَا ابْن عَمه من أَب وَأم، ثمَّ مَاتَ يَجْعَل كَأَنَّهُ أوصى لَهُ بِجَمِيعِ مَاله. وَلَا يجوز إِقْرَار الرجل بوارث مَعَ ذَوي قرَابَة مَعْرُوفَة، إِلَّا بأَرْبعَة: الْأَب، وَالِابْن وَالزَّوْج وَالْمولى. مسَائِل رجل بَاعَ أَقْوَامًا، فَمَاتَ، وَله عَلَيْهِم دُيُون، وَلَيْسَ لَهُ وَارِث مَعْرُوف، فَأخذ السُّلْطَان دُيُونه، ثمَّ ظهر لَهُ وَارِث، لَا يبرأ الْغُرَمَاء، وَعَلَيْهِم أَن يؤدوا إِلَى الْوَارِث ثَانِيًا، لِأَنَّهُ تبين أَنه لم يكن للسُّلْطَان ولَايَة الْأَخْذ. اعْلَم أَن مصارف بَيت المَال أَرْبَعَة: أَحدهَا: مصرف زَكَاة السوائم، وَالْعشر، وَمَا أَخذ الْعَاشِر من تجار الْمُسلمين، إِذا مر عَلَيْهِم، وَذَلِكَ ثَمَانِيَة أَصْنَاف، كَمَا ذكر فِي الْآيَة لَكِن سَقَطت مؤلفة قُلُوبهم، لِأَن الله - تَعَالَى - أعز الْإِسْلَام، وأغنى عَنْهُم. الثَّانِي: مصرف خمس الْغَنَائِم، والمعادن، والركاز، وَهُوَ الْيَتَامَى،

وَالْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل، وَيدخل فُقَرَاء ذَوي الْقُرْبَى دون أغنيائهم عندنَا. وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: يدْخل الْأَغْنِيَاء أَيْضا وَسَهْم النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- سقط عندنَا بِمَوْتِهِ. وَعند الشَّافِعِي - رَحمَه الله انْتقل إِلَى الْخَلِيفَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} (التَّوْبَة 60) . . الْآيَة.

الثَّالِث: مصرف الْخراج، والجزية، وَمَال بني نَجْرَان، وَمَال بني تغلب - مضاعفة - وَمَا أَخذه الْعَاشِر من تجار أهل الذِّمَّة، وَالْحَرْبِيّ، وَالْمَال الَّذِي يُصَالح عَلَيْهِ الْكفَّار يصرف إِلَى عطايا الْمُقَاتلَة، وذراريهم، وسلاحهم، وكراعهم، لِيُقَاتِلُوا أَعدَاء الله تَعَالَى، ويفتحوا الْبِلَاد، وَإِلَى أرزاق الْقُضَاة، والولاة، وأعوانهم، وَالْفُقَهَاء، والمفسرين، والحفاظ، والمعلمين، والمتعلمين والمفتين، والمحتسبين، وكل من تقلد شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين وسد الطَّرِيق فِي دَار الْإِسْلَام عَن اللُّصُوص وقطاع الطَّرِيق، وَإِلَى إصْلَاح القناطر، والجسور، وَبِنَاء الرباطات، والمساجد، وسد البثق، وتحصين مَا يخَاف عَلَيْهِ البثق، وكرى الْأَنْهَار الْعِظَام الَّتِي فِيهَا مصَالح الْمُسلمين، وَإِلَى مَا فِيهِ صَلَاح الْمُسلمين.

وَالرَّابِع: مصرف اللقطات، والتركات الَّتِي لَا وَارِث لَهَا، ومصرف نَفَقَة اللَّقِيط، والمرضى، وأدويتهم - إِذا كَانُوا فُقَرَاء - وتكفين الْمَوْتَى الَّذِي لَا وَارِث لَهُم، وَلَا مَال لَهُم، وعقل جِنَايَة اللَّقِيط، وَنَفَقَة من هُوَ عَاجز عَن التكسب، وَلَيْسَ لَهُ من يقْضِي نَفَقَته. وَلَا يحل لكل مصرف، إِلَّا مَا يكفيهم، وَيَكْفِي أعوانهم بِالْمَعْرُوفِ، فَإِن فضل شَيْء من هَذِه الْأَمْوَال بعد إِيصَال الْحُقُوق إِلَى أَرْبَابهَا، قسموه بَين الْمُسلمين. وَلَيْسَ لأهل الذِّمَّة نصيب فِي بَيت المَال، إِلَّا أَن يرى الإِمَام ذِمِّيا يهْلك جوعا، فَعَلَيهِ أَن يُعْطِيهِ من بَيت المَال. وَلَيْسَ للأغنياء فِي بَيت المَال نصيب، إِلَّا إِذا كَانَ عَالما فرغ نَفسه لتعليم النَّاس من الْفِقْه، وَالْقُرْآن، أَو قَاضِيا. وَلَا تصرف الزَّكَاة إِلَى ذمِّي، وَبِنَاء مَسْجِد، وتكفين ميت، وإعتاق، وأصول

الْمُزَكي، وفروعه، وَزَوجته، وَعَبده، ومكاتبه، ومدبره، وَأم وَلَده - ومعتق الْبَعْض كَالْمكَاتبِ عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله - وَإِلَى من يملك قدر نِصَاب. وَإِنَّمَا قُلْنَا: قدر نِصَاب، لِأَن من ملك نفس النّصاب فَعَلَيهِ الزَّكَاة، لِأَنَّهُ يكون ناميا، وَيَنْبَغِي أَن يكون قدر النّصاب فَاضلا عَن الْحَاجة الْأَصْلِيَّة من أَي مَال كَانَ، بِلَا اشْتِرَاط نَمَاء فِيهِ، حَتَّى لَو كَانَ لَهُ كتاب مُكَرر يحْسب أَحدهمَا من النّصاب. وَهَذَا النّصاب تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام الْأَرْبَعَة من: حرمَان الصَّدَقَة، وَوُجُوب الْأُضْحِية، وَصدقَة الْفطر، وَنَفَقَة الْأَقَارِب.

(صفحة فارغة)

(صفحة فارغة)

وَمن عَال يَتِيما فيكسوه، ويطعمه، وَيَنْوِي بِهِ عَن زَكَاة مَاله، يجوز فِي الْكسْوَة، وَفِي الطَّعَام لَا يجوز، إِلَّا إِذا دفع إِلَيْهِ بِيَدِهِ، فَيجوز أَيْضا. وَقَالَ الْعلمَاء: الْأَفْضَل فِي صرف الصَّدَقَة أَن يصرفهَا إِلَى إخْوَته، ثمَّ أَعْمَامه، ثمَّ أَخْوَاله، ثمَّ ذَوي الْأَرْحَام، ثمَّ جِيرَانه، ثمَّ أهل سكته، ثمَّ أهل مصره. رُوِيَ عَن عَليّ - كرم الله وَجهه - أَنه قَالَ: " يُعْطي الإِمَام حَملَة الْقُرْآن لكل قَارِئ فِي كل سنة مِائَتي دِينَار، أَو ألف دِرْهَم، إِن أَخذهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِلَّا يَأْخُذ فِي الْآخِرَة ". وَعَن الشَّيْخ أبي مَنْصُور رَحمَه الله: " كل من خرج طَالبا للْعلم، فقد لزم الْمُسلمين كِفَايَته ". وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

الباب الثامن

الْبَاب الثَّامِن فِي الْحِيَل الشَّرْعِيَّة الْهَرَب من الْحَرَام والتخلص مِنْهُ حسن، قَالَ تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا} (ص 44) الْآيَة. وَفِي الْخَبَر: أَن رجلا اشْترى صَاعا من تمر بصاعين فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أربيت، هلا بِعْت تمرك بالسلعة ثمَّ بسلعتك تَمرا ". وَهَذَا كُله إِذا لم يرد الضَّرَر بِأحد. إِذا صلى أَرْبعا، فأقيمت الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد، فَالْحِيلَةُ أَلا يجلس على رَأس الرَّابِعَة حَتَّى تنْقَلب نفلا، وَيُصلي مَعَ الإِمَام. مسَائِل نذر صَوْم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، وَصَامَ رجبا وَشَعْبَان، فَإِذا شعْبَان نقص يَوْمًا، فَالْحِيلَةُ أَن يُسَافر مُدَّة السّفر، فينوي الْيَوْم الأول من رَمَضَان عَمَّا نذر.

مسألة

إِذا خَافَ أَلا يُؤَدِّي الزَّكَاة: يهب النّصاب قبل تَمام الْحول مِمَّن يَثِق بِهِ، ويسلمه إِلَيْهِ، ثمَّ يستوهبه. أَرَادَ أَن يُؤَدِّي الْفِدْيَة عَن صَوْم أَبِيه أَو صلَاته، وَهُوَ فَقير فَإِنَّهُ يُعْطي منوين من الْحِنْطَة فَقِيرا، ثمَّ يستوهبه مِنْهُ، ثمَّ يعيطه إِيَّاه، هَكَذَا إِلَى أَن يتم. أَرَادَ أَن يكون لابنته محرم فِي طَرِيق الْحَج: يُزَوّجهَا بعلمها من عبد نَفسه، فَلَا يعلم العَبْد ذَلِك. مَسْأَلَة حَلَفت امْرَأَة أَلا تتَزَوَّج: فَزَوجهَا فُضُولِيّ، فَأَخْبرهَا، فقبضت الْمهْر، لم تَحنث. مَسْأَلَة حلف لَا يُطلق فُلَانَة، فخلعها أَجْنَبِي، وَدفع بدل الْخلْع إِلَى الزَّوْج لم يَحْنَث، وَكَذَا لَو تزوج رضيعة، وَأمر امْرَأَته أَو أمهَا لترضعها، فأرضعته.

مسالة

مسالة قَالَ لامْرَأَته: إِن لم أطلقك الْيَوْم ثَلَاثًا فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، فَالْحِيلَةُ أَن يَقُول لَهَا: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا على كَذَا، وَلَا تقبل الْمَرْأَة، فَلَا يَقع الطَّلَاق وَبِه يُفْتى. مَسْأَلَة امْرَأَة سَمِعت زَوجهَا طَلقهَا طَلَاقا ثَلَاثًا، وَلَا تقدر على منع نَفسه مِنْهُ، يَسعهَا أَن تقتله مَتى علمت أَنه يقربهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمكن دفع شَره عَن نَفسهَا إِلَّا بقتْله، لَكِن يَنْبَغِي أَلا تقتله إِلَّا بالدواء، لِأَنَّهَا إِن قتلته بِآلَة الْحَرْب وَجب عَلَيْهَا الْقصاص. مَسْأَلَة أَرَادَ التَّحْلِيل، يخَاف أَلا يطلقهَا الثَّانِي، أَو يعلقها، فَالْحِيلَةُ أَن يَشْتَرِي زَوجهَا عبدا صَغِيرا قَادِرًا على الْجِمَاع، يَتَزَوَّجهَا مِنْهُ بِشَهَادَة شَاهِدين، فَإِذا بنى بهَا، يَهبهُ لَهَا ويملكه بِبيع، فَإِذا ملكه إِيَّاهَا تقع الْفرْقَة بَينهمَا، ثمَّ يبْعَث الْمَمْلُوك إِلَى بلد فَيُبَاع هُنَاكَ، ثمَّ يَتَزَوَّجهَا بعد الْعدة. مَسْأَلَة طلق امْرَأَته بَائِنا، وَأنكر، فالسبيل: أَن تدخل الْمَرْأَة بَيْتا فِيهِ زَوجهَا مختفية، فَيُقَال: إِنَّك تزوجت امْرَأَة وَهِي فِي هَذِه الدَّار، فَيَقُول: لَيست لي امْرَأَة فِي هَذِه الدَّار، فَيُقَال: كل امْرَأَة لَك فِي هَذِه الدَّار فَهِيَ طَالِق بَائِن؟ فَإِذا حلف تبرز الْمَرْأَة، فَيظْهر طَلاقهَا. مَسْأَلَة قَالَ لامْرَأَته: إِن لم تطبخي قدرا نصفهَا حَلَال وَنِصْفهَا حرَام، فَأَنت طَالِق، فَالْحِيلَةُ: أَن تجْعَل الْخمر فِي الْقدر، ويطبخ الْبيض فِيهَا.

مسألة

حلف بِثَلَاث طلقات أَلا يكلم فلَانا، فَالْحِيلَةُ: أَن يطلقهَا وَاحِدَة، ويدعها حَتَّى تنقض عدتهَا، ثمَّ يكلم، ثمَّ يَتَزَوَّجهَا. مَسْأَلَة حلف الا يدْخل دَار فلَان، فَالْحِيلَةُ أَنه إِذا انْتهى إِلَى بَاب يحمل مَرْفُوعا، وَيدخل الدَّار، كلما أَرَادَ الدُّخُول يفعل هَكَذَا. مَسْأَلَة فِي فِيهِ لقْمَة، فَقَالَ الرجل: إِن أكلتها فامرأته طَالِق، وَقَالَ آخر: إِن أخرجتها فعبدة كَذَا حر، فَالْحِيلَةُ: أَن يطْرَح بَعْضهَا، وَيَأْكُل بَعْضهَا، أَو يَأْخُذهَا إِنْسَان من فِيهِ بِغَيْر أمره. مَسْأَلَة أَرَادَت الْمَرْأَة قطع طمع الْمُحَلّل تَقوله لَهُ: لَا أطاوعك حَتَّى تحلف بِثَلَاث طلقاتي أَنَّك لَا تخالفني فِيمَا أطلب مِنْك، فَإِذا حلف مكنته فَإِذا قربهَا مرّة طلبت مِنْهُ الطَّلَاق، فَإِن طَلقهَا، طلقت وَإِلَّا فَكَذَلِك. قَالَ: إِن فعلت كَذَا فَعَبْدي أَو جَمِيع مَا أملك حر وَصدقَة، فَالْحِيلَةُ أَن يهب ذَلِك كُله مِمَّن يَثِق بِهِ وَيسلم، ثمَّ يفعل ثمَّ يستوهبه. مَسْأَلَة أَرَادَ أَن يُكَاتب جَارِيَة لَهُ ويطأها، فَإِنَّهُ يَهَبهَا لِابْنِ صَغِير لَهُ، ثمَّ يَتَزَوَّجهَا إِن لم يكن تَحْتَهُ حرَّة، وَيكون أَوْلَاده أحرارا. مَسْأَلَة دخل جمَاعَة على رجل، وَأخذُوا أَمْوَاله وحلفوه أَلا يخبر بِأَسْمَائِهِمْ، فَالْحِيلَةُ أَن يُقَال لَهُ: نعد عَلَيْك أَسمَاء، فَمن لَيْسَ بسارق إِذا سألناك، قل: لَا، وَإِذا انتهينا إِلَى السَّارِق فاسكت أَو قل: لَا أَقُول، فَيظْهر الْأَمر فَلَا يَحْنَث.

مسألة

مَسْأَلَة حلف لَا يسكن هَذِه الدَّار وَهُوَ ساكنها ويشق عَلَيْهِ نقل الْمَتَاع، فَإِنَّهُ يَبِيع الْمَتَاع مِمَّن يَثِق بِهِ وَيخرج بِنَفسِهِ وَأَهله، ثمَّ يَشْتَرِي الْمَتَاع مِنْهُ فِي وَقت يَتَيَسَّر عَلَيْهِ التَّحْوِيل. مَسْأَلَة حلف ليقضين حَقه رَأس الشَّهْر، وَلَا يَتَيَسَّر عَلَيْهِ ذَلِك فَالْحِيلَةُ أَن يَبِيع مِنْهُ شهرا بذلك الدّين. مَسْأَلَة قَالَ الطَّالِب: إِن لم آخذ مِنْك حَقي غَدا فامرأته كَذَا، وَقَالَ الْمَطْلُوب: إِن أُعْطِيك فَعَبْدي حر، فَالْحِيلَةُ: أَن يمْنَع الْمَطْلُوب، فيجئ الطَّالِب وَيَأْخُذ مِنْهُ جبرا. مَسْأَلَة قَالَ لَهَا، وَفِي يَدهَا شراب: إِن شربت، أَو صببت، أَو أَعْطَيْت غَيْرك، فَأَنت كَذَا. فَالْحِيلَةُ: أَن يُرْسل فِيهِ ثوبا ينشف. حلف أَلا ينْفق على امْرَأَته. فَالْحِيلَةُ: أَن يُؤَاجر نَفسه مِنْهَا، ويتجر لَهَا، ويكسب لَهَا. أَمِير الْبَلَد أَرَادَ أَن يحلف رجلا أَلا يُخَالف الْملك، يكْتب على كَفه الْيُسْرَى الْملك، فَكلما قيل لَهُ: عَلَيْك كَذَا عبيدك، ونساؤك كَذَا إِن كنت تخَالف هَذَا الْملك، جعل الرجل يُشِير بِيَدِهِ الْيُمْنَى إِلَى الْملك الْمَكْتُوب على الْكَفّ - وكلتا يَدَيْهِ فِي الْكمّ - وَهُوَ يَقُول: " لَا أُخَالِف هَذَا الْملك "، فَلم يَحْنَث.

