الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية

عبد الرحمن السعدي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المعتني إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فهذه طبعة جديدة لكتاب: "الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصنيف العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله1. وهذا الشرح الذي بين أيدينا من أمتع الشروح السهلة التي تذلل للقارئ الكثير مما في باب القدر من المشكلات، وصعوبة الفهم. وقد اعتمدت في هذه الطبعة على النسخة المطبوعة قديما بتحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق، فجعلتها أصلا، وقابلت نص القصيدة على ثلاث نسخ مطبوعة، وكنت أتمنى الحصول على نسخة خطية لنص القصيدة فلم أوفق. 1- النسخة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى جمع ابن القاسم. 2- النسخة المطبوعة بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقي سنة 1375هـ والمطبوعة بمطبعة السنة المحمدية مع كتاب القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى للشيخ حسين بن عبد الوهاب. وإليها الإشارة بـ "س".

_ 1 تراجع ترجمة مفصلة للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي وضعناها في مقدمة تحقيقنا لكتابه (منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين) ؛ فأغنى عن إعادته هنا.

3- النسخة الموجودة ضمن كتاب "العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية" للعلامة محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المطبوعة بمطبعة المدني ص (254-260) وجاء في آخرها: "تمت بحمد الله وعونه وهي مائة وأربعة وثمانون بيتا بل هي مائة وخمسة أبيات" اهـ. والذي يظهر بعد المقابلات بين النسخ المطبوعة السابقة: أن عدد الأبيات 125 بيتا، مع ملاحظة ما يلي: * سقط بيت رقم 7 من الأصل المطبوع، و"س"، واستدركته من الفتاوى والعقود وأيضا: سقط بيت رقم 124 من الأصل المطبوع، و"س" واستدركته من الفتاوى والعقود. * سقط بيت رقم 103 من الفتاوى والعقود وهو موجود بالمطبوع، و"س". * سقطت الأبيات من رقم 11إلى 29 من العقود وهي موجودة بباقي النسخ. وقد نقل الحافظ ابن القيم منها بيتين (وهما رقما 4، 5) في طريق الهجرتين (1/167) . هذا وقد قمنا بضبط الكتاب، وتنسيقه، وتخريج آياته وأحاديثه وعلقت عليه ببعض الفوائد المهمة، وغير ذلك مما يراه القارئ؛ سائلا المولى جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا ودنيانا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يميتنا على الإسلام، إنه سبحانه على كل شيء قدير. الإسماعيلية 11صفر 1419هـ أبو محمد أشرف عبد المقصود غفر الله له

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الشارح الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد المرسلين. اللهم صل على محمد وآله وصحبه؛ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان: أن أشرح "المنظومة التائية في القدر" لشيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية؛ لما فيها من التحقيق العظيم في مسألة القضاء والقدر. ولمتانتها وصعوبة فهمها، واحتياجها إلى شرح متوسط؛ يوضحها ويكشف عن معانيها؛ ولكون المقام والموضوع مقاما مهما جدا، والحاجة – بل الضرورة – داعية إلى علمه؛ والتحقق به معرفة واعتقاداً. وهذا النظم: قد أتى فيه الشيخ بالعجب العجاب، وبين الحق الصريح وكشف الشكوك والشبهات: التي طالما خالطت قلوب أذكياء العلماء وحيرت كثيرا من أهل العلم الفضلاء؛ لذلك أجبت السائل لما طلبه. وأرجو الله وأسأله: أن يعين على تحقيقه وتوضيحه؛ فإن التوضيح والبيان – خصوصا في هذا المقام – أولى من الاختصار؛ وذكر الشواهد والأمثلة الموضحة أولى من الاقتصار. وأسأله تعالى: أن يجعل الداعي إليه إرادة وجهه الكريم، وإرادة النفع به للمشتغلين.

والشيخ رحمه الله وقدس روحه نظمها جوابا لسؤال أورده عليه من قال: "إنه ذمي"1 ليشبه على المسلمين، وليشككهم في أصول الدين فإن الإيمان بالقضاء والقدر أحد أصول الإسلام، ومبانيه العظام.

_ 1 الذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن يقيم في دار الإسلام، وفي الحديث: "يسعى بذمتهم أدناهم" وفسر الفقهاء ذمتهم بمعنى الأمان، وقالوا في تفسير عقد الذمة: بأنه إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة. وعلى هذا: يمكن القول بأن عقد الذمة عقد بمقتضاه يصير غير المسلم في ذمة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد وله الإقامة في دار الإسلام على وجه الدام "أهـ "أحكام الذميين والمستأمنيين في دار الإسلام" لعبد الكريم زيدان ص (20) . وقي طبعة الشيخ محمد حامد الفقي لتائية شيخ الإسلام ذكر في أولها، أن الذي نظمها شاعر رافضي على لسان يهودي، وليس هذا ببعيد، فراجع ردود شيخ الإسلام في: "منهاج السنة النبوية" على الرافضي الخبيث ابن المطهر في مسائل القدر.

نص سؤال الذمي الذي كان سببا في نظم القصيدة

نص سؤال الذمي الذي كان سببا في نظم القصيدة ... وهذا نص السؤال نص السؤال الذمي للتشكيك في القدر أيا علماء الدين، ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني، فما وجه حيلتي؟ دعاني، وسد الباب عني2، فهل إلى ... دخولي سبيل؟ بينوا لي قضيتي

_ 1 في الأصل: "دوني" وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود.

قضى بضلالي1، ثم قال: ارض بالقضا ... فهل2 أنا راض بالذي فيه شقوتي فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا ... فربي لا يرضى بشؤم بليتي وهل3 لي رضا، ما ليس يرضاه سيدي ... فقد حرت دلوني على كشف حيرتي إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة ... فهل أنا عاص في إتباع المشيئة؟ وهل لي اختيار أن أخالف حكمه؟ ... فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي هذه آخر السؤال المذكور توضيح الشارح للسؤال وحاصله: أنه إيراد على مذهب الجبرية القائلين: إن العبد مجبور مقهور على جميع أقواله وأفعاله؛ وإنه لا قدرة له على شيء منها. بل هي عندهم واقعة بغير اختياره.

_ 1 في الأصل: "ضلالي" وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود. 2 في الفتاوى والعقود: "فما". 3 في الفتاوى والعقود: "فهل".

وهذا القول باطل بالكتاب والسنة، وباطل بالعقل والحس؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وجميع المسلمين من جميع الطوائف أهل السنة وغيرهم ينكرون هذا المذهب ويتبرؤون منه. فيقول هذا المشبه على المسلمين، المشكك لهم، بانيا على مذهب الجبرية الذي يتبرأ منه جميع الطوائف سوى غلاة الجهمية من الجبرية يقول: "إذا كان الله قضى علي بالكفر، وقدر علي أن لا أكون مسلما، أو قدر علي المعاصي وأن لا أكون طائعا؛ فكيف لي الخلاص من الكفر والمعاصي؟ وكيف أتمكن من الإيمان والطاعة بعدما قضى علي الكفر والمعصية؟ فهل أكون معذورا إذا تجرأت على الكفر والفسوق والعصيان، وأنا لا حيلة لي في الانفكاك عنها؟ 1

_ 1 فائدة: ولله در الإمام (أبي الخطاب) إذ يقول في قصيدته في السنة: قالوا فأفعال العباد فقلت ما ... من خالق غير الإله الأمجد قالوا فهل فعل القبيح مراده ... قلت الإرادة كلها للسيد لو لم يرده وكان نقيصة ... سبحانه عن أن يعجزه الردى وفي مناظرة بين الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي عبد الجبار المعتزلي: قال القاضي عبد الجبار في ابتداء جلوسه للمناظرة: سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ مجيبا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء فقال عبد الجبار: أفيشاء ربنا أن يعصى فقال الأستاذ أيعصى ربنا قهرا؟ فقال عبد الجبار: أفرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى أحسن إلي أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فانقطع عبد الجبار" اهـ طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (4/261، 262) .

وكيف أجمع بين الرضا بالقضاء، وبين الرضا بالمقضي، من الكفر والمعاصي؛ فإن الله لا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان، فكيف قدرها علي، وهو لا يرضاها؟. هذا حاصل هذا السؤال. الجواب الإجمالي ورد الشارح على هذا السؤال وجوابه على وجه الإجمال بسيط ولله الحمد

_ فإنه لا يرد على مذهب جمهور طوائف المسلمين، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الهدى المشهود لهم بالعلم والإيمان، بل ولا على مذهب المعتزلة والقدرية والخوارج وغيرهم من أهل البدع. فإن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة من إثبات الأصلين: أحدهما: الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها أعيانها، وأوصافها وأفعالها بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته؛ بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والأصل الثاني: أن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وغيرها واقعة بإرادتهم وقدرتهم؛ وأنهم لم يجبروا عليها؛ بل هم الذين فعلوها؛ بما خلق الله لهم من القدرة والإرادة. ويقولون: لا منافاة بين الأمرين فالحوادث كلها التي من جملتها أفعال العباد بمشيئة الله وإرادته؛ والعباد هم الفاعلون لأفعالهم، المختارون لها، فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها. والآخرون: اختاروا فعل المعاصي وفعلوها، واختاروا ترك الأوامر فتركوها.

فاستحق الأولون: المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب. ولم يجبر الله أحدا منهم على خلاف مراده واختياره، فلا عذر للعاصين إذا عصوا وقالوا: إن الله قدرها علينا، فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون وأنتم بزيغكم وانحرافكم أرتم الشر ففعلتموه، والله قد حذركم وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه، وأراكم سبيل الرشد فتركتموه وسبيل الغي فسلكتموه. زيادة إيضاح للجواب الإجمالي وإذا أردت زياد إيضاح لهذا المقام: فإنه من المعلوم لكل أحد: أن كل فعل يفعله العبد، وكل كلام يتكلم به، فلا بد فيه من أمرين: 1- قدرة منه على ذلك الفعل والقول. 2- وإرادة منهم. فمتى اجتمعن، وجدت منه الأقوال والأفعال. والله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد وإرادة العبد. وخالق السبب التام، خالق للسبب. فالله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد هم الفاعلون لها حقيقة. فهذا الإيراد الذي أورده هذا المشكك وما أشبهه من الإيرادات التي يحتج بها أهل المعاصي بالقدر

يجيبونهم بهذا الجواب المفحم فيقولون: دلت أدلة الكتاب والسنة الكثير على أن الخالق كل شيء، وعلى كل شيء قدير وأن كل شيء بقضاء وقدر: الأعيان والأوصاف والأفعال. * ودلت أيضا أدلة الكتاب والسنة: أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة بقدرتهم واختيارهم، فإنه تعالى نسب إليهم وأضاف إليهم كل ما فعلوه من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية. وإنه تعالى مكنهم من هذا ومن هذا. ولكنه تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم، حيث اختاروا الشر على الخير وأسباب العقاب على أسباب الثواب. وهذا كما أنه معلوم بالضرورة من الشرع، فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن أحدا المكابرة فيه. فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها، ويحب حصولها. فهذا الجواب المجمل.

الجواب المفصل للناظم هذا سؤال معند مختصم لله وهو من جنس سؤال إبليس اللعين

الجواب المفصل للناظم هذا سؤال معند مختصم لله وهو من جنس سؤال إبليس اللعين ... الجواب المفصل للناظم وأما الجواب المفصل. فقد ذكره الشيخ قدس الله روحه فقال: 1- سؤالك يا هذا، سؤال معاند ... مخاصم1 رب العرش، باري البرية 2- فهذا سؤال، خاصم الملأ العلا ... قديما به إبليس، أصل البلية 3- ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ... على أم رأس هاويا في الحفيرة هذا سؤال معاند مخاصم الله وهو من جنس سؤال إبليس اللعين الشرح بين الشيخ في أول الجواب: أن هذا السؤال والإيراد، إنما صدر عن رجل معاند مكابر، مخاصم لله. فإن هذا السؤال في الحقيقة موجه إلى الله والسائل قد أورده على ربه واعترض عليه، وزعم: أن الله ظالم له، حيث قدر عليه الكفر والمعاصي وعذبه عليه. وكل من عاند الله، فحجته داحضة باطلة، وهو مخصوم محجوج. وهذا السؤال من جنس سؤال إبليس حيث قال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (لأعراف:16) فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} ولم يقل: "غويت".

_ 1 في العقود: "تخاصم".

وإبليس هو الذي غوى واستكبر عن أمر ربه، حيث أمره بالسجود لأدم فقال: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} (الإسراء:61، 62) . فإبليس خاصم الله، وبادأه بالمعصية، واستكبر عن أمره، واستكبر على آدم. فكل من خاصم عن نفسه، أو عن غيره في معصية الله، فهو وارث إبليس، وعنه أخذ هذه الخصومة. فكل من خاصم الحق، فلج وخصم، كما أن كل من خاصم بالحق فلج وغلب. {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81) . وكل من نصر الباطل، فهو من خصوم الله ولكن: أصناف القدرية الثلاثة1، هم أحق الناس بهذا الوصف.

_ 1 قسم شيخ الإسلام القدرية إلى ثلاثة أقسام في غير موضع من كتبه: فقال: "وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية ومشركية وإبليسية فالمجوسية: الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه؛ فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم والفرقة الثانية: المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكروا الأمر والنهي؛ قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 148) فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة والفرقة الثالثة: وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب - سبحانه وتعالى - وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم؛ كما نقله أهل المقالات ونقل عن أهل الكتاب" اهـ التدمرية (207، 208) وراجع أيضا: الاستقامة (1/433) ومنهاج السنة (3/82) ومجموع الفتاوى (22/131، 132) وطريق الهجرتين لابن القيم (167-178) .

