الدراري المضية شرح الدرر البهية

الشوكاني

المجلد الأول

المجلد الأول كتاب الطهارة باب في أحكام المياه اقسام المياه ... باب في أحكام المياه والماء طاهر مطهر لا يخرجه عن الوصفين إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة ولا فرق بين قليل وكثير وما فوق القلتين وما دونهما ومتحرك ساكن ومستعمل وغير مستعمل. هذا الباب قد اشتمل على مسائل. الأولى: كون الماء طاهرا مطهرا ولا خلاف في ذلك وقد نطق بذلك الكتاب والسنة وكما دل الدليل على كونه طاهرا مطهرا وقام على ذلك الإجماع كذلك يدل على ذلك الأصل والظاهر والبراءة فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع وكذلك الظهور يفيد ذلك والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة. قوله: لا يخرجه عن الوصفين. أي عن وصف كونه طاهرا وعن وصف كونه مطهرا. قوله: إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه1 من النجاسات. هذه المسألة الثانية من مسائل الباب وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها

_ 1صورة إدراك تغير الطعم أن يذاق الماء فيوجد متغيرا فيبحث عن سبب تغيره فيعلم أنه من نجس خالطه. لا أنه يطلب ذوق الماء المعروف مخالطته النجاسة لاختبار تغيره بها.

والدليل عليه ما أخرجه أحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه. وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعه1 وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء الطهور لا ينجسه شيء" وقد أعله ابن القطان2 باختلاف في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه وليس ذلك بعلة فقد اختلف في أسماء كثير من الصحابة والتابعين على أقوال ولم يكن ذلك موجبا للجهالة على ابن القطان نفسه قال: بعد ذلك الإعلال وله طريق أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة وله شواهد. منها من حديث سهل بن سعد عند الدارقطني ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمه وابن حبان ومن حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلي والبزار وابن السكن كلها مثل حديث أبي سعيد. وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان بلفظ: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه".

_ 1قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عقمها قلت ما أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة. قلت، فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فمددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غير بناؤه عما كان عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. 2 عبارة التلخيص: وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم بعلة إنما هو حيث يكون عرف الراوي وتميز بمعرف أو كنية أو لقب أو غيرها كمن وقع في اسمه واسم أبيه اختلاف، كأبي هريرة رضي الله عنه، فإنه احتلف في اسمه على نحو من عشرين قولا، وأما هنا فإن الاختلاف فيه اضطراب في السند وهو علة بلا ريب على أن فيه الجهالة وكفى بها علة. فالصواب التعويل على تقويته بالشواهد والله أعلم. من خط محمد العمراني، وقد سلم في "النيل" اعلال ابن القطان.

وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجه والطبراني من حديث أبي أمامه بلفظ: "إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وفي سندهما من لا يحتج به وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها كما نقله ابن المنذر وابن الملقن في البدر المنير والمهدي في البحر فمن كان يقول بحجية الإجماع كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع ومن كان لا يقول بحجية الإجماع كان هذا الإجماع مفيدا لصحة تلك الزيادة لكونها قد صارت مما أجمع على معناه1 وتلقى القبول فالاستدلال بها لا بالإجماع. قوله: وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة. هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهر به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه كما يقال: ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد مثلا هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز لقوله: {مَاءً طَهُوراً} وفي السنة المطهرة بقوله: "الماء طهور" فخرج بذلك عن كونه مطهرا ولم يخرج به عن كونه طاهرا لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر واجتماع الطاهرين لا يوجب خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقا لكل واحد منهما قبل الاجتماع. قوله: لا فرق بين قليل وكثير هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم بعد إجماعهم على أن ما غيرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر فقيل إن الكثير ما بلغ

_ 1 هذه الطريقة لا تعرف لتصحيح الحديث عند المحدثين، ولا يصير بذلك أيضا من الملتقى بالقبول عند الأمة ما لم ترده، ولا ضعفته، بل كانوا بين قائل به ومتأول. وهذا قد ضعفته كما ترى فأين القبول؟ والإجماع على مضمونه لا يستلزم أنه بعينه مستند الإجماع كما لا يخفي. من خط العلامة السيد الحسن بن يحيى الكبسي قدس سره العزيز.

قلتين والقليل ما كان دونهما لما أخرجه أحمد وأهل السنن والشافعي وابن خزيمه وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" وفي لفظ أحمد: "لم ينجسه شيء" وفي لفظ لأبي داود: "لم ينجس" وأخرجه بهذا اللفظ ابن حبان والحاكم وقال: ابن منده إسناد حديث القلتين على شرط مسلم انتهى ولكنه حديث قد وقع الإضطراب في إسناده ومتنه بما هو مبين في مواطنه وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب وقد دل هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث وإذا كان دون القلتين فقد يحمل الخبث ولكنه كما قيد حديث "الماء طهور لا ينجسه شيء" بتلك الزيادة التي وقع الاجماع عليها كذلك يقيد حديث القلتين بها فيقال: إنه لايحمل الخبث إذابلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهده وضروة الحس فلامنافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث. وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعا وبتا ولا أن يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها لا الخبث الذي لم يغير. وحاصله أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لايستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها وأما أنه يصير نجسا خارجا عن كونه طاهرا فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة1 المخرجة عن الطهورية لأن الشارع قد نفى

_ 1 فيه أن الحديث وقع جواب عن سؤال عما تنوبه السباع في الماء أيتوضأ به أم لا؟ وقد علم أن الذي يمنع من التوضؤ بالماء في الشريعة إنما هو النجاسة فتعين حينئذ الاتحاد بين حمل النجاسة =

النجاسة عن مطلق الماء كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما يشهد له ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضا وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام فقال: في الأول لا ينجسه شيء وقال: في الثاني أيضا كما في تلك الرواية لم ينجسه شيء فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام مصرحا بأنه يصير الماء نجسا كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر على قول الراجح في الأصول وهو أنه يبني العام على الخاص مطلقا فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث بل يقال: فيها ما دون القلتين إن حمل الخبث حملا استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية وإن حمل حملا لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزما للنجاسة وقد ذهب إلى تقدير القليل بما دون القلتين والكثير بهما الشافعي وأصحابه ومن أهل البيت الناصر والمنصور بالله وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد ومن أهل البيت الهادي والمؤيد بالله وأبو طالب وقد روى أيضا عن الشافعية والحنفية وأحمد بن

_ = والخبث وإلا كان الجواب بمعزل عما فيه السؤال وهو خلف من المقال والله أعلم. من خط محمد العمراني. وقد يقال ليس مراده أن الخبث ليس بنجس أصلا، بل مراده أنه ليس بلازم النجاسة، بل قد قد يكون نجسا وقد لا يكون نجسا، ومدار النجاسة على التغير وعدمه ولا يخفى أن هذا تعطيل لمفهوم التقييد بالقلتين، فإنه يفهم أنه إذا كان دون القلتين فهو يحمل الخبث دائما ليخالف المذكور. أعني إنه لا يحمل الخبث وإلا لم يكن مخالفا بل مسكوتا عنه كما يقوله من ينفي المفهوم ويكون المعول على هذا التقييد بالتغير وعدمه. وحينئذ فلا فرق في ذلك بين ما كان قلتين أو دونهما إذ الحكم فيهما معا النجاسة مع التغير والطهارة مع عدمه. من خط السيد العلامة الحسن بن يحيى قدس سره.

حنبل ولا أدري هل تصح هذه الرواية أم لا فإن مذاهب هؤلاء مدونة في كتب أتباعهم من أراد الوقوف عليها راجعها واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله: تعالى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وبخبر الاستيقاظ وخبر الولوغ وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم وهي جميعها في الصحيح ولكنها لا تدل على المطلوب ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما كان ما أفادته تلك الدلالة مقيدا بما تقدم لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء بجرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن ولاشك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة نجس لأن المخالطة إن كانت بالجرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه. والحاصل أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظن استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل وإن لم يظن فهو الكثير ما هو أعلم من بين النجاسة وريحها ولونها وطعمها فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنة وأهل المذهب الأول اعتبروا المئنة ولكن لا يخفي أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك فهي لا تكاد تخالف المئنة في مثل هذا الموضع وإن أرادوا استعمال العين فقط وعدم استعمال العين فقط فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غير لون الماء أو ريحه أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه كما تقدم تقريره فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم في الإجماع بل هو مصرح بحكاية الإجماع في البحر كما تقدم فتقرر بهذا أنهم يردون المعنى الأول أعنى الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتا وانتفاء وحينئذ فلا مخالفة بين المذهبين لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء

موجب لخروج الماء عن الطهورية خروجا زائدا على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أواللون أو الطعم فتأمل هذا فهو مفيد بل مجموع ما أشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء وبين الأدلة1 الدالة عليها على

_ 1 لعل مراده بالجمعين المشار إليهما، أما الجمع بين الأدلة فلرده حديث القلتين إلى أن عموم طهارة القلتين مخصوص بما لم يتغير وإلا فنجس كما دونهما، ورده عدم جواز ملابسة ما يظن استعمال النجاسة معه رده إلى أن ظن استعمالهما لا يحصل إلا مع تغير الماء بأحد أوصافه. وأما الجمع بين المذاهب، أعني رد من اعتبره في القليل دون القلتين أو بما فيه ظن استعمال النجاسة إلى اعتبار تغير الماء فلعله بنحو ما ذكر في الأدلة. وأقول: أما اعتبار ذلك في الجمع بين المذاهب فهو بعيد وكيف لا؟ ومن يقول بنجاسة ما دون القلتين لا يعتبر التغير، ومن يقول بالظن فهو يقول: كل موكول إلى ظنه، اللهم إلا أن يقول: يلزمه ذلك. لأنه لا يحصل الظن إلا مع التغير، وأما الجمع بين الأدلة بما ذكر فقد سبقه إليه القاضي حسين بن ناصر المهلا في الجمع بين حديث القلتين والزيادة في حديث "إلا ما غير"، والمقبلي في حمله اعتبار ظن استعمال النجاسة على التغير وتلازمهما، ولكن لم يقرر ذلك المؤلف على ما ينبغي. وقد رأيت تقريره على ما تقرر لي فأقول في تقريره: إن حديث القلتين محمول على أنه خرج مخرج الأغلب فيما يتغير وما لا يتغير، وأن المراد به أن الغالب على النجاسة أنها إن وردت على ما هو دون القلتين من الماء غيرته إلى وصفها فيحمل الخبث وإن وردت على قدر قلتين فصاعدا لم تغيره ولم يحمل الخبث بذلك فيكون ارجاعا إلى التغير وعدمه، ولا يخفى أن هذا إن كان فيما ورد في سبب الحديث فقط وهو ماء الفلاة وما ينوبه من نجاسة السباع فهو قريب في أغلبية ذلك فيما يستنقع من ماء المطر فيها وفيما تلقى السباع فيه، ولكن فيه نظر للعموم على السبب. وفيه خلاف فيما كان جواب سؤال، وأيضا يكون كالمظنة لربط التغير بما دون القلتين. وفي حديث القلتين من الاحتمال في المعنى ما لا يصلح أن يكون مظنة لاختلاف العلامات وغموض معنى حمل الخبث وبتردد هل بلغ الماء قلتين؟ يعني في زيادة أو نقصان مع كزن التغير إلى الوصف ظاهر لا يحتاج إلى بيان مظنة. ولهذا كان الرد إليه أرجح من تخصيص عموم قوله: "لا ينجسه شيء". بالمفهوم المذكور لضعفه واحتماله. وأما أدلة القائل بإعمال الظن في المنع مما تستعمل النجاسة باستعمال نحو قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وحديثي الاستيقاظ والولوغ في المنع عما لابسته لقلته، لكونه في إناء، والنهي عن البول في الماء الدائم، فرد هذا إلى أنه حيث تغير الماء فيه بعض الخفاء، ولكن يقال أيضا ليس بلازم فيها ما ذكرتم من ظن استعمال النجاسة باستعماله، فالأظهر فيها أن النهي للتعبد ونقول: إن الظن الممنوع فيه=

هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم وهذه المسألة1 هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق ويتبلد عند تشعب طرائقها كل مدقق وقد حررتها في سائر مؤلفاتي تحريرات مختلفة لهذه العلة وأطلت الكلام عليها في طيب النشر. وقد استدل بعض أهل العلم لهذا المذهب بمثل حديث: "استفت قلبك ولو أفتاك المفتون" ومثل حديث: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" ولا يستفاد منها إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتما وجزما وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني فإبعاد النجعة إلى مثل حديث: "استفت قلبك ودع ما يريبك" ليس كما ينبغي فإن قيل أنه قصد الإستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسالة فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به وهكذا التعويل على حديث الولوغ والإستيقاظ نحو ذلك لا يفيد وقد حكى تحديد الماء الكثير أقوال منها أن الكثير من المستبحر وقيل ما إذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر وقيل ما كان مساحة مكانه كذا وقيل غير ذلك وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة.

_ = استعمال النجاسة باستعمال، هو لازم للتغير إذ لا يحصل إلا معه سيما فيما لا يظهر فيه التغير كقطرة بول في بحر. من خط سيدي العلامة الحسن بن يحيى الكبسي روح الله روحه. 1 أما أنا فأقول، قد اضطربت أمواج محيط شيخنا في هذا البحث، فلم يصف مورده عن كدر فتفطن وارجع النظر فيه كرتين. ومن خط العمراني. فإنه لم يتقرر في كلامه معنى حمل الماء للخبث وعدمه، بل قسم حمل الخبث إلى قسمين حمل مع التغير، وحمل له مع عدمه، فلم يقع فرق بين مفهوم حديث القلتين ومنطوقه. ومن خط سيدي العلامة حسن بن يحيى قدس سره. وأقول من تأمل حق التأمل لم يجد في كلام المؤلف اضطرابا. بل هذا التقرير على أحسن الوجوه وأكملها.

قوله: ومتحرك وساكن وجه ذلك أن سكونه وإن كان قد ورد النهي عن التطهر به حاله فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهورا لأن وصف كونه طهورا بمجرد تحركه. وقد دلت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن ما دام ساكنا1 كحديث أبي هريرة عند مسلم رضي الله عنه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لايغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقالوا: يا أبا هريرة كيف يفعل قال: يتناوله تناولا وفي لفظ لأحمد وأبى داود: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابه" وفي لفظ للبخاري: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" وفي لفظ للترمذي: "ثم يتوضأ منه" وغير هذه الروايات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على إنفراده والنهي عن الإغتسال فيه على انفراده والنهي عن مجموعة الأمرين ولا يصح أن يقال: إن روايتي الإنفراد مقيدتان بالإجتماع لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز فأفاد أن هذا الإغتسال أوالوضوء في الماء الدائم من دن بول فيه غير جائز فمن لا يجد إلا ماء ساكنا وأراد أن يتطهر منه فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه حتى يخرج من وصف كونه ساكنا ثم يتوضأ منه وأما أبو هريرة فقد حمل النهي على الإنغماس في الماء الدائم ولهذا لما سئل كيف يفعل قال: يتناوله تناولا ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء فإنه لا إنغماس فيه بل هو يتناوله تناولا من الإبتداء فالأولى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة ثم يتطهر به. وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن ومنهم من قال: أن هذه الروايات محمولة على الكراهة فقط ولا

_ 1 لا يذهب عليك أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" مشروطة عامة. يعني أنه حكم فيها بالمنع من الاغتسال على الماء ما دام وصفه وهو الديمومة وهو معنى خروجه عن كونه مطهرا. والقول بعدم خروجه عنها ح. معللا بسرعة الزوال خلف من المقال وضرورة بطلان قولك المحمر وجهه ليس بخجل لسرعة زوال الحمرة المحكوم عليها بالخجل ما دامت. والله أعلم من خط العمراني.

وجه لذلك وقد قيل إن المستبحر مخصوص من هذا بالإجماع والراجح أن الماء الساكن1 لا يحل التطهر به مادام ساكنا فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي وهو كونه مطهرا وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب. قوله: مستعمل وغير مستعمل. هذه المسأله السادسة من مسائل الباب وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات هل يخرج بذلك عن كونه مطهرا أم لا فحكى عن أكثر العترة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبي حنيفة في رواية عنه أن الماء المستعمل غير مطهر واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن التطهر به ليست كون ذلك الماء مستعملا بل كونه ساكنا وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الإستعمال واحتجوا أيضا بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة ولا تنحصر علة ذلك في الإستعمال كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله فلا يتم الاستدلال بذلك لإحتماله ولو كانت العلة الاستعمال لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة وبالعكس بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل ومن جملة ما استدلوا به أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا تساقط منه وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية فعلى هذا المستدل أن يوضح هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم والأول باطل والثاني لا ندري من هو فليبين لنا من هو على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع مثل حديث غسل اليد بعد الاستيقاظ قبل إدخالها الإناء ونحوه فالحق أن المستعمل طاهر مطهر عملا بالأصل وبالأدلة الدالة على

_ 1ظاهر هذا أنه حمل معنى الدائم على الساكن عن الحركة. والماء جسم سيال لا يكتنفه حقيقة سكون. والأظهر أن المراد بالدائم الساكن عن الجري بدليل رواية في الماء الدائم الذي لا يجري. فلا يخرج من النهي بمجرد تحريكه. بل لا بد من جريه، وأيضا فتحركه ثم عوده بسرعة لا يخرجه عن كونه دائما بخلاف إذا جرى. من خط العلامة حسن بن يحيى قدس سره.

أن الماء طهور. وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر ونقله غيره عن الحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين

فصل في أحكام النجاسات

فصل في أحكام النجاسات والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقا وبوله إلا الذكر1 الرضيع ولعاب كلب وروث ودم حيض ولحم خنزير وفيما عدا ذلك خلاف والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه. أما نجاسة بول الآدمي وغائطه فبالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية كما لا يخفى على من له اشتغال بالأدلة الشرعية وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال. أما الغائط فكما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطيء الأذى بخفيه فطهورهما التراب" رواهما أبو داود وابن السكن والحاكم والبيهقي وقد اختلف فيه على الأوزاعي. وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى

_ 1 فيه أن جعل النضح والرش مطهرا لا يوجب إخراجه عن النجاسة، كما في جعل المسح للنعل بالتراب مطهرا للغائط، ولم يستلزم ذلك خروجه من النجاسة فلا وجه للاستثناء، كما أن اختلاف كيفية التطهير للنجس غير موجبة لخروجه عن النجاسة.! هـ محرر الأصل.

خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما" وقد اختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول. وأخرج أهل السنن عن أم سلمة مرفوعا بلفظ: "يطهره ما بعده" وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه وكذلك عن أمرأة من بني عبد الأشهل عند البيهقي أيضا فإن جعل التراب مع المسح مطهرا لذلك لا يخرجه عن كونه نجسا بالضرورة إذ اختلاف وجه التطهير لايخرج النجس عن كونه نجسا. وأما التخفيف في تطهير البول فكما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يراق على بول الأعرابي ذنوبا من ماء وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال فلم يحصل الاتفاق على شيء في شأنها والأدلة مختلفة فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل فإنه ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنين بأن يشربوا من أبوال الإبل ومن ذلك حديث: "لا بأس ببول ما يؤكل لحمه" وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر والبراء وفي إسناده عمرو بن الحصين العقلي وهو ضعيف جدا وورد ما يدل على نجاسة الروث كما أخرجه البخاري وغيره أنه قال: صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" والركس النجس وقد نقل التيمى أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في روايته: "إنها ركس إنها روثة حمار" ولايخفى عليك أن الأصل في كل شيء أنه طاهر لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام والأصل عدم ذلك والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتا ينقل عن ذلك وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثما ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام فالكل إما من التقول على الله تعالى بما لم يقل أو من إبطال ما قدم شرعه لعباده بلا حجة1

_ 1 انظر هذا الكلام فإنه أصل عظيم في الشرع يجب الوقوف عنده، لأن كثيرا من المتفقهة يعجل بالحكم في الأمر من غير دليل شرعي واضح، بل أخذا منه باللازم المفهوم من كلام الفقهاء، =

وأما تقييد البول بكونه بعد أيام الرضاع فلحديث "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبزار وابن خزيمه من حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الحاكم. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل" وأخرجه أيضا ابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح عن على موقوفا. وأخرج أحمد وأبو داود ابن ماجه وابن خزيمه وابن حبان والطبراني من حديث أم الفضل لبانة بنت الحارث قالت: بال الحسين ابن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يارسول الله أعطني ثوبك والبس ثوبا غيره حتى أغسله فقال: "إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى". وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم قيس بنت محصن "أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله".

_ = وقد علمت أن لا مفهوم ولا مقتضى إلا لكلام المعصوم. وقد تكلم الأصوليون على ذلك عند الكلام على" المنطوق والمفهوم"، والأخذ بهما في كلام الله ورسوله لا غير. وتكلموا مع ذلك على اعتبارهما في كلام الموصي والواقف، ولم يقولوا أن المتون وعبارات الفقهاء تنزل منزلة كلام الله وكلام رسوله ويؤخذ منها باللازم ولازم اللازم وتضرب الأحكام على العباد كافة باسم الشرع من هذا الطريق، كما ترى ذلك في كثير من كتب المتأخرين من فقهاء المذاهب حيث يعرضون لمسألة جديدة لم ينص عليها بذاتها أحد من المتقدمين فيستعرضون بعض كلام الفقهاء في أششباه تلك المسألة ويأخذون من عباراتهم باللازم والمفهوم، ويصبح ذلك حكما شرعيا لله تعالى في أعناق المكلفين. وكثير من شراح المتون الفقهية هذا دأبهم وقد لا تكون تلك المتون بلسان عربي مبين. وقد يخرجون بذلك عن قواعد المذاهب، بل وعن الأصول الفقهية، ونسوا أنهم إن كانوا مجتهدي مذهب أن واجبهم أن يبذلوا هذا الجهد في استعراض كتاب الله تعالى وصحيح السنة فيما يستجد من الأحكام ويأخذوا منهما على نحو ما أخذ إمامهم وعلى أصوله التي أسسها لهم، والله أعلم.

وفي صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء". وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى عنها قالت: "كان يؤتى بالصبيان فيبرك1 عليهم ويحنكهم فأتى بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله". فهذا تصريح بأنه لم يغسله فيكون إتباعه الماء إما مجرد النضح كما وقع في الحديثين الآخرين أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل. وبالجملة فالتصريح منه صلى الله عليه وسلم بالقول بما هو الواجب في ذلك هو الأولى بالاتباع لكونه كلاما مع أمته فلا يعارضه ما وقع من فعله على فرض أنه مخالف للقول وقد ذهب إلى الاكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة منهم علي وأم سلمه والثوري والأوزاعي والنخعي وداود وابن وهب وعطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق ومالك في رواية وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه. وذهب بعض أهل العلم وقد حكي عن مالك والشافعي والأوزاعي إلى أنه يكفي النضح فيهما وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية. وذهبت الحنفية وسائر الكوفيين وهو محكى عن العترة إلى أنهما سواء في وجوب الغسل وهذا المذهب كالذي قبله في مخالفة الأدلة وقد استدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار وقد شذ ابن حزم فقال: انه يرش من بول الذكر أي ذكر كان وهو إهمال للقيد المذكور سابقا بلفظ بول الغلام الرضيع ينضح والواجب حمل المطلق على المقيد.

_ 1 بالتشديد من التبريك.

قوله: ولعاب الكلب. قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا" وثبت أيضا عندهما وغيرهما مثله من حديث عبد الله بن مغفل فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب وهو المطلوب هنا والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف وليس ذلك مما يقدح في كونه نجسا لأن محل الدليل على النجاسة هو أيجاب الغسل وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالترتيب كما وقع في أحاديث الباب في الصحيحين وغيرهما فإن المقصود هنا ليس إلا إثبات كون اللعاب نجسا لا بيان كيفية تطهيره فلذلك موضع آخر. قوله: وروث. الدليل على نجاسة الروث ما تقدمت الإشارة إليه من قوله صلى الله عليه وسلم في الروث: "إنها ركس" والركس في اللغة النجس فالروثة نجس وهو المطلوب وقد قدمنا كلام التيمى في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير. قوله: ودم الحيض. الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث خولة بنت يسار قالت: يارسول الله ليس لي إلاثوب واحد وأنا حيض فيه قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره قال: "يكفيك الماء ولايضرك أثره" وفي إسناده ابن لهيعة. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمه وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعا بلفظ: "حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر" قال: ابن القطان إسناده في غاية الصحة. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدنا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع قال: "تحته ثم تقرضه بالماء ثم تنضخه ثم تصلي فيه" فالأمر بغسل دم الحيض وحكه

بضلع يفيد ثبوت نجاسته وإن اختلف وجه تطهيره فذلك لا يخرجه عن كونه نجسا. وأما سائر الدماء فالأدلة فيها مختلفة مضطربة والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير لكان ذلك مفيدا لنجاسة1 الدم المسفوح والميته ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير لإفراد الضمير ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة والدم الذي ليس بدم الحيض ولاسيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها كما ثبت في الصحيح بلفظ: "إنما حرم من الميتة أكلها" ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد بعد جملة مشتملة على أمور متعددة. قوله: ولحم الخنزير. الدليل على نجاسته ما قدمنا قريبا من الآية الكريمة.

_ 1 بناء على أن معناه النجس المتعارف بين المتشرعة لغة أو حقيقة شرعية، ودون ذلك مهامه، ومع هذا تعرف ما في إثبات نجاسة الروث لكون الركس لغة في النجس، ولو قيل تقريره صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة على فهم نجاستها وإرشادهم إلى كيفية تطهير جلدها دليل على نجاسة الميتة لما كان مستبعدا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما حرم من الميتة أكلها" فلا دلالة فيه على الطهارة إذ مفاده حصر محرم منافعها في الأكل دون سائر المنافع من نحو الاستصباح بدهنها والانتفاع بجلدها. وقد أرشدهم إلى تطهير جلدها لما كان من ضرورة الانتفاع به مباشرته. وأما دهنها فهو ممكن الانتفاع به من دون مباشرة، فلا يقال أن تسويغ الانتفاع إباحة لمباشرته وهو ينافي الحكم بنجاسته والله أعلم. من خط الفقيه محمد العمراني. وفيه غلط فاحش بذكره دهن الميتة فإنه من المحرمات قطعا كما في الصحيحين أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة للاستصباح بها ودهن السفن فقال: لا هو حرام، ثم قال: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه".

قوله: وفيما عدا ذلك خلاف والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه. أقول: أعلم أن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم والأصل البراءة من ذلك ولاسيما من الأمور التي تعم بها البلوى وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السكوت1 عن الأمور التي سكت الله عنها وأنها عفو فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله أن يحكم بنجاسته بمجرد رأى فاسد أو غلظ في الاستدلال كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرمه الله زاعما أن النجاسة والتحريم متلازمان وهذا الزعم من أبطل الباطلات فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلا "إنما حرم من الميتة أكلها" ولو كان مجرد تحريم شيء مستلزما لنجاسته لكان قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخره دليلا على نجاسة النساء المذكورات في الآية والمسلم لا ينجس حيا ولا ميتا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق كالأنصاب والأزلام وما يسكر من النباتات والثمرات بأصل الخلقة. فإن قلت: إذا كان التصريح بنجاسة شيء أو رجسيته أو ركسيته يدل على

_ 1أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في السنن عن ثعلبة الخشني "رضي" يرفعه: "إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها. وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تقربوها وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تتكلفوها". قال ابن القيم في أعلام الموقعين: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن كثير غير نسيان رحمة لكم فاقبلوها". من خط محمد العمراني سلمه الله تعالى.

أنه نجس كما قلت في نجاسة الروث ولحم الخنزير فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:90] . قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترنا بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينه صارفه لمعنى1 الرجسية إلى غير النجاسة وهكذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم والتوضؤ في آنياتهم والأكل فيها وإنزالهم المسجد كان دليلا على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير الشرعية بل قد ورد البيان من الشارع لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة فقال: في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم" فهذا يدل على أن تلك النجاسة حكمية لا حسية والتعبد إنما هو بالنجاسات الحسية وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه فلا شك أنه يتعين العمل بالأرجح فإن عورض بما يساويه فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم حتى يرد موردا خالصا عن شوب المعارضة أو راجحا على ما عارضه. وبالجملة فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع ولا يتزحزح عن هذا المقام إلا بحجة شرعية وقد أوضحت في مصنفاتي كشرح المنتقى وحاشية الشفاء هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة بما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره فليراجع.

_ 1ظاهر كلامه أن الرجس إما مشترك أو أنه لغوي شرعي، وفي ذلك نظر، ثم إنه قد يقال: إن هذه دلالة اقتران ضعيفة، لأن قوله رجس خبر عن كل من المذكورات، والخبر الواحد لا يختلف لأنه محكوم به على متعددات. وأما الاستدلال على نجاسة الكافر والخمر والميتة بما في حديث أبي ثعلبة من الأمر بغسل آنية الكفار لكونهم كانوا يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها اللحوم فلا يدل على النجاسة لجواز أن يكون ذلك لما تقدم بها من المحرم. وذلك لعدم وجود غيرها، وكذلك لا يدل أمره صلى الله عليه وسلم في لحوم الحمر بخيبر بأن تهراق الآنية وتكسر أو تغسل لاحتمال أنه ليس لأجل النجاسة من خط العلامة حسن بن يحيى قدس سره.

فصل تطهير النجاسات

فصل تطهير النجاسات ويطهر ما تنجس بغسله حتى لا يبقى عين ولا لون ولا ريح ولا طعم والنعل بالمسح والاستحالة مطهرة لعدم وجود الوصف المحكوم عليه وما لا يمكن غسله فبالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى للنجاسة أثر والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بأذن من الشارع. أقول: تطهير النجاسات إن ورد فيه شيء عن الشارع كان الواجب الاقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه وقد تقدم ما يدل على ذلك وتقدم أيضا ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب. وبالجملة فكل ما علمنا الشارع كيفية تطهيره كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره فالواجب علينا إذهاب تلك العين حتى لا يبقى لها ريح ولا لون ولا طعم لأن الشيء الذي يجد الإنسان ريحه أو طعمه قد بقي فيه جزء من العين وإن لم يبق جرمها أو لونها إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شيء من ذلك الشيء الذي له الريح وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شيء عن ذلك الشيء الذي له طعم وإذا استحال الشيء إلى شيء آخر حتى كان ذلك الشيء الآخر مخالفا للشيء الأول لونا وريحا وطعما كاستحالة العذرة رمادا فقد فُقد الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه وهذا هو الحق والخلاف في ذلك معروف وما كان لا يمكن غسله من المتنجسات كالأرض

_ = وأما التعليل في الحديث بقوله: فإنها رجس أو نجس، فقد شك فيه الراوي وقد عرفت احتمال معنى رجس ونجس. من خطه رحمه الله.

والبئر فتطهيره بالصب عليه والنزح منه حتى لا يوجد للنجاسة أثر لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقيا ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي لها جرم ولون وأما مثل البول فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء فإذا وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة بالبول طاهرة. وأما كون الأصل في التطهير هو الماء فقد وصف بذلك الكتاب والسنة وصفا مطلقا غير مقيد بل قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور" يرشد إلى ما ذكرنا إرشاد يشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول فإذا ثبت الشارع أن تطهير شيء من المتنجسات يكون بغير الماء كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها ويتعين فيما عداها وهذا هو الحق وقد ذهب بعض الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر وإليه ذهب الداعي من أهل البيت ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون إن الماء يتعين في مثل ذلك ويرد على أبي حنيفة ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع.

باب قضاء الحاجة

باب قضاء الحاجة على المتخلي الاستتار حتى يدنو من الأرض والبعد أو دخول الكنيف وترك الكلام والملابسة لما له حرمة وتجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع أو عرف وعدم الاستقبال والاستدبار للقبلة وعليه الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة أو ما يقوم مقامها ويندب الاستعاذة عند الشروع والاستغفار والحمد بعد الفراغ. أقول أما مشروعية الاستتار حتى يدنو من الأرض عند قضاء الحاجة فلما ورد من الأدلة على وجوب ستر العورة عموما وخصوصا إلا عند الضرورة ومنها قضاء الحاجة فلا يكشف عورته إلا عند القعود. وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي ومن حديث أبي هريرة بلفظ "من أتي الغائط فليستتر". وأما البعد فلما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي من حديث جابر قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى" ولفظ أبي داود "كان إذا أراد البراز انطلق حتى لايراه أحد" ورجاله رجال الصحيح إلاإسماعيل بن عبد الملك الكوفي ففيه مقال يسير وأما إذا أراد أن يقضي الحاجة في البيان وهناك كنيف فليس عليه إلا أن يدخله وإن قرب من الناس لما سيأتي من حديث ابن عمر. وأما ترك الكلام فلحديث: "لايخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك" أخرجه أحمد أبو داود وابن ماجه

من حديث أبي سعيد وأخرج نحوه ابن السكن وصححه من حديث جابر. وأما ترك الملابسة لما له حرمة فلحديث أنس عند أهل السنن وصححه الترمذي والمنذري وابن دقيق العيد بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه". لم يأت فيه من ضعفه بما تقوم به الحجة1 في التضعيف. وأما تجنب الأمكنة التي منع عن التخلي فيها شرع أو عرف فقد ورد في ذلك أحاديث منها حديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله تعالى وأحمد وأبي داود قال: "اتقوا اللاعنين قالوا: وما اللاعنان يارسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم". ومن حديث معاذ بن جبل عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وابن السكن وصححاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل" وقد أعل بأنه من رواية أبي سعيد الحميري عن معاذ ولم يسمع منه وفي الباب أحاديث فيها مقال. ومن الأمكنة التي نهى الشارع عنها الجحر لحديث عبد الله بن سرجس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الحجر أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم والبيهقي وقد أعل أنه من رواية قتادة عنه ولم يسمع منه ولكنه قد صحح سماعه منه علي بن المديني وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السكن. ومنها: ما أخرجه أحمد أهل السنن من حديث عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لايبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه".

_ 1تكلم فيه أبو داود بعد أن أخرجه بأنه حديث منكر وهم فيه همام، وإنما هو عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه" فرواه همام عن ابن جريج كما في الكتاب فوهم فيه، انتهى بالمعنى من السنن، وهي علة ظاهرة، إلا أن الترمذي قد حسنه. من خط سيدي الحسن بن يحيى قدس سره. قلت: وينظر في الترمذي فإن المؤلف كما ترى ذكر عنه تصحيحه.

ومنها ما أخرجه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد. وأما المنع من التخلي في المواضع التي منع منها عرف الناس فوجهه أنهم يتأذون بذلك وما كان ذريعة إلى ما لا يحل فهو لا يحل. وأما المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة فقد ورد في ذلك أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب بلفظ: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستبدورها ولكن شرقوا أو غربوا" وأخرج نحوه مسلم رحمه الله وغيره من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان أيضا وابن ماجه وابن حبان ومن حديث عبد الله ابن الحارث بن جزء وأبو داود من حديث عبد الله بن مغفل والدارمي في مسنده من حديث سهل بن حنيف وقد أختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال استوفيناها في شرح المنتقى. وقد استدل من لم يمنع من ذلك بما أخرجه الجماعة من حديث ابن عمر قال: "رقيت يوما في بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة" وجعلوا هذا الحديث ناسخا لأحاديث النهي. ومن جملة ما أستدلوا به حديث جابر عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والبزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني نقال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول" فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها وقد نقل الترمذي عن البخاري تصحيحه وصححه أيضا ابن السكن وحسنه أيضا البزار ولا يخفى أنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة فما وقع منه صلى الله عليه وسلم لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقبلة. فإن قلت حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه قالت: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال: "أو قد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة".

قلت: لو صح هذا لكان صالحا للنسخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لقصد التشريع ولمخالفة من كان يكره الاستقبال ولكنه لم يصح فان إسناده خالد بن أبي الصلت قال: ابن حزم هو مجهول وقال: الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت أن هذا الحديث منكر وقد استدل من خصص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أخرجه أبو داود والحاكم عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك فقال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس وقد حسن الحافظ في الفتح إسناده ولكنه إنما يكون هذا دليلا إذا كان قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد تخصيص ذلك النهي السابق وأما إذا مستنده إنما هو مجرد فهمه من فعله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فلا يكون هذا الفهم حجة ومع هذا الاحتمال لا ينتهض للاستدلال. وأما الاستجمار بثلاثة أحجار طاهرة فوجهه ما في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بأقل من ثلاث أحجار وعن الاستنجاء برجيع أوعظم. وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه والدراقطني وقال: إسناده صحيح حسن من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه" وأخرج نحوه أبوداود والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة والرمة وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والدرامي وأبو عوانة في صحيحه والشافعي من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ: "وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار" وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا وإذا لم توجد الأحجار فغيرها يقوم مقامها للضروة ما لم يكن ذلك الغير مما ورد النهي عنه كالروثة والرجيع والعظم فإنه لا يجوز ولا يجزئ.

وأما مشروعية الاستعاذة عند الشروع فوجهه ما أخرجه الجماعة من حديث انس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وقد روى سعيد بن منصور في سننه أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول: "بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وإسناده على شرط مسلم. وأما الحمد والاستغفار بعد الفراغ فوجه ذلك ما أخرجه ابن ماجه بإسناد صالح من حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد الله الذي أذهب عني الأذى" وأخرج نحوه النسائي وابن السني من حديث أبي ذر ورمز السيوطي لصحته. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم.

باب أحكام الوضوء

باب أحكام الوضوء أحكام الوضوء ... باب أحكام الوضوء يجب على كل مكلف أن يسمي إذا ذكر ويتمضمض ويستنشق ثم يغسل جميع وجهه ثم يديه مع مرفقيه ثم يمسح رأسه مع أذنيه ويجزئ مسح بعضه والمسح على العمامة ثم يغسل رجليه مع الكعبين وله المسح على الخفين ولا يكون وضوءا شرعيا إلا بالنية لاستباحة الصلاة. أقول: أما وجوب التسمية فوجهه ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي في العلل والدارقطني والبيهقي وابن السكن والحاكم وليس في إسناده ما يسقطه عن درجة الاعتبار وله طرق أخرى من حديثه عند الدارقطني والبيهقي وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد ومن حديث أبي سعيد وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة وسهل بن سعد وأبو سبرة وأم سبرة وعلي وانس ولا شك ولا ريب أنها جمعيا تنتهض للاحتجاج بها بل مجرد الحديث الأول ينتهض لأنه حسن فكيف إذا عضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم فضلا عن الوجوب فإنه أقل ما يستفاد منه.

وأما تقييد الوجوب بالذكر1 فهو للجمع2 بين هذه الأحاديث وحديث "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه" أخرجه الدراقطني والبيهقي من حديث ابن عمر وفي إسناده متروك وأخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن مسعود وفي إسناده أيضا متروك ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفيه ضعيفان وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها وليس فيها دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذاكر ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية وبعد هذا كله ففي التقييد بالذكر إشكال3. وأما وجوب المضمضة والاستنشاق فوجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغسله من جملته المضمضة والاستنشاق وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني

_ 1 لا يذهب أن عدم المؤاخذة على السهو والنسيان التي تظافرت عليها أدلة الكتاب والسنة إنما هو فيما يرجع إلى نفي الإثم فقط، ولم يقل أحد أن من نسي الصلاة أو نسي ركنا من أركانها أو شرطا من شروطها كالوضوء مثلا أنه يرتفع حكمه بمعنى ركنيته أو شرطيته مثلا فتصح الصلاة، وقد نسي النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين من صلاته، ثم لما ذكر أتاهما تحصيلا للصحة كما ثبت في الصحيح. نعم. قد ثبت في الشريعة أشياء قد ارتفع أحكامها بالنسيان وذلك أكل الصائم والكلام في الصلاة كما هو في حديث ذي اليدين بدلائل خصت مواردها. والله أعلم من خط الفاضل العمراني سلمه الله تعالى. 2 لعل وجه الجمع أن يحمل قوله: ومن توضأ ولم يذكر اسم الله إلخ على أنه لم يذكر الله ناسيا فقد أجزأه ونقصت طهوريته فقط وفيه ما سيأتي: أنه إذا جعلت شرطا فلا فرق في عدم الإجزاء بين الترك ناسيا أو ناسيا أو عامدا وإن لم يكن ناسيا، بل بمجرد الوجوب فهو مع الترك مجز عمدا أو سهو، فالحمل على إرادة الندب أو الاستحباب أرجح من خط سيدي العلامة الحسن ابن يحيى قدس الله روحه 3 إشارة إلى ما نقلناه عن العمراني قبل هذا.

من حديث أبي هريرة قال: "أمر رسول صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق". وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أيضا أن النبي قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر". وثبت عند أهل السنن وصححه الترمذي من حديث لقيط بن صبره بلفظ "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" وأخرج النسائي من حديث سلمة بن قيس "إذا توضأت فانتثر" وأخرجه الترمذي أيضا وفي رواية من حديث لقيط بن صبرة المذكور "إذا توضأت فمضض" أخرجها أبو داود بإسناد صحيح وقد صحح حديث لقيط الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد وإسحاق ومن أهل البيت القاسم والهادي والمؤيد بالله وبه قال: ابن أبي ليلى وحماد ابن سليمان وذهب جماعة من أهل العلم إلى الاسنتشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما، حكى هذا المذهب النووي في شرح مسلم عن أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وابن المنذر ورواية عن أحمد وقد روي غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة والثوري وزيد بن علي وذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن البصري والزهري وربيعة ويحيى ابن سعد وقتادة والحكم بن عتيبة ومحمد بن جرير الطبري ومن أهل البيت الناصر إلى أنهما غير واجبتين واستدلوا على عدم الوجوب بحديث "عشر من سنن المرسلين" وهو حديث صحيح ومن جملتها المضمضة والاستنشاق ورد بأنه لم يرد بلفظ "عشر من السنن" بل بلفظ "عشر من الفطرة" وعلى فرض وروده بذلك اللفظ1 فالمراد بالسنة الطريقة وهي تعم الواجب لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس بلفظ "المضمضة والاستنشاق سنة" أخرجه الدارقطني وإسناده ضعيف.

_ 1أقول في صحيح مسلم بعد سوق العشر، قال مصعب بن شيبة، أي أحد رواة الحديث: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، فظهر وجه قول المؤلف سلمه الله. وعلى فرض وروده إلخ هـ لكاتبه.

وأما وجوب غسل الوجه فلا خلاف فيه في الجملة وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة والمراد بالوجه ما يسمى وجها عند أهل الشرع واللغة وأما وجوب غسل اليدين فهو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا خلاف في ذلك وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معمها ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر عند الدراقطني والبيهقي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ ثم غسل يديه حتى شرع في العضد ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان "أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين". وأخرج البزار والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه" وهذا بيان لما في القرآن فأفاد أن الغاية داخله فيما قبلها. وأما وجوب مسح الرأس فلا خلاف فيه في الجملة وإنما وقع الخلاف هل المتعين مسح الكل أم يكفي البعض، وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أو البعض والسنة الصحيحة وردت بالبيان وفيها ما يدل على جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة" وأخرج أبو داود من حديث انس أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة ولا يخفى أن قوله: تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال نحو ضربت رأس زيد وضربت برأسه وضربت زيدا وضربت يد زيد فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة وهكذا ما في الآية وليس النزاع في مسمى الرأس لغة حتى يقال: أنه

حقيقة في جميعه بالنزاع في إيقاع المسح عليه وعلى فرض الإجمال فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع وتارة بمسح البعض بخلاف الوجه فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال بل غسله جميعا وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما للغسل والمسح. فإن قلت إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به. قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب أو بالثوب أو مسحت الحائط أو الحائط على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط وإنكار مثل هذا مكابرة. وأما مسح الأذنين مع الرأس فوجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى مسحهما مع مسح رأسه وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ "الأذنان من الرأس" من طرق يقوي بعضها بعضا وأما المسح على العمامة أو غيرها مما هو على الرأس فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو ابن أمية الضمري عند البخاري وغيره ومن حديث بلال عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره ومن حديث المغيرة عند الترمذي1 وصححه وليس فيه المسح على الناصية بل هو بلفظ "ومسح على الخفين والعمامة" وفي الباب أحاديث غير هذه منها عن سلمان عند أحمد عن ثوبان عند أبي داود وأحمد أيضا. والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس والعمامة والكل صحيح ثابت وقد ورد في حديث ثوبان ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر وهو عند أحمد وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب التساخين وفي إسناده راشد بن سعد قال

_ 1ولكنه قد ثبت في هذا حديث المغيرة "المسح على العمامة والناصية" عند مسلم وأبي داود والنسائي، وحذف الناصية عند الترمذي لا يدل على عدم مسحها بعد أن ثبت عند غيره من خط سيدي الحسن بن يحيى قدس سره.

الخلال في علله أن أحمد قال: لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان لأنه مات قديما. وأما وجوب غسل الرجلين مع الكعبين فوجهه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه فأنها جمعيها مصرحة بالغسل وليس في شيء منها أنه مسح إلا في روايات لا يقوم بمثلها الحجة ويؤيد ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم للماسحين على أعقابهم "ويل للأعقاب من النار" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه صلى الله عليه وسلم بغسل الرجلين كما في حديث جابر عند الدارقطني ويؤيده أيضا قوله: صلى الله عليه وسلم "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" وهو حديث رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص وكذلك قوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه وكذلك قوله: للأعرابي "توضأ كما أمرك الله" ثم ذكر له صفة الوضوء وفيها غسل الرجلين وهذه أحاديث صحيحة معروفة وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار، وقد ذهب إلى هذا الجمهور قال: النووي "ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع وقال: الحافظ في الفتح أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن على وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين وقالت: الإمامية الواجب مسحهما وقال: محمد بن جرير والحسن البصري والجبائي أنه مخير بين الغسل والمسح وقال: بعض أهل الظاهر يجب الجمع بين الغسل والمسح ولم يحتج من قال: بوجوب المسح إلا بقراءة الجر وهي لا تدل على أن المسح متعين لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير لو لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الاقتصار على الغسل. وأما وجوب غسل الكعبين مع القدمين فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه صلى الله عليه وسلم مثل ما ثبت في المرفقين، وإذا تقرر

أنه لا يتم الواجب إلا بغسلهما ففي ذلك كفاية مغينة عن الاستدلال بدليل آخر وأما أن للمتوضئ أن يمسح على خفيه فوجهه ما ثبت تواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله: وقد قال: الإمام أحمد فيه أربعون حديثا وكذلك قال: غيره وقال: ابن أبي حاتم أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أحد وأربعون رجلا وقال: ابن عبد البر أربعون رجلا وقال: ابن منده الذين رووه من الصحابة عن النبي ثمانون رجلا ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف لأن كل من روى عنهم إنكاره فقد روى عنه إثباته وقد ذكر أحمد أن حديث أبي هريرة في إنكار المسح باطل وكذلك ما روي عن عائشة وابن عباس فقد أنكر الحفاظ ورووا عنهم خلافه وكذلك عن علي أنه قال: سبق الكتاب الخفين فهو منقطع فقد روى عنه مسلم والنسائي رحمهما الله تعالى القول بالمسح عليهما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى الإمام المهدي في البحر عن علي رضي الله عنه القول بمسح الخفين وقد ثبت في الصحيح من حديث جرير أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وإسلام جرير كان بعد نزول المائدة لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع وقد روى المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك وتبوك متأخرة على المريسيع بالاتفاق وقد ذكر البزار أن حديث المغيرة هذا رواه عنه ستون رجلا وبالجملة فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن نطول الكلام عليها ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع اشتغل الناس بها حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم1. وأما كون الوضوء لا يكون شرعيا إلا بالنية فوجهه حديث "إنما الأعمال بالنيات" وهو في الصحيحين وغيرهما وورد من طريق بألفاظ فإن كان

_ 1إذا أدخل القدمين الخفين وهما طاهرتان من الحدث فلا ينزعهما إلا في جنابة، كما ثبت ذلك في حديث المغيرة.

المقدر1 عاما فهو يفيد أن لا يثبت العمل الشرعي إلا بها وإن كان خاصا فأقرب ما يقدر الصحة وهي تفيد2 ذلك قال: في الفتح وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقصد واختلفوا في الوسائل ومن ثم خالفت الحنفية في اشتراطها للوضوء وقد نسب القول بفرضية النية صاحب البحر إلى علي وسائر العترة والشافعي ومالك والليث وربيعة وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه.

_ 1هذه الملازمة ممنوعة ولو أبدل المقدم بأن يقال: فإن كان ما لم تصاحبه غير عمل شرعي بناء على أن ما انعدم شرطه منها غير عمل شرعي فهو يفيد إلخ. كما هو مذهب المحققين لكان صوابا من خط الفاضل العمراني. 2 صوابه وهي تفيد عدم العمل بدونها. ونفي الصحة كنفي الذات. من خط العلامة حسن بن يحيى قدس سره.

فصل ويستحب التثليث في غير الرأس

فصل ويستحب التثليث في غير الرأس وإطالة الغرة والتحجيل وتقديم السواك وغسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل الشروع في غسل الأعضاء المتقدمة. أما استحباب السواك فوجهه الأحاديث المتواترة من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وليس في ذلك خلاف. وأما إطالة الغرة والتحجيل فلثبوته في الأحاديث الصحيحة. وأما غسل اليدين إلى الرسغين قبل الشروع في الوضوء فلحديث أوس ابن أوس الثقفي قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا" أي غسل كفيه أخرجه أحمد والنسائي وثبت في الصحيحين من حديث عثمان "فأفرغ على كفيه ثلاث مرات يغسلهما" وثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما استحباب التثليث فوجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم

غسل كل عضو ثلاث مرات وبين أن الواجب مرة واحدة وأما عدم مشروعية تثليث الرأس فإن الأحاديث الواردة بتثليث سائر الأعضاء وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس ولا تقوم الحجة بما ورد في تثليثه.

فصل في انتقاض الوضوء

فصل في انتقاض الوضوء ويتنقض بما خرج من الفرجين من عين أو ريح وبما يوجب الغسل ونوم المضطجع وأكل لحم الإبل والقيء ونحوه ومس الذكر. أما انتقاض الوضوء بما خرج من الفرجين فقد وردت الأدلة بذلك مثل حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" وقد فسره أبو هريرة لما قال له رجل ما لحدث؟ قال: فساء أو ضراط ومعنى الحديث أعم مما فسره به أبو هريرة ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ. ولا خلاف في انتقاض الوضوء بذلك وكذلك لا خلاف في انتقاضه بما يوجب الغسل في الجماع. وأما انتقاضه بنوم المضطجع فوجهه أن الأحايث الواردة بانتقاض الوضوء بالنوم كحديث "من نام فليتضأ" مقيدة بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع وقد روى من طرق متعددة والمقال: الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها وبذلك يكون الجمع بين الأدلة المختلفة وفي ذلك ثمانية مذاهب قد استوفيتها في شرح المنتقى وذكرت في الأحاديث المختلفة وتخريجها وترجيح ما هو الراجح. وأما انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم" وهو في الصحيح من حديث جابر بن سمره وقد روى أيضا من طريق غيره وقد ذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما

مست1 النار ولا يخفى أنه لم يصرح في شيء منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخا وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ويحيى بن يحيى وابن المنذر وابن خزيمة والبيهقي وحكى عن أصحاب الحديث وحكى عن جماعة من الصحابة كما قال: النووى قال: البيهقي عن بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به قال: البيهقي قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمره وحديث البراء. وأما انتقاض الوضوء بالقي فوجهه ماروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قاء فتوضأ أخرجه أحمد وأهل السنن قال: الترمذي هو أصح شيء في الباب وصححه ابن منده وليس فيه مايقدح في الاحتجاج به ويؤيده أحاديث منها حديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم "من أصابه قئ او رعاف أو قلس أومذى فلينصرف فليتوضأ" إسناده إسمعيل بن عياش وفيه مقال: وفي الباب عن جماعة من الصحابة والمجموع ينتهض للاستلال به وقد ذهب إلى ذلك العتره وأبو حنيفة وأصحابه وذهب الشافعي وأصحابه والناصر والصادق والباقر إلى أنه غير ناقص. وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين ولايخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة والمراد بنحوالقئ هو القلس والرعاف والخلاف في القلس كالخلاف في القئ قال: الخليل وهو ماخرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقئ وفي النهاية القلس ما خرج من الجوف ثم ذكر مثل كلام الخليل وأما الرعاف فقد ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة وأبو يوسف،

_ 1وقد مال المصنف في شرح المنتقى إلى نقض الوضوء بجميع ما مسته النار من لحوم الإبل وغيرها بناء على قاعدته المعروفة بجعل فعله صلى الله عليه وسلم خاصا به ولا يخفى أن حديث " كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مسته النار" قد يراد فيه بالترك لما هو أعم من فعله صلى الله عليه وسلم، فهو ظاهر في النسج. من خط الحسن بن يحيى قدس سره.

ومحمد والقاسمية وأحمد بن حنبل واسحاق وقيدوه بالسيلان وذهب ابن عباس والناصر ومالك والشافعي وروى عن ابن أبي أوفى وأبي هريرة وجابر بن زيد وابن المسيب ومكحول وربيعة إلى أنه غير ناقض وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال: وبالمعارضة بمثل حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه" رواه الدارقطني وفي إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف ويجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه وعن المعارضة بأنها غير صالحة للاحتجاج وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض. وأما انتقاض بمس الذكر فقد دل على ذلك الحديث بسرة بنت صفوان "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ" رواه أحمد وأهل السنن ومالك والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود وصححه أحمد والترمذي والدارقطني ويحيى بن معين والبيهقي والحازمي وابن خزيمة وابن حبان قال: البخاري هو أصح شيء في هذا الباب. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم جابر وأبو هريرة وأم حبيبة وعبد الله بن عمرو وزيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص وعائشة وابن عباس وابن عمر والنعمان بن بشير وأنس وأبي بن كعب ومعاوية ابن أبي حيده وقبيصة وأروى بنت أنيس وحديث بسرة بمجرده أرجح من حديث طلق بن علي عند أهل السنن مرفوعا بلفظ الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما1 هو بضعة منك" فكيف إذا انضم إلى حديث

_ 1قال شيخنا أبقاه الله تعالى في شرح المنتقى: وقد روي عن مالك القول بندب الوضوء، ويرده ما سيأتي من التصريح بالوجوب، وحديث أبي هريرة يعني به ما أخرجه أحمد، وابن حبان وقال: صحيح سنده عدول نقلته وصححه الحاكم واب عبد البر. وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفضى بيده إلى ذكره ليس ستر فقد وجب عليه الوضوء". وأخرج الدارقطني من حديث عائشة: " ويل للذين يمسون فروجهم ولا =

بسرة أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه ومن مال إلى ترجيح حديث طلق لم يأت بطائل وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة ومالوا إلى العمل بحديث بسرة لتأخر إسلامها وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك والحق الانتقاض وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرج وهو أعم من القبل والدبر كما أخرجه ابن ماجه من حديث أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مس فرجه فليتوضأ" وصححه أحمد وأبو زرعة وقال: ابن السكن لا أعلم له علة وأخرج الدارقطني من حديث عائشة مرفوعا "إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ" وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله العمري وفيه مقال: وأخرج أحمد والترمذي والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ" وفي إسناده بقية بن الوليد ولكنه صرح بالتحديث.