مسألة

مَسْأَلَة وقف وَخَافَ أَن يُبطلهُ قَاض على قَول الإِمَام: فَعَلَيهِ أَن يقر فِي صك الْوَقْف: أَنِّي رفعت إِلَى قَاض من قُضَاة الْمُسلمين، فَأمْضى ذَلِك، فَلَا يبطل بعد ذَلِك أبدا. مسالة أَرَادَ أَن يَبِيع نزل الْكَرم مشَاعا - وَهُوَ لم يَصح - فَالْحِيلَةُ: أَن يَبِيع الْكل مِنْهُ، ثمَّ يفْسخ البيع فِي النّصْف. مَسْأَلَة حلف لَا يَبِيع هَذِه الْجَارِيَة، وَلَا يَهَبهَا، فَبَاعَ النّصْف بِكُل الثّمن ووهب النّصْف، لم يَحْنَث. أَرَادَ البَائِع أَن يَأْمَن خُصُومَة المُشْتَرِي، فَالْحِيلَةُ: أَن يَأْمُرهُ إِذا أَرَادَ بَيْعه أَن يَقُول: إِن خاصمتك فِي عيب فَهُوَ صَدَقَة. الْوَكِيل بشرَاء شَيْء بِعَيْنِه بِثمن معِين إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِيهِ لنَفسِهِ، فَالْحِيلَةُ: أَن يزِيد فِي ثمنه شَيْئا قَلِيلا، أَو يَأْمر إنْسَانا ليشتريه لَهُ. اشْترى إِنَاء فضَّة بِدَرَاهِم، وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا قَلِيل دَرَاهِم، فَأَرَادَ أَن يَتَفَرَّقَا وَلَا يبطل، فَالْحِيلَةُ: أَن ينْقد مَا عِنْده، ثمَّ يستقرض مِنْهُ ثمَّ ينْقد، ثمَّ يستقرض، هَكَذَا إِلَى تَمام الثّمن، وَمثل هَذَا يفعل فِي السّلم. أَرَادَ دفع الشَّفِيع يَقُول لَهُ: آشتره مني، فأبيعك بِأَقَلّ مِمَّا اشْتَرَيْته من البَائِع، فَإِذا أَجَابَهُ بطلت شفعته.

الْوَكِيل بِالْبيعِ أَرَادَ أَن تكون الْعهْدَة على غَيره، فَإِنَّهُ يَأْمر غَيره فيبيع بِحَضْرَة الْوَكِيل الأول، فَيجوز، وَتَكون الْعهْدَة على الثَّانِي. الْوَكِيل بِالْبيعِ إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِي ذَلِك لنَفسِهِ، فَالْحِيلَةُ: أَن يَبِيعهُ مِمَّن يَثِق بِهِ، ثمَّ يَشْتَرِيهِ لنَفسِهِ. اسْتقْرض من رجل عشرَة دَرَاهِم، فَلم يرغب إِلَّا بِرِبْح دِرْهَمَيْنِ، فَالْحِيلَةُ: أَن يَشْتَرِي مَا يُسَاوِي فلسًا بِدِرْهَمَيْنِ، ويستقرض مِنْهُ عشرَة. وَلَو بَاعَ كاغدة بِأَلف دِرْهَم. قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله -: يجوز وَلَا يكره. وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: هَذَا البيع فِي قلبِي كأمثال الْجبَال. خوصم إِلَيْهِ فِي ضَيْعَة بِغَيْر حق، فَأَرَادَ أَن يسْقط الْيَمين، فَالْحِيلَةُ: أَن يقر لِابْنِهِ الصَّغِير بالضيعة. أَرَادَ أَلا يكفل لإِنْسَان، يَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كفلت فَللَّه على أَن أَتصدق بفلس، فَإِذا طلب مِنْهُ الْكفَالَة يَقُول: قد حَلَفت أَلا أكفل. وَالْحِيلَة فِي إِثْبَات الدّين على الْغَائِب: أَن يكفل للطَّالِب رجل عَن الْغَائِب، ثمَّ إِنَّه يقدم الْكَفِيل إِلَى القَاضِي فَيَقُول: إِن لي على فلَان الْغَائِب كَذَا، وَإِن هَذَا كَفِيل عَنهُ. فَيَقُول الْكَفِيل: إِنِّي كفلت عَنهُ، لَكِن لَا أَدْرِي أَن للْمُدَّعِي على الْأَصِيل دينا أم لَا؟ فيقيم الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة على ذَلِك، فَيَقْضِي لَهُ القَاضِي بِالدّينِ على الْغَائِب، ثمَّ إِنَّه يبرأ الْكَفِيل.

أَرَادَ الْمُرْتَهن الا يبطل الدّين بِهَلَاك الرَّهْن، فَإِنَّهُ يَشْتَرِي مِنْهُ عبدا بذلك الدّين، وَلَا يقبض، فَلَو مَاتَ العَبْد لَا يبطل دينه، وَلَو مَاتَ الْمَطْلُوب يكون الطَّالِب أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء، وَلَو قضى عَنهُ حَال حَيَاته أقاله البيع. أَرَادَ أَن يَجْعَل المَال مَضْمُونا على الْمضَارب، فَالْحِيلَةُ: أَن يقْرض المَال، ويسلمه إِلَيْهِ ثمَّ يَأْخُذ مِنْهُ مضاربه بِالنِّصْفِ، ثمَّ يدْفع إِلَى الْمُسْتَقْرض ويستعين مِنْهُ فِي الْعَمَل. وحيلة أُخْرَى: أَن يقْرضهُ المَال، وَيخرج إِلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ آخَرين، ويعقد مَعَه شركَة الْعَنَان، وَالْعَمَل عَلَيْهِمَا، وَالْمَال مِنْهُمَا.

وَمن أَرَادَ أَن يَشْتَرِي دَارا وَخَافَ أَن البَائِع قد ملكهَا من غَيره قبل ذَلِك. فَالْحِيلَةُ: أَن يكْتب الشِّرَاء باسم رجل مَجْهُول، وأودعها الْمَجْهُول عِنْده، أَو اسْتَأْجرهَا مِنْهُ، ثمَّ يشْهد فِي السِّرّ أَنه اشْتَرَاهَا لَهُ من مَاله بأَمْره، وَأَنَّهَا دَاره لَا حق لَهُ فِيهَا، فيقيم الْبَيِّنَة أَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده لفُلَان، فيندفع عَنهُ الْخُصُومَة. وَالْحِيلَة فِي إِسْقَاط خِيَار الرُّؤْيَة: أَن يَبِيع الضَّيْعَة مَعَ ثوب لرجل، ويقر المُشْتَرِي أَن الثَّوْب لهَذَا الرجل فَيَأْخُذ الْمقر لَهُ، الثَّوْب،

0 - صفحة فارغة)

(صفحة فارغة)

(صفحة فارغة)

وَيبْطل خِيَار المُشْتَرِي، لِأَن فِي رد أَحدهمَا تَفْرِيق الصَّفْقَة، وَذَلِكَ لَا يجوز.

وَالْحِيلَة فِي إجَازَة الْمُسْتَأْجر بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجرهُ: أَن يُعْطِيهِ شَيْئا حَقِيرًا كالقدوم والمنجل بِمُقَابلَة الْفضل أَو طين لَو كف سطحها، أَو عمر شَيْئا يَسِيرا، فيطيب لَهُ، وَكَذَا لَو اسْتَأْجر دَابَّة وأسرجها من عِنْده، أَو أوكفها، ثمَّ أجرهَا بِأَكْثَرَ، طَابَ لَهُ الْفضل. وَالْحِيلَة فِي أَلا تنْتَقض الْإِجَارَة بِمَوْت أَحدهمَا: أَن يقر الْمُسْتَأْجر أَنه اسْتَأْجرهَا لرجل من الْمُسلمين، ويقر الْآجر لذَلِك. وَالْحِيلَة فِي أَن ينْفَرد كل وَاحِد من الشَّرِيكَيْنِ بِقَبض حِصَّته من الدّين: أَن يكْتب لكل وَاحِد وَثِيقَة على حِدة أَنه بَاعَ حِصَّته من مَتَاع أَو عبد بَينهمَا فِي صَفْقَة على حِدة، وحصته على فلَان مُنْفَرِدَة. وَالْحِيلَة فِيمَا إِذا خَافَ الْكَفِيل أَن يتَوَارَى عَنهُ الْمَكْفُول عَنهُ: أَن يَأْخُذ من الْمَكْفُول عَنهُ كَفِيلا بِنَفسِهِ.

وَالْحِيلَة فِي إِسْقَاط الشُّفْعَة من وُجُوه: أَحدهَا: أَن يهب البَائِع من المُشْتَرِي شَيْئا بِعَيْنِه من الدَّار بطريقه، ثمَّ يَشْتَرِي الْبَاقِي بِمَا سميا من الثّمن. أَو يَبِيع جُزْءا من الدَّار بِثمن كثير، ثمَّ يَشْتَرِي الْبَاقِي بِثمن قَلِيل، أَو يسْتَأْجر

البَائِع من المُشْتَرِي عبدا أَو دَابَّة بِجُزْء من الدَّار، ثمَّ يَشْتَرِي الْبَاقِي، أَو يَشْتَرِي الدَّار بِأَلفَيْنِ، وَهِي تَسَاوِي ألفا، فينقد البَائِع ألفا إِلَّا عشرَة، ثمَّ يَبِيع مِنْهُ دِينَارا بِأَلف وَعشرَة، فَلَا يَأْخُذ الشَّفِيع إِلَّا بِأَلفَيْنِ. رجلَانِ قَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه: إِن لم يكن رَأْسِي أثقل من رَأسك فامرأته طَالِق. فمعرفة ذَلِك أَنَّهُمَا إِذا نَامَا دعيا، فَأَيّهمَا أسْرع جَوَابا، فرأس الآخر أثقل مِنْهُ. وَلَو قَالَ لامْرَأَته: كل امْرَأَة أَتزوّج عَلَيْك فَهِيَ طَالِق، وعنى بقوله عَلَيْك، أَي على رقبتك، يَصح ديانَة وَقَضَاء. رجل حلف رجلا بِالطَّلَاق وَالْعتاق، فالنية نِيَّة الْحَالِف، ظَالِما كَانَ أَو مَظْلُوما، حَتَّى لَو نوى الطَّلَاق عَن الوثاق، أَو نوى الْحُرِّيَّة عَن عمل كَذَا، أَو

الْإِخْبَار بِهِ كَاذِبًا، يصدق ديانَة، إِلَّا أَنه إِن كَانَ مَظْلُوما لَا يَأْثَم، وَإِن كَانَ ظَالِما يَأْثَم، وَإِن كَانَت الْيَمين بِاللَّه، فَإِن كَانَ الْحَالِف مَظْلُوما فَالْعِبْرَة بنيته، وَإِن كَانَ ظَالِما، فاليمين على الْمَاضِي، فَالْعِبْرَة بنية المستحلف، وَإِن كَانَت الْيَمين على الْمُسْتَقْبل، فَهِيَ على نِيَّة الْحَالِف. وَلَو حلف اللُّصُوص بِثَلَاث تَطْلِيقَات، أَنه لم يكن مَعَه دَرَاهِم غير الَّذِي أخذُوا مِنْهُ، ثمَّ ظهر أَن مَعَه دانقا أَو نَحوه، لَا يَحْنَث. قَالَ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث: إِن حلف بِالْعَرَبِيَّةِ لم يَحْنَث مَا لم يبلغ مَا مَعَه ثَلَاثَة دَرَاهِم، وَإِن حلف بِالْفَارِسِيَّةِ: باتودرمست لم يَحْنَث مَا لم يبلغ درهما. رجل أَرَادَ أَن يسْتَحْلف رجلا، وَاسْتثنى الْحَالِف فِي السِّرّ - إِن شَاءَ الله - لَا يَحْنَث الْحَالِف، وَإِن خَافَ المستحلف أَن يسْتَثْنى فِي السِّرّ، فحيلته أَن يسْتَحْلف، ويأمره أَن يَقُول عقيب الْيَمين: سُبْحَانَ الله - مَوْصُولا أَو غَيره من الْكَلَام. رجل على سلم فَقَالَ: إِن ارتقيت فامرأته طَالِق، وَإِن رجعت فَكَذَلِك، وَإِن أَخَذَنِي أحد فَكَذَلِك، فَالْحِيلَةُ: وضع السّلم على الأَرْض حَتَّى ينْفَصل عَنهُ. رجل قَالَ لامْرَأَته: إِن لم أجامعك على رَأس الرمْح، فَأَنت طَالِق، يغرز الرمْح فِي سطح حَتَّى يَبْدُو رَأسه من الْأَعْلَى، فيجامع عَلَيْهِ. وَالله أعلم.

الباب التاسع

الْبَاب التَّاسِع فِي تَنْبِيه الْمُجيب من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة مِمَّا جمعه الْمُحَقق أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي رَحمَه الله يَنْبَغِي للمفتي أَن يمعن النّظر فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة، فَإِن كَانَت من جنس مَا يفصل فِي جوابها يفصل، وَلَا يُجيب على الْإِطْلَاق، فَإِنَّهُ يكون مخطئا نَحْو مَا إِذا سُئِلَ عَن هرة أخذت فَأْرَة، فَوَقَعَتَا جَمِيعًا فِي الْبِئْر، فَمَاتَتَا جَمِيعًا، أَو مَاتَت إِحْدَاهمَا وَخرجت الْأُخْرَى حَيَّة. فَإِن أجَاب بنزح كل الْبِئْر، أَو بنزح عشْرين أَو ثَلَاثِينَ، أَو أَرْبَعِينَ، أَو خمسين فقد أَخطَأ. بل يجب أَن يفصل، وَيبين الشُّرُوط الَّتِي فِيهَا، فَيَقُول: لَو جرحتها الْهِرَّة، نزح مَاء الْبِئْر كُله، وَإِن لم تكن جرحتها، فَإِن مَاتَت الْهِرَّة أَو الْفَأْرَة ن فوظيفة كل وَاحِدَة مَعْلُومَة، فَإِن ماتتا جَمِيعًا، يدْخل أقل المقدارين فِي أكثرهما، فيكتفي بنزح الْأَكْثَر. وَلَو قيل: خرجتا حيين، فالمسئول يُخطئ فِي الْجَواب إِلَّا أَن يَقُول: إِن كَانَت جرحتها الْهِرَّة، نزح مَاء الْبِئْر كُله، وَإِن لم تكن جرحتها يسْتَحبّ نزح دلاء. قلت: وَرَأَيْت فِي بعض الْكتب: إِذا وَقعت فِي الْبِئْر من خوف الْهِرَّة، يجب نزح مَاء الْبِئْر كُله، لِأَنَّهَا إِذا فرت من خوف الْهِرَّة، لَا تَخْلُو من نَجَاسَة تنفصل مِنْهَا. وَإِذا استفتى عَن إِمَام صلى بِقوم رَكْعَة، فأحدث وَتَأَخر، وَقدم رجلا وَالْقَوْم قدمُوا آخر، فَتَقَدما ونويا الْإِمَامَة، فَإِن أجَاب بِصِحَّة صَلَاة كل الْقَوْم أَو فَسَادهَا، أَو تصح صَلَاة الْأَكْثَر دون الْأَقَل، أَو على الْعَكْس، فقد أَخطَأ، لَكِن يَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ الإمامان نويا مَعًا، أَو سبقه نِيَّة من قدمه الإِمَام،

فصل في النكاح

أَو سبقت نِيَّة الآخر، لَكِن لم يعْتد بِهِ الْقَوْم حَتَّى نوى من قدمه الإِمَام، فالخليفة هُوَ من قدمه الإِمَام، فَمن اقْتدى بِهِ مِنْهُم صحت صلَاتهم، وَإِلَّا فَلَا. وَلَو قيل: لَو لم يقدم الإِمَام أحدا وَتقدم رجلَانِ، فَإِن أجَاب بِشَيْء فقد أَخطَأ، إِلَّا أَن يَقُول: إِن سبق أَحدهمَا إِلَى مَكَان الإِمَام، فَصَلَاة الَّذين اقتدوا بِهِ جَائِزَة، وَصَلَاة الآخرين فَاسِدَة، سَوَاء كَانُوا أقل أَو أَكثر، فَإِن قاما فِي صَلَاة الإِمَام مَعًا، فَحِينَئِذٍ يعْتَبر التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْقَوْم، فَإِن اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فَسدتْ صَلَاة الْكل. وَإِذا استفتى عَن مَرِيض يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي حَال التَّشَهُّد ظن أَن هَذَا مَوضِع الْقيام، فاشتغل بِالْقِرَاءَةِ، ثمَّ ذكر بعد الْقِرَاءَة، فَإِن أجَاب أَن بنيته الْقِرَاءَة صَار قَائِما، أَو قَالَ لم يصر قَائِما، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ هَذَا فِي التَّشَهُّد الأول، قَامَت الْقِرَاءَة مقَام الْقيام، فَلَا يعود إِلَى التَّشَهُّد، وَإِن كَانَ فِي التَّشَهُّد الآخر رَجَعَ إِلَى التَّشَهُّد، وَهَكَذَا فِي التَّصْحِيح الَّذِي قَامَ قبل أَن يتَشَهَّد. وَإِذا استفتى عَمَّن صلى الظّهْر أَرْبعا، وَجلسَ جلْسَة، ثمَّ ظن أَنَّهَا الثَّالِثَة فَقَامَ، ثمَّ علم أَنَّهَا رَابِعَة، فَجَلَسَ، وَقَرَأَ بعض التَّشَهُّد، وَتكلم. فَإِن أجَاب بِصِحَّة صَلَاة، أَو فَسَادهَا، فقد أَخطَأ. فَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ مَجْمُوع الجلوسين قبل الْقيام مِقْدَار التَّشَهُّد، أَو أَكثر، جَازَت صلَاته، وَإِلَّا فَلَا. فصل فِي النِّكَاح إِذا استفتى عَن رجل زوج ابْنه الْكَبِير امْرَأَة بِغَيْر إِذْنه، فَإِن أجَاب أَن النِّكَاح مَوْقُوف، فَقيل لَهُ: إِن لم يجز الابْن، وَلم يرد حَتَّى جن جنونا مطبقا؟ فَإِن أجَاب بِجَوَاز النِّكَاح فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن أجَاز الْأَب النِّكَاح بَعْدَمَا جن الابْن جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَن الْأَب صَار بِحَال لَو اسْتَأْنف العقد جَازَ عقده، فَيجوز إِجَارَته.