بيان طوائف القدرية الثلاث، خصوم الله يوم المعاد

فلهذا قال الشيخ: بيان طوائف القدرية الثلاث، خصوم الله يوم المعاد 4- ويدعى1 خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا، معشر القدرية 5- سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا ... به الله، أو ماروا به للشريعة الشرح يشير الشيخ إلى ما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من تكلم في شيء من القدر، سئل عنه يوم القيامة "2. أي: سؤال تقريع وتوبيخ. وهو كما ذكر الشيخ يشمل طوائف القدرية الثلاثة: 1- القدرية النفاة 2- والقدرية المجبرة 3- والقدرية المشركين فكل الطوائف الثلاث خاضوا في القدر خوضا منحرفا، وبعضهم أغلظ من بعض، وكلهم عن الصراط ناكبون.

_ 1 في الأصل: (وتدعى) وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود وهو الموافق لما نقله ابن القيم في طريق الهجرتين. 2 حديث ضعيف: رواه ابن ماجه (84) من طريق يحي بن عثمان مولى أبي بكر ثنا يحي بن عبد الله بن أبي مليكة عن أبيه أنه دخل على عائشة فذكر لها شيئا من القدر فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. وقال البوصيري في الزوائد: إسناد هذا الحديث ضعيف؛ لاتفاقهم على ضعف يحي بن عثمان، قال فيه ابن معين، والبخاري وابن حبان: منكر الحديث وزاد ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، ويحي بن عبد الله بن أبي مليكة قال ابن حبان: يعتبر حديثه إذا روى عنه غير يحي بن عثمان" وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم (16) .

حقيقة مذهب القدرية النفاة وبيان أنهم مجوس هذه الأمة

حقيقة مذهب القدرية النفاة وبيان أنهم مجوس هذه الأمة ... 1- فأما القدرية النفاة: فهم الذين يطلق عليهم أكثر العلماء اسم "القدرية". وهم الذين ورد فيهم الحديث، الذي في "السنن": " أنهم مجوس هذه الأمة "1. وأكثر أهل "المعتزلة" على هذا المذهب الباطل. وحقيقة مذهبهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد، وطاعاتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره. فأثبتوا قدرة الله على أعيان المخلوقات وأوصافها، ونفوا قدرته على أفعال المكلفين، وقالوا: إن الله لم يردها ولم يشأها منهم، بل هم الذين أرادوها وشاءوها، وفعلوها استقلالا بدون مشيئة الله. ويزعمون: أنهم بهذا القول ينزهون الله عن الظلم، لأنه لو قدر المعاصي عليهم، ثم عذبهم عليها، لكان ظالما لهم، وللزم من إثبات قدرة الله على أفعالهم الجبر، الذي هو باطل بالشرع والعقل، كما تقدمت الإشارة إليه.

_ 1 حديث حسن: رواه أبو داود (4691) والحاكم (1/85) من طريق أبي حازم سلمة بن دينار عن ابن عمر، وهو منقطع لأن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر، ولكن الحديث له شواهد ترقيه لمرتبة الحسن؛ ولذا حسنه الألباني في تخريج شرح الطحاوية لابن أبي العز (284) وفي تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم (238، 329) وراجع مختصر سنن أبي داود للمنذري (7/61) .

ولكنهم بهذا القول الباطل ردوا نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة تثبت وتصرح أن جميع أعمال العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية بقضاء الله وقدره. كما أجمع المسلمون: أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وسموا "مجوس هذه الأمة"، لأنهم أشبهوا "المجوس" الذين أثبتوا خالقا للخير، وخالقا للشر، وهو إبليس على زعم "المجوس" 1. وهؤلاء "القدرية" أثبتوا: أن الله خالق للعباد لأعيانهم وأوصافهم، ولم يثبتوا أنه خالق لأفعالهم. فأخرجوا أفعال العباد عن قدر الله، ولم يهتدوا إلى ما اهتدى إليه أهل السنة، من أن الله كما أنه الذي خلقهم، خلق ما به يفعلون من قدرتهم وإرادتهم، ثم فعلوا الأفعال المتنوعة من طاعة، ومعصية بقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقهما الله باتفاق المسلمين. حتى هؤلاء "القدرية" يثبتون: أن قدرة العباد وإرادتهم مخلوقة له. وحيث وقعت أفعال العباد بقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقهما الله في العبد ليتمكن بهما من كل ما يريده من أقوال وأفعاله. وخالق السبب التام خالق السبب.

_ 1 راجع معالم السنن للخطابي (7/56-58) وجامع الأصول لابن الأثير (10/128) .

فالعبد المؤمن: هو الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج، ويعمل أعمال البر، بما مكنه الله، وأعطاه من قدرة وإرادة يتمكن بهما من أفعال الخير. والعبد الكافر أو الفاجر،: هو الذي يشرك، ويقتل، ويزني، ويسرق ويعمل أجناس المعاصي، بما مكنه الله به وأعطاه من قدرة وإرادة يفعل بهما تلك الأفعال. والقدرة والإرادة اللتان أعطاهما الله للعبد خير ونعمة، وفضل من الله، لكن العبد العاصي هو الذي وجه قواه وأفعاله إلى أعمال الشر. فلم يكن له على الله حجة، بل لله عليه الحجة البالغة، نهج الله له طريق الخير فأباه، وسلك بنفسه طريق الشر وارتضاه، فلا يلومن من بعد ذلك إلا نفسه. فمن احتج مع ذلك على ربه وقال: إنه قدر علي المعاصي فلا لوم علي؟! 1

_ 1 ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس في مسألة الاحتجاج بالقدر فليراجع مجموع الفتاوى (8/303-371) .

الرد على من احتج بالمعاصي على القدر

الرد على من احتج بالمعاصي على القدر قيل له: هذه حجة أبطلها الله في كتابه، حيث قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام:148-149) .

فتضمنت هاتان الآيتان: أن الاحتجاج بالقدر على المعاصي باطل من وجوه: منها: أن هذا هو احتجاج المشركين. ومنها: أن هذا الاحتجاج بالقدر على الشر، لم يمنعهم من عذاب الله. حيث قال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} . ومنها: أن الله وبخهم على ذلك، وطالبهم بالبرهان في قوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} (الأنعام: 148) . فنفى عنهم العلم وأخبر أنهم يتبعون الظن الذي لا يغني من الحق شيئا. ومنها: أنه أخبر أن له الحجة البالغة على جميع من تجرأ على معاصيه. فمن احتج على المعاصي فهو أظلم الظالمين. وأيضا: فهذا المحتج بالقدر، المقيم لعذر نفسه على ربه، هو يكذب نفسه بنفسه، فإنه لو تجرأ عليه أحد بتعد على ماله أو بدنه أو محبوباته، واعتذر بالقدر لم يقبل عذره، فكيف يقبل عذر نفسه على تجرئه على ربه؟! فالمحتج بالقدر على المعاصي: يكذبه الكتاب والسنة والعقل، وضميره يكذبه كما ذكرنا، وإنما يقصد باحتجاجه دفع الشناعة عن نفسه. وكانت طائفة القدر في أول أمرهم ينكرون العلم، وينكرون القدر1 فيقولون: إن الله لا يعلم أعمال العباد قبل أن يعملوها، ولا تعلقت بها

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبى سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين بن الزبير وبين بني =

مشيئة الله. فلما شنع عليهم المسلمين وكفروهم بذلك تحولوا عن قولهم الأول، فأثبتوا العلم، وأنكروا القدر. ولهذا كان الأمة كالإمام أحمد، وغيره يقولون: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أنكروا العلم كفروا، وإن اعترفوا به خصموا"1. يعني: أن "القدرية" النافين لعلم الله بأفعال عباده، جاحدون لنصوص الكتاب والسنة المصرحة بإحاطة علم الله، بما كان وما يكون من أعيان وأوصاف، وأفعال، مما دق وجل. فمن أنكر ذلك فقد كذب الكتاب والسنة صريحا، وذلك هو الكفر. وإن اعترفوا بإحاطة علم الله بكل شيء، وبأفعال العباد قبل وقوعها كما هو القول الذي استقر عليه مذهبهم خصموا.

_ = أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم كما قال عبد الله بن عمر لما أخبر عنهم إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى بريء منهم وأنهم برءاء مني وكذلك كلام بن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون ثم كثر خوض الناس في القدر فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق لكن ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره فما شاءه فقد أمر به وما لم يشأه لم يأمر به "جموع الفتاوى (8/450) وراجع أيضا: مجموع الفتاوى (28/490، 13/36، 37، 7/384، 385) ومنهاج السنة النبوية (1/390) . 1 راجع السنة للخلال (1/532) .

ووجه ذلك: أنهم يقولون: إن أفعالهم لا تتعلق بها مشيئة الله وإرادته، وإنما هم مستقلون بها من كل وجه. إذا كان هذا قولهم في مشيئة الله، مع قولهم: وإن الله يعلم أعمال العباد قبل أن يعملوها؛ فهذا تناقض محض!! كيف يعلمها وهو لم يقدرها ولم يردها؟ هذا محال {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) . فيلزم أحد الأمرين: 1- إما أن لا يتناقضوا، فينفوا الأمرين علم الله بأفعاله، ومشيئته لها. فيتضح كفرهم. 2- وإما أن يرجعوا إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون، وهو: أنه تعالى كما أنه بكل شيء عليم، وبكل شيء محيط؛ فإنه على كل شيء قدير. ومن جملة الأشياء: أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم فهو تعالى يعلمها إجمالا وتفصيلا قبل أن يعملوها. وأعمالهم وأفعالهم داخلة تحت مشيئة الله وإرادته؛ فقد شاءها منهم وأرادها، ولم يجبرهم لا على الطاعات، ولا على المعاصي، بل هم الذين فعلوها باختيارهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير:28، 29) .

فهذه الآية فيها: رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة وإثبات للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة. فقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أثبتت أنه لهم مشيئة حقيقية وفعلا حقيقيا وهو الاستقامة باختيارهم. فهذا رد على الجبرية. وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أخبر أن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله، وأنها لا توجد بدونها. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ففيها رد على القدرية القائلين: إن مشيئة العباد مستقلة، وليست نابعة لمشيئة الله. بل عندهم: يشاء العباد ويفعلون ما لا يشاؤه الله ولا يقدره. ودلت الآية على الحق الواضح، وهو: أن العباد هم الذين يعملون الطاعات والمعاصي حقيقة، وليسوا مجبورين عليها. وأنها مع ذلك تابعة لمشيئة الله، كما تقدم كيفية وجه ذلك. والآيات الدالات على هذا كثيرة جدا. فهذه إحدى الطوائف الثلاث المخاصمين لله؛ فإنهم أنكروا عموم مشيئته وقدره، وجحدوا ما قرره الله في كتابه، وعلى لسان رسوله من شمول قدره لكل شيء. فزعموا: أن أفعال العباد خارجة من هذا العموم.

حقيقة مذهب القدرية المجبرة والرد عليهم

2- حقيقة مذهب القدرية المجبرة والرد عليهم وأما الطائفة الثانية فهم الجبرية: الذين يقال لهم: "القدرية المجبرة". وهم "غلاة الجهمية" الذين إمامهم في هذا وغيره "جهم بن صفوان" المتفق على بدعته، بل بدعه الخبيثة المتنوعة. *فزعموا: أن عموم مشيئة الله، وعموم إرادته تقتضي: - أن العبد مجبور على أفعاله، مقسور مقهور على أقواله وأفعاله. - لا قدرة له على شيء من الطاعات، ولا على ترك المعاصي. - ومع أنه لا قدرة له على ذلك عندهم، فهو مثاب معاقب على ما لا قدرة له عليه. وهذا القول من أشنع البدع وأنكرها. وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأئمة المهتدين، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. ومخالف للعقول والفطر، ومخالف للمحسوس. وكل قول يمكن صاحبه أن يطرده إلا هذا القول الشنيع، فإنه لا يمكن أن يعمل به ويطرده، كما تقدم: أنه لا يعذر من ظلمه وتعدى عليه، مع اعتذار المعتدي بالقدر. فإن الجبري لا يعذره، بل يرى اعتذاره بالقدر زيادة ظلم، وتهكما به.

فكيف يسلك هذا المسلك مع ربه، وهو لا يرتضيه لنفسه من غيره؟!. والمقصود: أن هذه الطائفة خالفت المنقول والمعقول. ونصوص الكتاب والسنة تبطل قولهم، فإن الله نسب أعمال العباد إليهم من الطاعات المتنوعة والمعاصي الكثيرة كلها يضيفها إلى الفاعلين ويخبر أنهم هم الفاعلون لها، ويستحقون جزاءها من خير وشر. فلو كان مجبورين عليها لم ينسبها لهم، ولم يضفها لهم، بل ينسب الأفعال إلى نفسه. حاشاه وتعالى عن ذلك. فلا يقال: الله هو الذي فعل الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية. بل يقول كل أحد: العبد هو الذي فعلها، والله هو الذي قدرها من غير أن يجبره عليها. ويلزم على قول "الجبرية" أيضا: إسقاط الأمر والنهي؛ لأنه كيف يؤمر وينهى من لا قدرة له على امتثال الأمر، واجتناب النهي؟! ويلزم أيضا على قولهم: إسقاط الحدود عن جميع أهل الجرائم؛ إذ كيف يعاقبون وتقام عليهم الحدود، وهم غير قادرين، بل مجبورون؟! فهذا القول الباطل مخالف لجميع أصول الدين وفروعه. ويلزم أيضا على قول الجبرية: تعطيل الأسباب الدينية والدنيوية. وذلك: أن الله تعالى جعل الأسباب موصلة إلى مسبباتها؛ وأمر العباد بسلوك كل سبب نافع لهم في دينهم ودنياهم.

فكيف يؤمرون وهم مجبورون غير قادرين؟! فالقول بالجبر فيه فساد الدين والدنيا. والذي حملهم على هذا القول مع ظهور فساده ظنهم: وأنه لا يمكنهم إثبات عموم مشيئة الله وقدره، حتى يسلبوا العبد قدرته. وقد غلطوا بهذا الظن، فإنه كما تقدم يتمكن العبد من إثبات عموم القدر، ومن إثبات أن الأعمال هي أعمال العباد حقيقة، لأن الله خلقهم وخلق كل ما فيهم من القوى الظاهرة والباطنة. وبقدرتهم وإرادتهم اللتين خلقهما الله ومكن العبد بها من كل ما يريده من خير وشر فعلوا الأمرين باختيارهم من غير إجبار.