_ = يتوضؤون". وهو دعاء بالشر لا يكون إلا على ترك الواجب، ثم المراد بالوضوء وضوء الصلاة الصريحة، لأنه الحقيقة الشرعية، ولما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بسرة بلفظ: "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ"، ولما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديثها أيضا بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم إلى ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ" والله أعلم. من خط العمراني سلمه الله تعالى.

باب أحكام الغسل

باب أحكام الغسل يجب بخروج المنى لشهوة ولو بتفكر وبالتقاء الختانين وبالحيض وبالنفاس وبالاحتلام مع وجود بلل وبالموت وبالإسلام. أما وجوب الغسل بخروج المنى لشهوة فقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث "الماء من الماء" وأحاديث "في المنى الغسل1" وصدق اسم الجنابة على ماكان كذلك وقد قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ولا أعلم في ذلك خلافا وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة وكذلك بين من بعدهم هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج منى أم لا يجب إلا بخروج المنى والحق الأول لحديث "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل2" أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرج نحوه مسلم وأحمد والترمذي وصححه من حديث عائشة فهذان الحديثان وما ورد في معناهما ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المنى

_ 1وهو في حديث علي رضي الله عنه في سؤاله عن المذي، صححه الترمذي، ولكنه قد جاء في حديثه أيضا عند أحمد، وفيه: "إذا حذفت الماء فاغتسل من الجنابة، وإذا لم تكن حاذفا فلا تغتسل". قال صاحب المنتقى: فيه تنبيه على أن ما يخرج لغير شهوة إما لمرض أو ابردة لا يوجب الغسل، وكان على الشارح أن ينبه على اشتراط كونه لشهوة هـ. من خط العلامة السيد الحسن بن يحيى قدس سره. قلت: يعني السيد أنه لا يكتفي بما في السنن من دون بيان وجيه في الشرح. 2 أقول: وفي لفظ " وإن لم ينزل" كما في العمدة، وهي أصرح في المطلوب. لمحرره.

ويدل على ذلك حديث أبي كعب قال: "إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها1". وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لأفعل أنا وهذه ثم نغتسل". وأما وجوبه بالحيض فلا خلاف في ذلك وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بالنفاس وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بالاحتلام إلا ما يحكى عن النخعي ولكنه إنما يجب إذا أوجد المحتلم بللا كما في حديث عائشة قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: يغتسل وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: لا غسل عليه" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال: خفيف وأخرج نحوه أحمد والنسائي من حديث خولة بنت حكيم. وأخرج البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما من حديث أم سلمة "أن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت قال: "نعم إذا رأت الماء" وهذه الأحاديث ترد على من أعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك. وأما وجوبه بالموت فالمراد وجوب ذلك على الأحياء إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن أي يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات وقد حكى المهدي في البحر والنووي الإجماع على وجوب غسل الميت وناقش في ذلك بعض المتأخرين كالجلال مناقشة واهية وسيأتي الكلام على غسل الميت وصفته وتفاصليه إن شاء الله تعالى.

_ 1 رواه أحمد، وأبو داود.

وأما وجوبه بالإسلام فوجهه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن حبان وابن خزيمة عن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر وصححه ابن السكن. وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة أن ثمامة أسلم فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل" وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال بل فيهما أنه اغتسل وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه وهو مذهب الهادي وأتباعه وذهب الشافعي إلى عدم الوجوب وبه قال المنصور بالله: والحق الأول ويؤيده ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع وقتادة الرهاوي كما أخرجه الطبراني وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب كما أخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور وفي أسانيده مقال.

فصل في كيفية الغسل

فصل في كيفية الغسل والغسل الواجب، هو أن يفيض الماء على جميع بدنه أو ينغمس فيه مع المضمضة والاستنشاق والدلك لما يمكن دلكه ولا يكون شرعيا إلا بالنية لرفع موجبه وندب تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين ثم التيامن. أقول: الغسل لغة وشرعا هو ما ذكر وقد يقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل ولكن لا يخفي أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون الدلك لا يسمى غسلا كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي "أنه صلى الله عليه وسلم1 أتبعه الماء ولم يغسله" وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره.

_ 1 وكذلك يجاب عن رش الماء في بول الصبي، فلم يكن غسلا بأن الغسل إفاضة الماء وهو غير =

وأما المضمضة والاستنشاق فقد ثبتا في الغسل من فعله صلى الله عليه وسلم ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء وأما كونه لا يكون شرعيا إلا بالنية فلما قدمناه في الوضوء أيضا. وأما ما تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما:"أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمنيه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض على سائر جسده ثم يغسل رجليه" وهو من حديث عائشة. وورد في الصحيحين وغيرهما من حديث ميمونة بلفظ: "أنه صلى الله عليه وسلم أفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمنيه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان لا يتوضأ بعد الغسل" كما أخرجه أحمد وأهل السنن وقال: الترمذي حسن صحيح وأخرجه البيهقي أيضا بأسانيد جيدة وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا "أنه قال: لما سئل عن الوضوء بعد الغسل وأي وضوء أعم من الغسل" وروي عن حذيفة أنه قال: أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدميه حتى يتوضأ وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ومن

_ = الرش بل هو أوعب منه. وقد صح حديث عائشة وميمونة في الاكتفاء بمجرد الإفاضة، وأصرح منه حديث أم سلمة: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت". قال ابن رشد في النهاية: وهو أقوى في إسقاط التدلك، لأنه حصر لها شروط الطهارة وأشار إلى أن عمدة من اشترط الدلك القياس للغسل على أعضاء الوضوء، ثم قال: وأما الاحتجاج من طريقة الاسم ففيه ضعف، إذا كان اسم الطهارة المتعين على حد سواء. انتهى. ومنه تعرف عدم ترجيح اعتبار الدلك في مسمى الغسل، فغايته أن غسل، والغسل مطلق في محكم المجمل، وقد تبين في الأحاديث الصحيحة أنه الاكتفاء بمجرد الافاضة كما قاله الجمهور. والله أعلم من خط سيدي العلامة الحسن بن يحيى الكبسي قدس الله سره.

بعدهم حتى قال: أبو بكر ابن العربي أنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وهكذا نقل الإجماع ابن بطال ويتعقب بأنه قد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء وهو قول أكثر العترة. وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقديم. وأما التيامن فلثبوته عنه صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا عموما وخصوصا فمن العموم ما ثبت في الصحيح "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهورره وفي شأنه كله" ومن الخصوص ما ثبت في الصحيحين وغيرهما "أنه بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر في الغسل" وقد ثبت من قوله: ما يفيد ذلك ولا خلاف في استحباب التيامن.

فصل في غسل الجمعة

فصل في غسل الجمعة ويشرع لصلاة الجمعة وللعيدين ولمن غسل ميتا وللإحرام ولدخول مكة. أما مشروعية لصلاة الجمعة فلحديث "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول ورواه عن نافع نحو ثلاثمائة نفس ورواه من الصحابة غير ابن عمر نحو أربعة عشرين صحابيا وقد ذهب إلى وجوبه جماعة قال: النووي حكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة وبه قال: أهل الظاهر وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار ومالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة ومن بعدهم وذهب الجمهور إلى أنه مستحب واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله.

تعالى بلفظ "من توضأ فأحسن وضوءه ثم أتي الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام " وبحديث سمره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ للجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فذلك أفضل" أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والترمذي وفيه مقال: مشهور وهو عدم سماع الحسن من سمره وغير ذلك من الأحاديث قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحا لصرف الأمر فهو لا يصلح لصرف مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وقد استوفيت الكلام على حكم غسل الجمعة في شرح المنتقى1 فليرجع إليه. ولا يخفى أن تقييد الغسل

_ 1والذي عول عليه الشارح هنالك أن الأحاديث الدالة على الوجوب أرجح من الدالة على عدم الوجوب، كالذي في حديث سمرة قوله: "فالغسل أفضل" وحديث "من توضأ فأحسن الوضوء" وحديث عمر رضي الله عنه في استنكاره عدم الغسل من عثمان رضي الله عنه بدون أن يأمره به. ونقل الشارح هنالك عن ابن دقيق العيد أنه إنما يصار إلى تأويل أحاديث الوجوب عند رجحان المعارض في الدلالة على هذا الظاهر. إلخ. كلامه. وقد يقال عليه: أما رجحانه في الدلالة على عدم الوجوب، فهو ثابت لتصريحه فيه بأنه أفضل فقط، وليس بواجب، وهو لا يحتمل غير ذلك، بخلاف الأوامر فهي تحتمل الاستحباب، والمصرح فيها بالوجوب وبالحق، تحتمل تأكد الاستحباب والمبالغة في أنه كالواجب، كقولك: حقك علي واجب، والعدة عندي دين. وأما الرجحان في السند، فمسلم فيها، ولكن إذا صح فلا يسقط، ويصار إلى الأرجح سندا إلا مع عدم إمكان الجمع، وهو هنا ممكن بالحمل، على تأكد الاستحباب. ولذا قرن معه ما ليس بواجب اتفاقا، وهو السواك، وأن يمس من الطيب. قال في المنتقى: وهذا يدل على أنه أراد بلفظ الوجوب تأكد استحبابه بدليل أنه قرنه بما ليس بواجب إلخ. ودفعه الشارح بأنه قد تقرر ضعف دلالة الاقتران، ويقال عليه: ضعفها إنما هو في غير ما اجتمعا عليه في الحكم بسبب العطف. وأما ما نحن فيه، فقد عرف أنهما اجتمعا في حكم الوجوب فيما ذكر على كل محتلم، فإذا خرج أحدهما عن الوجوب لزم خروج الآخر عنه. والله أعلم وقد ذكر نحوه ابن دقيق العيد في حديث "الفطرة خمس" من خط سيدي العلامة الحسن بن يحيى الكبسي قدس الله روحه ونور ضريحه.

بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة1 لا لليوم. وأما مشروعية غسل العيدين فقد روي من فعله صلى من حديث الفاكة بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر" أخرجه أحمد وابن ماجه والبزار والبغوي وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث ابن عباس وأخرجه البزار من حديث أبي رافع وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضه بعضا ويقوي ذلك آثار عن الصحابة جيدة. وأما مشروعية ذلك لمن غسل ميتا فوجهه ما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة مرفوعا "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" وقد روى من طرق وأعل بالوقف وبأن في إسناده صالحا مولى التوأمة ولكنه قد حسنه الترمذي وصححه ابن القطان وابن حزم وقد روى من غير طريق وقال الحافظ ابن حجر: هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض وقال الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء وذكر الماوردي أن بعض أصحاب الحديث خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقا وقد روى نحوه عن على عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن أبي شيبه وأبي يعلي والبزار والبيهقي وعن حذيفة عند البيهقي قال ابن أبي حاتم: والدارقطني لا يثبت وعن عائشة من فعله صلى الله عليه وسلم عند أحمد وأبي داود وقد ذهب إلى الوجوب على وأبو هريرة والإمامية ورواية عن الناصر وذهب الجمهور إلى أنه مستحب قالوا: وهذا الأمر مذكور في الحديث السابق مصروف عن الوجوب بحديث "إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" أخرجه البيهقي وحسنه ابن حجر ولحديث "كنا نغسل الميت

_ 1 وقد أخرج أبو عوانة وابن حبان في صحاحهم حديث ابن عمر من طريق عثمان بن واقد عن نافع بلفظ: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ومن لم يأتها فلا يغتسل" قال الحافظ: ورجاله رجال ثقات، لكن قال البزار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه. والله أعلم. من خط محمد العمراني سلمه الله تعالى.

فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل" أخرجه الخطيب عن ابن عمر وصحح ابن حجر أيضا إسناده ولما وقع من الفتيا من الصحابة لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر رضي الله عنه لما غسلته فقالت لهم: "إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل قالوا لا" رواه مالك في الموطأ. وأما مشروعيته للإحرام فلحديث زيد بن ثابت "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل" أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي والطبراني وحسنه الترمذي وضعفه العقيلي ولعل وجه التضعيف كون عبد الله بن يعقوب المدني في إسناده قال ابن الملقن في شرح المنهاج: لعل الترمذي حسنه لأنه عرف عبد الله بن يعقوب أي عرف حاله وفي الباب عن عائشة عند أحمد وعن أسماء عند مسلم وقد ذهب إلى استحباب غسل الإحرام الجمهور وقال: الناصر أنه واجب وقال: الحسن البصري ومالك أنه محتمل. وأما مشروعية الغسل لدخول مكة فلما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى عن ابن عمر "أنه كان لا يدخل مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا" ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله وأخرج البخاري معناه قال في الفتح: قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند الجميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء.

باب أحكام التيمم

باب أحكام التيمم يسباح به مايستباح بالوضوء والغسل لمن لا يجد الماء أو خشي الضرر من استعماله وأعضاؤه الوجه ثم الكفان يمسحهما مرة واحدة بضربة ناويا مسميا ونواقضه نواقض الوضوء. أقول: حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن يكن جنبا وحكم الغسل لمن كان جنبا1 يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه ويستبيح به ما يستبيحه المغتسل بغسله فيصلي به الصلوات المتعددة ولا ينتقص بفراغ من صلاة ولا باشتغال بغيره ولا بخروج وقت على ما هو حق والخلاف في ذلك معروف والأدلة الواردة بمشروعية التيمم عند عدم الماء ثابتة كتابا وسنة. وأما التيمم لخشية الضرر من الماء فلما أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر قال: "خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما

_ 1قلت والحائض والنفساء، وقد أخرج البيهقي في سننه بسند فيه المثنى بن الصباح عن أبي هريرة قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نكون بالرمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر، فيكون فينا النفساء والحائض والجنب فما ترى، قال: عليكم بالصعيد" والله أعلم. من خط محمد العمراني. سلمه الله تعالى. ولا يخفى أن حكم الحيض والنفاس قد شمله قول المؤلف، يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل إلخ. هـ.

شفاء العي السؤال إنما كان يكفية أن يتيم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" وقد تفرد به الزبير1 بن خريق وليس بالقوى وقد صححه ابن السكن وروى من طريق أخرى عن ابن عباس وقد ذهب إلى مشروعية التيمم للعذر الجمهور وذهب أحمد ابن حنبل2 وروى عن الشافعي في قوله: له أنه لا يجوز التيمم لخشية الضرر ولا أدري كيف صحة ذلك عنهما فإن هذا الحديث يؤيده قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء:43] الآية وكذلك حديث المسح على الجبائر المروي عن علي رضي الله عنه وكذلك حديث عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل فاحتلم في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب" فقال: ذكرت قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا رواه أحمد والدارقطني وابن حبان والحاكم وأخرجه البخاري تعليقا.

_ 1ولم يتكلم فيه في الخلاصة، ولا المنذري، وثقه ابن حبان. وقد رواه أبو داود من طريق الأوزاعي أنه بلغه، وعن عطاء عن ابن عباس وفيه انقطاع، وبينه ابن ماجه من طريق كاتب الأوزاعي فوصله عن عطاء، وما ذكره الشارح أشار إليه في التلخيص عن أبي داود، أعني أنه تفرد به وذكره عن الدارقطني، وقد حقق التفرد به ولم يظهر فيه علة. من خط العلامة الحسن ابن يحيى قدس سره. 2 ينظر هذا: فإن الخلاف فيمن كان جنبا وفي بدنه جراحة، وكذا فيمن كان جنبا ويخشى من الغسل التلف، لا في من لم يكن جنبا وهو مريض يخشى الضرر فلا خلاف فيه. ولفظ الخطابي في المسألة الأولى، أعني فيمن أجنب وبه شجة: أن في الحديث من الفقه، أنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر بدنه بالماء، ولم ير أحد الأمرين كافيا دون الآخر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كان أقل أعضائه مجروحا جمع بين الماء والتيمم وإن كان أكثر كفاه التيمم. وعلى قول الشافعي: لا يجزئه في الصحيح من بدنه قل أو كثر. قال في المسألة الأولى إنه اختلف فيها، فشدد فيها عطاء بن أبي رباح قال: يغتسل وإن مات. وقال سفيان ومالك: يغسل وهو بمنزلة المريض، وأجازه أبو حنيفة في الحضر. وقال الشافعي: يغتسل وإن مات. وقال سفيان ومالك: يغسل وهو بمنزلة المريض، وأجازه أبو حنيفة في الحضر. وقال الشافعي: إذا خاف على نفسه التلف من شدة البرد تيمم وصلى، ثم يعيد الصلاة. إلى آخره. فلم يذكر في الخلاف ما ذكره هنا، من خط العلامة الحسن بن يحيى قدس سره العزيز.

وأما كون أعضائه الوجه والكفين فلما ورد من الأحاديث الصحيحة قولا وفعلا وقد أشار بالعطف بثم إلى الترتيب بين الوجه والكفين وأما الاقتصار على الكفين فلكون الأحاديث الصحيحة مصرحة بذلك منها حديث عمار ابن ياسر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين" أخرجه الترمذي وغيره وصححه. ومنها ما في الصحيحين من حديث عمار أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما كان يكفيك هكذا وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجه وكفيه" وفي لفظ للدارقطني "إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين" وقد ذهب إلى أنه يقتصر من اليدين على الكفين عطاء ومكحول والأوزعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث هكذا في شرح مسلم وذهب الجمهور إلى أن المسح في التيمم إلى المرفقين وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الإبطين وقال: الخطابي أنه لم يختلف أحد من أهل العلم في أنه لا يلزم1 مسح ما وراء المرفقين والحق ما ذهب إليه الأولون لأن الأدلة التي استدل بها الجمهور منها ما لا ينتهض للاحتجاج به كحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" وفي إسناده علي بن ظبيان قال الدارقطني: وثقة ابن القطان وهشيم وغيرهما وقال الحافظ: هو ضعيف ضعفه ابن القطان وابن معين وغير واحد وأما ما ورد فيه لفظ اليدين كما وقع في بعض روايات من حديث عمار فالمطلق يحمل على المقيد بالكفين واحتج الزهري بما ورد في رواية من حديث عمار أيضا بلفظ "إلى الآباط" وقد نسخ ذلك كما قال الشافعي: وأما كون التيمم ضربة واحدة فلأن ذلك هو الثابت في الأحاديث الصحيحة ولم يثبت ما يخالف ذلك من وجه صحيح وقد ذهب إلى كون التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين الجمهور وذهب جماعة من الأئمة والفقهاء

_ 1 إشارة إلى ضعف المنقول عن الذهري في وجوب مسح ذلك.

إلى أن الواجب ضربتان للوجه وضربة لليدين وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين وأما كونه ناويا مسميا فلما تقدم في الوضوء لأنه بدلا عنه وأدلة النية شاملة لكل عمل. وأما كون نواقضه نواقض الوضوء فلما ذكرنا من البدلية ومن أثبت للتيمم شيئا من النواقض لم يثبت في الوضوء لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ولم نجد دليلا تقوم به الحجة يصلح لذلك فالواجب الاقتصار على نواقض الوضوء. وأما وجود الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بالتيمم فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يعد الصلاة من الرجلين اللذين سألاه بعد أن صلياها بالتيمم ثم وجدا الماء إن الذي لم يعد فقد أصاب السنة والحديث معروف وأما قوله للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" فلكونه قد كرر العبادة معتقدا وجوب ذلك فكان له الأجر الآخر لذلك وليس المراد ههنا إلا الإجزاء وسقوط الوجوب وقد أفاد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "أصبت السنة" مع ما في إصابة السنة من الخير والبركة والتعريض بأن ما عدا ذلك مخالف للسنة كما لا يخفى. وأما القول بأن من أسباب التيمم تعذر استعمال الماء وخوف سبيله ونحو ذلك فلا يخفى أن هذه داخلة تحت ما ذكرناه من عدم الماء وخشية الضرر من استعماله فإن من تعذر عليه استعمال الماء فهو عادم للماء إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه فهو عادم وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء وهكذا من كان ينجسه ولا محالة إذا استعمله وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له بالنسبة إلى الوضوء وأما ما قيل من أن فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم فليس على ذلك دليل بل الواجب استعمال الماء وهو أن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مسوغ للتأخير كالنوم والسهو ونحوهما فلم يوجب الله تعالى عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك

الوقت بالطهور الذي أوجبه الله تعالى عليه وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت فعليه الوضوء وقد باء بإثم المعصية وأما ما قيل من الطلب إلى مقادير محدودة فليس على ذلك حجة نيرة.

باب أحكام الحيض

باب أحكام الحيض لم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة وكذلك الطهر فذات العادة المتقررة تعمل عليها وغيرها ترجع إلى القرائن فدم الحيض يتميز من غيره فتكون حائضا إذا رأت دم الحيض ومستحاضة إذا رأت غيره فهي كالطهارة وتغسل أثر الدم وتتوضأ لكل صلاة والحائض لا تصلي ولا تصوم ولا توطأ حتى تغتسل بعد الطهر وتقضي الصيام. أقول: ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما إما موقوف ولا تقوم به حجة أو مرفوع ولا يصح فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه بل المعتبر لذات العادة المتقررة1 هو العادة وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم وقد صح في غير حديث اعتبار الشارع للعادة كحديث "إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" أخرجه

_ 1ظاهره أن المتقرر لها عادة لا تعمل بالصفة أصلا، بل متى انقضت عدة العادة فهو طهر، والذي في الحديث إنما هو فيمن قد استحيضت، وعلى كلام الشارح إذا استحيضت هذه التي قد تقررت عادتها، فبم تعرف أنها مستحاضة إذا جاوز الدم عادتها وهو على صفته؟ فإن قال بمجاوزتها أكثر مدة الحيض، فهو لا يقول بذلك، وإن قال بمخالفته لصفة دم الحيض، أنها تطهر ولعله لا قائل بذلك، لأن هذه تغير في العادة بزيادة أو نقصان كما هو الغالب، فالصواب أنها تعمل بالصفة ما دامت على صفة الحيض، وإن جاوزت العادة حتى ينقلب عن صفته إلى صفة دم الاستحاضة. والله أعلم. من خط العلامة الحسن بن يحيى قدس الله سره.

البخاري رحمه الله تعالى وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديثها نحو ذلك وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أم سلمة "أنها استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال: لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة" وهو حديث صالح للاحتجاج به وكذلك حديث زينب بنت جحش "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في المستحاضة تجلس أيام أقرائها" أخرجه النسائي والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وأما الرجوع إلى القرائن المستفادة من الدم فلحديث فاطمة بنت أبي حبحش "أنها كانت تستحاض فقال: لها النبي صلى الله عليه وسلم إن كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي والحاكم أيضا بزيادة "فإنما هو داء عرض أو ركضة من الشيطان أو عرق انقطع" فالمستحاضة وهي التي يستمر خروج الدم منها تعمل على العادة المتقررة فتكون فيها حائضا يثبت لها فيه أحكام الحائض وفي غير أيام العادة طاهرا لها حكم الطاهر كما أفادت ذلك الأحاديث الصححية الواردة من غير وجه فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمبتدأة والملتبسة عليها عاداتها فإنها ترجع إلى التمييز فإن دم الحيض أسود يعرف كما قال: صلى الله عليه وسلم فتكون إذا رأت دما كذلك الحائض وإذا رأت دما ليس كذلك طاهرا وقد أطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل وكثرت فيه التفريعات والتدقيقات والأمر أيسر من ذلك وأما كون المستحاضة تغسل أثر الدم فلقوله: صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الثابت في الصحيح "فاغسلي عنك الدم وصلي" وقد ورد ما يفيد معنى ذلك من غير وجه. وأما كونها تتوضأ لكل صلاة فذلك هو الذي ورد من وجه معتبر وإذا جمعت بين الصلاتين فأخرت الأولى إلى آخر وقتها وقدمت الثانية في أول وقتها كان لها أن تصليهما بوضوء واحد ولم يأت في شيء من الأحاديث

الصحيحة إيجاب الغسل لكل صلاة ولا لكل صلاتين ولا في كل يوم بل الذي صح إيجاب الغسل عند انقضاء وقت حيضها المعتاد أو عند انقضاء ما يقوم مقام العادة من التمييز بالقرائن كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما بلفظ "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وأما ما في صحيح مسلم رحمه الله تعالى "أن أم حبيبة كانت تغتسل لكل صلاة" فلا حجة في ذلك لأنها فعلته من جهة نفسها ولم يأمرها صلى الله عليه وسلم بذلك بل قال لها: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي" فإن ظاهر هذه العبارة أنها تغتسل بعد المكث قدر ما كانت تحبسها الحيضة وذلك هو الغسل الكائن عند إدبار الحيضة وليس فيه ما يدل على أنها تغتسل لكل صلاة وقد ورد الغسل لكل صلاة من طرق لا تقوم بمثلها الحجة ولاسيما مع معارضتها لما ثبت في الصحيح ومع ما في ذلك من المشقة العظمية على النساء الناقصات العقول والأديان والشريعة سمحة سهلة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وأما كون الحائض لا تصلي ولا تصوم فلما ورد في ذلك من الأدلة الصحيحة كحديث "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وهو مجمع عليه. وأما كونها لا توطأ فذلك نص الكتاب العزيز قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله: صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" وهو في الصحيح وهو مجمع على تحريم ذلك ليس فيه خلاف وتحريم الصلاة والصوم على الحائض وكذلك وطؤها هو إلى غاية هي الغسل بعد الطهر كما صرحت بذلك الأدلة. وأما كونها تقضي الصيام فلحديث عائشة بلفظ: "فنؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وهو في الصحيحين وغيرهما. وقد نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على ذلك وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج

أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة وليقدح في إجماع الأمة مخالفة هؤلاء الذين هم كلاب النار.

فصل في أحكام النفاس

فصل في أحكام النفاس والنفاس أكثره أربعون يوما ولا حد لأقله وهو كالحيض. أقول: أما كون أكثره أربعين يوما فلحديث أم سلمة قالت: "كان النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما" أخرجه أحمد أبو داود والترمذي والدارقطني والحاكم وللحديث طرق يقوي بعضهما بعضا وإلى ذلك ذهب الجمهور وقد قيل إن أكثره ستون يوما وقيل سبعون يوما وقيل خمسون وقيل نيف وعشرون يوما والحق الأول. وأما كونه لا حد لأقله فلم يأت في ذلك دليل بل مادام الدم باقيا كانت المرأة نفساء فإن انقطع قبل الأربعين انقطع عنها حكم النفاس فإن جاوز دمها الأربعين عاملت نفسها معاملة المستحاضة إذا جاوزت أيام العادة المتقررة. وأما كون النفاس كالحيض في تحريم الوطء وترك الصيام والصلاة فلا خلاف في ذلك وكذلك لا تقضي النفساء الصلاة وفي رواية لأبي داود من حديث أم سلمة قالت: "كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس" وقد تقدم الإجماع على ذلك في الحائض وهو في النفاس إجماع كذلك ولعل الخوارج يخالفون هنا كما خالفوا هناك ولا يعتد بهم.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة أوقات الصلاة ... كتاب الصلاة أول وقت الظهر الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فئ الزوال وأول وقت العصر وآخره مادامت الشمس بيضاء نقية وأول وقت المغرب غروب الشمس وآخره ذهاب الشقف الأحمر وهو أول العشاء وآخره نصف الليل وأول الفجر إذا انشق الفجر وآخره طلوع الشمس ومن نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها ومن كان معذورا وأدرك ركعة فقد أدركها والتوقيت واجب والجمع لعذر جائز والتيمم وناقض الصلاة أو الطهارة يصلون كغيرهم من غير تأخير وأوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترفع الشمس وعند الزوال وبعد العصر حتى تغرب. أقول: أما تعيين أول الأوقات وآخرها فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة من تعليم جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم ومن تعليمه صلى لمن سأله عن ذلك وغير ذلك من أقواله وأفعاله. وأما كون آخر وقت العصر مادامت الشمس بيضاء نقية فإذا اصفرت خرج وقت العصر فلما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث ابن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر ووقت صلاة العصر مالم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب مالم يسقط نور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر مالم تطلع الشمس" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود ولا يخالف1

_ 1 لا يخفى أنه إذا حكم على وقت بكونه آخر وقت شيء، ثم حكم على وقت متأخر عنه بأنه آخر وقت ذلك الشيء، فإن المنافاة التي هي عبارة عن عدم صدق كل منهما مع الآخر ثابتة، إذ =

ما وقع في هذا الحديث في آخر وقت صلاة العصر والعشاء ما ورد في بعض الأحاديث "أن آخر وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه وآخر وقت العشاء ذهاب ثلث الليل" فإن هذا الحديث قد تضمن زيادة غير منافية للأصل، لأن وقت اصفرار الشمس هو متأخر عن المثلين إذ هي تبقى بيضاء نقية بعد المثلين وكذلك نصف الليل هو متضمن لزيادة غير منافية لما وقع في رواية بلفظ "ثلث الليل" على أن الرواية المتضمنة للزيادتين هي أصح من الأخرى. وأما كون وقت صلاة من نام عنها أو سها هو وقت الذكر فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة كحديث أنس رضي الله عنه عند البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما وحديث أبي هريرة رضي الله عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره وقد ورد هذا المعنى من غير وجه. وأما كون إدراك ركعة من الصلاة إدراك الصلاة فلما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة كحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو في الصحيحين وغيرهما ونحو ذلك حديث عائشة عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره. وقد ثبت من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما بلفظ "من أدرك ركعة من الصلاة فقد1 أدرك الصلاة" وهذا يشمل جميع الصلوات لا يخص2 شيئا منها.

_ = ذاك يقتضي خروج ما بعده من كونه وقتا، وذلك يقتضي دخوله. فالأولى التعويل على أن المشتمل على الزيادة أرجح كما يأتي، وهو الذي عول عليه المحققون. والله أعلم. من خط العمراني رضي الله عنه. 1ولكن هذا الحديث في إدراك اللاحق في الجماعة ركعة مع الإمام في الوقت. ولم يرد ذلك في الوقت إلا في العصر والصبح. فهل يصح قياس سائر الصلوات عليهما وإن لم يدرك في الوقت إلا ركعة فهو مدرك للصلاة؟ من خط العلامة حسن بن يحيى قدس سره العزيز. 2 وأحسن من هذا أن يكون لأجل الجمع بين الأحاديث: يحمل الوقت الأول على الاختيار لمن لا=

وأما تقييد ذلك بالمعذور فلأن الأوقات للصلوات قد عينها الشارع وحدد أوائلها وأواخرها بعلامات حسية وجعل ما بين الوقتين لكل صلاة هو الوقت لتلك الصلاة وجعل الصلاة المفعولة في غير هذه الأوقات المعينة صلاة المنافق وصلاة الأمراء الذين يميتون الصلاة كقوله: في حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا". وكقوله: صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت فما تأمرني قال: "صل الصلاة لوقتها" الحديث ونحو ذلك وهكذا أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر فكان ما ذكرناه دليلا على أن إدراك الركعة في الوقت الخارج عن الأوقات المضروبة كوقت طلوع الشمس وغروبه وطلوع الفجر هو خاص بالمعذور كمن مرض مرضا شديدا لا يستطيع معه تأدية الصلاة ثم شفي وأمكنه إدراك ركعة وكالحائض إذا طهرت وأمكنها إدراك ركعة ونحو ذلك. وأما كون التوقيت واجبا فلما ورد في ذلك من الأوامر الصحيحة بتأدية الصلاة لوقتها والنهي عن فعلها في غير وقتها المضروب لها والجمع بين الصلاتين إذا كان صوريا وهو فعل الأولى في آخر وقتها والأخرى في أول وقتها فليس بجمع في الحقيقة لأن كل صلاة مفعولة في وقتها المضروب لها وإنما هو الجمع في الصورة ومنه جمعه صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير مطر ولا سفر كما في الصحيح من حديث ابن عباس وغيره فإنه وقع التصريح في بعض الروايات بما يفيد ذلك بل فسره من رواه بما يفيد أنه الجمع الصوري وقد

_ = عذر له. والوقت الآخر على الاضطراب لمن له عذر. كما بنى عليه في الشرح المنتقى. من خط العلامة حسن بن يحيى قدس سره.

أوضحنا ذلك في رسالة مستقلة فالمراد بالجمع الجائز للعذر هو جمع المسافر والمريض وفي المطر كما وردت بذلك الأدلة الصحيحة وقد اختلف في جواز الجمع بين الصلاتين بغير هذه الأعذار ومع عدم العذر والحق عدم جواز ذلك. وأما كون المتيمم وناقص الصلاة كمن به مرض يمنعه من استيفاء بعض أركانها وناقص الطهارة كمن في بعض أعضاء وضوئه ما يمنعه من غسله بالماء ويصلون كغيرهم من غير تأخير فوجهه أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعين الأوقات وبيان أولها وآخرها ولم يأت مايدل على أنهم خارجون عنها وأن صلاتهم لاتجزئ إلا في آخر الوقت ولم يعول من أوجب التأخير على شيء تقوم به الحجة بل ليس بيده إلا مجرد الرأي البحت كقوله: إن صلاتهم بدلية ونحو ذلك وهذا لا يغني من الحق شيئا. وأما كون أوقات الكراهة بعد الفجر حتى ترفع الشمس وعند الزوال وبعد العصر حتى تغرب الشمس فما ثبت في الصحيح عن جماعة من الصحابة مرفوعا من النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس وعند الزوال وورد في روايات أخر النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وقت الطلوع ووقت الزوال ووقت الغروب.

باب الأذان

باب الأذان يشرع لأهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنا ينادى بألفاظ الأذان المشروع عند دخول وقت الصلاة ويشرع للسامع أن يتابع المؤذن ثم تشرع الإقامة على الصفة الواردة. اعلم أن الأذان من شعائر الإسلام وقد اختلف في وجوبه والظاهر الوجوب لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك في غير حديث فيجب على أهل كل بلد أن يتخذوا مؤذنا ينادي بألفاظ الأذان المشروعة لإعلامهم بواقيت الصلاة والتمسك بشعائر الإسلام فقد كان الغزاة في أيام النبوة وما بعدها إذا جهلوا حال قرية تركوا حربهم حتى يحضر وقت الصلاة فإن سمعوا أذانا كفوا عنهم وإن لم يسمعوا قاتلوهم مقاتلة المشركين. وأما غير أهل البلد كالمسافر والمقيم بفلاة من الأرض فيؤذن لنفسه ويقيم وإن كانوا جماعة أذن لهم أحدهم وأقام وألفاظ الأذان قد ثبت في أحاديث كثيرة وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي المزيد فما ثبت من وجه صحيح مما فيه زيادة تعين قبوله كتربيع الأذان وترجيح الشهادتين ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى منها لأنها لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح كما وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من الأبواب بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل وهو مقدم على الترجيح وقد وقع الأجماع على قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في الأصول وأدلة إفراد الإقامة أقوى من أدلة تشفيعها ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة

من مخرج صالح للاعتبار فكان العمل على أدلة التشفيع متعينا1. وأما مشروعية متابعة المؤذن فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن" وفي الباب عن جماعة من الصحابة بنحو هذا وورد مفصلا مبينا من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لاحول ولاقوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة " أخرجه مسلم رحمه الله تعالى وغيره وأخرج نحوه البخاري وقد أختار بعض العلماء الجمع عند الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة وهو جمع حسن وإن لم يكن متعينا.

_ 1 لكنه يستلزم اطراح حديث أمر بلاب أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة بالكلية وهو في الصحيحين. من خط العمراني سلمه الله تعالى. وفيه أن العمل بالزائد غير مستلزم للأطراح للمزيد عليه. بل هو متضمن للعمل به ولكن مع ضم الزيادة إليه، فلا اطراح إذن، وانتقاض الوترية لا يستلزم اطراح الحديث كما لا يخفى.

باب شروط الصلاة

باب شروط الصلاة ويجب على المصلي تطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسة ويستر عورته ولا يشتمل الصماء ولا يسدل ولا يسبل ولا يكفت ولا يصلى في ثوب حرير ولا ثوب شهرة ولا مغصوب وعليه استقبال الكعبة إن كان مشاهدا لها أوفي حكم المشاهد وغير المشاهد يستقبل الجهة بعد التحري. أقول: أما تطهير الثياب فلنص القرآن {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ولقوله: صلى الله عليه وسلم لمن سأله "هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله فقال: "نعم إلا أن يرى فيه شيئا فيغسله" أخرجه أحمد وابن ماجه ورجال إسناده ثقات ومثله عن معاوية قال: "قلت لأم حبيبة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه قالت: نعم إذا لم يكن فيه أذى" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات ومنها حديث خلعه صلى الله عليه وسلم للنعل أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وابن خزيمة وابن حبان وله طرق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا ومنها الأدلة المتقدمة في تعيين النجاسات أما تطهير البدن فلأنه أولى من تطهير الثوب ولما ورد من وجوب تطهيره وأما المكان فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من رش الذنوب على بول الأعرابي ونحو ذلك وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة للصلاة وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة وذهب آخرون إلى أنه سنة والحق الوجوب فمن صلى ملابسا لنجاسة عامدا فقد أخل بواجب وصلاته صحيحة وفي المقام أدلة مختلفة ومقالات طويلة وليس هذا محل بسطها.

وأما وجوب ستر العورة فلما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بسترها في كل الأحوال كما في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يارسول الله عوراتنا ما نأتي منها ومانذر قال: "احفظ عورتك إلا من زوجك أو ماملكت يمينك" قلت فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: "إن استطعت أن لايراها أحد فلا يرينها" قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال: "الله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وعلقه البخاري وحسنه الترمذي وصححه الحاكم. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخد حي ولا ميت" أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبزار وفي إسناده مقال: ولكنه يعضده حديث محمد بن جحش1 قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر2 وفخذاه مكشوفتان فقال: "يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة" أخرجه أحمد والبخاري في صحيحه تعلقيا وأخرجه أيضا في تاريخه والحاكم في المستدرك وروى الترمذي وأحمد والبخاري في صحيحه من حديث ابن عباس مرفوعا "الفخذ عورة" وأخرج نحوه مالك في الموطأ وأحمد وأبوداود والترمذي وابن حبان وصححه وعلقه البخاري وقد عارض أحاديث الفخذ أحاديث أخر وليس فيها إلا أنه صلى الله عليه وسلم كشف عن فخذه يوم خيبر أو في بيته ولا يصلح ذلك لمعارضة ما تقدم3 وورد في الركبة ما يفيد أنها تستر وما يخالف ذلك.

_ 1 هو محمد بن عبد الله بن جحش نسب إلى جده. وزينب بنت جحش عمته وكان صغيرا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هـ حسن بن يحيى قدس سره. 2 هو معمر بن عبد الله القرشي العدوي. 3 أحاديث كشف الفخذ المشار إليها ثابتة في الصحيح. ولا معنى لكونه عورة إلا تحريم كشفه. الثابت عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، فيحقق نفي التعارض والله أعلم. من خط محمد العمراني سلمه الله. قد يقال: المراد بعد التعارض عدم المساواة في الدلالة لا في الصحة على الحكم وخلافه، فإن أحاديث الكشف وإن كانت صحيحة لكنها حكايات أفعال محتملة للخصوصية والنسيان ونحو=

وأما المرأة فورد حديث "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقد روى موقوفا ومرفوعا من حديث عائشة ومن حديث أبي قتادة ومما يفيد وجوب ستر العورة أحاديث النهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتق المصلي منه شيء وفي بعضها فليخالف بين طرفيه وفي بعضها وإن كان ضيقا فأتزر به وكلها في الصحيح. وأما قوله: لا يشتمل الصماء فلحديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشتمل الصماء" وهو في الصحيحين وفي لفظ فيهما "وأن يشتمل في إزاره إذا ما صلى إلا أن يخالف بطرفيه على عاتقه" وأخرج نحوه الجماعة من حديث أبي سعيد واشتمال الصماء هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانبا ولا يبقى ما يخرج منه يده. وأما قوله: ولا يسدل فلحديث النهي عن السدل في الصلاة وهو عند أحمد وأبي داود والترمذي والحاكم في المستدرك وفي الباب عن جماعة من الصحابة والسدل هو أسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جنبيه بين يديه بل يلتحف به ويدخل يديه من داخل1 فيركع ويسجد وهو كذلك. وأما قوله: ولايسبل فلما ورد من الأحاديث الصحيحة من النهي عن إسبال الإزار والمراد بالإسبال أن يرخي إزاره حتى يجاوز الكعبين.

_ = ذلك من الأعذار. وأحاديث المنع من أقوال صريحة لا احتمال فيها وقد يقال: دلالتها على المنع على كل حال إنما يكون بعد صحتها. وفي كل منها مقال، إلا أن يقال هي بمجموعها منتهضة للاستدلال. ولا يخفى ما فيه. من خط الحسن بن يحيى قدس سره. 1 ينظر هذا. فإن الالتحاف وإدخال اليد داخل الثوب ينافي قوله من غير أن يضم جانبيه. والذي في مختصر النهاية: السدل هو أن يضع وسط الرداء على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. وهو شعار اليهود. انتهى. وهو واضح كما ترى. وقد قال أبو عبيدة بعد قوله من غير أن يضم جانبيه: فإن ضمه فليس بسدل. من خط العلامة حسن بن يحيى قدس الله روحه ونور مضجعه.

وأما قوله: ولا يكفت فقد ورد النهي عن أن يكفت الرجل ثوبه أو شعره وأما كفت الثوب فكمن يأخذ طرف ثوبه فيغزر في حجزته أو نحو ذلك وأما كفت الشعر فنحو أن يأخذ خصلة مسترسلة فيكفتها في شعر رأسه أو يربطها بخيط إليه أو نحو ذلك. وأما قوله: ولا يصلي في ثوب حرير فالأحاديث في ذلك كثيرة كلها يدل على المنع من لبس الحرير الخالص وأما المشوب فالمذاهب في ذلك معروفة فبعض الأحاديث يدل على أنه إنما يحرم الخالص لا المشوب كحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد وأبي داود قال: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من القز" قال: ابن عباس أما السدى والعلم فلا نرى به بأسا وبعضها يدل على المنع كما ورد في حلة السيراء فإنه غضب لما رأى عليا قد لبسها وقال: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشقها خمرا بين النساء" وهو في الصحيح والسيراء قد قيل أنها المخلوط بالحرير لا الحرير الخالص وقيل أنها الحرير الخالص المخططة وقيل غير ذلك ولكنه قد ورد في طريق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة فأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه والدورقي هذا الحديث بلفظ "قال: علي أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة إما سداها وأما لحمتها فذكر الحديث" وأما المنع من لبس ثوب الشهرة فلحديث "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر وهذا الوعيد يدل على أن لبسه محرم في كل وقت فوقت الصلاة أولى بذلك وأما الثوب المصبوغ بالصفرة والحمرة فالأدلة في ذلك متعارضة فلهذا لم نذكره وقد أفردنا ذلك برسالة مستقلة وأما المنع من لبس الثوب المغصوب فلكونه ملك الغير وهو حرام بالإجماع وأما وجوب استقبال الكعبة على المشاهد ومن في حكمه فلأنه قد تمكن من اليقين فلا يعدل عنه إلى الظن والأحاديث المتواترة مصرحة بوجوب الاستقبال بل هو نص القرآن الكريم:

{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] وعلى ذلك أجمع المسلمون وهو قطعي من قطعيات الشريعة. وأما كون فرض غير المشاهد ومن في حكمه استقبال الجهة فلأن ذلك هو الذي يمكنه ويدخل تحت استطاعته ولم يكلفه الله تعالى ما لا يطيق كما صرح بذلك في كتابه العزيز وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم مابين المشرق والمغرب قبلة كما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه وورد مثل ذلك عن الخلفاء الراشدين وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الجهة بعد خروجه من مكة وشرع للناس ذلك.

باب كفيية الصلاة

باب كفيية الصلاة كيفية الصلاة ... باب كفيية الصلاة لا تكون شرعية إلا بالنية وأركانها كلها مفترضة إلا قعود التشهد الأوسط والاستراحة ولا يجب من أذكارها إلا التكبير والفاتحة في كل ركعة ولو كان مؤتما والتشهد الأخير والتسليم وماعدا ذلك فسنن وهي الرفع في المواضع الأربعة والضم والتوجه بعد التكبيرة والتعوذ والتأمين وقراءة غير الفاتحة معها والتشهد الأوسط والأذكار الواردة في كل ركن والاستكثار من الدعاء بخير الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد1. أقول أما كون الصلاة لا تكون شرعية إلا بالنية فلما تقدم في الوضوء. وأما افتراض أركانها فلكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها وتعدم الصورة المطلوبة بعدمها وقد تكون ناقصة بنقصان بعضها وهي القيام فالركوع فالاعتدال فالسجود فالاعتدال فالسجود فالاعتدال فالقعود للتشهد وقد بين الشارع صفاتها2 وهيئاتها وكان يجعلها قربيا من السواء كما ثبت في الصحيح عنه.

_ 1 انظر ما اشتملت عليه هذه العبارة من كيفية الصلاة وموضوع الكتاب، للتعريف بالأحكام الشرعية، وما عسى أن يستفيد الناظر في هذا. والله أعلم. من خط الفاضل العمراني سلمه الله تعالى. 2 قلت: وذلك كما روى البراء بن عازب " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك" أخرجه مسلم رحمه الله تعالى. ومثل حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت =

وأما عدم وجوب قعود التشهد الأوسط فلكونه لم يأت في الأدلة ما يدل على وجوبه بخصوصه كما ورد في قعود التشهد الأخير فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير. فإن قلت قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة ولم يذكر فيه التشهد الأخير. قلت لا تقوم الحجة بمثل ذلك ولا يثبت به التكليف العام والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء فقد وردت به الأوامر وصرح الصحابة بافتراضه. وأما عدم وجوب قعدة الاستراحة فلكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها وذكرها في حديث المسيء وهم كما صرح بذلك البخاري. وأما كون التكبير واجبا فلقوله: تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] ولقوله: صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير. وأما وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة فلقوله: صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود "ثم اقرأ بأم الكتاب" وكذلك في لفظ منه لأحمد وابن حبان بزيادة "ثم اصنع ذلك في كل ركعة" بعد قوله: "ثم اقرأ بأم القرآن" فكان ذلك بيانا لما تيسر وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء كأحاديث "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهي صحيحة ويدل على وجوبها في كل ركعة ما وقع في

_ = أن أسجد على سبعة أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين" أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. قال القرطبي: هذا يدل على أن الأصل في السجود الجبهة، والأنف تبع لها. وقال ابن دقيق العيد: معناه أنه جعلهما كليهما عضوا واحدا، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية. ولا يخفى أن إغفال مثل هذا البيان ليس على ما ينبغي، إذ هو بيان لماهية الركن. هـ. لمحرره.

حديث المسيء فإنه صلى الله عليه وسلم وصف له ما يفعل في كل ركعة وقد أمره بقراءة الفاتحة فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة كما أنه يجب فعل ما أقترن بها في كل ركعة ورد ما يفيد ذلك من لفظه صلى الله عليه وسلم فإنه قال للمسيء: "ثم افعل ذلك في الصلاة كلها1" وهو في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة لا في جملة الصلاة فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة. وأما وجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم فلما ورد من الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرؤها خلف الإمام كحديث: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" ونحوه ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة من كل مصل2.

_ 1 وأوضح من هذا ما أفاده صاحب البدر المنير: أن أحمد وابن حبان أخرجا حديث المسيء بلفظ: "ثم اقرأ بأم القرآن" – إلى أن قال – " ثم اصنع ذلك في كل ركعة". وقال: هذه رواية جليلة فاستفدها. والله أعلم. من خط محمد العمراني سلمه الله تعالى. 2 قد ورد الأمر بتسبيح الركوع والسجود ثلاثا ثلاثا، وورد أيضا الأمر بالدعاء في السجود. فأما الأول: فأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن ابن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ركع أحدكم فليقل. سبحان ربي العظيم ثلاثا" وذلك أدناه. وأما الثاني: فأخرج مسلم عن ابن عباس: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم" وقد ذهب إلى وجوب التسبيح أحمد وطائفة من أهل الحديث. ولم يعتذر مخالفوهم إلا بعدم الذكر في حديث المسيء. ولا يخفى ما فيه. من خط الفاضل العمراني سلمه الله تعالى.. قيل: حديث ابن مسعود سيأتي في أثناء البحث عن ذكر الركوع والسجود. فلا معنى لذكره هنا. هـ. والله أعلم. مراد المحشي، أنه في هذا ورد بلفظ الأمر الدال على الوجوب. فكيف يجعله المؤلف مسنونا. والذي ذكره المؤلف فيما يأتي فليس فيه بلفظ الأمر. فلا يخفى عليك. من خط العلامة حسن قدس سره. وعلى كل حال فوضعها هنا غير مناسب، ولو كتبها العمراني فيما كتبه على الكلام في ذكر الركوع والسجود لكان صوابا.

وأما وجوب التشهد الأخير فلورود الأمر به في الأحاديث الصحيحية وألفاظه معروفة وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر والحق الذي لا محيص عنه أنه يجزئ المصلي بأن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من مخرج صحيح وأصحها التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديثه بلفظ: "التحيات لله والصلوات والطبيات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" وفي بعض ألفاظه "إذا قعد أحدكم فليقل". وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي يفعلها المصلي في التشهد فقد وردت بألفاظ وكل منها ما صح منها أجزأ ومن أصح ما ورد ما ثبت في الصحيح بلفظ: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جنهم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات وشر المسيح الدجال" وورد نحو ذلك من حديث عائشة وهو في الصحيحين وغيرهما فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد ثم يتخير المصلى بعد ذلك من الدعاء أعجبه كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما وجوب التسليم فلكون النبي صلى الله عليه وسلم جعله تحليل الصلاة فلا تحليل لها إلا به فأفاد ذلك وجوبه وأن لم يرد في حديث المسيء. وأما كون ما عدا ما تقدم سننا فلأنه لم يرد فيها وجوبها من أمر بالفعل أو نهي عن الترك غير مصروفين عن المعنى الحقيقي أو وعيد شديد يفيد الوجوب ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء إلا على وجه لا تقوم به الحجة أو قد تقوم به وورد ما يفيد أنه غير واجب. وأما مشروعية الرفع في المواضع الأربعة وهي عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال من الركوع والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة فقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة وأما عند التكبير فقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمسين رجلا من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء وقال: النووي في شرح مسلم أنها اجتمعت الأمة على ذلك عند تكبيرة الإحرام وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري وأبو الحسن أحمد بن سيار والنيسابوري والأوزاعي والحميدي وابن خزيمة وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه رواه زيادة عن عشرين نفسا من الصحابة وقال: محمد بن نصر المروزي أنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة فهو ثابت في الصحيح من حديث ابن عمر وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه أيضا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم1.

_ = البيهقي من فعله صلى الله عليه وسلم، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه فيكون جامعا في التوحيد بين الفعل والقول والاعتقاد. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإشارة بالأصبعين وقال: "أحد أحد" لمن رآه يشير بأصبعيه. هـ. لمحرره. 1 أغفل شيخنا تولى الله توفيقه هيئة رفع اليدين. وفي حديث ابن عمر في الصحيحين: " كان يرفع يديه حذو منكبيه" الحديث. وفي حديث أبي حميد: "يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، =

وأما الضم لليدين اليمنى على اليسرى حال القيام إما على الصدر أو تحت السرة أو بينهما فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر صحابيا حتى قال: ابن عبد البر أنه لم يأت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف. وأما التوجه فقد وردت فيه أحاديث بألفاظ مختلفة يجزئ التوجه بواحد منها إذا خرج من مخرج صحيح وأصحها الاستفتاح المروى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في الصحيحين وغيرهما بل قد قيل أنه تواتر لفظا وهو "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". وأما كونه بعد التكبيرة فلم يأت في ذلك خلاف عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كل من روى عنه الاسيتفتاح روى أنه بعد التكبيرة. وأما التعوذ فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله بعد

_ = ثم يكبر". أخرجه أبو داود. وفي حديث مالك بن الحويرث عند مسلم رحمه الله تعالى حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. قال في سبل السلام: ذهب البعض إلى ترجيح حديث ابن عمر لكونه متفقا عليه – وجمع آخرون بينهما فقالوا: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين، وتأيدوا لذلك برواية أبي داود عن وائل بلفظ: "حتى كانت حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه" وهذا جمع حسن. انتهى. وأيضا: أغفل أبقاه الله هيئة الركوع والسجود، في حديث عائشة عن مسلم رحمه الله تعالى:" وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك". أي بين المذكور من الخفض والرفع. وفي حديث أبي حميد عند البخاري: "وإذا ركع مكن يديه من ركبتيه، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ذراعيه ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة. وأيضا أغفل سلمه الله تعالى هيئة التشهد الأوسط والتشهد الأخير، وفي حديث أبي حميد: "وإذا جلس في الركعتين قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته لمحرره".