رجل تزوج امْرَأَة، فَجَاءَت بسقط قد استبان خلقه، إِن جَاءَت بِهِ لأربعة أشهر جَازَ النِّكَاح، وَإِن جَاءَت بِهِ لأربعة أشهر إِلَّا يَوْمًا لم يجز النِّكَاح، لِأَن فِي الْوَجْه الثَّانِي: الْوَلَد من الزَّوْج الأول. وَفِي الْوَجْه الأول: الْوَلَد من الزَّوْج الثَّانِي، لِأَن خلقه لَا يستبين إِلَّا فِي مائَة وَعشْرين يَوْمًا، فَيكون أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، وَأَرْبَعين يَوْمًا علقَة، وَأَرْبَعين يَوْمًا مُضْغَة. وَإِذا استفتى عَمَّن أَقَامَ بَيِّنَة على امْرَأَة أَنه تزَوجهَا، فأقامت ابْنة الْمَرْأَة أَنه تزَوجهَا، فَإِن أجَاب أَن الْبَيِّنَة أَو بينتها، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن لم يكن دخل بِوَاحِدَة مِنْهُمَا، أَو دخل بِالْأُمِّ فبينته أولى، وَبَطلَت بينتها. وَإِن دخل بالبنت فبينتها أولى، وَبَطلَت بَينته. وَإِن دخل بهَا، فَفرق بَينه وَبَينهمَا بِحرْمَة الْمُصَاهَرَة. وَإِذا استفتى عَمَّن أَمر رجلا بِأَن يُزَوجهُ امْرَأَة، فَزَوجهُ الْوَكِيل كَمَا أَمر، ثمَّ مَاتَ وَليهَا الَّذِي زَوجهَا، وَلها ولي آخر يُنكر النِّكَاح، هَل يحل للزَّوْج أَن يَطَأهَا بقول الْوَكِيل؟ فَإِن قَالَ: لَا، أَو نعم، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَت الْمَرْأَة صَغِيرَة، أَو معتوهة، لَا يَنْبَغِي أَن يَطَأهَا بقول الْوَكِيل مَا لم يصدقهُ الْوَكِيل الثَّانِي، وَلَو كَانَت عَاقِلَة كَبِيرَة، فَلَا بَأْس بِأَن يَطَأهَا، إِذا كَانَت مقرة بِالنِّكَاحِ. وَإِذا استفتى عَن امْرَأَة خرجت من بَيت الزَّوْج إِلَى منزل أَبِيهَا أَو أمهَا، فمرضت، فَلم يتهيأ لَهَا الْخُرُوج إِلَى منزل الزَّوْج، هَل لَهَا النَّفَقَة مَا دَامَت هُنَاكَ؟ فَإِن أجَاب بنعم، أَو بِلَا، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَت بِحَال يُمكن أَن تحمل فِي محفة، أَو نَحْو ذَلِك، فَلَا نَفَقَة لَهَا مَا لم ترجع، لِأَنَّهَا كالناشزة،

فصل في الطلاق

لم أمكن عودهَا وَلم تعد، وَإِن كَانَت لَا يتهيأ حملهَا بِوَجْه من الْوُجُوه، يُؤْخَذ الزَّوْج بنفقتها مَا دَامَت كَذَلِك، لَكِن يجب نَفَقَة الصحيحات لَا المريضات. فصل فِي الطَّلَاق إِذا استفتى عَمَّن قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق كالثلج، أَيكُون بَائِنا أَو رَجْعِيًا؟ فَإِن أجَاب: أَنه رَجْعِيّ، أَو بَائِن، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن أَرَادَ بِهِ كالثلج فِي الْبُرُودَة، فبائن، وَإِن أَرَادَ بِهِ كالثلج فِي الْبيَاض، فرجعي، كَمَا لَو قَالَ: حَسَنَة. رجل قَالَ لامْرَأَته: إِن لم أطلقك الْيَوْم ثَلَاثًا، فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، فَأَرَادَ الْحِيلَة كي لَا تطلق الْمَرْأَة، فَقَالَ لَهَا: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا على كَذَا - يَعْنِي ألف دِرْهَم - فَلم تقبل الْمَرْأَة، فَمضى الْيَوْم، وَقع عَلَيْهَا الثَّلَاث فِي قِيَاس الرِّوَايَات الظَّاهِرَة، لِأَنَّهُ تحقق شَرط الْحِنْث، وَهُوَ عدم التَّطْلِيق، لِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّعْلِيقِ، وَالتَّعْلِيق غير التَّطْلِيق. وروى عَن أبي حنيفَة - رَحمَه الله - أَنَّهَا لَا تطلق، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى، وَهَذَا حِيلَة الْخُرُوج عَن هَذَا الْيَمين، لِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّعْلِيقِ، وَلَكِن على ألف، وَأَن هَذَا تطليق مُقَيّد والمقيد يدْخل تَحت الْمُطلق، فينعدم شَرط الْحِنْث، فَلَا تطلق. فصل فِي الْعتْق إِذا استفتى عَمَّن أقرّ فِي مَرضه بِعَبْد لبَعض ورثته، ثمَّ أعتق ذَلِك العَبْد، فَإِن أجَاب أَنه جَازَ عتقه، أَو لم يجز، فقد أَخطَأ.

فصل في مسائل شتى

يَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كذبه سَائِر الْوَرَثَة على إِقْرَاره، جَازَ عتقه فِي الحكم وَإِن صدقوه، فعتقه بَاطِل فِي الحكم. وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى - إِن لم يكن بَينهمَا سَبَب التَّمْلِيك، لم يخرج عَن ملكه، وَجَاز عتقه من الثُّلُث إِذا مَاتَ من مَرضه، وَإِذا صَحَّ، جَازَ عتقه من جَمِيع المَال. فصل فِي مسَائِل شَتَّى إِذا استفتى عَمَّن ساوم رجلا فِي ثوب، فَقَالَ البَائِع: أبيعك بِخَمْسَة عشر، وَقَالَ المُشْتَرِي: لَا أَخذه إِلَّا بِعشْرَة، وَذهب المُشْتَرِي بِالثَّوْبِ على هَذَا. فَإِن أجَاب: أَن البيع بِعشْرَة، أَو بِخَمْسَة عشر، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ الثَّوْب فِي يَد المُشْتَرِي حِين ساومه وَجب البيع بِخَمْسَة عشر، إِذا ذهب بِهِ، وَإِن كَانَ الثَّوْب فِي يَد البَائِع، فَدفعهُ إِلَى المُشْتَرِي، وَلم يقل شَيْئا، فَالْبيع بِعشْرَة. وَإِذا استفتى عَمَّن بَاعَ مَال غَيره بِغَيْر إِذْنه، فَبَلغهُ، فَأجَاز، فَإِن أجَاب بِالْجَوَازِ، أَو بِعَدَمِ الْجَوَاز، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ الْمَبِيع قَائِما، وَالْبَائِع وَالْمُشْتَرِي قَائِمين، صحت الْإِجَازَة، فَإِن مَاتَ أحد هَذِه الْأَشْيَاء، لم يجز، وَكَذَا لَو مَاتَ الْوَارِث، فَأجَاز ورثته لم يجز. وَإِذا استفتى عَمَّن بَاعَ عَبده، وَعبد غَيره صَفْقَة وَاحِدَة، بِغَيْر أَمر ذَلِك الْغَيْر، مَا حَال البيع فيهمَا؟ وَهل للْمُشْتَرِي الْخِيَار؟ فَإِن أجَاب بِجَوَازِهِ، أَو بِبُطْلَانِهِ أَو بِأَن لَهُ الْخِيَار، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن أجَاز ذَلِك الْغَيْر، جَازَ البيع فيهمَا، وَلَا خِيَار لَهُ، فَإِن لم يجز، فَإِن كَانَ المُشْتَرِي يعلم وَقت الشِّرَاء بذلك، لزمَه فِي عبد البَائِع بِحِصَّتِهِ، وَإِن لم يكن عَالما وَقت الشِّرَاء، أَو علم بعد ذَلِك، فَإِن علم قبل الْقَبْض فَلهُ نقض البيع فيهمَا، لِأَنَّهُ لَو نقض فِي الْمَبِيع كَانَ فِيهِ تَفْرِيق الصَّفْقَة قبل التَّمام، وَذَلِكَ لَا يجوز. وَإِن علم بعد قبضهما، لزمَه الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ، لِأَن الصَّفْقَة تمت بِالْقَبْضِ، فَلَو رد أَحدهمَا، كَانَ تَفْرِيق الصَّفْقَة بعد التَّمام، وَذَلِكَ جَائِز

وَإِذا استفتى عَن رجل بَاعَ عبدا على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ تقاضى على المُشْتَرِي بِالثّمن، هَل يكون ذَلِك إجَازَة مِنْهُ؟ فَإِن قَالَ: لَا، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن تقاضاه قبل أَن يَتَفَرَّقَا فَهُوَ على خِيَاره، وَإِن تقاضاه بَعْدَمَا تفَرقا، بَطل خِيَاره، وَذكر عَن الْحسن بن زِيَاد قَالَ أستاذنا رَحمَه الله: ظَاهر مَا ذكر فِي الزِّيَادَات، والقدوري يدل على أَنه يبطل خِيَاره مُطلقًا. لَكِن لم يذكر هُنَاكَ هَذَا التَّفْصِيل. وَإِضَافَة أبي اللَّيْث رَحمَه الله هَذِه الرِّوَايَة إِلَى الْحسن بن زِيَاد يدل على أَن التَّفْصِيل، لَيْسَ فِي كتب مُحَمَّد - رَحمَه الله - وَهُوَ أحسن، وَبِه يُفْتى. وَإِذا استفتى عَن رجل اشْترى جَارِيَة بثمانمائة نَسِيئَة، فَحدث بهَا عيب عِنْد المُشْتَرِي، فَبَاعَهَا من البَائِع بستمائة قبل نقد الثّمن، ثمَّ ذهب الْعَيْب عَنْهَا، فَإِن أجَاب بِجَوَاز البيع، أَو فَسَاده، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن ذهب الْعَيْب قبل أَن يقبض البَائِع من المُشْتَرِي، بَطل البيع الثَّانِي، وَإِن ذهب الْعَيْب بَعْدَمَا قَبضه مِنْهُ، فَالْبيع جَائِز، لِأَن للقبض شبها للْعقد، فَصَارَ الذّهاب قبل الْقَبْض، كالذهاب قبل شِرَاء البَائِع من المُشْتَرِي. وَإِذا استفتى عَمَّن بَاعَ من رجل شَيْئا وزنيا، على أَن وَزنه كَذَا، فَوَجَدَهُ أَكثر من ذَلِك، مَا حَال البيع؟ وَالزِّيَادَة لمن تكون؟

فَإِن أجَاب أَن البيع جَائِز، أَو فَاسد، وَالزِّيَادَة للْبَائِع، أَو للْمُشْتَرِي، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن اشْتَرَاهُ بِغَيْر جنسه، فَالْبيع جَائِز، وَأما الزِّيَادَة، فَهِيَ على وَجْهَيْن: إِن كَانَ المُشْتَرِي شَيْئا فِي تنقيصه ضَرَر، نَحْو أَن يَشْتَرِي إبريق فضَّة بِعشْرَة دَنَانِير على أَن وَزنه مائَة دِرْهَم، أَو اشْترى قمقمة بِعشْرَة دَرَاهِم على أَن وَزنهَا ثَلَاثَة أُمَنَاء، فَإِذا هِيَ أَكثر، فَالزِّيَادَة للْمُشْتَرِي. وَإِن كَانَ شَيْئا لَيْسَ فِي تنقيصه ضَرَر، نَحْو أَن يَشْتَرِي نقرة فضَّة أَو صفر، أَو نُحَاس، غير مَعْمُول بِدِينَار، على أَنه كَذَا منا، فَإِذا هِيَ أَكثر، فَالزِّيَادَة للْبَائِع. وَإِن اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ فَهُوَ أَيْضا على وَجْهَيْن: إِن لم يكن فِي تَمْيِيزه ضَرَر، جَازَ البيع بِحِصَّتِهِ، نَحْو أَن يَشْتَرِي نقرة وَزنهَا مائَة بِمِائَة دِرْهَم فَوَجَدَهَا مِائَتَيْنِ، جَازَ البيع فِي النّصْف، وَبَطل فِي النّصْف الآخر. وَإِن اشْترى إبريق فضَّة وَزنه مائَة بِمِائَة، فَوَجَدَهُ مِائَتَيْنِ، فَإِن قَالَ: البيع فَاسد فِي الْكل، أَو فِي النّصْف، فَهُوَ خطأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن علم أَن وَزنه مِائَتَان قبل أَن يَتَفَرَّقَا، فَالْبيع بَاطِل فِي النّصْف جَائِز فِي النّصْف، وَهُوَ بالمختار. وَإِذا استفتى عَمَّن كَانَ لَهُ على آخر دين مائَة دِرْهَم، وَعِنْده لمديونه وَدِيعَة مِائَتَا دِرْهَم، فَقَالَ: جَعلتهَا قصاصا بديني، هَل يعْتَبر قصاصا؟ فَإِن أجَاب بِلَا، أَو بنعم فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَت الدَّرَاهِم فِي يَدَيْهِ، أَو قريبَة مِنْهُ يقدر على قبضهَا، جَازَ قصاصا. وَإِن كَانَت بِحَال لَا يُمكن أَخذهَا، وَلم تكن قريبَة مِنْهُ، لَا يصير قصاصا، مَال لم يدْفع إِلَيْهِ. قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة عَن مُحَمَّد رَحمَه الله، وَهِي مَعْرُوفَة: أَن قبض الْوَدِيعَة لَا يَنُوب عَن قبض الشِّرَاء.