حقيقة مذهب القدرية المشركة. وبيان أن الطائفة الثانية قد تشاركهم فيه

وقد تصل الحال بهذه الطائفة وتغلوا في القدر حتى يعتقدوا أن معاصيهم طاعات، لأنها بمشيئة الله، فيشاركون: 3- حقيقة مذهب القدرية المشركة وبيان أن الطائفة الثانية قد تشاركهم فيه الطائفة الثالثة، وهم القدرية المشركون الذين اعتذروا عن شركهم وتحريمهم ما أباح الله بالمشيئة. وجعلوا مشيئة الله هي محبته، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} . وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ

مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النحل:35) فهذه الطوائف الثلاث هم خصماء الله في قضاءه وقدره. 1- منهم من نفاه. 2- ومنهم من غلا فيه غلوا أوقعه في الباطل. 3- وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه بإذنه، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) . * فأثبتوا عموم قضاء الله ونفوذ مشيئته في كل شيء. * وأثبتوا مع ذلك أفعال العباد من الطاعات والمعاصي. * وقالوا: إنها واقعة باختيارهم. * ولا حجة للعاصين على الله إذا احتجوا على معاصيهم بقدره، بل حجتهم داحضة باطلة. * وقالوا: إن مشيئة الله غير محبته. - فمشيئته تعلقت بكل شيء موجود من خير وشر، وطاعة ومعصية. - ومحبته خاصة للطاعات وأهلها. - كما أخبر بذلك في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

بيان أصل ضلال الفرق الضالة عامة، وما يتعين على المكلفين اعتباره واعتقاده

بيان أصل ضلال الفرق الضالة عامة وما يتعين على المكلفين اعتباره واعتقاده ثم قال الشيخ رحمه الله: 6- وأصل ضلال الخلق من1 كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة 7-[فإنهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية] 2 8- فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة 9- وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة 10- مشيئته مع علمه، ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية 11- (وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة) الشرح يذكر الشيخ: أن أصل ضلال الخلق من جميع فرق الضلال والخوض في فعل الرب.

_ 1 في المطبوعة: (في) وما أثبته من الفتاوى والعقود. 2 ما بين المعقوفتين سقط من ألأصل و (س) واستدركته من الفتاوى والعقود 3 الأبيات من أول هذا البيت إلى بيت رقم 29 ساقط من العقود.

وذلك: أن جميع الكون العالم العلوي والسفلي وما فيهن من المخلوقات خلقها الله وأوجدها بمشيئته وقدرته. فإنه تعالى هو الواجب بأسمائه وصفاته القديمة التي لا أول لها، لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، ولم يزل بأسمائه وصفاته كذلك. فإذا كانت أوصافه كلها قديمة واجبة، لأنه واجب الوجود. فمن لوازم صفاته اللازمة لذاته: 1- العلم المحيط بكل شيء. 2- والقدرة الشاملة لكل شيء. 3- والمشيئة العامة لكل موجود. فهو تعالى لم يزل عليما فعالا لما يريد. وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها. فلم يخلق ولن يخلق شيئا عبثا، بل خلق المخلوقات وأبدع المبدعات بالحق وللحق، فهي صدرت عن الحق، واشتملت على الحق، وكانت غاياتها المقصودة الحق. فهذا: التقرير الصحيح لمذهب أهل السنة والجماعة. وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة.

فكما أنه تعالى أخبر: أنه على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه إذا أراد أمرا قال له:"كن" فيكون، وأن كل شيء خلقه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر، فكذلك قد أخبر: أنه الحكيم الذي شملت حكمته كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن بالحق، ولم يخلقهما باطلا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (صّ: 27) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115) {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36) . إلى غير ذلك من الآيات الدالات على الأصلين، وهما: عموم مشيئته لكل موجود، وشمول حكمته للخلق والأمر. هذا: الذي يتعين على المكلفين الاعتراف به واعتقاده.

بيان ما زعمه الجبرية، وإبطاله

بيان ما زعمه الجبرية، وإبطاله ... أما مذهب "الجبرية" فإنهم زعموا: أن فعل الرب وإبداعه لجميع المبتدعات لغير حكمة: بل أوجدها عندهم بمشيئة مجردة. وقالوا: إنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:23) ولا حجة لهم بالآية الكريمة، بل هي حجة عليهم، فإنه لا يسأل عما يفعل، لكمال حكمته، فلا يمكن مخلوقا أن يعترض على الله اعتراضا صحيحا في شيء من مخلوقاته. بل: لو اجتمعت عقول الخلق من أولهم وآخرهم ليقترحوا أحسن من خلقه وإبداعه وتكوينه، لعجزت عقولهم وقواهم.

وإنما حسب العقول الكاملة أن تدرك حكمة الله، وأن تفهمها، وما يخفى عليهم من الحكم أعظم وأكثر. * قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) . * وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: من الآية7) . * وقال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (الملك: من الآية3) . أي: نقص وخلو من الحكمة. * {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك:4) ومن تأمل في المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع المصنوعات، ورأى ما فيها من الحسن والانتظام والإتقان، وشاهد ما فيها من المنافع التي لا تحصى، شهد لله بكمال الحكمة، وعموم الرحمة. فتبا لمن زعم أن أفعال الباري صادرة عن محض المشيئة الخالية من الحكمة والرحمة. لقد ضلت أفهامهم حيث أنكروا أظهر الأشياء وأوضحها.

بيان أن الحكم لله وحده، وأن الخاق والأمر له سبحانه لا شريك له في ملكه

بيان أن الحكم لله وحده، وأن الخاق والأمر له سبحانه لا شريك له في ملكه ... بيان أن الحكم لله وحده، وأن الخلق والأمر له سبحانه لا شريك له في ملكه ولهذا، قال الشيخ: 12- ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة ... من المنكري آياته المستقيمة 13- بل الحق أن الحكم لله وحده له ... الخلق والأمر الذي في الشريعة الشرح: أي: إذا قلنا: إن جميع الكائنات جرت بمشيئة الله وإرادته، فلسنا نكرر حكمته، وآياته المستقيمة الدالة على الغايات المحمودة. بل نجمع بين إثبات الأمرين، ونعتقد شمول الأصلين لكل ما خلقه وشرعه. لأنه تعالى له الحكم وحده، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (لأعراف: 54) . أي: له وصفا وفعلا الخلق الشامل لكل مخلوق، والأمر الشامل لجميع الأحكام الشرعية. فكما [أنه] لا خالق سواه، فلا حاكم بين العباد سواه. وكما أن مخلوقاته مملوءة من الحكمة والرحمة، فشرعه العظيم أعظم وأعظم، كله حكمة، وكله رحمة. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50) .لا شريك لله في ملكه

لا شريك لله في ملكه

لا شريك لله في ملكه ... فلهذا، قال: 14- هو الملك المحمود في كل حالة ... له الملك من غير انتقاص بشركة الشرح: أي: له الملك كله، وله الحمد كله. لا شريك له في ملكه، ولا في حمده. فهو المحمود على ما له من الأسماء الحسنى، وعلى ما له من الصفات الكاملة العليا. وهو المحمود على فضله الشامل، ورحمته الواسعة، وعلى عدله وحكمته التي وضع بها الأشياء مواضعها. فيحمد على عدله، كما يحمد على فضله. كما قال الشاعر: ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع. إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع.

قدرة الله الكاملة وإرادته الشاملة

قدرة الله الكاملة وإرادته الشاملة وخلقه ومشيئته وقد قرر الشيخ هذا المقام، فقال مقررا، مكررا للمعاني بعبارات مختلفة، لأن المقام مهم جدا: 15- فما شاء مولانا الإله، فإنه ... يكون وما لا لا يكون بحيلة 16- وقدرته لا نقص فيها، وحكمه ... يعم. فلا تخصيص في ذي القضية 17- أريد بذا أن الحوادث كلها ... بقدرته كانت، ومحض المشيئة 18- ومالكنا في كل ما قد أراده ... له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة 19- فإن له في الخلق رحمته سرت ... ومن حكم فوق العقول الحكيمة 20- أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ... من الحكم العليا وكل عجيبة الشرح: يعني: أنه ما شاء الله كان، لا مانع من كونه ووجوده إذا شاءه الله. وما لم يشأ لم يكن، فلا يدرك بحيلة، ولو اجتمع عليه جميع الخلق.

* وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: قال: " ... واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك "1. فقدرة الباري تعالى كاملة لا نقص فيها. حدثت جميع الحوادث، ووجدت الموجودات بها وبمشيئته. وله في ذلك الخلق والإيجاد كمال الحكمة، وسعة الرحمة؛ التي تحار العقول في كثرتها، وسعتها وعظمتها. وهو المحمود تعالى على ذلك كله.

_ 1 حديث صحيح: وهو جزء من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس؛ رواه أحمد (1/293) والترمذي (2516) بإسناد حسن لا بأس به، وراجع طرقه في التعليق على نور الاقتباس بتحقيقنا. قال الحافظ ابن رجب: "تضمن هذا الحديث وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها؛ حتى قال الإمام أبو الفرج في كتابه صيد الخاطر: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، ثم قال: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة الفهم لمعناه"اهـ

إثبات قدرة الله الشاملة وخلقه ومشيئته

إثبات قدرة الله الشاملة وخلقه ومشيئته ... إثبات قدرة الله الكاملة والشاملة وخلقه ومشيئته ثم قال أيضا: 21- فنؤمن أن الله عز بقدرة ... وخلق وإبرام لحكم المشيئة 22- فنثبت هذا كله لإلهنا ... ونثبت ما في ذاك من كل حكمة 23- وهذا مقام طالما عجز الأولى ... نفوه وكروا راجعين بحيرة 24- وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ... وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة 25- هو المطلب الأقصى لوراد1 بحره ... وذا عسر في نظم هذي القصيدة 26- لحاجته إلى بيان محقق2 ... لأوصاف مولانا الإله الكريمة 27- وأسمائه الحسنى، وأحكام دينه ... وأفعاله في كل هذي الخليقة

_ 1 في الأصل: "لرواد" وما أثبته من الفتاوى و (س) . 2 في الفتاوى و (س) : "لحاجته إلى بيان محقق".

28- وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ... وإلهامه للخلق أفضل نعمة 29- وقد قيل في هذا وخط كتابه ... بان1 شفاء للنفوس السقيمة) الشرح كرر المؤلف هذه المعاني بهذه العبارات لما ذكره: أن المقام مقام عظيم طالما عجز الذين نفوه ولم يفهموه، وبقوا حائرين غير مهتدين. ومسائله العظيمة مستمدة من أسماء الله، وأوصافه، وأفعاله، ومعرفة دينه، والتدبر لكتابه. فمن تفقه في الأسماء الحسنى، واعترف لما لله من الصفات العليا وعرف أن أفعاله تعالى مشتملة على الحق، والحق غايتها ومقصودها وتدبر كتاب الله الذي فيه الهدى والشفاء، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. من عرف ذلك كله، واعترف به؛ وجزم جزما لا تردد فيه بأنه تعالى خلق المخلوقات وأوجدها ودبرها بمشيئة نافذة وحكمة شاملة ورحمة واسعة. وذلك: أن عظمة المخلوقات تدل على عظمة خالقها ومبدعها، وكمال قدرته.

_ 1 في الفتاوى و (س) : "بيان". 2 إلى هنا نهاية السقط في العقود.

* وما فيها من التخصيصات المتنوعة من كل وجه؛ يدل على نفوذ مشيئته وإرادته. * وما فيها من الحكم والانتظام، والحسن والالتئام والخلق الغريب والإبداع العجيب يدل على شمول علمه وإحاطته وشمول حكمته وحمده. * وما فيها من الخيرات الكثيرة، والمنافع الغزيرة؛ والصلاح والإصلاح يدل ذلك على سعة رحمته وبره، وكرمه وإحسانه. وتحقيق هذه المقامات هو: المطلب الأقصى لرواد الحقيقة. ولا سبيل لذلك إلا استمداد من كلام الله وكلام رسوله، واستنارة بهداية الأئمة المهتدين. ومعرفته وإلهامه للعباد من أجل نعم الله عليهم. والقرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشكوك، والشبهات والشهوات.

سؤال السائل: لم شاء الله كفر الكفار؟ مثل سؤال السائل: لم قدم الله هذا المخلوق على غيره؟

سؤال السائل: لم شاء الله كفر الكفار؟ مثل سؤال السائل: لم قدم الله هذا المخلوق على غيره؟ ... سؤال السائل: لم شاء الله كفر الكافر؟ مثل سؤال: لم قدم الله هذا المخلوق على غيره؟ ثم قال الشيخ مجيبا للمعترض: 30- فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال من ... يقول: فلم قد كان في الأزلية؟ 31- وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ... وتحريمه قد جاء في كل شرعة. الشرح يعني رحمه الله: أن سؤال السائل واعتراض المعترض بقوله: "لم شاء وكيف شاء كفر الكافرين، ووقوع العصيان من العاصين؟ "؛ ونحوها من الأسئلة المشابهة لذلك، كلها محظورة ممنوعة لأن الله تعالى هو الحاكم ليس محكوما عليه ولا يلزم أن يبدي لعباده كل حكمة اشتملت عليها مراداته ومفعولاته؛ فقد أخبر عباده بالأمر العم، وهو أنه حكيم في كل ما خلق، وكل ما شرع. وأما دقائق الخلق وأسرارها وأسرار أفعاله فعنده علمها، ولا يلزم أن يطلع العباد عليها، إلا ما شاء منها. وهذا مثل سؤال السائل: لم قدر الله هذا المخلوق على هذا المخلوق؟ ولم كان هذا المخلوق سابقا وهذا المخلوق لاحقا؟ فإنه تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء:23) فالعقل والشرع لا يبيح أمثال هذه الأسئلة التي يعترض بها العبد الحقير.