الاستفتاح قبل القراءة ولفظه "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" كما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري. وأما التأمين فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثا وربما تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمن إمامه كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما بلفظ "إذا أمن الإمام فأمنوا" فيكون ما في المختصر مقيدا بغير المؤتم إذا أمن إمامه وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم ومما يؤكد مشروعيته كون فيه إغاظة لليهود لما أخرجه ابن ماجه والطبراني من حديث عائشة مرفوعا "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين". وأما قراءة غير الفاتحة معها فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأولين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب" وورد ما يشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين كحديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادى لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا" وقد أعلها البخاري في جزء القراءة وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر" قال: ابن سيد الناس وإسناده صحيح ورجاله ثقات وقال: الحافظ بن حجر إسناده صحيح وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ "لا صلاة لمن لم لا يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة وهو حديث ضعيف1 وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير تقييد بل مجرد

_ 1يعارضه ما أخرجه البيهقي في جزء القراءة صححه الأسيوطي عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: "من صلى طلاة مكتوبة أو سبحة فليقرأ فيها بأم القرآن قبله إذا سكت، ومن صلى صلاة ولم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج – ثلاث مرات –" وأخرجه فيه بطرق مختلفة، وألفاظ متقاربة. والله أعلم. من خط الفاضل العمراني سلمه الله تعالى.

الآية الواحدة يكفي. وأما زيادة على ذلك كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأوليين فليس بواجب فيكون ما في المختصر مقيدا بما فوق الآية. وأما التشهد الأوسط فلم يرد فيه ألفاظ تخصه بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير ولكنه يسرع بذلك وقد روى أحمد والنسائي من حديث ابن مسعود قال: إن محمدا قال: "إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع به ربه عزوجل" ورجاله ثقات وأخرجه الترمذي بلفظ "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدنا في الركعتين" فالتقييد بالقعود في كل ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير مقترنة بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد بلفظ "قد علمنا كيف السلام عليك فكيف الصلاة" وهو في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وفي رواية من حديث ابن مسعود "فكيف نصلي عليك إذا صلينا في صلاتنا" وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجبا ولا قعوده لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه سهوا فسبح الصحابة فلم يعد له بل استمر وسجد للسهو فلو كان واجبا لعاد له عند ذهاب السهو بوقوع التنبه من الصحابة فلا يقال: أن سجود السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير الواجب لأنا نقول محل الدليل ههنا1 هو عدم العود لفعله بعد التنبه على السهو.

_ 1 ذكرت بهذا إيراد بعضهم في هذا المقام الدور على هذا الاستدلال قال: إنهم استدلوا بهذا الحديث على عدم وجوب التشهد الأوسط وأنه من مسنونات الصلاة، واستدلوا به أيضا على إثبات سجود السهو لترك كل مسنون قال فقد توقف ثبوت أحدهما على ثبوت الآخر، وأثبت كل من مسنونية التشهد الأوسط، وثبوت سجود السهو للمسنون بالآخر، وذلك يرجع بالآخرة إلى إثبات الشيئ بنفسه وهو خلف من القول. وأقول هذا وهم فإنه لم يتوارد الاستدلالان على محل واحد حتى يلزم الدور ويلزم ما قاله من إثبات الشي بنفسه. بل محل الاستدلال على مسنونية التشهد الأوسط دون الوجوب عدم عود =

وأما الأذكار الواردة في كل ركن فهي كثيرة جدا منها تكبير الركوع والسجود والرفع والخفض كما دل عليه حديث ابن مسعود قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأخرج نحوه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الباب أحاديث إلا عند الارتفاع من الركوع فإن الإمام والمنفرد يقولان سمع الله لمن حمده والمؤتم يقول اللهم ربنا لك الحمد وهو في الصحيح من حديث أبي موسى. وأما ذكر الركوع فهو سبحان ربي العظيم وذكر السجود سبحان ربي الأعلى ويدعوا بعد ذلك بما أحب من المأثور وغيره وأقل ما يستحب من التسبيح في الركوع والسجود ثلاث لحديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ركع أحدكم فقال: في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال: في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وفي إسناده انقطاع. وأما ذكر الاعتدال من الركوع فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل1 الثناء والمجد أحق2 ما قال العبد وكلّنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

_ = الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سبح له الصحابة ومحل الاستدلال على إثبات سجود السهو للمسنونات في الصلاة وهو سجود الرسول صلى الله عليه وسلم لما ترك القعود الأوسط. وقد تقررت سنيته من عدم العود له. هـ. لمحرره. 1 يجوز نصبه على النداء ورفعه على الخبر لمحذوف، أي أنت أهل. 2 أحق بالرفع على أن خبر مبتدأ محذوف، وما مصدرية تقديره هذا، أي قوله: قوله: "اللهم ربنا لك =

وأما ذكر ما بين السجدتين فقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين "اللهم أغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" والأحاديث في الأذكار الكائنة في الصلاة كثيرة جدا فينبغي الاستكثار من الدعاء في الصلاة بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد1 كما أشرنا إليه المختصر واعلم أن هذا الباب يحتمل البسط وليس المراد هنا إلا الإشارة إلى ما يحتاج إليه وقد ذكرنا هذه المسائل في شرح المنتقى وأوردنا كل ما يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره

_ = الحمد. إلخ " أحق قول العبد، وفي شرح المهذب نقلا عن ابن الصلاح معناه: أحق ما قال العبد قوله: لا مانع لما أعطيت إلى آخره. وقوله: وكلنا لك عبد، اعتراض بين المبتدأ. وهذا أولى. قال النووي: لما فيه من كمال التفويض إلى الله تعالى والاعتراف بكمال قدرته وعظمته وقهره وسلطانه وانفراده بالوحدانية وتدبير مخلوقاته. انتهى. من سبل السلام مع بعض اختصار. قلت: ولا يخفى أنه يرجح الوجه الأول، حذف قوله: لا مانع لما أعطيت إلخ، في بعض الروايات فيكون استئناف لا تعلق له بما قبله لمحرره. 1 فإن قلت: من أي دليل أخذ جواز الدعاء بما ورد وبما لم يرد في الصلاة؟ قلت: من عموم قوله عليه السلام: "وأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء" ومن قوله في التشهد: "ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه" فقد جعل للمصلي الاختيار في الدعاء بما شاء.

فصل في مبطلات الصلاة

فصل في مبطلات الصلاة وتبطل الصلاة بالكلام وبالاشتغال بما ليس منها وبترك شرط أو ركن عمدا. أقول: أما بطلانها بالكلام فلحديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ

قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وهكذا حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما بلفظ "إن في الصلاة لشغلا" وفي رواية لأحمد والنسائي وأبي داود وابن حبان في صحيحه "إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة" ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته وإنما الخلاف في كلام الساهي ومن لم يعلم بأنه ممنوع فأما من لم يعلم فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلمي الثابت في الصحيح أنه لا يعيد وقد كان شأنه صلى الله عليه وسلم أن لا يحرج على الجاهل ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء1 وأما كلام الساهي والناسي فالظاهر أنه لا فرق بينه2 وبين العامد العالم في إبطال الصلاة. وأما بطلان الصلاة بالاشتغال بما ليس منها فذلك مقيد بأن يخرج به المصلي عن هئية الصلاة كمن يشتغل مثلا بخايطة أو نجارة أو مشي كثير أو التفات طويل أو نحو ذلك وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة المطلوبة من المصلى قد

_ 1 قد يقال: إن المسيء قد بين الشارع وجه أمره بالإعادة، وهو قوله: "فإنك لم تصلي" فقد نفاها الشارع ولم يعتد بها، بخلاف من استكمل واجبات الصلاة، وفعل فيها ما يبطلها جاهلا، كا الكلام. وحديث معاوية بن الحكم في عدم أمره له بالإعادة دليل على أن من فعل المبطل جاهلا فهو معذور لجهله. وحديث المسيء مبين فيه "إنه لم يصل"، فعلم منه أن من صلى على غير الوجه الشرعي لا يعتد بصلاته ولا يجتزئ بها وإن كان جاهلا. فلا تتفق صورتا الجهل في هذين الحديثين. فلا وجه للجمع بينهما. إذ حديث المسيء فيمن جهل ماهية الصلاة، وحديث ابن الحكم فيمن جهل ما هو من الممنوع فيها. والشارع اعتبر الجهل في هذا ولم يعتبره في الأول. وبهذا يزول الاشتباه في حديثي المسيء ومعاوية بن الحكم. والله أعلم لمحرره. 2 يرده حديث ذي اليدين الثابت في الصحيح، ففيه: "أنه تكلم صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وذو اليدين، ثم أتموا الصلاة" وكلام العلماء في تخريج وجهه معروف يطلب من محله. من خط محمد العمراني سلمه الله. ولعل تخريجه بأنه كلام الجاهل أقرب وأولى من جعله كلام الناسي. هـ. من خط العلامة الحسن بن يحيى رحمه الله. وفيه: أنه كيف يصح تخريج كلام النبي صلى الله عليه وسلم على كلام الجاهل؟ تأمل.

صارت بذلك الفعل متغيرة عما كانت عليه حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده مصليا. وأما بطلانها بترك شرط كالوضوء فلأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط وأما بطلانها بترك الركن فلكون ذهابه يوجب خروج الصلاة عن هيئتها المطلوبة وإذا ترك الركن فما فوقه سهوا وإن كان قد خرج من الصلاة كما وقع منه صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين فإنه سلم على ركعتين ثم أخبر بذلك فكبر وفعل الركعتين المتروكتين. وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات فلا تبطل به الصلاة لأنه لا يؤثر عدمه في عدمها بل حقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم تاركه وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة والحاصل أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط نحو أن يقول الشارع من لم يفعل كذا فلا صلاة له أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة أو بعدم القبول والإجزاء أو يثبت عنه النهي عن الإتيان بالمشروط بدون الشرط لأن النهي1 يدل على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق وأما كون الشيء واجبا فهو يثبت بمجرد طلبه من الشارع ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون الشيء واجبا فتدبر هذا تسلم من الخبط والخلط.

_ 1 وقد أغفل شيخنا أبقاه الله من المنهي عنه في الصلاة شيءا كثيرا كبسط الذراع في السجود وكصلاة الحاكن، وبحضرة الطعام، وأن يصلي الرجل مختصرا. أي واضعا يده على خاصرته، وعن نقر الصلاة كنقر الغراب، وعن بروكه في السجو كبروك البعير، بل يضع ركبتيه قبل يديه، كما رجححه ابن القيم من نحو عشرة أوجه وعن رفع البصر إلى السماء وغير ذلك. فيطلب من محله. وكله في الصحيح. لمحرره.

فصل من تجب عليهم الصلاة

فصل "من تجب عليهم الصلاة" ولا تجب على غير المكلف وتسقط عمن عحز عن الإشارة أو أغمي عليه حتى حرج وقتها ويصلي المريض قائما ثم قاعدا ثم على جنب. أقول: أما سقوطها على من ليس مكلف فلأن خطاب التكليف لا يتناول غير مكلف ولا خلاف في ذلك في الواجبات الشرعية وأما ما ورد من تعويد الصبيان وتمرينهم فالخطاب في ذلك للمكلفين والوجوب عليهم لا على الصغار وأما سقوط الصلاة بالعجز عن الإشارة فلأن إيجابها على المريض مع بلوغه إلى ذلك الحد هو من تكليف ما لا يطاق ولم يكلف الله سبحانه أحدا فوق طاقته وكذلك من أغمي عليه حتى خرج وقتها فلا وجوب عليه لأنه غير مكلف في الوقت1. وأما كون المريض يصلي قائما ثم قاعدا ثم على جنب فلحديث عمران بن الحصين عند البخاري وأهل السنن وغيرهم قال: "كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى حنب" وقد نطق بمضمون ذلك القرآن الكريم2.

_ 1يوخذ من هذا أن إيجاب القضاء على النائم والساهي إنما هو بتشريع جديد لا بالتكليف الأول، لأن النائم والساهي غير مكلفين حال النوم والسهو. وهذا هو الحق المتصور أدلته في الأصول. هـ. لمحرره. 2 قد أغفل شيخنا أبقاه الله تعالى أحكام صفة الصلاة كما أغفل أحكام سترة المصلي ودفع المار وأحكام المساجد، وهي كما لا يخفى مما صح دليله. والله أعلم – هـ- من خط العمراني سلمه الله تعالى.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع هي أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأربع قبل العصر وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل صلاة الفجر وصلاة الضحى وصلاة الليل وأكثرها ثلاث عشرة ركعة يوتر في آخرها وتحية المسجد والاستخارة وركعتان بين كل آذان وإقامة. أما مشروعية الأربع قبل الظهر والأربع بعده والأربع قبل العصر فلما ثبت في ذلك من حديث أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعا بعدها حرمه الله على النار" رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وابن خزيمة. وأما الركعتان بعد المغرب وبعد العشاء وقبل الفجر فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة وأخرج نحوه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه وأحمد والترمذي وصححه من حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة وأخرج نحوه مسلم رحمه الله وأهل السنن من حديث أم حبيبة ولا ينافي هذا ما تقدم من الدليل الدال على مشروعية أربع قبل الظهر وأربع بعده لأن هذه زيادة مقبولة وثبت

في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر1" وثبت في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديثها "أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها" وفيهما أحاديث كثيرة. وأما صلاة الضحى فالأحاديث فيها متواترة عن جماعة من الصحابة وأقلها ركعتان كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما وأكثرها أثنا عشر ركعة كما دلت على ذلك الأدلة. وأما صلاة الليل فالأحاديث فيها صحيحة متواترة لا يتسع المقام لبسطها وأكثرها ثلاث عشرة ركعة يوتر في آخرها بركعة إما منفردة أو منضمة إلى شفع قبلها وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل على أنحاء محتلفة فتارة يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر بعدها بركعة وتارة يصلي أربعا أربعا وتارة يجمع بين زيادة على الأربع وذلك كله سنة ثابتة. وأما مشروعية تحية المسجد فلحديث "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" أخرجه الجماعة من حديث أبي قتادة وفي ذلك أحاديث كثيرة وقد وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد وذهب أهل الظاهر إلى

_ 1لم يذكر شيخنا أبقاه الله تخفيف ركعتي الفجر. وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في الصحيحين. وأخرج مسلم عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وحكم الضجعة بعدهما. وقد ثبت استمرار فعل النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في البخاري، وعند أحمد، وأبي داود، والترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الفجر فليضطجع على شقه الأيمن" من خط محمد العمراني سلمه الله تعالى. قلت: ومن أحكامها ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يصل الركعتي الفجر فليصليهما بعد ما تطلع الشمس". أخرجه الترمذي وابن حبان وصححه الحاكم وأقره الذهبي. هـ. لمحرره.

أنهما واجبتان وذلك غير بعيد وقد حققت المقام في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة. وأما مشروعية صلاة الاستخارة ففيها أحاديث كثيرة. منها: حديث جابر عند البخاري وغيره بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقذرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال: ويسمى حاجته". وأما مشروعية الركعتين بين آذان وإقامة فلحديث "بين كل أذانين صلاة" قال: ذلك ثلاث مرات ثم قال: "لمن شاء" وهو حديث صحيح والمراد بالأذانين الأذان والإقامة تغليبا كالقمرين والعمرين.

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة هي من آكد السنن وتنعقد باثنين وإذا كثر الجمع كان الثواب أكثر وتصح بعد المفضول والأولى أن يكون الإمام من الحيار ويؤم الرجل بالنساء لا العكس والمفترض بالمنفل والعكس وتجب المتابعة في غير مبطل ولا يؤم الرجل قوما هم له كارهون ويصلى بهم صلاة أخفهم ويقدم السلطان ورب المنزل والا قرأ ثم لأعلم ثم الأسن وإذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين وموقفهم حلفه إلا الواحد فعن يمنيه وإمامة النساء وسط الصف ويقدم صفوف الرجال ثم الصبيان ثم النساء والأحق بالصف الأول أولو الأحلام والنهى وعلى الجماعة أن يسووا صفوفهم وأن يسدوا الخلل ويقيموا الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك. أما كونها من آكد السنن، فلما ورد فيها من الترغبيات حتى أنه صلى الله عليه وسلم صرح بأنها تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة كما في الصحيحين ووقع منه الإخبار بأنه قد هم بأن يحرق على المتحلفين دورهم ولازمها صلى الله عليه وسلم من الوقت الذي شرعها الله فيه إلى أن قبضه الله إليه ولم يرخص صلى الله عليه وسلم في تركها لمن سمع النداء1 فإنه سأله الرجل الأعمى أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى

_ 1لعله أشار إلى ما أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم. قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء فلم يأتي الصلاة فلا صلاة له"، لكنه ليس ثابتا في الصحيح كما عرفت، والله أعلم. من خط محمد العمراني سلمه الله تعالى.

دعاه فقال: هل تسمع النداء قال: نعم قال: فأجب" وكل ما ذكرناه ثابت في الصحيح وثبت في الصحيح أيضا عن ابن مسعود " أنه قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف". وأما انعقاد الجماعة باثنين فليس في ذلك خلاف وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلى بالليل مع النبي صلى الله عليه وسلم وجده وقعد عن يساره فأداره إلى يمنيه". وأما كثرة الثواب إذا كثر الجمع فقد ثبت عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله" أحرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وأما صحة الجماعة بعد المفضول فقد صلى صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر1 وبعد غيره من الصحابة كما في الصحيح ولعدم وجود دليل يدل على أنه يكون الإمام أفضل والأحاديث التي فيها "لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه" ونحوها ولا تقوم بها الحجة وعلى فرض أنها تقوم بها الحجة فليس فيها إلا المنع من إمامة من كان ذا جرأة في دينه وليس فيها المنع من إمامة المفضول وقد عورض ذلك بأحاديث تتضمن الإرشاد إلى الصلاة خلف كل بر وفاجر وخلف من قال: لا إله إلا الله وهي ضعيفة وليست بأضعف مما عارضها والأصل أن الصلاة عبادة يصح تأديتها خلف كل مصل إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة وإن كان الإمام غير متجنب للمعاصي ولا متورع عن كثير مما يتورع عنه غيره ولهذا أن الشارع إنما اعتبر حسن القراءة والعلم والسنن ولو لم يعتبر الورع والعدالة فقال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء

_ 1صلاته خلف أبي بكر ثابتة عند الشيخين مرتين، وعند مسلم: "أنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف". وينظر هل صلى خلف أحد غيرهما. من خط العمراني رحمه الله

فأعلمهم بالسنة فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" أخرجه مسلم رحمه الله وغيره من حديث ابن مسعود وفي حديث مالك بن الحويرث "وليؤمكما أكبركما" وهو في الصحيحين وغيرهما وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة مرتين فصلى بهم وهو أعمى والحاصل أن الشارع اعتبر الأفضلية في القراءة والعلم والسنة وقدم الهجرة وعلو السن فلا ينبغي للمفضول في مثل هذه الأمور أن يؤم الفاضل إلا بإذنه ولا اعتبار بالفضل في غير ذلك. وأما أولوية أن يكون الإمام من الخيار فلحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" رواه الدارقطني وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". وأما كونه يؤم الرجل بالنساء لا العكس فلحديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أنه صف هو واليتيم وراء النبي صلى الله عليه وسلم والعجوز من روائهم" وقد أخرج الإسماعيلى عن عائشة أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المسجد صلى بنا" وقد كانت النساء يصلين خلفه صلى الله عليه وسلم في مسجده وليس في صلاة النساء خلف الرجل مع الرجال نزاع وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط ومن زعم أن ذلك لا يصح فعليه الدليل وأما عدم صحة إمامة المرأة بالرجل فلأنها عورة وناقصة عقل ودين والرجال قوامون على النساء " ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" كما ثبت في الصحيح ومن ائتم بالمرأة فقد ولاها أمر صلاته وأما كونه يؤم المفترض بالمنتفل والعكس فلا خلاف1 في صحة صلاة

_ 1 قد أكثر شيخنا في هذا الشرح من الاستناد إلى الاجماع وليس بحجة ولا هو في مقام حجاج، ونستدل لهذه المسألة بما أخرجه أحمد، أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وصححه، عن يزيد بن الأسود "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجلين لم يصليا معه ترعد فرائصها فقال: ما منعكما أن تصليا معنا، قالا: يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنه لكم نافلة"، وأخرج أبو داود=

المفترض بالمنتفل وأما العكس فلحديث معاذ "أنه كان يؤم قومه بعد أن يصلي تلك الصلاة بعد النبي صلى الله عليه وسلم" وهي في الصحيحين وغيرهما وأما صلاة المنتفل بعد المنتفل فكما فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وصلى ابن عباس وكذلك صلاته بأنس واليتيم والعجوز وغير ذلك والكل ثابت في الصحيح. وأما كونها تجب المتابعة للإمام في غير مبطل فلحديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" وهو ثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وأنس وجابر وثابت خارج الصحيح عن جماعة من الصحابة وورد الوعيد على المخالفة كحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه إلى رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار" أخرجه الجماعة ولا يتابعه في شيء يوجب بطلان صلاته نحو أن يتكلم أو يفعل أفعالا تخرجه عن صورة المصلي ولا خلاف في ذلك. وأما كونه لا يؤم الرجل قوما هم له كارهون فلحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا ورجل اعتبد محرر" أخرجه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وفيه ضعف. وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون" وقد حسنه الترمذي وضعفه البيهقي. قال

_ = والنسائي وحسنه من حديث أبي سعيد الخدري قال:"أيكم يتجر مع هذا فقام رجل فصلى معه" والله أعلم. من خط العمراني. وقد يقال: الحجة على الصحة عدم ورود ما يمنع عن الشرع إلا أن يقال: دليل المنع حديث: "لا تختلفوا على إمامكم" وحينئذ تكون هذه الأدلة مخصصة ومصححة للإئتمام مع الاختلاف في النية. من خط سيدي الحسن بن يحيى قدس سره.

النووي في الخلاصة والأرجح قول الترمذي وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضا. وأما كونه يصلي بهم صلاة أخفهم فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" وفي الباب أحاديث صحيحة واردة في التخفيف. وأما كونه يقدم السلطان ورب المنزل فلما ثبت في الصيحيحين من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو مرفوعا "لا يؤمن الرجل الرجلَ في سلطانه" وفي لفظ "لا يؤمن الرجل الرجلَ في أهله ولا سلطانه" وورد تقييد جواز ذلك بالإذن وفي لفظ لأبي داود "لا يؤم الرجل في بيته". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن مالك بن الحويرث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم". وأما تقديم الأقرأ ثم الأعلم ثم الأسن فلما في حديث أبي مسعود بلفظ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وهو في الصحيح وإنما لم نذكر الهجرة في المختصر لأنه لا هجرة بعد الفتح كما في الحديث الصحيح. وأما كونها إذا اختلت صلاة الإمام كان ذلك عليه لا على المؤتمين فلحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم" أخرجه البخاري وغيره وأخرج ابن ماجه من حديث سهل ابن سعد نحوه. وأما كون موقف المؤتمين خلف الإمام إلا واحد فعن يمنيه فلحديث جابر بن عبد الله "إنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعله عن يمينه ثم جاء آخر فقام عن يسار

النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيديهما فدفعهما حتى أقامها خلفه" وهو في الصحيح وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة يقف الواحد عن يمين1 الإمام والاثنان فما زاد خلفه وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك وقال: سعيد بن المسيب أنه مندوب فقط وروى عن النخعي أن الواحد يقف خلف الإمام. وأما كون إمامة النساء وسط الصف فلما روى من فعل عائشة أنها أمت النساء فقامت وسط الصف" أخرجه عبد الرزاق والدراقطني والبيهقي وابن شيبة والحاكم وروى مثل ذلك عن أم سلمة أخرجه الشافعي وابن شيبة وعبد الرزاق والدارقطني.

_ 1 وميمنة الصف أفضل، لما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه عن عائشة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف". وقد أغفل شيخنا حفظه الله تعالى من أحكام الجماعة أفضلية الوقوف في الصف الأول، كما أخرجه البخاري عن أبي هريرة في حديث طويل وفيه: "ولو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه" وأخرج ابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الصف المتقدم ثلاثا، وعلى الثاني مرة"، وشرعية تجنب الصلاة بين السواري لما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وحسنه عن عبد الحميد بن محمود قال، صلينا خلف أمير من الأمراء فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال أنس بن مالك: "كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأخرج الحاكم عن أنس وصححه: "كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها، وقال: وقال: "لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف". وأخرج ابن ماجه عن معاوية بن قرة قال: "كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد طردا" وفي إسناده مجهول. وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس يرفعه: "عليكم بالصف الأول، وعليكم بالميمنة، وإياكم والصف بين السواري" وفيه إسماعيل بن يوسف المكي. قال الهيثمي: متروك. وكراهيته التدافع عن الإمامة لما أخرجه أبو داود، وابن ماجه، عن سلامة بنت الحر الفزارية قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماما يصلي بهم". هـ. من خط العمراني سلمه الله تعالى. أقول: الأولى كتب هذه الحاشية آخر هذا البحث عند قول المؤلف سلمه الله، وورد أيضا أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل. هـ.

وأما تقديم صفوف الرجال ثم الصبيان ثم النساء فلحديث أن مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان. أخرجه أحمد وأخرج بعضه أبو داود وفي إسناده شهر ابن حوشب ويؤيده ما في الصحيحين من حديث أنس "أنه قام هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأم سليم خلفهم" وأما الأحق بالصف الأول هم أولو الأحلام والنهى فلحديث أبي مسعود الأنصاري الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليلنى1 منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه". وأما كون على الجماعة أن يسووا صفوفهم ويسدوا الخلل فلما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل" وفي الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة" عنه أيضا في الصحيحين "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: "تراصوا واعتدلوا" وثبت في الصحيح من حديث النعمان بن بشير أنه قال صلى الله عليه وسلم: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم". وأما كونهم يتمون الصف الأول ثم الذي يليه فلما ورد من الأحاديث الصحيحة من أمره صلى الله عليه وسلم بإتمام الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك فالسنة ألا يقف المؤتم في الصف الثاني وفي الصف الأول سعة ثم لا يقف في الصف الثالث وفي الصف الثاني سعة ثم كذلك وورد أيضا "أن الوقوف يمنة الصف أولى وأفضل".

_ 1 قوله: ليلني بكسر اللامين وخفة النون من غير ياء قبل النون، وبإثباتها مع شدة النون على التأكيد.! هـ. مناوي على الجامع الصغير.

باب سجود السهو

باب سجود السهو سجود السهو هو سجدتان قبل التسليم أو بعده بإحرام وتشهد وتحليل ويشرع لترك مسنون وللزيادة ركعة سهوا وللشك في العدد وإذا سجد الإمام تابعه المؤتم. أقول: أما كون السجود يكون على التحيير إما قبل التسليم من الصلاة أو بعده فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه سجد قبل التسليم وصح عنه أنه سجد بعده , أما ما صح عنه مما يدل على أنه قبل التسليم فحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شك أحدكم فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين فليجعلها واحدة وإذا لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها اثنتين وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين" وفي الباب أحاديث منها ما هو في صحيح كحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك جانبا وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" ومنها ما هو في غير الصحيحين وأما ماصح عنه مما يدل على أنه بعد التسليم فكحديث ذي اليدين الثابت في الصحيحين فإن فيه أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد ما سلم" وحديث ابن مسعود وهو في الصحيحين وغيرهما مرفوعا بلفظ "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين" وحديث المغيرة بن شعبة:

أنه صلى بقوم فترك التشهد الأوسط فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم وقال: "هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد والترمذي وصححه وحديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال: "لا وما ذاك"؟ فقالوا صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم" فهذه الأحاديث المصرحة بالسجود تارة قبل التسليم وتارة بعده تدل على أنه يجوز جميع ذلك ولكنه ينبغي في موارد النصوص أن يفعل كما أرشد إليه الشارع فيسجد قبل التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه قبل التسليم ويسجد بعد التسليم فيما أرشد إلى السجود فيه بعد التسليم وما عدا ذلك هو بالخيار والكل سنة وفي المسألة مذاهب قد بسطتها في شرح المنتقى. وأما كون سجود السهو بإحرام وتشهد وتحليل قفد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كبر وسلم" كما في حديث ذي اليدين الثابت في الصحيح وفي غيره من الأحاديث وأما التشهد فلحديث عمران بن الحصين أن النبي صلى الله علي هو سلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حبان وصححه والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين وقد روى نحو ذلك من حديث المغيرة وابن مسعود وعائشة. وأما كونه يشرع لترك مسنون فلحديث سجوده صلى الله عليه وسلم لترك التشهد الأوسط ولحديث "لكل سهو سجدتان" والكلام فيه معروف1 ونحو ذلك إذا كان ذلك المسنون تركه المصلي سهوا لأنه أثبت أن سجود السهو فيه ترغيم للشيطان كما في حديث أبي سعيد الثابت في الصحيح ولا يكون الترغيم إلا مع السهو لأنه من قبل الشيطان وأما مع العمد فهو من قبل المصلي وقد فاته ثواب تلك السنة.

_ 1 أخرجه أبو داود، وابن ماجه بسند ضعيف. هـ. عمراني. قلت: وقد صححه بعضهم فلم يجمع على ضعفه. هـ. لمحرره.

وأما كونه يشرع للزيادة ولو ركعة سهوا فللحديث المتقدم وما دون الركعة بالأولى. وأما للشك في العدد ففيه الأحاديث المتقدمة المصرحة بأن من شك في العدد بنى على اليقين وسجد للسهو. وأما متابعة المؤتم لإمامه في سجود السهو1 فلأن ذلك من تمام الصلاة ولأنه كان يسجد الصحابة إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد الأمر بمتابعة الإمام كما سبق2.

_ 1وأخرج البزار والبيهقي بسند ضعيف عن عمر مرفوعا: "ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه، من خط العمراني سلمه الله تعالى. 2 أغفل شيخنا أبقاه الله من مواضع سجود السهو التي صح دليلها مادل عليه حديث ذي اليدين الثابت في الصحيحين، من أن من سلم قبل تمام الصلاة معتقدا للتمام أنى بما ترك وسجد للسهو فإن فيه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشاء ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت الصلاة؟ فقال:"لم أنسى ولم تقصر" قال بلى قد نسيت فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر". أخرجاه من حديث أبي هريرة، وهذا لفظ مسلم. من خط العمراني. وقد يقال: قد دخل هذا في الزيادة في الصلاة سهوا. من خط سيدي الحسن بن يحيى قدس سره. فيه تأمل: إذ هو وقع منه السلام على ركعتين في الرباعية فكان الأولى بالمصنف أن يقول: وللزيادة والنقصان إلخ. هـ. لمحرره.

باب القضاء للفوائت

باب القضاء للفوائت إن كان الترك عمدا لا لعذر فدين الله أحق أن يقضى وإن كان لعذر فليس بقضاء بل أداء في وقت زوال العذر إلا صلاة العيد ففي ثانية. أقول قد اختلف أهل العلم في قضاء الفوائت المتروكة لا لعذر فذهب الجمهور إلى وجوب القضاء وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي وحكاه في البحر عن ابني الهادي والأستاذ ورواية عن القاسم والناصر إلى أنه لا قضاء على العامد غير المعذور بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ولم يأت الجمهور بدليل يدل على ذلك ولم أجد دليلا لهم من كتاب ولا سنة إلا ما ورد في حديث الخثعمية حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى" وهو حديث صحيح وفيه من العموم الذي يفيده المصدر المضاف ما يشمل هذا الباب فهذا الدليل ليس بأيدي الموجبين سواه وقد اختلف أهل الأصول هل القضاء يكفي فيه دليل وجوب المقضي أم لابد من دليل جديد يدل على وجوب القضاء؟ والحق لا بد من دليل جديد لأن إيجاب القضاء هو تكليف مستقل غير تكليف الأداء ومحل الخلاف هو الصلاة المتروكة لغير عذر عمدا. وأما إذا كان الترك لعذر من نوم أو سهو أو نسيان أو اشتغال بملاحمة القتال مع عدم إمكان صلاة الخوف والمسايفة فإنه يجب تأدية تلك الصلاة المتروكة عند زوال العذر وذلك وقتها وفعلها فيه أداء كما يفيد ذلك أحاديث "من نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها" وقد تقدمت في أول

كتاب الصلاة وفي ذلك خلاف والحق أن ذلك هو وقت الأداء لا وقت القضاء للتصريح منه صلى الله عليه وسلم أن وقت الصلاة المنسية أو التي نام المصلى وقت الذكر وأما المتروكة لغير نوم وسهو كمن يترك الصلاة لاشتغاله بالقتال كما سبق فقد شغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الخندق عن صلاة الظهر والعصر وما صلاهما إلا بعد هوى من الليل كما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أبي سعيد وهو في الصحيحين من حديث جابر وليس فيه ذكر الظهر بل العصر فقط. وأما كون صلاة العيد المتروكة لعذر وهو عدم العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد تفعل في اليوم الثاني ولا تفعل في يوم العيد بعد خروج الوقت إذا حصل العلم بأن ذلك اليوم يوم عيد فلحديث عمير بن أنس عن عمومة له أنه غم عليهم الهلال فأصبحوا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطابي وابن حجر في بلوغ المرام.

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة تجب على مكلف إلا المرأة والعبد والمسافر والمريض وهي كسائر الصلوات لا تخالفها إلا في مشروعية الخطبتين قبلها ووقتها وقت الظهر وعلى من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس وأن ينصت حال الخطبتين وندب له التبكير والتطيب والتجمل والدنو من الإمام ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها وهي في يوم العيد رخصة. أقول: صلاة الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وقد صرح بذلك كتاب الله عز وجل وما صح من السنة المطهرة كحديث أنه صلى الله عليه وسلم هم بإحراق من يتخلف عنها" وهو في الصحيح من حديث ابن مسعود وكحديث أبي هريرة "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" أخرجه مسلم وغيره ومن ذلك حديث حفصة مرفوعا "رواح الجمعة واجب على كل محتلم" أخرجه النسائي بإسناد صحيح وحديث طارق بن شهاب "الجمعة حق واجب على كل مسلم" أخرجه أبو داود وسيأتي وقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم من الوقت الذي شرعها الله فيه إلى أن قبضه الله عز وجل وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين وقال: ابن العربي الجمعة فرض بإجماع الأمة وقال: ابن قدامة في المغني أجمع المسلمون على وجوب الجمعة وإنما الخلاف هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات ومن نازع في فريضة الجمعة فقد أخطأ ولم يصب. وأما كونها لا تجب على المرأة والعبد والمسافر والمريض فلحديث "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أوصبي أو

مريض" أخرجه أبو داود من حديث طارق ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه الحاكم من حديث طارق عن أبي موسى قال: الحافظ وصححه غير واحد وفي حديث أبي هريرة وحديث جابر ذكر المسافر وفي الحديثين مقال: معروف والغالب أن المسافر لا يسمع النداء وقد ورد أن الجمعة على من سمع النداء كما في حديث ابن عمرو عند أبي داود. وأما كونها كسائر الصلوات لا تخالفها إلا في مشروعية الخطبة قبلها فلكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها في غير ذلك وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل أنه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم والمصر الجامع والعدد المحصوص فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها فضلا عن وجوبها فضلا عن كونها شروطا بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط ولولا حديث طارق ابن شهاب المذكور قربيا من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة ومن عدم إقامتها في زمنه صلى الله عليه وسلم في غير جماعة لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات. وأما كون وقتها وقت الظهر فلكونها بدلا عنه وقد ورد ما يدل على أنها تجزئ قبل الزوال كما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة ثم يرجعون إلى القائلة يقيلون" وهو في الصحيح ومثله من حديث سهل بن سعد في الصحيحين وثبت في الصحيح من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيرحونها حين تزول الشمس" وهذا فيه التصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وهو الحق وذهب الجمهور إلى أن أول وقتها أول وقت الظهر. وأما كون على من حضرها أن لا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فلحديث عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس فقد آذيت" أخرجه أحمد وأبو

داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره ولحديث أرقم بن أبي الأرقم المخزومي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي يتخطى رقاب يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة في النار" أي أمعاءه أخرجه أحمد والطبراني في الكبير وفي إسناده مقال: وفي الباب أحاديث منها عن معاذ بن أنس عند الترمذي وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جنهم وعن عثمان وأنس أيضا. وأما كونه ينصت حال الخطبتين فلحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج أحمد وأبو داود من حديث على قال: "من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر ومن قال: صه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم" وفي إسناده مجهول وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة1. وأما كونه يندب التبكير فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة

_ 1 أغفل شيخنا المصنف أبقاه الله تعالى مما صح دليله أحكام الخطبتين، وهي القيام حالهما، والفصل بينهما بالقعود. لما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما" فمن أنبأك أنه خطب جالسا فقد كذب، واشتمالها على الحمد لله والثناء عليه وتلاوة القرآن، لما أخرجه مسلم رحمه الله عن جابر قال: " كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه ثم يقوم وقد على صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش صبحكم أو مساكم ويقول: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها". وأخرج مسلم أيضا عن أم هاشم بنت حارثة قالت: ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [قّ:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمع على المنبر إذا خطب الناس" وتقصيرهما، لما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى أيضا عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه" من خط العمراني سلمه الله تعالى.

فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" وفي الباب أحاديث في مشروعة التبكير. وأما مشروعية التطيب والتجمل فلحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه" أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين بلفظ "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا إن وجد" وأحرج أحمد والبخاري وغيرهما من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما أستطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب الله له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى" وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلى كان كفارة لما بينهما وبين الجمعة الأخرى" ورجال إسناده ثقات وفي الباب أحاديث. وأما كونه يندب الدنو من الإمام فلحديث سمرة عند أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احضروا الذكر وادنوا من الأمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها" وفي إسناده انقطاع وفي الباب أحاديث. ومن جملة ما يشرع يوم الجمعة الغسل وقد تقدم الكلام عليه في باب الغسل. وأما كون من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدركها فلحديث "من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته" وله طرق كثيرة يصير بها حسنا لغيره وقد قدمنا أنها كسائر الصلوات وليست الخطبة بشرط من شروط الجمعة حتى يتوقف إدراك الصلاة على إدراك الخطبة وقد أوضحت

المقال: في أبحاث مطولة وقعت مع بعض الأعلام مشتملة على مايحتاج إليه في هذا البحث فليرجع إلى ذلك فهو مفيد جدا. وأما كونها في يوم العيد رحصة فلحديث زيد بن أرقم "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد في يوم جمعة ثم رخص في الجمعة فقال: من شاء أن يجمع فليجمع" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه على بن المدينى وأخرج أبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال: اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" وقد أعل بالإرسال وفي إسناده أيضا بقية ابن الوليد1 وفي الباب أحاديث عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما وظاهر أحاديث الترخيص تشمل من صلى العيد ومن لم يصل بل روى النسائي وأبو داود أن ابن الزبير أيام خلافته لم يصل بالناس الجمعة بعد صلاة العيد فقال: ابن عباس لما بلغه ذلك أصاب السنة وفي إسناده مقال2

_ 1لكنه رواه عن شعبة رحمه الله مصرحا بالتحديث. وقال الحاكم بعد إخراجه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، فإن بقية لم يختلف في صدقة إذا روى عن المشهورين من خط العمراني. 2 الحديث المذكور، أخرجه أبو داود، عن محمد بن طريف البجلي، عن أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح قال: "صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا، وكان ابن عباس بالطائف فلما قدم ذكرنا له ذلك، فقال: أصاب السنة". وهؤلاء كلهم رجال الصحيح، وأسباط بن محمد إنما ضعف في الثوري فقط، وعن يحيى بن خلف عن أبي عاصم عن ابن جريج قال، قال عطاء: "اجتمع يوم الفطر ويوم الجمعة على عهد ابن الزبير فقال: عيدان اجتمعا في يوم، فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين بكرة ولم يزد عليهما حتى صلى العصر". وهؤلاء كلهم رجال الصحيح أيضا، فإن أبا عاصم هم النبيل. قال المزي في الأطراف في ترجمة ابن جريج من ترجمة عطاء عن جابر حديث "لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا الأضحى" –ح- في العيدين، عن إبراهيم بن موسى عن هشام، وعن محمد ابن رافع قصة لابن الزبير، ثم قال في ترجمة عطاء عن ابن الزبير: حديث "اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال: عيدان اجتمعا" الحديث موقوف، وأبو داود في الصلاة

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين هي ركعتان في الأولى سبع تكيبرات قبل القراءة وفي الثانية خمس كذلك ويخطب بعدها ويستحب التجمل والخروج إلى خارج البلد ومخالفة الطريق والأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى ووقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال ولا أذان فيها ولا إقامة. أقول: قد أحتلف أهل العلم هل صلاة العيد واجبة أم لا والحق الوجوب لأنه صلى الله عليه وسلم مع ملازمته لها قد أمرنا بالخروج إليها كما في حديث أمره صلى الله عليه وسلم للناس أن يغدوا إلى مصلاهم بعد أن أخبره الراكب برؤية الهلال وهو حديث صحيح وثبت في الصحيح من حديث أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض ذوات الخدور" فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين والأمر بالخروج يقتضي الأمر

_ = وساقه من طريق يحيى بنخلف كما سلف أيضا، وحديث عبد الرزاق في ترجمته ابن جريج عن عطاء عن جابر. نعم قال شيخنا في شرح المنتقى، وفعل ابن الزبير وقول ابن عباس: أصاب السنة، قال ابن المنذر لا يثبت وفي إسناده إياس بن أبي رملة وهو مجهول. وهذا وهم، فإن إياسا المذكور إنما هو في إسناده حديث زيد بن أرقم، كما في سنن أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، ومستدرك الحاكم وهو الذي تنادى به عبارة التلخيص، فإنه قال بعد سياقه حديث زيد بن أرقم ومخرجيه كما نقله شيخنا، ورواه النسائي، وأبو داود، والحاكم من حديث عطاء: أن ابن الزبير فعل ذلك، وأنه سأل ابن عباس فقال: "أصاب السنة". قال ابن المنذر: هذا الحديث لا يثبت، وإياس بن أبي رملة راويه عن زيد مجهول، ولعل الوهم وقع لشيخنا من جعل الإشارة إلى حديث عطاء، وهي إلى حديث زيد، كما يشعر به قوله: وإياس إلخ. وقد وقع هذا الوهم لشيخنا بعينه في شرح المنتقى. والله أعلم. من خط العمراني سلمه الله تعالى.

بالصلاة لمن لا عذر لها بفحوى الخطاب والرجال بذلك أولى من النساء. وأما كون التكبير في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة وفي الثانية خمس كذلك فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشر تكبيرة سبعا في الأولى وخمسا في الثانية أخرجه أحمد وابن ماجه وقال أحمد: أنا أذهب إلى هذه قال العراقي: إسناده صالح ونقل الترمذي في العلل المفردة عن البخاري أنه قال: إنه حديث صحيح وفي رواية لأبي داود والدارقطني التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كليتهما وإسناد الحديث صالح وقد صححه البخاري وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة وقد حسنه الترمذي وأنكر عليه تحسينه لأن في إسناده كثير ابن عبد الله ابن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وهو متروك قال: النووي لعله اعتضد بشواهد وغيرها انتهى. قال العراقي: إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري فقد قال في كتاب العلل المفرد: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول انتهى. وقد أخرجه ابن ماجه بدون ذكر القراءة وأخرجه الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو داود: أنه ركن من أركان الكذب وقال: ابن حبان له نسحه موضوعة عن أبيه عن جده وأخرج ابن ماجه من حديث سعد القرظ المؤذن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الآخرة خمسا قبل القراءة قال العراقي: وإسناده ضعيف وفي الباب أحاديث تشهد بذلك والجميع يصلح للاحتجاج به وفي المسألة عشرة مذاهب هذا أرجحها. وأما كون الخطبة بعد الصلوات فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى

المصلي وأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف" وفي الباب من حديث جابر عند مسلم وغيره وأول من خطب قبل الصلاة في العيد مروان وأنكر عليه ذلك. وأخرج النسائي وأبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن السائب قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: إنا نريد أن نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب. وأما كونه يستحب في العيد التجمل بالثياب فقد ثبت في الصحيحين أن عمر وجد حلة في السوق من إستبرق تباع فأخذها فأتى بها النبي فقال: يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد فقال: " إنما هذه لباس من لا خلاق له" وأخرج الشافعي عن شيخه إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة في كل عيد" وشيخ الشافعي ضعيف ولكنه قد تابعه سعيد ابن الصلت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن ابن عباس بمثله وأخرجه الطبراني وأخرج ابن خزيمة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس البرد الأحمر في العيدين وفي الجمعة". وأما كونه يستحب الخروج إلى خارج البلد فلمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك وصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وفي إسناده مجهول. وأما استحباب مخالفة الطريق فلحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق" وأخرج أبو داود وابن ماجه نحو من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث غير ما ذكر. وأما استحباب الأكل قبل الخروج في الفطر دون الأضحى فلما ثبت في الصحيح من حديث أنس قال: كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا" وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان

والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث بريدة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع" وزاد أحمد "فيأكل من أضحيته" وفي الباب أحاديث. وأما كون وقتها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال فلما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في كتاب الأضاحي من حديث جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح" وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله ابن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه خرج مع الناس يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه" وذلك حين التسبيح أي حين وقت صلاة العيد وأخرج الشافعي مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر" وفي إسناده إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي وهو ضعيف وقد وقع الإجماع على ما أفادته الأحاديث فإن كانت لا تقوم بمثلها الحجة وأما آخر وقت صلاة العيدين فزوال الشمس وإذا كان الغدو من بعد طلوع الشمس إلى الزوال كما قال: بعض أهل العلم فحديث أمره صلى الله عليه وسلم للركب1 أن يغدو إلى مصلاهم يدل على ذلك قال: في البحر وهي بعد انبساط الشمس إلى الزوال ولا أعرف فيه خلافا. وأما كونه لا أذان فيها وإقامة فلما ثبت في الصحيح من حديث جابر بن سمرة قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين العيدين بغير أذان ولا إقامة وثبت في الصحيحين عن ابن عباس "أنه قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى" وفي الباب أحاديث2.

_ 1 الأوولى حذف – للركب- لأن الأمر وقع للناس جميعا لأجل خبر الركب. هـ لمحرره. 2 أغفل شيخنا أبقاه الله تعالى مشروعية ترك الصلاة قبلها وبعدها، لما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عباس ذكر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها". وأخرج مسلم، وابن ماجه، عن أبي سعيد نحوه. وأخرج أحمد، والحاكم، والترمذي وصححه عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا "لا صلاة يوم =

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفات مختلفة وكلها مجزئة وإذا اشتد الخوف والتحم القتال صلاها الراكب والراجل ولو إلى غير قبلة ولو بالإيماء. أقول: صلاة الخوف قد وردت على أنحاء مختلفة قيل على ستة عشر وقيل على سبعة عشر وقيل ثمانية عشر وقيل أقل من ذلك وقد صح منها أنواع. فمنها أنه صلىبكل طائفة ركعتين فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان وهذ الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث جابر. ومنها أنه صلى بكل طائفة ركعة فكان له ركعتان وللقوم ركعة وهذه الصفة أخرجها النسائي بإسناد رجاله ثقات. ومنها "أنه صلى بهم جميعا فكبر وكبروا وركع وركعوا ورفع ورفعوا ثم سجد وسجد معه الصف الذي يليه ثم قام الصف المؤخر في نحو العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم وفعلوا كالركعة الأولى ولكنه قد صار الصف المؤخر مقدما والمقدم مؤخرا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا" وهذه الصفة ثابته في صحيح مسلم رحمه الله وغيره من حديث جابر ومن حديث أبي عياش الززقي عند أحمد وأبي داود والنسائي.

_ = العيد قبلها ولا بعدها". من خط العمراني. هـ. قلت: قال شيخنا في شرع المنتقى: ينظر في سند حديث عبد الله بن عمرو هذا. لمحرره

ومنها "أنه صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام في أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة" وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر. ومنها "أنها قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابل العدو ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت التي تليه والآخرون قيام مقابل العدو ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو وقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ثم قاموا فركع ركعة أخرى فركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعا" فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم لكل طائفة ركعتان وهذه الصفة أخرجها أحمد والنسائي وأبو داود. ومنها "أنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعة وطائفة وجاه العدو ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته فأتموا لأنفسهم فسلم بهم" وهذه الصفة ثابتة في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمه وإنما اختلف صلاته صلى الله عليه وسلم في الخوف لأنه كان في كل موطن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. وأما صلاة المغرب فقد وقع الإجماع على أنه لا يدخلها القصر1 ووقع الخلاف هل الأولى أن يصلى الإمام بالطائفة الأولى ركعتين والثانية ركعة أو العكس ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى أن عليا رضي الله عنه صلاها ليلة الهرير واختلفت الرواية في حكاية قعلة كما اختلفت الأقوال،

_ 1 ينظر: هذه الجملة، حقها في باب القصر.

والظاهر أن الكل جائز إن صلى لكل طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات وللقوم ثلاث ركعات فهو صواب قياسا على فعله في غيرها وقد تقرر صحة إمامة المتنفل بالمفترض كما سبق. وأما صلاة الخوف عند التحام القتال وهي التي يقال: لها صلاة المسايف فقد أخرج البخاري عن ابن عمر في تفسير سورة البقرة بلفظ "فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" قال: مالك قال: نافع "لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو في مسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك وقد رواه ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف صلاة الخوف وقال: " فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا" وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد ابن سفيان الهذلي وكان نحو عرنه وعرفات فقال: اذهب فاقتله قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت إني أخاف أن يكون بينى وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشى وأنا أصلى أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه الحديث" ومن البعيد أن لا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولو أنكره لذكر ذلك1.

_ 1 تحريره أن يقال: مثل هذا الأمر يبعد عدم إخبار الشارع به، فثبت أنه أخبره به، وتوفر الدواعي إلى نقل الأحكام الشرعية يمنع من عدم ذكر إنكار الشارع لو كان ثم إنكار، فثبت أنه لم ينكره وهو المطلوب. هـ. لمحرره

باب صلاة السفر

باب صلاة السفر يجب القصر على من خرج من بلده قاصدا للسفر وإن كان دون بريد وإذا قام ببلد مترردا قصر إلى عشرين يوما وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها وله الجمع تقديما وتأخير بأذان وإقامتين. أقول: أما وجوب القصر فلحديث عائشة الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر" فهذا يشعر بأن صلاة السفر باقية على الأصل فمن أتم فكأنه صلى في الحضر الثنائية أربعا والرباعية ثمانيا عمدا وثبت أيضا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصر في جميع أسفاره على القصر. وأما كونه يجب القصر على من خرج من بلده قاصدا للسفر وإن كان دون بريد فوجهة أن الله سبحانه قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] والضرب في الأرض يصدق على كل ضرب لكنه خرج الضرب أي المشي لغير السفر بما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ولا يقصر ولم يأت في تعين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفرا لغة وشرعا ومن خرج من بلده قاصدا إلى محل يعد في مسيره إليه مسافرا قصر الصلاة وإن كان ذلك المحل دون البريد ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك بحجة نيرة وغاية ما جاءوا به حديث "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذى محرم" وفي رواية " يوما وليلة"

وفي رواية بريدا. وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه والاحتجاج به مجرد تخمين وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي قال: "سألت أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" والشك من شعبة أخرجه مسلم رحمه الله وغيره. فإن قلت محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم هو كونه صلى الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا. قلت تسميته سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم مسافة ثلث سفرا كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفرا. فإن قلت أخرج الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان". قلت في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر وهو متروك وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي. وأما كونه إذا أقام المتردد ببلد قصر إلى عشرين يوما ثم يتم فوجهة أن من حط رحله بدار إقامة فقد ذهب عنه حكم السفر وفارقته المشقة فلولا أن الشارع سمى من أقام كذلك مسافرا وقال: "أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر" لما كان حكم السفر ثابتا له فالواجب الاقتصار في القصر مع الإقامة على المقدار الذي سوغه الشارع وما زاد عليه فللمسافر حكم المقيم يجب عليه أن يتم صلاته لأنه مقيم لا مسافر وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في غزوة الفتح قيل ثماني عشرة ليلة وقيل أقل من ذلك وفي صحيح البخاري وغيره تسع عشرة ليلة وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر قال: "أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة" وأخرجه أيضا

ابن حبان والبيهقي وصححه ابن حزم والنووي فوجب علينا أن نقتصر على هذا المقدار ونتم بعد ذلك ولله در الحبر ابن عباس ما أفقهه وأفهمه للمقاصد الشرعية فإنه قال: فيما رواه عنه البخاري وغيره "لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة ليلة يصلي ركعتين" قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا وإن زدنا أتممنا وأقول هذا هو الفقه الدقيق والنظر المبني على أبلغ تحقيق ولو قال: له جابر أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة نقصر الصلاة لقال: بموجب ذلك وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لدي. وأما كونه إذا عزم على إقامته أربع أتم بعدها فوجهه ما عرفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة المسافر إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع ويجب الاقتصار عليه وقد ثبت عنه مع التردد ما قدمنا ذكره أما مع عدم التردد بل العزم على إقامة أيام معينة فالواجب الاقتصار على ما اقتصر عليه صلى الله عليه وسلم مع عزمه على الإقامة في أيام الحج فإنه ثبت في الصحيحين "0أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى فلما أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة مع كونه لا يفعل ذلك إلا عازما على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج كان ذلك دليلا على أن العازم على إقامته مدة معينة يقصر إلى تمام أربعة أيام ثم يتم وليس ذلك لأجل كونه صلى الله عليه وسلم لو أقام زيادة على الأربع لأتم فإنا لا نعلم ذلك لكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم على إقامة معينة لا يقصر إلا بإذن كما أن المتردد كذلك ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك ولا ثبت عن الشارع غيره واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان وقد اضطربت فيها المذاهب اضطرابا شديدا وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا1. وأما كون للمسافر الجمع تقديما وتأخيرا بأذان وإقامتين فوجهه ما ثبت في

_ 1 أرى: هذا الذي رجحه شيخنا أبقاه الله أقوى المذاهب والله أعلم. هـ. لمحرره.

الصحيحين من حديث أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس صلى أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر1 ثم ركب" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني وحسنه الترمذي من حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعهما إلى العصر يصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار" وأخرج أحمد من حديث ابن عباس نحوه وزاد المغرب والعشاء وأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني وصحح إسناده ابن العربي وتعقب بأن في إسناده من لا يحتج بحديثه وللحديثين طرق يقوي بعضها بعض وليس فيها من المقال: ما يبطل الاحتجاج بمجموعها ومن الجمع بين المغرب والعشاء2 حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير أخر المغرب حتى يغيب الشفق ثم يجمع بينها وبين العشاء". وأما كونه بأذان وإقامتين فلثبوت ذلك في الصحيحين في جمع مزدلفة3.