وَإِذا استفتى عَن رجل لَهُ على رجلَيْنِ دين، فَأخذ من كل وَاحِد مِنْهُمَا خَمْسَة، وخلط بَعْضهَا بِبَعْض، ثمَّ وجد بعض الدَّرَاهِم نبهرجة، وكل وَاحِد مِنْهُمَا يُنكر أَن يكون النبهرجة ملكه، هَل لَهُ أَن يرد على أَحدهمَا؟ إِن أجَاب أَن لَهُ أَن يرد، أَو لَيْسَ لَهُ أَن يرد، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن وجد درهما أَو دِرْهَمَيْنِ إِلَى خَمْسَة نبهرجة، لَا يرد أصلا، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يَقُول: إِن الْجِيَاد دراهمي، فَلَيْسَ لَك عَليّ حق الرَّد أصلا. فَإِن وجد سِتَّة مِنْهَا نبهرجة، كَانَ لَهُ أَن يرد على كل وَاحِد مِنْهُمَا درهما، لأَنا تَيَقنا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا أعطَاهُ درهما نبهرجة، فَكَانَ لَهُ حق الرَّد على كل وَاحِد مِنْهُمَا قطعا. وَإِن وجد سَبْعَة، فعلى كل وَاحِد مِنْهُمَا دِرْهَمَيْنِ. وَإِن وجد ثَمَانِيَة، فعلى كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَلَاثَة دَرَاهِم. وَإِن وجد تِسْعَة، فعلى كل وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعَة، وَإِن كَانَ الْكل نبهرجة، رد كل وَاحِد مِنْهُمَا خَمْسَة. قلت لاستاذنا رَحمَه الله: يَنْبَغِي أَلا يكون الرَّد فِي هَذِه الْوُجُوه كلهَا أصلا على قَول أبي حنيفَة - رَحمَه الله - لِأَن خلط الدَّرَاهِم على وَجه يتَعَذَّر التَّمْيِيز اسْتِهْلَاك عِنْده، وَالرِّوَايَة المحفوظة: أَن من كَانَ لَهُ على آخر دَرَاهِم جِيَاد فَأَخذهَا مِنْهُ زُيُوفًا، فأنفقها فِي حَاجته أَو استهلكها، ثمَّ علم، لَيْسَ على مديونه شَيْء عِنْد أبي حنيفَة. وَأحد الرِّوَايَتَيْنِ عَن مُحَمَّد رَحمَه الله: لَهُ أَن يرد عَلَيْهِ مثل زيوفه، وَيرجع عَلَيْهِ بجياده، فَيَنْبَغِي أَلا يكون لَهُ حق الرَّد إِلَّا على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد - رحمهمَا الله - بِنَاء على أَن الْخَلْط لَيْسَ استهلاكا عِنْدهمَا، أَو بِنَاء على أَن إِنْفَاق الزُّيُوف واستهلاكها، لَا يسْقط حَقه فِي الْجَوْدَة، أما على قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله: لَا يرد أصلا، لما ذكرنَا من مذْهبه فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.

ثمَّ أجَاب فِي مجْلِس آخر فقد أحسن فِيمَا أجَاب - فَقَالَ: لَا بل هُنَاكَ يرد كَمَا ذكرنَا، لِأَن النبهرجة إِذا زَادَت على الْخَمْسَة، تَيَقنا أَنه اسْتحق كل وَاحِد مِنْهُمَا رد شَيْء من هَذِه النبهرجة بِقدر مَا ذكرنَا. فَلَو امْتنع الرَّد، إِنَّمَا يمْتَنع لكَون الْمَرْدُود على كل وَاحِد مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَشْكُوك، وَالثَّابِت بالمتيقن لَا يخْتل بِالشَّكِّ، بِخِلَاف مَا لَو أنْفق الْمَأْخُوذ، أَو أتْلفه لِأَن هُنَاكَ تَيَقنا أَن الَّذِي يرد عَلَيْهِ غير الْمَأْخُوذ مِنْهُ، فَجَاز أَن يمْتَنع حق الرَّد. وَإِذا استفتى عَمَّن دفع إِلَى رجل درهما وضحا، وَقَالَ: اشْتَرِ لي بِنصْف لَحْمًا، وبنصف دِرْهَم قطنا، وَلم يزدْ على هَذَا، فَكيف يصنع الْوَكِيل حَتَّى لَا يضمن؟ فَإِن أجَاب أَنه يكسر الدِّرْهَم فقد أَخطَأ، لِأَنَّهُ يصير ضَامِنا، فَإِن أجَاب أَنه يَشْتَرِي بالدرهم الوضح مكسرة، فقد أَخطَأ أَيْضا، لِأَنَّهُ غير مَأْمُور بِالتَّصَرُّفِ، فَيصير مُخَالفا ضَامِنا. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: لَا وَجه سوى أَن يَأْمر صَاحب الْقطن ليَشْتَرِي بِنَفسِهِ لَحْمًا بِنصْف دِرْهَم، أَو القصاب ليَشْتَرِي بِنَفسِهِ قطنا بِنصْف دِرْهَم، ثمَّ يَشْتَرِي الْوَكِيل مِنْهُ بدرهم. وَإِذا استفتى عَمَّن وكل رجلا بِأَن يَشْتَرِي لَهُ عبدا بِأَلف دِرْهَم، فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيل كَمَا أمره، لَكِن قَالَ عِنْد الشِّرَاء: اشْهَدُوا أَنِّي اشْتَرَيْته لنَفْسي. فَإِن أجَاب أَنه جَازَ شِرَاؤُهُ لنَفسِهِ، أَو لِلْأَمْرِ، أَو لم يجز شِرَاؤُهُ، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: لَو اشْتَرَاهُ بِمحضر من مُوكله كَانَ شِرَاؤُهُ لنَفسِهِ، وَإِن اشْتَرَاهُ فِي حَال غيبته، فَهُوَ للْآمِر، لِأَن الْوَكِيل لَا يملك عزل نَفسه بِدُونِ علم الْمُوكل، كالموكل لَا يملك عَزله بِدُونِ علمه، وَإِذا لم يَنْعَزِل بَقِي وَكيلا، وَالْوَكِيل بِالشِّرَاءِ مَحْجُور عَن الشِّرَاء لنَفسِهِ على الَّذِي وكل بِهِ. وَإِذا استفتى عَمَّن وكل رجلا بشرَاء عبد بِأَلف دِرْهَم، وَلم يدْفع إِلَيْهِ الثّمن، فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيل، وَقبض، وَأدّى الثّمن، ثمَّ لقى الْآمِر فِي غير الْمصر الَّذِي فِيهِ العَبْد، فَطلب مِنْهُ الثّمن، وأبى الْآمِر أَن يدْفع حَتَّى يدْفع الْمُثمن، فَإِن قَالَ: لَهُ

ذَلِك أَو لَيْسَ لَهُ ذَلِك، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ الْآمِر طلب قبل ذَلِك قبض العَبْد من الْمَأْمُور بِمحضر مِنْهُمَا، فَأبى الْمَأْمُور أَن يدْفع إِلَيْهِ حَتَّى يقبض الثّمن، فللآمر أَلا يدْفع الثّمن، مَا لم يحضر العَبْد ثمَّ يدْفع الثّمن لِأَن قبض الْوَكِيل كقبض الْآمِر مَا لم يحدث حبسا، وَلِهَذَا لَو هلك عِنْد الْوَكِيل بَعْدَمَا حَبسه بِالثّمن، يهْلك بِالثّمن، وَيسْقط الثّمن عَن الْآمِر عِنْدهمَا، وَعند أبي يُوسُف - رَحمَه الله - يهْلك هَلَاك الرَّهْن، حَتَّى لَو كَانَ ثمنه أَكثر من قِيمَته يرجع الْوَكِيل على مُوكله بِالْفَضْلِ، وَإِن لم يكن طلب مِنْهُ الْآمِر قبض العَبْد قبل ذَلِك، فَلَيْسَ للْآمِر أَن يمْتَنع عَن دفع الثّمن، لِأَنَّهُ لم يعرف حابسا، فَكَانَ يَده يَد الْمُوكل، فَصَارَ كَأَنَّهُ قبض العَبْد بِنَفسِهِ، وَلَو قبض بِنَفسِهِ لَيْسَ لَهُ أَن يمْتَنع عَن دفع الثّمن كَذَا هُنَا. فَلَو قيل: إِن الْوَكِيل لَو قبض العَبْد، فَذَهَبت عينه عِنْد الْوَكِيل، فَأبى الْآمِر أَن يَأْخُذهُ، فَإِن أجَاب أَن لَهُ ذَلِك، أَو لَيْسَ لَهُ ذَلِك، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ الْوَكِيل مَنعه من الْآمِر، ثمَّ ذهبت عينه، فَإِن شَاءَ الْآمِر أَخذه بِجَمِيعِ الثّمن، وَإِن شَاءَ تَركه، وَإِن كَانَ الْآمِر لم يَطْلُبهُ مِنْهُ، حَتَّى ذهبت عينه، فعلى الْآمِر أَن يَأْخُذهُ بِكُل الثّمن، من غير خِيَار لَهُ. إِذا سُئِلَ عَمَّن بَاعَ شَيْئا فِي السُّوق، فاستعان بِرَجُل من أهل السُّوق، فأعانه، ثمَّ طلب الرجل من البَائِع الْأجر هَل لَهُ ذَلِك؟ فَإِن أجَاب بِلَا، أَو بنعم، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: ينظر إِلَى أهل ذَلِك السُّوق، فَإِن كَانُوا لَا يعينون إِلَّا بِأَجْر، يقْضى للمعين بِأَجْر الْمثل فِيمَا أعَان، وَإِن كَانُوا يعينون بِغَيْر أجر فَلَا شَيْء لَهُ. وَكَذَا إِذا أعَان رجل آخر من أهل السُّوق رجلا فِي حانوته، فأعانه سَاعَة على بَيْعه وشرائه، وَالْمُعْتَبر فِي ذَلِك عَادَة كل أهل السُّوق. وَإِذا استفتى عَن أَرْبَعَة أجروا أنفسهم لحمل الْجِنَازَة إِلَى الْمقْبرَة، هَل تجوز الْإِجَارَة وَتجب الْأُجْرَة أم لَا؟ فَإِن أجَاب بِلَا، أَو بنعم فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن لم يُوجد لحمل الْجِنَازَة غَيرهم لَا تجوز الْإِجَارَة، لأَنهم حِينَئِذٍ تعينُوا لوُجُود إِقَامَة هَذِه الْحِسْبَة، فَلَا يسْتَحقُّونَ أجرا بِمُقَابلَة عمل مُسْتَحقّ عَلَيْهِم.

وَإِن وجد غَيرهم، جَازَت الْإِجَارَة، وَلَهُم الْأُجْرَة، لِأَن إِقَامَة هَذَا الْعَمَل لم يسْتَحق عَلَيْهِم حِينَئِذٍ، فَجَاز أَن يستحقوا الْأُجْرَة بِعَمَل لم يكن مُسْتَحقّا عَلَيْهِم، وَصَارَ هَذَا الْعَمَل بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم بعينهم بِمَنْزِلَة الْأَعْمَال الْمُبَاحَة، فَصحت إجارتهم. وَإِذا استفتى عَمَّن حمل دَقِيقًا إِلَى منزله، فاستأجر امْرَأَته ليخبزه هَل يجب الْأجر؟ فَإِن أجَاب بِلَا، أَو بنعم، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن أَرَادَ أَن تخبز للْبيع، فلهَا الْأجر، لِأَن ذَلِك غير مُسْتَحقّ عَلَيْهَا. وَإِن أَرَادَ لتخبز ليأكلوا مِنْهُ، لَا يجب الْأجر، لِأَن ذَلِك مُسْتَحقّ عَلَيْهَا عَادَة، كَذَا ذكر هُنَا. قلت لأستاذنا: هَل يجوز أَن يكون هَذَا بِنَاء على مَا اخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْث رَحمَه الله فِي الْمَنْكُوحَة والمعتدة إِذا أَبَت أَن تطبخ وتخبز هَل لَهَا ذَلِك؟ قَالَ: إِن كَانَت لَا تقدر على ذَلِك، أَو كَانَت من الْأَشْرَاف فلهَا ذَلِك، وعَلى الزَّوْج مئونة الْخبز والطبخ، وَإِذا كَانَت تقدر، وَهِي مِمَّن تخْدم نَفسهَا، تجبر على ذَلِك. هَذَا اخْتِيَار الْفَقِيه أبي اللَّيْث السَّمرقَنْدِي رَحمَه الله. وَذكر الْخصاف فِي النَّفَقَات: أَن على الزَّوْج أَن يَأْتِي بِمن يطْبخ ويخبز لَهَا، من غير فصل بَين الشَّرِيفَة والوضيعة. وَبِه أَخذ الْفَقِيه أَبُو بكر الْبَلْخِي. قَالَ أستاذنا رَحمَه الله، لَا بل يَنْبَغِي أَن يكون الْجَواب عِنْد الْكل كَمَا ذكره أَبُو اللَّيْث لِأَن الْخبز بِقدر مَا يَأْكُلُون فِي الْبَيْت مُسْتَحقّ عَلَيْهَا ديانَة، وَإِن لم يسْتَحق عَلَيْهَا حكما، وَذَلِكَ يمْنَع صِحَة الْإِجَارَة، كَمَا لَو اسْتَأْجرهَا لترضع وَلَدهَا مِنْهُ لَا يجوز، وَإِن لم يجب عَلَيْهَا الْإِرْضَاع حكما. وَإِذا استفتى عَمَّن أعْطى إِلَى الصّباغ ثوبا ليصبغه، فَجحد الصّباغ الثَّوْب، وَحلف ثمَّ جَاءَ بِهِ مصبوغا، هَل لَهُ الْأجر؟ فَإِن أجَاب بِلَا أَو بنعم، فقد أَخطَأ.

فصل في مسائل شتى

وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ صبغه قبل الْجُحُود يجب الْأجر، لِأَنَّهُ صبغها حَال قيام الْإِجَارَة بَينهمَا، وَأَن كَانَ صبغه بعد الْجُحُود، فَصَاحب الثَّوْب بِالْخِيَارِ، إِن شَاءَ أَخذ الثَّوْب، وَأَعْطَاهُ مَا زَاد الصَّبْغ فِيهِ، وَإِن شَاءَ تَركه عَلَيْهِ، وَضَمنَهُ قيمَة ثوب أَبيض، لِأَن عقد الْإِجَارَة بَينهمَا قد انْفَسَخ بالجحود، فَصَارَ كمن صبغ ثوب غَيره بِغَيْر إِذْنه، فَالْحكم فِيهِ مَعْلُوم. وَإِذا استفتى عَمَّن اسْتَأْجر رجلا ليحمل لَهُ حملا إِلَى مَوضِع مَعْلُوم، فَحمل إِلَى نصف الطَّرِيق ثمَّ تَركه الْمُقدر، كم يجب من الْأجر؟ إِن قَالَ: نصفه، أَو أقل، أَو أَكثر، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ الطَّرِيق كُله مستويا لم يكن فِي أحد النصفين شَيْء من ذَلِك، يقسم الْأجر على كل وَاحِد من النصفين، فَيلْزمهُ حِصَّة مَا حمل. وَعَن أبي يُوسُف - رَحمَه الله - أَنه يقسم على صعوبة الطَّرِيق وسهولته. فصل فِي مسَائِل شَتَّى أجر دَابَّة إِلَى مَوضِع مَعْلُوم بأَرْبعَة دَرَاهِم على أَن يرجع فِي يَوْمه ذَلِك، فَرجع بعد خَمْسَة أَيَّام، قَالَ: عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ، لِأَنَّهُ خَالف فِي الرُّجُوع، فَعَلَيهِ أجر الذّهاب خَاصَّة. وَإِذا استفتى عَن امْرَأَة وَجب قبلهَا حق لأحد، فَطلب إحضارها مجْلِس الحكم، وَهِي تأبى، هَل يُؤمر بإحضارها؟ فَإِن قَالَ: نعم، أَو لَا فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن ثَبت خُرُوجهَا إِلَى الْحمام، وَلم تكن مَرِيضَة، وَلَا نفسَاء، فَلَا بُد وَأَن تحضر بَاب الحكم إِذا تَوَجَّهت عَلَيْهَا الْيَمين، وَإِن كَانَت عفيفة لَا تخرج من بَيتهَا، يبْعَث إِلَيْهَا من يحلفها فِي مثواها وَلَا تخرج. وَذكر أَبُو يُوسُف - رَحمَه الله - أَن الْمَرْأَة تحلف فِي منزلهَا، من غير فصل.