على الرب العظيم؛ فإنه محرم في جميع الشرائع. حتى وصلت بهم الحال إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقولوا هذا: الله خلق هذا الخلق؛ فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان، ولينته " 1.

_ 1 البخاري (3276) ومسلم (132) (209) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والرواية الثانية: عند مسلم (134) (213) .

أمره صلى الله عليه وسلم عند الشكوك والأسئلة المحرمة بثلاثة أشياء

أمره صلى الله عليه وسلم عند الشكوك والأسئلة المحرمة بثلاثة أشياء فأمر صلى الله عليه وسلم عند هذه الشكوك والأسئلة المحرمة بثلاث أشياء: 1- بالإيمان بالله لأنه الإيمان الصحيح يدفع هذه الشبهات. لعلم العبد المؤمن أنه تعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه لا منتهى لأوليته، كما لا منتهى لآخرته. 2- وبالإستعاذة بالله من الشيطان الموسوس الموقع لهذه الشكك والشبهات. 3- وأمره: أن ينهي، وأن يعلم: أن هذا سؤال باطل شرعا وعقلا وهو من باب المكابرة والمباهته؛ لأنه تعالى واجب الوجود، ووجود كل شيء بإيجاده.

ما في الكون تخصيصات كثيرة تدل على أنها بإرادة الله

ما في الكون تخصيصات كثيرة تدل على أنها بإرادة الله 32- وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل: أنه بإرادة 33- وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رمية حيرة 34- ولا ريب في تعليق كل مسبب ... بما قبله من علة موجبية 35- بل الشأن في الأسباب، أسباب ما ترى ... وإصدارها1 عن الحكم محض المشيئة الشرح يقول: إن في العالم العلوي والسفلي تخصيصات كثيرة جدا، تدل دلالة عقلية صريحة أنها بإرادة العزيز الحكيم. مثل جعل بعضها عاليا وبعضها سافلا. وبعضها كبيرا وبعضها صغيرا وبعضها متصلا وبعضها منفصلا، وبعضها على صفة وبعضها على صفة أخرى؛ مثل قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (النور: 45) .

_ 1 في العقود: "ومصدرها".

والتخصيصات لا يحيط بها الوصف وكلها تدل على أنها متعلقة بإرادة الله ومشيئته، وأنه الفعال لما يريد.

الرد على الفلافسة القئلين: ((إن الواحد لا يصدرعنه إلا واحد))

الرد على الفلافسة القئلين: ((إن الواحد لا يصدرعنه إلا واحد)) ... الرد على الفلاسفة القائلين: "إن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد" ومن الغلط العظيم والحيرة والضلال قول الفلاسفة: "إن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد". فإن هذا باطل شرعا وعقلا من وجوه كثيرة؛ ذكرها الشيخ في كتاب العقل والنقل، وفي المنهاج وغيرها من كتبه1 لكن الأمر الذي لا ريب فيه أن كل مسبب لا بد له من سبب وكل معلول لا بد من علة موجبة. وكل شيء لا بد من مادة قد خلق منها. لكن جميع الأسباب تنتظم في قضاء الله وقدره، وهي من القضاء والقدر، ولهذا لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله: أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقيها، وتقاة نتقيها؛ هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله "2. وثبت في الصحيحين: أن الصحابة رضي الله عنهم حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، القدر السابق قالوا: " يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا

_ 1 درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية (8/265) والتدمرية ص (211) . 2 حديث صحيح: رواه أحمد (3/421) والترمذي (2065) وابن ماجه (3437) من حديث أبي خزيمة رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

الأول وندع العمل؟ فقال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1 (الليل:5-10) فبين صلى الله عليه وسلم أن السعادة والشقاوة وإن كانت مقدرة مفروغا منها. فإن الله قدرها بأسبابها، وهو أن الله ييسر أهل السعادة لليسرى، بما فعلوه من الأسباب الثلاثة: وهي قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وأنه ييسر أهل الشقاوة للعسرى، بما فعلوه من الأسباب الثلاثة وهي: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .

_ 1 البخاري (1362) ، (4946) (4949) ومسلم (2647) (6) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

مشيئته تعالى لا تنافي ما جعله من الأسباب الدنيوية والأخروية

مشيئته تعالى لا تنافي ما جعله من الأسباب الدنيوية والأخروية ومشيئته تعالى لا تنافي ما جعله من الأسباب الدنيوية والأخروية. فقد أخبر في عدة آيات: أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء. وفي آيات أخر أخبر بالأسباب التي تنال بها هداية الله، ويستحق بها العبد أن يبقى على ضلاله.

* كقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16] . * وكقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . * وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [لأنفال:29] * وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] * وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] * وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10] * وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] * وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] وهذه الآيات فيها من أسرار القدر في هداية من يهديه وإضلال من يضله ما شهد لله بكمال الحكمة والحمد. وكذلك أخبر في عدة آيات أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفي آيات أخر أخبر عن الأسباب التي تنال بها مغفرة الله مثل قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] والأسباب التي يستحق بها العذاب مثل قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] وكذلك أخبر في آيات كثيرة: أنه يرزق لمن يشاء، ويوسع الرزق على

من يشاء ويقبضه على من يشاء، وفي آيات أخر ذكر الأسباب التي ينال بها رزقه؛ مثل قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) . وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} (الطلاق: 4) . كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له أجله فليصل رحمه "1. وكذلك الأسباب المادية، مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:15)

_ 1 البخاري (5986) ومسلم (557) (21) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وراجع شرح المصنف للحديث في بهجة قلوب الأبرار ص (316-318) بتحقيقنا.

جميع المطالب الدنيوية والأخروية جعل لها أسبابا متى سلكها الإنسان حصل له مطلوبه

جميع المطالب الدنيوية والأخروية جعل لها أسبابا متى سلكها الإنسان حصل له مطلوبه وجميع المطالب الدنيوية والأخروية، جعل لها أسبابا متى سلكها الإنسان حصل له مطلوبه؛ وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، في كلمة واحدة فقال: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله "2. فقوله: " احرص على ما ينفعك " أي: في دينك ودنياك، واسلك كل طريق يوصلك إلى هذه المنفعة. ولكن لا تتكل على حولك وقوتك بل توكل على الله، واستعن به. فمن فعل ذلك: فهو عنوان سعادته ونجاحه؛ وإلا فلا يلم العبد إلا نفسه.

_ 1 جزء من حديث رواه مسلم (2664) (34) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وراجع شرح المصنف للحديث في بهجة قلوب الأبرار ص (51-60) .

الاعتراض عن الله فيما يشاء هو الذي أضل عقول الخلق وعلى رأسهم المجوس ومن تابعهم

الاعتراض عن الله فيما يشاء هو الذي أضل عقول الخلق وعلى رأسهم المجوس ومن تابعهم 36- وقولك: لم شاء الإله؟ هو الذي ... أزل1 عقول الخلق في قعر حفرة 37- فإن المجوس القائلين بخالق ... لنفع، ورب مبدع للمضرة 38- سؤالهم عن علة الشر2، أوقعت ... أوائلهم في شبهة الثنوية الشرح يعني: أن هذا السؤال الذي مضمونه الإعراض على الله ومضمونه أيضا الدخول فيما ليس للعقل سبيل إليه لم يزل يضل عقول الخلق ويلقيهم في الهلاك. وهو الذي أوقع المجوس القائلين: إن الخالق اثنان خالق الخير هو الله، وخالق الشرور هو الشيطان. فأشركوا بالربوبية بعد شركهم في الإلهية فكانوا يعبدون النار، ويستحلون المحارم. فزاد شركهم على المشركين: - من جهة استحلال المحارم. - ومن جهة اعتقادهم: أن إبليس خالق الشر.

_ 1 في الأصل: "أضل" وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود. 2 في الأصل و (س) والفتاوى: "السر" بالسين وما أثبته من العقود.

فجعلوا رب العالمين اثنين؛ ولهذا يقال لهم: الثنوية1. والذي أوقعهم في هذا الشر العظيم الذي لم يصل إليه المشركون هذا السؤال؛ فقالوا: كيف يخلق الله الشر؟! فعلينا أن ننزه الله عن خلق الشر، فأتوا بهذه الطامة الكبرى، والمقالة الشنعاء. يقول الشيخ رحمه الله: "فهؤلاء المشككون الذين يقولون: كيف يقدر الله علينا الكفر والمعاصي، ويعذبنا على ذلك؟ قد تابعوا في اعتراضهم، كل كفار عنيد من (المجوس الثنوية) .؛ وكذلك من هم أعظم منهم شرا وجرما ملاحدة الفلاسفة"

_ 1 راجع الكلام على التنويه الذين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان في: أصول الدين للبغدادي (53، 54) الملل والنحل للشهرستاني (2/72-91) واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص (86-89) والتدمرية لابن تيمية (178) .

ملاحدة الفلاسفة أوقعتهم عقولهم الفاسدة في الهلاك

ملاحدة الفلاسفة أوقعتهم عقولهم الفاسدة في الهلاك 39- وإن ملاحيد الفلاسفة الأولى ... يقولون بالفعل القديم لعلة 40- بغوا علة للكون1 بعد انعدامه ... فلم يجدوا ذاكم، فضلوا بضلة فلهذا قال الشيخ: الشرح يعني: أن ملاحدة الفلاسفة المعطلين لله ولكتبه ورسله، المكذبين لهم أوقعتهم عقولهم الفاسدة في الهلاك. حيث حكموها في البحث عن علة إيجاد هذا الكون فلم تهتدي لذلك لقصورها وتقصيرها. فزعم كثير منهم: "أن هذا العالم قديم، وأنه لم يزل ولا يزال". وبذلك أنكروا وجود الرب العظيم. ومن باب أولى: أنكروا رسله، وكتبه وتضاربت نظرياتهم الفاسدة فضلوا وأضلوا. ولقد صدق عليهم قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:83]

_ 1 في الأصل: و (س) : "في الكون" وما أثبته من الفتاوى والعقود.

ثم إن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة في هذه الأوقات أبطلوا بأنفسهم نظرية أسلافهم وأحدثوا لهم نظريات متعددة متضاربة، مبنية على الخرص، والجهل المركب. ولم يزالوا في اضطراب. وهذه حالة كل من ترك الحق واستكبر عنه، وتاه بعقله. قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [قّ:5]

مبادئ الشر في كل أمة كتابيه، نشأت من مثل هذا الإعراض

مبادئ الشر في كل أمة كتابيه، نشأت من مثل هذا الإعراض ولهذا قال الشيخ: 41- وإن مبادي الشر في كل أمة ... ذوي ملة ميمونة نبوية 42- لخوضهم1 في ذاكم، صار شركهم ... وجاء دروس البينات بقترة2 الشرح: يعني: وكذلك الأمم الذين ينتسبون للأنبياء كاليهود والنصارى مبادي شرهم وشركهم جنس هذا السؤال، وخوضهم بالباطل، فانحرفوا عن أديان الأنبياء، واتبعوا كل شيطان مريد. *قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101] فأخبر: أنهم تركوا الإيمان بسيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضل الكتب وتعوضوا عن ذلك بالعلوم الباطلة، التي هي السحر، ونحوها. فكل من ترك الأمور النافعة، ابتلي بالأمور الضارة. وكل زهد من بالحق وقع في الباطل. وهذا مطرد في كل زمان ومكان، وكل أمة.

_ 1 في الفتاوى والعقود: "بخوضهمو". 2 في الأصل: "وجاء دروس البينات بفترة" وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود.

ما ينقض ويلزم القول بالاحتجاج بالقدر على المعاصي

ما ينقض ويلزم القول بالاحتجاج بالقدر على المعاصي 43- ويكفيك نقضا أن ما قد سألته ... من العذر مردود لدى كل فطرة 44- فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ... عليك، وترميهم بكل مذمة 45- وتنحل من والاك صفو مودة ... وتبغض من ناواك1 من كل فرقة 46- وحالهم في كل قول وفعلة ... كحالك يا هذا بأرجح حجة الشرح: وهذا كما تقدم إلزام ونقص واضح، على من اعتذر عن مخالفته ومعاصيه بالقدر. فإنه في فطرة كل عاقل: أن من ذمك ذمته، ومن عابك عبته، ومن ظلمك في نفسك أو مالك، عاملته معاملة الظالم. فكيف تعذر نفسك إذا عصيت الله، ولا تعذرهم إذا ذموك، أو ظلموك بل تبغضهم وتذمهم، وتقابلهم على ظلمهم بما تقدر عليه؟! وهذا شيء كل أحد يعرفه. فاتضح بهذا: أن المحتج بالقدر على المعاصي، كما أنه مخالف للشرع والعقل، فهو مخالف للفطرة التي فطر عليها كل أحد. بل هو مكابر مستهزئ.

_ 1 في الأصل: "ناداك" والتصويب من ((س)) و ((الفتاوى)) و ((العقود)) .

أمثلة للرد على المعترضين بأقدار الله على المعاصي ثم أعاد هذه المعاني، بذكر أمثلة توضح المقام، لكونه من أهم المهمات فقال: 47- وهبك كففت اللوم عن كل كافر ... وكل غوي خارج عن محبة 48- فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ... على الناس في نفس، ومال، وحرمة 49- فلا1 تغضبن يوما على سافك دما ... ولا سارق مالا لصاحب فاقة 50- ولا شاتم عرضا مصونا، وإن علا ... ولا ناكح فرجا على وجه غية 51- ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ... ولا مفسد في الأرض في كل وجهة 52- ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ... ولا قاذف للمحصنات بزنية2 53- ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ... ولا حاكم للعالمين برشوة

_ 1 في الفتاوى والعقود: "ولا". 2 في العقود: "برية".