_ 1 هذا لفظ الصحيحين وزيادة " والعصر" ليس في الصحيحين. هـ: تلخيص. 2 نبه ابن القيم في الهدى على أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، الجمع في السفر مطلقا، بل في حال السير. وأما وهو مقيم في المحل، فلم يكن ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا هو الذي دلت عليه هذه الأدلة وغيرها، فاستفيد منه أن مشروعية الجمع إنما ثبتت في السفر حال السير والعبور لا غير. والله أعلم. هـ. لمحرره. 3 ومما ثبت من أحكام صلاة السفر: أنه إذا صلى المسافر خلف المقيم أتم لما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما. "أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا أتم؟ فقال: تلك السنة" وأصله عند مسلم والنسائي بلفظ: " قلت لابن عباس: كيف أصلي إذا كنت في بمكة، إذا لم أصل مع الإمام؟ قال: ركعتين سنة أبي القاسم" وبوب البيهقي في سننه، باب، المقيم يصلي بالمسافر والمقيمين، ثم أخرج عن ابن عمر موقوفا: "أنه كان إذا كان مع الإمام صلى أربعا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين" وأخرجه مسلم. وأخرج أيضا عن أبي مجلز قال: "قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم - يعني المقيمين – أتجزئه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال، فضحك وقال: يصلي بصلاتهم". وقد ذهب إليه زيد بن

باب صلاة الكسوفين

باب صلاة الكسوفين هي سنة وأصح ما ورد في صفتها ركعتان في كل ركعة ركوعان وورد ثلاثة وأربعة وخمسة يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل ركعة ركوع وندب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار. أقول: أما كونه سنة فلعدم ورود ما يفيد الوجوب ومجرد الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونا وأما كون أصح ما ورد في صفتها ركعتان في كل ركعة ركوعان فلثبوت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس وأما ورود الثلاثة الركوعات في كل ركعة فثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره ومن حديث ابن عباس عند الترمذي وصححه ومن حديث عائشة عند أحمد والنسائي وأما ورود أربعة ركوعات فثبت في صحيح مسلم رحمه الله وغيره من حديث ابن عباس وأما ورود خمسة ركوعات فأخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث أبي بن كعب وأما ورود ركعتين في كل ركعة ركوع فهو في صحيح مسلم وغيره من حديث سمرة وأخرجه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم وصححه ابن عبد البر من حديث النعمان بن بشير وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث قبيصة. وأما كونه يندب الدعاء والتكبير والتصدق والاستغفار فلحديث أسماء:

_ = علي، وأحمد بن عيسى، والفريقان والله أعلم. من خط الفاضل العمراني أكرمه الله وأحسنإليه ووقاه ما يخشاه

"فإذا رأيتم ذلك فأدعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وهو في الصحيحين وفي حديث أبي موسى بلفظ "فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره" وهو في الصحيحين أيضا وفي حديث المغيرة " فإذا رأيتموهما فادعوا إليه وصلوا حتى ينجلى" وهو أيضا في الصحيحين.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء يسن عند الجدب ركعتان بعدهما خطبة تتضمن الذكر والترغيب في الطاعة والزجر عن المعصية ويستكثر الإمام ومن معه من الاستغفار والدعاء برفع الجدب ويحولون جمعيا أرديتهم. أما كونها سنة فلعدم ورود ما يدل على الوجوب وأما كونها ركعتين فلكونه خرج صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر الحديث بطوله وفيه الدعاء وتحويل الرداء وهو في سنن أيى داود وأخرجه أبو عوانة وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن وأخرج أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوما يستسقي بنا فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن" وفي الباب أحاديث بمعنى ما ذكر وهي متضمنة للدعاء برفع الجدب وبنزول المطر وتحويل الأردية من الأمام وغيره وقد روى سعيد بن منصور في سننه أن عمر استسقى فلم يزد على الاستغفار1 وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه وكان الصحابة فمن بعدهم يستسقون بأهل

_ 1موافقة لقوله جل وعز حاكيا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:10] وقوله جل ذكره: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً} [هود:3] وقوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] الآية فرضي اتلله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هديهم وطريقتهم كتاب الله تعالى. هـ.

الصلاح ولاسيما من كان من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل عمر فإنه استسقى بالعباس رضي الله عنهما ومن جملة أدعيته صلى الله عليه وسلم "اللهم أغثنا اللهم أعثنا" كما في الصحيحين من حديث أنس ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا طبقا غدقا عاجلا غير رائث" وهذا لفظ ابن ماجه من حديث ابن عباس وهذه الألفاظ ثابتة من رواية غيره من الصحابة في غير سنن ابن ماجه ومنها "اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء وأنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين" وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث عائشة ومن دعائه "اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك وأحيى بلدك الميت" إلى غير ذلك. وأما تحويل الأردية فقد روى في ذلك ما تقدم من جعل الأيمن على أيسر والأيسر أيمن وروى أنه قلبه ظهرا لبطن وحول الناس معه أخرجه أحمد من حديث عبد الله ابن زيد وأصله في الصحيح.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز مدخل ... كتاب الجنائز من السنة عيادة المريض وتلقين المحتضر الشهادتين وتوجيه وتغميضه إذا مات وقراءة يس عليه والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته والقضاء لدينه وتسجيته ويجوز تقبيله وعلى المريض أن يحسن الظن بربه ويتوب إليه ويتخلص من كل ماعليه. أقول: أما عيادة المريض فالأحاديث في مشروعيتها متواترة وقد جعلها الشارع من حقوق المسلم على المسلم ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس" وزاد مسلم "النصيحة" وزاد مسلم "النصيحة" وزاد البخاري من حديث البراء "نصر المظلوم وإبرار القسم". وأما التلقين للمحتضر فلحديث أبي سعيد الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" وفي الباب أحاديث. وأما توجيه المحتضر القبلة فلحديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقد سأل رجل عن الكبائر فقال: "هن تسع الشرك والسحر وقتل النفس وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وقد أخرج البغوى في الجعيديات من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناد أيوب بن عتبة وهو ضعيف وقد استدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "قبلتكم أحياء وأمواتا" وفيه نظر لأن المراد بقوله: "أحياء" عند الصلاة وبقوله: "أمواتا" في اللحد،

والمحتضر حي غير مصل فلا يتناوله الحديث وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي وعدم اختاصه بحال الصلاة وهو خلاف الإجماع والأولى الاستدلال بما رواه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة أن البراء ابن معرور أوصى أن يوجه إلى القبلة إذا احتضر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصاب الفطرة" وقد اختلف في الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها فقيل يكون مستلقيا ليستقبلها بكل وجهه وقيل على جنبه الأيمن وهو الأولى. وأما تغميضه إذا مات فلحديث شداد بن أوس عند أحمد وابن ماجه والحاكم والطبراني والبزار قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فاغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" وأخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فاغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر". وأما قراءة "يس" عليه فلحديث "اقرأوا على موتاكم يس" أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان وصححه من حديث معقل بن يسار مرفوعا وقد أعل وقد أخرج نحوه صاحب مسند الفردوس من حديث أبي الدرداء وأبي ذر وأخرج نحوه أيضا أبو الشيخ في فضل القرآن من حديث أبي ذر وحده قال: ابن حبان في صحيحه المراد بقوله: "اقرءوا على موتاكم يس" من حضرته المنية لا الميت وكذلك "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". وأما المبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته فلما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن دحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" وأخرج أحمد والترمذي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا بلفظ "ثلاث لايؤخرن الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا" وأما إذا كان يظن أنه لم يمت فلا يحل دفنه حتى يقع القطع بالموت كصاحب البرسام ونحوه.

وأما المبادرة بقضاء الدين فلحديث امتناعة صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الميت الذي عليه دين حتى التزم بذلك بعض الصحابة والحديث معروف وحديث "نفس المسلم معلقة بدينه حتى يقضى عنه" أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي هريرة. وأما تسجية الميت فلما وقع من الصحابة من تسجية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرد الحبرة وهو في الصحيحين من حديث عائشة وذلك لا يكون إلا لجري العادة بذلك في حياته صلى الله عليه وسلم. وأما جواز تقبيله فلتقبيله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون وهو ميت كما في حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وفي الصحيح من حديثها وحديث ابن عباس أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند موته". وأما كون على المريض أن يحسن الظن بربه فالأحاديث في ذلك كثيرة ولو لم يكن منها إلا حديث النهي عن أن يموت الميت إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى1 وحديث المريض الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف تجدك"؟ فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال: ما اجتمعا في قلب امرئ في مثل هذا الموطن إلا دخل الجنة2" أو كما قال: وأما التوبة فالآيات القرانية والأحاديث الصحيحة في ذلك لا يتسع المقام لبسطها وفي الصحيحين "إن الله تعالى يفرح بتوبة عبده وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق".

_ 1أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، بلفظ: "لا يموتن أحدكم إلا وهو محسن الظن بالله" من خط الفاضل العمراني. قلت: وأخرجه أيضا مسلم رحمه الله من حديث جابر بلفظ: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر يقول: لا يموتن إلخ" هـ. لمحرره. 2 أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه عن أنس بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ فقال أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخاف". من خط الفاضل العمراني أحسن الله إليه.

وأما التخلص عن كل ما عليه فوجوب ذلك معلوم وإذا أمكن بإرجاع كل شيء لمن هو له من دين أو وديعة أو غصب أو غير ذلك فهو واجب وإن لم يكن في الحال فالوصية المفصلة هي أقل ما يجب وقد ورد الأمر بالوصية وإنه لا يحل لأحد أن يبيت إلا وصيته عند رأسه1 كما في الأحاديث الصحيحة.

_ 1 أقول: هو في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ: "ما حق امرىء مسلم يبيت ليلة له شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده". وقد فهم منه شيخنا عدم جواز ترك كتبها لمن كان له شيء به، فلهذا قال: وإنه لا يحل. إلخ والله أعلم. هـ. لمحرره.

فصل غسل الميت

فصل غسل الميت ويجب غسل الميت المسلم على الأحياء والقريب أولى بالقريب إذا كان من جنسه وأحد الزوجين بالآخر ويكون الغسل ثلاثا أو خمسا أو أكثر بماء وسدر وفي الآخرة كافور وتقدم الميامن ولا يغسل الشهيد. أقول: أما وجوب غسل الميت على الأحياء فهو مجمع عليه كما حكى ذلك المهدي في البحر والنووي ومستند هذا الإجماع أحاديث الأمر بالغسل والترغيب فيه كالأمر منه صلى الله عليه وسلم بغسل الذي وقصته ناقته وبغسل ابنته زينب وهما في الصحيح. وأما كون القريب أولى بغسل قربيه فلحديث "ليلة أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة" أخرجه أحمد والطبراني وفي إسناده جابر الجعفي والحديث وإن كان لايصلح للاحتجاج به ولكن للقرابة مزية وزيادة حنو وشفقة توجب كمال العناية ولا شك أنها وجه مرجح مع علم القريب بما يحتاج إليه في الغسل.

وأما كون أحد الزوجين أولى بالآخر فلقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ماضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفتنك ثم صليت عليك ودفنتك" أخرجه أحمد وابن ماجه والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي وفي إسناده محمد بن إسحاق ولم ينفرد به فقد تابعه عليه صالح بن كيسان وأصل الحديث في البخاري بلفظ "ذاك لو كان وأنا حى فأستغفر لك وأدعو لك" وقالت: عائشة رضي الله عنها "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وقد غسلت الصديق زوجته أسماء كما تقدم في الغسل لمن غسل ميتا وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه وغسل علي فاطمة رضي الله عنها كما رواه الشافعي والدارقطني وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وأما كون الغسل يكون ثلاثا أو خمسا أو أكثر بماء وسدر "فلقوله صلى الله عليه وسلم للنسوة الغاسلات لابنته زينب: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أو أكثر من ذلك إن رأتين ماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا" وهو في الصحيحين من حديث أم عطية وفي لفظ لهما أيضا "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن" وفيه دليل على تفويض عدد من الغسلات إلى الغاسل وأما تقديم الميامن فلقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أم عطية هذا "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" وأما قوله: "ولايغسل الشهيد" فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من ترك غسل شهداء أحد وغيرهم ولم يرد عنه أنه غسل شهيدا وبه قال الجمهور: وأما من أطلق عليه اسم الشهيد كالمطعون والمبطلون والنفساء ونحوهم فقد حكى في البحر الإجماع أنهم يغسلون.

فصل تكفين الميت

فصل تكفين الميت ويجب تكفينه بما يستره ولو لم يملك غيره ولابأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة ويكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها وندب التطيب بدن الميت وكفنه. أقول: أما تكفينه بما يستره فلأمره صلى الله عليه وسلم بإحسان المكفن كما في حديث "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة والكفن الذي لا يستره ليس بحسن. وأما كونه يكفن ولو لم يملك غير الكفن فلأمره صلى الله عليه وسلم بتكفين مصعب بن عمير في النمرة التى لم يترك غيرها كما في الصيحيحين وغيرهما من حديث خباب ابن الأرت. وأما كونه لا بأس بالزيادة مع التمكن من دون مغالاة فلما وقع منه صلى الله عليه وسلم في كفن ابنته "فإنه كان يناول النساء ثوبا ثوبا وهو من عند الباب فناولهن الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرحت بعد ذلك في الثوب الآخر" أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية" وقد كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية ليس فيها قميص أو عمامة أدرج فيها أدراجا" وهو في الصحيحين وأخرج أبو داود من حديث علي "لا تغالوا في الكفن فإنه يذهب سريعا" والأولى أن يكون الكفن من الأبيض لحديث "البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه والشافعي وابن حبان والحاكم

والبيهقي وصححه ابن القطان وفي معناه أحاديث أخر عن عمران وسمرة وأنس وابن عمر وأبي الدرداء. وأما كونه يكفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها فقد كان ذلك صنعه صلى الله عليه وسلم في الشهداء المقتولين معه وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال: "ادفنوهم بدمائهم وثيابهم" وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: "زملوهم في ثيابهم". وأما تطيب بدن الميت وكفنه فلحديث جابر عند أحمد والبزار والبيهقي بإسناد رجاله رجال الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أجمرتم الميت فأجمروهم ثلاثا" ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: "ولاتسموه بطيب" وهو في الصحيح من حديث ابن عباس فإن ذلك يشعر أن غير المحرم يطيب لا سيما مع تعليله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإنه يبعث ملبيا".

فصل في صلاة الجنازة

فصل في صلاة الجنازة وتجب الصلاة على الميت ويقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة ويكبر أربعا أو خمسا ويقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة ويدعوا بين التكبيرات بالأدعية المأثورة ولا يصلى على الغال وقاتل نفسه والكافر والشهيد ويصلى على القبر وعلى الغائب. أقول: الصلاة على الأموات ثابتة ثبوتا ضروريا من فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه ولكنه من واجبات الكفاية لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته صلى الله عليه وسلم ولا يؤذنونه كما في حديث السوداء التي كانت تقم المسجد فإنه لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد دفنها فقال لهم: "ألا آذنتموني" وهو في الصحيح وامنتع من الصلاة على من عليه دين وأمرهم بأن يصلوا عليه.

وأما كونه يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة فلحديث أنس بن مالك أنه صلى على جنازة رجل فقام عند رأسه فلما رفع أوتي بجنازة امرأة فصلى عليها فقام وسطها فسئل عن ذلك وقيل له: أهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم مع الرجل حيث قمت ومن المرأة حيث قمت؟ قال نعم" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه ولفظ أبي داود أهكذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنائز كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال نعم" وفي الصحيحين من حديث سمرة قال: "صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها" والخلاف في مسألة معروف وهذا هو الحق. وأما كون التكبير أربعا أو خمسا فلورود الأدلة بذلك وأما الأربع فثبت ثبوتا متواترا من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأبي هريرة وابن عباس وجابر وعقبة ابن عامر والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم وأما الخمس فثبت في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها" أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن وأخرج أحمد عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر خمسا" وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابرى وهو ضعيف وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم في عدد تكبير صلاة الجنازة فذهب الجمهور إلى أنه أربع وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه خمس قال: القاضي عياض اختلف الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات إلى تسع قال: ابن عبد البر وانعقد الاجماع بعد ذلك على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ماجاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه انتهى.

وهذه الدعوى مردودة فالخلاف في ذلك معروف بين الصحابة وإلى الآن ولا وجه لعدم العمل بالخمس بعد خروجها من مخرج صحيح مع كونها زيادة غير منافية إلا أن يصح ماوراه ابن عبد البر في الاستذكار من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنازة أربعا أو خمسا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي فخرج فكبر أربعا ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على الأربع حتى توفاه الله" على أن استمراره على الأربع لا ينسخ ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الخمس مالم يقل قولا يفيد ذلك وقد أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر مرفوعا "صلوا على موتاكم بالليل والنهار والصغير والكبير والدنئ والأمير أربعا" وفي إسناده عمرو ابن هشام البيروتي تفرد به عن ابن لهيعة وأما أحق هذا بأن لا يصح ولا يثبت وقد روى البخاري عن على رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف رضي الله عنه ستا وقال: أن شهد بدرا" وروى سعيد بن منصور عن الحكم بن عتيبة "أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا". وأما كونه يقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة وسورة فلحديث ابن عباس عند البخارى وأهل السنن أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنه من السنة" ولفظ النسائي فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر فلما فرغ قال: سنة وحق" وروى الشافعي في مسندة عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلموا سرا في نفسه" قال في الفتح: وإسناده صحيح وقد أخرج عبد الرزاق والنسائي بدون قوله: "بعد التكبيرة" ولا قوله: "ثم يسلم سرا في نفسه". وأما الأدعية المأثورة فمنها ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأثنانا،

اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفته منا فتوفه على الإيمان" زاد أبو داود وابن ماجه "اللهم لاتحرمنا أجره ولاتضلنا بعده" وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم قال: وله شاهد صحيح من حديث عائشة نحوه وأخرج هذا الشاهد الترمذي وأعله بعكرمة بن عمار. وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث عوف ابن مالك قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الخطايا كما بنقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خير من أهله وزجا خير من زوجه وقد فتنة القبر وعذاب النار". وأما كونه لا يصلى على الغال فلامتناعه صلى الله عليه وسلم في غزاة خيبر من الصلاة على الغال كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأما قاتل نفسه فلحديث جابر ابن سمرة عند مسلم رحمه الله تعالى وأهل السنن أن رجلا قتل نفسه بمشاقص فلم يصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم" وأما الكافر فذلك هو المعلوم منه صلى فإنه لم بنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على كافر وقد صرح بذلك القرآن الكريم قال: الله عزوجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] وأما الشهيد فقد اختلفت الروايات في ذلك وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد" وأخرجه أيضا أهل السنن وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلى عليهم" وقد أطلت الكلام على هذا في شرح المنتقى وسردت الروايات واختلاف أهل العلم في ذلك فليرجع إليه فإن هذا المقام من المعارك. وأما كونه يصلى على القبر وعلى الغائب فلحديث "أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا" وهو في الصحيحين من حديث ابن عباس وكذلك صلاته على قبر السوداء التي كانت تقم المسجد وهو أيضا في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وصلى على قبر أم سعد وقد مضى

لذلك شهر أخرجه الترمذي وصلى على النجاشى هو وأصحابه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وأبي هريرة وهو مات في دياره بالحبشة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدنية والخلاف في الصلاة على القبر والغائب معروف ولم يأت المانع بشيء يعتد به.

فصل في المشي بالجنازة

فصل في المشي بالجنازة ويكون المشي بالجنازة سريعا والمشي معها والحمل لها سنة والمتقدم عليها أو المتأخر عنها سواء ويكره الركوب ويحرم النعي والنياحة واتباعها بالنار وشق الجيب والدعاء والويل والثبور ولا يقعد المتبع لها حتى توضع والقيام لها منسوخ. أقول: أما كون المشي سريعا فلحديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي وأبي داود والحاكم قال: "لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا" وأخرج البخاري في تاريخه قال: أسرع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ" وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسراع مستحب وقال: ابن حزم بوجوبه وذهب بعض أهل العلم إلى أن المتسحب التوسط لحديث أبي موسى قال: مرت برسول الله صلى جنازة تمخض مخيض الزق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم القصد" أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي وفي إسناده ضعف وأخرج الترمذي وأبوداود من حديث ابن مسعود قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: ما دون الخبب أي الرمل فإن كان خير عجلتموه وإن كان شرا فلا يبعد إلا أهل النار" وفي إسناده مجهول ولا يخفى عليك أن حديث أبي موسى لا يصلح للاحتجاج به على فرض عدم وجود ما يعارضه فكيف وقد عارضه ما هو في

الصحيحين بلفظ الأمر وأما حديث ابن مسعود فلا ينافي الإسراع لأن الخبب هو ضرب من العدو ومادونه إسراع. وأما كون المشي معها سنة فظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي مع الجنائز هو وأصاحبة كما يفيد ذلك الأحاديث المتقدمة في صفة المشي والأحاديث الآتية في المتقدم والتأخر على الجنازة وكحديث أبي هريرة الثابت في الصحيح " من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا" الحديث". وأما كون الحمل لها سنة فلحديث ابن مسعود قال: "من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتوطع وإن شاء فليدع" أخرجه ابن ماجه وأبو داود الطيالسي والبيهقي من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عنه وفي الباب عن جماعة من الصحابة والأحاديث يقوي بعضها بعضا ولا تقصر عن إفادتة مشروعية الحمل. وأما كون المتقدم عليها والمتأخر عنها سواء فلما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله وغيره أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وصححه أيضا الحاكم وقال: على شرط البخاري من حديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها وعن يسارها" ولفظ أبي داود "والماشى يمشى خلفها وأمامها وعن يمنيها ويسارها قريبا منها" وفي لفظ لأحمد والنسائي والترمذي "الراكب خلف الجنازة والماشى حيث شاء منها" وأخرج أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة" وصححه ابن حبان وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل والحق أن ذلك سواء ولا ينافيه رواية أنه صلى الله عليه وسلم مشى أمامها وحلفها فذلك كله سواء لأن المشي مع الجنازة إما أن يكون أمامها أو خلفها أو في جوانبها وقد أرشد إلى

ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه. وأما كون الركوب مكروها فلحديث ثوبان قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ناسا ركبانا فقال: "ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب" أخرجه ابن ماجه والترمذي وأخرج أبوداود من حديث ثوبان أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بدابته وهو مع جنازة فأبى أن يركبها فلما أنصرف أتى بدابة فركب فقيل له فقال: "إن الملائكة كانت تمشى فلم أكن لأركب وهم يمشون فلما ذهبوا ركبت" وقد خرج صلى الله عليه وسلم مع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس كما في حديث جابر ابن سمرة عند الترمذي وقال: صحيح ولا يعارض الكراهة ما تقدم من قوله: "الراكب خلف الجنازة" لأنه ممكن أن يكون لبيان الجواز مع الكراهة أو المراد بأن يكون الركب خلفها أن يكون بعيدا على وجهه لا يكون فيه صورة من يمشي مع الجنازة. وأما تحريم النعي فلحديث حذيفة عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه أن النبي صلى نهى عن النعي" وحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والنعي فإن النعي عمل الجاهلية" أخرجه الترمذي وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور وليس بالقوي في الباب أحاديث. وأما تحريم النياحة فلحديث "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث المغيرة وعلى النياحة تحمل الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه" وأخرج أحمد ومسلم من حديث أبي مالك الأشعري "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى بلفظ "أنا برئ ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة".

وأما تحريم اتباعها بنار وشق الجيب والدعاء بالويل والثبور فلحديث أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: لا تتبعوني بمجمر قالوا أوسمعت فيه شيئا؟ قال نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه ابن ماجه وفي إسناد مجهول وقد كان هذا الفعل من أفعال الجاهلية وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". وأما كونه لا يقعد المتبع لها حتى توضع فلحديث "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها فمن اتبعها فلا يجلس حتى توضع" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو وقد وردت أحاديث صحيحة في القيام للجنازة إذا مرت بمن كان قاعدا كحديث "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره وأخرج مسلم رحمه الله من حديث على رضي الله عنه قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم يعنى في الجنازة ثم قعد" وفي رواية من حديثه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار من حديث عبادة ابن الصامت أن يهوديا قال: لما كان النبي يقوم للجنازة هكذا نفعل فقال: النبي اجلسوا وخالفوهم" وفي إسناده بشر بن أبي رافع وليس بالقوي كما قال الترمذي وقال البزار تفرد به بشر وهو لين فأفاد ما ذكرناه أن القيام للجنازة إذا مرت أمر منسوخ وأما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض فمحكم لم ينسخ قال: القاضي عياض ذهب جميع السلف إلى أن الأمر منسوخ بحديث علي هذا.

فصل دفن الميت

فصل "دفن الميت" ويجب دفن الميت في حفرة تمنعه من السباع ولا بأس بالضرح واللحد أولى ويدخل الميت من مؤخر القبر ويوضع على جنبه الأيمن مستقبلا ويستحب حثو التراب من كل حضر ثلاث حثيات ولايرفع القبر زيادة على شبر والزيارة للموتى مشروعة ويقف الزائر مستقبلا للقبلة ويحرم اتخاذ القبور مساجد وتسريجها والقعود عليها وسب الأموات والتعزية مشروعة وكذلك إهداء الطعام لأهل الميت. أقول: أما مواراة جيفة الميت في قبر بحيث لا تنبشه السباع ولا تخرجه السيول المعتادة فلاخلاف في ذلك وهو ثابت في الشريعة ثبوتا ضروريا قال صلى الله عليه وسلم "احفروا وأعمقوا وأحسنوا" أخرجه النسائي والترمذي وصححه. وأما كونه لا بأس بالضرح واللحد أولى فلحديث أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح وأن أبا طلحة كان يلحد" وقد أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث أنس قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فإيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا له" وإسناده حسن فتقريره صلى الله عليه وسلم للرجلين في حياته هذا يلحد وهذا يضرح يدل على أن الكل جائز وأما أولوية اللحد فلحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أخرجه أحمد وأهل السنن وقد حسنه الترمذي وصححه ابن السكن مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف وأخرج أحمد والبزار وابن ماجه من حديث جرير ونحوه وفيه عثمان بن عمير وهو ضعيف وقد ذهب إلى ذلك الأكثر وحكى النووى في شرح مسلم اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق. وأما كونه يدخل الميت من مؤخر القبر لحديث عبد الله بن زيد "أنه أدخل.

رجلا ميتا من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة" أخرجه أبو داود وأخرج ابن ماجه من حديث أبي رافع قال: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سلا" وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس وأبو بكر اللحاد من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا" وقد روى البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة وقد ضعفها البيهقي ولا يعارض السنة ما وقع من الصحابة عند دفنه صلى الله عليه وسلم وأما كونه يوضع على جنبه الأيمن مستقبلا فهو مما لا أعلم فيه خلافا. وأما كونه يستحب الحثو ثلاثا فلحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا" أخرجه ابن ماجه وأبو داود وإسناده صحيح لا كما قال أبو حاتم وأخرج البزار والدراقطني من حديث عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على قبر عثمان بن مظعون ثلاثا" وفي الباب غير ذلك. وأما كونه لا يرفع القبر زيادة على شبر فلحديث علي رضي الله تعالى عنه عند مسلم رحمه الله تعالى وأحمد وأهل السنن أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يدع تمثالا إلا طمسه ولا قبرا مشرفا إلا سواه" وفي مسلم أيضا وغيره من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر" وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه أبراهيم ووضع عليه حصباء ورفعه شبرا". وأما مشروعية زيارة القبور فلحديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكرة الآخرة" أخرجه الترمذي وصححه وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه وفي الباب عن

حسان بن ثابت عن أحمد وابن ماجه والحاكم وعن ابن عباس عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبزار بإسناد فيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز وهي تقوي المنع من الزيارة وروي في الأثرم في سننه والحاكم حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن زيارة القبور" وأخرج ابن ماجه عنها مختصرا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور" فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله صلى الله عليه وسلم: "فزوروها" كما سبق فلا يكون في ذلك حجة لأن الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص لكنه يؤيد ما روته عائشة ما في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عنها أنها قالت: يارسول الله كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين الحديث" وروى الحاكم أن فاطمة رضي الله عنها كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة" ويجمع بين الأدلة بأن المنع لمن كانت تفعل في الزيارة ما لا يجوز من نوح وغيره والإذن لمن لم تفعل ذلك. وأما كونه يقف الزائر مستقبلا للقبلة فلحديث أنه جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلا القبلة لما خرج إلى المقبرة" أخرجه أبوداود من حديث البراء وهو صلى الله عليه وسلم خرج في هذا الحديث مع جنازة فأفاد مشروعية قعود من خرج مع الجنازة مستقبلا حتى تدفن وكذلك مشروعية الاستقبال للزائر لكونه قد خرج إلى المقبرة كما يخرج من معه جنازة وقعد كما يقعد وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول عند الزيارة "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية" فينبغي للزائر أن يقول كذلك. وأما تحريم اتخاذ القبور مساجد فالأحاديث في ذلك كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما ولها ألفاظ منها "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي لفظ "قاتل الله اليهود الحديث" وفي لفظ "لا تتخذوا قبري مسجدا" وفي آخر "لا تتخذوا قبري وثنا".

وأما تحريم زخرفتها وتسريجها فلحديث " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وفي إسناده أبو صالح باذام وفيه مقال: وأخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن جابر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه" وزاد الترمذي "وأن يكتب عليه وأن يوطأ" وصححه وأخرج النهي عن الكتابة أيضا النسائي وقال الحاكم أن الكتابة وأن لم يخرجها مسلم فهي على شرطة وأما تحريم القعود عليها فلما أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر" وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن عمرو ابن حزم قال: "رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: "لاتؤذ صاحب هذا القبر". وأما تحريم سب الأموات فلقوله صلى الله عليه وسلم "لاتسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ماقدموا" أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة وأخرج أحمد والنسائي من حديث ابن عباس "لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا" وفي إسناده صالح بن نبهان وهو ضعيف ولكنه يشهد له ماورد بمعناه من حديث سهل ابن سعد والمغيرة. وأما كون التعزية مشروعة فلحديث "من عزى مصابا فله مثل أجره" أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم من حديث ابن مسعود وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو ابن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة" ورجال إسناده ثقات وأخرج الشافعي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب" وفي إسناده القاسم بن عبيد الله بن عمرو وهو متروك.

وأخرج البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أسامة بن زيد قال:"كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحسب" فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في الصحيح ولا يعدل عنها إلى غيرها. وأما مشروعية إهداء الطعام لأهل الميت فلحديث عبد الله بن جعفر قال: "لما جاء نعي جعفر حين قتل قال: النبي صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم" أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن السكن وحسنه الترمذي وأخرج نحو أحمد والطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس أم عبد الله بن جعفر وأخرج أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث جرير قال: "كنا نعد الإجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من الناحية" ولا يعارض هذا ما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المجلد الثاني

المجلد الثاني كتاب الزكاة باب زكاة الحيوان مدخل ... كتاب الزكاة تجب في الأموال التي ستأتي إذا كان المالك مكلفا باب زكاة الحيوان إنما تجب منه النعم وهي الإبل والبقر والغنم. أقول: الزكاة هي فريضة من فرائض الدين وركن من أركانه وضرورى من ضروياته ولكنها لاتجب إلا فيما أوجب فيه الشارع الزكاة من الأموال وبينه للناس فإن ذلك هو بيان لمثل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] كما بين للناس قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] بما شرعه الله من الصلوات التي يبنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس. وقد توسع كثير من أهل العلم في إيجاب الزكاة في أموال لم يوجب الله الزكاة فيها بل صرح النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأموال بعدم الوجوب كقوله: "ليس على المرء في عبده ولافرسة صدقة" وقد كان للصحابة أموال وجواهر وتجارات وخضروات ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بتزكية ذلك ولاطلبها منهم ولو كانت واجبة

في شيء من ذلك لبين للناس ما نزل إليهم فقد أوردنا في هذا المختصر ما تجب فيه وأشرنا إلى أشياء من الأموال التي لا زكاة فيها مما قد جعله بعض أهل العلم من الأموال التي تجب فيها الزكاة كما ستسمع ذلك. وأما كونها لا تجب إلا على من كان مكلفا فاعلم أن هذه المقالة قد ينبو عنها ذهن من يسمعها فإذا راجع الإنصاف ووقف حيث أوقفه الحق علم أن هذا هو الحق وبيانه أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ولاخلاف أنه لا يجب شيء من الأربعة الأركان التي الزكاة خامستها على غير مكلف فإيجاب الزكاة عليه إن كان بدليل فما هو؟ فما جاء عن الشارع في هذا شيء مما تقوم به الحجة كما يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالاتجار في أموال اليتامى لئلا تأكلها الزكاة فلم يصح في ذلك شيء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما روي عن بعض الصحابة فلا حجة فيه وقد عورض بمثله كما روى البيهقي عن ابن مسعود قال: "من ولي مال اليتيم فليخلص عليه من السنين فإذا دفع إليه ماله أخبره بما فيه من الزكاة فإن شاء زكى وإن شاء ترك" وروى نحو ذلك عن ابن عباس وإن قال قائل: إن الخطاب في الزكاة عام كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ونحوه فذلك ممنوع وليس الخطاب في ذلك إلا من يصلح له الخطاب وهم المكلفون وأيضا بقية الأركان بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف الخطابات بها عامة فلوكان عموم الخطاب في الزكاة مسوغا لإيجابها على غير المكلفين لكان العموم في غيرها كذلك وإنه باطل بالاجماع ومااستلزم الباطل باطل مع أن تمام الآية أغنى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] يدل على وجوبها على الصبي وهوقوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فإنه لا معنى لتطهرة الصبي والمجنون ولا لتزكيته. وبالجملة فأموال العباد محرمة بنصوص الكتاب والسنة لا يحلها إلا التراضي وطيبة النفس أو ورود الشرع كالزكاة والدية والأرش والشفعة ونحو ذلك فمن زعم أنه يحل مال أحد من عباد الله سيما من كان قلم التكليف

عنه مرفوعا فعليه البرهان والواجب على المنصف أن يقف موقف المنع حتى يزجزحه عنه الدليل ولم يوجب الله سبحانه على ولى اليتيم والمجنون أن يخرج الزكاة من ماله ولا أمره بذلك ولا سوغه له بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التى تتصدع لها القلوب وترجف لعا الأفئدة. وأما كونها لا تجب الزكاة في غير الثلاثة الأنواع من الحيوانات فلأن الذي بين للناس ما نزل إليهم لم يوجبها عليهم في غيرها منها وأما ماورد من ذكر حق الله في الخيل فالمراد به الجهاد.

فصل في زكاة الإبل

فصل في زكاة الإبل إذا بلغت الإبل خمسا ففيها شاة ثم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض1 أو ابن لبون وفي ست وثلاثين ابنة لبون وفي ست وأربعين حقة وفي إحدى وستين جذعة وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة. أقول: هذا التفصيل في فرائض الصدقة هو الثابت في حديث أنس أن أبا بكر كتب لهم أن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ثم ذكر فيه ما يجب على عدد كما في هذا المختصر ثم قال: فيه فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقه فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرنا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة فتقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة

_ 1 ابنة المخاض ما بلغت حولا، وابنة لبون وابن لبون حولين، والحقة ثلاثة أعوام، والجذعة أربعة أعوام! هـ.

الحقة وليست عنده وعندة ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرنا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده إلا حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استسيرنا له او عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها وقد أخرج هذا الحديث أحمد والنسائي وأبو داود وأخرجه أيضا البخاري رحمه الله تعالى مفرقا في صحيحة قال ابن حزم هذا كتاب في نهاية الصحة عمل به الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحد وصححه ابن حبان وغيره. وقد أخرج أحمد وأبوداود والترمذي وحسنه والدراقطني والحاكم والبيهقي نحو ما اشتمل عليه المختصر من حديث الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي فأخرجها أبو بكر رضي الله عنه فعمل بها حتى توفي ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها قال: فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون بوصيته ثم ذكر الحديث.

فصل في زكاة البقر

فصل في زكاة البقر ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة1 وفي كل أربعين مسنة2 ثم كذلك. أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن،

_ 1 وهي ذات الحول 2 وهي ذات الحولين

وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبعيا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة فإذا زادت على الأربعين فلا شيء في الزائد حتى تبلغ سبعين وفيها تبيع ومسنة إلى ثمانين وفيها مسنتان ثم كذلك قال ابن عبد البر في الاستذكار: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقرة على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه.

فصل في زكاة الغنم

فصل في زكاة الغنم ويجب في أربعين من الغنم شاة إلى مائة وإحدى وعشرين وفيها شاتان إلى مائتين وواحدة وفيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة وواحدة وفيها ثم في كل مائة شاه. أقول: هذا التفصيل هو الثابت في حديث أنس وحديث أربع ابن عمر اللذين تقدم تخريجهما في باب زكاة الإبل وقد وقع الإجماع على ذلك.

فصل ولا يجمع بين متفرق من الأنعام

فصل ولا يجمع بين متفرق من الأنعام ... فصل ولا يجمع بين مفترق من الأنعام ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ولا شيء فيما دون الفريضة ولا في الأوقاص وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عور ولا عيب ولا صغيرة ولا أكولة ولا ربي ولا ماخض ولا فحل غنم. أقول: أما عدم جواز الجمع بين مفترق والفرق بين مجتمع خشية الصدقة فلنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في كتاب أبي بكر رضي الله عنه المحكى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدمت الإشارة إليه وكذلك في حديث ابن عمر حاكيا لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كما سبقت الإشارة إليه وكذا وقع التصريح بالنهي عن ذلك في غير الحديثين المذكورين فإن فيه النهي كذلك ومعنى التفريق بين

مجتمع أن يكون لثلاثة أنفار لكل واحد أربعون شاة فإذا لم يجمعوها كان على كل واحد شاة وإذا أجمعوها لم يجب فيها إلا شاة وصورة الجمع بين مفترق أن يكون لرجلين مائتا شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة ونحو ذلك من الصورة وهذا لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة ونحو ذلك من الصور وهذا على اعتبار المسرح والمراح والخلطة وإن اختلف المالكون كما دلت على ذلك الأدلة وأما كونه لا شيء فيما دون الفريضة فلا خلاف في ذلك. وأما لا شيء في الأوقاص وهي ما بين الفريضتين فلا خلاف في ذلك أيضا إلا في رواية عن أبي حنيفة وفي حديث معاذ عند أحمد وغيره أن الأوقاص لا فريضة فيها. وأما تراجع الخليطين بالسوية فلما وقع في الكتابين المذكورين من قوله صلى الله عليه وسلم: "وماكان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" والمراد أنهما إذا خلطا ما يملكانه من المواشي فبلغت النصاب أخرجا الزكاة تلك الماشية المخلوطة وكان على كل واحد منهما بحساب ماشيته وصورة ذلك أن يكون لكل واحد منهما عشرون شاة فيأخذ المصدق من الأربعين شاة من ملك أحدهما فيرجع على صاحبه بنصف قيمتها وهذا على أن مجرد خلط الشريكين لملكيها يصيرهما بمنزلة الماشية المملوكة لرجل واحد وهو الحق كما دلت على ذلك الأدلة. وأما كونها لا تؤخذ هرمة إلى آخر ماذكر فلما في كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه بلفظ "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس" وفي كتاب عمر المحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب" وفي حديث عبد الله بن معاوية الضامري مرفوعا بلفظ "ولا تعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم" أخرجه أبوداود والطبراني بإسناد جيد وأخرج مالك في الموطأ والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي أن عمر بن الخطاب نهى المصدق أن يأخذ الأكولة والربى والماخض وفحل الغنم وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي شيبة في مسنده والهرمة

الكبيرة التى قد سقطت أسنانها وذات العور بفتح المهملة وضمها قيل هي العوراء وقيل المعيبة وقد شمل قوله: ولا ذات عيب كل ما فيه عيب يعد عند العارفين بالمواشي نقصا فإنه لا يخرج في الصدقة فتدخل في ذلك الدرنة وهي بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسروة ثم نون وهي الجرباء والشرط اللئيمة هي صغار المال وشراره واللئيمة البخلية باللبن وغيرها. وأما الأكولة فهي بفتح الهمزة وضم الكاف العاقر من الشياه والربى بضم الراء وتشديد الباء الموحدة الشاة التي تربى في البيت للبنها والماخض الحامل وفحل الغنم هو الذي ينزو عليها لأن المالك يحتاج إليه وإن لم يكن من الخيار.

باب زكاة الذهب والفضة

باب زكاة الذهب والفضة هي إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر ونصاب الذهب عشرون دينارا ونصاب الفضة مائتا درهم ولا شيء فيما دون ذلك ولا زكاة في غيرهما من الجواهر وأموال التجارة والمستغلات. أقول: لا خلاف في وجوب الزكاة في الذهب والفضة مع النصاب والحول لحديث علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دارهم" أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وفي لفظ: "وليس فيما دون المائتين زكاة" وفي إسناده مقال وقد حسنه ابن حجر ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه. وأخرج أحمد ومسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أوراق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" وأخرجه أحمد والبخاري من حديث أبي سعيد. وأخرج أبو داود من حديث علي رضي الله عنه قال: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء يعني من الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار" وفي إسناده مقال ولكن حسنه ابن حجر ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه كالحديث الأول وقد وقع الإجماع على أن

نصاب الفضة مائتا درهم ولم يخالف في ذلك إلا ابن حبيب الأندلسي والخمس الأواقي المذكورة في الحديث هي مائتا درهم لأن وزن كل أوقية أربعون درهما وذهب إلى أن نصاب الذهب عشرون دينارا الجمهور وقد روى عن الحسن وطاووس ما يخالف ذلك وهو مردود وذهب إلى أعتبار الحول الأكثر. وذهب ابن عباس وابن مسعود وداود والصادق والباقر والناصر إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابا أن يزكيه في الحال تمسكا بما دل على مطلق الوجوب وهو إهمال للقيد. وأما كونها لا تجب في الجواهر كالدر والياقوت والزمرد والماس واللؤلؤ والمرجان ونحوها فلعدم وجود دليل يدل على ذلك والبراءة الأصلية مستصحبة وقد تقدم في أول كتاب الزكاة ما يفيد هذا. وأما كونها لا تجب في أموال التجارة فلما قدمنا من عدم قيام دليل يدل على ذلك وقد كانت التجارة في عصره صلى الله عليه وسلم قائمة في أنواع ما يتجر به ولم ينقل عنه مايفيد ذلك. وأما ما أخرجه أبوداود والدارقطني والبزار من حديث جابر بن سمرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأن نخرج الزكاة مما يعد للبيع" فقال ابن حجر في التلخيص: أن في إسناده جهالة. وأما مارواه الحاكم والدارقطني عن عمران مرفوعا بلفظ: "في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته" بالزاي المعجمة فقد ضعف الحافظ في الفتح جميع طرقه وقال في واحدة منها: هذا الإسناد لا بأس به ولا يخفاك1 أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى على أنه قد قال ابن دقيق العيد: أن الذي رآه في المستدرك في هذا الحديث البر بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة قال: والدارقطني رواه بالزاي

_ 1 أقول تقدم أنه لا يتعدى إلا بعلى.

لكن من طريق ضعيفة وهذا مما يوجب الاحتمال فلا يتم الاستدلال فلو فرضنا أن الحاكم قد صحح إسناد هذا الحديث كما قال المحلى في شرح المنهاج: لكان مجرد الاحتمال مسقطا للاستدلال فكيف إذا قد عورض ذلك التصحيح بتضعيف الحفاظ لما صححه الحاكم مع تأخر عصرهم عنه واستدراكهم1 عليه ويؤيد عدم الوجوب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه" وظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في جميع الأحوال وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة وهذا النقل ليس بصحيح فأول من يخالف في ذلك الظاهرية وهم فرقة من فرق الإسلام. وأما عدم وجوبها في المستغلات كالدور التي يكريها مالكها وكذلك الدواب ونحوها فلعدم الدليل كما قدمنا وأيضا حديث: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسة" يتناول هذه الحالة أعني حالة استغلالها بالكراء لهما وإن كان لا حاجة إلى الإستدلال بل القيام مقام المنع يكفي.

_ 1 وأيضا فكيف والحاكم كثير المجازفة في تصحيح الأحاديث الضعيفة من غير نظر إلى تضعيف غيره كيف وقد ضعفه غيره كما هنا! هـ.

باب زكاة النبات

باب زكاة النبات يجب العشر في الحنطة والشعير والذرة والتمر والزبيب وما كان يسقى بالمسنى منها ففيه نصف العشر ونصابها خمسة أوسق ولا شيء فيما عدا ذلك كالخضروات وغيرها ويجب في العسل العشر ويجوز تعجيل الزكاة وعلى الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم ويبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرا. أقول: أما وجوب الزكاة من هذه الأجناس فلشمول الأدلة الصحيحة لها وللتنصيص عليها في حديث أبي موسى ومعاذ حين بعثهما صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال: "لا تأخذ الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر" أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل وأخرج الطبراني عن عمر قال: "إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة فذكرها" وأخرج ابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ "إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وزاد ابن ماجه والذرة وفي إسناده محمد بن عبد الله العزرمي وهومتروك وأخرج البيهقي من طريق مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا خمسة فذكرها وأخرج أيضا من طريق الحسن فقال: "لم يفرض الصدقة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في عشرة فذكر الخمسة المذكورة والإبل والبقر والغنم والذهب والفضة" وأخرج أيضا عن الشعبي أنه قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وإنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر

والزبيب" قال البيهقي: هذه المراسيل طرقها مختلفة وهي يؤكد بعضها بعضا ومعها حديث أبي موسى رضي الله عنه ومعها قول عمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم "ليس في الخضروات زكاة" انتهى. وحديث الخضروات أخرجه الدارقطني والحاكم والأثرم في سننه أن عطاء ابن السائب قال: "أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضروات فقال له موسى بن طلحة ليس لك ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ليس في ذلك صدقة" وهو مرسل قوي وقد أخرجه الدارقطني والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بلفظ "وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فعفو عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع وروى الترمذي بعضه من حديث موسى بن طلحة عن معاذ وقد رواه ابن عدي من وجه آخر عن أنس والدارقطني من حديث علي رضي الله عنه ومن حديث محمد بن جحش ومن حديث عائشة رضي الله عنهما ورواه أيضا البيهقي عن علي رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه موقوفا وفي طريق حديث الخضروات مقال لكنه روى من طرق كثيرة يشهد بعضها لبعض فينتهض للإحتجاج به وإذا انضم إلى ما تقدم في وجوب الزكاة في تلك الأجناس الأربعة والخمسة انتهض الجميع للاحتجاج بلا شك ولا شبهة وقد رويت تلك الروايات بلفظ الحصر على تلك الأجناس كما سبق فكان ذلك هو البيان منه صلى الله عليه وسلم لما أنزله الله تعالى فلا تجب في غير ذلك من النبانات وقد ذهب إلى ذلك الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي وأيضا يمكن الجمع بطريق أخرى وهي أن هذه الأدلة المذكورة هنا مخصصة لعمومات القرآن والسنة وذلك واضح ولا يصح جعل ذلك من باب التنصيص على بعض أفراد العام لما في ذلك من الحصر تارة والنفي لما عدا ماذكر أخرى. وأما كون الواجب العشر إلا في المستثنى فنصف العشر فوجهه حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقى بالسانية نصف العشر" رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: والأنهار والعيون

وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيماسقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر" والعثرى بفتح المهملة والثاء المثلثة وكسر الراء هو الذي يشرب بعروقه وقيل الذي في سواقي الغيل1 ونحوها. وأما كون النصاب خمسة أوسق فلحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وفي رواية لأحمد وابن ماجه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الوسق ستون صاعا" وفي رواية لأحمد وأبي داود "والوسق ستون مختوما". وأما كونه لا شيء فيما عدا ذلك كالخضروات وغيرها فوجهه ماتقدم. وأما كونه يجب في العسل العشر فوجهه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من العسل العشر أخرجه ابن ماجه وقال: الدارقطني يروي عن عبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب ومثله حديث أبي سيارة عند أحمد وابن ماجه وأبي داود والبيهقي قال: "قلت يارسول الله إن لى نخلا قال: فأد العشور" وهو منقطع وأخرج الترمذي عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في العسل في كل عشرة أزقاق زق" وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ أدوا العشر في العسل وفي إسناده منير ابن عبد الله وهو ضعيف والجميع لايقصر عن الصلاحية للاحتجاج به. وأما كونه يجوز تعجيل الزكاة فلحديث علي "أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك" أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والحاكم والدارقطني والبيهقي وقد قيل إنه مرسل وقد روى عن علي بلفظ آخر من طريق أخرى أخرجها

_ 1 الغيل: الماء الجاري على وجه الأرض.

البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين" ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا وهو في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في زكاة العباس "هي علي ومثلها معها لما قيل له إنه منع من الصدقة" وقد قيل أنه كان سلف منه صدقة عامين. وأما كون على الإمام أن يرد صدقات أغنياء كل محل في فقرائهم فوجهه حديث أبي جحفية قال: "قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فينا وكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا" أخرجه الترمذي وحسنه وحديث عمران بن حصين أنه استعمل على الصدقة فلما رجع قيل له أين المال فقال: له وللمال أرسلتني أخذناه من حديث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه" أخرجه أبو داود وابن ماجه وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ "من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشرة في مخلاف عشيرته" أخرجه الأثرم وسعيد ابن منصور بإسناد صحيح وفي الصحيحين عن معاذ أن النبي لما بعث إلى اليمن قال له: "خذها من أغنيائهم وضعها في فقرائهم". وأما كونه يبرأ رب المال بدفعها إلى السلطان وإن كان جائرا فلحديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون بعدى أثره وأمور تنكروها قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" وأخرج مسلم والترمذي وصححه من حديث وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم فقال: "اسمعوا وأطعيوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" وأخرج أبو داود من حديث جابر بن عتيك مرفوعا بلفظ "سيأتكم ركب مبعوضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلإنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتهم رضاهم" وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا "ادفعوا

إليهم ما صلوا الخمس" وفي الباب آثار عن الصحابة حتى أخرج البيهقي عن عمر أنه قال: ادفعوها إليهم وإن شربوا الخمر وإسناده صحيح وأخرج أحمد من حديث أنس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله فقال: "نعم إذا أديتها إلى رسولى فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها" وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة "إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك فإن اعتدى عليك فوله ظهرك ولا تلعنه وقل اللهم إني أحتسب إليك ما أخذ مني" وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة الجمهور وأن الدفع إلى السلطان أو بأمره يجزي المالك وإن صرفها في غير مصرفها سواء كان عادلا أو جائرا.

باب مصارف الزكاة

باب مصارف الزكاة هي ثمانية كما في الآية وتحرم على بني هاشم ومواليهم وعلى الأغنياء والأقوياء المكتسبين. أقول: الآية الكريمة قد تضمنت الثمانية الأنواع الذين هم مصارف الزكاة وقد أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائى قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" وفي إسناده عد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وفيه مقال: وقد أطال أئمة التفسير والحديث والفقه والكلام على الأصناف الثمانية وما يعتبر في كل صنف والحق أن المعتبر صدق الوصف شرعا فمن صدق عليه أنه فقير كان مصرفا وكذلك سائر الأوصاف وإذا لم يكن للوصف حقيقة شرعية وجب الرجوع إلى مدلوله اللغوي وتفسيره فما وقع من الشروط والاعتبارات المذكورة لأهل العلم إن كانت داخلة في مدلول الوصف لغة أوشرعا أو الدليل يدل على ذلك كانت معتبرة وإلافلا اعتبار لشيء منها. وأما كونها تحرم على بني هاشم ومواليهم فلحديث أبي هريرة مرفوعا وفيه: "إنا لانأكل الصدقة" وفي لفظ: "إنا لاتحل لنا الصدقة" وهوفي الصحيحين وغيرهما وفي حديث أبي رافع: "أن الصدقة لاتحل لنا وأن موالى القوم من أنفسهم" أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وابن خزيمة وصححاه أيضا وفي رواية لأحمد والطحاوي من

حديث الحسن ابن علي "لا تحل لآل محمد الصدقة" وفي حديث المطلب بن ربيعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" وهو في صحيح مسلم وفي الباب أحاديث قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة وكذا حكى الإحماع أبو طالب من أهل البيت كما حكى ذلك عنه في البحر وكذا حكى ابن رسلان في شرح السنن وقد وقع الخلاف في الآل الذين تحرم عليهم الصدقة على أقوال أظهرها أنهم بنو هاشم وحكم مواليهم حكمهم في ذلك. وأما كونها تحرم على الأغنياء والأقوياء المكتسبين فوجهه مافي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة " أنها لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى" وفي لفظ لأحمد وأهل السنن من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار مرفوعا "ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" وفي بعض الأخبار "ولا لذي مرة قوي" والمرة بكسر الميم وتشديد الراء القوة وشدة العقل كذا قال الجوهري.

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر هو صاع من القوت المعتاد عن كل فرد والوجوب على سيد العبد ومنفق الصغير ونحوه ويكون إخراجها قبل صلاة العيد ومن لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته فلا فطرة عليه ومصرفها مصرف الزكاة. أقول: أما كونها صاعا من القوت المعتاد عن كل فرد فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى الصغير والكبير من المسلمين والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره "وليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر" وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون" وأخرج نحوه الدارقطني من حديث علي وفي إسناده ضعف وله طرق والخطابات في إخراجها على من ليس بمكلف إنما هي كائنة مع المكلفين وقد ذهب الجمهور منهم أحمد والشافعي إلى أنها صاع من البر وغيره وذهب بعض الصحابة إلى أن الفطرة من البر نصف صاع وقد حكاه ابن المنذر عن علي وعثمان وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهم بأسانيد صحيحة كما قال الحافظ وإليه ذهب زيد بن علي والإمام يحيى وأبو حنيفة حكى ذلك صاحب البحر وقد تمسكوا بحديث ابن عباس مرفوعا "صدقة الفطر مدان من قمح" أخرجه الحاكم وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا وفي الباب أحاديث تعضد ذلك.