وَإِذا استفتى عَمَّن ادّعى دَارا فِي يَد آخر، وَأقَام الْبَيِّنَة أَن الدَّار لَهُ، وَأقَام رجل آخر الْبَيِّنَة أَن الْبناء لَهُ، فَإِن أجَاب أَن الْبَيِّنَة مدعي الدَّار، أَو بَيِّنَة مدعي الْبناء، أَو يُؤْخَذ بالبينتين، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: يسْأَل القَاضِي شُهُود الدَّار كَيفَ يشْهدُونَ، فَإِن قَالُوا: نشْهد أَن الدَّار وَالْبناء كُله لهَذَا، فَإِن الأَرْض لَهُ، وَالْبناء بَينهمَا، لِأَن الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فِي حق الْبناء دون الدَّار، فَعمل بهَا بِقدر الْإِمْكَان، وَإِن قَالُوا: الأَرْض لَهُ وَلَا نَدْرِي لمن الْبناء، قضى لَهُ بِالْأَرْضِ، وَالْبناء لآخر، لِأَنَّهُ لَا تعَارض بَين الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَا أصلا، فَعمل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا من كل وَجه. وَإِذا استفتى عَن رجل سرق من رجلَيْنِ عشرَة دَرَاهِم، أَو من عشرَة أنفس من كل وَاحِد درهما، هَل يقطع؟ فَإِن أجَاب بِلَا، أَو بنعم ن فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن سرق من بَيت وَاحِد، بدفعة وَاحِدَة، فجَاء واكلهم وَادعوا يقطع. هَذِه الرِّوَايَة عَن مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله. وَإِذا استفتى عَن نهر غصبه غَاصِب، هَل يجوز لمن علم بِالْغَصْبِ أَن يتَوَضَّأ مِنْهُ؟ فَإِن قَالَ: نعم، أَو لَا، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَ النَّهر بعد فِي مَوْضِعه، لَا يكره أَن يتَوَضَّأ أَو يشرب مِنْهُ. وَلم يظْهر الْغَصْب فِي حق الْمُتَوَضِّئ والشارب بإجراء المَاء. قَالَ أَبُو اللَّيْث رَحمَه الله: هَذَا جَوَاب الْمَشَايِخ، وَلم يذكر عَن الْمُتَقَدِّمين. وَإِذا استفتى عَمَّن أَخذ أتان رجل من الْجَبانَة بِغَيْر إِذن صَاحبه، فَاسْتَعْملهُ، ثمَّ رده إِلَى الْجَبانَة، وَكَانَ مَعَ الْحمار جحش، فَأكل الذِّئْب الجحش، هَل يضمن؟ وَإِنَّمَا اسْتعْمل الأتان خَاصَّة؟ فَالْجَوَاب فِيهِ: أَنه إِن لم يتَعَرَّض للجحش شَيْء، غير أَنه سَاق الْأُم وانساق الجحش مَعهَا ذَاهِبًا وجائيا، فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ. وَإِن كَانَ سَاق الجحش أَيْضا، فَهُوَ ضَامِن قيمَة الجحش، هَكَذَا ذكر هَاهُنَا، وَفِيه نظر. فَإِنَّهُ لم يفعل فِي الجحش على سَبِيل الْمُبَاشرَة، لكنه مسبب مُتَعَدٍّ، وَهَذَا لِأَن سوق الجحش وَنَحْوه لَا

يكون إِلَّا على هَذَا الْوَجْه، لِأَنَّهُ لَا ينساق سوقه مَقْصُودا، وغصب كل شَيْء وسوقه مَا يَلِيق بِحَالهِ. قَالَ أستاذنا رَحمَه الله: يَنْبَغِي أَن يضمن قيمَة الجحش هُنَا، لِأَنَّهُ صَار غَاصبا وَإِن لم يفعل فِيهِ فعلا، أَلا ترى أَنهم قَالُوا: إِذا غصب عجولا، فاستهلكه حَتَّى يبس لبن أمه، يضمن قيمَة عجوله وَمَا نقص من الْبَقَرَة. قلت: هَذَا وَإِن كَانَ فِيهِ نظر لما ذكر، إِلَّا أَنه ذكر الناطفي - رَحمَه الله - فِي واقعاته: أَن من أَرَادَ سقِِي زرعه، فَمنع المَاء غَيره حَتَّى يبس الزَّرْع، لَا يضمن مَانع المَاء. فَيَنْبَغِي أَلا يضمن غَاصِب العجول نُقْصَان الْبَقَرَة هَا هُنَا أَيْضا، كَيفَ لَو كَانَ ذَلِك؟ فَالْفرق بَينهمَا وَاضح لِأَن الضَّمَان ضَمَان الْهَلَاك، وهلاك جُزْء من الْبَقَرَة مُضَاف إِلَى غَاصِب العجول، لِأَنَّهُ لم يُوجد فعل آخر يُمكن إِضَافَته إِلَيْهِ، وَلَا كَذَلِك فِي مَسْأَلَة الجحش لما ذكر أَنه لَا ينساق إِلَّا بسوق الْأُم، فَصَارَ سائق الْأُم سائق الجحش أَيْضا، فَيضمنهُ. وَإِذا استفتى عَمَّن ضرب بطن شَاة أَو بقرة لرجل، فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا، هَل يجب الضَّمَان عَلَيْهِ؟ فَإِن أجَاب بنعم، أَو بِلَا، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن لم تنتقص الشَّاة وَالْبَقَرَة لَا شَيْء فِي الْجَنِين، وَإِن انتقصت ضمن النُّقْصَان، وَهِي بِخِلَاف الْجَارِيَة. ذكر الطَّحَاوِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة فِي مُخْتَلف الحَدِيث، فِيمَن ضرب بطن جَارِيَة مَمْلُوكَة، فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا أَن عَلَيْهِ نُقْصَان الْأمة. وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: يلْزمه عشر قيمَة الْأُم. أما الْغرَّة فوجوبها فِي جَنِين الْحرَّة، هَكَذَا ذكر الْجَواب هَا هُنَا فِي جَنِين الْأمة عَن مُخْتَلف الحَدِيث. وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف - رَحمَه الله - وَظَاهر الْجَواب عشر الْقيمَة، وَهِي مَعْرُوفَة. وَإِذا استفتى عَمَّن أوصى بِأَن يُعْطي فلَان عشر نعاج من أغنامه وأغنامه حبالى فَولدت بعد ذَلِك، أيعطي مَعَ أَوْلَادهنَّ؟ فَإِن قَالَ: لَا، أَو نعم، فقد أَخطَأ.

يَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن كَانَت النعاج بِغَيْر أعيانها كَانَ الِاخْتِيَار للْوَرَثَة، يختارون مَا شَاءُوا، ويعطون إِلَيْهِ بِغَيْر أَوْلَاد، لِأَن مَحل حَقه إِنَّمَا يتَعَيَّن بِاخْتِيَار الْوَرَثَة، فَصَارَ كَأَن الْملك ثَبت فِيهِ حَالَة الِاخْتِيَار، وَحَالَة الِاخْتِيَار الْوَلَد مُنْفَصِلَة، فَلَا يسْتَحق اسْتِحْقَاق الْأُم، كَمَا لَو بَاعَ الْأُم لَا تدخل الْأَوْلَاد الْمُنْفَصِلَة فِي البيع، كَذَا هَذَا. وَإِن كَانَت النعاج بِأَعْيَانِهَا، فَهِيَ مَعَ أَوْلَادهَا إِن كَانَت تخرج من الثُّلُث، لِأَن مَحل الْوَصِيَّة معِين، فَثَبت ملك الْمُوصى لَهُ عِنْد الْمَوْت، من غير توقف على اختيارهم، وَالْولد مُتَّصِل بِالْأُمِّ حِينَئِذٍ، فَاسْتحقَّ بِاسْتِحْقَاق الْأُم، كمن بَاعَ الْأُم والجنين فِي بَطنهَا، يدْخل تَحت البيع هَكَذَا هُنَا. وَإِذا سُئِلَ عَمَّن تزوج أم ولد إِنْسَان بِغَيْر إِذن مَوْلَاهَا، ثمَّ أعتقت أَيجوزُ النِّكَاح أم لَا؟ فَإِن قَالَ: نعم، أَو لَا، فقد أَخطَأ. وَلَكِن يفصل فَيَقُول: إِن دخل بهَا الزَّوْج قبل إِعْتَاق الْمولى، جَازَ، لِأَنَّهُ لم يجب عَلَيْهَا الْعدة. وَإِن لم يدْخل، لم يجز، لِأَنَّهُ وَجَبت عَلَيْهَا الْعدة من الْمولى حِين أعْتقهَا، فَلَا ينفذ النِّكَاح فِي الْعدة. وَإِذا سُئِلَ عَمَّن بَاعَ عَبْدَيْنِ: أَحدهمَا لَهُ، وَالْآخر لغيره صَفْقَة وَاحِدَة، بِغَيْر إِذن الْغَيْر، أَيجوزُ البيع أم لَا؟ وَهل للْمُشْتَرِي الْخِيَار أم لَا؟ فَإِن قَالَ: لَا، أَو نعم، فقد أَخطَأ. وَيَنْبَغِي أَن يَقُول: إِن أجَاز الْمولى الآخر: جَازَ البيع فيهمَا. وَإِن لم يجز: فَإِن كَانَ المُشْتَرِي علم وَقت الشِّرَاء بذلك، لزمَه البيع فِي الْوَاحِد بِحِصَّتِهِ. وَإِن لم يعلم بذلك إِلَّا بعد البيع، إِن علم قبل الْقَبْض، فَلهُ أَن ينْقض البيع، وَإِن علم بعد قبضهما لزمَه عبد البَائِع بِحِصَّتِهِ. وَإِذا سُئِلَ عَن رجل تزوج بخالة خَالَته، يَنْبَغِي أَن يُقَال: إِن كَانَت الْخَالَة لأمه، أَو لِأَبِيهِ وَأمه، لم يجز. وَإِن كَانَت لِأَبِيهِ، جَازَ، لِأَنَّهُ لَا قرَابَة بَينهمَا.

وَلَو سُئِلَ عَمَّن تزوج بعمة عمته، يُقَال لَهُ: إِن كَانَت الْعمة لِأَبِيهِ أَو لِأَبِيهِ وَأمه، لم يجز. وَإِن كَانَت لأمه جَازَ. وَإِذا سُئِلَ عَن رجل زوج أمه وأختيه من آخر فِي عقدَة، وَأفْتى الْفُقَهَاء بِالْجَوَازِ، كَيفَ يكون؟ يَقُول: صورتهَا: جَارِيَة بَين اثْنَيْنِ جَاءَت بِولد، فادعياه، فَهُوَ ابنهما، فَإِن كبر الْغُلَام، وَله أُخْت من هَذَا الْأَب، وَأُخْت من هَذَا الْأَب، كلتاهما من غير أمه، فزوج الْأُخْتَيْنِ وَالأُم من رجل وَاحِد بعد موت أَبِيه، حكم بِالْجَوَازِ، لِأَنَّهُ لَا قرَابَة بَينهُنَّ. وَإِذا سُئِلَ عَن رجل خرج تَاجِرًا، وَترك امْرَأَته فِي الْمنزل، فورد عَلَيْهِ كتاب امْرَأَته أَنِّي قد تزوجت آخر، فَابْعَثْ إِلَى كل شهر شَيْئا للنَّفَقَة، كَيفَ تكون هَذِه الْمَسْأَلَة؟ قل: هَذَا رجل كَانَت امْرَأَته بِنْتا لمَوْلَاهُ، فَمَاتَ مَوْلَاهُ، فورثته، وَبَطل النِّكَاح، فَكتبت إِلَيْهِ، وَهُوَ عَبدهَا: أَن ابْعَثْ إِلَى النَّفَقَة. وَالله أعلم

الباب العاشر

الْبَاب الْعَاشِر فِي الْمسَائِل المتفرقة الْأَدَب فِي غسل الْأَيْدِي قبل الطَّعَام: أَن يبْدَأ بالشباب، ثمَّ بالشيوخ، وَإِذا غسل لَا يمسح بالمنديل، لَكِن يتْرك ليجف، ليَكُون أثر الْغسْل بَاقِيا وَقت الْأكل. وَالْأَدب فِي الْغسْل بعد الطَّعَام أَن يبْدَأ بالشيوخ، وَيمْسَح يَده بالمنديل ليَكُون أثر الطَّعَام زائلا بِالْكُلِّيَّةِ، وَالسّنة أَن يغسل الْأَيْدِي قبل الطَّعَام وَبعده. يسْتَحبّ حلق الرَّأْس فِي كل جُمُعَة مرّة، وَلَا ينتف أَنفه، لِأَنَّهُ يُورث الْأكلَة، بل يقصه قصا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " قلموا أظفاركم فِي كل عشر، واحلقوا الْعَانَة فِي كل عشْرين، وانتفوا الْإِبِط فِي كل أَرْبَعِينَ، وقصوا شعر الْأنف فِي كل شهر، واغسلوا ثيابكم فِي كل شهر ". وَورد فِي الْخَبَر: " أَن الرجل إِذا قلم أظافيره يَوْم السبت وَقعت الْأكلَة فِي أَصَابِعه، وَمن قلم يَوْم الْأَحَد ذهبت الْبركَة من كَسبه، وَمن قلم يَوْم الِاثْنَيْنِ صَار كَاتبا وحافظا، وَمن قلم يَوْم الثُّلَاثَاء يخَاف عَلَيْهِ الْهَلَاك، وَمن قلم يَوْم الْأَرْبَعَاء صَار سيء الْخلق، وَمن قلم يَوْم الْخَمِيس يخرج مِنْهُ الدَّاء، وَيدخل فِيهِ الشِّفَاء،

وَمن قلم يَوْم الْجُمُعَة يُزَاد فِي عمره وَمَاله، وَيكون أَمَانًا من الجذام ". فِي معنى الْخَبَر شعر الشَّيْخ شمس الدّين بن الْجَزرِي رَحمَه الله: // (الْبَسِيط) // (بقص أَظْفَاره فِي السبت أَكلَة ... تبدو، وَفِيمَا يَلِيهِ تذْهب البركه) (وكاتبا عَالما يبْقى بتلوهما ... وَإِن يكن فِي الثلاثا فاحذر الهلكه) (وَيُورث السوء فِي الْأَخْلَاق رَابِعهَا ... وَفِي الْخَمِيس خُرُوج الدا لذِي الحركه) (والعمر وَالْمَال زيدا فِي عروبتها ... عَن الرَّسُول روينَا فاقتفوا نُسكه) . فَائِدَة فِي كَيْفيَّة تَرْتِيب قلم الْأَظْفَار: اقلم لسنة وأدب يمنى ثمَّ يسرى خوابس أَو خسب.

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " حق على كل مُسلم: الْغسْل يَوْم الْجُمُعَة، والسواك، وَالطّيب ". رجل لَهُ عبد مَرِيض لَا يَسْتَطِيع أَن يتَوَضَّأ، يجب على مَوْلَاهُ أَن يوضئه، فرق بَين هَذَا، وَبَين الْمَرْأَة الْمَرِيضَة، حَيْثُ لَا يجب على الزَّوْج التعاهد، وَالْفرق: أَن المعاهدة هَا هُنَا إصْلَاح ملكه، وَإِصْلَاح الْملك على الْمَالِك فَأَما الْمَرْأَة حرَّة، فإصلاحها عَلَيْهَا. ثَلَاث مسَائِل مِمَّا يحفظ عَلَيْهَا: مِنْهَا: لَو تَوَضَّأ ثمَّ رأى مَاء أَو بللا سَائِلًا من ذكره، أعَاد الْوضُوء، وَإِن كَانَ يرِيبهُ الشَّيْطَان ذَلِك كثيرا، أَو لم يعلم أَنه بَوْل أم لَا، مضى على صلَاته، وَأولى أَن ينفض فرجه بِالْمَاءِ إِذا تَوَضَّأ، دفعا للوسوسة عَن نَفسه. وَمِنْهَا: إِذا شكّ فِي طَلَاق امْرَأَته، فَهِيَ امْرَأَته، وَتحل لَهُ، وَلَا يعْزل عَنْهَا للِاحْتِيَاط. وَمِنْهَا: إِذا شكّ فِي عتق أمته، فَهِيَ أمته، وَتحل لَهُ. وَمِنْهَا: إِذا شكّ فِي نَجَاسَة المَاء، فَإِنَّهُ يجوز اسْتِعْمَاله. المكعب إِذا كَانَ أَسْفَله نجسا، فَنَزَعَهُ، وَقَامَ عَلَيْهِ، جَازَت الصَّلَاة عِنْد مُحَمَّد - رَحمَه الله - وكما يفعل النَّاس فِي صَلَاة الْجِنَازَة، وَلَو قَامَ على نَجَاسَة، لَا تجوز صلَاته. إِذا لبس المكعب، وَلَا يرى من كَعبه إِلَّا قدر أصْبع أَو أصبعين، جَازَ الْمسْح عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْخُف.