54- وكف لسان اللوم عن كل مفسد ... ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة 55- وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ... على ربهم، من كل جاء بفرية 56- وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ... بروم فساد النوع، ثم الرياسة 57- وجادل عن الملعون، فرعون، إذ طغى ... فأغرق في اليم انتقاما بغصة1 58- وكل كفور مشرك بإلهه ... وآخر طاغ كافر بنبوة 59- كعاد، ونمروذ، وقوم لصالح ... وقوم لنوح2، ثم أصحاب الأيكة 60- وخأصم لموسى، ثم سائر من أتى ... من الأنبياء محييا للشريعة

_ 1 كذا في المطبوع و (س) وفي الفتاوى: "بغضبة" وفي العقود: "بعصية". 2 في الأصل: "للوط" وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود.

61- على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا ... ونالوا من العاصي1 بليغ العقوبة 62- وإلا فكل الخلق في كل لفظة ... ولحظة عين، أو تحرك شعرة 63- وبطشة كف، أو تخطي قديمة ... وكل حراك، بل وكل سكينة 64- هم تحت أقدار الإله وحكمه ... كما2 أنت فيما قد أتيت بحجة الشرح: هذه الإلزامات التي ذكرها الشيخ في غاية القوة والوضوح، يبطل كل واحد منها اعتذار المعتذرين بالأقدار. ومثل بأمثلة كثيرة يعرفها كل أحد، لأن كثرة الأمثلة توضح المعاني وتصور المقالات القبيحة بأشنع صورة. ولأنه لو فرض أنه تأول من ألزم بها بعض هذه الأمثلة باحتمالات ضعيفة، لم يكن له سبيل إلى بقيتها. فالشيخ يقول لهؤلاء المعارضين، المعترضين بأقدار الله على المعاصي:

_ 1 في الفتاوى: "المعاصي". 2 في (س) والمطبوعة: "فيما" وما أثبته من الفتاوى والعقود.

يلزمكم أن تعرضوا عن كل ظالم للناس في دمائهم وأعراضهم وأموالهم. فلا تغضبون على من سفك الدماء وأخذ الأموال بالغضب والسرقة، ولا من شتم الأعراض، ولا على الزناة وقطاع الطرق والمفسدين في الأرض ولا قاذف أو شاهد بالزور، ولا من سعى في الأرض، ليهلك الحرث والنسل، ولا من حكم بالرشوة وجار في حكمه. بل يجب عندهم كف اللسان عن كل مفسد معتد على الخلق. بل عليك أن تسهل سبيل الكاذبين على ربهم، وتعتذر عنهم، وإن سعوا في إضلال الناس. بل وجادل عن أئمة الكفر، كفرعون وقارون وهامان، وكل مشرك وكافر، كعاد وثمود، ونمرود، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، وما أشبههم من الكفار المعاندين. بل على قول هؤلاء، عليك أن تخاصم جميع الرسل والأنبياء، حيث جاهدوا الناس على الإيمان، وعاقبوا أهل الجرائم، لأن الخلق كلهم في جميع حركاتهم وسكناتهم، ولفظاتهم ولحظاتهم تحت أقدار الله. وهذا القول الفظيع الذي يفضي إلى هذه المكابرات، والمجاهرة بتكذيب الله ورسله وكتبه حسب الناظر لهذا القول: أن يتصور هذه اللوازم التي هي غاية المشاقة لله ولرسله، وفيها فساد الدين والدنيا والآخرة.

إلزامات أخرى تدحض حجة المعرضين بأقدار الله على المعاصي

إلزامات أخرى تدحض حجة المعرضين بأقدار الله على المعاصي 65- وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ... فعال ردى، طردا لهذي1 المقيسة 66- فهل يمكنن2 رفع الملام جميعه ... عن الناس طرا عند كل قبيحة؟ 67- وترك عقوبات الذين قد اعتدوا ... وترك الورى الإنصاف بين الرعية 68- فلا تضمنن نفس ومال بمثله ... ولا يعقبن3 عاد بمثل الجريمة 69- وهل في عقول الناس، أو في طباعهم ... قبول لقول النذل: ما وجه حيلتي؟! الشرح لما ذكر الشيخ تلك الإلزامات التي لا محيد لهم عنها، ألجأهم أيضا إلى إلزامات أخر، فقال: فلو فرض أنك أيها المعتذر بالقدر على المعاصي رفعت اللوم عن العاملين لمعاصي الله، المتجرئين على محارمه: فهل يمكنك طرد ذلك، وترك عقوبات المعتدين، وترك الحدود عن أهل

_ 1 في المطبوعة: "لهدى" بالدال. وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود. 2 في الفتاوى: "يمكن". 3 في العقود: "تعقبن".

الجرائم، بحيث لا يضمن القاتل نفسا، ولا الغاضب والمتلف مالا، ولا ينصف الحكام بين رعاياهم إذا قالوا وادعوا أنهم معذورون بالقدر؟! وهل في عقل أحد أو فطرته، قبول قول الواحد من هؤلاء المجرمين: ما وجه حيلتي، وأنا معذور؟ فإني وإن خالفت الشرع فقد وافقت القدر؟ وهل هذا إلا تلاعب محض، وتهكم صرف؟!

أمثلة أخرى للرد على المحتجين بأقدار الله على المعاصي

أمثلة أخرى للرد على المحتجين بأقدار الله على المعاصي ثم قال: 70- ويكفيك نقضا: ما بجسم ابن آدم ... صبي، ومجنون، وكل بهيمة: 71- من الألم المقضي من1 غير حيلة ... وفيما يشاء الله أكمل حكمة 72- إذا كان في هذا له حكمة، فما ... يظن بخلق الفعل، ثم العقوبة؟ 73- فكيف2، ومن هذا عذاب مولد ... عن الفعل، فعل العبد عند الطبيعة؟ 74- كآكل سم، أوجب الموت أكله ... وكل بتقدير لرب المشيئة3 75- فكفرك يا هذا؛ كسم أكلته ... وتعذيب نار. مثل جرعة غصة 76- ألست ترى في هذه الدار من جنى ... يعاقب. إما بالقضا. أو بشرعة؟

_ 1 في الفتاوى والعقود: "في". 2 في الفتاوى والعقود: "وكيف". 3 في الفتاوى والعقود: البرية"".

77- ولا عذر للجاني بتقدير خالق ... كذلك في الأخرى بلا مثنوية الشرح: يعني: أنه يكفيك نقضا لقولك، وإبطالا له: أن الله تعالى يقضي بحكمته الآلام على غير المكلفين، من الصبيان والمجانين والبهائم. وهذه الآلام من لوازم الطبيعة: فلا تنفك الطبائع إلا أن تكون على هذه الصفة، تكون صحيحة ومريضة، ومرتاحة ومتألمة، بحسب ما يعرض للطبيعة من استقامة وانحراف. فإذا كانت أسباب الآلام، إذا وجدت، تولدت عنها الآلام، وترتبت عليها الأسقام، كمن أكل سما ترتب عليه الهلاك، أو ألقى نفسه في نار أو مهلكة، لابد أن يترتب عليه مقتضاه وأثره. فإذا كنت لا تعذر من أكل سما أو ألقى نفسه في التهلكة، وتنسب هلاكه إلى عمله، فالكفر والمعاصي كذلك، بل أبلغ، لأن آكل السم والملقي نفسه بالهلكة، ربما يعرض بعض العوارض المانعة من الهلاك. بخلاف الكفر وتوابعه، فإن آثاره مترتبة عليه قطعا، إلا إذا رفعها العبد بتوبة نصوح.

ومما يؤيد هذا: أنك تشاهد في هذه الدار عقوبات الباغين والظالمين والمعتدين، عقوبات يشاهدها كل أحد: العقوبات القدرية * إما عقوبات قدرية: يوقعها الله بالمجرمين، كما أهلك الأمم السابقة بالعقوبات المتنوعة؛ وكما يشاهده من سبر أحوال الخلق، وتتبع ما جرياتهم وكيف كانت عواقب الباغين والمجرمين أشنع العواقب. العقوبات الشرعية * وإما عقوبات شرعية: يقتل القاتل، ويقطع السارق ويقام الحد بالرجم أو الجلد على الزنى ويجلد الشارب للخمر ويعذر في كثير من المعاصي. فهل تقول أيها المعتذر على العاصين بالقدر: إن جميع هؤلاء قد ظلمهم الله حيث أوقع بهم هذه العقوبات، وحيث أحل بهم المثلات؟ فإن قلت ذلك: فقد بلغت من عداوة الله وعداوة رسله، ومحاربة الله مبلغا ما بلغه أحد. وإن رجعت إلى الحق وقلت: إن هذه العقوبات القدرية والشرعية هي عدل الله بين عباده، وهي حكمنه التي وضعها الله موضعها وجعلها في محلها اللاحق بها؛ وليس لهؤلاء الجناة المعاقبين عذر بل أصابهم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. فالرجوع إلى الحق أحق. وبذلك وغيره؛ يتضح بطلان الاعتذار بالقدر عن المجرمين.

كما جعل الله الذنوب والجرائم أسبابا للعقوبات، فقد جعل الله التوبة وأعمال الخير أسبابا للعفو

كما جعل الله الذنوب والجرائم أسبابا للعقوبات، فقد جعل الله التوبة وأعمال الخير أسبابا للعفو وشبيه بهذا أيضا قول الشيخ: 78- وتقدير رب الخلق للذنب1 موجب ... بتقدير2 عقبى الذنب إلا بتوبة 79- وما3 كان من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أفعال العباد الخبيثة 80- كخير4 به تمحى الذنوب. ودعوة ... تجاب5 من الجاني. ورب شفاعة 81- وتقديره للفعل يجلب نعمة6 ... كتقديره الأشياء7 طرا بعلة الشرح يعني: كما جعل الله الذنوب والجرائم أسبابا للعقوبات، فقد جعل الله التوبة وأعمال الخير والدعوات والشفاعات؛ تمحى بها الذنوب وتكشف بها الكروب. فالله تعالى بحكمته ورحمته جعل أعمال العباد خيرها وشرها

_ 1 في المطبوعة: "لذنب" وما أثبته من (س) والفتاوى والعقود. 2 في الفتاوى: "لتقدير". 3 في العقودك "ومن". 4 فيالعقود: "كجبرية" وهو خطأ. 5 في المطبوعة: "تحاب" بالحاء والتصويب من الفتاوى. 6 في الفتاوى والعقود: "نقمة" ويتنبه إلى أن: هذا البيت متقدم على الذي بعده من الفتاوى والعقود 7 في العقود: "الآثار".

تترتب عليها آثارها، وتحصل موجباتها عاجلا وآجلا. فكم جلبت أفعال الخير من نعم؟ وكم دفعت من نقم؟ كذلك أفعال الشر؛ كم حصل بها من عقوبات؟ وكم ترتب عليها من شرور ومصائب. فهذه أمور لا بد منها في قدر الله، وفي حكمه الشرعي، وحكمه الجزائي الذي يحمد عليه لما فيه من العدل والفضل.

اعتذار المجرم بأن الذنب مقدر عليه، مثل قول الحيوان المفترس والشرير: "هذه طبيعتي فلا لوم علي"

اعتذار المجرم بأن الذنب مقدر عليه، مثل قول الحيوان المفترس والشرير: "هذه طبيعتي فلا لوم علي" ... ثم قال الشيخ رحمه الله: 82- وقول حليف الشر: إني مقدر ... علي. كقول الذئب: هذي طبيعتي 83- فهل ينفعن عذر الملوم 1. بأنه ... كذا طبعه. أم هل يقال لعثرة؟ 84- أم الذم والتعذيب أوكد للذي ... طبيعته فعل الشرور الشنيعة؟ الشرح يعني: أن المجرم إذا اعتذر بذلك العذر المردود، وقال: "إن الذنب مقدر علي" فهو مثل قول الذئب والسبع المفترس، ومثل الشرير: إذا فعل الشر والعدوان والبغي، وقال: "هذه طبيعتي فلا لوم علي". فهل يرفع هذا القول عنه الملام والعقاب أم يكون لومه أشد وعقوبته أوكد لأنه عمل العمل القبيح واتصف بالخلق القبيح فكان أغظ جرما وأشد عقوبة ممن فعل جرما عارضا؛ فإنه يرجى له الرجوع والتوبة بخلاف الشرير، الذي طبيعته وقوته متوجهة إلى الشرور والمعاصي.

_ 1 في الفتاوى والعقود: "فهل ينفعن عذر الملوم".

ما ينجي المكلف من هذا المأزق الحرج

ما ينجي المكلف من هذا المأزق الحرج ثم ذكر الشيخ ما ينجي العبد من هذا المأزق الحرج، فقال: 85- فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ... ينجيك من نار الإله العظيمة 86- فدونك رب الخلق، فاقصده ضارعا ... مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة 87- وذلل قياد النفس للحق، واسمعن ... ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة1 88- ودع دين ذي العادات، لا تتبعنه ... وعج عن سبيل الأمة الغضبية2 89- وما بان من حق فلا تتركنه ... ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة 90 - ومن ضل عن حق فلا تقفونه3 ... وزن ما عليه الناس بالمعدلية 91- هنالك تبدو طالعات من الهدى ... بتبشير4 من قد جاء بالحنيفية

_ 1 هذا الشطر مكانه مكان الشطر الثاني في البيت بعد البيت التالي في الفتاوى والعقود. 2 هذا البيت تقدم على الذي بعده في الفتاوى والعقود. 3 في المطبوعة: "تفقونه" والتصويب من الفتاوى والعقود. 4 في الفتاوى والعقود: "تبشر".

92- بملة إبراهيم. ذاك إمامنا ... ودين رسول الله خير البرية 93- فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي ... به جاءت الرسل الكرام السجية 94- وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ... حوى كل خير في عموم الرسالة 95- وأخبر عن رب العباد بأن من ... غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة 96- فهذي دلالات العباد لحائر ... وأما هداه1 فهو فعل الربوبية 97- وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من ... غدا عنه، بل يجزى2 بلا وجه حجة الشرح هذه نصائح نفيسة من نصائح الشيخ، مسندة إلى الكتاب والسنة. يقول: إذا كنت أيها العبد تريد نجاتك من عذاب الله والفوز بثوابه

_ 1 في العقود: "لا يقبل". 2 في المطبوعة: "يجرى" بالراء وما أثبته من الفتاوى.