وأما كون إخراجها قبل الصلاة فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس مرفوعا بلفظ " فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". وأما كونه من لا يجد زيادة على قوت يومه وليلته فلا فطرة عليه فلأنه إذا خرج قوت يومه أو بعضه كان مصرفا لا صارفا لقوله صلى الله عليه وسلم "اغنوهم في هذا اليوم" أخرجه البيهقي والدارقطني من حديث ابن عمر فإذا ملك زيادة على قوت يومه أخرج الفطرة إن بلغ الزائد قدرها ويؤيده تحريم السؤال على من ملك ما يغديه ويعشيه كما أخرجه أحمد وأبوداود من حديث سهل بن الحنظلية مرفوعا ولأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيا ولا فقيرا وقد أخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدقة الفطر صاع تمر أو صاع شعير عن كل رأس أو صاع بر أو قمح بين اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو انثى غني أو فقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم كم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى" وقد وقع الخلاف في تقدير ما يعتبر في وجوب زكاة الفطرة فقيل ملك النصاب وقيل قوت عشر وقال: مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحاق والمؤيد بالله في أحد قوليه إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكا لقوت يومه وليلته. وأما كون مصرفها مصرف الزكاة فلكونه صلى الله عليه وسلم سماها زكاة كقوله: "فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة" وقول ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر وقد تقدما ولكنه ينبغي تقديم الفقراء للأمر بإغنائهم في ذلك اليوم فما زاد صرف في سائر الأصناف.

كتاب الخمس

كتاب الخمس يجب فيما يغنم في القتال وفي الركاز ولايجب فيما عدا ذلك ومصرفه قوله: تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] الآية. أقول: أما ما يغنم في القتال فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد والسير، ولا فرق بين الأراضي والدور المأخوذة من الكفار وبين المنقولات فإن الجميع مغنوم في القتال وأما الفيء وهو ما أخذ بغير قتال فحكمه مذكور في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] والمراد بقوله: تعالى: {مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كل ما يطلق عليه اسم الغنيمة بل ما غنم بالقتال كما في النهاية وغيرها ولو بقي على عمومه لاستلزم وجوب الخمس في الأرباح والمواريث ونحوها وهوخلاف الإجماع وما استلزم الباطل باطل1. وأما وجوبه في الركاز فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" والركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره الزاي قال مالك والشافعي: الركاز دفن الجاهلية وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما: أن المعدن ركاز وخالفهم في ذلك الجمهور فقالوا: لا يقال المعدن ركاز واحتجوا بما وقع في هذا الحديث من التفرقة بينهما بالعطف وأن ذلك يدل على المغايرة وفي القاموس تفسير الركاز بالمعدن دفن الجاهلية وقال صاحب النهاية: أن الركاز يقع عليهما وأن الحديث ورد في الدفين هذا معنى كلامه. وأما كونها لا تجب فيما عدا ذلك فلعدم الإيجاب الشرعي والبقاء تحت البراءة الأصلية. وأما كون مصرفه من في الآية فكفى بها دليلا على ذلك.

_ 1 أي: فبقاء العمموم فيها باطل! هـ.

كتاب الصيام

كتاب الصيام صيام رمضان مدخل ... كتاب الصيام يجب صيام رمضان لرؤية هلاله من عدل أوكمال عدة شعبان ويصوم ثلاثين يوما مالم يظهر هلال شوال قبل إكمالها وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة وعلى الصائم النية قبل الفجر. أقول: صيام رمضان ركن من أركان الدين وضروري من ضرورياته. وأما كونه يجب الصيام عند رؤية الهلال من عدل فلصيامه صلى الله عليه وسلم وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر بأنه رآه أخرجه أبو داود والدرامي وابن حبان والحاكم وصححاه وصححه أيضا ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" وأخرج أهل السنن وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم: قال: "أتشهد أن محمد رسول الله قال نعم: قال يا بلال: "أذن في الناس فليصوموا غدا" وأخرج الدارقطني والطبراني من طريق طاوس قال: "شهدت المدنية وبها ابن عمر وابن عباس فجاء رجل إلى واليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمره أن يجيزه وقالا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشاهدة رجلين" قال: الدارقطني تفرد به حفص ابن عمر الإيلي وهو ضعيف وقد ذهب إلى العمل بشهادتة الواحد ابن المبارك وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه قال: النووى وهو الأصح وبه قال: المؤيد بالله وذهب مالك والليث والأوزعي والثوري إنه يعتبر اثنان واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وفيه "فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" أخرجه أحمد والنسائي وفي حديث أمير مكة الحارث ابن حاطب قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهيما" أخرجه

أبو داود والدارقطني وقال: وهذا إسناد متصل صحيح وغاية ما في هذين الحديثين أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد ولكن أحاديث قبول الواحد أرحج من هذا المفهوم. وأما الصيام عند إكمال عدة شعبان فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطرو لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وأما كونه يصوم ثلاثين يوما مالم يظهر هلال شوال قبل إكمالها فوجهه ماورد من الأدلة الصحيحة أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين كحديث أبي هريرة المذكور ومثله في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه ومن حديث عائشة عند أحمد وأبي داود والدارقطني بإسناد صحيح وغير ذلك من الأحاديث وفيها التصريح باكمال العدة ثلاثين يوما في بعضها عدة شعبان وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين. وأما كونه إذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة1 فوجهه الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته وهي خطاب لجميع الأمة فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لجميعهم وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره إنه استهل عليه رمضان وهو بالشام فرأى الهلال ليلة الجمعة وقدم المدنية فأخبر بذلك ابن عباس فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نكمل الصوم حتى يكمل ثلاثين أو نراه ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وله ألفاظ فغير صحيح لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار بل أراد ابن عباس أنه أمرهم باكمال الثلاثين أو يروه ظنا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل وهذا خطأ في الإستدلال أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية

_ 1 الموافقة فاعل لزم أي لزمهم الموافقة لهم في الصوم.

مذاهب وقد أوضحت المقام في الرسالة التي سميتها اطلاع أرباب الكمال على مافي رسالة الجلال في الهلال من الإختلال. وأما كون على الصائم النية قبل الفجر فلحديث حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" أخرجه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان وصححاه ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفا فالرفع زيادة يتعين قبولها على ما ذهب إليه أهل الأصول وبعض أهل الحديث وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم وخالفهم آخرون واستدلوا بما لا تقوم به الحجة. وأما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائما أن يتم صومه في يوم عاشوراء فغاية ما فيه أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار كان ذلك عذرا له عن التبييت. وأما حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ذات يوم فقال:"هل عندكم من شيء فقالوا: لا فقال: "إني إذن صائم" فذلك في صوم التطوع.

فصل في ذكر مبطلات الصوم

فصل في ذكر مبطلات الصوم يبطل بالأكل والشرب والجماع والقئ عمدا ويحرم الوصال وعلى من أفطر عمدا كفارة ككفارة الظهار ويندب تعجيل الفطر وتأخير السحور. أقول: أما بطلان الصوم بالأكل والشرب عمدا فلا خلاف في ذلك وأما مع نسيان فلا لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صيومه فالله أطعمه وسقاه" وفي لفظ الدارقطني بإسناد صحيح "فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه" وفي لفظ آخر للدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم "من أفطر

يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وإسناده صحيح أيضا وهكذا بالإجماع لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد وأما إذا وقع مع النسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيا وتمسك بقوله: في الرواية الأخرى "ومن أفطر يوما في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" وبعضهم منع من الإلحاق وأما القئ العمد فلحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القئ فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وقد حكى ابن المنذر الأجماع على أن تعمد القئ يفسد الصيام وفيه نظر فإن ابن مسعود وعكرمة وربيعة والهادي والقاسم قالوا إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالبا أو مستخرجا مالم يرجع منه شيء باختياره واستدلوا بحديث "ثلاث لا يفطرن القئ والحجامة والإحتلام" أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وعلى فرض صلاحيته للإستدلال فلا يعارض حديث أبي هريرة لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد. وأما كونه يحرم الوصال فلنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة وهو في الصحيحين وغيرهما وفي الباب أحاديث. وأما وجوب الكفارة على من أفطر عمدا فلحديث المجامع في رمضان فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هل تجد ما تعتق رقبة قال لا قال: فهل تسطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال: لا قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا قال: لا ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا قال: فهل على أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: اذهب فأطعمه أهلك" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة وقد قيل إن الكفارة لا تجب على من أفطر عامدا بأي سبب بل الجماع فقط ولكن الرجل إنما جامع امرأته فليس في الجماع في نهار رمضان إلا ما في الأكل والشرب لكون الجميع حلالا لم يحرم إلا لعارض الصوم وقد وقع

في رواية من هذا الحديث أن الرجل أفطر ولم يذكر. الجماع وأما كونه يندب تعجيل الفطر وتأخير السحور فلحديث سهل بن سعد "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لايزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" وهو في الصحيحين وغيرهما وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال أمتى بخير ماأخروا السحور وعجلوا الفطر" أخرجه أحمد في إسناده سليمان بن أبي عثمان قال: أبو حاتم مجهول وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت "إنه كان بين تسحره صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" وفي الباب أحاديث كثيرة

فصل في وجوب القضاء ورخصة الفطر للمسافر

فصل في وجوب القضاء ورخصة الفطر للمسافر يجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي والفطر للمسافر ونحوه رخصة إلاأن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم باطعام مسكين. أقول: أما وجوب القضاء على من أفطر لعذر شرعي كالمسافر والمريض فقد صرح بذلك القرآن الكريم {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وقد ورد في الحائض حديث معاذ عن عائشة وقد تقدم ذكره والنفساء مثلها. وأما كون الفطر للمسافر رخصة إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة فالأحاديث1 منها قوله: صلى الله عليه وسلم "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" لما سأله بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر وهو في الصحيحين من

_ 1 فيه حذف الرابط بين مدخول أما وجوابها والمعنى في ذلك كثير! هـ.

حديث عائشة وفي الصحيحين من حديث أنس "كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: "يارسول الله أجد منى قوة على الصوم فهل علي جناح فقال: هي رخصة من الله فمن أخذها فحسن ومن أحب أن يصوم فلاجناح عليه" وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فرأى زحاما ورجلا قد ضلل عليه فقال: ماهذا فقالوا: صائم فقال:"ليس من البر الصيام في السفر" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وأحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزيمة ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر" وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر الجمهور وقد روى عن بعض الظاهرية وهو محكى عن أبي هريرة والإمامية أن الفطر في السفر واجب وأن الصوم لا يجزئ وكذا المسافر والمرضع والحبلى لما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلي والمرضع الصوم". وأما كون من مات وعليه صوم صام عنه وليه فلحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" وقد زاد البزار لفظ إن شاء قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن وبه قال: بعض أصحاب الحديث وبعض أصحاب الشافعية وأبو ثور والصادق والناصر والمؤيد بالله والأوزعي وأحمد بن حنبل قال البيهقي في الخلافيات: هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه.

وأما كون الكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر بما ذكر فلحديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: "أنزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى أنزلت الآية التى بعدها فنسختها" وأخرج هذا الحديث أحمد وأبوداود عن معاذ بنحو ما تقدم وزاد ثم أنزل الله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: ليست هذه الآية منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعما مكان كل يوم مسكينا" وأخرج أبوداود عن ابن عباس أنه قال: له أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينا وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس أنه قال: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه" وهذا عن ابن عباس تفسير لما في القرآن مع مافيه من الإشعار بالرفع فكان ذلك دليلا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم.

باب صوم التطوع

باب صوم التطوع يستحب صيام ست من شوال وتسع من ذي الحجة ومحرم وشعبان والاثنين والخميس وأيام البيض وأفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم ويكره الصوم الدهر وإفراد يوم الجمعة ويوم السبت ويحرم صوم العيدين وأيام التشريق واستقبال رمضان بيوم أو يومين. أقول: أما صيام ست من شوال فلحديث "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر" وأخرجه مسلم رحمه الله وغيره من حديث أبي أيوب وفي الباب أحاديث. وأما صيام تسع من ذي الحجة فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث حفصة عند أحمد والنسائي قالت: "أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر" وأخرجه أبو داود بلفظ "كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وأول أثنين من الشهر والخميس" وقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت: "مارأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط" وفي رواية "لم يصم قط" وعدم رؤيتها وعلمها لا يستلزم العدم وآكد التسع يوم عرفة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية". وأما صيام شهر محرم فلحديث أبي هريرة عن أحمد ومسلم وأهل السنن "أنه سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل فقال: شهر الله

المحرم" وآكدة يوم عاشوراء لما ورد فيه من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة "أنه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه ثم قال: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر" وقد تقدم أنه يكفر سنة ماضية وقد ثبت في مسلم وغيره "أنه لما أمر بصيامه قال: وا يارسول الله إنه يوم يعظه اليهود والنصارى فقال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأما صيام شهر شعبان فلحديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان" أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وفي الصحيحين من حديث عائشة ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله" وفي لفظ "وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان". وأما الإثنين والخميس فلحديث عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الأثنين والخميس" أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه وأخرج نحوه أبو داود من حديث أسامة بن زيد وأخرجه النسائي أيضا وفي إسناد مجهول مع أنه قد صححه ابن خزيمة وأخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعرض الأعمال كل أثنين وخميس فأحب أن يعرض عملى وأنا صائم" وفي صحيح مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه وأنزل على فيه". وأما صوم أيام البيض فلحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال: نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله" وأخرج النسائي والترمذي وابن حبان وصححه من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" وفي الباب أحاديث.

وأما كون أفضل التطوع صوم يوم وإفطار يوم فلحديث عبد الله بن عمرو في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صم في كل شهر ثلاثة قلت إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخى داود عليه السلام". وأما كونه يكره صوم الدهر فلحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج أحمد وابن حبان وابن حزيمة والبيهقي وابن أبي شيبة من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جنهم هكذا" وقبض كفه ولفظ ابن حبان "ضيقت عليهم جنهم هكذا وعقد تسعين" ورجاله رجال الصحيح. وأما كونه يكره إفراد يوم الجمعة فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة" وفي رواية "أن يفرد بصوم" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "لاتصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده" وفي لفظ لمسلم "ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم أحدكم" وفي الباب أحاديث. وأما كراهة يوم السبت بالصوم فلحديث الصماء بنت بشر عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لاتصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه". وأماكونه يحرم صوم العيدين فلحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن صوم يومين يوم الفطر ويوم النحر" وقد أجمع المسلون على ذلك.

وأما كونه يحرم صوم أيام التشريق فلنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصوم فيها كما ثبت ذلك من طريق جماعة من الصحابة وقد سردت أحادثيهم في شرح المنتقى. وأما كونه يحرم استفبال رمضان بيوم أو يومين فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل يصوم صوما فليصمه" ويؤيده حديث أبي هريرة أيضا عن أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره مرفوعا بلفظ "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" وفي الباب أحاديث والخلاف طويل مبسوط في المطولات.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف يشرع في كل وقت في المساجد وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر ويستحب الاجتهاد في العمل فيها وقيام ليالي القدر ولا يخرج المعتكف إلا لحاجة. أقول: لاخلاف في مشروعية الاعتكاف وقد كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة. وأما كونه يصح في كل وقت في المساجد فلأنه ورد الترغيب فيه ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك". وأما كونه لا يكون إلا في المساجد فلأن ذلك هو معنى الاعتكاف شرعا إذ لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفا شرعا وقد ورد ما يدل على ذلك كحديث "لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة" أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من حديث حذيفة. وأما كون الاعتكاف في رمضان لا سيما كون العشر الأواخر منه أفضل وآكد فلكونه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فيها ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر ولا على اشتراط الصيام إلا من قول عائشة وحديث ابن المتقدم يرده وكذلك حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا

أن يجعله على نفسه" أخرجه الدارقطني والحاكم وقال: صحيح الإسناد ورجح الداراقطني والبيهقي وقفه وبالجملة فلا حجة إلا في الثابت من قوله: صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعا من حديث "ولا اعتكاف إلابصوم" ورواه غيره من قولها ورجح ذلك الحفاظ. وأما مشروعية الاجتهاد في العمل فلحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله وأيقظ أهله وشد المئزر وهو في الصحيحين وغيرهما. وأما مشروعية قيام ليالي القدر فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وفي تعين ليلة القدر أحاديث مختلفة وأقوال جاوزت الأربعين وقد أستوفيت ذلك في شرح المنتقى فليرجع إليه. وأما كون المعتكف لا يخرج إلا لحاجة فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في الصحيحين أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا وأخرج أبو داود عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر بالمريض وهو معتكف كما هو ولا يعرج يسأل عنه وفي إسناده ليث بن أبي سليم قال: الحافظ والصحيح عن عائشة من فعلها أخرجه مسلم رحمه الله وغيره وقال: صح ذلك عن علي وأخرج أبو داود عن عائشة أيضا قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع وأخرجه أيضا النسائي وليس فيه قالت: "السنة" قال: أبو داود غير عبد الحمن بن اسحاق لا يقول قالت: فيه السنة وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها.

كتاب الحج

كتاب الحج الحج مدخل ... كتاب الحج يجب على كل مكلف مستطيع فورا. أقول أما اعتبار الإستطاعة فلنص الكتاب العزيز {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] . وأما كونه فورا فلحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعارض له" أخرجه أحمد وأخرج أحمد أيضا وابن ماجه من حديث ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة" وفي إسناده إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل وهو صدوق ضعيف الحقظ وأخرج أحمد وأبو يعلي وسعيد بن منصور والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا "من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا" وفي إسناده ليث بن أبي سليم وشريك وفيهما ضعف وأخرج الترمذي من حديث علي مرفوعا "من ملك زادا وراحلة يبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] قال الترمذي: غريب وفي إسناده مقال: والحديث يضعف وهلال بن عبد الله الراوى له عن ابن إسحاق مجهول وقال العقيلي: لا يتابع عليه وروى من طريق ثالثة من حديث أبي هريرة عند ابن عدوى نحوه وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين" وأخرجه أيضا البيهقي وقد ذهب إلى القول بالفور مالك وأبو حنيفة وأحمد وبعض أصحاب الشافعي ومن أهل البيت زيد ابن علي والمؤيد بالله والناصر وقال: الشافعي والأوزعي وأبو يوسف ومحمد ومن أهل البيت القاسم بن إبراهيم وأبو طالب إنه على التراخي.

فصل في وجوب تعيين الحج بالنية

فصل في وجوب تعيين الحج بالنية يجب تعيين نوع الحج بالنية من تمتع أو قران أو إفراد والأول أفضلها ويكون الإحرام من المواقيت المعروفة ومن كان دونها فمهله أهله حتى أهل مكة من مكة. أقول: أما تعيين الحج بالنية فلما تقدم في الوضوء وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهل بحج أو عمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت: وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج وأهل به ناس معه وأهل ناس معه بالعمرة والحج وأهل ناس بعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة" وفي البخاري من حديث جابر أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: "بيداؤكم هذه التى تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد" يعني مسجد ذي الحليفة وقد وقع الخلاف في المحل الذي أهل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب اختلاف الرواة فمنهم من روى أنه أهل من المسجد ومنهم من روى أنه أهل حين استقلت به راحلته ومنهم من روى أنه أهل لما علا شرف البيداء وقد جمع بين ذلك ابن عباس فقال: إنه أهل في جميع هذه المواضع فنقل كل راو ما سمع. وأما كون التمتع أفضل الأنواع الثلاثة فاعلم أن هذه المسألة قد طال فيها النزاع واضطربت فيها الأقوال فمنهم من قال: إن أفضل أنواعه القران لكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على ماهو الصحيح وإن كان قد ورد ما يدل على أنه حج إفراد لكن الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق عدة مصرحة بأنه أهل بحجة وعمرة فلولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن غير ما فعله أفضل مما فعله لكان القران أفضل الأنواع لكنه ورد ما يدل على ذلك،

ففي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج" وثبت مثل ذلك من حديث جماعة من الصحابة بألفاظ منها "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ماسقت من الهدي ولجعلتها عمرة" وقد ذهب إلى هذا جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كمالك وأحمد ومن أهل البيت الباقر والصادق والناصر وإسماعيل وموسى ابن جعفر الصادق والإمامية وهو الحق لأنه لم يعارض هذه الأدلة معارض قفد أوضح فيها صلى الله عليه وسلم أن نوع التمتع أفضل من النوع الذي فعله وهو القران وقد أوضحت حجج الأقوال وما احتج به كل فريق في شرح المنتقى وكذلك أوضحت أن حجه صلى الله عليه وسلم كان قرانا فليرجع إليه. وأما كون الإحرام من المواقيت فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدنية ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة" فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها ومثله في الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر وفي رواية من حديث لأحمد أنه قاس الناس ذات عرق بقرن" وفي البخاري من حديثه أن عمر قال: لأهل البصرة والكوفة أنظروا حذو قرن من طريقكم" قال: فحد لهم ذات عرق.

فصل في محظورات الإحرام

فصل في محظورات الإحرام ولا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوب مسه ورس أو زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين وما مسه الورس والزعفران ولا تطيب ابتداء ولا يأخذ من شعره أو بشره إلا لعذر ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل ولا ينكح ولا يخطب ولا يقتل صيدا ومن قتل فعليه جزاء مثل ماقتل من النعم يحكم به ذوا عدل ولا يأكل ما صاد غيره إلا إذا كان الصائد حلالا ولم يصده لأجله ولا يعضد من شجر الحرم إلا الأذخر ويجوز له قتل الفواسق الخمس وصيد حرم المدنية وشجرة كحرم مكة إلا أن قطع من شجره أو خبطة كان سلبه حلالا لمن وجده ويحرم صيد وج وشجرة. أقول: أما كون المحرم لا يلبس تلك الأمور فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم فقال: لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" قال: القاضي عياض أجمع المسلمون على أن ماذكر في هذا لحديث لا يلبسه المحرم. وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل" وفي الصحيحين نحوه من حديث ابن عباس. وأخرج أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" وزاد أبو داود والحاكم والبيهقي "وما مس الورس والزعفران من الثياب" والقفاز:

بضم القاف وتشديد الفاء وبعد ألف زاى ما تلبسه المرأة في يديها فيغطي أصابعها وكفها عند معاناة شيء. وأما كون المحرم لا يتطيب أبتداء ويجوز له أن يستمر على الطيب الذي كان على بدنه قبل الإحرام فذلك هو الراجح جمعا بين الأدلة وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقى. وأما كونه لا يأخذ من شعره أو بشره إلا لعذر فلحديث كعب بن عجرة في الصحيحين وغيرهما قال: "كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ماكنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى أتجد شاة قلت لا فنزلت {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] قال: هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين". وأما كونه لا يرفث ولا يقسق ولا يجادل فلنص القرآن وهذه الأمور لا تحل للحلال ولكنها مع الاحرام أغلظ. وأما كون المحرم لا ينكح ولا ينكح فلحديث عثمان الثابت في مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب" وفي الباب أحاديث وأما ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم" فقد عارضه ما في صحيح مسلم وغيره من حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال" وما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا" وكان أبو رافع السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة رضي الله عنها وهما أعرف بذلك وعلى فرض صحة1 خبر ابن عباس ومطابقته للواقع فلا يعارض الأحاديث المصرحة بالنهي بل يكون هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وأما كونه لا يقتل صيدا فقد ورد بذلك القرآن الكريم فإذا قتل صيدا

_ 1 صوابه وعلى فرض عدم وهم ابن عباس إذ الصحة ثابتة له! هـ. هامش الأصل.

فعليه الجزاء يحكم به ذوا عدل كما قال الله سبحانه وأما كونه لا يأكل ما صاد غيره إلى آخره فلحديث الصعب بن جثامة في الصحيحين وغيرهما أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرد عليك إلا أنا حرم" وأخرج مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من صيده الذي صاده وهو حلال" وكان النبي محرما فأكل عضد حمار الوحش الذي صاده وجمع بين حديث الصعب وحديث أبي قتادة بأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من أكل صيد الصعب لكونه صاده لأجله وأكل من صيد أبي قتادة لكونه لم يصده لأجله ويدل على ذلك حديث جابر عند أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم مالم تصيدوه أو يصد لكم". وأما كونه لا يعضد من شجر الحرم إلا الإذخر فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرام لا يعصد شجره ولا يختلي خلاؤه ولا ينفر في صيده ولا تلتقط لقتطه إلا لمعرف" قال العباس إلا الإذخر فإنه لا بد لهم منه فإنه للقبور والبيوت فقال: إلا الأذخر وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة. وأما كونه يجوز قتل الفواسق الخمس فلحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم الغراب والجرأة والعقرب والكلب العقور" وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب ليس في قتلهن جناح" وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث ابن عمر زيادة الحية وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد بإسناده فيه ليث ابن أبي سليم. وأما كون صيد المدينة وشجره كحرم مكة فلحديث على رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدنية حرام ما بين عير إلى ثور" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي الصحيحين أيضا من حديث عبادة ابن تميم أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدنية كما حرم إبراهيم مكة" وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة. وأما كون من قطع شجر المدنية أو خبطة سلب فلحديث سعد بن أبي وقاص "أنه ركب إلى قصر بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذه من غلامهم فقال معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم" أخرجه مسلم وأحمد وفي لفظ لأحمد وأبي داود والحاكم وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه". وأما تحريم صيد وج وشجره وعضاهه فلحديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله عز وجل" أخرجه أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وحسنه المنذري وصححه الشافعي ووج بفتح الواو وتشديد الجيم واد بالطائف وقد ذهب إلى ما في الحديث الشافعي والإمام يحيى وهو الحق ولم يأت من قدح في الحديث بما في يصلح للقدح المستلزم لعدم ثبوت التكليف بما تضمنه.

فصل في ما يجب عمله أثناء الطواف

فصل في ما يجب عمله أثناء الطواف وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول ويمشي فيما بقي ويقبل الحجر الأسود أو يستلمه بمحجن ويقبل المحجن ونحوه ويستلم الركن اليماني ويكفي القارن طواف واحد وسعى واحد ويكون حال الطواف متوضئا ساترا لعورته والحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت ويندب الذكر حال الطواف

بالمأثور وبعد فراغه يصلى ركعتين في مقام إبراهيم ثم يعود إلى الركن فيستلمه. أقول: شرع الطواف في الأصل لإغاظة المشركين كما في حديث ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا مابين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها الإبقاء عليهم" متفق عليه وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا" وفي لفظ رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمر أنه قال: فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد ذهب الجمهور إلى فرضية الطواف للقدوم وقال: أبو حنيفة سنة وروى عن الشافعي أنه كتحية المسجد والحق الأول لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وأما تقبيل الحجر الأسود1 ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه كان يقبل الحجر ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" وأخرج أحمد وابن والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق وفي الباب أحاديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع على بعير يستلم الركن بمحجن" وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي الطفيل وزاد "ويقبل المحجن"،

_ 1 أي واستلامه واستلام الركن اليماني لأنه سرد أحاديث الكل.

وأخرج أحمد من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عمر إنك رجل قوي ولا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" وفي إسناده مجهول وأخرج أحمد والنسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا " وفي إسناده عطاء بن السائب وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين" وأخرج البخاري في تاريخه وأبو يعلى من حديث ابن عباس كان رسول الله ثلى يقبل الركن اليماني" وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف وأخرج أحمد وأبو داود من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه". وأما كونه يكفي القارن طواف واحد وسعى واحد فلكونه صلى الله عليه وسلم حج قرانا على الأصح واكتفى بطواف واحد للقدوم وبسعي واحد ولادليل على وجوب طوافين وسعيين وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد" وقد حسنه الترمذي. وأما أنه يكون حال الطواف متوضئا ساترا لعورته فلما في الصحيحين من حديث عائشة أن أول شيء بدأ به النبي حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت" وفيهما أيضا من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يطوف بالبيت عريان". وأما كون الحائض تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف في البيت فلحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحائض تقضى المناسك كلها إلا الطواف" أخرجه أحمد وأخرج نحوه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر ولحديث عائشة أيضا في الصحيحين وغيرهما أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم لما حاضت: "افعلى ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي". وأما كونه يندب الذكر حال الطواف بالمأثور فلحديث عبد الله ابن السائب قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر ربنا آتنا في الدنيا

حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكل به يعني الركن اليماني سبعون ملكا فمن قال: اللهم إني سألك العفو والعافية في الدنيا وفي الآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين" أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش وهشام بن عمار وهما ضعيفان وأخرج ابن ماجه أيضا من حديثه أنه سمعه يقول "من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولاحول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات" وفي إسناده من تقدم في الحديث الأول وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى" وفي الباب أحاديث. وأما كونه بعد فراغه يصلى ركعتين في مقام إبراهيم فلحديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] ثم عاد إلى الركن فاستلمه.

فصل في وجوب السعي بين الصفا والمروة

فصل في وجوب السعي بين الصفا والمروة ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعيا بالمأثور وإذا كان متمتعا صار بعد السعي حلالا حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج. أقول: أخرج أحمد والشافعي من حديث حبيبة بنت أبي تجزأة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف وله طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني عن ابن عباس.

وأخرج أحمد نحو من حديث صفية بنت شيبة وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما يشاء أن يدعو" وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث جابر رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم دعا بين ذلك فقال: مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى ختى أتى المروة ختى ففعل على المروة مثل ما فعل على الصفا" وقد ذهب الجمهور إلى أن السعي فرض وعند الحنفية أنه واجب يجبر بالدم. وأما كونه يصير للمتمتع بعد السعي حلالا فلقول عائشة حاكية لحجهم مع النبي صلى الله عليه وسلم "فأما من أهل بعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة" وهو في الصحيحين وغيرهما وفيهما أيضا من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى من حديثه أيضا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح"

فصل في بيان مناسك الحج

فصل في بيان مناسك الحج ثم يأتي عرفة يوم عرفة ملبيا مكبرا ويجمع العصرين فيها ويخطب ثم يفيض من عرفة ويأتى المزدلفة ويجمع فيها بين العشاءين ويبيت بها ثم يصلي الفجر ويأتي المشعر فيذكر الله عنده ويقف به إلى قبل

طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن محسر ثم يسلك الطريق الوسطى إلى الجمرة التى عند الشجرة وهي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك ويحلق رأسه أو يقصره فيحل له كل شيء إلا النساء ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات مبتدئا بالجمرة الدنيا ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم يوم النحر وفي وسط أيام التشريق ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر وإذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع. أقول: أخرج أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني من حديث عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مناديا فنادى الحج عرفة" وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة وهي منزل الإمام الذي ينزل به حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة" وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال: لما كان يوم التروية توجهوا" إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع بالجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادى فخطب الناس فقال: "إن دمائكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين

دفعوا عليكم السكنية وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا" وفي حديث جابر عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس ختى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ومنها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أيضا قال: رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس" وفيهما أيضا من حديث ابن مسعود "أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمنيه ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة" وفي رواية "حتى انتهى إلى جمرة العقبة" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفه أهله" وفيهما أيضا من حديث عائشة قالت: كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل" وفي الباب أحاديث في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزلة بمنى ونحر ثم قال للحلاق: "خذ وأشار إلى جانبة الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين قالوا: يارسول الله وللمقصرين قال: "اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال: "اللهم اغفر للمحلقين قالوا وللمقصرين قال: "وللمقصرين" أخرج أحمد أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء" وفي الصحيحين وغيرهما ومن حديث ابن عمر قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يارسول الله حلقت قبل أن أرمي قال: "أرم ولا حرج" وأتاه رجل آخر فقال: "ذبحت قبل أن أرمي قال: "أرم ولا حرج" وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" وفي رواية فيهما "فما سئل عن شيء يومئذ إلا قال: "افعل ولا حرج" أخرجه أحمد من حديث علي قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقت قبل أن أنحر قال: "انحر ولا حرج" ثم أتاه آخر فقال: إني أفضت قبل أن أحلق قال: "احلق أو اقصر ولا حرج" وفي لفظ للترمذي وصححه قال: إني افضت قبل أن أحلق وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لاحرج" وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاه ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمى الثالثة ثم لا يقف عندها" وعن ابن عباس قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس" رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه وفي البخاري عن ابن عمر كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا" وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا" وفي لفظ عنه أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" أخرجه أحمد وأبو داود وفي الصحيحين من حديث ابن عباس وابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي من أجل سقايته فأذن له" وفي البخاري وأحمد من حديث ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيستهل ويقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعوا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ويقوم مستبقل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من

بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن بعد الغداة ليومين ثم يرمون يوم النفر" وأخرج أحمد والنسائي عن سعد بن مالك قال: "رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعضنا يقول رميت سبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست حصيات ولم يعب بعضهم على بعض" ورجاله رجال الصحيح. وأما استحباب الخطبة في يوم النحر لمن حج بالناس فلحديث الهرماس بن زياد قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته الغضباء يوم الأضحى" أخرجه أحمد وأبو داود وأخرج نحوه أيضا أبو داود من حديث أبي أمامة وأخرج نحوه أيضا هو والنسائي من حديث عبد الرحمن ابن معاذ التيمي وأخرجه البخاري وأحمد من حديث أبي بكرة وفيه أنه قال: "فإن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت قالوا نعم قال: اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وأما استحباب الخطبة في وسط أيام التشريق فلحديث بسرة ابنة نهبان قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس فقال:"أي يوم هذا"؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال: "أليس أوسط أيام التشريق" أخرجه أبو داود ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أحمد من حديث أبي بصرة ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أبو داود عن رجلين من بني بكر. وأما أن الحاج يطوف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر يوم النحر بمنى" وفي صحيح مسلم من حديث نحوه والمراد بقوله: أفاض أي طاف طواف الإفاضة قال النووى: وقد

أجمع العلماء علىأن هذا الطواف وهوطواف الإفاضة ركن من أركان الحج لايصح إلابه واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأ ولادم عليه بالاجماع. وأما أنه إذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع فلحديث ابن عباس عند مسلم رحمه الله وغيره قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" وفي لفظ للبخاري ومسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلاأنه خفف عن المرأة الحائض" وفي الباب أحاديث وإلى وجوب طواف الوداع ذهب الجمهور وقال: مالك وداود وابن المنذر هو سنة لاشيء في تركه.

فصل في بيان أفضل أنواع الهدي

فصل في بيان أفضل أنواع الهدي والهدي أفضله البدنة ثم البقرة ثم الشاة وتجزئ البقرة والبدنة عن سبعة ويجوز للمهدي أن يأكل من لحم هديه ويركب عليه ويندب إشعاره وتقليده ومن بعث بهدي لم يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم. أقول: أما كون البدنة أفضل فلأنه صلى الله عليه وسلم كان يهدي البدن ولأنها أنفع للفقراء وكذا البقرة بالنسبة إلى الشاة وهذا إذاكان الذي سيهدي البدنة والبقرة واحدا أما إذا كانوا جماعة بعدد ما تجزئ عنه البدنة والبقرة فقد وقع الخلاف هل الأفضل لسبعة البدنة أو البقرة أو الشاة عن الواحد والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للقفراء. وأما كون البدنة عن سبعة كالبقرة فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنه" وفي لفظ لمسلم رحمه الله "فقيل لجابر أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور فقال: ماهي إلا من البدن" وأخرج أحمد وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: أنا على بدنة وأنا موسر ولا أجدها فأشتريها فأمره

النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن" ورجاله رجال الصحيح ولا يعارض هذا الحديث حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه قال: كنا في سفرة فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة" وكذلك لا يعارضه ما في الصحيحين من حديث أبي رافع بن خديج أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير" لأن تعديل البدنة بسبع شياه هو في الهدي وتعديلها بعشر هو في الأضحية والقسمة وقد ذهب الجمهور إلى أن عدل البدنة في الهدي سبع شياه وادعى الطحاوى وابن رشد أنه إجماع ولا تصح هذه الدعوى فالخلاف مشهور وأما كونه يجوز للمهدي أن يأكل من الهدى فلحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها" أخرجه أحمد ومسلم وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه دخل عليها يوم النحر بلحم بقر فقالت: ما هذا فقيل نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه" قال: النووي وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة انتهى والظاهر أنه لا فرق بين هدي التطوع وغيره لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28] وأما كون للمهدي أن يركب هديه فلحديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يسوق بدنه فقال: "اركبها" فقال: إنها بدنة فقال: "اركبها" فقال: أنها بدنة قال: "اركبها" قال: إنها بدنة قال: "اركبها" وفيهما نحوه من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث جابر رضي الله عنه أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد لها ظهرا". وأما كونه يندب إشعاره وتقليده فلحديث ابن عباس عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين. وأما كونه لا يحرم على من بعث بهدي شيء فلحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدي من المدينة ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم".

باب العمرة المفردة

باب العمرة المفردة يحرم لها من الميقات ومن كان في مكة خرج إلى الحل ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر وهي مشروعة في جميع السنة. أقول: أما كونه يحرم لها من الميقات فظاهر لأن الإحرام لها كالإحرام للحج وقد تقدمت الأدلة في ذكر المواقيت. وأما كون من في مكة يخرج إلى الحل فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن ابن أبي بكر أن يخرج عائشة إلى التنعيم فتحرم للعمرة منه" وأما الطواف والسعي والحلق والتقصير فلا خلاف في ذلك وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة أنه أمر من لم يكن معه هدي بالطواف والسعي والحلق أو التقصير فمن فعل ذلك فقد حل الحل كله فواقعوا النساء بعد ذلك". وأما كون العمرة مشروعة في جميع السنة فلحديث عائشة عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال" وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته" ومن ذلك عمرة عائشة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم فإن ذلك كان مع حجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أهل الجاهلية يحرمون العمرة في أيام الحج فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم واعتمر وأمر بالعمرة فيها وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمرة في رمضان تعدل حجة"

كتاب النكاح

كتاب النكاح مشروعيته ... كتاب النكاح يشرع لمن استطاع الباءة وبجب على من خشى الوقوع في المعصية والتبتل غير جائز إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه وينبغي أن تكون المرأة ودودا ولودا بكرا ذات جمال وحسب ودين ومال وتخطب الكبيرة إلى نفسها والمعتبر حصول الرضاء منها لمن كان كفؤا والصغيرة إلى وليها ورضاء البكر صماتها وتحرم الخطبة في العدة وعلى الخطبة ويجوز النظر إلى المخطوبة ولا نكاح إلا بولى وشاهدين إلا أن يكون عاضلا أو غير مسلم ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح ولو واحدا. أقول: أما مشروعية لمن استطاع الباءة فلما ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا مشعر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" والمراد بالباءة النكاح والأحاديث الواردة في الترغيب في النكاح كثيرة. وأما وجوبه على من خشي الوقوع في المعصية فلأن اجنتاب الحرام واجب وإذا لم يتم الاجنتاب إلا بالنكاح كان واجبا وعلى ذلك تحمل الأحاديث المقتضية لوجوب النكاح كحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعضهم لا أتزوج وقال: بعضهم أصلى ولا أنام وقال: بعضهم أصوم ولا أفطر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأخرج ابن ماجه والترمذي من حديث الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن التبتل" قال: الترمذي إنه حسن غريب قال: وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة ويقال: كلا الحديثين صحيح انتهى وفي سماع الحسن عن

سمرة مقال: معروف وأخرج النهي عن التبتل أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أنس وأخرج ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني". وأما عدم جواز التبتل فلما تقدم وأما جوازه مع العجز عن القيام بما لا بد منه فلما ثبت في الكتاب العزيز من النهي عن مضارة النساء والأمر بمعاشرتهن بالمعروف فمن لا يستطيع ذلك لم يجز له أن يدخل في أمر يوقعه في حرام وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في العزبة والعزلة. وأما كونه ينبغي أن تكون المرأة ودودا ولودا وبكرا ذات جمال وحسب ودين ومال فلحديث أنس عند أحمد وابن حبان وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" وأخرج نحوه أحمد من حديث ابن عمرو وفي إسناده جرير بن عبد الله العامري وقد وثق وفيه ضعف وأخرج نحوه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث معقل بن يسار وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "تزوجت بكرا أم ثيبا قال: ثيبا قال: هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك". وأما كونها تخطب الكبيرة إلى نفسها فلما في صحيح مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أم سلمة يخطبها. وأما كون المعتبر حصول الرضا منها فلحديث ابن عباس عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة نحوه وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عباس أن

جارية بكرا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحافظ ورجال إسناده ثقات وروى نحوه من حديث جابر أخرجه النسائي ومن حديث عائشة أخرجه أيضا النسائي وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي زوجنى ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء" ورجاله رجال الصحيح وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة. وأما اعتبار الكفاءة فلحديث علي عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا تؤخر الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا" وأخرج الحاكم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة حي لحي ورجل لرجل إلا حائك أو حجام" وفي إسناده رجل مجهول وقال: أبو حاتم إنه كذب لا أصل له وذكر الحافظ أنه موضوع ولكن رواه البزار في مسنده من طريق أخرى عن معاذ بن جبل رفعه "العرب بعضها أكفاء لبعض" وفيه سليمان بن أبي الجون ويغني عن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة "خيارهم1 في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وقد أخرج الترمذي من حديث أبي حاتم المزنى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقة فأنحكوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" قالوا وإن كان فيه قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنحكوه ثلاث مرات" وقد حسنه الترمذي وأخرج الدارقطني عن عمر أنه قال: "لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء". وأما كون الصغيرة تخطب إلى وليها فلما في صحيح البخاري رحمه الله

_ 1 و (2) هكذا في الأصل خيارهم ولعل الصواب خياركم.

تعالى وغيره عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه". وأما كون رضا البكر صماتها فلما تقدم من الأحاديث الصحيحة. وأما كونها تحرم الخطبة في العدة فلحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله صلى سكنى ولا نفقة وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حللت فآذنينى فآذنته" الحديث وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] قال: يقول أريد التزويج ولوددت أنه يسر لى امرأة صالحة" وأخرج الدارقطني عن محمد بن على الباقر أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي أيمة أبي سلمة فقال: علمت أني رسول الله وخيرته من خلقه وموضعى من قومي وكانت تلك خطبته" والحديث منقطع قال: في الفتح واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن وكذا من وقف نكاحها وأما الرجعية فقال: الشافعي لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها والحاصل أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح في الأولى وحرام في الأخيرة مختلف فيه البائن. وأما المنع من خطبة على الخطبة فلحديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" وأخرج أيضا من حديث ابن عمر "لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له" وقد ذهب إلى تحريم ذلك الجمهور. وأما كونه يجوز النظر إلى المخطوبة فلحديث المغيرة عند أحمد والنسائي

وابن ماجه والترمذي والدارمي وابن حبان وصححه أنه خطب امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" الحديث. وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها"؟ قال: لا قال: "فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا" وفي الباب أحاديث. وأما كونه لا نكاح إلا بولي فلحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي" وحديث عائشة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وأبي عوانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بعا فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" وفي الباب أحاديث قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ثم سرد تمام ثلاثين والولي عند الجمهور هو الأقرب من العصبة ورورى عن أبي حنيفة أن ذوى الأرحام من الأولياء. وأما اعتبار الشاهدين فلحديث عمران بن حصين عند الدارقطني والبيهقي في العلل وأحمد في رواية ابنه عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لانكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" وإسناده ضعيف وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة" وصحح الترمذي وقفه وهذه الأحاديث وماورد

في معناها يقوي بعضها بعضا وثد ذهب إلى ذلك الجمهور. وأما استثناء الولى العاضل وغير مسلم فلقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] ولتزوجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان من غير وليها لما كان كافرا حال العقد. وأما جواز التوكيل لعقد النكاح ولو كان الوكيل واحدا من الجهتين فلحديث عقبة بن عامر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة قال: نعم وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانا"؟ قالت: نعم فزوج أحدهما صاحبه" الحديث وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم الأوزعي وربيعة والثورى ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه والليث والهادوية وأبو ثور وحكى في البحر عن الناصر والشافعي وزفر أنه لا يجوز قال في الفتح: وعن مالك لو قالت المرأة لوليها: زوجني بمن رأيت فزوجها نفسه أو بمن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج وقال: الشافعي يزوجه السلطان أو ولي آخر مثله أو أقعد منه ووافقه زفر.

فصل في بيان أن نكاح المتعة منسوخ والتحليل حرام

فصل في بيان أن نكاح المتعة منسوخ والتحليل حرام ونكاح المتعة منسوخ والتحليل حرام وكذلك الشغار ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة إلا أن يحل حراما أو يحرم حلالا ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة وبالعكس ومن صرح القرآن بتحريمه والرضاع كالنسب والجمع بين المرأة وعمتها أوخالتها ومازاد على العدد المباح للحر والعبد وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل وإذا عتقت الأمة ملكت أمر نفسها وخيرت في زوجها ويجوز فسخ النكاح بالعيب ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا مايوافق الشرع وإذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح وتجب العدة فإن أسلم ولم

تتزوج المرأة كانا على نكاحهما الأول ولو طالت المدة إذا اختارا ذلك. أقول: أما نكاح المتعة فلا خلاف أنه قد كان ثابتا في الشريعة كما صرح به القرآن {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] ولما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء فقلنا ألا نختصى فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل" وفي الباب أحاديث وثبت النسخ من حديث جماعة فأخرج مسلم وغيره من حديث سبرة الجهنى أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة فأذن لهم رسول الله صلى في متعة النساء" قال: فلم يخرج حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ من حديثه "وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة" وأخرج الترمذي عن ابن عباس "إنما كانت المتعة في أول الإسلام حتى نزلت هذه الآية {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:30] وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن متعة النساء يوم خبير" والأحاديث في هذا الباب كثيرة والخلاف طويل وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى ورواية من روى تحريمها إلى يوم الفيامة هي الحجة في هذا الباب. وأما تحريم التحليل فلحديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له" وصححه أيضا ابن القطان وابن دقيق العيد وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق وطريق ثالثة أخرجها إسحاق في مسنده وأخرج أحمد وأبوداود وابن ماجه والترمذي وصححه ابن السكن من حديث على مثله وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" وفي إسناده يحيى بن عثمان وهو ضعيف وقد أعل بالإرسال وأخرج أحمد والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم والترمذي في العلل من حديث أبي هريرة نحوه وحسنه

البخاري وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط من حديث عمر أنهم كانوا يعدون التحلل سفاحا في عهد رسول الله. وأما تحريم الشغار فلثبوت النهي عنه كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار وأخرج مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار" والشغار أن يقول الرجل زوجني ابتنك على أن أزوجك ابنتي أو زوجني أختك على أن أزوجك أختي وأخرج مسلم أيضا من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا شغار في الإسلام" وفي الباب أحاديث قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز ولكن اختلفوا في صحته والجمهور على البطلان قال الشافعي: هذا النكاح باطل كنكاح المتعة وقال: أبو حنيفة جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها. وأما كونه يجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة فلحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" وهو في الصحيحين وغيرهما. وأما الشرط الذي يحل الحرام ويحرم الحلال فلا يحل الوفاء به كما ورد بذلك الدليل وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيعه ولا تسأل المرأة عن طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها فإنما رزقها الله" وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل أن ينكح المرأة بطلاق أخرى". وأما كونه يحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة والعكس فلما أخرجه أحمد باسناد رجاله ثقات والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال: لها أم

مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث ابن عمر أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأساري بمكة وكان بمكة بغي يقال: لها عناق وكانت صديقته قال: "فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أنكح عناقا قال: فسكت عني فنزلت الآية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] فدعاني وقرأها علي وقال: "لا تنكحها" وأخرج أبو داود بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله" وأخرج ابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: "استوصوا في النساء خيرا فإنما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجرون في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا" وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال: غربها قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال: فاستمتع بها" قال: المنذري رجال إسناده محتج بهم في الصحيح وإنما قال: والعكس لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة كما يفيد ذلك الآية الكريمة {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] وأما كونه ويحرم من صرح القرآن بتحريمة لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [النساء:23] إلى آخره ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] . وأما كون الرضاع كالنسب فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم" وفي لفظ "من النسب" وفيهما أيضا من حديث عائشة مرفوعا "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث علي قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب" قال أهل العلم: والمحرمات من الرضاع سبع الأم والأخت بنص القرآن والبنت والعمة والخلة وبنت الأخ وبنت الأخت لأن هؤلاء يحرمن من النسب فيحرمن من الرضاع وقد وقع الخلاف هل يحرم من الرضاع ما يحرمن من الصهار وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم قدس الله روحه في الهدي. وأما كونه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: "نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها" وفي لفظ لهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها" في لفظ لهما نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها" وفي الباب أحاديث وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم وقال: لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك قال: ابن المنذر لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم وقد حكى الإجماع أيضا الشافعي والقرطبي وابن عبد البر. وأما تحريم مازاد على العدد المباح فلحديث قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أختر منهن أربعا" أخرجه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة وقال ابن عبد البر: ليس له إلا حديث واحد ولم يأت من وجه صحيح ويؤيده ماسيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع. وأما الاستدلال بقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ففيه ما أو ضحته في شرح المنتقى وفي حاشية الشفاء وقد قيل إنه لاخلاف في تحريم الزيادة على الأربع وفيه نظر كما أوضحته هنالك. وأما العدد الذي يحل للعبد فقد حكى البيهقي وابن أبي شيبة أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنين وكذلك حكى إجماع الصحابة الشافعي وروى الدارقطني عن أنه قال: ينكح العبد امرأتين ويطلق تطلقتين وسيأتى ما ورد في طلاق الأمة والعدة في باب العدة فمن قال: إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم ومن لم يقل بحجة إجماعهم أجاز للعبد ما يجوز للحر من العدد وقد أوضحت حكم الإجماع في أول حاشية الشفاء.

وأما بطلان نكاح العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فلحديث جابر عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه قال: قال صلى الله عليه وسلم "من تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر " وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث ابن عمر قال الترمذي: لا يصح إنما هو جابر وأخرجه أبوداود ج من حديث ابن عمر أيضا وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف وقد ذهب إلى عدم صحة عقد العبد بغير إذن مولاه الجمهور وقال: مالك أن العقد نافذ ولسيده فسخة ورد بأن العاهر الزاني والزنا باطل وفي رواية من حديث جابر بلفظ باطل. وأما كون الأمة إذا عتقت ملكت أمر نفسها وخيرت في زوجها فلحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره أن بريرة خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عبدا وكذا في صحبح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديث آخر لعائشة عند أحمد وأهل السنن أن زوج بريرة كان حرا وقد اختلفت الروايات في ذلك وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الخيار إذا كان الزوج حرا فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة وقد وقع في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لبريرة "ملكت نفسك فاختاري" فإن هذا يفيد أنه لا فرق بين الحر والعبد. وأما كونه يجوز فسخ النكاح بالعيب فلحديث كعب بن زيد أو زيد بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بنى غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا فانحاز عن الفراش ثم قال: خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئا أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وابن عدى والبيهقي وأخرجه من حديث كعب بن عجرة الحاكم في المستدرك وأخرجه أبو نعيم في الطب والبيهقي من حديث ابن عمر وفي الحديث اضطراب وروى مالك في المؤطأ والدارقطني وسعيد بن منصور والشافعي وابن أبي شيبة عن عمر أنه قال: "أيما امرأة غُرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره". ورجال إسناده

ثقات وفي الباب عن على عند سعيد بن منصور وقد ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك وروى عن علي وعمر وابن عباس أنها لاترد النساء إلا بالعيوب الثلاثة المذكورة والرابع الداء في الفرج وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع ورحجه ابن القيم رحمه الله تعالى واحتج له في الهدى بالقياس على البيع وذهب البعض إلى أن المرأة ترد الزوج بتلك الثلاثة وبالجب والعنة والخلاف في هذا البحث طويل. وأما كونه يقر من أنكحة الكفار إذا اسلموا ما يطابق الشرع فلحديث الضحاك بن فيروز عن أبيه عند أحمد وأهل السنن والشافعي والدارقطني والبيهقي وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق أحدهما وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والشافعي والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: "أسلم غيلان الثقفي وتحته عشرة نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فإمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا" وقد أعل الحديث بأن الثابت منه إنما هو قول عمر كما قال: البخاري. وأما كونه إذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح ووجبت العدة فلحديث ابن عباس عند البخاري قال: "كان إذا هاجرت المرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح وإن جاء زوجها قبل أن تنكح ردت إليه" وأخرج مالك في الموطأ عن الزهري أنه قال: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلافرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلاأن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. وأما كون من أسلم ولم تتزوج امرأته يكونان على نكحاهما الأول ولو طالت المدة إذا اختارا ذلك فلحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وصححه الحاكم أن صلى الله عليه وسلم صلى رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين ولم يحدث شيئا وفي لفظ ولم يحدث صداقا وفي لفظ للترمذي ولم يحدث

نكاحا وقال: هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد وفي إسناده الحجاج بن أرطاة وهوضعيف وحديث ابن عباس أصح كما صرح بذلك الحفاظ وقد ذهب إلى مادل عليه حديث ابن عباس جماعة من الصحابة ومن بعدهم لا كما نقله ابن عبد البر من الإجماع على أنه لا يبقى العقد بعد انقضاء العدة ولا مانع من جعل حديث ابن عباس وما ورد في معناه مخصصا لما ورد من أن العدة إذا انقضت فقد ذهب العقد ولم تحل للزوج إلا بعقد جديد.