صَاحب الْجرْح السَّائِل، إِذا منع الْجرْح من السيلان بعلاج، يخرج من أَن يكون صَاحب جرح سَائل. فرق بَين هَذَا وَبَين الْحَائِض، فَإِنَّهَا إِذا حبست الدَّم عَن الدرور لَا يخرج من أَن تكون حَائِضًا. وَالْفرق وَهُوَ أَن الْقيَاس أَن يخرج من أَن يكون حَائِضًا، لِانْعِدَامِ دم الْحيض حَقِيقَة، كَمَا خرج هُوَ من أَن يكون صَاحب الْجرْح السَّائِل، إِلَّا أَن الشَّرْع اعْتبر دم الْحيض كالخارج، حَيْثُ جعلهَا حَائِضًا، وَلم يعْتَبر فِي حق صَاحب الْجرْح السَّائِل، فعلى هَذَا، المقتصد لَا يكون صَاحب جرح سَائل. المَاء الْجَارِي إِذا سد من فَوق، فَتَوَضَّأ إِنْسَان بِمَاء يجْرِي فِي النَّهر، وَقد بقى جري المَاء، كَانَ جَائِزا، لِأَن هَذَا مَاء جَار. رجل اسْتَأْجر أَجِيرا لغسل الْمَيِّت، لَا أجر لَهُ، وَلَو اسْتَأْجر لحمل الْمَيِّت، أَو لحفر الْقَبْر، أَو لدفنه، يجب لِأَن الأول مَا يحتسبه النَّاس، وَالثَّانِي لَا. وَفِي صَلَاة الْجِنَازَة إِذا لم يعرف أَن الْمَيِّت ذكر أَو أُنْثَى، يَقُول: نَوَيْت أَن أُصَلِّي مَعَ الإِمَام الصَّلَاة على الْمَيِّت الَّذِي يصلى عَلَيْهِ. تطيين الْقُبُور لَا بَأْس بِهِ خلافًا لما قَالَه الْكَرْخِي فِي مُخْتَصره، لِأَن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- طين قبر ابْنه إِبْرَاهِيم فشيده، وَقَالَ: " من عمل عملا فليتقنه " رجل صلى على بِسَاط، وَفِي أحد طَرفَيْهِ نَجَاسَة، يُصَلِّي على الْجَانِب الآخر، جَازَ سَوَاء تحرّك الطّرف الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَة بتحرك الْمُصَلِّي، أَو لم يَتَحَرَّك، لِأَنَّهُ صَار بِمَنْزِلَة الأَرْض، فَلَا يصير هُوَ مُسْتَعْملا للنجس، هَكَذَا اخْتَار الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر رَحمَه الله. وَقَالَ أَيْضا: إِنَّمَا تعْتَبر الْحَرَكَة إِذا كَانَ لابسا للثوب، كالمنديل والملاءة. قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام إِن لم يرفع صَوته لَا يكره، وَلَا بَأْس بالتسبيح والتهليل رَافعا صَوته.

قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد الْقُبُور لم يكره عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله، وَبِه يُفْتى. قِرَاءَة الْأَشْعَار إِن لم يكن فِيهَا ذكر الْعِشْق والغلام وَالْخمر لم يكره. رجل يقْرَأ الْقُرْآن كُله فِي يَوْم وَاحِد، وَالْآخر يقْرَأ {قل هُوَ الله أحد} خَمْسَة آلَاف مرّة، فَإِن كَانَ هَذَا قَارِئ الْقُرْآن، فقراءة الْقُرْآن أفضل، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي ختم الْقُرْآن مَا لم يَجِيء فِي غَيره. إِذا أَرَادَ إِنْسَان ختم الْقُرْآن قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك، رَحمَه الله: يُعجبنِي أَن يخْتم فِي الصَّيف أول النَّهَار، وَفِي الشتَاء أول اللَّيْل، لِأَنَّهُ إِذا ختم أول النَّهَار، فالملائكة تصلي عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي، وَإِذا ختم أول اللَّيْل، فالملائكة تصلي عَلَيْهِ حَتَّى يصبح. إِذا كَانَ تعلم بعض الْقُرْآن، وَلم يتَعَلَّم الْكل، فَإِذا وجد فراغا، كَانَ تعلم الْقُرْآن أفضل من صَلَاة التَّطَوُّع، لِأَن حفظ الْقُرْآن للْأمة فرض، وَتعلم الْفِقْه أفضل من ذَلِك، لِأَن تعلم جَمِيع الْقُرْآن فرض كِفَايَة، وَتعلم مَا لَا بُد مِنْهُ من الْفِقْه فرض عين والاشتغال بِفَرْض الْعين أولى، وَلِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْعلم الْأَثر أَن مذاكرة سَاعَة خير من إحْيَاء لَيْلَة. الْقِرَاءَة فِي الْحَضَر فِي الصَّلَاة على أَقسَام: قسم يتَعَلَّق بِهِ الْجَوَاز، وَقسم يخرج بِهِ عَن حد الْكَرَاهِيَة، وَقسم يدْخل بِهِ فِي الِاسْتِحْبَاب: أما الأول: لَو قَرَأَ آيَة قَصِيرَة، وَلم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب، جَازَ فِي قَول أبي حنيفَة - رَحمَه الله - وَيكرهُ، وَعِنْدَهُمَا: لَا يجوز، وَلَو قَرَأَ الْفَاتِحَة، وَمَعَهَا سُورَة، أَو ثَلَاث آيَات قصار، أَو آيَة طَوِيلَة، جَازَ من غير كَرَاهِيَة. وَالْمُسْتَحب فِي الْفجْر فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَرْبَعُونَ آيَة، سوى فَاتِحَة الْكتاب.

فِي " تَرْتِيب السّنَن ": قَالَ الْحلْوانِي رَحمَه الله: أقوى السّنَن رَكعَتَا الْفجْر، ثمَّ سنة الْمغرب، فَإِن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - لم يدعهما فِي سفر، وَلَا فِي حضر، ثمَّ الَّتِي بعد الظّهْر، فَإِنَّهَا سنة مُتَّفق عَلَيْهَا، وَفِي الَّتِي قبله مُخْتَلف فِيهَا، قيل: هِيَ للفصل بَين الآذان وَالْإِقَامَة، ثمَّ الَّتِي بعد الْعشَاء، ثمَّ الَّتِي قبل الظّهْر، ثمَّ الَّتِي قبل الْعَصْر، ثمَّ الَّتِي قبل الْعشَاء، وَاخْتلف فِي أقواها بعد رَكْعَتي الْفجْر. وَقيل: الَّتِي قبل الظّهْر، وَالَّتِي بعْدهَا، وَالَّتِي بعد الْمغرب، كلهَا سَوَاء. بل الَّتِي قبل الظّهْر آكِد، وَهُوَ الْأَصَح. وَلَو كَانَ فِي السّنة قبل الظّهْر، فأقيم، أَو الْجُمُعَة، فَخَطب، يقطع على رَأس الرَّكْعَتَيْنِ، لِأَنَّهَا نوافل سنة. وَقيل: يُتمهَا أَرْبعا، لِأَن الْأَرْبَع قبل الظّهْر بِمَنْزِلَة صَلَاة وَاحِدَة، لفضل تأكدها، بِدلَالَة أَن المخيرة فِي الشفع الأولى، والمخيرة فِي الشُّفْعَة فِيهِ لَو أكملاها أَرْبعا لم يبطل عَنْهَا الْخِيَار وَالشُّفْعَة، وَكَذَلِكَ لَا يَصح الْخلْوَة مَعهَا، بِخِلَاف غَيرهَا من التطوعات فِي ذَوَات الْأَرْبَع. دُخُول الْمَسْجِد بنية الْفَرْض أَو الِاقْتِدَاء يَنُوب عَن تَحِيَّة الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا يُؤمر بِتَحِيَّة الْمَسْجِد، إِذا دخله لغير الصَّلَاة. لَو تكلم بعد السّنة هَل يسْقط السّنة؟ قيل: يسْقط. وَقيل: لَا يسْقط، وَلَكِن ثَوَابه أنقص من ثَوَابه قبل التَّكَلُّم. إِذا قَرَأَ الرجل فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ من الظّهْر الْفَاتِحَة وَالسورَة سَاهِيا، لَا يجب عَلَيْهِ سُجُود السَّهْو، وَهُوَ الْمُخْتَار، لِأَن مُحَمَّدًا - رَحمَه الله - قَالَ فِي الْكتاب: إِن شَاءَ قَرَأَ، وَإِن شَاءَ سبح، وَإِن شَاءَ سكت وَالْقِرَاءَة أفضل، وَلم يعين الْفَاتِحَة وَحدهَا.

فرغ من الْفَاتِحَة، وتفكر ساكتا أَي سُورَة يقْرَأ مِقْدَار ركن، يلْزمه السَّهْو. وَلَو ترك الْجَهْر فِي الْوتر أَو التَّرَاوِيح يلْزمه السَّهْو. وَلَو قرا الْفَاتِحَة فِي خلال الْقُنُوت، أَو سلم سَاهِيا، لَا سَهْو عَلَيْهِ. رجل جَاءَ إِلَى الإِمَام وَهُوَ رَاكِع، فَكبر الرجل، وَهُوَ إِلَى الرُّكُوع أقرب فَصلَاته فَاسِدَة، لِأَنَّهُ لم يُوجد الِافْتِتَاح قَائِما. صَاحب الْبَيْت أولى بِالْإِمَامَةِ من غَيره، وَالْمُسْتَأْجر من الْآجر. تشهد قبل إِمَامه، فَتكلم، أَو ذهب، جَازَت صلَاته. الْمُعْتَبر فِي ضيق الْوَقْت: الْوَقْت الْمُسْتَحبّ، وَالْمُعْتَبر فِي غيبوبة الشَّفق: الشَّفق الَّذِي فِي جَانب الْمغرب. إِذا كَانَ الْمصلى مقتديا، قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: لَا يقنت لِأَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - اخْتلفُوا فِي الْقُنُوت أَنه من الْقُرْآن، والمقتدي كَانَ لَا يقْرَأ الْقُرْآن، فَلَا يقْرَأ مَاله شبه الْقُرْآن، وَإِن كَانَ إِمَامًا يجْهر، وَإِن كَانَ مُنْفَردا فَلهُ الْخِيَار فِي الْجَهْر والإخفات. وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: يقْرَأ الْمُقْتَدِي الْقُنُوت، ويخافته الإِمَام وَالْمُنْفَرد، لِأَنَّهُ دُعَاء حَقِيقَة، وَهُوَ الْمُخْتَار. وَإِذا لم يحسن الْقُنُوت يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لي ثَلَاثًا، وَقيل: يَقُول: اللَّهُمَّ رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، وقنا عَذَاب النَّار وَلَو نسى الْقُنُوت فَتذكر فِي الرُّكُوع، فَالصَّحِيح أَنه لَا يعود إِلَى الْقيام، وَلَو عَاد لَا تفْسد صلَاته. نسى الصُّورَة فَرَكَعَ، ثمَّ رفع رَأسه وَقَرَأَ السُّورَة، انْتقض رُكُوعه حَتَّى لَو لم يعد الرُّكُوع تفْسد صلَاته.

دعاء القنوت

دُعَاء الْقُنُوت " اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك، ونستغفرك، ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عَلَيْك، ونثني عَلَيْك، ونشكرك، وَلَا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللَّهُمَّ إياك نعْبد، وَلَك نصلي ونسجد، وَإِلَيْك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إِن عذابك بالكفار مُلْحق:. وَالْأولَى أَن يَأْتِي بعد الْقُنُوت بِمَا علم رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ " اللَّهُمَّ اهدنا فِيمَن هديت، وَعَافنَا فِيمَن عافيت، وتولنا فِيمَن توليت، وَبَارك لنا فِيمَا أَعْطَيْت، وقنا رَبنَا شَرّ مَا قضيت، إِنَّك تقضي وَلَا يقْضى عَلَيْك، إِنَّه لَا يذل من واليت، وَلَا يعز من عاديت، تَبَارَكت رَبنَا وَتَعَالَيْت، فلك الْحَمد على مَا قضيت وهديت، نستغفرك اللَّهُمَّ رَبنَا ونتوب إِلَيْك، صل على مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي بِهِ من النَّار نجيت، وَإِلَى الْجنَّة هديت، وارحمنا يَوْم الْوُقُوف بَين يَديك، وَقل: رب اغْفِر وَارْحَمْ، وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ ". فصل وَلَو بَاعَ عقارا وَابْنه أَو امْرَأَته حَاضر، وَتصرف المُشْتَرِي فِيهِ زَمَانا، ثمَّ ادّعى الابْن أَنه ملكه وَلم يكن ملك أَبِيه، اتّفق مَشَايِخنَا: أَنه لَا يسمع مثل هَذِه الدَّعْوَى، وحضوره عِنْد البيع، وَترك منازعته فِيمَا يصنع، إِقْرَار مِنْهُ بِأَنَّهُ ملك البَائِع.

بَاعَ ضَيْعَة ثمَّ قَالَ: إِنَّه كَانَ وَقفا عَلَيْهِ وعَلى أَوْلَاده، لَا تسمع دَعْوَاهُ وَلَا تقبل بَينته، وَلَيْسَ لَهُ أَن يحلف الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، لمَكَان التَّنَاقُض. أنكر الرجل النِّكَاح، ثمَّ ادّعى تَزْوِيجهَا، وَأقَام بَيِّنَة، تقبل، وَلَو أنكر الشِّرَاء، ثمَّ ادَّعَاهُ، لَا تقبل بَينته، أَلا يرى لَو ادّعى أَنه تزوج هَذِه الْمَرْأَة على ألف، وَأنْكرت الْمَرْأَة ذَلِك، فَأَقَامَ بَيِّنَة أَنه تزَوجهَا على الفين يقبل، وَيكون ذَلِك مهْرا لَهَا، وَلَو كَانَ هَذَا فِي البيع، لم تقبل بَينته. أَقَامَ أَحدهمَا على الْإِرْث الْبَيِّنَة، وَالْآخر على الْملك الْمُطلق، يقْضى بَينهمَا نِصْفَانِ. أَقَامَ أَحدهمَا الْبَيِّنَة على الْإِرْث، وَالْآخر على التَّمَلُّك من مورث مدعي الْإِرْث بِسَبَب صَحِيح، قضى بالتمليك. اقتسم الْوَرَثَة - لَا بِأَمْر القَاضِي - وَمِنْهُم صَغِير، أَو غَائِب، لَا تنفذ إِلَّا بِإِجَازَة الْغَائِب، أَو وصّى الصَّبِي، أَو يُجِيز الصَّبِي إِذا بلغ، وَلَو مَاتَ الصَّبِي أَو الْغَائِب، فأجازت ورثته، نفذت الْقِسْمَة عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف - رحمهمَا الله - خلافًا لمُحَمد رَحمَه الله. اقتسم الشُّرَكَاء فِيمَا بَينهم، وَمِنْهُم شريك صَغِير، أَو غَائِب، لَا تصح الْقِسْمَة، فَإِن أَمرهم القَاضِي بذلك صَحَّ. إِذا كَانَ الْمكيل، أَو الْمَوْزُون، بَين حَاضر وغائب، أَو بَالغ وصغير، فَأخذ الْحَاضِر أَو الْبَالِغ نصِيبه، فَإِنَّمَا ينفذ قسمته من غير خصم، بِشَرْط سَلامَة نصيب الْغَائِب أَو الصَّغِير، حَتَّى لَو هلك مَا بَقِي قبل أَن يصل إِلَى الْغَائِب، فالهلاك عَلَيْهِمَا.

صبرَة مُشْتَركَة بَين الدهْقَان والمزارع، فَقَالَ الدهْقَان للمزارع: اقسمها، وافرز نَصِيبي، فقسم الْمزَارِع حَال غيبَة الدهْقَان، فَحمل نصيب الدهْقَان إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِذا هلك مَا أفرزه لنَفسِهِ، فالهلاك عَلَيْهِمَا وَإِن قسم الصُّبْرَة، وأفرز نصيب الدهْقَان، وَحمل نصيب نَفسه إِلَى بَيته أَولا، فَلَمَّا رَجَعَ إِذا هلك مَا أفرزه الدهْقَان، فالهلاك على الدهْقَان خَاصَّة. صَالح عَن مائَة دِينَار على خَمْسَة دَنَانِير، إِن كَانَت الدَّنَانِير قَائِمَة فِي يَد الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، أَو هُوَ مقرّ لم يَصح، وَإِن كَانَت هالكة، أَو كَانَ مُنْكرا، صَحَّ. ادّعى أَرضًا فَصَالح على الْبَعْض مِنْهَا، لم تبطل الْخُصُومَة فِي الْبَاقِي. الْأَب إِذا بَاعَ ضَيْعَة أَو عقارا لِابْنِهِ الصَّغِير بِمثل الْقيمَة، فَإِن كَانَ الْأَب مَحْمُودًا عِنْد النَّاس، أَو مَسْتُورا، يجوز حَتَّى لَو كبر الابْن لم يكن لَهُ أَن ينْقض، وَإِن كَانَ فَاسِدا، لَا يجوز، حَتَّى إِن الابْن إِذا كبر فَلهُ أَن ينْقض وَهُوَ الْمُخْتَار، إِلَّا أَن يكون خيرا للصَّغِير، لِأَن شَفَقَة الْأَب كَامِلَة، وَلم يُعَارض ذَلِك معنى آخر، فَلم يكن فِي هَذَا البيع ضَرَر. وَإِن بَاعَ الْوَصِيّ ضَيْعَة أَو عقارا بِمثل الْقيمَة للصَّغِير، فِي ظَاهر الْمذَاهب يجوز. قَالَ شيخ الْأَئِمَّة الْحلْوانِي رَحمَه الله: هَذَا جَوَاب السّلف، أما جَوَاب الْمُتَأَخِّرين: أَنه إِنَّمَا يجوز بِأحد شُرُوط ثَلَاثَة: إِمَّا بِأَن يرغب المُشْتَرِي فِيهَا بِضعْف قيمتهَا، أَو بالصغير حَاجَة إِلَى ثمنهَا، أَو بِأَن يكون على الْمَيِّت دين لَا وَفَاء لَهُ بهَا وَبِه يُفْتِي. أما إِذا كَانَ مَال الصَّغِير مَنْقُولًا فَكَذَلِك، إِلَّا أَن فِيهَا إِذا كَانَ الْأَب مُفْسِدا، رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَة يجوز، وَيُؤْخَذ الثّمن مِنْهُ، وَيُوضَع على يَدي عدل وَفِي رِوَايَة لَا يجوز، إِلَّا إِذا كَانَ خيرا للصَّغِير، وَهُوَ الْمُخْتَار، وَتَفْسِير الْخَبَر أَن يَبِيع بِضعْف الْقيمَة. دَار بَين اثْنَيْنِ انْهَدَمت، وَطلب أَحدهمَا من صَاحبه أَن يعمرها فَأبى، لَا يجْبر