فاقصد ربك، متضرعا له آناء الليل والنهار واسأله أن يهديك الصراط المستقيم، ووطن نفسك للانقياد للحق، واقبله ممن قاله؛ وكن ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه. ودع عنك دين العادات، واقتداء بأهل الغضب والضلال. وأكثر من التدبر لكتاب الله وسنة نبيه؛ ثم ما بان لك من الحق فاتبعه غير مبال بخلاف المخالفين. واجعل كتاب الله وسنة نبيه نصب عينيك، وزن بهما أحوالك وأحوال غيرك؛ فإنهما الميزان العادل غير العائل فإنك إذا فعلت ذلك، حصلت لك تباشير الخير، وأمارات السعادة. واتبع ملة إبراهيم حنيفا، مائلا عن جميع الأديان والبدع، إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله لا يقبل من أحد دينا سوى الدين الذي ارتضاه لرسله وأتباعهم، حتى ختمهم بإمامهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي جمع الله به وله من المحاسن والكمالات، ما لم تجتمع في غيره وقد أخبر عن ربه أن من اتبعه فهو المهتدي السعيد، ومن تولى عنه فهو الضال الطريد. ثم قال: وهذا الذي بينته في هذه الأبيات؛ فيه الدلالة للحيران والتفاصيل التي يحصل بها الفرقان، والهداية بيد الله؛ لكنه من أقبل على الله صادقا، وعمل بأسباب الهداية، فلا بد أن يقبله الله ويسلك به الصراط المستقيم.

احتجاج المحتج بتقدير الرب يزيده عذابا

احتجاج المحتج بتقدير الرب يزيده عذابا 98- وحجة محتج بتقدير ربه ... تزيد1 عذابا، كاحتجاج مريضة الشرح وذلك لأنه عمل في الحقيقة جرمين، بل ثلاثة: أحدهما: فعله للذنب. ثانيا: احتجاجه عليه بالقدر. وهو كذب؛ فإن مضمون الاحتجاج بالقدر؛ يعني: أن الله اضطره وألجأه إليه، وأكرهه عليه، وهو لا يريد الذنب. وهو كذب صريح: فإن الله مكنه من الترك. بل فتح له كل باب يصده عن الذنب؛ وقد أبت نفسه الأمارة بالسوء إلا أن توقعه في الذنب. فالملام عليه لا على ربه. ثالث: أنه بهذا الإعتذار، يمهد على نفسه الإصرار على الذنوب، والإقامة على ما يسخط علام الغيوب. فإن هذا الإعتذار يهون عليه كل ذنب، كما هو مشاهد.

_ 1 في الفتاوى: "تزيد" وفي العقود: "يزيد" وهو خطأ.

الرد على من احتج على المعاصي: بأنها من قضاء الله الذي يجب الرضا به

الرد على من احتج على المعاصي: بأنها من قضاء الله الذي يجب الرضا به 99- وأما رضانا بالقضاء فإنما ... أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة 100- كسقم، وفقر، ثم ذل، وغربة ... وما كان من مؤذ1، بدون جريمة 101- فأما الأفاعيل التي كرهت لنا ... فلا نص يأتي في رضاها بطاعة2 102- وقد قال قوم من أولي العلم: لا رضا ... بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة3 103-[فإن إله الخلق لم يرضها لنا ... فلا نرتضي مسخوطة لمشيئة] 4 104- وقال فريق: نرتضي بقضائه ... ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة5 105- وقال فريق نرتضي بإضافة ... إليه. وما فينا فنلقي بسخطة6

_ 1 في العقود: "ومكان سوء". 2 مكان هذا الشطر في الفتاوى والعقود: "فلا ترضي مسخوطة لمشيئة". 3 في العقود: "الكريهة". 4 هذا البيت ما بين القوسين غير موجود في الفتاوى والعقود. 5 هذا البيت ساقط من العقود. 6 في العقود: "لها وما فيها فيلقى بسخطة".

106- كما أنها للرب خلق، وأنها ... لمخلوقه، ليست1 كفعل الغريزة 107- فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ... ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة2 الشرح يعني: إذا أورد المورد علينا: أنه يجب الرضا بقضاء الله. يعني: والمعاصي من قضاء الله، فقد أجاب الشيخ بأربعة أجوبة كل واحد منها كاف شاف، فكيف إذا اجتمعت: أحدها: أن الذي أمرنا أن نرضى به المصائب دون المعائب. فإذا أصبنا بمرض أو فقر، أو نحوهما من حصول مكروه، أو فقد محبوب فيجب علينا الصبر على ذلك. واختلف في وجوب الرضا. والصحيح: استحبابه، لأنه لم يثبت ورود الأمر به على وجه الوجوب ولتعذره على أكثر النفوس لأن الصبر: حبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى والأعضاء عن عملها بمقتضى السخط، من نتف الشعر وشق الجيوب وحثو التراب على الرؤوس ونحوها.

_ 1 في الأصل: "كسب" وما أثبته من الفتاوى والعقود. 2 في المطبوعة و (س) والعقود: "بحلية" وما أثبته من الفتاوى.

وذلك واجب مقدور. وأما الرضا الذي هو مع ذلك: طمأنينة القلب عند المصيبة، وأن لا يكون فيه تمني أنها ما كانت فهذا صعب جدا على أكثر الخلق، فلهذا لم يوجبه الله ولا رسوله، وإنما هو من الدرجات العالية، وهو مأمور به أمر استحباب. وأما الرضا بالذنوب والمعائب، فلم نؤمر بالرضا بها، ولم يأت نص صحيح أو ضعيف في الأمر بها، فأين هذا من ذاك؟!. الجواب الثاني: ما قاله طائفة من أهل العلم: إن الله لم يرضى لنا أ، نكفر ونعصي، فعلينا أ، نوافق ربنا في رضاه وسخطه. قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] . فالدين موافقة ربنا في كراهة الكفر والفسوق والعصيان مع تركها وموافقته في محبة الشكر والإيمان والطاعة لنا نع فعلها. الجواب الثالث: أن القضاء غير المقضي. فنرضى بالقضاء، لأنه فعله تعالى. وأما المقضي الذي هو فعل العبد فينقسم إلى أقسام كثيرة: 1- الإيمان والطاعة: علينا الرضا بها. 2- الكفر والمعصية: لا يحل لنا الرضا بها، بل علينا أن نكرهها

ونفعل الأسباب التي ترفعها من التوبة والاستغفار، والحسنات الماحية وإقامة الحد والتعزيز على من فعلها. 1- والمباحات: مستوية الطرفين. الجواب الرابع: أن الشر والمعاصي تختلف إضافتها، فهي من الله: خلقا وتقديرا وتدبيرا، وهي من العبد: فعلا وتركا. فحيث أضيفت إلى الله قضاء وقدرا نرضى بها من هذا الوجه وحيث أضيفت إلى العبد: نسخطها، ونسعى بإزالتها بحسب مقدورنا. فهذه الأجوبة عن الأمر بالرضا بالقضاء، قد اتضح أنها لا تدل على شيء من مطلوب المعترض.

بيان حقيقة معصية المكلف، وأن الله قد وضع أسبابا لأفعال العباد، وأن حكمته اقتضت افتراقهم بالعلم والجهل وما إلى ذلك

بيان حقيقة معصية المكلف، وأن الله قد وضع أسبابا لأفعال العباد، وأن حكمته اقتضت افتراقهم بالعلم والجهل وما إلى ذلك ثم قال الشيخ: 108- ومعصية العبد المكلف تركه ... لما أمر المولى، وإن بمشيئة 109- فإن إله الخلق حق مقاله ... بأن العباد1 في جحيم وجنة 110- كما أنهم في هذه الدار هكذا ... بل البهم في الآلام أيضا ونعمة الشرح يعني: أن معصية العبد: تركه لما أمر الله به ورسوله، وإن كان ذلك بمشيئة الله. فالله تعالى شاءه وأراده: لما له في ذلك من الحكمة، ولعلمه تعالى أن العبد يفعله باختياره ومرا غمته لربه. فلا حجة له في ذلك. وقد أخبر الله تعالى: أن الأبرار لفي نعيم، وأن الفجار لفي جحيم، في دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، إما الجنة أو النار. بل البهائم في الدنيا، منها ما هو منعم، ومنها ما هو مريض أو مصيبه شيء من الآلام. ولذلك كله أسباب وطرق معروفة، يحمد المولى بوضعه الأسباب المنوعة، مفضية إلى مسبباتها.

_ 1 في الأصل: و (س) : "عبادي" وما أثبته من الفتاوى والعقود.

خلق الله للعبد مشيئة يتمكن بها من كل ما يريد

خلق الله للعبد مشيئة يتمكن بها من كل ما يريد ولهذا قرر الشيخ هذا المقام بقوله: 111- وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت ... فروق1 بعلم ثم أيد ورحمة 112- يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العذاب بعزة 113- ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق، في رجاء وخشية 114- وأمر إله الخلق بين2 ما به ... يسوق أولي التنعيم نحو السعادة 115- فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة 116- ومن كان من أهل الشقاوة لم يبل3 ... بأمر ولا نهي بتيسير 4 شقوة 117- ولا مخرج للعبد عما به قضي ... ولكنه مختار حسن وسوأة

_ 1 في الفتاوى والعقود: "الفروق". 2 في العقود: "تبين". 3 في الفتاوى والعقود: "لم ينل". 4 في العقود: "بتقدير".

118- فليس بمجبور عديم إرادة1 ... ولكنه شاء بخلق الإرادة2 الشرح: يعني: أن حكمة الرب العليا اقتضت افتراق العباد: بالعلم والجهل والعمل والكسل. والنعيم وضده. وذلك: بحسب عملهم بالأسباب النافعة أو الأسباب الضارة. فإن الله دعا إلى دار السلام، وبين طريقها، وأعمال البر الموصلة إليها التي مرجعها إلى ثلاثة أمور: 1- تصديق خبر الله ورسوله. 2- وامتثال أمر الله ورسوله، واجتناب نهيهما. 3- وأمر العباد بسلوكها. وأخبر بما لهم عنده من الكرامة. *فمن كان من أهل السعادة: يسره لعمل أهل السعادة، وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فسار يحسن طريقه إلى سعادته الأبدية. ومن كان من أهل الشقاوة: لم يبال بأمر الله ولا نهيه، بل كذب

_ 1 في المطبوعة: "بردة" وفي الفتاوى والعقود: "بالإرادة" وما أثبته من (س) . 2 سقط من العقود الشطر الأول من هذا البيت، وكذا سقط الشطر الثاني من البيت الذي قبله.

وتولى، فاستحق العذاب بجرمه وذنوبه. بين الله له الهدى، وأمره بسلوكه فأدبر وتولى، فولاه الله ما تولى لنفسه، ووكله إليها. ومن وكل إلى نفسه الأمارة بكل سوء، الظالمة الجاهلة: فقد هلك، وذلك بما كسبت يداه، ليس بمجبور على ذلك ولا مكروه ولا مقسور، بل هو مختار مسرف كفور.

الرد على من قال: هل اختار ترك حكم الله وقدره؟ وهو ختام رد الناظم

الرد على من قال: هل اختار ترك حكم الله وقدره؟ وهو ختام رد الناظم ولهذا قال الشيخ: 119- ومن أعجب الأشياء: خلق مشيئة ... بها صار مختار الهدى بالضلالة 120- فقولك: هل اختار تركا لحكمة1؟ ... كقولك: هل اختار ترك المشيئة؟ 121- وأختار [أن] 2 لا اختار فعل ضلالة ... ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة 122- وذا ممكن، لكنه متوقف ... على ما يشاء الله من ذي المشيئة الشرح: يقول الشيخ: إن من أعجب الأشياء: أن خلق الله للعبد مشيئة يتمكن بها من كل ما يريد. فيختار بها الهدى، إن كان من أهل السعادة ويختار بها الضلالة، إن كان من أهل الشقاوة. والعبد هو الذي يفعل ويعمل ويكسب: من غير ممانع له عما يريده. فقولك أيها المعترض عليه: هل أختار ترك حكم الله وقدره؟ مثل قولك: هل أختار ترك مشيئتي؟

_ 1 في (س) : "لحكمة". 2 ما بين المعقوفتين زيادة من (س) والفتاوى والعقود.

يعني: فأنت الذي اخترت أفعال المعاصي، فلو زعمت: أنك لا تختار ولا تحب فعل الضلالة والغي، فأنت بين أمرين: *إما أن تكون كاذبا، وهو الواقع على كل من يعترض على المعاصي بالقدر ولكنه يريد بهذا الكلام دفع الشنعة عليه، وقصده معروف، فهو يعرف من نفسه: أنه لا يختار ولا يحب أن يترك ما باشره من الكفر والإجرام. *فلو فرض وقدر على وجه الإمكان أنه صادق في قوله: "إني أختار أن لا أختار فعل الضلالة"، وكان ذلك من صميم قلبه صادقا في ذلك لو كان الأمر كذلك، لكان هذا توبة. لأن العبد متى كانت له إرادة مصممة على فعل ما يحبه الله، وعلى ترك ما يكرهه الله: أقبل بهذه الإرادة إلى الخيرات، وانصراف عن السوء والسيئات، وكان توبة له من جميع الموبقات. ولكن من وفق لهذه الحال، كان أبعد الناس عن الاحتجاج بالقدر. والوصول إلى هذه الدرجة العالية، ممكن في حق كل أحد، ولكنه يتوقف على مشيئة الله وإرادته. ومن لجأ إلى الله وأناب إليه، هداه الله، وشاء منه أن يفعل ما يحبه ويرضاه. وأشار الشيخ إلى هذا الفرق اللطيف، بقوله: "على ما يشاء الله من ذي المشيئة"

و"ذو المشيئة": هو العبد. وهذا الفرق اللطيف هو: أنه إن شاء الله تعالى أن يعين عبده على فعل ما يحبه ويرضاه، وشاء من عبده ذلك الفعل: حصل المطلوب، وفاز العبد بكل مرغوب. وإن لم يشأ تعالى إعانة عبده، بل أمره بالخير وأحب منه أن يفعله، ونهاه عن الشر وكره له فعله، ولكن لم يشأ من نفسه لإعانته: بقي العبد على ما اختاره لنفسه: من الإقامة على مساخط الله.