فصل في بيان وجوب المهر وكراهة المغالاة فيه

فصل في بيان وجوب المهر وكراهة المغالاة فيه والمهر واجب وتكره المغالاة فيه ويصح ولو خاتما من حديد أوتعليم قرآن ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها إذا دخل بها ويتسحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول وعليه إحسان العشرة وعليها الطاعة ومن كانت له زوجتان فصاعدا عدل بينهن في القسم وما تدعوا الحاجة إليه وإذا سافر أقرع بينهن وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها ويقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا ولايجوز العزل ولا إتيان المرأة في دبرها. أقول أما كون المهر واجبا فلأنه صلى الله عليه وسلم لم يسوغ نكاحا بدون مهر أصلا وفي الكتاب العزيز {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] وقوله: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20] وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] الآية وقال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة:10] وقد أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم منع عليا أن يدخل

بفاطمة حتى يعطيها شيئا ولما قال: ما عندي شيء قال: فأين درعك الحطيمة فأعطاه إياها" وحديث سهل ابن سعد الآتي قريبا من أعظم الأدلة على وجوب المهر. وأما كراهة المغالاة في المهور فلحديث عائشة وعند الطبراني في الأوسط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة" وفي إسناده ضعف وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم "هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئا" قال: قد نظرت إليها قال: "على كم تزوجتها" قال: على أربع أواق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه" قال: فبعث بعثا إلى بنى عبس بعث ذلك الرجل فيهم" وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير الصداق أيسره" وعن عائشة أنه كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثني عشرة أوقية" ونشا أي نصفا وهو في صحيح مسلم وغيره. وأما كونه يصح باليسير ولو خاتما من حديد أو تعليم قرآن فلما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عامر ابن ربيعه أن امراة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال: رسول الله أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين قالت: نعم فأجازه" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت له حلالا" وفي إسناده ضعف وأخرج الدارقطني من حديث لأبي سعيد في المهر "ولو على سواك من أراك" وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يارسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال: يارسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟

قال: ما عندي إلا إزاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال: ما أجد شيئا قال: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء"؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكما بما معك من القرآن" ولا يعارض ما ذكر حديث "لامهر أقل من عشرة دراهم" عند الدارقطني من حديث جابر لأن في إسناده مبشر بن عبيد وحجاج بن أرطاة وهما ضعيفان. وأما كون من تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا فلها مهر نسائها فلحديث علقمة عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان قال: أتى عبد الله يعني ابن مسعود في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا ولم يكن دخل بها قال: فاختلفوا إليه فقال: أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد مقعل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل ما قضى". وأما كونه يستحب تقديم شيء من المهر قبل الدخول فلحديث ابن عباس المتقدم قريبا وأخرج أبوداود وابن ماجه من حديث عائشة قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا" ولا يعارض هذا الحديث ابن عباس فإن غاية ما فيه يدل على أن تقدمه شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة ولا ينفي كونها مستحبة. وأما كون الزوج حسن العشرة فلقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة "أن المرأة كالضلع إذا ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها على عوج فاستوصوا بالنساء" وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أيضا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إبمانا أحسنهم حلقا وخياركم خياركم

لنسائهم" وأخرج الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". وأما كون عليها الطاعة فلقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات عضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث عمرو ابن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: "استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عندكم عوان لستم تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" وفي الباب أحاديث كثيرة. وأما العدل بين الزوجات في القسمة وما تدعو إليه الحاجة فلحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال: إسناده على شرط الشيخين وصححه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان يميل لإحداهما عن الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا" وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقسم بين نسائه فكن يجتمعن كل ليلة في بيت الذي تأتيها كما في الصحيح وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". وأما الإقراع بينهن في السفر فلحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أن النبي إذا كان أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها".

وأما كون للمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج عليها فلحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما "أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة" وفي الصحيحين عن عائشة في تفسير قوله: تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] قالت: "هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها وتزوج غيرها فتقول له أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي والقسم لى". وأما كونه يقيم عند الجديدة البكر سبعا والثيب ثلاثا فلحديث أم سلمة عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام" وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم" وفي الباب أحاديث. وأما كونه لا يجوز العزل فلحديث جذامة بنت وهب الأسدية أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي" أخرجه مسلم رحمه الله وغيره وأخرج أحمد وابن ماجه عن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال: وأخرج عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال: نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في مسلم وغيره قال:"كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وفي رواية فبلغه ذلك فلم ينهنا ومن غايته أن جابر لم يعلم بالنهي1 وقد علمه غيره وأما مافي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما سألوه عن العزل "ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة" فقد قيل إن معناه النهى وقيل إن معناه ليس عليكم أن تتركوا وغايته الاحتمال فلا يصلح للاستدلال وأخرج أحمد

_ 1 أقول: النهي مقيد بعدم إذن الحرة! هـ من هامش الأصل.

والترمذي والنسائي بإسناد رجاله ثقات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل "أنت تخلقه أنت ترزقه أقره قراره فإنما ذلك القدر" وأخرج أحمد ومسلم من حديث أسامة ابن زيد أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لم تفعل ذلك فقال: إني أشفق على ولدها فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان ضارا ضر فارس والروم" وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها تعقب بأن الشافعية تقول لاحق للمرأة في الحماع. وأما كونه لايجوز إتيان المرأة في دبرها فلحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والبزار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ملعون من أتى المرأة في دبرها" وفي إسناده الحارث بن مخلد لا يعرف حاله وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي إسناده أبو تميمة عنه قال: البخاري لا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة وقال: البزار هذا حديث منكر وفي إسناده أيضا حكيم بن الأثرم قال: البزار لا يحتج به وما تفرد به فليس بشيء وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتى الرجل امرأته في دبرها وفي إسناده عمر ابن أحيحة وهو مجهول وفي الباب عن علي ابن أبي طالب عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تأتوا النساء في أعجازهن" أو قال: في أدبارهن وإسناده ثقات وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" وفي الباب أحاديث وبعضها يقوي بعضا وحكى عن بعض أهل العلم الجواز واستدلوا بقوله: تعالى {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه.

فصل: والولد للفراش ولا عبرة بشبهه بغير صاحبه

فصل: والولد للفراش ولا عبرة بشبهه بغير صاحبه وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة في طهر ملكها كل واحد منهم فيه جاءت بولد وادعوه جميعا فيقرع بينهم ومن استحقه بالقرع فعليه للآخرين ثلثا الدية. أقول: أما كون الولد للفراش ولا عبرة بشبهه بغير صاحبه فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وفيها أيضا من حديث عائشة قالت: "اختصم سعد ابن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سعد يارسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي فيه أنه ابنه انظر إلى شبهة وقال: عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة وقال: هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة". وأما كونه إذا اشترك ثلاثة إلى آخره فلما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي من حديث زيد بن أرقم "قال: أتى علي وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين فقال: أتقران لهذا بالولد قالا لا ثم سأل اثنين أتقرأن لهذا بالولد قالا لا فجعل كلما سأل اثنين أتقران لهذا بالولد قالا لا فأقرع بينهم فألحق بالذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثى الدية فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وضحك حتى بدت نواجذه" وأخرجه النسائي وأبو داود موقوفا على علي بإسناد أجود من الأول لأن في الاسناد الأول يحيى بن عبد الله الكندى المعروف بالأجلح وقد وثقه ابن معين والعجلي وضعفه النسائي بمالا يوجب ضعفا وقد أخذ بالقرعة مطلقا مالك والشافعي وأحمد والجمهور حكى ذلك عنهم ابن رسلان في كتاب العتق في شرح السنن وقد ورد العمل بها في مواضع هذا منها.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق الطلاق * ... كتاب الطلاق وهو جائز من مكلف مختار ولو هازلا لمن كانت في طهر لم يمسها فيه ولا طلقها في الحيضة التي قبله أو في حمل قد استبان ويحرم إيقاعه على هذه الصفة وفي وقوعه ووقوع ما فوق الواحدة من دون تخلل رجعة خلاف والراجح عدم الوقوع. أقول: أما جواز الطلاق فبنص الكتاب العزيز ومتواتر السنة المطهرة وإجماع المسلمين وهو قطعي من قطعيات الشريعة ولكنه يكره مع عدم الحاجة وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" وأخرج أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي قال: "أبغض الحلال عند الله عز وجل الطلاق". وأما كونه من مكلف مختار فلأن أمر الصغير إلى وليه وطلاق المكره لا حكم له والأدلة على هاتين المسألتين مقررة في مواضعها. وأما كونه يقع من الهازل فلحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك وهو مختلف فيه وفي الباب عن فضالة بن عبيد عند الطبراني مرفوعا " ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق" وفي إسناده ابن لهيعة وعن عبادة بن الصامت عند الحارث بن أبي أسامة في سنده مرفوعا بنحوه وزاد "فمن قالهن فقد وجبن" وفي إسناده انقطاع وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه "من طلق وهو لا عب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز" وفي إسناده أيضا

انقطاع وعن على موقوفا عند عبد الرزاق أيضا وعن عمر مرفوعا عنده أيضا وهذه الأحاديث يقوى بعضها بعضا. وأما كون اعتبار أن يكون في طهر لم يمسها فيه إلخ فلحديث ابن عمر عند مسلم وأهل السنن وأحمد أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" وفي لفظ أنه قال: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي رواية في الصحيح أنه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وللحديث ألفاظ ووقع الخلاف بين الرواة هل حسبت تلك الطلقة أم لا؟ ورواية عدم الحسبان لها أرحج وقد أوضحت هذه المسألة في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة والخلاف طويل والأدلة كثيرة والراجح عدم وقوع البدعي لما ذكرناه هنالك وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس ذلك شيء" وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر أنه قال: في الرجل يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك وإسناده صحيح وقد تابع أبا الزبير الراوي لعدم الحسبان لتطليقة ابن عمر المذكورة في الحديث أربعة عبد الله بن عمر العمري ومحمد بن عبد العزيز أبي رواد ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حسنه ولو لم يكن في المقام إلا قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقد تقرر أن الأمر بالشيء نهى عن ضده والنهي يقتضي الفساد وقول الله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] والمطلق على غير ما أمر الله به لم يسرح بإحسان وقد ذهب إلى عدم الوقوع جماعة من السلف كالباقر والصادق وابن علية وإليه ذهب ابن حزم وابن تيمية وذهب

الجمهور إلى الوقوع وأما وقوع الثلاث دفعة أو عدمه فقد ذهب الجمهور إلى أنه يقع أن الطلاق يتبع الطلاق وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة وقد حكى ذلك عن أبي موسى وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والناصر والباقر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى ورواية عن على ورواية عن زيد ابن علي وإليه ذهب ابن تيمية وابن القيم وحكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير وحكاه أيضا عن جماعة من مشايخ قرطبة ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس واستدل الجمهور بحديث ركانة بن عبد الله أنه طلق امرأته سهيمة ألبتة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلا واحدة قال: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه وأخرجه الشافعي وأبوداود والترمذي وصححه أبو داود وابن حبان والحاكم وفي إسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وقيل إنه متروك وقد ورد ما يدل على أن الطلاق يتبع الطلاق وليس في الصحيح شيء من ذلك وأرجح من الجميع حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر الثلاث واحدة فلما كان عهد عمر تتابع الناس فأجازه عليهم.

فصل في بيان أنه إذا طلق الرجل امرأته فهو أحق برجعتها

فصل في بيان أنه إذا طلق الرجل امرأته فهو أحق برجعتها ويقع بالكناية مع النية وبالتخيير إذا اختارت الفرقة وذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه ولا يقع بالتحريم والرجل أحق بامرأته في عدة طلاقها يراجعها متى شاء إذا كان الطلاق رجعيا ولا تحل له بعد الثلاث حتى تنكح زوجا غيره.

أقول: أما وقوعه بالكناية فلحديث عائشة عند البخاري وغيره أن ابنة الجون لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك قال: لها " لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك" وفي الصحيحين وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك "لما قيل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال: أطلقها أم ماذا أفعل قال: بل اعتزلها فلا تقربها فقال: لامرأته الحقي بأهلك" فأفاد الحديثان أن هذه اللفظة تكون طلاقا مع القصد ولا تكون طلاقا مع عدمه. وأما كون الطلاق يقع بالتخيير فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28] الآية {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} [الأحزاب:29] الآية وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لما نزلت الآية فخيرهن" وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدها شيئا" وفي المسألة خلاف وهذا هو الحق وبه قال: الجمهور. وأما كونه إذا جعله الزوج إلى غيره وقع منه فلأنه توكيل بالايقاع وقد تقرر جواز التوكيل من غير فرق بين الطلاق وغيره فلا يخرج من ذلك إلا ما أخصه دليل وسئل أبو هريرة وابن عباس وعمرو بن العاص عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه فأجازوا طلاقه كما أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه المخرج على الصحيحين. وأما كونه لا يقع بالتحريم فلما في الصحيحين عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} وأخرج عنه النسائي أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما فقال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة".

وأخرج النسائي أيضا بإسناد صحيح عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] الآية" وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة في تفسير الآية بمثل ماذكر وفي هذه المسألة نحو ثمانية عشر مذهبا والحق ما ذكرناه وقد ذهب إليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم وهذا إذا أراد تحريم العين وأما إذا أراد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ بل قصد التسريح فلا مانع من وقوع الطلاق بهذه الكناية كسائر الكنايات. وأما كون الرجل أحق بامرأته في عدة طلاقه إلخ فلحديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] الآية قال: "وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال: وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال الرجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرها فسكتت حتى جاء النبي فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] قالت: عائشة فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق" وأخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي والطبراني عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد".

وأما كونها لا تحل له بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره فلقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] ولما في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" وهو مجمع على ذلك.

باب الخلع

باب الخلع إذا خالع الرجل امرأته كان أمرها إليها لا ترجع إليه بمجرد الرجعة ويجوز بالقليل والكثير مالم يجاوز ماصار إليها منه فلا ولا بد من التراضي بين الزوجين على الخلع أو إلزام الحاكم مع الشقاق بينهما وهو فسخ وعدته حيضة. أقول: أما كون أمرها إليها بعد الخلع فلحديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته" قالت نعم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقبل الحديقة وطلقها" وفي رواية لابن ماجه والنسائي بإسناد رجاله ثقات أنها قالت: "لا أطيقه بغضا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته قالت له نعم: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الحديقة ولا يزداد" وفي رواية للدارقطني بإسناد صحيح أن أبا الزبير قال: إنه كان أصدقها حديقة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أتردين حديقته التي أعطاك؟ قالت: نعم وزيادة فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أما الزيادة فلا ولكن حديقته قالت: نعم" فهذه الفرقة إنما كانت بسبب ماافتدت به المرأة فلو لم يكن أمرها إليها كانت الفدية ضائعة وقد أفاد ماذكرناه أنه لايجوز للزوج أن يأخذ منها اكثر مما صار إليها منه وقد ذهب إلى هذا على وطاوس وعطاء والزهري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق والهادوية وذهب الجمهور إلى أنه لايجوز أن يأخذ منها زيادة على ما أخذت منه استدلالا بقوله

تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] فإنه عام للقليل والكثير ويجاب بأن الروايات المتضمنة للنهي عن الزيادة مخصصة لذلك وأما ما أخرجه البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين حديقته" قالت: وأزيد عليها فردت عليه حديقته وزادته" ففي إسناده ضعف مع أنه لا حجة فيه لأنه لم يقررها على تسليم الزيادة وأيضا قوله تعال: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] يدل على منع الأخذ مما آتيتموهن إلا مع ذلك الأمر فلا بأس أن تأخذوا مما آتيتموهن لا كله فضلا عن زيادة عليه. وأما كونه لا بد من التراضي بين الزوجين فلقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] وأما اعتبار إلزام الحاكم فلارتفاع ثابت وامرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلزامه بإن يقبل الحديقة ويطلق ولقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] وهذه الآية كما تدل على بعث حكمين تدل على اعتبار الشقاق في الخلع ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229] ويدل عليه قصة امرأة ثابت المذكورة وقولها أكره الكفر بعد الإسلام وقولها لا أطيقه بغضا فلهذا اعتبرنا الشقاق في الخلع. وأما كونه فسخا فلحديث الربيع بنت معوذ عند النسائي في قصة امرأة ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "خذ الذي لها عليك وخل سبيلها قال: نعم فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة واحدة وتلحق بأهلها" ورجال إسناد كلهم ثقات ولها حديث آخر عند الترمذي والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى أمرها أن تعتد بحيضة" وفي إسناد محمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث.

وأخرج الترمذي1 وأبوداود وحسنه عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة" وأخرج الدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح عن أبي الزبير وفيه "فأخذها وخلى سبيلها" قال: الدارقطني سمعه أبو الزبير من غير واحد فهذه الأحاديث كما تدل على أن العدة في الخلع حيضة تدل على أنه فسخ لأن عدة الطلاق ثلاث حيض وأيضا تخلية السبيل هي الفسخ لا الطلاق وأما ما وقع في بعض روايات الحديث أنه طلقها تطليقة فقد أجيب عن ذلك بجوابات طويلة وقد أودعتها شرح المنتقى فليرجع إليه.

_ 1 بتقديم أبي داود فلينظر.! هـ من هاشم الأصل.

باب الايلاء

باب الايلاء هو أن يحلف الزوج على جميع نسائه أو بعضهن لا أقربهن فإن وقت بدون أربعة أشهر اعتزل حتى ينقضي ما وقت به وإن وقت بأكثر منها خير1 بعد مضيها أن يفئ أو يطلق. أقول: أما كون الإيلاء هو حلف الزوج لا أقرب بعض نسائي أو كلهن فظاهر. وأما كونه يصح التوقيت بدون أربعة أشهر فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا ثم دخل بهن بعد ذلك". وأما أن وقت بأكثر من أربعة أشهر يخير بعد مضيها بين الفيء أو الطلاق فلقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] الآية وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق" قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء

_ 1 قلت: ترك لو لم يوقت أصلا ومضت أربعة أشهر! هـ. من هامش الأصل.

وعائشة واثني عشر رجلا من أصحاب النبي وأخرج الدارقطني عن سليمان بن يسار قال: "أدركت بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقفون المولى" وأخرج أيضا عن سهيل بن أبي صالح عن ابيه قال: "سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يولى قال: وا ليس عليه شيء حتى تنقضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلاطلق" وقد اختلف في مقدار مدة الإيلاء فذهب الجمهور إلى أنها أربعة أشهر فصاعدا قال: وا فإن حلف على أنقص منها لم يكن موليا واحتجوا بالآية وهي لاتدل على مطلوبهم لأنها لبيان المدة التي تضرب للمولى ليفئ بعدها أو يطلق وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإيلاء شهرا ودخل على نسائه بعده فلو كان الإيلاء أربعة أشهر فصاعدا ولايصح أقل منها لم يقع منه صلى الله عليه وسلم ذلك وقد ذهب إلى جواز الإيلاء دون أربعة أشهر جماعة من أهل العلم وهو الحق.

باب الظهار

باب الظهار الظهار ... باب الظهار هو قول الزوج لإمرأته: أنت علي كظهر أمي أو ظاهرتك أو نحو ذلك فيجب عليه قبل أن يمسها أن يكفر بعتق رقبة وإن لم يجد1 فليطعم ستين مسكينا فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ويجوز للإمام أن يعينه من صدقات المسلمين إذا كان فقيرا لا يقدر على الصوم وله أن يصرف منها لنفسه وعياله وإذا كان الظهار مؤقتا فلا يرفعه إلا انقضاء الوقت وإذا وطئ قبل انقضاء الوقت أو قبل التكفير كف حتى يكفر في المطلق ويقضي وقت المؤقت. أقول: الدليل على ما أشتمل عليه هذا الباب من التكفير على هذا الترتيب ما في القرآن الكريم وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سلمة بن صخر لما ظاهر من

_ 1 أقول وقع هنا سبق قلم، وإلا فالصوم مقدم على الإطعام، وقد وجدته هكذا في نسخته الأصل وغيرها! هـ. من هامش الأصل.

امرأته ثم وطئها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة فقال: لا والذي بعثك بالحق ما أصيحت أملك غيرها وضرب صفحة رقبته قال: "فصم شهرين متتابعين" قال: يارسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم قال: فتصدق قال: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا ما لنا عشاء قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك فأطعم منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن الجاورد وفي لفظ منه لأبي داود "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كله أنت وأهلك" وأخرج نحو أهل السنن وصححه الترمذي من حديث ابن عباس وصححه أيضا الحاكم قال ابن حجر: رجاله ثقلت لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالإرسال وقال ابن حزم: رواته ثقات ولا يضره إرسال من أرسله وللمحدثين شواهد وأخرج نحوه أبوداود وأحمد من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث عائشة وأخرجه الحاكم أيضا وقد قام الإجماع على أن الكفارة تجب بعد العود لقوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [القصص:3] واختلفوا هل العلة في وجوبها العود أو الظهار واختلفوا أيضا هل المحرم الوطء فقط أم هو مع مقدماته فذهب الجمهور إلى الثاني لقوله: تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص:3] وذهب البعض إلى الأول قالوا لأن المسيس كناية عن الجماع واختلفوا في العود ماهو فقال: قتادة وسعيد بن جبير وأبو حنيفة وأصحابه والعترة أنه إرادة المسيس لما حرم بالظهار لأنه إذا أراد فقد عاد من عزم الترك إلى عزم الفعل سواء فعل أم لا وقال: الشافعي بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الطلاق ولم يطلق إذ تشبيهها بالأم يقتضي إبانتها وإمساكها نقيضه وقال مالك وأحمد: بل هو العزم على الوطء فقط وإن لم يطأ وقد وقع الخلاف أيضا إذا وطء المظاهر قبل التكفير فقيل يجب عليه كفارتان وقيل ثلاث وقيل تسقط الكفارة وذهب الجمهور إلى أن الواجب كفارة واحدة وهو الحق كما تفيده الأدلة المذكورة.

وأما كونه يكف إذا وطئ قبل التكفير إلخ فلحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للمظاهر الذي وطئ امرأته " لا تقربها حتى تفعل ماأمرك الله" أخرجه أهل السننن وصححه الترمذي والحاكم وأما صحة الظهار المؤقت فلتقريره صلى الله عليه وسلم لسلمة بن ضخر لما قال له: إنه ظاهر من امرأته إلى أن ينسلخ رمضان وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه ابن خزيمة وابن الجارود كما تقدم وظاهر القرآن أنه لا يوجب الكفارة إلا العود فاظهار المؤقت إذا انقضى وقته لم يكن إرادة الوطء عودا فلا تجب فيه كفارة وأما إذا كان الموجب للكفارة قول المنكر والزور فهي واجبة في مطلق مؤقت لأنه قدم القول بمجرد إيقاع الظهار

فصل في اللعان

فصل في اللعان إذا رمى الرجل امرأته بالزنا ولم تقر بذلك ولا رجع عن رميه لاعنها فيشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم تشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وإذا كانت حاملا أو كانت قد وضعت أدخل نفى الولد في أيمانه ويفرق الحاكم بينهما وتحرم عليه أبدا ويلحق الولد بأمه فقط ومن رماها به فهو قاذف. أقول: حكم اللعان مذكور في الكتاب العزيز قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] الآية وأما اشتراط عدم إقرار المرأة بالزنا وعدم رجوع الرجل عن الرمي فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث المتلاعنين على ذلك ففي الصحيحين وغيرهما أنه وعظ الزوج وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة" فإذا أقرت المرأة كان عليها حد الزاني المحصن إذا لم يكن

هناك شبهة وإذا أقر الرجل بالكذب كان عليه حد القذف وأما كيفية اليمين فكما في الباب وقد نطق بذلك الكتاب العزيز والسنة المطهرة في ملاعنته صلى الله عليه وسلم بين عويمر العجلاني وامرأته وبين هلال بن أمية وامرأته. وأما كونه يدخل نفي الولد في أيمانه فلم يكن ذلك في الكتاب العزيز ولا وقع في الملاعنة الواقعة في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن هناك حمل ولا ولد. وأما كونه يفرق الحاكم بينهما ثم لا يجتمعان أبدا1 ففي حديث حسنه سهل بن سعد عند أبي داود قال: مضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا" وأخرج نحوه عنه أبو داود وفي الصحيحين وغيرهما أن عويمر طلق امرأته ثلاث تطليقات قبل أن يأمره صلى الله عليه وسلم قال: ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين. وأما كون الولد يلحق أمه ويحد قاذفها فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله في ولد المتلاعنين أن يرث أمه وترثه أمه ومن رماها به جلد ثمانين" أخرجه أحمد وفي إسناده محمد بن إسحاق2 وبقية رجاله ثقات ويؤيد هذا الحديث الأدلة الدالة على أن الولد للفراش ولا فراش هنا والأدلة دالة على وجوب حد القذف والملاعنة داخلة في المحصنات لم يثبت عليها ما يخلف ذلك وهكذا من قذف ولدها فإنه كقذف أمه يجب الحد على القاذف.

_ 1هكذا في هامش الأصل من غير تصحيح عليه، وفي نسخة أخرى، وأما كونه يفرق الحاكم بينهما ثم لا يجتمعان أبدا ففي حديث ابن عباس إلى آخره من غير هذه الزيادة! هـ. هامش الأصل. 2 أقول: ومحمد بن إسحاق إمام ثقة وإنما هو مدلس، أما إذا صرح بالحديث فهو من جملة من يصحح حديثه الأئمة! هـ. من هامش الأصل.

باب العدة والإحداد

باب العدة والإحداد العدة والإحداد ... باب العدة والإحداد هي للطلاق من الحامل بالوضع ومن الحائض بثلاث حيض ومن غيرهما بثلاثة أشهر وللوفاة بأربعة أشهر وعشر وإن كانت حاملا فبالوضع ولاعدة على غير مدخولة والأمة كالحرة وعلى المعتدة للوفاة ترك التزين والمكث في البيت الذي كانت فيه عند موت زوجها أبو بلوغ خبره. أقول: أما اعتداد الحامل بالوضع فلقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وأما اعتداد الحائض بثلاث حيض فلقوله: تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] وهي الحيض كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام أقرائك" والقرء وإن كان في الأصل مشتركا بين الأطهار والحيض كقوله: صلى الله عليه وسلم: "تعتد بثلاث حيض" وقوله: "تجلس أيام أقرائها" وقوله: "وعدتها حيضتان" وسيأتي. وأما غيرهما أي الحامل والحائض وهي الصغيرة والكبيرة التي لا حيض فيها أو التي انقطع حيضها بعد وجوده فإنها تعتد بثلاثة أشهر لقوله: تعالى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] الآية وقد وقع الخلاف في منقطعة الحيض لعارض فقيل إنها تتربص حتى يعود فتعتد بالحيض أو تيأس فتعتد بالأشهر، والحق ما ذكرناه، لأنه يصدق عليها عند الانقطاع أنها من اللائي لم يحضن.

وأما كون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا فلقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] هذا في غير الحامل وأما الحامل فبوضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكمل البيان ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة "أن امرأة من أسلم يقال: لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه فقال: والله مايصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين فمكثت قربيا من عشر ليالي ثم نفست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انكحي" وأخرج البخاري عن ابن مسعود المتوفى عنها زوجها وهي حامل قال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تحعلون لها الرخصة نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وقد أخرج أحمد والدارقطني من حديث أبي كعب قال: قلت يا رسول الله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن للمطلقة ثلاثا وللمتوفي عنها؟ قال: "هي للمطلقة وللمتوفى عنها" وأخرجه أبو يعلي والضياء في المختارة وابن مردويه وفي إسناده المثنى بن الصباح وثقة ابن معين وضعفه الجمهور فرجع وقد أخرج ابن ماجه عن الزبير بن العوام أنها كانت عنده أم كثلوم بنت عقبة فقالت له: وهي حامل طيب نفسي بتطليقة فطلقها ثم خرج إلى الصلاة فرجع وقد وضعت فقال: مالها خدعتني خدعها الله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سبق الكتاب أجله اخطبها إلى نفسها" ورجال إسناده رجال الصحيح إلا محمد بن عمر بن هياج وهو صدوق لا بأس به وقد تمسك بعض الصحابة بالآيتين فجعل عليها أطول الأجلين فقال: إذا وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة حتى تضع وبه قال جماعة من أهل العلم والحق أن عدة الحامل بالوضع في الطلاق والوفاة للأدلة التي ذكرناها وهي نصوص في محل النزاع ومبينة للمراد وأما كون غير المدخولة لا عدة عليها فلقوله تعالى في غير الممسوسات: {فَمَا

لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] وأما كون عدة الأمة كالحرة فلحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" أخرجه الترمذي وأبو داود والبيهقي قال: فيه أبو داود وهو حديث مجهول وقال: الترمذي حديث غريب ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث مظاهر بن أسلم ومظاهر لايعرف له في العلم غير هذا الحديث انتهى. وأخرج ابن ماجه والدارقطني ومالك في المؤطا والشافعي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان" وفي إسناده عمرو بن شعيب وعطية العوفي وهما ضعيفان وصحح الدارقطني أنه موقوف على ابن عمر وأخرج أحمد عن علي نحو ذلك وإذا كان الصحيح الوقف فيما عدا حديث عائشة فلم يكن بالباب ما تقوم به الحجة لأن حديث عائشة ضعيف كما عرفت فوجب الرجوع إلى أدلة الكتاب والسنة المشتملة على تفصيل العدد وهي غير مختصة بالحرائر وأما كون على المعتدة للوفاة ترك التزين فلحديث أم سلمة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا" وفي الباب عن أم حبيبة وزنيب بنت حجش في الصحيحين وغيرهما فيهما أيضا من حديث أم سلمة أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال: "لا تكتحل كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر" وفي الصحيحين من حديث أم عطية قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا

من حيضها في نبذة من كست أظفار" وفي الباب أحاديث وقد روى ما يعرض هذه الأحاديث فأخرج أحمد وابن حبان وصححه من حديث أسماء بنت عميس قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر بن أبي طالب فقال: لا تحدي بعد يومك هذا" وهي كانت امرأته بالإتفاق وقد أجيب بأنه حديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة وقد وقع الإجماع على خلافه وقيل إنه منسوخ وقد أعله البيهقي بالإنقطاع وهذه الأحاديث المؤقتة في الإحداد بأربعة أشهر وعشر هي في غير الحامل وأما هي فعليها ذلك حتى تنقضي عدتها بالوضع وأما كون عليها المكث في البيت الذي كانت فيه إلخ فلحديث فريعة1 بنت مالك عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت له إن نعي زوجي أتاني وأنا في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع لي نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له فلو تحولت إلى دور أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني قال: تحولي فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت: فاعتدت أربعة أشهر وعشرا" وفي بعض ألفاظه أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته فأخذ به وقد أعل هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به وأخرج النسائي وأبو داود وغزاه المنذري إلى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله عليها من الربع والثمن ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا وقد ذهب إلى العمل بحديث فريعة جماعة من الصحابة فمن بعدهم وقد روى جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم

_ 1بضم الفاء وفتح الراء وسكون المثناة التحتية وعن مهملة أخت أبي سعيد الخدري شهدت بيعة الرضوان ولها رواية في سبل السلام! هـ. من هامش الأصل.

وقد روى جواز الخروج للعذر عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم ولم يأت من أجاز ذلك بحجة تصلح لمعارضة حديث فريعة وغاية ما هناك روايات عن بعض الصحابة وليست بحجة لا سيما إذا عارضت المرفوع وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلا أن رجالا استشهدوا بأحد فقال: نساؤهم يا رسول الله إنا نستوحش في بيوتنا افنبيت عند إحدانا فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوى كل واحدة إلى بيتها وهذا مع إرساله لا تقوم به الحجة.

فصل في الترهيب في وطء السبايا

فصل في الترهيب في وطء السبايا ويحب استبراء الأمة المسبية والمشتراه ونحوهما بحيضة إن كانت حائضا والحامل بوضع الحمل ومنقطعة الحيض حتى يتبين عدم حملها ولا تستبرأ بكر ولاصغيرة ولا يلزم البائع ونحوه. أقول: أما المسبية فلما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاوس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض حيضة" لما أخرجه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يعلن الذي أراد وطء امرأة حامل من السبى لعنة تدخل معه قبره" وأخرج الترمذي من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن" وأخرج ابن أبي شيبة من حديث علي قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ حامل ختى تضع ولا توطأ حائل حتى تستبرئ بحيضة" وفي إسناده ضعف وانقطاع وأخرج أحمد والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره" وفي إسناده بقية وحجاج بن أرطأة وهما مدلسان وهو يشمل المسبية وغيرهما كالمشتراه والموهوبة وكذلك حديث رويفع بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم

الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره" أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي والضياء المقدسي وابن حبان وصححه والبزار وحسنه وهو كما يتناول الحامل المشتراة ونحوها كذلك يتناول من يجوز حملها من الغير كائنا من كان لأن العلة كونه يسقس ماءه ولد غيره وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن بيع المغانم حتى تقسم وقال:"لا تسق ماءك زرع غيرك" وأصله في النسائي وأخرج البخاري عن ابن عمر "إذا وهبت الوليدة أو بيعت أو أعتقت فلتستبرأ بحيضة ولا تستبرأ العذراء" ويدل على استبراء المشتراة التي هي حامل أو التي جوز حملها الأدلة الواردة في المسبية لأن العلة واحدة وأما العذراء والصغيرة فليستا ممن يصدق تلك العلة وإن كان حمل البالغة العذراء ممكنا مع بقاء البكارة ولكنه في غاية الندرة فلا اعتبار به وأما ما أخرجه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن ليقبض الخمس فاصطفى على منه سبية فأصبح وقد اغتسل ثم بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره" بل قال: في بعض الروايات لنصيب على أفضل من وصيفة فيحمل على أنها كانت صغيرة أو بكرا جمعا بين الأدلة وأنه قد كان مضى لها من وقت من السبى ما تبين به أنها غير حامل وأما كون منقطعة الحيض تستبرأ حتى يتبين عدم حملها فلأنه لا يمكن العلم بعدم الحمل إلا بذلك إذ لا حيض بل المفروض أنه منقطع لعارض أو أنها ضهيأ، وأما من قد بلغت سن اليأس من المحيض قفد صار حملها مأيوسا كحيضها ولا اعتبار بالنادر. وأما كونه لا استبراء على البائع فلعدم الدليل على ذلك لا بنص ولا بقياس صحيح بل هو محض رأي.

باب ما جاء في النفقة

باب ما جاء في النفقة تجب على الزوج للزوجة والمطلقة رجعيا ولا بائنا ولا في عدة الوفاة فلا نفقة ولا سكنى إلا أن يكون حاملين وتجب على الوالد الموسر لولده المعسر والعكس وعلى السيد لمن يملكه ولا تجب على القريب لقربيه إلا من باب صلة الرحم ومن وجبت نفقته وجبت كسوته وسكناه. أقول: أما وجوبها على الزوج للزوجة فلا أعرف في ذلك خلافا وقد أوجبها القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء:5] وقد قرر دلالة هذه الآية على المطلوب الموزعي في تفسيره المسمى ببدر التمام في الآيات والأحكام ولحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف" وهو في الصحيحين وغيرهما ولقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على الزوج " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت" وهو عند أهل السنن وغيرهم. وأما وجوبها للمطلقة رجعيا فلحديث فاطمة بنت قيس أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" أخرجه أحمد والنسائي وفي لفظ لأحمد: "فإذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" وفي إسناده مجالد بن سعيد وقد توبع وأعل بالوقف ولكن الرفع زيادة مقبولة إذا صح مخرجها أو حسن وقد أثبت لها القرآن السكنى قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ويستفاد من النهي عن الاخراج

وجوب النفقة مع السكنى ويؤيده قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ويدل على وجوب النفقة قوله: تعالى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] وقوله تعالى في آخر الآية الأولى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] وهو الرجعة وكان ذلك في الرجعية. وأما البائنة فلا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم رحمه الله وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا "لا نفقة لها ولا سكنى" وفي الصحيحين وغيرهما عنها أنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى" وقد صح حديثها بلا نزاع وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا " وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث وقال: عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت وقد قالت: فاطمة حين بلغها ذلك بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] حتى قال: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] فأي أمر يحدث بعد الثلاث وقد ذهب إلى عدم وجوب النفقة والسكنى للبائنة أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأتباعهم وحكاه في البحر عن ابن عباس والحسن البصري وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى والأوزاعي والإمامية والقاسم وذهب الجمهور إلى أنه لا نفقة لها ولها السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] وقد تقدم ما يدل على أنها في الرجعية وذهب عمر بن الحطاب وعمر بن عبد العزيز والثورى وأهل الكوفة والناصر والإمام يحيى إلى وجوب النفقة والسكنى. وأما عدم وجوبها لمن في عدة الوفاة فلعدم وجود دليل يدل على ذلك في غير الحامل ولا سيما بعد قوله: صلى الله عليه وسلم "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة فإذا لم يكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى" ويؤيده أيضا في تعليل الآية المتقدمة بقوله: تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}

[الطلاق:1] وهو الرجعة ولم يبق في عدة الوفاة ذلك الأمر ويفيده أيضا مفهوم الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] وهو أيضا يدل على وجوب النفقة للحامل سواء كانت في عدة الرجعي أو البائن أو الوفاة وكذلك يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس "لا نفقة لك إلا تكوني حاملا" وقد روى البيهقي عن جابر يرفعه في الحامل المتوفى عنها قال: "لانفقة لها" قال: ابن حجر ورجاله ثقات لكن قال: البيهقي المحفوظ وقفه ولوصح رفعه لكان نصا في محل النزاع وينبغي أن يقيد عدم وجوب السكنى لمن في عدة الوفاة بما تقدم في وجوب اعتدادها في البيت الذي بلغها موت زوجها وهي فيه فإن ذلك يفيد أنها إذا كانت في بيت الزوج بقيت فيه حتى تنقضي العدة ويكون ذلك جمعا بين الأدلة من باب تقييد المطلق أو تخصيص العام فلا إشكال. وأما كونها تجب للولد على والده الموسر فلحديث هند بنت عتبة المتقدم ويؤيده ما تقدم في الفطرة من وجوبها على الرجل ومن يمون. وأما وجوب نفقة الوالد على ولده الموسر فلأن النقفة هي أقل ما يفيده قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن الجاورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم" أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم ويؤيد ذلك حديث "من أبر يا رسول الله؟ قال: "أمك" قال: ثم من قال: "أمك" قال: ثم من قال: "أباك" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة. وأما وجوب النفقة على السيد لمن يملكه فلحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل مالا يطيق" وحديث "فليطعمه مما يأكل ويلسبه مما يلبس" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر.

وأما كونها لا تجب نفقة سائر القرابة إلا من باب صلة الرحم فلعدم ورود دليل يخص ذلك بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة والرحم المحتاج إلى نفقة أحق الأرحام بالصلة وقد قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] وأما كون من تجب نفقته تجب كسوته وسكناه فلما يستفاد من الآيات القرانية والأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها.

باب ما جاء في الرضاع

باب ما جاء في الرضاع إنما يثبت حكمه بخمس رضعات من تيقن وجود اللبن وكون الرضيع قبل الفطام ويحرم به ما يحرم من النسب ويقبل قول المرضعة ويجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر. أقول: أما كون الرضاع لا يثبت إلا بخمس رضعات فلحديث عائشة عند مسلم وغيره أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخ بخمس رضعات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن" وللحديث طرق ثابتة في الصحيح ولا يخالفه حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" أخرجه مسلم وأحمد وأهل السنن وكذلك حديث أم الفضل عند مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان والأملاجة والأملاجتان" وأخرج نحوه أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير لأن غاية ما في هذه الأحاديث أن المصة والمصتين والرضعة والرضعتين والإملاجة والأملاجتين لا يحرمن وهذا هو معنى الأحاديث منطوقا وهو لا يخالف حدييث الخمس الرضعات لأنها تدل على أن ما دون الخمس لا يحرمن وأما معنى هذه الأحاديث مفهوما وهو أن يحرم مازاد على الرضعة والرضعتين فهو مدفوع لحديث الخمس وهي مشتملة على زيادة فوجب قبولها والعمل بها ولا سيما عند قول من يقول إن بناء الفعل على المنكر يفيد التخصيص والرضعة هي أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه ثم يستمر على ذلك حتى يتركه باختياره لغير

عارض وقد ذهب إلى اعتبار الخمس ابن مسعود وعائشة وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم وجماعة من أهل العلم وقد روى ذلك عن علي بن أبي طالب وذهب الجمهور إلى أن الرضاع الواصل إلى الجوف يقتضي التحريم وإن قل. وأما اعتبار تيقن وجود اللبن فلأنه سبب ثبوت حكم الرضاع فلو لم يكن وجوده معلوما وارتضاع الصبي معلوما لم يكن لإثبات حكم الرضاع وجه مسوغ. وأما اعتبار كون الرضيع قبل الفطام فلحديث أم سلمة عند الترمذي وصححه والحاكم أيضا وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقي وابن عدي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لارضاع إلا ماكان في الحولين" وقد صحح البيهقي وقفه ورحجه ابن عدي وابن كثير وأخرج أبو داود الطيالسي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" وقد قال المنذري أنه لا يثبت وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت: "لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: من هذا قلت أخي من الرضاعة قال: يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة". وأما كونه يحرم به ما يحرم من النسب فقد تقدم الاستدلال عليه فيمن يحرم نكاحه من كتاب النكاح. وأما كونه يقبل قول المرضعة فلما أخرجه البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث "أنه تزوح أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنى قال: فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: " وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه " وفي لفظ "دعها عنك" وهو في الصحيح وفي لفظ آخر "كيف وقد قيل ففارقها عقبة " وقد

ذهب إلى ذلك عثمان وابن عباس والزهري والحسن وإسحاق والأوزعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وروى عن مالك. وأما كونه يجوز إرضاع الكبير ولو كان ذا لحية لتجويز النظر فلحديث زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة "إنه يدخل عليك هذا الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت: عائشة مالك في رسول الله أسوة حسنه" وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: "يارسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه حتى يدخل عليك" أخرجه مسلم وغيره وقد أخرجه مسلم وغيره وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة وقد روى هذا الحديث من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وزينب بنت أم سلمة ورواه من التابعين جماعة كثيرة ثم رواه عنهم الجمع الجم وقد ذهب إلى ذلك علي وعائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن عيينة وداود الظاهري وابن حزم وهو الحق وذهب الجمهور إلى خلاف ذلك.

باب الحضانة

باب الحضانة ... باب ماجاء في الحضانة الأولى بالطفل أمه مالم تنكح ثم الخالة ثم الأب ثم يعين الحاكم من القرابة من رأى فيهم صلاحا وبعد بلوغ سن الاستقلال يخير الصبي بين أبيه وأمه فإن لم يوجد أكفله من كان له في كفالته مصلحة. أقول: أما الأم فلحديث عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يارسول الله إن ابني هذا كانت بطني له وعاء وحجري له حواء وثديى له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال: "أنت أحق به مالم تنكحي" أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه وقد وقع الإجماع على أن الأم أولى من الأب وحكى ابن المنذر الاجماع على أن حقها يبطل بالنكاح وقد روى عن عثمان أنه لا يبطل بالنكاح وإليه ذهب الحسن البصري وابن حزم واحتجوا ببقاء ابن أم سلمة في كفالتها بعد أن تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم ويجاب عن ذلك بأن مجرد البقاء مع عدم المنازع لا يحتج به لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها واحتجوا أيضا بما سيأتي في حديث ابنة حمزة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن الحق لخالتها وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقد قال: الخالة بمنزلة الأم ويجاب عن هذا بأنه لا يدفع النص الوارد في الأم ويمكن أن يقال: إن هذا يكون دليلا على ماذهبت إليه الحنفية والهادوية من أن النكاح إذا كان بمن هو رحم للصغير فلا يبطل به الحق ويكون حديث ابنة حمزة مقيدا لقوله: صلى الله عليه وسلم: "مالم تنكحي". وأما كون الخالة أولى بعد الأم ممن عداها فلحديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي:

أنا أحق بها هي ابنة عمي وقال: جعفر بنت عمي وخالتها تحتى وقال: زيد ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم" والمراد بقول زيد ابنة أخي أن حمزة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم آخي بينهما ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه قد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن فمقتضى التشبيه أن الخالة أقدم من غيرها من غير فرق بين الأب وغيره وقد قيل إن الأب أقدم منها إجماعا وليس ذلك بصحيح والخلاف معروف والحديث يحج من خالفه. وأما إثبات حق الأب في الحضانة فهو وإن لم يرد دليل يخصه لكنه قد استفيد من قوله: صلى الله عليه وسلم للأم "أنت أحق به مالم تنكحي" فإن هذا يدل على ثبوت أصل الحق للأب بعد الأم ومن بمنزلتها وهي الخالة وكذلك إثبات التخيير بينه وبين الأم في الكفالة فإنه يفيد إثبات حق له في الجملة. وأما كونه يعين الحاكم من القرابة من رأى فيه صلاحا فلأنه إذا عدمت الأم والخالة والأب والصبي محتاج إلى من يحضنه بالضرورة والقرابة أشفق به فيعين الحاكم من يقوم بأمره منهم ممن يرى فيه صلاحا للصبي وقد أخرج عبد الرزاق عن عكرمة قال: "إن امرأة عمر بن الخطاب خاصمته إلى أبي بكر في ولد عليها فقال: أبو بكر هي أعطف وألطف وأرحم وأحنى وهي أحق بولدها مالم تتزوج" فهذه الأوصاف تفيد أن أبا بكر رضي الله عنه جعل العلة العطف واللطف والرحمة والحنو. وأما كونه يثبت التخيير للصبي بعد بلوغ سن الاستقلال بين الأم والأب فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه" وفي لفظ "أن امرأة جاءت فقالت: يارسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم استهما عليه قال: زوجها من يحاقني في ولدي فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه فانطلقت به" أخرجه أهل السنن وابن أبي شيبة وصححه الترمذي وابن حبان

وابن القطان وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارقطني من حديث عبد الحميد ابن جعفر الأنصاري عن جده أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن صغير له لم يبلغ قال: فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأب هاهنا والأم ههنا ثم خيره وقال: اللهم اهده فذهب إلى أبيه. وأما كونه يكلفه من كان له في كفالته مصلحة إذا لم يوجد فلكونه محتاجا إلى ذلك ولم يوجد من له في ذلك حق بنص الشرع فكانت المصلحة معتبرة في مصلحة ابنه كما اعتبرت في ماله وقد دلت على ذلك الأدلة الواردة في أموال اليتامى من الكتاب والسنة.

كتاب البيع

كتاب البيع البيع ... كتاب البيع المعتبر فيه مجرد التراضي ولو بإشارة من قادر على النطق ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب والسنور والدم وعسب الفحل وكل حرام وفضل الماء وما فيه غرر كالسمك في الماء وحبل الحبلة والمنابذة والملامسة وما في الضرع والعبد الآبق والمغانم حتى تقسم والثمر حتى يصلح والصوف في الظهر والسمن في اللبن والمحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخاضرة والعربون والعصير إلى من يتخذه خمرا والكالئ بالكالئ وما اشتراه قبل قبضه والطعام حتى يجري فيه الصاعان ولا يصح الاستثناء في البيع إلا إذا كان معلوما ومنه استثناء المبيع ولا يجوز التفريق بين المحارم ولا أن يبيع حاضرلباد والتناجش والبيع على البيع وتلقي الركبان والاحتكار والتسعير ويجب وضع الجوائح ولا يحل سلف وبيع ولاشرطان في بيع ولا بيعتان في بيعة وربح مالم يضم وبيع ماليس عند البائع ويجوز بشرط عدم الخداع والخيار في المجلس ثابت مالم يتفرقا. أقول: أما كون المعتبر مجرد التراضي ولو بإشارة من قادر على النطق فلكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة وأنه لا يجوز البيع بغيرها ولا يفيدهم ماورد في الروايات من نحو بعتك وبعت منك فإنا لا ننكر أن البيع يصح ذلك وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ولم يرد في ذلك شيء وقد قال الله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كناية بأي لفظ وقع وعلى أي صفة كان وبأي إشارة مفيدة حصل وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" فإذا وجدت طيبة النفس مع التراضي فلا يعتبر غير ذلك.

وأما كونه لا يجوز بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". وأما عدم جواز بيع الكلب والسنور فلما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب" وفيهما من حديث أبي جحيفة نحوه وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور" وأخرج النسائي باسناد رجاله ثقات قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد. وأما الدم فلحديث أبي جحيفة في الصحيحين قال: إن رسول الله حرم ثمن الدم. وأما عسب الفحل وهو ماء الفحل يكريه صاحبه لينزي به فلما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل" ومثله مافي صحيح مسلم من حديث جابر وفي الباب أحاديث ورخص في الكرامة وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير شرط شيء عليه كذا في الحجة. وأما الحرام فلما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قيل يارسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا وهو حرام" ثم قال: "قاتل الله اليهود إن شاء الله لما حرم شحومها جملوه1 ثم باعوه فأكلوا ثمنه" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن

_ 1 آي أذابوه! هـ.

عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه". وأما فضل الماء فلحديث أياس بن عبدة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء" رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وقال: القشيري هو على شرط الشيخين ولحديث جابر عند مسلم وأحمد وابن ماجه بنحوه وقد ورد مقيدا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ" وفي لفظ "لا يباع الماء ليمنع به الكلأ" وهو في مسلم. وأما مافيه غرر فلحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر" وأخرج أحمد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر" وفي إسناده يزيد ابن أبي زياد وقد رجح البيهقي وقفه ولكنه داخل في بيع الغرر. وأما حبل الحبلة فلنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في مسلم وغيره من حديث ابن عمر وفي الصحيحين كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقد قيل إنه بيع ولد الناقة الحامل في الحال وقيل بيع ولد ولدها كما في الرواية وقد ورد النهي عن شراء ما في بطون الأنعام كما في حديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه ضعف. وأما المنابذة والملامسة فلحديث أبي سعيد في الصحيحين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة في البيع" والملامسة يلمس ثوب الآخر بيده بالليل والنهار ولا يقلبه والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض كذا في الرواية وفي الباب عن أنس عند البخاري ومسلم.

وأما ما في الضرع والعبد الآبق والمغانم والثمرة حتى تصلح والصوف في الظهر والسمن في اللبن فلحديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدم في النهي عن شراء مافي بطون الأنعام فإن فيه النهي عن بيع ما في ضروعها وعن شراء العبد الآبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وقد ورد النهي عن بيع المغانم حتى تقسم من حديث ابن عباس عند النسائي ومن حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وقد روى النهي عن بيع الثمر حتى يطعم والصوف على الظهر واللبن في الضرع والسمن في اللبن من حديث ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن فروح وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وأحاديث النهي عن بيع الغرر تشد من عضد جميع ما في هذه الروايات لأن الغرر يصدق على جميع هذه الصور وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع" وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي هريرة وفي الصحيحين من حديث أنس نحوه. وأما المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخاضرة فلحديث أنس عند البخاري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة والملامسة والمزابنة" وفي الصحيحين من حديث جابر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة" وفي الباب أحاديث المحاقلة بيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد والجميع بيع غرر وجهالة والمخاصرة بيع الثمرة خضراء قبل بدو صلاحها. وأما بيع العربون فلما أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربون" وبيع العربون هو أن يعطي المشتري درهما أو نحوه قبل البيع على أنه إذا ترك الشراء كان الدرهم للبائع بغير شيء ولا يعارض هذا ما أخرجه عبد الرازق في مسنده عن زيد بن أسلم أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العربون في البيع فأجاوه لأن في إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف وأيضا الحديث مرسل.

وأما بيع العصير إلى من يتخذ خمرا فلحديث "لعن الله بائع الخمر وشاربها ومشتريها وعاصرها" وأخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله ثقات من حديث أنس وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه وأبو داود وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وقد قيل إنه غير معروف وقيل إنه معروف وهو من أمراء الأندلس وصحح الحديث ابن السكن وأخرج الطبراني في الأوسط عن بريدة مرفوعا "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة" وإسناده حسن وفي الباب أحاديث. وأما بيع الكالئ بالكالئ أي المعدوم بالمعدوم فلحديث ابن عمر عند الدارقطني والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كاليء بكاليء دين بدين" وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف وقد قال: أحمد فيه لا تحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره وقال: ليس في هذا أيضا حديث صحيح ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين انتهى وتقوية الأحاديث الواردة في اشتراط التقابض كحديث "إذا كان يدا بيد" وهو في الصحيح وحديث "مالم يتفرقا وبينكما شيء". وأما بيع ما اشتراه قبل قبضه فلحديث جابر عند مسلم وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه" وأخرج مسلم أيضا وغيره قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حتى تستوفى" وأخرج أحمد من حديث حكيم ابن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: له "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه1" وفي إسناده العلا ابن خالد الواسطي وأخرج أبو داود والدارقطني والحاكم وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلى رحالهم" وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.

_ 1 في الأصل تقضيه 1هـ هامش الأصل.

وأما كونه لا يصح الاستنثاء في المبيع إلا إذا كان معلوما فلحديث جابر عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا" وزاد النسائي والترمذي وابن حبان وصححاه إلا إن يعلم والمراد أن يبيع شيئا ويستثني منه شيئا مجهولا إلا إذا كان معلوما فيصح ومن الثنيا المعلومة استثنى جابر لظهر جملة إلى المدينة بعد أن باعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحين وغيرهما من حديثه. وأما كونه لا يجوز التفريق بين المحارم فلحديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" وأخرج أحمد والترمذي والدارقطني والحاكم وصححه وحديث علي أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك له فقال: أدركهما فارتجعهما ولا تبعمها إلا جمعيا" وأخرجه أحمد وقد صححه ابن خزيمة وابن الجاورد وابن حبان والحاكم وغيرهم حديث أبي موسى قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين الوالد وولده وبين الأخ وأخيه" أخرجه ابن ماجه والدارقطني ولا بأس بإسناده وحديث علي أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع" أخرجه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه وقد أعل بالانقطاع وفي الباب أحاديث وقد قيل إنه مجمع على ذلك وفيه نظر1. وأما بيع الحاضر للباد فلحديث ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن يبع حاضر لباد" أخرجه البخاري وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه". وأما التناجس وهو الزيادة في ثمن السلعة مواطأة لرفع ثمنها فلحديث

_ 1 في المنهاج بيع حاضر لباد هو أن يقدم غريب بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه فيقول بلدي اتركه عندي لأبيعه على التدريج.

أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد وأن تناجشوا" وفيهما من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش". وأما البيع على البيع فلحديث ابن عمر عند أحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه" وهو في الصحيحين أيضا بنحو ذلك وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه" وقد ورد أن من باع من رجلين فهو للأول منهما" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وصححه أبو زرعة وأبو حاتم والحاكم. وأما تلقي الركبان فلحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق" وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع" وفيهما أيضا نحو ذلك من حديث ابن عمر وابن عباس. وأما الاحتكار فلحديث ابن عمر عند أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلي مرفوعا: "من أحتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وفي إسناده أصبغ بن عبد زيد وفيه مقال: وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: "لا يحتكر إلا خاطئ" وأخرج نحوه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة. وأما التسعير فلحديث أنس عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي والبزار وأبي يعلى أن السعر غلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا فقال: " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال" وصححه ابن حبان والترمذي وفي الباب أحاديث. وأما ووضع الجوائح فلحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح" أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وأخرجه أيضا مسلم رحمه الله بلفظ: "أمر

بوضع الجوائح" وفي لفظ لمسلم وغيره "إن كنت بعت من أخيك ثمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك" وفي الباب عن عائشة في الصحيحين وعن انس فيهما أيضا وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة والليث وسائر الكوفيين. وأما كونه لايحل سلف وبيع وشرطان في بيع فلحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لايحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولاربح مالم يضمن ولاتبع ماليس عندك" أخرجه أحمد وأبوداود والنسائي والترمذي وصححه وكذلك صححه ابن خزيمة والحاكم والمراد بالسلف هنا القرض قال: مالك هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه يزداد عليه وهو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل أن يقول أبيعك عبدي هذا بألف على أن تسلفني ماله في كذا وكذا والشرطان في بيع أن يقول بعتك هذا بألف إن كان نقدا وبألفين إن كان سيئة وقيل هو أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعلى قصارته وخياطته. وأما البيعتان في بيعة فلحديث أبي هريرة عند احمد والنسائي وأبي داود والترمذي وصححه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة" ولفظ أبي داود: "من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا" وأخرجه احمد من حديث عبد الله بن مسعود قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة" قال: سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسئ كذا وبنقد كذا ورجاله رجال الصحيح وما ذكره سماك هو معنى البيعتين في بيعة وقد تقدم تفسير الشرطين في بيع مثل هذا وليس بصحيح بل المراد بالشرطين في بيعه أن البيع واحد شرط فيه شرطان وهنا البيع البيعان. وأما ربح مالم يضمن فلما تقدم في دليل لايحل سلف وبيع وهو ان يبيع شيئا لم يدخل في ضمانه كالبيع قبل القبض. وأما بيع ماليس عند البائع فلحديث حكيم بن حزام قال: قلت يارسول

الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي أبيعه منه ثم ابتاعه من السوق فقال: لا تبع ماليس عندك" أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والمراد بقوله: ماليس عندك ماليس في ملكك وقدرتك. وأما كونه يجوز شرط عدم الخداع فلحديث ابن عمر في الصحيحين قال: "ذكر رجل لرسول الله أنه يخدع في البيوع فقال: "من بايعت فقل لا خلابة" وفي الباب أحاديث والخلابة الخديعة وظاهره أن من قال بذلك ثبت له الخيار سواء غبن أو لم يغبن. وأما كون الخيار في المجلس ثابتا مالم يفترقا فلحديث حكيم بن حزام في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار مالم يفترقا" وفيهما أيضا نحوه من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى إثبات خيار المجلس جماعة من الصحابة منهم علي وأبو برزة الأسلمي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم ومن التابعين شريح والشعبي وطاوس وعطاء وابن أبي مليكة نقل ذلك عنهم البخاري ونقل ابن المنذر القول به أيضا عن سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب من أهل المدينة وعن الحسن البصري والأوزاعي وابن جريح وغيرهم وبالغ ابن حزم فقال: لا يعرف لهم مخالف من التابعين إلا النخعي وحده ونقل صاحب البحر ذلك عن الصادق والباقر وزين العابدين وأحمد بن عيسى والناصر والإمام يحيى وحكاه أيضا عن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وذهب الحنفية والمالكية وغيرهم إلى أنها إذا وجبت الصفقة فلا خيار والحق القول الأول.

باب ما جاء في الربا

باب ما جاء في الربا يحرم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل يدا بيد وفي إلحاق غيرها بها خلاف فإن اختلفت الأجناس جاز التفاضل إذا كان يدا بيد ولا يجوز بيع الجنس بجنسه مع عدم العلم بالتساوي وإن صحبه غيره ولا بيع الرطب بما كان يابسا إلا لأهل العرايا ولا بيع اللحم بالحيوان ويجوز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه ولا يجوز بيع العينة. أقول: الستة الأجناس المذكورة هي المنصوص عليها في الأحاديث كحديث أبي سعيد بلفظ: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء". وهو في الصحيح وسائر الأحاديث في الصحيحين وغيرهما هكذا ليس فيها إلاذكر الستة الأجناس وقد اختلف في الإلحاق هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة غيرها فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الإتفاق في الجنس وتحريم النساء فقط مع الإختلاف في الجنس والإتفاق في العلة فقالت: الظاهرية أن لا يلحق بها غيرها وذهب من عداهم إلى أنه يلحق بها مايشاركها في العلة واختلفوا في العلة ما هي فقيل الاتفاق في الجنس والطعم وقيل الجنس والتقدير بالكيل والوزن والإقتيات وقيل الجنس ووجوب الزكاة وقد استدل لمن قال: بالإلحاق بما أخرجه الدارقطني والبزار من حديث عبادة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماوزن فمثل

بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به" وقد أشار إلى هذا الحديث صاحب التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقة أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة وهذا الحديث كما يدل على إلحاق غير الستة بها كذلك يدل على أن العلة الاتفاق في الكيل والوزن مع اتحاد الجنس ومما يدل على أن الربا يثبت في غير هذه الأجناس حديث ابن عمر في الصحيحين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن: كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله" وفي لفظ لمسلم وعن كل ثمر يخرصه" فإن هذا الحديث يدل على ثبوت الربا في الكرم والزبيب ورواية مسلم تدل على أعم من ذلك ومما يدل على الإلحاق ما أخرجه مالك في المؤطأ عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان" وأخرجه أيضا الشافعي وأبو داود في المراسيل ووصله الدارقطني في الغرائب عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد وحكم بضعفه وصوب الرواية المرسلة وتبعه ابن عبد البر وله شاهد من حديث ابن عمر عند البزار وفي إسناد ثابت بن زهير وهو ضعيف وأخرجه أيضا من رواية أبي أميمة بن أبي يعلي عن النافع أيضا وأبو أمية ضعيف وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة ومما يؤيد ذلك حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عند الترمذي في رخصة العرايا وفيه عن بيع العنب بالزبيب وعن كل ثمرة يخرصه ومما يدل على أن المعتبر الإتفاق في الوزن حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم بلفظ "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء". وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة: "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل" وعند مسلم والنسائي وأبي داود من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن" ومما ورد في اعتبار الكيل حديث ابن عمر

المتقدم، وفيه "وإن كان كرما أن تبيعه بزبيب كيلا" ومما سيأتي قريبا من النهي عن بيع الصبرة لا يعلم كيلها. وأما جواز التفاضل مع اختلاف الأجناس فلما ثبت في الصحيح من حديث عبادة صامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" وفي الباب أحاديث. وأما كونه يعتبر العلم بالتساوي فلما وقع في الأحاديث الصحيحة من قوله: "مثلا بمثل سواء بسواء وزنا بوزن" فإن هذا يدل على أنه لا يجوز بيع الشيء بجنسه إلا بعد العلم بالمساواة والمماثلة ومما يدل على ذلك حديث جابر عند مسلم وغيره قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر" فإن هذا يدل على أنه لا يجوز البيع إلا بعد العلم. وأما كونه لا تأثير لمصاحبة شيء آخر لأحد المثلين فلحديث فضالة بن عبيد عند مسلم وغيره قال: "اشتريت قلادة يوم خبير باثنى عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثنى عشر دينار فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل" وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف منهم عمر بن الخطاب وقال: به الشافعي وأحمد وإسحاق وذهب جماعة منهم الحنفية والهدوية إلى جواز التفاضل مع مصاحبة شيء شيء آخر إذا كانت الزيادة مساوية لما قابلها. وأما كونه لا يجوز بيع الرطب بما كان يابسا فلحديث ابن عمر المتقدم في النهي عن أن يبيع الرجل ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيع بزبيب كيلا وكذلك حديث رافع بن خديج وسهل ابن أبي حثمة المتقدمان. وأما جواز ذلك لأهل العرايا فلحديث زيد ابن ثابت عند البخاري وغيره:

أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا" وفي لفظ في الصحيحين "رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرأ يأكلونها رطبا" وأخرج أحمد والشافعي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" وفي الباب أحاديث والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للفقراء الذين لا نخل لهم أن يشتروا من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجرة بخرصه تمرا والعرايا جمع عرية وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة وقد ذهب إلى ذلك الجمهور ومن خالف فالأحاديث ترد عليه. وأما المنع من بيع اللحم بالحيوان فلما تقدم قريبا. وأما جواز بيع الحيوان باثنين أو أكثر من جنسه فلحديث جابر عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين" وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه وأخرج مسلم رحمه الله أيضا وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبى" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبعث جيشا على إبل كانت عنده قال: فحملت الناس عليه حتى نفذت الإبل وبقيت بقية من الناس قال: فقلت يا رسول الله الإبل قد نفذت وبقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال: لي ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى ينفذ هذا البعث قال: وكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها حتى نفذت ذلك البعث فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال: وقوى في الفتح إسناده وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجاورد من حديث سمرة قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة" وهو من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه وقد جمع الشافعي بين الحديثين بأن المراد به النسيئة من الطرفين فيكون ذلك من بيع الكاليء بالكاليء لا من طرف واحد فيجوز.

وأما كونه لايحوز بيع العينة فلحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم البلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم". أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه قال: الحافظ رجاله ثقات والمراد بالعينة بكسر العين المهملة بيع التاجر سلعته بثمن إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن ويدل على المنع من ذلك ما رواه أبو إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت: لها عائشة بئسما اشتريت وبئسما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلاأن يتوب" أخرجه الدارقطني وفي إسناده الغلية بنت أيفع وقد روى عن الشافعي أنه لايصح وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده وقد ذهب إلى عدم جواز العينة مالك وأبوحنيفة وأحمد والهدوية وجوز ذلك الشافعي وأصحابه وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها البيهقي في سننه بابا.

باب الخيارات

باب الخيارات يجب على من باع ذا عيب أن يبينه وإلا ثبت للمشترى الخيار والخراج بالضمان وللمشتري الرد بالغرر ومنه المصراة فيردها وصاعا من تمر أو ما يتراضيان عليه ويثبت الخيار لمن خدع أو باع قبل وصول السوق ولكل من المتبايعين بيعا منهيا عنه الرد ومن اشترى شيئا لم يره فله رده إذا رآه وله رد مااشتراه بخيار وإذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله: البائع. أقول: أما وجوب بيان العيب على البائع فلحديث عقبة بن عامر عن ابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني قال: "سمعت رسول الله يقول: "المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلابينه" وقد حسن إسناده الحافظ في الفتح وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك ومن حديث واثلة مرفوعا وفي إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع والأول مختلف فيه والثاني مجهول وأخرج ابن ماجه والترمذي والنسائي وابن الجاورد والبخاري تعلقيا من حديث العداء ابن خالد قال: "كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم هذا ماشتراه العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم من المسلم" ويؤيده هذه الأحاديث حديث "من غشنا فليس منا" وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فدلت هذه الأحاديث على أنه من باع ذا عيب ولم يبينه فقد باع بيعا لا يحل شرعا فيكون المشتري بالخيار إن رضيه فقد أثم البائع وصح البيع لوجود المناط الشرعي وهو

التراضي وإن لم يرضه كان له رده لأن العلم بالعيب كشف عن عدم الرضا الواقع حال العقد فلم يوجد المناط الشرعي ولما ورد في رد المعيب وسيأتي. وأما كون الخراج بالضمان فلحديث عائشة عند أحمد وأهل السنن والشافعي وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجاورد والحاكم وابن القطان وابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان" وفي رواية أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب فقال: البائع غلة عبدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغلة بالضمان" والمراد بالخراج الدخل والمنفعة أي يملك المشترى الخراج الحاصل من البيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه وأما الرد بالغرر فلأن المشتري إنما رضي بالمبيع عند العقد قبل علمه بالغرر فإذا تبين له الغرر كشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي ومن ذلك المصراة فإنه يثبت الخيار فيها لوجود الغرر الكائن بالتصرية وهوحبس اللبن في الضروع ليخيل للمشتري غزارته فيغتر وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" وفي رواية مسلم وغيره "من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام وإن شاء أمسكها وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر لا سمراء". وأما كونه يجوز رد ما يتراضيان عليه فلأن حق الآدمي مفوض إليه فإذا رضي بأخذ عوض عنه جاز ذلك كما لو رضي بإسقاطه أو بعضه. وأما كونه يثبت بالخيار لمن خدع فإن كان مع شرط عدم الخداع فلا ريب في ذلك لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلا كان يخدع في البيوع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من بايعت فقل لا خلابة" وهو في الصحيحين وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لحيان بن منقذ الذي كان يخدع في البيوع الخيار ثلاثة أيام" كما في حديث ابن عمر في رواية منه وكذلك في حديث غيره وأما إذا لم يشترط فالبيع الذي وقع ليس هو البيع المسلم إلى المسلم بل هو مشتمل على الخبث والخداع

والغائلة فللمخدوع الخيار لكونه كذلك ويكون الخداع كشفا عن عدم الرضا المحقق الذي هو المناط كما تقدم تقريره. وأما كونه يثبت الخيار لمن باع قبل وصول السوق فلحديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق1". وأما كونه لكل واحد من المبتايعين الخيار إذا وقع البيع على صورة منهي عنها كتلك الصور المتقدمه فوجهه أن النهى إن كان مقتضيا للفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول فوجود العقد كعدمه وهو غير لازم لواحد منهما فالرد بالخيار هو بمعنى الرد لما هو غير لازم وإن كان النهي غير مقتض للفساد فوقوع العقد على صورة من تلك الصور إن رضيه كل واحد منهما فقد حصل المناط الشرعي وهو الرضا وإن لم يحصل منهما الرضا أو من أحدهما لوقوعه على وجه يخالف الشرع فقدْ فقدَ المناط. وأما كون من اشترى شيئا لم يره فله الرد إذا رآه فلحديث أبي هريرة مرفوعا "من اشترى مالم يره فله الخيار إذا رآه" أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي وهو ضعيف ولكنهما أخرجا عن مكحول مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفي إسناده أيضا أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ومثل هذا لا تقوم به الحجة ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر فإن مالم يقف الإنسان على حقيقته لايخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا وأيضا لا بد من حصول المناط الشرعي وهو التراضي فإذا لم يرض المشتري بالبيع عند رؤيته فقد الرضا فعدم المصحح. وأما كون له رد ما اشتراه بخيار وذلك نحو يشتري شيئا على أن له فيه الخيار مدة معلومة فلما ورد في الأحاديث الصحيحة الواردة في خيار المجلس

_ 1وتلقي الجلب هو أن يقدم ركب بتجارة فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد ويعرفوا السعر فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد وهو مظنة ضرر للبائع وله الخيار إذا عثر على الضرر.

بلفظ كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار بهذا المعنى ولكنه قد اختلف في تفسير بيع الخيار فقيل هذا وقيل غيره ويؤيده ثبوت الشرط ماتقدم من حديث من كان يخدع في البيوع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: له إذا بايعت فقل لاخلابة وفي بعض الروايات ولك الخيار ثلاثة أيام وقد تقدم ذلك وأما كونه إذا اختلف البيعان فالقول ما يقوله: البائع فلحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم وابن السكن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول مايقوله صاحب السلعة أو يترادان" وفي لفظ "والمبيع قائم بعينه" وفي لفظ "إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك فالقول قول البائع" وفي لفظ "ولابينة بينهما" وفي الباب روايات كثيرة قد استوفيتها في شرح المنتقى وحاصلها يفيد أن القول قول البائع وقد قيل أن هذا الحديث مخصص لأحاديث أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وسيأتي وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه وقد اختلف أهل العلم في ذلك اختلافا طويلا.

باب السلم

باب السلم هو أن يسلم رأس المال في مجلس العقد على أن يعطيه ما يتراضيان عليه معلوما إلى أجل معلوم ولايأخذ إلاما سماه أو رأس ماله ولايتصرف قبل قبضه. أقول: السلم هو نوع مخصوص من أنواع البيع فلا يجوز أن يكون المالان مؤجلين لأن ذلك هو بيع الكالئ بالكالئ وقد تقدم المنع منه فلا بد أن يكون رأس المال مدفوعا عند العقد وقد وقع الإتفاق على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس وقد شرط في السلم جماعة من أهل العلم شروطا لم يدل عليها دليل. وأما اعتبار أن يكون المسلم فيه معلوما والأجل معلوما فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وأخرج أحمد والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزي وعبد الله بن أبي أوفى قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى وقيل أكان لهم زرع أو لم يكن قالا ماكنا نسألهم عن ذلك" وفي لفظ لأحمد وأهل السنن إلا الترمذي وما نراه عندهم. وأما كونه لا يأخذ إلا ما سماه أو رأس المال فلحديث ابن عمر عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه" وفي لفظ "من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله".

وأما كونه لا يتصرف فيه قبل قبضه فلما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره" وفي إسناده عطية بن سعيد العوفي وفيه مقال، والمعنى أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل قبضه وقد اختلف أهل العلم في ذلك.

باب القرض

باب القرض يجب إرجاع مثله ويجوز أن يكون أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا ولايجوز أن يجر القرض نفعا لمقرض. أقول: أما وجوب رد المثل فلأنه إذا وقع التواطؤ على أن يكون القضاء زائدا على أصل الدين فذلك هو الربا بل قد ورد مايدل على أن مجرد الهدية من المستقرض للمقرض ربا كما أخرجه البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: "قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال: لي إنك بأرض فيها الربا فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل بر أو حمل شعير أو حمل قت فلاتأخذه فإنه ربا". وأما كونه يجوز أن يكون القضاء أفضل أو أكثر إذا لم يكن مشروطا فلحديث جابر في الصحيحين قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني" وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة قال: "كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنة فلم يجدوا إلاسنا فوقها فقال: أعطوه فقال: أوفيتني أوفاك الله" فقال: النبي "إن خيركم أحسنكم قضاء" وأخرج نحوه مسلم وغيره من حديث أبي رافع وهذان الحديثان كما يدلان على جواز أن يكون القضاء أفضل يدلان على أنه لايصح قرض الحيوان وإليه ذهب الجمهور ومنع من ذلك الهدوية. وأما كونه لايجوز أنم يجر القرض نفعا للمقرض فلحديث أنس عند ابن ماجه أنه سئل عن الرجل يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه حمله على الدابة فلا يركبها ولا

يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" وفي إسناده يحيى ابن إسحاق الهنائى وهو مجهول وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد العتبي وقد ضعفه أحمد والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف وقد أخرج البخاري في التاريخ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقرض فلا يأخذ هدية" وأخرج البيهقي عن ابن مسعود وأبي كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس في السنن الكبرى موقوفا عليهم أن كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجه الربا" وأخرج البيهقي أيضا نحو ذلك في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا عليه وقد تقدم ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن سلام وقد أخرجه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة" وفي رواية "كل قرض جر منفعة فهو ربا" وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك وفي الباب من الأحاديث والآثار مايشهد بعضها لبعض.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة سببها الاشتراك في شيء ولو منقولا فإذا وقعت القسمة فلا شفعة ولايحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه ولاتبطل بالتراخي. أقول: أما كون سببها الاشتراك ولومنقولا فلعموم الأحاديث الواردة في ذلك كحديث جابر في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل مالم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق بلا شفعة" أخرجه أيضا بنحو هذا اللفظ أهل السنن وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قسمت الدار وحدت فلا شفعة فيها" أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم" وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا "الشفعة في كل شيء" ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به. وأما كون القسمة تبطل الشفعة فلما في هذه الأحاديث من التصريح بأنها في الشيء الذي لم يقسم ثم فسر القسمة بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فالأحاديث الواردة في مطلق شفعة الجار كأحاديث "الجار أحق بصقبة1" وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيدة بعدم القسمة لأن الجار كما يصدق على الملاصق يصدق على المخالط. وأما تقييد شفعة الجار باتحاد الطريق كما في حديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره" ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدة فهذا الحديث يؤيد ما قلناه من أنه لا شفعة إلا للخليط" لأن الطريق إذا كانت واحدة فالخلطة كائنة فيها ولم تقع القسمة الموجبة لبطلان الشفعة لعدم تصريف الطريق فالحق

_ 1 الصقب: بالتحريك وفي رواية بالسين القرب.

أن سبب الشفعة هو واحد وهو الشركة قبل القسمة فما قيل من أن من أسبابها الاشتراك في الطريق والإشتراك في قرار النهر أو مجاري الماء هو راجع إلى السبب الذي ذكرناه لأن الإشتراك في طريق الشيء أو في سواقيه هو اشتراك في بعض ذلك الشيء وقد حققت المقام في رسالة مستقلة أو ردت فيها جميع ماورد في الشفعة من الأدلة وجمعت بينها جمعا نفسيا فليرجع إليها وقد حكى في البحر عن علي وعمر وعثمان وسعيد ابن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك والشافعي والأوزعي وأحمد وإسحاق وعبيد بن المحسن والإمامية أن الشفعة لا تثبت إلا بالخلطة" وحكى عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وابن سيرين أن الشفعة تثبت بالجوار" واستدلوا بالأحاديث الواردة في شفعة الجار. وأما كونه لا يحل للشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه فلحديث جابر رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعه أو حائط "ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به". وأما كونها لا تبطل بالتراخي فلما في الأحاديث الصحيحة الواردة في الشفعة من الإطلاق. وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ "لا شفعة لغائب ولا لصغير والشفعة كحل العقال:" ففي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن السليماني وهو ضعيف جدا وقال: أبو حيان لا أصل للحديث وقال: أبو زرعة منكر وقال: البيهقي ليس بثابت ولا يصح تأييد هذا الحديث الباطل بما روى من قول شريح فإنه لا حجة في ذلك على أن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاثة أحكام نفى شفعة الغائب ونفى شفعة الصغير واعتبار الفور وقد هجر ظاهرة في الحكمين الأولين فكان ذلك مفيدا لترك الاحتجاج به في الحكم الثالث على فرض أنه غير باطل.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة الإجارة ... كتاب الإجارة تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي وتكون الأجرة معلومة عند الاستئجار فإن لم تكن كذلك استحق الأجير مقدار عمله عند أهله ذلك العمل وورد النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن وعسب الفحل وأجره المؤذن وقفيز الطحان ويجوز الاستئجار على تلاوة القرآن لا على تعليمه وأن يكرى العين مدة معلومة بأجرة معلومة ومن ذلك الأرض لا بشرط ما يخرج منها ومن أفسد ما استؤجر عليه أو أتلف ما استأجره منه ضمن. أقول: أما كون الإجارة تجوز على كل عمل لم يمنع منه مانع شرعي فلإطلاق الأدلة الواردة في ذلك كحديث أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره" أخرجه أحمد ورجاله رجال الصحيح وأخرجه أيضا البيهقي وعبد الرزاق وإسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع ولفظ بعضهم من استأجر أجيرا فليسم له أجرته ولإطلاق حديث أبي هريرة عند البخاري وأحمد قال: قال رسول الله صلى اببه عليه وسلم: "يقول الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع جزءا ثم أكل ثمنه ورجل أستأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره" وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم دليلا عند هجرته إلى المدينة كما في البخاري وغيره وثبت من حديث أبي هريرة عند البخاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال: أصحابه وأنت قال نعم: "كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدى بزا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سروايل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال: له زن وأرجح" وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر له قدر أجرته بل أعطاه ما يعتاده في مثل ذلك وقد

كان الصحابة يؤجرون أنفسهم في عصره ويعملون الأعمال المختلفة حتى أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من امرأة على أن ينزع لها كل ذنوب بتمرة فنزع ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداه فعدت له ست عشرة تمرة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأكل معه منها" أخرجه أحمد من حديث علي بإسناد جيد وأخرجه أيضا ابن ماجه وصححه ابن السكن وأخرجه البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عباس أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة" وأما المانع الشرعي فهو مثل الصور التي سيأتي ذكرها. وأما اعتبار كون الأجرة معلومة فلحديث أبي سعيد المتقدم. وأما كون من لم يكن أجرته معلومة يستحق مقدار عمله عند أهل ذلك العمل فلحديث سويد ابن قيس السابق "ولكون ذلك هو الأقرب إلى العدل". وأما النهي عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن فلحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب" أخرجه أحمد برجال الصحيح وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط ومثله في حديث رافع ابن خديج عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وصححه وهو أيضا في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي مسعود البدري قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغى وحلوان الكاهن وعسب الفحل" وقد تقدم الكلام على ثمن الكلب وعلى عسب الفحل في البيع والمراد بمهر البغي ما تأخذه الزانية على الزنا والمراد بحلوان الكاهن عطية الكاهن لأجل كهانته والحلوان بضم الحاء المهملة مصدر حلوته إذا أعطيته وقد استدل بما تقدم بعض أهل الحديث فقال: إنه يحرم كسب الحجام وقد ورد في معنى ما تقدم أحاديث وفي بعضها التصريح بأنه خبيث وأنه سحت وذهب الجمهور إلى أنه حلال لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم حجمه أو طيبه واعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه وفيهما أيضا من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره" ولو كان سحتا لم يعطه والأولى الجمع بين الأحاديث بأن كسب

الحجام مكروه غير حرام إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى معالى الأمور ويؤيد ذلك حديث محيصة بن مسعود عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات أنه كان له غلام حجام فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه فقال: "ألا أطعمه أيتاما لي قال: لا قال: أفلا أتصدق به قال: "لا فرخص له أن يعلفه ناضجة" فلو كان حراما بحتا لم يرخص فيه أن يعلفه ناضحة ويستفاد منه أن إعطاءه صلى الله عليه وسلم للحجام لا يستلزم أن يأكله أهله حتى تتعارض الأحاديث فقد يكون مكروها لهم ويكون وصفه بالسحت والخبث مبالغة في التنفير وقد يمكن الجمع بالمنع عن مثل ما منع منه محيصة والإذن لمثل ما أذن له به رخص له فيه. وأما أجرة المؤذن: فلحديث عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعثمان بن أبي العاص وأتخذ مؤذنا لايأخذ على آذانه أجرا" وفي لفظ "لا تتخذوا مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا" والحديث في الصحيح. وأما قفيز الطحان فلحديث أبي سعيد قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان" أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده هشام أو كليب قيل لا يعرف وقد أورده ابن حبان في الثقات ووثقه مغلطاي وقفيز الطحان هو أن يطحن الطعام يجزئ منه وقيل المنهي عنه طحن الصبرة لا يعلم قدرها بجزء منها. وأما جواز الإستئجار على تلاوة القرآن لا على تعليمه فلحديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما فانطلق الرجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا" حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أحق ما أخذنم عليه أجرا كتاب الله" وفي لفظ من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصبتم أقسموا واضربوا لي معكم سهم اوضحك النبي صلى الله عليه وسلم" والحديث في الصحيحين بألفاظ وفي حديث خارجه بن الصلت عن عمه في رقية المجنون

بفاتحة الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذها فلمعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. وأما كونه لا يجوز أخذها على تعليمه فلحديث أبي ابن كعب قال: "علمت رجلا القرآن فأهدى إلى قوسا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن أخذتها أخذت قوسا من نار فرددتها" أخرجه ابن ماجه والبيهقي وقد أعل بالإنقطاع وتعقب وأعل أيضا بجهالة بعض رواته وله شاهد عند الطبراني من حديث الطفيل بن عمر الدوسي قال: "أقرأني أبي ابن كعب القرآن فأهديت إليه قوسا فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها فقال: له النبي صلى الله عليه وسلم تقلدها من جنهم" وعلى هذا يحمل حديث عبد الرحمن ابن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأوا القرآن ولاتغلوا فيه ولاتجفوا عنه ولاتأكلوا به ولاتستكثروا به" أخرجه أحمد برجال الصحيح وأخرجه أيضا البزار وله شواهد وحديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأو القرآن واسألوا الله به فإن من بعدكم قوما يقرأون القرآن يسألون الناس به" أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وفي الباب أحاديث ووجه المنع من أخذ الأجرة على تعليمه أن ذلك من تبليغ الأحكام الشرعية وهو واجب وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة والهدوية وبه قال: عطاء والضحاك والزهري وإسحاق وعبد الله بن شقيق1. وأما كونه يجوز أن تكرى العين مدة معلومة بأجره معلومة فلما ورد من إكراء الأرضي في عصره صلى الله عليه وسلم كحديث رافع بن خديج في الصحيحين قال: "كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه

_ 1حديث تعليم المرأة في مقابلة مهرها يدل على الجواز، وكذلك الحديث العام وهو أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله، فيحمل حديث المنع من أخذ الأجرة على التعليم على تعليم الفرائض من كتاب الله كما أشار إليه الشارح من أنه تبليغ للأحكام الشرعية وهو واجب، ويكون مخصصا للعام المفيد للجواز.

فربما خرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالورق فلم ينهنا" وفي لفظ لمسلم رحمه الله وغيره "فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به" وسائر الأعيان لها حكم الأرض. وأما كونه لا يجوز إكراء الأرض بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع لأن أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع" وإن كانت ثابتة في الصحيحين وغيرهم فهي منسوخة بمثل حديث رافع المتقدم وما ورد في معناه وفي المسألة مذاهب وأدلة مختلفة واجتهادات مضطربة قد أوضحناها في شرح المنتقى وفي رسالة مستقلة ومن أصرح أحاديث النهي حديث جابر عند مسلم وغيره قال: كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا ومن كذا فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له أرض فليزرعها أو ليحثرها أخاه وإلا فليدعها" وفي حديث سعد بن أبي وقاص أنه نهاهم أن يكرو بذلك وقال: أكروا بالذهب والفضة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورجاله ثقات وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة نحو حديث جابر. وأما كون من أفسد ما استؤجر عليه أو أتلف ما استأجره ضمن فلمثل حديث "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححه وهوحديث الحسن عن سمرة وفي سماعه منه كلام مشهور والمراد أن على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه والبزار من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن" وقد أخرجه النسائي مسندا ومنقطعا ويؤيده حديث عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: حدثني بعض الوفد الذين قدموا علي أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك

فأعنت فهو ضامن" أخرجه أبو داود فالمتطبب إنما ضمن لكونه أقدم على بدن المريض غير عالم بما يعلم به أهل هذه الصناعة فكان ضامنا وهكذا من استؤجر على عمل عين فأقدم على العمل فيها غير عالم بالصناعة وأفسدها بتعاطيه ضمن وهكذا من استأجر دابة ليركب عليها إلى مكان فسار بها سيرا غير معتاد فهلكت أو ترك علفها فماتت فإنه ضامن.

باب ما جاء في الإحياء والأقطاع

باب ما جاء في الإحياء والأقطاع من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها غيره فهو أحق بها وتكون ملكا له ويجوز للإمام أن يقطع من في إقطاعه مصلحة شيئا من الأرض الميتة أو المعادن او المياه. أقول: أما كون من سبق إلى إحياء أرض لم يسبق إليها يملكها فلحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرض ميتة فهي له" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححه وفي لفظ "من أحاط حائطا على أرض فهي له" أخرجه أحمد وأبو داود وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجاورد من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا "من أحاط حائطا على أرض فهي له" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي من حديث سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احيا أرضا ميتا فهي له وليس لعرق ظالم حق" وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها" وأخرج أبو داود من حديث أسمر بن مضرس قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: من سبق إلى مالم يسبق إليه مسلم فهو له فخرج الناس يتعادون يتخاطون" أي يجعلون في الأرض خطوطا علامة لما سبقوا إليه وصححه الضياء في المختارة. وأما كونه يجوز للإمام إقطاع الأراضي الميتة والمعادن والمياه فلما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر من أنها كانت تنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن

النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه وأجرى الفرس حتى قام ثم رمى بسوطه فقال: اقطعوه حيث بلغ السوط" وفي إسناده عبد الله بن عمر بن حفص وفيه مقال: خفيف وأقطع النبي وائل بن حجر أرضا بحضرموت كما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن حبان والبيهقي والطبراني وابن المنذر بإسناد حسن وصححه الترمذي وأخرج أحمد من حديث عروة بن الزبير أن عبد الرحمن ابن عوف قال: أقطعني النبي صلى الله عليه وسلم وعمر بن الحطاب أرض كذا وكذا" وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم البحرين فقالوا: يارسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها فلم يكن ذلك عند النبي فقال: إنكم ستلقون بعدى أثره فاصبروا حتى تلقوني" وأخرج أحمد وأبوداود من حديث ابن عباس قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارس المزني معادن القبيلة جليسها وغوويها" وأخرجاه أيضا من حديث عمرو بن عوف المزني وأخرج الترمذي وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي من حديث ابيض بن جمال "أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح فقطع له فلما أن ولى قال: له رجل من المجلس أتدري ما أقطعت له إنما أقطعته المال العد قال: فانتزعه منه" وفي الباب غير ذلك

كتاب الشركة

كتاب الشركة الناس شركاء في الماء والنار والكلأ وإذا تشاجر المستحقون للماء كان الأحق به الأعلى فالأعلى يمسكه إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته ولا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ وللإمام أن يحمي بعض المواضع لرعي دواب المسلمين في وقت الحاجة ويجوز الإشتراك في النقود والتجارات ويقسم الربح على ما تراضيا عليه وتجوز المضاربة به مالم تشتمل على ما لا يحل وإذا تشاجرا الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع ولا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ولا ضرر ولا ضرار بين الشركاء ومن ضار شريكه جاز للإمام عقوبته بقلع شجره أوبيع داره. أقول: أما الاشتراك في الماء والنار والكلأ فلحديث أبي حراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ" أخرجه أحمد وأبو داود وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمه ابن حراش ولم يذكر الرجل وقد سئل أبو حاتم عنه فقال: أبو حراش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن حجر رجاله ثقات وقد أخرج الحديث ابن ماجه عن ابن عباس وفي إسناده عبد الله بن حراش وهو متروك وقد صححه ابن السكن وأخرج ابن ماجه أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع الماء والنار والكلأ" قال: ابن حجر إسناده صحيح وأخرج الخطيب من حديث عمر نحو ما في الباب وزاد "والملح" وفيه عبد الحكم بن ميسرة ورواه الطبراني بسند حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمر وله عنده طريق أخرى وأخرجه أبو داود من حديث بهيثة عن ابيها وأخرجه ابن ماجه من حديث عائشة أنها قالت: "يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال: "الملح والماء والنار" وإسناده ضعيف وأخرجه الطبراني عن أنس بلفظ "خصلتان لا يحل منعهما الماء والنار" وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث

عبد الله بن سرجس وأحاديث الباب تنتهض بمجموعها وقد خصص الحديث بما وقع من الإجماع على أن الماء المحرز في الجرار ملك. وأما كون الأحق بالماء الأعلى فالأعلى فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سبيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل" أخرجه أبو داود وابن ماجه قال: ابن حجر في الفتح وإسناده حسن وأخرجه الحاكم في المستردك من حديث عائشة وصححه الحكم وأعله الدارقطني بالوقف وأخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ثعلبة بن مالك وأخرجه عبد الرزاق من حديث أبي حاتم القرظي عن أبيه عن جده وأخرج ابن ماجه والبيهقي والطبراني من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النحل من السيل أن الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو بفنى الماء" وأحاديث الباب صالحة للإحتجاج بها. وأما كونه لا يجوز منع فضل الماء ليمنع به الكلأ فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا الكلأ" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ" وفي لفظ للبخاري "لا تبيعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" وفي الباب أحاديث وفي لفظ لأحمد من حديث أبي هريرة "ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه". وأما كون للأمام أن يحمي بعض المواضع لدواب المسلمين في وقت الحاجة فلحديث ابن عمر عند أحمد وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى البقيع للخيل خيل المسلمين" وأخرجه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث الصعب بن جثامة وزاد "لا حمى إلا لله ورسوله" وهذه الزيادة في صحيح البخاري وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى البقيع وإن عمر رضي الله عنه حمى سرف والربذة".

وأما كونه يجوز الإشتراك في النقود والتجارات فلحديث السائب بن أبي سائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم "كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولاتماريني" أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه وفي لفظ لأبي داود وابن ماجه أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: "مرحبا بأخي وشريكي لا يداري ولا يماري" وله طرق غير هذه وأخرج البخاري عن أبي المنهال أن زيد بن أرقم والبراء ابن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما "أن ما كان يدا بيد فخذوه وماكان نسيئة فردوه" وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال: فجاء سغد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء" وفيه انقطاع وأخرج أحمد وأبو داود عن رويفع بن ثابت قال: "إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نقد أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح" وأخرجه الدارقطني والبيهقي. وأما كونه تجوز المضاربة فقد روى عن حكيم بن حزام أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالى في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالى" وقد قيل إنه لم يصح في المضاربة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما فعلها الصحابة منهم حكيم المذكور ومنهم علي كما رواه عبد الرزاق ومنهم ابن مسعود كما رواه الشافعي ومنهم العباس كما رواه البيهقي ومنهم جابر رواه البيهقي أيضا ومنهم أبو موسى وابن عمر كما رواه في الموطأ والشافعي والدارقطني ومنهم عمر كما رواه الشافعي ومنهم عثمان كما رواه البيهقي وقد روى في ذلك من المرفوع ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث فيهن البركة البيع إلى أجل والمقارضة وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع" ولكن في إسناده مجهولان.

وأما كونه إذا تشاجرا الشركاء في عرض الطريق كان سبعة أذرع فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع" وأخرج معناه عبد الله بن أحمد في المسند والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه أيضا عبد الرزاق من حديث ابن عباس وأخرجه أيضا ابن عدي من حديث أنس. وأما كونه لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" وروى نحوه أحمد وابن ماجه والبيهقي عن جماعة من الصحابة. وأما كونه لا ضرر ولا ضرار بين الشركاء فلحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع" أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي والطبراني وعبد الرزاق قال: ابن كثير أما حديث "لا ضرر ولا ضرار" فرواه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت وروى من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري وهو حديث مشهور انتهى. فحديث ابن عباس هو المذكور في الباب وحديث عبادة أخرجه أيضا البيهقي وحديث أبي سعيد أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وقد رواه من حديث ثعلبة بن مالك القرظى الطبراني في الكبير وأبو نعيم. وأما كونه يجوز للإمام عقوبة من ضار شريكه بقلع شجره أو بيع داره فلحديث سمرة بن جندب أنه كان له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار قال: ومع الرجل أهله قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل ويشق عليه فطلب غليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى قال: فهبه لى ولك كذا وكذا أمرا رغبة فيه فأبى قال: أنت مضار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

للأنصاري اذهب فاقلع نخلة" وهو من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن سمرة ولم يسمع منه وقد روى المحب الطبراني من أحاديث الأحكام عن واسع بن حبان قال: "كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه" ثم ذكره نحو قصة سمرة.

كتاب الرهن

كتاب الرهن يجوز رهن مايملكه الراهن في دين عليه والظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون ولايغلق الرهن بما فيه. أقول: الرهن جائز بالإجماع وقد نطق به الكتاب العزيز وتقييده بالسفر خرج مخرج الغالب كما ذهب إليه الجمهور وقال: مجاهد والضحاك والظاهرية لا يشرع إلا في السفر وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله كما أخرجه البخاري وغيره من حديث أنس وهو في الصحيحين من حديث عائشة وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس وصححه الترمذي وصاحب الإقتراح وفي ذلك دليل على مشروعية الرهن في الحضر كما قال الجمهور: وأما كون الظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون فلما أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" وللحديث ألفاظ والمراد أن المرتهن ينتفع بالرهن وينفق عليه وقد ذهب إلى ذلك أحمد وإسحاق والليث والحسن وغيرهم وقال: الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء بل الفوائد للراهن والمؤن عليه قالوا والحديث ورد على خلاف القياس ويجاب بأن هذا القياس فاسد الاعتبار مبني على شفا جرف هار ولا يصح الاحتجاج بما ورد من النهي عن أن تحلب ماشية الرجل بغير إذنه كما في البخاري وغيره لأن العام لا يرد به الخاص بل يبني عليه. وأما كونه لا يغلق الرهن بما فيه فلحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمة" أخرجه الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وحسن الدارقطني

إسناده وقال: ابن حجر في بلوغ المرام إن رجاله ثقات إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله وأخرجه ابن ماجه من طريق أخرى والوصل زيادة وقد خرجت من مخرج مقبول والمراد بالغلاق هنا استحقاق المرتهن له حيث لم يفكه الراهن في الوقت المشروط وروى عبد الرزاق عن معمر أنه فسر غلاق الرهن بما إذا قال: الرجل إن لم آتك بمالك فالرهن لك قال: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن، له غنمه وعليه غرمه وقد روي أن المرتهن في الجاهلية كان يملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المضروب فأبطله الشارع والغنم والغرم هنا هو أعم مما تقدم من أن الظهر يركب واللبن يشرب بنفقة المرهون

كتاب الوديعة والعارية

كتاب الوديعة والعارية يجب على الوديع والمستعير تأدية الأمانة إلى من أئتمنه ولايخن من خانه ولاضمان عليه إذا تلفت بدون جنايته وخيانته ولايجوز منع الماعون كالدلو والقدر وإطراق الفحل وحلب المواشي لمن يحتاج ذلك والحمل عليها في سبيل الله. أقول: أما كونه يجب على كل واحد منهما تأدية المانة فلقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة وفي إسناده طلق بن غنام عن شريك وقد استشهد له الحاكم بحديث أبي التياح عن أنس وفي إسناده أيوب بن سويد وهو مختلف فيه وقد تفرد به كما قال: الطبراني وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية من حديث أبي بن كعب وفي إسناده من لا يعرف وأخرجه أيضا الدارقطني عنه وأخرجه البيهقي والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف وأخرجه الدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أنس وأخرجه أحمد وأبوداود والبيهقي عن رجل من الصحابة وفي إسناده مجهول غير الصحابي. وأما كونه لا ضمان إذا تلفت العين المستعارة والمستودعة فلحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتمن" أخرجه الدارقطني وفي إسناده ضعف وقد وقع الإجماع على أن الوديع لا يضمن إلا لجناية على العين لما أخرجه الدارقطني في الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا المستودع غير المغل ضمان" والمغل هو الخائن والجاني خائن وأما المستعير فقد ذهب إلى أنه لا يضمن إلا لجناية أو خيانة العترة والحنفية والمالكية وحكى في الفتح عن الجمهور أن

المستعير يضمنها إذا تلفت في يده إلا إذا كان التلف على الوجه المأذون فيه وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وفي سماع الحسن من سمرة مقال: مشهور وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعا فقال: أغصبا يا محمد قال: " بل عارية مضمونة". وأما كونه لا يجوز منع الماعون كالدلو والقدر فلحديث ابن مسعود قال: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر" أخرجه أبوداود وحسنه المنذري وروى عن ابن مسعود وابن عباس أنهما فسرا قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والدلو والحبل الماعون الزكاة. وأما كونه لا يجوز منع إطراق الفحل وحلب المواشي والحمل عليها في سبيل الله فلما أخرجه مسلم رحمه الله وغيره من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قال: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقرة تطؤه ذات الظلف بظلفها وتنطحه ذات القرن بقرنها قلنا يارسول الله وما حقها؟ قال: " إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله" والمراد باطراق فحلها عاريته من يحتاج أن يطرق به ماشيته والمراد بمنحتها أن يعطي المحتاج لينتفع بحلبها ثم يزدها وأما الحمل عليها في سبيل الله فإذا طلب ذلك من لا ماشية له من صاحب المواشي التي فيها زيادة على حاجته.

كتاب الغصب

كتاب الغصب ... كتاب الغضب لا يأثم الغاضب ويجب عليه رد ماأخذه ولايحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه وليس لعرق ظالم حق ومن زرعه في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء ومن غرس في أرض غيره غرسا رفعه ولايحل الإنتفاع بالمغضوب ومن اتلفه فعليه مثله أو قيمته أقول: أما كونه يأثم الغاصب فلأنه أكل مال غيره بالباطل واستولى عليه عدوانا وقد قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وقال صلى الله عليه وسلم "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه" أخرجه الدارقطني من طرق عن أنس مرفوعا وفي أسانيدها ضعف وأخرجه أحمد والدارقطني من حديث أبي مرة الرقاشي عن عمه وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو متكلم عليه وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وأخرجه الدارقطني عنه من طريق أخرى وأخرج البيهقي وابن حبان والحاكم في صحيحيهما من حديث أبي حميد الساعدي وقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه" وحديث "إنما أموالكم ودماؤكم عليكم حرام" وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما وهو مجمع على تحريم الغصب عند كافة المسلمين ومجمع على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا وعلى تسليم عوضه إذا كان تالفا. وأما كونه ليس لعرق ظالم حق إلى آخره فلحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والبيهقي والطبراني وابن أبي شيبة والطيالسي وأبو يعلي وحسنه البخاري. وأما رفع الغرس عن أرض الغير فلما أخرجه أبو داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا فهي له وليس

لعرق ظالم حق" قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس وإنها لنخل عم وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وأخرجه البخاري تعليقا من حديث سعيد بن زيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق". وأما كونه لا يحل الانتفاع بالمعصوب فلما تقدم من الأدلة القاضية بأنه لا يحل مال الغير لا عينا ولا انتفاعا وقد ورد في غصب الأرض التي لا ثمرة لغصبها إلا الانتفاع بها بالزرع ونحوه أحاديث منها عن عائشة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين" وفيهما أيضا من حديث أبي سعيد نحوه وفي البخاري وغيره من حديث ابن عمر نحوه أيضا وفي مسلم من حديث أبي هريرة نحوه أيضا. وأما كون من أتلفه فعليه مثله أو قيمته فلحديث عائشة "أنها لماكسرت إناء صفية الذي أهدت فيه إلى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إناء كإناء وطعام كطعام" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وحسنه الحافظ في الفتح وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس رضي الله عنه أن خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة" ولفظ الترمذي قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قطعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال: النبي صلى الله عليه وسلم " طعام بطعام وإناء بإناء" وقد استدل بذلك من قال: إن القيمى يضمن بمثله ولا يضمن بالقيمة إلا عند عدم المثل وهو الشافعي والكوفيون وقال: مالك إن القيمى يضمن بقيمته مطلقا وبه قالت: الهدوية قيل ولا خوف في أن المثلى يضمن بمثله ولكنه قد ورد في حديث المصراة الثابت في الصحيح ردها وصاعا من تمر واللبن مثلى والبحث مستوفى في مواطنه

كتاب العتق

كتاب العتق أفضل الرقاب أنفسها ويجوز العتق بشرط الخدمة ونحوها ومن ملك رحمة عتق عليه ومن مثل بمملوكه فعليه أن يعتقه وإلا أعتقه الإمام أو الحاكم ومن أعتق شركا له في عبد ضمن لشركائه نصيبهم بعد التقويم وإلا عتق نصيبه فقط ويستسعى العبد ولا يصح شرط الولاء لغير من أعتق ويجوز التدبير فيعتق بموت مالكه وإذا احتاج المالك جاز له بيعه ويجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه فيصير عند الوفاء حرا ويعتق بقدر ما سلم وإذا عجز عن تسليم مال الكتابة عاد في الرق ومن استولد أمته لم يحل له بيعها وعتقت بموته او تخيره لعتقها. أقول: الترغيب في العتق قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه" وأخرج الترمذي وصححه من حديث أبي أمامة وغيره من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرئ مسلم أعتق امرءا مسلما كان فكاكة من النار يجزي بكل عضو منها عضوا منه" وفي لفظ وأيما امرأة مسلمة اعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار تجزي بكل عضو من أعضائها عضو من أعضائها وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث وفي الصحيحين من حديث أبي ذر قال: قلت يارسول الله أي الأعمال أفضل قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قال: قلت أي الرقاب أفضل قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا". وأما كونه يجوز العتق بشرط الخدمة فلحديث سفنية ابن عبد الرحمن قال: أعتقتني أم سلمة وشرطت على أن أخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش أخرجه أحمد،

وأبو داود والنسائي وابن ماجه وقال: لا بأس بإسناده وأخرجه الحاكم وفي إسناده سعيد بن جهمان أبو حفص الأسلمي وقد وثقه ابن معين وغيره وقال: أبو حاتم لا يحتج بحديثه ووجه الحجة من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفي عليه مثل ذلك وقد قيل إن تعليق العتق بشرط الخدمة يصح إجماعا. وأما كون من ملك رحمه عتق عليه فلحديث سمرة عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" ولفظ أحمد "فهو عتيق" وهو من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه مقال: معروف وقال: علي بن المدني هو حديث منكر وقال: البخاري لا يصح. وأخرج النسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وهو في رواية ضمرة عن الثوري عن عبد الله بن دينار عنه قال النسائي: حديث منكر ولا نعلم أحدا رواه عن سيفان غير ضمرة وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث ولكنه قد وثقه يحيى بن معين وغيره وحديثه في الصحيحين وقد صحح حديثه هذا ابن حزم وعبد الحق وابن القطان وأخرج أبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفا مثل حديث سمرة وهو من رواية قتادة عنه ولم يسمع منه وقد ذهب إلى أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: أنه يعتق عليه الأولاد والآباء والأمهات ولا يعتق عليه غيرهم من قرابته وزاد مالك الإخوة ولا ينافي ماذكرناه حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يجزى والد عن ولده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" لأن إيقاع العتق تأكيدا لا ينافي وقوعه بالملك وقد تمسك بحديث أبي هريرة الظاهرية فقالوا: لا يعتق أحد على أحد. وأما كونه من مثل بمملوكه يعتقه فلحديث ابن عمر عن مسلم رحمه الله

وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه" وفي مسلم أيضا عن سويد بن مقرن قال: كنا بنى مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعتقوها" وفي رواية "إذا استغنوا فليخلوا سبيلها" وفي مسلم أيضا من حديث أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلاما بالسوط فسمعت صوتا من خلفي إلى أن قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أقدر منك على هذا الغلام" وفيه قلت يا رسول الله هو حر لوجه الله تعالى فقال: "لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار" وأما كونه يعتقه الإمام او الحاكم فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في المملوك الذي حب سيده مذاكيره فقال: النبي صلى الله عليه وسلم "علي بالرجل فلم يقدر عليه" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حر" أخرجه أبو داود وابن ماجه وقد أخرجه أحمد وفي إسناده لحجاج بن أرطاة وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجال أحمد ثقات وأخرج أيضا الطبراني وقد حكى في البحر عن علي والهادي والمؤيد بالله والشافعية والحنفية أنه لا يعتق بمجرد المثلة بل يؤمر سيده بالعتق فإن تمرد فالحاكم وقال: مالك والليث والأوزعي وداود "بل يعتق بمجردها" قال: النووى في شرح مسلم إنه أجمع العلماء على أن ذلك العتق ليس واجبا وإنما هو مندوب رجاء الكفارة وإزالة إثم اللطم ومن أدلتهم إذنه صلى الله عليه وسلم بأن يستخدومها كما تقدم ودعوى الإجماع غير صحيحة وإذنه صلى الله عليه وسلم بالإستخدام لا يدل على عدم الوجوب بل الأمر قد دل على الوجوب والإذن بالإستخدام دل على كونه وجوبا متراخيا إلى وقت الاستغناء عنها وأما كونه من أعتق شركا له في عبد ضمن إلخ فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق" زاد الدراقطني ورق ما بقي وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث أبي المليح عن أبيه عن جده أن رجلا من قومه

أعتق شقصا له من مملوك فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال: ليس الله عز وجل شريك وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه" ولا تنافي بين هذا وبين حديث ابن عمر بل الجمع ممكن وهو " أن من أعتق شركا له في عبد ولا مال له لم يعتق إلا نصيبه ويبقى نصيب شريكه مملوكا فإن اختار العبد أن ستسعى بما بقي استسعى وإلا كان بعضه حرا وبعضه عبدا" وأخرج أحمد من حديث إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده قال: كان لهم غلاما يقال: له طهمان أو ذكوان فأعتق جده نصفه فجاء العبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: النبي صلى تعتق في عتقك وترق في رقك قال: فكان يخدم سيده حتى مات" ورجاله ثقات وأخرجه الطبراني. وأما كونه لا يصح شرط الولاء لغير من أعتق فلحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أنها جاءت إليها بريرة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت في كتابتها شيئا فقالت: لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لى فعلت فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تتحسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لها رسول الله صلى ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق ثم قام فقال: "ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرط ليس في كتاب الله فليس له وإن شرطه مائة مرة شرط الله أحق وأوثق" وللحديث طرق وألفاظ. وأما كونه يحوز التدبير فيعتق بموت مالكه، ويحوز له بيعه إذا احتاج" فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما "أن رجلا أعتق غلاما عن دبر فاحتاج فأخذه النبي فقال: من يشتريه منى فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه" وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا بلفظ المدبر من الثلث ورواه الدارقطني بلفظ "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر

من الثلث" وفي إسناده عبيدة بن حسان وهو منكر الحديث وقد ذهب إلى جواز بيع المدبر للحاجة الشافعي وأهل الحديث ونقله البيهقي في المعرفة عن أكثر الفقهاء وبه قال: الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب كما حكاه صاحب البحر وحكى النووى عن الجمهور أنه لا يجوز بيع المدبر مطلقا. وأما كونه يجوز مكاتبة المملوك على مال يؤديه فلقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور:33] الآية وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية فقرر ذلك الإسلام ولا أعرف خلافا في مشروعيتها. وأما كونه يصير عند الوفاء حرا أو يعتق منه بقدر ما سلم فلحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يودى المكاتب بحصة ما أدى دية الحر وما بقي دية العبد" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وأخرج أحمد وأبوداود نحوه من حديث علي وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم وذهب آخرون إلى أن حكم المكاتب حكم العبد حتى يوفي مال الكتابة واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشرا أوقيات فهو رقيق" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححه وفي لفظ لأبي داود "المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبة درهم" ولا يعارض هذا ما تقدم فالجمع ممكن بحمل هذا على مالا يمكن تبعضه من الأحكام وفي حديث أم سلمة أن النبي قال: "إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه فأثبت له ههنا حكم الحر لأن العبد يجوز له أن ينظر إلى مولاته لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] . وأما كونه يرجع في الرق إذا عجز عن مال الكتابة فلكون المالك لم يعتقه إلا بعوض فإذا لم يحصل لم يحصل العتق وقد اشترت عائشة بريرة بعد أن كاتبها أهلها كما تقدم. وأما كون من استولد أمته لم يحل له بيعها فلحديث ابن عباس عن النبي

صلى الله عليه وسلم: "من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقها ولدها" وأخرجه أيضا الدارقطني وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف كما تقدم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس أيضا أم الولد حرة وإن كان سقطا" وإسناده ضعيف وأخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله ابن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم إبراهيم: "أعتق ولدك" وهو معضل وقال ابن حزم: صح هذا بسند رواته ثقات عن ابن عباس وأخرج الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد وقال: "لايبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها السيد مادام حيا وإذا مات فهي حرة" وقد أخرج مالك في المؤطأ والدارقطني أيضا من قول ابن عمر وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا وهذه الأحاديث وإن كان في إسانيدها ما تقدم فهي تنتهض للاحتجاج بها وقد أخذ بها الجمهور وذهب من عداهم إلى جواز وتمسكوا بحديث جابر قال: "كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا" أخرجه أبوداود وابن ماجه والبيهقي وأخرجه أيضا ابن حبان وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك والخلاف في المسألة بين الصحابة فمن بعدهم معروف مشهور. وأما كونها تعتق بموت سيدها الذي أستولدها فلقوله في الحديث المتقدم: "فهي معتقة عن دبر منه" أي من دبرحياته. وأما كونها تعتق بتخير مستولدها لعتقها فلأن إيقاعه يوجب عتق من لم يوجد لعتقه سبب فمن قد وجد سبب عتقه أولى بذلك ولا سيما بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها" فإنه يدل على أنه قد وقع العتق بالولادة ولكن بقي للسيد حق يوجب عليها بعض ما يجب على المملوك حتى يموت فإذا تخير العتق فقد رضي بإسقاط ذلك الحق.