عَلَيْهِ، وَلَو بنى الطَّالِب لَا يكون مُتَبَرعا، وَيَأْخُذ حِصَّته مِنْهُ، أَو يَأْخُذ من أجرته. وَلَو كَانَ زرع بَين اثْنَيْنِ فَأبى أَحدهمَا أَن يسْقِيه يجْبر عَلَيْهِ، وَلَو سقى يكون مُتَبَرعا. الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير لَا يتعينان فِي عُقُود الْمُعَاوضَة وفسوخها - وَإِن عينتا - وتتعينان فِي غير عُقُود الْمُعَاوضَة كالموهوبة، حَتَّى إِذا هَلَكت بَطل رُجُوع الْوَاهِب فِيهَا، وَكَذَا فِي الْمَغْصُوبَة حَتَّى إِذا أَرَادَ الْغَاصِب رد مثلهَا مَعَ قيام عينهَا لَا يجوز، وكالصدقة، وَالشَّرِكَة، وَالْمُضَاربَة، وَالْوكَالَة، فَإِن الدَّرَاهِم الْمسلمَة إِلَى الْوَكِيل، إِذا عينهَا الْمُوكل فَهَلَكت، يَنْعَزِل عَن الْوكَالَة، وَلَو هَلَكت بعد البيع - قبل التَّسْلِيم - يَنْفَسِخ البيع، وَلَا يبْقى الْوَكِيل مطالبا بِتَسْلِيم مثلهَا، وَفِي الْمُعَاوَضَات الْفَاسِدَة، لَا يتعينان فِي رِوَايَة، وَفِي رِوَايَة يتعينان. للشَّيْخ رشيد الدّين فِي الْإِكْرَاه: // (الطَّوِيل) //

(عتاق، نِكَاح، وَالطَّلَاق، ورجعة ... وعفو قصاص، وَالْيَمِين، كَذَا النّذر)

(ظِهَار، وإيلاء، وفئ فَهَذِهِ ... تصح مَعَ الْإِكْرَاه، عدتهَا عشر) رجل لَهُ خصم، فَمَاتَ وَلَا وَارِث لَهُ، يتَصَدَّق عَن صَاحب الْحق للْفُقَرَاء بِمِقْدَار ذَلِك ليَكُون وَدِيعَة عِنْد الله تَعَالَى، فيوصله إِلَى غُرَمَائه.

امْرَأَة غَابَ عَنْهَا زَوجهَا، فجَاء رجل بِخَبَر مَوته، ورجلان بحياته، فَإِن كَانَ الَّذِي أخبر بِمَوْتِهِ أَنه عاين مَوته، وَشهد جنَازَته، وَكَانَ عدلا وسعهَا أَن تَعْتَد، وتتزوج، لِأَن الَّذِي شهد بِمَوْتِهِ عرف شَيْئا لم يعرفهُ شَاهد الْحَيَاة. هَذَا إِذا لم يؤرخ شَاهدا الْحَيَاة، فَأَما إِذا ارخا بتاريخ بعد تَارِيخ شَاهد الْمَوْت، فشهادتهما أولى، لِأَنَّهُمَا أثبتا الْحَيَاة فِي زمَان لم يثبت شَاهد الْمَوْت. رجل قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق عدد مَا فِي هَذَا الْحَوْض من السّمك، وَلَيْسَ فِي الْحَوْض سمك، يَقع وَاحِدَة. وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: أَنْت طَالِق بِعَدَد كل شَعْرَة على جَسَد إِبْلِيس، يَقع وَاحِدَة، وَلَا يَقع أَكثر من ذَلِك، حَتَّى يعلم أَن على جَسَد إِبْلِيس شعرًا أم لَا؟ لِأَنَّهُ إِذا لم يكن فِي الْحَوْض سمك، وَلَا على جَسَد إِبْلِيس شعر، لم يَقع على عدد السّمك، وَالشعر، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت طَالِق، وَلم يزدْ عَلَيْهِ. رجل خطب امْرَأَة وَهِي فِي منزل زوج أُخْتهَا، فَأبى زوج أُخْتهَا مَا لم يؤد الْخَاطِب إِلَيْهِ دَرَاهِم مُسَمَّاة، فَأدى الْخَاطِب، وَتزَوج هَذِه الْمَرْأَة كَانَ لَهُ أَن يسْتَردّ تِلْكَ الدَّرَاهِم، لِأَنَّهُ رشوة. أنْفق على مُعْتَدَّة الْغَيْر على طمع أَن يَتَزَوَّجهَا بعد عدتهَا، فَأَبت أَن يَتَزَوَّجهَا، فَإِن شَرط فِي الْإِنْفَاق التَّزَوُّج، يرجع بِمَا أنْفق، وَإِلَّا فَالْأَصَحّ أَنه لَا يرجع، وَلَو أكلت مَعَه لَا يرجع بِشَيْء. قَالَ: نسَاء أهل " الرّيّ " طَوَالِق - وَهُوَ من أهل الرّيّ - أَو قَالَ نسَاء أهل الدُّنْيَا طَوَالِق، لَا يَقع على امْرَأَته، إِلَّا أَن يَنْوِي.

وروى هِشَام عَن أبي يُوسُف، رحمهمَا الله: أَنه لَا يُرِيد امْرَأَة نَفسه عَادَة. رجل قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق ماشاء الله، لَا يَقع، لِأَن هَذَا بِمَنْزِلَة قَوْله: إِن شَاءَ الله. رجل قَالَ لامْرَأَته: " ترابسيار طَلَاق، وَلم يكن لَهُ نِيَّة، تقع تَطْلِيقَتَانِ ". رجل قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق لَا قَلِيل وَلَا كثير، يَقع ثَلَاث، وَهُوَ الْمُخْتَار، لِأَن الْقَلِيل وَاحِدَة، وَالْكثير ثَلَاث، فَإِذا قَالَ أَولا: لَا قَلِيل، فقد وجد إِيقَاع الثَّلَاث، ثمَّ لَا يعْمل قَوْله بعد ذَلِك. فعلى هَذَا الْقيَاس لَو قَالَ: لَا كثير وَلَا قَلِيل يَقع وَاحِدَة. رجل بعث أَقْوَامًا يخْطب امْرَأَة إِلَى وَلَدهَا، فَقَالَ الْأَب: أَعْطَيْت تكلمُوا: فَمنهمْ من قَالَ: لَا يَصح النِّكَاح - وَإِن كفل عَن الزَّوْج إِنْسَان - لِأَن هَذَا النِّكَاح بِغَيْر شُهُود، لِأَن الْقَوْم جَمِيعًا خاطبون، من تكلم وَمن يتَكَلَّم، لِأَن التعارف أَن يتَكَلَّم وَاحِد، ويسكت الْبَاقُونَ، والخاطب لَا يصلح شَاهدا، وَمِنْهُم من قَالَ: صَحَّ النِّكَاح، وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة إِلَى جعل الْكل خاطبا، فَجعلنَا الْمُتَكَلّم خاطبا وَالْبَاقِي شَاهدا. قَالَ لامْرَأَته: قولي: وهبت مهري مِنْك، فَقَالَت الْمَرْأَة ذَلِك وَهِي لَا تحسن الْعَرَبيَّة - لَا تصح الْهِبَة. فرق بَين هَذَا وَبَين الْعتْق وَالطَّلَاق، حَيْثُ يقعان فِي الْقَضَاء، وَالْفرق أَن الرِّضَا شَرط جَوَاز الْهِبَة، وَلَيْسَ شرطا لجَوَاز الْعتْق.

فائدة في الفرق بين الإقرار والهبة

فَائِدَة: " فِي الْفرق بَين الْإِقْرَار وَالْهِبَة " رجل قَالَ: جَمِيع مَا أملكهُ لفُلَان، فَهَذَا هبة، حَتَّى لَا يجوز بِدُونِ الْقَبْض. فرق بَين هَذَا وَبَين مَا إِذا قَالَ: جَمِيع مَا يعرف وينسب إِلَى لفُلَان، حَيْثُ يكون إِقْرَارا. وَالْفرق: أَن فِي الْمَسْأَلَة الأولى قَالَ: أملكهُ، وَهَذَا الْملك قَائِم حَقِيقَة، لَا يصير لغيره إِلَّا بالتمليك، فَيكون هبة، وَفِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَ: جَمِيع مَا يعرف بِي وينسب، وَمَا يعرف بِهِ وينسب إِلَيْهِ يجوز أَن يكون ملك غَيره، فَيكون إِقْرَارا. قَالَ لآخر: حللني من كل حق لَك عَليّ، فَفعل، وأبرأه فَهَذَا على وَجْهَيْن: أما إِن كَانَ صَاحب الْحق عَالما بِمَا عَلَيْهِ، أَو لم يكن فَفِي الْوَجْه الأول: برِئ حكما وديانة. وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: برِئ حكما، وَهل يبرأ ديانَة أم لَا؟ عِنْد مُحَمَّد: لَا يبرأ، وَعند أبي يُوسُف رَحمَه الله يبرأ، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى، لِأَن الْإِبْرَاء إِسْقَاط، وجهالة الْإِسْقَاط لَا يمْنَع صِحَة الْإِسْقَاط، وَصَارَ كالمشتري إِذا أَبْرَأ البَائِع عَن الْعُيُوب، صَحَّ، وَإِن لم يُفَسر الْعُيُوب، كَذَا هُنَا. الَّذِي لَا يقدر على اسْتِيفَاء دينه، فإبراؤه أفضل تخليصا من الْعَذَاب. وَلَو قَالَ: جعلتك فِي حل السَّاعَة، فَهُوَ فِي حل فِي الدَّاريْنِ. وَإِذا مَاتَ طلب الدّين، وَلم يصل إِلَى ورثته، فَعَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد بن سَلمَة رحمهمَا الله: أَنه يكون للْمَيت، مَعَ أَنه لَو أدّى إِلَى الْوَرَثَة يبرأ. ثَلَاث مسَائِل فِيهَا خلاف زفر مَعَ أَصْحَابنَا: أَولهَا: رجل تبرع بِقَضَاء دين الْمُرْتَهن، ثمَّ هلك الرَّهْن فِي يَد الْمُرْتَهن، يسْتَردّ التَّبَرُّع من الْمُرْتَهن مَا دَفعه. وَقَالَ زفر رَحمَه الله: يسْتَردّهُ الرَّاهِن. وَثَانِيها: رجل اشْترى عبدا بِأَلف، فتبرع رجل بِقَضَاء الثّمن، ثمَّ وجد المُشْتَرِي بِهِ عَيْبا فَرده، فالثمن المسترجع من البَائِع للمتبرع. وَقَالَ زفر رَحمَه الله: للْمُشْتَرِي.

وَثَالِثهَا: رجل تبرع عَن آخر بِقَضَاء مهر امْرَأَته، فَطلقهَا قبل الدُّخُول يرجع الْمُتَبَرّع بِنصْف الْمهْر. وَقَالَ زفر رَحمَه الله: يرجع الزَّوْج. وَهَذَا الْخلاف إِذا كَانَ الْمُتَبَرّع قضى جَمِيع ذَلِك بِغَيْر أَمرهم. أما إِذا قضى كُله بأمرهم، فَلَيْسَ للمتبرع الرُّجُوع بالِاتِّفَاقِ، بل الدّين للرَّاهِن وَالْمُشْتَرِي وَالزَّوْج. رجل وهب من رجل كرباسا، فَقَصره الْمَوْهُوب لَهُ، لَيْسَ للْوَاهِب أَن يرجع فِيهِ. فرق بَين هَذَا وَبَين الْغسْل، وَالْفرق: أَن فِي الْوَجْه الأول زِيَادَة مُتَّصِلَة، وَفِي الْوَجْه الثَّانِي لَا. وهب من آخر عبدا كَافِرًا، فَأسلم فِي يَد الْمَوْهُوب لَهُ، لَيْسَ لَهُ أَن يرجع فِيهِ، لِأَن الْإِسْلَام زِيَادَة فِيهِ. وهب من رجل تَمرا ب " بَغْدَاد " فَحمل الْمَوْهُوب لَهُ التَّمْر إِلَى " بَلخ "، لَيْسَ للْوَاهِب أَن يرجع فِيهِ، وَكَذَا إِن أخرج من دَار الْحَرْب عبدا إِلَى دَار الْإِسْلَام وَإِنَّمَا لَا يرجع، إِذا كَانَ قِيمَته أَكثر من قيمَة الْمَكَان الأول، وَإِن كَانَ مستويا لَهُ أَن يرجع، لِأَن هَذَا لَيْسَ زِيَادَة. قَالَ الآخر: ادخل كرمي، وَخذ من الْعِنَب، فَلهُ أَن يَأْخُذ من الْعِنَب مَا يشْبع بِهِ إِنْسَان وَاحِد، لِأَن هَذَا إِذن بِأخذ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ للْحَال. رجل وهب لِابْنِهِ الصَّغِير دَارا، وَالدَّار مَشْغُولَة بمتاع الْوَاهِب، جَازَ لِأَن الشَّرْط قبض الْوَاهِب.

رجل قَالَ لختنه بِالْفَارِسِيَّةِ: " ايْنَ زمين ترا " فَاذْهَبْ وازرعها فَهَذَا على وَجْهَيْن: أما إِن كَانَ الختن عِنْدَمَا قَالَ هَذِه الْمقَالة قبل أَو لم يقبل، فَفِي الْوَجْه الأول: صَارَت الأَرْض لَهُ هبة، فَيتم بِالْقبُولِ. وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: لَا، لِأَنَّهُ لم يتم. رجل وهب من رجل أَرضًا، وَسلمهَا إِلَيْهِ، وَشرط على الْمَوْهُوب لَهُ أَن ينْفق على الْوَاهِب من الْخَارِج، فالهبة فَاسِدَة. فرق بَين هَذَا وَبَين مَا إِذا كَانَ الْمَوْهُوب كرما، وَشرط عَلَيْهِ أَن ينْفق ثَمَرَتهَا حَيْثُ يَصح الْهِبَة، وَيبْطل الشَّرْط، لِأَن الْوَاهِب إِذا شَرط على الْمَوْهُوب لَهُ رد بعض الْهِبَة يَصح الْهِبَة، وَيبْطل الشَّرْط. رجل لَهُ ابْن صَغِير فغرس كرما، فَهَذَا على ثَلَاثَة أوجه: أما إِن قَالَ: اغرس هَذَا الْكَرم باسم ابْني الصَّغِير فلَان، فَلَا يكون هبة. وَلَو قَالَ: جعلته باسم ابْني الصَّغِير فلَان، فَهَذَا هبة. وَإِن لم يرد الْهِبَة يصدق، وَلَو قَالَ: جعلته لِابْني، فَهَذَا لَا شكّ أَنه هبة. الْهِبَة الْفَاسِدَة مَضْمُونَة بِالْقَبْضِ، فَإِنَّهُ نَص فِي الْمُضَاربَة، إِذا دفع رجل إِلَى رجل الف دِرْهَم، وَقَالَ: نصفهَا مُضَارَبَة، وَنِصْفهَا هبة، فَهَلَكت الْألف فِي يَده، ضمن الْمضَارب حِصَّة الْهِبَة، وَهَذِه فَاسِدَة، لِأَنَّهَا هبة الْمشَاع فِيهَا يحْتَمل الْقِسْمَة، وَهل يثبت الْملك فِي الْمَوْهُوب لَهُ بِالْقَبْضِ؟ تكلم الْمَشَايِخ فِيهِ، الْمُخْتَار أَنه لَا يثبت، فَإِنَّهُ نَص فِي كتاب الأَصْل: " لَو وهب نصف دَاره من رجل، وَسلمهَا إِلَيْهِ، فَبَاعَهَا الموهب لَهُ، لم يجز " أَشَارَ إِلَى أَنه لم يملك حَيْثُ بَطل البيع بِالتَّسْلِيمِ. ذكر فِيهِ " فُصُول الأسروشني ": " التَّخْلِيَة قبض فِي الْهِبَة الصَّحِيحَة دون الْفَاسِدَة ".