خاتمة الناظم في أن هذه الأجوبة تبين أصل القدر الذي هو أحد أصول الإيمان

خاتمة الناظم في أن هذه الأجوبةتبين أصل القدر الذي هو أحد أصول الإيمان قال الشيخ بعدما أجاب بهذه الأجوبة السديدة، والمعارف المفيدة: 123- فدونك فافهم ما به قد أجبت به1 ... معان إذا انحلت بفهم غريزة 124-[وصلى إله الخلق جل جلاله ... على المصطفى المختار خير البرية] 2 125- أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى ... ولله رب الخلق أكمل مدحة3 الشرح: أي: دونك هذه الأجوبة لما سألت عنه، سواء كان السؤال سؤال استرشاد، أو سؤال اعتراض وعناد، كما هو الظاهر من ألفاظ السائل وفحوى كلامه. وهو الذي فهمه الشيخ. فهذه الأجوبة: التي تشير وتبين هذا الأصل، وهو أصل القدر، الذي هو أحد أصول الإيمان. وقد بين الشيخ في تفاصيل جوابه هذا الأصل بيانا شافيا، ووضحه توضيحا كافيا، لا نجد هذا التفصيل وهذا التحقيق، في كلام غير هذا الإمام العظيم.

_ 1 شطر البيت في (س) والفتاوى والعقود: "فدونك فافهم ما به قد أجبت من". 2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل و (س) واستدركته من الفتاوى والعقود. 3 في المطبوعة و (س) : "مدحتي" وما أثبته من الفتاوى والعقود.

فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين عموما، وأهل العلم خصوصا أفضل الجزاء، ورفعه في أعلا درجات الصديقين، ونفع بعلومه جميع المسلمين. آمين.

خاتمة

خاتمة: في ذكر أمثلة متنوعة تكشف لك مسألة القضاء والقدر حيث كان المقام من أهم الأمور، وقد حارت فيه أفهام كثير من الأذكياء، ولم يهتد إلى الصواب المحض كثير من العلماء. وكثير منهم يأخذ مسائله على وجه التقليد: غير مقتنع بوجه يجمع فيه بين الإيمان بشمول القضاء والقدر، مع أن العبد هو الفاعل حقيقة لفعله وهو الممدوح أو الملوم على كسبه. مع أن الشيخ رحمه الله حقق هذا المقام في هذا النظم، غاية التحقيق، وبين فيه الهدى من الضلال، حتى وضح الطريق، لكن الأمثلة تزيد البصير بصيرة، وتزيل عن الشاك الطالب للحق الريب والحيرة. ولهذا، نقول في ضرب الأمثلة المتعلقة بهذه المسألة العظيمة:

المثال الأول: {محاورة رجل عاص مسرف وصاحب له مخلص}

المثال الأول: {محاورة رجل عاص مسرف وصاحب له مخلص} ... المثال الأول: [محاورة بين رجل عاص مسرف وصاحب له مخلص] 1. رجل كان مسرفا على نفسه، كثير الجراءة على المعاصي. فقال له صاحبه وهو يناصحه ويحاوره: أما ترتدع عما أنت عليه؟ أما تتوب إلى ربك وتنيب إليه؟ أما علمت أن عقابه شديد على العاصين؟ فقال المسرف: دعني أتمتع فيما أريد، فلو شاء الله لهداني، ولو أراد لي غير ذلك لما أغواني. فقال له الناصح: بهذا الاعتذار الكاذب ازداد جرمك، وتضاعف ذنبك، فإن الله لم يغوك، بل الذي أغواك: الشيطان مخاطبا لربه {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [صّ:83] . فالشيطان دعاك إلى المعاصي فأجبته. والله دعاك إلى الهدى فعصيته. بين الله لك السعادة وطرقها، وسهل أسبابها ورغبك فيها، ووضح لك طريق الشقاوة، وحذرك من سلوكها واتباع خطوات الشيطان. وأخبرك بما تؤول إليه: من العذاب الشديد، فرضيت، واستبدلت الضلالة بالهدى، والشقاوة على السعادة.

_ 1 هذا العنوان ما بين المعقوفتين من وضع المعتني زيادة في الإيضاح، وكذا العنوان التالي أيضا.

وجعل لك قدرة وإرادة: تختار بهما، وتتمكن بهما، وتتمكن بهما من كل ما تريد. ولم يلجئك لفعل المعاصي، ولا منعك من الخير. فسلكت طريق الغي وتركت طريق الرشد. فلا تلم إلا نفسك. أما سمعت ما يقول الداعي لأتباعه يوم القيامة حيث يقوم خطيبا فيهم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] . فقال المسرف: كيف أستطيع أن أترك ما أنا فيه: والله هو الذي قدره علي؟!. وهل يمكنني الخروج عن قضائه وقدره؟ فقال له الناصح: نعم يمكنك الخروج بقدره. فالتوبة والإقلاع عما أنت فيه وأنت تعلم علما لا شك فيه من قدر الله فارفع قدر الله بقدره. ثم إن قولك: "إن المعاصي الواقعة مني من قدر الله". إن أردت: أن الله أجبرك عليها وحال بينك وبين الطاعة؛ فأنت كاذب وأول من يعلم كذبك نفسك. فإنك تعلم كل العلم أنك لو أردت ترك الذنوب لما فعلتها، ولو أردت إرادة جازمة فعل الواجبات لفعلتها؛ فلقد أقدمت على

المعاصي برغبة منك ومحبة لها، وإرادة لا شك ولا يشك غيرك فيها. وتعلم أن قولك: "إنها بقضاء الله وبقدره"؛ دفع للوم عنك. فهل تقبل هذا العذر: لو ظلمك ظالم أو تجرأ عليك متجرئ وقال: إني معذور بالقدر؛ فلا تلمني؟ أما يزيدك كلامه هذا حنقا وتعرف أنه متهكم بك؟! فقال المسرف: بلى هذا الواقع. فقال الناصح: كيف ترضى أن تعامل ربك الذي خلقك وأنعم عليك النعم الكثيرة بما لا ترضى أن يعاملك به الناس؟! وإن أردت بقولك: "إنها بقضاء وقدر"؛ بمعنى: أن الله علم مني سأقد عليها، وأعطاني قدرة إرادة أتمكن بهما من فعلها؛ وأنا الذي فعلت المعاصي بما أعطاني ربي من القوى التي مكنني فيها من المعاصي. وأعلم: أنه لم يجبرني ولم يقهرني وإنما أنا الذي فعلت وأنا الذي تجرأة فقد رجعت إلى الحق والصواب واعترفت بأن لله الحجة البالغة على عباده.

المثال الثاني: {استرشاد رجل بعض العلماء إلى أمر يطمئن له في أمر القدر}

المثال الثاني: [استرشاد رجل بعض العلماء إلى أمر يطمئن له في أمر القدر] رجل جاء لبعض العلماء، فقال له:"أحب أن ترشدني إلى أمر يطمئن له قلبي. وتقنع به نفسي، من جهة القضاء والقدر. فإني لا أشك الله جميع الحوادث بقضاء الله وقدره: وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وأعلم مع ذلك أن أفعالي كلها باختياري وإرادتي، وأنا الذي عملتها. هذا أمر ضروري، لاشك فيه، وأعتقد أنه لا يشك فيه أحد ولكن: أحب طريقة تهديني إلى كيفية الجمع بين الأمرين". فقال العالم: الجواب المقنع في هذه المسألة: أنك إذا علمت أن الله خلقك وخلق أعضاءك الظاهرة والباطنة: هذا أمر لا تشك فيه ولا يشك فيه مسلم. ومن أعظم الأعضاء الباطنة: أن الله جعلك مريدا لكل ما تحبه كارها لما تبغضه، إجمالا وتفصيلا، وأن الله أعطاك قدرة، توقع بها جميع ما تريد فعله، وتنكف بها عما تريد تركه، فأنت تعترف بذلك ولا تستريب فيه، وتعرف مع ذلك أنك إذا أردت أمرا من الأمور إرادة جازمة، وأنت تقدر عليه، فعلته من دون توقف. حتى إن الأمور المستقبلة التي تريد فعلها إرادة جازمة تقول فيها: سأفعل إن شاء الله كذا، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] . فإذا اعترفت بذلك كله يعني: اعترفت بأنه تعالى خلقك وخلق قولك

الظاهرة والباطنة، ومكنك من كل ما تريد بما أعطاك من قدرة ومشيئة وأنت الذي تختار وتفعل أو تترك. فقد جمعت بين الأصلين: 1-الاعتراف بعموم قدر الله 2-وأن أفعالك كلها من كسبك. وأنه إن وفقك للخير فبفضله وتيسيره، وإن لم يوفقك بل وكذلك إلى نفسك فلا تولمن إلا نفسك. ومعرفة هذه المقدمات سهلة بسيطة، وبها يحصل لك الاقتناع التام. ففعلك داخل في عموم قدرة الله وخلقه، لأن خالق السبب التام، هو الخالق للمسبب، والسبب التام: قدرتك وإرادتك، والله هو الذي خلقهما، وأنت الذي تفعل بهما. وإنما الإشكال الذي لا يمكن حله لبطلان أحد أصليه اعتقادك أنك مجبور على أفعالك، فهذا الذي لا يمكن العبد أن يعرف معه: أن الأفعال أفعاله. وهذا يعلم بطلانه بالضرورة، كما سبق بيانه. فقال الرجل السائل المسترشد: لقد وضحت المسألة وضوحا لا أشك فيه، علمت بأن الله خلقني، وخلق جميع أوصافي، وخلق الأسباب التي أتمكن بها من الأفعال، وأنا الذي أفعل وأطيع، إن ساعدني الله بتوفيقه. أعصي وأغفل، إن وكلني إلى نفسي. فقال العالم: وأزيدك إيضاحا وبيانا لهذا السؤال:

قال الله لخيار المؤمنين: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] . فلم يقل: فإن الله أجبرهم على الإيمان إلى آخره. ولكنه تعالى لما علم حالة النفس وأنها ظالمة جاهلة أمارة بالسوء، لطف بالمؤمنين وحبب إليهم قلوبهم الإيمان وزينه فيها فانقادت إلى الخيرات باختيارها؛ لما جعل الله في قلوبهم من الأوصاف الجليلة. ولما كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، انصرفوا عنها؛ لكراهتهم لها وكان هذا لطفا وكرما منه. وأما الآخرون: فلم يجعل لهم نصيبا من هذا اللطف، فانحرفوا باختيارهم وكانوا هم السبب لأنفسهم. حيث كانت مقاصدهم فاسدة؛ وحيث عرض عليهم الخير فرفضوه واعترض لهم الشر والغي فاختاروه؛ فولاهم الله ما تولوا لأنفسهم: واللوم كله عليهم، والحجة البالغة لله على العباد كلهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] . وأزيدك إيضاحا وبيانا: أليس تفرق ويفرق كل أحد بين حركة المرتعش بغير اختياره؛ وبين حركة الباطش والكاتب باختياره؛ وتعلم أن الأخير فعل العبد حقيقة، والأول مقسور عليه، وما أشبه ذلك من الحركات التي من هذا النوع تفرق بين الحركة الاختيارية، والحركة الاضطرارية؟!

فمن ألحق أحد القسمين بالأخر، وساواه به؛ فهو مختل الشعور. فقال الرجل: جزاك الله خيرا، فلقد أزلت عني كل إشكال، واقتنعت بذلك غاية الاقتناع.

المثال الثالث: قضية الرجل الجبري

المثال الثالث: قضية الرجل الجبري1 كان رجل قد غلا في الجبر غلوا عظيما، فكان يعتذر بالقدر عند كل جليل وحقير: حتى آلت به الحال إلى الإستهتار، وانتهاك أصناف المعاصي وكلما نصح وليم على أفعاله، جعل القدر حجة له في كل أحواله. وكان له صاحب يعذله وينصحه عن هذه المقالة التي تخالف العقل والنقل والحس، ولا يزيده العذل إلا إغراء. وكان صاحبه ينتظر وينتهز الفرصة في إلزامه بأمور تختص به وتتعلق. وكان هذا الجبري صاحب ثروة له أموال منوعة، وقد وكل عليها الوكلاء والعملة. فصادف في وقت متقارب أن جاءه صاحب ماشية. فقال: إن الماشية هلكت وتلفت جميعها: لأني رعيتها في أرض جذبة ليس فيها عود أخضر. فقال له: فعلت ذلك وأنت تعلم أن الأرض الفلانية خصبة؛ فما عذرك في ذلك؟ فقال: قضاء الله وقدره.

_ 1 راجع: في الرد على الجبرية شفاء العليل لابن القيم ص (351-375) الباب التاسع عشر في ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس مناظرة.