رجل مَاتَ فَوهبت لَهُ امْرَأَته مهرهَا، جَازَت الْهِبَة، لِأَن الدّين عَلَيْهِ إِلَى أَن يقْضى، وَلِأَن الْقبُول فِي حَال حَيَاة الْمَدْيُون لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الْهِبَة، فَكَذَا بعد الْمَوْت. رجل وهب من رجل ثوبا - وَهُوَ حَاضر - فَقَالَ الْمَوْهُوب لَهُ: قَبضته، هَل يصير قَابِضا؟ قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: صَار قَابِضا. وَقَالَ ابو يُوسُف رَحمَه الله: لَا، مَا لم يقبض، لِأَنَّهُ غير قَابض حَقِيقَة. امْرَأَة وهبت مهرهَا الَّذِي لَهَا على زَوجهَا لابنها الصَّغِير من زَوجهَا فَقبل الْأَب، الْمُخْتَار أَنَّهَا لَا تصح، لِأَنَّهَا هبة غير مَقْبُوضَة. لَهَا على زَوجهَا دين، فَوَهَبته لولدها الصَّغِير، صَحَّ لِأَن هبة الدّين من غير من عَلَيْهِ الدّين يجوز، إِذا كَانَ سلطه على قَبضه. وَلَو وقف أَرضًا على أَوْلَاده، وَجعل آخِره للْفُقَرَاء، فَمَاتَ بَعضهم يصرف الْوَقْف إِلَى البَاقِينَ، فَإِن مَاتُوا صرف إِلَى الْفُقَرَاء بِخِلَاف مَا لَو وقف على فلَان وَفُلَان - سماهم بعينهم - من أَوْلَاده، وَجعل آخِره للْفُقَرَاء، ثمَّ مَاتَ وَاحِد مِنْهُم، يصرف نصِيبه إِلَى الْفُقَرَاء، لِأَنَّهُ وقف على كل مِنْهُم بِعَيْنِه، فنصيب الْمَيِّت لَا يسْتَحقّهُ الْبَاقُونَ، وَفِي الأول وقف على أَوْلَاده، قل أَو كثر، وَبعد موت بَعضهم، بقى أَوْلَاده، فاستحقه الْبَاقُونَ. اتخذ لوَلَده الصَّغِير ثيابًا، ثمَّ أَرَادَ أَن يدْفع إِلَى ولد آخر، لَيْسَ لَهُ ذَلِك، إِلَّا أَن يبين وَقت الاتخاذ أَنه عَارِية لَهُ، لِأَن الْمُعْتَبر فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْمُتَعَارف، وَفِي الْمُتَعَارف إِنَّمَا يُرِيدُونَ الصِّلَة وَالْبر، وَلَكِن العواري مُحْتَمل، فَإِن بَين صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَلِكَ لَو اتخذ لتلميذه ثيابًا، ثمَّ أبقى، فَأَرَادَ أَن يدْفع ذَلِك إِلَى غَيره، فَإِن أَرَادَ الِاحْتِيَاط يبين أَنه عَارِية، حَتَّى لَو أبق أمكنه الدّفع إِلَى تِلْمِيذه

مُتَوَلِّي الْوَقْف إِذا أجر دَار الْوَقْف بشرائط الصِّحَّة، ثمَّ مَاتَ قبل مُضِيّ مُدَّة الْإِجَارَة، لَا تبطل الْإِجَارَة، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْوَكِيل عَن الْفَقِير وبموت الْوَكِيل لَا يَنْفَسِخ عقد الْإِجَارَة. رجل مَاتَ وَعَلِيهِ دين قد نَسيَه، أيؤاخذ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؟ فَهَذَا على وَجْهَيْن: أما إِن كَانَ الدّين من جِهَة التِّجَارَة، أَو من جِهَة الْغَصْب. فَفِي الْوَجْه الأول: يُرْجَى أَلا يُؤَاخذ، لِأَنَّهُ نَاس، وَقد رفع عَن الْأمة النسْيَان بِالْحَدِيثِ. وَفِي الْوَجْه الثَّانِي: يُؤْخَذ لِأَنَّهُ فِي أَوله جَائِر. ضرب الْحداد المطرقة على المحمى، فتطاير الشرار عَن الْحَدِيد، فَأحرق ثوبا أَو دَابَّة خَارج الْحَانُوت، فَعَلَيهِ قِيمَته. وَإِن أتلف نفسا أَو عبدا فعلى عَاقِلَته. وَإِن لم يتطاير من دقه، لَكِن احتملت الرّيح النَّار، فَهُوَ هدر. هدم دَار نَفسه، فانهدم جِدَار غَيره، لَا يضمن. مكارى حمل كرباس رجل، فَاسْتَقْبلهُ اللُّصُوص، وَطرح الكرباس، وهرب بحماره، فَأذْهب اللُّصُوص الكرباس، فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، إِن كَانَ يعلم أَنه لَا يتَخَلَّص عَنْهُم بالحمار والكرباس، لِأَنَّهُ لَو حمله أَخذ مِنْهُ جملَة. حَانُوت للقصارين، وفيهَا أَحْجَار لرجل يؤاجرها مِنْهُم بِأُجْرَة مَعْلُومَة، فجَاء رجل وَدخل فِيهِ، وَلم يشرط مَعَ صَاحبه شَيْئا. إِن كَانَت الْعَادة فِيمَا بَينهم أَن من شَاءَ عمل عَلَيْهِ بِغَيْر شَرط، وَيُعْطِي الْأجر، تجب عَلَيْهِ الْأُجْرَة الْمَعْرُوفَة، لِأَن الْمَعْرُوف كالمشروط، وَإِن كَانَت الْعَادة أَنهم يستأجرون ويعملون، فَلَا يجب، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْغَاصِب.

لَا بَأْس بثقب أذن الطِّفْل من الْبَنَات، لأَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي زمن رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- من غير إِنْكَار. سكن دَارا معدة للغلة، أَو زرع أَرضًا معدة للِاسْتِغْلَال من غير اسْتِئْجَار، تجب الْأُجْرَة، وَبِه يُفْتى. التَّأْقِيت فِي الشّركَة وَالْمُضَاربَة جَائِز، حَتَّى لَو قَالَ: مَا اشْتريت الْيَوْم فَهُوَ بَيْننَا، فَمَا اشْترى الْيَوْم فَهُوَ بَينهمَا، وَمَا اشْترى بعد الْيَوْم فَهُوَ للْمُشْتَرِي خَاصَّة. قَالَ: اشركني فِيمَا اشْتريت، فَقَالَ: أَشْرَكتك فِيهِ، فَإِن كَانَ قبل الْقَبْض لم يجز. وَإِن كَانَ بعده: جَازَ، وَلَزِمَه نصف الثّمن. وَإِن لم يعلم بِالثّمن فَلهُ الْخِيَار إِذا علم. قَالَ: إِن دللتني على ضالتي فلك كَذَا، فَمشى مَعَه ودله، فَلهُ الْأجر. وَلَو دله وَمَا مَشى مَعَه، لَا. دفع بقرة على أَن يكون مَا حصل من الْوَلَد وَاللَّبن وَالسمن بَينهمَا، فَذَلِك كُله لصَاحب الْبَقَرَة، وَعَلِيهِ ثمن الْعلف، وَأجر مثل الْحَافِظ. وعَلى هَذَا إِذا دفع دجَاجَة، فَالْحِيلَةُ فِي مثله: أَن يَبِيع نصف الْبَقَرَة وَنصف الدَّجَاجَة. اشْترى حِنْطَة أَو شَعِيرًا، وَالْمَبِيع فِي ملك البَائِع، لَكِن لم يضف البيع إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ، وَلَا بَاعه بطرِيق السّلم، جَازَ، لِأَنَّهُ بَاعَ مَا يملك. من ذبح وَجه إِنْسَان شَيْئا وَقت الخلعة وَمَا أشبه ذَلِك: قيل: يكفر الذَّابِح، والمذبوح ميتَة.

قَالَ إِسْمَاعِيل الزَّاهِد: يكره أَشد الْكَرَاهَة، وَلَا يكفر، لأَنا لَا نسئ الظَّن بِالْمُؤمنِ إِنَّه يتَقرَّب إِلَى الْآدَمِيّ بِهَذَا النَّحْر. روى أَن رجلا أهْدى إِلَى النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - صيدا، فَقَالَ: " من أَيْن لَك هَذَا؟ " قَالَ: كنت رميته بالْأَمْس، وَكنت فِي طلبه حَتَّى حَال بيني وَبَينه ظلمَة اللَّيْل، ثمَّ وجدته الْيَوْم مَيتا، وَفِيه مزراقي - وَهُوَ الرمْح الصَّغِير أخف من العنزة - فَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا أَدْرِي، لَعَلَّ الْهَوَام أعانك على قَتله، فَلَا حَاجَة لي فِيهِ ". اسْتَأْجر رجل أَرض وقف ثَلَاث سِنِين بِأُجْرَة مَعْلُومَة - وَهِي أُجْرَة الْمثل - فَلَمَّا دخلت السّنة الثَّانِيَة، كثرت الرغبات، وَزَادُوا أُجْرَة الأَرْض، لَيْسَ للمتولي أَن ينْقض الْإِجَارَة لنُقْصَان أجر الْمثل، لِأَن أجر الْمثل يعْتَبر وَقت العقد، و [000] الْمُسَمّى أجر الْمثل. وَلَو دفع ابْنه الصَّغِير إِلَى أستاذ ليعلمه حِرْفَة كَذَا فِي أَربع سِنِين، وَشرط على الْأَب أَنه إِن حَبسه عَنهُ قبل أَربع سِنِين، فللأستاذ عَلَيْهِ مائَة دِرْهَم، فحبسه بعد ثَلَاث سِنِين، لَا يُطَالِبهُ بِالْمِائَةِ، وَلَكِن يُطَالِبهُ بِأَجْر مثل تَعْلِيمه. وَلَو دفع إِلَى رجل ثوبا، وَقَالَ: بِعْهُ بِعشْرَة، فَمَا زَاد فَهُوَ بيني وَبَيْنك، فَبَاعَهُ بأثني عشر درهما، فَلهُ مثله، لَا يُجَاوز بِهِ دِرْهَم، وَإِن بَاعه بِعشْرَة فَلَا أجر لَهُ.

وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: لَهُ أجر الْمثل فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بَالغا مَا بلغ. وَلَو قَالَ: من أكل مَالِي فَهُوَ فِي حل، لَا بَأْس بِأَن يَأْكُل الْغَنِيّ وَالْفَقِير. غصب عينا، فحلله مَالِكه من كل حق هُوَ لَهُ قبله، قَالَ أَئِمَّة " بَلخ ": التَّحْلِيل يَقع على مَا هُوَ وَاجِب فِي الذِّمَّة، لَا على عين قَائِم. اتخذ ضِيَافَة للختان، فأهدى النَّاس هَدَايَا، ووضعوها بَين يَدي الابْن، أَو دفعوها إِلَى الْوَالِد، أَو الوالدة، أَو كَانَ ذَلِك فِي عرس فدفعوها إِلَى الزَّوْج، أَو إِلَى الزَّوْجَة، أَو إِلَى أَب الزَّوْج، أَو أمه أَو أَب الزَّوْجَة أَو أمهَا. فَمَا يصلح للصَّبِيّ يكون لَهُ، مثل ثِيَاب الصَّبِي أَو شَيْء يَسْتَعْمِلهُ الصَّبِي، وَكَذَلِكَ مَا يصلح للزَّوْجَة، أَو لحرفة الزَّوْج، فَمَا كَانَ من جِهَة أقَارِب الصَّبِي ومعارفه، فلأب الصَّبِي، وَمَا كَانَ من جِهَة أقَارِب أم الصَّبِي ومعارفها فلأم الصَّبِي. إِن بعث شَيْئا لأجل تهنئة النِّكَاح، يرجع بِالْبَاقِي، دون التَّالِف. جهز بنته، وَسلمهَا، لَيْسَ لَهُ فِي الِاسْتِحْسَان اسْتِرْدَاده مِنْهَا، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى.

قَالَ الصَّدْر الشَّهِيد رَحمَه الله: الْمُخْتَار: أَن السَّائِل فِي الْمَسْجِد، إِذا كَانَ لَا يمر بَين يَدي الْمصلى، وَلَا يتخطى رِقَاب النَّاس، وَلَا يسْأَل إلحافا، وَيسْأل لأمر لَا بُد مِنْهُ، لَا بَأْس بالسؤال والإعطاء. يَنْبَغِي أَن يكون الْهَدِيَّة لأجل ثَلَاثَة أَشْيَاء، كَمَا روى عَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " إِنِّي لأهدي الْهَدِيَّة على ثَلَاثَة أوجه: هَدِيَّة مُكَافَأَة، وهدية أُرِيد بهَا وَجه الله تَعَالَى، وهدية أُرِيد بهَا إبْقَاء عرضي ". قَالَ الله - تَعَالَى - لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: " يَا مُوسَى، تحب أَن أستجيب دعاءك؟ قَالَ: نعم يَا رب، قَالَ: فرغ قَلْبك عَن الْحَرَام. يَا مُوسَى، تحب أَن أنظر إِلَيْك قَالَ: نعم يَا رب، قَالَ: بَادر حوائج السَّائِلين ومنافعهم. يَا مُوسَى، تحب أَن أغنيك عَن النَّاس وَالسُّؤَال؟ قَالَ: نعم يَا رب. قَالَ: أكْرم جَارك ". وَقَالَ الْحُكَمَاء: الْإِنْسَان فِي الدُّنْيَا حَارِث، وَعَمله حرثه، ودنياه محرثه، وَوقت الْمَوْت وَقت حَصَاده، وَالْآخِرَة بيدره، وَلَا يحصد إِلَّا مَا يزرعه وَلَا يَكِيل إِلَّا مَا حصده، وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَاله فِي الْآخِرَة من نصيب} {الشورى: 20} .

فَمن عمل لآخرته بورك لَهُ فِي كَيْله، وَجعل لَهُ زَاد الْأَبَد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها} (الْإِسْرَاء: 19) الْآيَة. وَمن عمل لدنياه خَابَ سَعْيه، وَبَطل عمله، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا وهم فِيهَا لَا يبخسون أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} (هود 15، 16) فأعمال الدُّنْيَا كالدقل والحنظل، وَمثل أَعمال الْآخِرَة كالنخل وَالْكَرم. ختم هَذَا الْكتاب بعون الله تَعَالَى وَحسن توفيقه مُؤَلفه الْفَقِير الْمُحْتَاج إِلَى رَحْمَة ربه الْغَنِيّ الْجَلِيل مَحْمُود بن الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مِيكَائِيل بن خضر بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن نور الدّين الخيربيتي عَفا الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ. راجيا من الله - تَعَالَى - أَن يغْفر لنا ذنوبنا وَيسْتر عيوبنا، ويكشف كروبنا، وَيجْعَل لنا هديته التَّوْفِيق، وهدايته الرفيق، إِنَّه على مَا يَشَاء قدير، وبالإجابة جدير. ثمَّ الْمَذْكُور فِي هَذَا الْكتاب على أَنْوَاع: مَا يتَعَلَّق بِالْقُرْآنِ: فَهُوَ مَأْخُوذ من تَفْسِير " معالم التَّنْزِيل "، وَمن تَفْسِير " زَاد الْمسير "، وَمن تَفْسِير أبي اللَّيْث السَّمرقَنْدِي، تغمدهم الله بغفرانه. وَمَا يتَعَلَّق بالمسائل الشَّرْعِيَّة: فَهُوَ مَأْخُوذ من الْفَتَاوَى الْكُبْرَى للْبُخَارِيّ، وَمن فَتَاوَى " الْوَاقِعَات "، وَمن فَتَاوَى " الْمنية "، وَمن فَتَاوَى " الْمُلْتَقط ". وَمَا يتَعَلَّق بالملوك والسلاطين والأمراء، فَهُوَ مَأْخُوذ من الْأَحَادِيث المسندات، والْآثَار المرويات، وَمن كتاب " إحْيَاء عُلُوم الدّين "، والتواريخ الْمُعْتَمد عَلَيْهَا، رَحْمَة الله على مصنفيهم أَجْمَعِينَ.

وَالْحَمْد لله الْملك السَّلَام، الْمُهَيْمِن العلام، شَارِع الْأَحْكَام، ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام، الَّذِي أكرمنا بدين الْإِسْلَام، وَمن علينا بنبينا مُحَمَّد عَلَيْهِ أفضل التَّحِيَّات وَالسَّلَام، وأنعم علينا بِكِتَابَة الْفرق بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَالصَّلَاة على حَبِيبه وَخيرته من خلقه مُحَمَّد سيد الْأَنَام، عدد سَاعَات اللَّيَالِي وَالْأَيَّام، وعَلى آله وَأَصْحَابه نُجُوم الظلام، وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَالْمَلَائِكَة البررة الْكِرَام. [فِي غرَّة ذِي الْحجَّة حجَّة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة وَالله أعلم، وَمِنْه الْعِصْمَة والتوفيق] .

§1/1