وكان ممتلئا غضبا قبل ذلك؛ فزاد غضبه من هذا الكلام، واستشاط غضبه، وكاد يتقطع من هذا الاعتذار. وجاءه صاحب البضاعة، فقال: إني سلكت الطريق المخوف، فاقتطع المال قطاع الطريق. فقال له: كيف تسلك هذا الطريق المخوف مع علمك أنه مخوف وتترك الطريق الآمن الذي لا تشك في أمنه؟! فأجابه مثل جواب الراعي للماشية، وعمل معه الجبري ما عمله مع صاحبه. ثم جاءه وكيله على تربية أولاده وحفظهم، فقال: إني أمرتهم أن ينزلوا في البئر الفلانية ليتعلموا السباحة فغرقوا. فقال: لم فعلت ذلك، وأنت تعلم أنهم لا يحسنون السباحة؟ والبئر المذكور تعلم أن ماءها غزير؛ فكيف تتركهم ينزلون فيها وحدهم وأنت لست معهم؟! فقال: هكذا قضاء الله وقدره. فغضب عليه غضبا لا يشبه الغضب على الأولين، وكاد الغضب أن يقتله. وكل واحد من هؤلاء الذين وكلهم على ما ذكرنا يزداد غضبه عليه إذا قال له: هذا قضاء الله وقدره. فحينئذ قال له صاحبه: يا عجبا لك يافلان! كيف قابلت هؤلاء

المذكورين بهذا الغضب البليغ، ولم تعذرهم حين اعتذروا بالقدر، بل زاد هذا الاعتذار في جرمهم عندك، وأنت مع ربك في أحوالك المخجلة قد سلكت مسلكهم وحذوت حذوهم؟! فإن كان لك عذر: فهم من باب أولى أعذر وأعذر، وإن كانت أعذارهم تشبه التهكم والاستهزاء؛ فكيف ترضى أن تكون مع ربك هكذا؟! فانتبه الجبري حينئذ، وصحا بعدما كان غارقا في غلوه. وقال: الحمد لله الذي أنقذني مما كنت فيه، وجعل لي موعظة وتذكيرا من هذه الوقائع التي وقعت لي، ولمست فيها غلطي الفاحش. والآن أعتقد: أن ما حصل لي من نعمة الهداية إلى الحق، أعظم عندي من هذه المصائب الكبيرة. كما تحققت فيه قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .

المثال الرابع: مخاصمة بين القدري والجبري

المثال الرابع: مخاصمة بين القدري1 والجبري طال الخصام بين قدري يعتقد: أن أفعال العباد لا تتعلق بها مشيئة الله وبين جبري يعتقد: ضد ذلك، وأنهم مجبورون على أفعالهم، واقعة بغير اختيارهم؛ لأنهما متباعدان في طرفي نقيض. فاتفقا على التحاكم إلى عالم من علماء أهل السنة، يعرفان كمال معرفته، وكمال دينه. فقال السني: ليعرض كل منكما علي مقالته، ولكما علي أن أدقق الحكم بينكما، وأن أرد ما مع كل واحد من باطل؛ وأثبت ما معه من الحق. فقال القدري: أنا أقول: إن الله حكم عدل، لا يظلم من عباده أحدا ومن مقتضى إثباتي لهذا الأصل؛ أني أنزه ربي عن أن تكون الفواحش الواقعة من العباد واقعة بمشيئة الله؛ بل العبد هو الذي تجرأ عليها، وهو الذي فعلها استقلالا. وأدلتي على هذا: جميع النصوص الدالة على أن الله ليس بظلام للعباد مثقال ذرة، وأنه حكم عدل؛ لأن تعلق مشيئته بأفعالهم. ثم تعذيبهم عليها؛ ظلم من جهتين:

_ 1 راجع في الرد على القدرية شفاء العليل ص (2/5-62) الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني

1- من جهة إضافتها إلى مشيئته. 2- وظلم من جهة كيف يعذبهم على أمر هو الذي شاءه وقدره؟! ثم إني لو قلت: إنها واقعة تحت مشيئة الله؛ لأبطلت بذلك أمر الله ونهيه. بل في ذلك إبطال للشرع، فأنا ما رأيت السلامة من هذا المحذور المحظور، إلا بهذه الطريقة العادلة التي يرتضيها كل عاقل ميزه الله. فقال الجبري: أنا أقول: إن الله على كل شيء قدير، وإنه خالق كل شيء، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. قضايا، لا يمكن مسلم أن ينكرها، ولا ينازع فيها. وهذا عموم لا يخرج عنه حادثة، ومن أعظم الحوادث أفعال العباد من طاعات، ومعاصي وغيرها. فلو أنها خارجة عن قدرة الله ومشيئته، لم يكن الله قديرا على كل شيء ولا خالقا لكل شيء. ومقضي ذلك: أن العباد مجبورون على أفعالهم، غير مختارين لها لأنهم لو اختاروها وفعلوها حقيقة؛ لخرجت عن مشيئة الله وقدرته. فتعين القول بالجبر، وأنهم مجبورون مقسورون على أفعالهم، وقد نفذت فيهم مشيئة الله، وصرفتهم الإرادة. وأدلتي على قولي هذا: جميع النصوص المثبتة لعموم خلق الله ومشيئته وقدرته؛ وأني لو قلت: إن العبد فاعل حقيقة لفعله؛ لأخرجت هذا

القسم عن مشيئة الله وقدرنه. فقال الحاكم السني: لقد وضح كل واحد منكما مذهبه توضيحا كاملا، واستدل كل واحد بأدلة لا يمكن المنازعة فيها؛ لكثرتها ووضوحها. ولكن كل واحد منكما لم ينظر المسألة من جميع نواحيها بل لحظ جانبا، وعمي عن الجانب الآخر. وكثير من الأغلاط يأتي من هذا السبب. وسأحكم بينكما بحكم يستند على الكتاب والسنة ويستند إلى العقل والفطرة. وسأقنع كل واحد منكما إن كان قصده طلب الحقيقة. أما أنت أيها القدري؛ فأصبت بقولك: إن أفعال العباد كلها من كسبهم، وكلها من فعلهم، طاعاتها ومعاصيها وغيرها من أفعالهم. وأصبت في استدلالك عليها؛ بأن الله نسبها وأضافها إليهم. وأصبت في تبريك من قول يلزم منه إسقاط الأمر والنهي؛ وهو: الجبر. ولكنك أخطأت خطأ كبيرا، حيث زعمت أن مشيئة الله وقدرته لا تعلق لها بأفعال العباد. فنفيت عموم النصوص الدالة على هذا الأصل؛ وظننت أن إثبات عموم الخلق والمشيئة لله ينافي كون الأفعال الصادرة من العباد تكون باختيارهم ومن كسبهم. وهذا الظن غلط محض.

بل المؤمن العارف يجمع بين الأمرين: يثبت لله تعالى أنه خالق كل شيء؛ من الأعيان والأوصاف والأفعال. وأنه مع ذلك الأفعال صادرة منهم حقيقة. وأما أنت أيها الجبري؛ فلقد أصبت بإثباتك: أن الله على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء كان ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن، وأصبت في هذا الاستدلال. ولكنك أخطأت خطأ كبيرا، حيث زعمت أن من لوازم إثبات عموم مشيئة الله؛ أن العبد مجبور على أفعاله؛ لم تقع بمشيئته، وظننت أن إثبات عموم القدر يقتضي منك أن تقول هذا القول. ثم قال السني أيضا لهما: لقد قال كل منكما قولا ممزوجا حقه بباطله؛ وسأحكم بينكما بحكم، يتضمن إثبات ما مع كل منكما من الحق؛ وإبطال ما مع كل منكما من باطل. وقد دل على هذا الحكم عدة نصوص: منها قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28، 29] . فهذه الآية الكريمة حكمت بينكما؛ فإن الله أثبت للعبد مشيئة بها يفعل ويسلك الصراط المستقيم، أو يدعه باختياره ومشيئته. وأخبر أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، غير خارجة عنها.

فمشيئة الله عامة، لا يخرج عنها شيء ومع ذلك فالعباد هم الذين يعملون ويطيعون ويعصون. ومع أن هذا هو الذي دلت عليه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فهو الذي يدل عليه العقل والواقع والحس. فإن الله خلق العبد، وخلق ما فيه من جميع الأوصاف والقوى. ألستما تعترفان بذلك، وكل عاقل يعترف به؟! قالا: بلى. قال السني: فإن من جملة أوصاف العبد التي خلقها الله فيه انه أعطاه قدرة ومشيئة يتمكن بهما من كل ما يريده من خير وشر، وطاعة ومعصية وبهما تقع طاعاته ومعاصيه. وتعلمان: أن العبد متى أراد أمرا من الأمور التي يقدر عليها، فعله بتلك القدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه. فإذا أوقع العبد بهما فعلا من أفعاله، دخلت تحت عموم قدر الله؛ لأن خالق السبب التام الذي هو قدرة العبد وإرادته خالق للمسبب. يعني: لما يصدر عنهما. وكل منكما يعترف أن الله خالق قدرة العبد ومشيئته كما خلق جميع قواه الظاهرة والباطنة. فإذا اتفقتما على هذا القول؛ الذي هو الصواب بما عرف من دلالة النصوص الشرعية عليه، وأنه هو المعقول المحسوس عاد الأمر إلى الوفاق.

فليتبرأ كل منكما من الباطل الذي معه، وليعترف بالحق الذي مع صاحبه. ليتبرئ الجبري من اعتقاده: أن العبد مجبور مقهور على أفعاله. وليعترف: أنها واقعة بكسبه وفعله حقيقة. وليتبرئ القدري من اعتقاده: أن أفعاله غير داخلة تحت مشيئة الله وغير شامل لها خلق الله وقدره. وليعترف: بعموم خلق الله، وشمول قدره. والحمد لله الذي بين الصواب، ووفق من شاء من عباده لاتباعه. {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] .

المثال الخامس: في الآجال والأرزاق

المثال الخامس: في الآجال والأرزاق اعلم أن الآجال والأرزاق كسائر الأشياء مربوطة بقضاء الله وقدره فالله تعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [لأعراف:34] . فهذا أمر لا ريب فيه ولا شك. وع ذلك فهي أيضا كغيرها: لها أسباب دينية وأسباب طبيعية مادية والأسباب تبع قضاء الله وقدره. ولو كان شيء سابق القضاء والقدر من الأسباب لسبقه العين؛ لقوتها ونفوذها. فمن الأسباب الدينية لطول العمر وسعة الرزق1: لزوم التقوى والإحسان إلى الخلق لا سيما الأقارب كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه وينشأ له في أثره [أي: يطيل عمره] ؛ فليصل رحمه "2. وذلك: أن الله يجازي العبد من جنس عمله، فمن وصل رحمه وصل الله أجله ورزقه وصلا حقيقيا. وضده: من قطع رحمه قطعه الله في أجله وفي رزقه.

_ 1 راجع: "جمع جمهور الحفاظ النقلة بتواتر روايات زيادة العمر بالبر والصلة" للأستاذ لطفي الصغير. 2 تقدم تخريجه ص (45) .

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2، 3] . ومن الأسباب الدينية لقطع طول العمر: البغي والظلم للعباد فالباغي سريع المصرع، والظالم لا يغفل الله عن عقوبته. وقد يعاقبه عاجلا بقصم العمر. ومن الأسباب الدينية لمحق الرزق: المعاملات المحرمة كالربا والغش، وأكل أموال الناس بالباطل. فصاحبها يظن بل يجزم: أنها توسع عليه الرزق؛ ولهذا تجرأ عليها. والله تعالى يعامله بنقيض قصده. قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . فالمعاملة بالربا تمحق صاحبها، وتمحق ماله، وإن تمتع به قليلا، فمآله إلى المحق والقل. كما أن المتصدق يفتح الله له من أبواب الرزق مالا يفتحه على غيره. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما نقصت صدقة من مال، بل تزيده ثلاثا "1.

_ 1 رواه مسلم (2577) (69) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون قوله: " بل تزيده ثلاثا ".

وكذلك الغش وأكل أموال اليتامى والأوقاف بغير حق؛ من أكبر أسباب المحق؛ مع ما على صاحبها من الإثم والعقوبة. ومن أسباب طول العمر وقصره الطبيعية: الصحة والمرض فالعافية من الأسقام؛ سبب لطول العمر كما أن الأمراض بأنواعها سبب لقصره. والمسكن والبقعة: إذا كانت صحيحة طيبة الهواء، صارت من أسباب عافية أهلها وطول أعمارهم والعكس بالعكس: البقاء رديئة المناخ والهواء، أو البقاع الوبيئة سبب لقصر العمر، كما هو شاهد. والتوفي عن المخاطر والمهالك، واستعمال الأسباب الواقية فائدتها في طول العمر ظاهرة، والإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وسلوك المخاطر وكل أمر فيه خطر سبب ظاهر للهلاك. والأمثلة في هذا كثيرة. ومن الأسباب المادية في حصول الرزق وسعته: استعمال المكاسب النافعة وهي كثيرة متنوعة. كل أحد يناسب له منها ما يوافقه ويحسنه، ويليق بحاله. كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي

مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] . فيدخل في هذا العمل: جميع الأسباب النافعة. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] . إلى غير ذلك من الآيات. وكل هذه الأمور تابعة لقضاء الله وقدره. فإن الله تعالى قدر الأمور بأسبابها: فالأسباب والمسببات من قضاء الله وقدره. ولهذا لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها وتقاة نتقيها، ورقي نسترقيها؛ هل ترد من قضاء الله وقدره شيئا؟ فقال: " هي من قضاء الله وقدره "1. وكذلك: الأدعية المتنوعة سبب كبير لحصول المطلوب، والسلامة من المرهوب. وقد أمر الله بالدعاء ووعد بالإجابة. والدعاء نفسه والإجابة كلها داخلة في القضاء والقدر. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأمر؛ بالعمل بكل سبب نافع، مع الاستعانة بالله.

_ 1 تقدم تخريجه ص (42) .

كما ثبت في الصحيح مرفوعا: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله "1. فهذا أمر بالحرص على الأسباب النافعة في الدين والدنيا، مع الاستعانة بالله. لأن هذه: الاستقامة. وذلك أن الانحراف من أحد أمور ثلاثة: 1- إما أن لا يحرص على الأمور النافعة؛ بل يكسل عنها وربما اشتغل بضدها. 2- أو يشغل بها، ولكن يتكل على حوله وقوته، وينظر إلى الأسباب ويعلق جميع قلبه بها، وينقطع عن مسببها. 3- أو لا يشتغل بالأسباب النافعة يزعم: أنه متوكل على الله، فإن التوكل لا يكون إلا بعد العمل بالأسباب. فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الطرق النافعة للعباد. ولنقصر على هذا: فإنه يحصل به المقصود، والله أعلم؛ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قال ذلك وكتبه: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعد. غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين. وافق الفراغ منه: في 30 ربيع الثاني، سنة 1376هـ. وتم نقله بيد راجي عفو ربه: محمد السليمان البسام؛ في 22 جمادى أول، سنة 1376هـ.

_ 1 تقدم تخريجه ص (45) .

§1/1