كتاب الوقف

كتاب الوقف من حبس ملكه في سبيل الله صار محبسا وله أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة وللمتولى عليه أن يأكل بالمعروف منه وللواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين ومن وقف شيئا مضارة لوارثه فهو باطل ومن وضع مالا في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد جاز صرفه في أهل الحاجات ومصالح المسلمين ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والوقف على القبور لرفع سمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على من يراها الفتنة باطل. أقول: قد ذهب إلى مشروعيته الوقف ولزومه جمهور العلماء قال: الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين وجاء عن شريح أنه أنكره وقال: أبو حنيفة لا يلزم وخالفه جميع أصحابه إلا زفر وقد حكى الطحاوى عن أبي يوسف أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة يعني الدليل لقاء به وقال: القرطبي راد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه ومما يدل على صحته ولزومه حديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن عمر أصاب أرضا بخبير فقال: يارسول الله أصبت أرضا بخبير لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فقال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول وأخرج النسائي والترمذي وحسنه البخاري تعليقا من حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس فيها ماء مستعذب غير بئر رومة فقال: من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين

بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالى" وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما خالد فقد حبس أدراعه واعتده في سبيل الله". وأما كون له أن يجعل غلاته لأي مصرف شاء مما فيه قربة فلقوله: لعمر في الحديث السابق "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" فإطلاق الصدقة يشعر بأن للواقف أن يتصدق بها كيف شاء فيما فيه قربة وقد فعل عمر رضي الله عنه ذلك فتصدق بها على الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل كما تقدم. وأما كون للمتولي أن يأكل منه فلما تقدم من وقف عمر رضي الله عنه الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم. وأما كونه للواقف أن يجعل نفسه في وقفه كسائر المسلمين فلما تقدم من حديث عثمان رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: "فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين". وأما كون من وقف شيئا مضارة لوارثه كان وقفه باطلا فلأن ذلك مما لم يأذن به الله سبحانه بل لم يأذن إلا بما كان بصدقة جارية ينتفع بها صاحبها لا بما كان إثما جاريا وعقابا مستمرا وقد نهى سبحانه وتعالى عن الضرار في كتابه العزيز عموما وخصوصا ونهى رسول الله صلى عموما كحديث "لاضرر ولاضرار في الإسلام" وقد تقدم وخصوصا كما في ضرار الجار وضرار الوصية ونحوهما. وأما كون من وضع مالا في مسجد أو مشهد لا ينتفع به أحد يجوز صرفه في مصارفه ومن ذلك ما يوضع في الكعبة وفي مسجده صلى فلحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم رحمه الله وغيره قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله" فهذا يدل على جواز إنفاق ما في الكعبة إذا زال المانع وهو حداثة عهد الناس بالكفر وقد زال ذلك واستقر أمر الإسلام وثبت

قدمه في أيام الصحابة رضي الله عنهم فضلا عن زمان من بعدهم وإذا كان هو الحكم في الأموال التي في الكعبة فالأموال التي في غيرها من المساجد أولى بذلك بفحوى الخطاب فمن وقف على مسجده صلى الله عليه وسلم أو على الكعبة أو على سائر المساجد شيئا يبقى فيها لاينتفع به أحد فهو ليس بمقترب ولا وقف ولا متصدق بل كانز يدخل تحت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] الآية ولا يعارض هذا ما ورى أحمد والبخاري عن أبي وائل قال: "جلست إلى شيبة في هذا المسجد فقال: جلس إلي عمر رضي الله عنه في مجلسك هذا فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت ما أنت بفاعل قال لم:؟ قلت: لم يفعله صاحباك فقال: هما المرآن اللذان يقتدى بهما لأن هذا من عمر ومن شيبة بن عثمان بن طلحة اقتداء بما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وقد أبان حديث عائشة السبب الذي لأجله ترك صلى الله عليه وسلم ذلك. وأما الوقف على القبور فإن كان تلك الأمور فلا شك في بطلانه لأن رفعها قد ورد النهي عنه كما في حديث علي أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه" وهو في مسلم وغيره وكذلك تزيينها وأشد من ذلك ما يجلب الفتنة على زائرها كوضع الستور الفائقة والأحجار النفيسة ونحو ذلك فإن هذا مما يوجب أن يعظم صاحب ذلك القبر في صدر زائره من العوام فيعتقد فيه ما لا يجوز وهكذا إذا وقف للنحر عند القبور ونحوه ممافيه مخالفة لما جاء عن الشارع أما إذا وقف على إطعام من يفد إلى ذلك القبر أو نحو ذلك فهذا هو وقف على الوافد لا على القبر وما صنع الواقف بوقفه على القبر إلا ما يعرضه للإثم فقد يكون ذلك سببا للإعتقادات الفاسدة وبالجملة فالوقف على القبور مفسدة عظيمة ومنكر كبير إلا أن يقف على القبر مثلا لإصلاح ما تهدم من عمارته التي لا إشراف فيها ولا رفع ولا تزيين فقد يكون هذا وجه الصحة وإن كان غير القبر أحوج إلى ذلك كما قال: الصديق رضي الله عنه الحي أولى بالجديد من الأكفان أو كما قال:

كتاب الهدايا

كتاب الهدايا يشرع فبولها ومكافأة عليها وتجوز بين المسلم والكافر ويحرم الرجوع فيها وتجب التسوية بين الأولاد والرد لغير مانع شرعي مكروه. أقول: أما كونه يشرع قبولها فلحديث أبي هريرة عند البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو دعيت إلى كراع أو ذارع لأجبت ولو أهدي إلى كراع أو ذارع لقبلت" وأخرج أحمد والترمذي وصححه نحوه من حديث أنس وأخرج الطبراني من حديث أم حكيم الخزاعية قالت: "قلت يا رسول الله تكره رد اللطف قال: "ما أقبحه لو أهدي إلي كراع لقبلته" وأخرج أحمد برجال الصحيح من حديث خالد بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه" وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها" والأحاديث في قبوله الهدية والمكافأة عليها كثيرة وذلك معلوم منه صلى الله عليه وسلم. وأما كونها تجوز بين المسلم والكافر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا الكفار ويهدي لهم كما أخرجه أحمد والترمذي والبزار من حديث علي قال: "أهدى كسرى لرسول الله فقبل منه وأهدى له قيصر فقبل وأهدت له الملوك فقبل منها" وأخرج أبو داود من حديث بلال أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عظم فدك" وفي الصحيحين من حديث أنس أن أكيدر دومة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة سندس" وأخرج أبو داود من حديثه أن ملك الروم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مشتقة سندس فلبسها" وفيهما أيضا من حديث علي رضي الله عنه أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا فقال: " شققه خمرا بين الفواطم" وأخرج البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتنى أمي راغبة في عهد قريش وهي مشركة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟

قال: "نعم" قال: ابن عيينة فأنزل الله تعالى فيها: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] وقد أخرج أحمد والطبراني من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشى حلة وأوقي من مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة فإن ردت إلي فهي لك" وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وثقه بن معين وغيره وضعفه جماعة والأحاديث في قبوله صلى الله عليه وسلم لهدايا الكفار كثيرة جدا. وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وصححاه من حديث عياض بن حماد أنه أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم هدية أو ناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسلمت قال: لا قال: إني نهيت عن زبد المشركين" وأخرج موسى بن عقبة في المغازي عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك أن عامر بن مالك الذي يقال له ملاعب الأسنة قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى له فقال: "إني لا أقبل هدية مشرك" قال: في الفتح ورجاله ثقات إلا أنه مرسل وقال: الخطابي يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا وقيل إنما رد ذلك إليهم لقصد الإغاظة أو لئلا يميل إليهم ولا يجوز الميل إلى المشركين1، وأما قبوله لهدية من تقدم ذكره فهي لكونهم قد صاروا من أهل الكتاب وقيل إن الرد في حق من يريد بهديته التوود والمولاة والقبول في حق من يرجى لك تأنيسه وتأليفه ويمكن أن يكون النهي لمجرد الكراهة التي لا تنافي الحواز جمعا بين الأدلة وزبد المشركين هم بفتح الزاي وسكون الموحدة بعدها دال مهملة قال: في الفاتح هو الرفد انتهي. وأما كونه يكره الرجوع فيها فلكون الهدية هي هبة لغة وشرعا وقد ورد في ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه" وهو في مسلم أيضا وفي لفظ للبخاري "ليس لنا مثل السوء" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان،

_ 1 أو ليحملهم بذلك على المسارعة إلى الإسلام اهـ. لمحرره.

والحاكم من حديث ابن عمر وابن عباس رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه" وقد دل قوله: لا يحل على تحريم الرجوع من غير نظر إلى التمثيل الذي وقع الخلاف فيه هل يدل على الكراهة أو على التحريم وقد ذهب إلى التحريم جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده كذا قال: في الفتح. وأما كونها تجب التسوية بين الأولاد فلحديث جابر عند مسلم وغيره قال: "قالت امرأة بشير انحل ابنى غلاما وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي فقال: "له إخوة؟ " قال: نعم قال: "فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته"؟ قال: لا قال: "فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على الحق" وفي لفظ لأحمد من حديث النعمان ابن بشير "لا تشهدني على جور وإن لبنيك عليك حق أن تعدل بينهم" وفي الصحيحين من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: له "أكل ولدك نحلته مثل هذا" فقال: لا فقال: " فأرجعه" وفي لفظ لمسلم من حديثه قال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم فرجع أبي في تلك الصدقة" وكذا البخاري ولكنه بلفظ العطية وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم اعدلوا بين أبنائكم" وأخرج الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور من حديث ابن عباس بلفظ: "سووا يبن أولادكم في العطية ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء" وفي إسناده سعيد بن يوسف وفيه ضعف وقد حسن في الفتح إسناده وهذه الأحاديث تدل على وجوب التسوية وأن التفضيل باطل جور يجب على فاعله استرجاعه وبه قال: طاوس والثورى وأحمد وإسحاق وبعض المالكية وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة فقط وأجابوا عن الأحاديث بما لا ينبغي الالتفات إليه. وأما كون الرد لغير مانع شرعي مكروه فلما قدمنا في أول البحث من الأدلة فإن كان ثم مانع شرعي من قبول الهدية لم يحل قبولها وذلك كالهدايا

لأهل الولايات توصلا إلى أن يميلوا مع المهدي فإن ذلك رشوة وستأتي الأدلة على تحريمها وقد ورد في هدايا الأمراء مايفيد أنها لا تحل وسيأتي الكلام على طرق حديث هدايا الأمراء في كتاب القضاء والعلة أنها تئول إلى الرشوة إما في الحكم أو في شيء مما يجب قيام الأمراء به ومن ذلك الهدية إلى من يعلم المهدي القرآن وقد تقدم الدليل على ذلك في الإجارات وهكذا حلوان الكاهن ومهر البغي ونحوهما ومن ذلك الهدية لمن يقضي للمهدي حاجة لحديث أبي إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا" أخرجه أبو دواد من طريق القاسم ابن عبد الرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال: وبالجملة فكل مانع شرعي قام الدليل على مانعيته من قبول الهدية له حكم ما ذكرناه.

كتاب الهبات

كتاب الهبات إن كانت بغير عوض فلها حكم الهدية في جميع السلف وإن كانت بعوض فهي بيع ولها حكمه والعمري والرقبى توجبان الملك للمعمر والمراقب ولعقبة من بعده لارجوع فيها. أقول: أما كون حكمها بلا عوض حكم الهدية فلكون الهدية هبة لغة وشرعا والفرق بينهما إنما هو اصطلاح جديد فإذا كانت الهبة بغير عوض كانت المكافأة عليها مشروعة وتجوز للكافر ومنه ولا يحل الرجوع فيها وتجب التسوية بين الأولاد ويكره الرد لغير مانع شرعي وأما إذا كانت بعوض فهي بيع لأن المعتبر في البيع إنما هو الترضي والتعارض وهما حاصلان في الهبة بعوض إذا كان ذلك واقعا عند التواهب. وأما إذا كان في الموهوب له مكافأة غير مرادة للواهب عند الهبة فهي كالهدية وبالجملة فتنطبق على الهبة بغير عوض الأدلة المتقدمة في الهدية وتنطبق على الهبة بعض الأدلة المتقدمة في البيع وقد تقدمت فلا حاجة إلى إيرادها هنا. وأما كون العمري والرقبي يوجبان الملك إلى آخره فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمري ميراث لأهلها" أو قال: " جائزة" وفيهما من حديث جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمري لمن وهبت له" وفي لفظ لمسلم "فمن أعمر عمري فهي للذي أعمر حيا وميتا ولعقبه" وفي لفظ لأحمد ومسلم وأبي داود إنما العمري التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها ولكن قد قيل إن ذلك من كلام أبي سلمة مدرج في حديث جابر فلا تقوم بهذه الرواية حجة ولا تصلح لتقييد الأحاديث المطلقة كالحدثين المتقدمين وحديث زيد بن ثابت عند أحمد وأبي داود وابن ماجه

وابن حبان قال: قال رسول الل صلى الله عليه وسلم: "من أعمر عمري فهي لمعمره حياته ومماته لاترقبوا من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث" وأخرج أحمد والنسائي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته" ورجال إسناده ثقات وورد في محل النزاع ما أخرجه النسائي من حديث جابر بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمري أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة" ويستنثى إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلي وإلى عقبي إنها لمن أعطاها ولعقبه وهكذا ما أخرجه أحمد من حديث جابر أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء قال: فأبى فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا" ورجاله رجال الصحيح وقد أخرجه أيضا أبو داود فهذا وما قبله يفيد أنها تكون للوارث وإن لم يذكر بل ذكر الموورث بل وإن استثنى وقال: إن حدث بك حدث فهي إلي فإن ذلك لا يفيد بل تكون للمعمر والمرقب ولورثته من بعده وقد ذهب إلى هذا جماعة من الشافعية وذهب الجمهور إلى أنه إذا قال: هي لك ما عشت فإذا مت رجعت إلي فهي عارية مؤقتة ترجع إلى المعمر عند موت المعمر وتمسكوا برواية جابر المتقدمة وقد قدمنا ماقيل فيها من الإدارج والعمرى بضم العين وسكون الميم مع القصر عند الأكثر وهي مأخوذة من العمر وهو الحياة سميت بذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يعطي الرجل الرجل الدار ويقول له أعمرتك أياها أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقيل لها عمرى لذلك والرقبى بضم الراء بوزن العمري مأخوذة من الرقبة لأن كل واحد منهما يرقب الآخر متى يموت لترجع إليه وكذا ورثته يقومون مقامه هذا أصلهما لغة.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان الحلف إنما يكون باسم الله تعالى أو صفة له يحرم بغير ذلك ومن حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو الخير وليكفر عن يمينه ومن أكره على اليمين فهي غير لازمة ولايأثم بالحنث فيها واليمين الغموس هي التي يعلم الحالف كذبها ولا مؤاخذة باللغو ومن حق المسلم على المسلم إبراء قسمه وكفارة اليمين هي ماذكره الله في كتابه العزيز. أقول: أما الحلف باسم الله عزوجل فظاهر وأما بصفة له فلحلفه صلى الله عليه وسلم بمقلب القلوب كما في حديث ابن عمر في صحيح بخاري وغيره قال: كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف: "لا ومقلب القلوب" وفي الصحيحين من حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في زيد بن حارثة: "وأيم الله إن كان لخلقيا للإمارة" وهكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحلف بقوله: "والذي نفسي بيده" وهو في الصحيح وحكى النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل أنه قال: "وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها" يعني الجنة وهو في الصحيح أيضا والأحاديث في هذا كثيرة. وأما كون الحلف بغير اسم الله تعالى وصفاته حراما فلحديث ابن عمر عند مسلم رحمه الله وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: "إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت" وفي لفظ: "من كان حالفا فلا يحلف إلابالله" وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن حبان والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد كفر" وفي لفظ: "فقد أشرك" وهو عند أحمد من هذا الوجه وفي لفظ للترمذي والحاكم: "فقد كفر وأشرك" وفي الباب أحاديث. وأما كون من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى فلحديث أبي هريرة

رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وابن حبان ولفظ ابن ماجه "فله ثنياه" ولفظ النسائي "فقد استثنى" وأخرجه الحاكم وقد صححه ابن حبان وأخرج أبو داود عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله ثم لم يغزهم" قال: أبو داود قد أسنده غير واحد عن ابن عباس وقد رواه البيهقي موصلا ومرسلا ويؤيد أحاديث الباب ما في الصحيح أن سليمان ابن داود قال: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة" الحديث وفيه "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قال إن شاء الله لم يحنث" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وادعى ابن العربي الإجماع على ذلك فقال: أحمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا قال مالك: أحسن ما سمعت في الثنيا أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه وما كان من ذلك نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له قلت وعلى هذا أهل العلم أن الاستثناء إذا كان موصولا باليمين فلا حنث عليه. وأما كون من خلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه فقد ثبت في الصحبحين وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك" وفي لفظ "كفر عن يمينك وات الذى هو خير" وفي لفظ للنسائي وأبي داود "فكفر عن يمينك ثم أت الذي هو خير" وأخرج مسلم وغيره من حديث عدي بن حاتم ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وفي الباب أحاديث. وأما كون من أكره على يمين فهى غير لازمة ولم يأثم بالحنث فيها فلكون

فعل المكره كلا فعل وقد رفع الله الخطاب به في التكلم بكلمة الكفر فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} ولحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهو حديث فيه مقام طويل وتكليف الحالف بيمينه التى أكره عليها من تكليف ما لا يطاق وهو باطل بالأدلة العقلية والنقلية. وأما كون اليمين الغموس هى التي يعلم الحالف كذبها فلحديث ابن عمر قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر فذكر الحديث وفيه "واليمين الغموس" وفيه قلت وما اليمين الغموس قال: "التي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها كاذب" أخرجه البخاري. وأما كونه لا مؤاخذة عليه باللغو فلقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وفي البخاري عن عائشة أنها قالت: أنزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله وبلى والله وقد نقل ابن المنذر نحو هذا عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين وأخر ج أبو داود عن عائشة قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله" وأخرجه أيضا البيهقى وابن حبان وصحح الدارفطنى الوقف قال أبو داود: رواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفا وذهب الحنفية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشي يظنه ثم يظهر خلافه وبه قال: جماعة وقيل أن يحلف وهو غضبان والخلاف في ذلك طويل وتفسير الصحابة للآية الكريمة مقدم على تفسير غيرهم. وأما كون من حق المسلم إبرار قسمه فلما ثبت في الصحيحين من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث البراء وغيره وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن عائشة أن امرأة أهدت إليها تمرا فأكلت بعضه وبقى بعضه فقالت: أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبريها فإن الإثم على المحنث" ورجاله رجال الصحيح.

وأما كون كفارة اليمين هى ما ذكره الله في كتابه العزيز فهو قوله: تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى آخر الآية [المائدة:89]

كتاب النذر

كتاب النذر أنما يصح إذا ابتغى به وجه الله تعالى فلا بد أن يكون قربة ولا نذر في معصية الله، ومن النذر في المعصبة ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله تعالى ومنه النذر على القبور وعلى ما لم يأذن به الله ومن يوجب على نفسه فعلا لم يشرعه الله تعالى لم يجب عليه وكذلك إن كان مما شرعه الله تعالى وهو لا يطيقه ومن نذر نذرا لم يسمه أو كان معصية أو لا يطيقه فعليه كفارة يمين ومن نذر بقربه وهو مشرك ثم أسلم لزمه الوفاء ولا ينفذ النذر إلا من الثلث وإذا مات الناذر بقربه ففعلها عنه ولده أجزاه ذلك. أقول: أما كونه لا يصح النذر إلا إذا ابتغى به وجه الله فلأنه قد ورد النهى عن النذر كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من مال البخيل" وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة نحوه ثم ورد الإذن بالنذر في الطاعة والنهى عنه في المعصية كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" وعلى ذلك يحمل قوله: تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وقد أخرج الطبراني يسند صحيح عن قتادة في قوله: تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا وورد بلفظ الحصر أنه لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله كما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث ابن عباس قال: قال: رسول الله " من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين" وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث

عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وأما كون من النذر في المعصية ما فيه مخالفة شرعه الله تعالى من المواريث لأن المخالفة لذلك معصية ولا نذر في معصية كما تقدم. وأما النذر على القبور فلكون ذلك ليس من النذر في الطاعة ولا من النذر الذي يبتغى به1 وجه الله تعالى بل قد يكون من النذر في المعصية إذا تسبب عنه اعتقاد باطل في صاحب القبر كما يتفق ذلك كثيرا وقد أخرج أبو داود بإسناد صالح عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال: له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك ولا تنذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك" وأخرج مالك والبيهقى بسند صحيح وصححه ابن السكن عن عائشة "أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة فقالت: يكفر عن اليمين" وإذا كان هذا في الكعبة فغيرها من المشاهد والقبور أولى ومن ذلك النذر على ما لم يأذن به الله تعالى كالنذر على المساجد لتزخرف أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم فإن ذلك من النذر في المعصية وأقل الأحوال أن يكون النذر على ما لم يأذن به الله خارجا عن النذر الذى أذن به الله وهو النذر في الطاعة وما ابتغى به وجه الله فيشمل هذا كل نذر على مباح أو مكروه محرم. وأما كون من أوجب على نقسه فعلا لم يشرعه الله تعالى لم يجب عليه فلحديث ابن عباس عند البخاري وغيره قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر ان يقوم في الشمس ولا يقعد

_ 1 أقول بل إنما يبتغي به الناذر وجه الميت، وأيضا النذر عبادة فلا تصلح ألا للهتعالى، ومن قصد بالنذر صاحب القبر فقد عبد غير الله وإنه شرك قطعا نعوذ بالله من الضلال! هـ. هامش الأصل.

ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه ليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه" وأخرج أحمد من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده نحوه فيمن نذر أن لا يزال في الشمس حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله". وأما كون من نذر فعلا شرعه الله تعالى وهو لا يطيقه لم يجب عليه الوفاء به فلحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: ما هذا قالوا نذر أن يمشي قال: "إن الله تعالى عن تعذيب هذا لنفسه لغنى وأمره أن يركب" زاد النسائي في رواية "نذر أن يمشي إلى بيت الله" وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين" وأخرجه أيضا ابن ماجه وزاد "ومن نذر نذرا أطاقه فليف به" ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر أن يمشي إلى الكعبة بالركوب كما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر وفي مسند أحمد وسنن أبي داود من حديث ابن عباس رحمه الله وفي مسند أحمد من حديث عقبة بن عامر. وأما كون من نذر نذرا لم يسمه أو كان معصية أو لا يطيقه فعليه كفارة يمين فلحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه والترمذي وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة يمين" وهو في صحيح مسلم بدون قوله: "إذا لم يسمه" وقد تقدم حديث ابن عباس قريبا فيمن نذر نذرا لم يسمه وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين" كذا نسب صاحب المنتقى إلى مسلم وفيه نظر وهو عند أبي داود وابن ماجه وأحمد وأخرج أحمد وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" وفي إسناده مقال: وأخرج أبو داود وابن ماجه بإسناد من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين".

وهكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم "المرأة التي نذرت أن تمشي وهي لا تطيق أن تكفر" كما أخرجه أحمد وأبو داود. وأما كون من نذر بقربة وهو مشرك ثم أسلم يلزمه الوفاء فلحديث عمر في الصحيحين وغيرهما أنه قال: قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسحد الحرام فقال: " أوف بنذرك" وأخرج أحمد وابن ماجه عن ميمونة بنت كردم أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة فقال: "أبها وثن أو طاغية"؟ قال: لا قال: "أوف بنذرك" ورجال إسناده رجال الصحيح وأخرج أبو داود ونحوه من حديث ثابت بن الضحاك وإسناده صحيح. وأما كونه لا ينفذ النذر إلا من الثلث فلحديث كعب بن مالك فب الصحيحين أنه قال: يا رسول الله "إن من توبتى أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وفي لفظ لأبي داود إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال: لا قلت فنصفه قال: لا قلت فثلثه قال: "نعم" وفي إسناده محمد بن إسحاق وفي لفظ لأبي داود أنه قال: "يجزى عنك الثلث" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله "إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله فقال: يجزى عنك الثلث". وأما كونه يجزى عن نذر من مات أن يفعله ولده فلحديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم اقضه عنها" أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح وأصل القصة في الصحيحين وفي البخاري أن ابن عمر أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء ثم ماتت أن تصلى عنها وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحو ذلك بإسناد صحيح وقد روى عنها خلاف ذلك.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة مدخل ... كتاب الأطعمة الأصل في كل شيء الحل ولا يحرم إلا ما حرم الله تعالى ورسوله وما سكتا عنه فهو عفو فيحرم ما في الكتاب العزيز وكل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير والحمر الإنسية والجلالة قبل الإستحالة والكلاب والهر وما كان مستخبثا وما عدا ذلك فهوحلال. أقول: أما كون الأصل الحل فلمثل قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم ولمثل حديث سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفرا فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى لكم" أخرجه ابن ماجه والترمذي وفي إسناد ابن ماجه سيف بن هرون البرجمى وهو ضعيف وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته" وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وأخرج البزار وقال: سنده صالح والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا وتلا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64] " وأخرج الدار قطنى من حديث أبي ثعلبة رفعه: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم,

لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها" وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ما ورد فيه دليل يخصه ومن التخصيص قوله تعالى: في آخر تلك الآية {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام:145] وكذا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] إلى آخر الآية. ومن ذلك كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير لحديث ابن عباس عند مسلم رحمه الله وغيره قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير" ولحديث أبي ثعلبة الخشنى عند مسلم رحمه الله أيضا وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل ذى ناب من السباع فأكله حرام" وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما والمراد بالناب السن الذى خلف الرباعية جمعه أنياب وذلك كالأسد والنمر والذئب وكل ذى ناب يتقوى به ويصاد وقال: في النهاية وهو ما يفترس الحيوان به ويأكل قسرا كالأسد والذئب والنمر ونحوها قال: في القاموس والسبع بضم الباء المفترس من الحيوان انتهى والمخلب بكسر الميم وفتح اللام قال: أهل اللغة والمراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان. ومن ذلك الحمر الأنسية لحديث البراء ابن عازب في الصحيحين وغيرهما "أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأنسية" وفيهما من حديث ابن عمر نحوه وفيهما أيضا من حديث أبي ثعلبة الخشنى نحوه وفي الباب غير ذلك وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. ومن ذلك الجلالة قبل الإستحالة وألبانها لحديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقى وصححه الترمذى وابن دقيق العيد من حديث ابن عباس "النهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها" وأخرج أحمد والنسائي والحاكم والدارقطنى والبيهقى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحو ذلك.

وفي الباب غير ذلك وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل والثورى والشافعية وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط وظاهر النهي التحريم والعلة تغير لحمها ولبنها فإذا زالت العلة بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر فلا وجه للتحريم لأنها حلال بيقين إنما حرمت لمانع وقد زال. ومن ذلك الكلاب ولا خلاف في ذلك يعتد به وهو مستخبث وقد وقع الأمر بقتله عموما وخصوصا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل ثمنه كما تقدم وسيأتي وتقدم إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وقد جعله بعضهم داخلا في ذوات الناب من السباع. ومن ذلك الهر لحديث جابر عن أبي داود وابن ماجه والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها" وفي إسناده عمر بن يزيد الصنعاني وهو ضعيف لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور وهو في الصحيح وقد تقدم ولا فرق بين الوحشى والأهلى وللشافعية وجه في حل الوحشي. ومن ذلك ما كان مستخبثا لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] فما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم اعتياد بل لمجرد الاستخباث فهو حرام وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر كحشرات الأرض وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة فتندرج تحت قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقد أخرج أبو داود عن ملقام بن تلب قال: "صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما" وقد قال: البيهقى إن إسناده غير قوي وقال: النسائي ينبغى أن يكون ملقام بن تلب ليس بالمشهور وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية وغايته عدم سماعه لشيء من النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يدل على العدم وقد أخرج ابن عدى والبيهقى من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الرخمة" وفي

إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف جدا فلا ينتهض الاحتجاج به وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عيسى بن نملية الفزارى عن أبيه قال: "كنت عند ابن عمر رضي الله عنه فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذة الآية {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145] الآية فقال: شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيث من الخبائث" فقال: ابن عمر إن كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال" وعيسى بن نملية ضعيف فلا يصح الحديث لتخصيص القنفذ من أدلة الحل العامة وقد قيل إن من أسباب التحريم الأمر بقتل شيء كالخمس الفواسق والوزغ ونحو ذلك والنهى عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك ولم يأت عن الشارع ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهى دليلين على ذلك ولا لازمة عقلية ولا عرفية فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم بل إن كان المأمور بقتله أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائث كان تحريمه بالآية الكريمة وإن لم يكن من ذلك كان حلالا عملا بما أسلفنا من أصالة الحل وقيام الأدلة الكافية على ذلك ولهذا قلنا وما عدا ذلك فهو حلالا.

باب ما جاء في الصيد

باب ما جاء في الصيد ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية وذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما وإذا أكل الكلب المعلم ونحوه من الصيد لم يحل فإنما أمسك على نفسه وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية ميتا ولو بعد أيام في غير ماء كان حلالا ما لم ينتن أو يعلم أن الذى قتله غير سهمه. أقول: أما صيد بالسلاح الجارح والجوارح فلحديث أبي ثعلبة الخشنى في الصحيحين قال: قلت يا رسول الله أنا بأرض صيد أصيد بقوسى وبكلبي المعلم وبكلبي الذى ليس بمعلم فما يصلح لي فقال: ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل" وفي الصحيحين من حديث عدى بن حاتم قال: "قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك قال: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها قال: قلت فإني أرمى بالمعراض الصيد فأصيد قال: "إذا رميت بالمعراض فخزق1 فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل" وفي رواية "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة" وفي لفظ من حديثه عند أحمد وأبي داود "قلت وإن

_ 1 قال النووي في شرح مسلم: وأما خزق فهو بالخاء المعجمة والزاي ومعناه نفذ! هـ.

قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك" وفي الصحيحين من حديثه "فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإنى أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه" وفي حديث ابن عباس عند أحمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل إنما أمسكه على نفسه فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسكه على صاحبه" وقد أخرج أحمد وأبو داود من حديث عبد الله ابن عمرو أن أبا ثعلبة الخشنى قال: يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتنى في صيدها قال: إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك فقال: يا رسول الله ذكي وغير ذكي؟ قال: ذكي وغير ذكي قال: وإن أكل منه قال: "وإن أكل منه" قال: يا رسول الله افتنى في قوسي قال: كل ما أمسك عليك قوسك قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: "ذكي وغير ذكي" قال: وإن تغيب عني؟ قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصل يعني يتغير أو تجد فيه أثر غير سهمك" وقد قال: ابن حجر أنه لا بأس بإسناده وفيه نظر لأن في إسناده داود بن عمرو الأودي الدمشقى وفيه مقال: وخلاف وقد أخرج نحو هذا الحديث أبو داود من حديث أبي ثعلبة نفسه ولا ينتهض هذا لمعارضة ما في الصحيحين من النهى عن أكل ما أكل منه الكلب وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عدى بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك" وقد أكل صلى الله عليه وسلم من حمار الوحش الذى صاده أبو قتادة طعنا برمحه وهو في الصحيح وقد تقدم في الحج وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز تحليل ما صيد بالجوارح فقال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] الآية وأباح الأكل فقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وقد دل ما ذكرناه من هذه الأدلة على ما اشتمل عليه المختصر من أن ما صيد بالجارح والجوارح كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية وقد نزل صلى الله عليه وسلم المعراض إذا أصاب فخزق منزله الجارح واعتبر مجرد الخزق كما في حديث عدي المذكور وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نرمى فما يحل لنا قال: يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم فكلوا" فدل على

أن المعتبر مجرد الخزق وإن كان القتل بمثقل فيحل ما صاد من يرمي بهذه البنادق الجديدة التى يرمى بها بالبارود والرصاص لأن الرصاص تخزق خزقا زائدا على خزق السلاح فلها حكمة وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك. وأما كونه لا يحل صيد الكلب المعلم إذا شاركه غيره فلما تقدم في حديث عدى من قوله: صلى الله عليه وسلم "ما لم يشركها كلب ليس معها" وفي لفظ له في الصحيحين قال: قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمى قال: " إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" قلت إني أرسل كلبي أجد معه كلبا لا أدرى أيهما أخذه قال: "فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وفي لفظ له "فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله". وأما كونه لا يحل الصيد إذا أكل منه الكلب المعلم فلما تقدم من الأدلة على ذلك وتقدم أيضا ترجيحها على حديث عبد الله بن عمرو. وأما كونه إذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه إلخ فلحديث أبي ثعلبة الخشنى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن" أخرجه مسلم رحمه الله تعالى وغيره وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد قال: إذا رميت بسهمك فاذكر الله فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" وفي لفظ من حديث لأحمد والبخارى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل" وفي لفظ لمسلم نحوه وفي لفظ للبخارى من حديثه "إنا نرمي الصيد فنقتفى أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتا وفيه سهمه قال: يأكل إن شاء" وفي لفظ للترمذى وصححه قال: قلت يا رسول الله أرمى الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال: " إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل"

باب الذبح

باب الذبح هو ما أنهر الدم وفرى الأدواج وذكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه ما لم يكن سنا أو ظفرا ويحرم تعذيب الذبيحة والمثل بها وذبحها لغير الله وإذا تعذر الذبح بوجه جاز الطعن والرمي وكان ذلك كالذبح وذكاة الجنين ذكاة أمه وما أبين من الحي فهو ميتة ويحل ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال وتحل الميتة للمضطر. أقول: أما كون الذبح ما أنهر الدم إلخ فلحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال: قلت يا رسول الله إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة" وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس وأبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفري الآوداج" وفي إسناده عمر بن عبد الله الصنعاني وهو ضعيف وأخرج أحمد والبخارى من حديث كعب بن مالك أنها كانت لهم غنم ترعى بسلع فبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها فقال: لهم لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه فأمره بأكلها" وأخرج أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت أن ذئبا نيب شاة فذبحوها بمروره فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنا نصيد الصيد فلا نجد سكينا إلا الظرار وشقة العصا فقال: صلى الله عليه وسلم أمر الدم بما شئت واذكر اسم الله"

والظرار الحجر أو المدر وأخرج البخارى وغيره من حديث عائشة أن قوما قالوا يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندرى أذكر اسم الله عليه أم لا فقال: "سموا عليه أنتم وكلوا" قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر" وهذا لا ينافى وجوب التسمية على الذابح بل فيه الترخيص لغير الذابح إذا شك في اللحم هل ذكر اسم الله عليه عند الذبح أم لا؟ فإنه يجوز له أن يسمي ويأكل. وأما كونه يحرم تعذيب الذبيحة فلحديث شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توار ى عن البهائم وقال: إذا ذبح أحدكم فليجهز" وفي إسناده بن لهيعة وفيه مقال: معروف. وأما تحريم المثلة فلما ورد في تحريمها من الأحاديث الثابتة في الصحيح وغيره وهى عامة. وأما تحريم ذبحها لغير الله فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من "لعن من ذبح لغير الله" كما في حديث مسلم رحمه الله تعالى وغيره ولقوله تعالى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173] وكان أهل الجاهلية يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم إما بالإهلال عند الذبح بأسمائهم وأما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم فنهوا عن ذلك وهذا أحد مظان الشرك. وأما جواز الطعن والرمي إذا تعذر الذبح فلحديث أبي العشراء عن أبيه قال: "قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال: "لو طعنت في فخذها لأجزاك" أخرجه أحمد وأهل السنن وفي إسناده مجهولون وأبو العشراء لا يعرف من أبوه ولم يروعنه غير حماد بن سلمة فهو مجهول لا تقوم الحجة بروايته والذى يصلح للاستدلال به حديث رافع بن خديج في الصجيجين وغيرهما قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم

يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا. وأما كون ذكاة الجنين ذكاة أمه فلحديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجه وأبي داود والترمذي والدارقطنى وابن حبان وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الجنين ذكاته ذكاة امه" وللحديث طرق يقوى بعضها بعضا وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة تشهد له. وأما كون ما أبين من الحي فهو ميتة فلحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما قطع من بهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة" أخرجه ابن ماجه والبزار والطبراني وقد قيل أنه مرسل وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود والدارمي والحاكم من حديث أبي واقد الليثي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" وأخرج ابن ماجه والطبراني وابن عدي نحوه من حديث تميم الدارى. وأما كونه يحل ميتتان ودمان فلحديث ابن عمر عن أحمد وابن ماجه والدارقطني والشافعي والبيهقى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد" وفيهما ايضا من حديث جابر "أن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم أطعمونا منه إن كان معكم فأتاه بعضهم بشيء" وفي البخارى عن عمر قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] قال: "صيده ما أصطيد وطعامه ما رمي به" وفيه عن ابن عباس "كل من صيد البحر صيد يهودي أو نصراني أو مجوسي انتهى" وإلى هذا ذهب الجمهور فقالوا: ميتة البحر حلال سواء ماتت بنفسها أو

بالصطياد وذهب الحنفية والهدوية إلى أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمى أو بإلقاء الماء له أو جزره عنه وفكلوه وأما ما مات فيه فطفا فلا تاكلوه" وفي إسناده يحيى بن سليم وهو ضعيف الحفظ وقد روى من غير هذا الوجه وفيه ضعف. وأما كونها تحل الميتة للمضطر فلقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام:119] وقد ثبت تحليل الميتة عند الجوع من حديث أبي واقد الليثي عن أحمد والطبراني برجال ثقات ومن حديث جابر ابن سمرة عند أحمد وأبي داود بإسناد لا مطعن فيه ومن حديث الفجيع العامري عن أبي داود وقد اختلف في المقدار الذى يحل تناوله وظاهر الآية أنه يحل ما يدفع الضرر لأن من اندفعت ضرورته فليس بمضطر.

باب ما جاء في الضيافة

باب ما جاء في الضيافة. يجب على من وجد ما يقرى به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام وما كان وراء ذلك فصدقة ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يخرجه وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه ويحرم أكل طعام الغير بغير إذنه ومن ذلك حلب ماشيته وأخذ ثمرته وزرعه لا يجوز إلا بإذنه إلا أن يكون محتاجا إلى ذلك فليناد صاحب الإبل أو الحائط فإن أجابه وإلا فليشرب وليأكل غير متخذ خبنة. أقول: أما وجوب الضيافة على من وجد القرى إلخ فلحديث عقبة ابن عامر في الصحيحين قال: قلت يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فقال: "إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذى ينبغي لهم" وفيهما من حديث أبي شريح الخزاعى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا: وما جائزته يا رسول الله قال: يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث المقدام أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه" وإسناده صحيح وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة نحوه وإسناده صحيح أيضا وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى ان الضيافة مندوبة لا واجبة واستدلوا بقوله: "فليكرم

ضيفه جائزته" قالوا: والجائزة هي العطية والصلة وأصلها الندب ولا يخفى أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب وأدلة الباب مقتضيه لذلك لأن التغريم لا يكون للإخلال بأمر مندوب وكذلك قوله: واجبة فإنه نص في محل النزاع وكذلك قوله: "فما كان وراء ذلك فهو صدقة". وأما كونه يحرم طعام الغير بغير إذنه فلقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وكل ما دل على تحريم مال الغير دل على ذلك لأنه مال وإنما خص منه ما ورد فيه دليل يخصه كالضيف إذا حرمه من تجب عليه ضيافته كما مر. ومن ذلك حلب ماشيته وأخذ ثمرته وزرعه للآدلة العامة والخاصة أما العامة فظاهر كالآية الكريمة وحديث خطبة الوداع ونحو ذلك وأما الأدلة الخاصة فمثل حديث ابن عمرفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينثل طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ما شية أحد إلا بإذنه" وأخرج أحمد من حديث عمير مولى أبي اللحم قال: أقبلت مع سادتي نريد الهجرة حتى إذا دنونا من المدينة قال: فدخلوا وخلفوني في أظهرهم فأصابتني مجاعة شديد وقال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا: لو دخلت المدينة فأصبت من ثمر حوائطها قال: فدخلت حائطا فقطعت منه قنوين فاتى صاحب الحائط وأتى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبري وعلي ثوبان فقال لي: "أيهما أفضل فأشرت إلى أحدهما فقال: خذه وأعط صاحب الحائط الآخر، فخلى سبيلي" وفي إسناده ابن لهيعة وله طريق أخرى عند أحمد وفي إسناده أيضا أبو بكر بن يزيد بن المهاجر غير معروف الحال وقد أعل هذا الحديث بأن في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن يزيد وهو ضعيف وأخرج أحمد والترمذي وابن ما جه من حديث ابن عمر قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يدخل الحائط فقال: "يأكل غير متخذ خبنة".

وأخرج أبو داود والترمذي من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا فإن أجابه أحد فليستأذن وإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل" وهو من سماع الحسن عن سمرة وفيه مقال معروف. وأخرج أحمد وابن ماجه وأبو يعلى وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل فليناد صاحب الحائط ثلاثا فإن أجابه وإلا فليأكل وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد يا صاحب الإبل أو ياراعى الغنم فإن أجابه وإلا فليشرب". وأخرج الترمذي وأبو داود من حديث رافع قال: كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رافع لم ترم نخلهم"؟ قال: قلت يا رسول الله الجوع قال: "لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك". وأخرج أبو داود والنسائي من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع وفيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحائط: "ما علمت إذا كان جاهلا ولا أطعمت إذا كان جائعا" والمراد بالخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وهو بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة وبعدها نون ويمكن الجمع بين الأحاديث بأن تغريم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي اللحم لعدم المناداة منه ولو فرضنا عدم صحة الجمع بهذا كانت أحاديث الإذن عند الحاجة مع المناداة أرجح.

باب آداب الأكل

باب آداب الأكل يشرع للآكل التسمية والأكل باليمين ومن حافتى الطعام لا من وسطه ومما يليه ويلعق أصابعه والصفحة والحمد عند الفراغ والدعاء ولا يأكل متكئا. أقول: أما مشروعية التسمية فلحديث عائشة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وصححه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله فإن نسي فى أوله فليقل بسم الله على أوله وآخره" وأخرجه مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال: الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء" وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليستحل الطعام الذى لم يذكر اسم الله عليه" الحديث وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكل بلقمتين فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما إنه لو سمى لكفى لكم" وقال: حسن صحيح وفي الباب أحاديث وأما مشروعية الأكل باليمين فلحديث ابن عمر عند مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله".

وأما مشروعية الأكل من حافتي الطعام فلحديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تاكلوا من وسطه" وأخرجه أبو داود بلفظ "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصفحة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها". وأما مشروعية الأكل مما يليه فلحديث عمر بن أبي سلمة في الصحيحين وغيرهما قال: كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدى تطيش في الصفحة فقال لي: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك". وأما مشروعية لعق الأصابع والصفحة فلحديث أنس رحمه الله تعالى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث وقال: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان وأمرنا أن نسلت القصعة وقال: إنكم لا تدرون فى أي طعامكم البركة" وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصفحة وقال: "فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة". وأما مشروعية الحمد عند الفراغ والدعاء فلحديث أبي أمامة عند البخارى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والبخارى في التاريخ من حديث أبي سعد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: "الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" وأ خرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل طعاما فقال: الحمد لله الذى أطعمنى هذا ورزقتيه من غير حول منى ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه".

وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزى من الطعام والشراب إلا اللبن" وأخرجه الترمذي بنحوه وحسنه ولكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف وقد رواه عن محمد ابن حرملة قال: أبو حاتم بصري لا أعرفه. وأما كونه لا يأكل متكئا فلحديث أبي جحيفة عند البخارى وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا".

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام ويجوز الإنتباذ في جميع الآنية ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين ويحرم تخليل الخمر ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه ومظنه ذلك بما زاد على ثلاثة أيام وآداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس وباليمين ومن قعود وتقديم الأيمن فالأيمن ويكون الساقي آخرهم شربا ويسمي في أوله ويحمد في آخره ويكره التنفس في السقاء والنفخ فيه والشرب من فمه وإذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات لم يحل شربه وإن كان جامدا ألقيت وما حولها ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة. أقول: أما كون كل مسكر حراما فلما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" فشمل ذلك جميع أنواع الخمر من الشجرتين وغيرهما فيتناوله قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة:90] الآية وفي لفظ لمسلم "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال: صلى الله عليه وسلم "كل شراب أسكر فهو حرام" وفيهما نحوه من حديث أبي موسى وفي الباب أحاديث. وأما كون ما أسكر كثيره فقليله حرام فلحديث عائشة عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان والدارقطني وأعله بالوقف قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" ورجاله رجال الصحيح إلا عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدنى قال: المنذرى لم أر أحدا قال: فيه كلاما وقال: الحاكم هو معروف بكنيته يعنى أبا عثمان وأخرج أحمد وابن ماجه والدارقطنى وصححه من حديث ابن عمر عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وأخرجه أبو داود والترمذي وحسنة وقال: ابن حجر رجاله ثقات من حديث جابر وأخرجه أيضا أحمد والنسائي وابن ماجه ثم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفي الباب أحاديث. وأما جواز الانتباذ في جميع الآنية فلما أخرجه مسلم وغيره من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا" وفي لفظ مسلم رحمه الله تعالى أيضا وغيره "نهيتكم عن الظروف وأن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه وكل مسكر حرام" وفي الباب أحاديث مصرحة بنسخ ما قد كان وقع منه صلى الله عليه وسلم من النهي عن الانتباذ في الدباء والنقير والمزفت والحنتم ونحوها كما هو مذكور في الأحاديث المروية في الصحيحين وغيرهما. وأما كونه لا يجوز انتباذ جنسين مختلطين فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا" وفيهما من حديث أبي قتادة نحوه ولمسلم نحوه من حديث أبي سعيد وله أيضا نحوه من حديث أبي هريرة وفي الباب أحاديث ووجه النهي عن انتباذ الخليطين أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط فيظن المنتبذ أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه قال: النووي ومذهب الجمهور أن النهي في ذلك للتنزيه لا التحريم وإنما يحرم إذا صار مسكرا ولا تخفى علامته وقال بعض االمالكية: هو للتحريم وقد ورد ما يدل على منع انتباذ جنسين سواء كانا مما ذكر فى الأحاديث السابقة أم لا وهو ما أخرجه النسائي وأحمد من حديث أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين فينبذا يبغي أحدهما على صاحبه" ورجال إسناده ثقات. وأما كونه يحرم تخليل الخمر فلحديث أنس عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال: لا"

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديثه أيضا أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال: "أهرقها قال: أفلا نجعلها خلا قال: لا" وقد عزاه المنذرى في مختصر السنن إلى مسلم رحمه الله تعالى وله حديث ثالث نحوه أخرجه الدارقطنى وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه. وأما كونه يجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه فلحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه "قال: علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال: "اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر" وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير "قال: "اشربه ما لم يأخذه شيطانه" قيل وفى كم يأخذه شيطانه؟ قال: "في ثلاث" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث ابن عباس أنه كان ينقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهراق" قال: أبو داود معنى يسقى الخادم يبادر به الفساد. وأما كون مظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام فلحديث ابن عباس المذكور وقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث عائشة أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة فإذا كان من العشى فتعشى شرب على عشائه وإن فضل شيء صبته أو أفرغته ثم تنتبذ له من الليل فإذا أصبح تغذى فشرب على غذائه قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية" وهو لا ينافى حديث ابن عباس المتقدم أنه كان يشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة لأن الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية والكل في الصحيح. وأما كون من آداب الشراب أن يكون ثلاثة أنفاس فلحديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى أنه كان يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول: "أنه أروى وأمرأ" والمراد أنه كان يتنفس بين كل شربتين في غير الإناء وأما التنفس في الإناء

فمنهى عنه" لحديث أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه" وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد أن النبي نهى عن النفخ في الشراب فقال: رجل القذاة أراها في الشراب؟ فقال: أرقها فقال: إنى لا أروى من نفس واحد قال: أبن القدح إذن عن فيك". وأما باليمين فلما تقدم في آداب الأكل. وأما من قعود فلحديث أبي سعيد عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقيء" ولا يعارض هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائما" ولا ما أخرج البخاري وغيره من حديث علي رضي الله عنه أنه شرب وهو قائم ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت" ولا ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث ابن عمر قال: كنا نأكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام لأنه يمكن الجمع بأن الكراهة للتنزيه وإن كان قوله: فمن نسى فليستقيء يشعر بعدم الجواز فقد يكون ذلك في حق من قصد مخالفة السنة على أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ويخصص القول الشامل له وللأمة فيكون الفعل خاصا به كما تقرر في الأصول. وأما كونه يقدم الأيمن فالأيمن فلحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: "الأيمن فالأيمن" وفيهما من حديث سهل بن

سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال: للغلام أتأذن لي أن أعطى هؤلاء فقال: الغلام والله يا رسول الله لا أوثر نصيبي منك أحدا فتله1 رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده" وأما كون الساقى آخرهم شربا فلحديث أبى قتادة عند ابن ماجه وأبي داود والترمذي وصححه وقال: المنذرى رجال إسناده ثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ساقي القوم آخرهم شربا" وقد أخرجه أيضا مسلم رحمه الله تعالى بلفظ "قلت لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الساقي آخرهم شربا". وأما مشروعية التسمية والحمد فلحديث ابن عباس عند الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث وسموا الله إذا أنتم شربتم واحمدوا الله إذا أنتم رفعتم" وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والبخارى في التاريخ من حديث أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: "الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين". وأما كراهة التنفس في السقاء والنفخ فقد تقدم أدلة ذلك في الشرب ثلاثة أنفاس. وأما كراهة الشرب من فم السقاء فلحديث أبي سعيد في الصحيحين قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها" وفي رواية لهما "واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه" وفي البخارى من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من السقاء" وزاد أحمد قال: أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية وفي البخارى وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء" وهذا لا يعارضه ما رواه ابن ماجه والترمذي وصححه من حديث كبشة قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما

_ 1 أي وضعه.

فقمت إلى فيها فقطعته" وأخرج أحمد وابن شاهين والترمذي في الشمائل والطبراني والطحاوي من حديث أم سليم نحوه وأخرج أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن بشر نحوه أيضا لأن فعله صلى الله عليه وسلم قد يكون لبيان الجواز فتحمل أحاديث النهي على الكراهة لا على التحريم وقد يكون ما فعله صلى الله عليه وسلم لعذر فتحمل أحاديث النهي على عدم العذر وقد جزم ابن حزم بالتحريم وروى عن أحمد عن أحاديث النهى ناسخة. وأما كون ما وقعت فيه النجاسة إذا كان مائعا لم يحل شربه وإن كان جامدا ألقيت وما حولها فلحديث ميمونة عند البخارى وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" وأخرجه أبو داود والنسائي في لفظ لهما من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال:"إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه" وصححه ابن حبان وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة قال: "سئل رسول الله عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: "إن كان جامدا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعا فلا تقربوه" وقد أخرجه النسائي وحكم غير الفأرة مما هو مثلها في النجاسة والاستقذار حكمها إذا وقع في سمن أو نحوه. وأما تحريم الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة فلحديث حذيفة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وفيهما أيضا من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وفي لفظ مسلم رحمه الله إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب أو الفضة وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث البراء بن عازب قال:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة قال: من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة" وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث عائشة نحو حديث أم سلمة.

كتاب اللباس

كتاب اللباس ستر عورة واجب في الملأ والخفاء ولا يلبس الرجل الخالص من الحرير إذا كان فوق أربع أصابع إلا للتداوي ولا يفترشه ولا المصبوغ بالعصفر ولا ثوب شهرة ولا ما يختص بالنساء ولا العكس ويحرم على الرجل التحلي بالذهب لا بغيره". أقول: أما وجوب ستر العورة في الملأ والخلا فلحديث حكيم ابن حزام1 عن أبيه عن أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه قال: قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر فقال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قلت فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها" فقلت فإن كان أحدنا خاليا قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه" وقد اختلف أهل العلم في حد العورة وكذلك اختلفت الأدلة وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى. وأما كونه لا يلبس الرجل الخالص من الحرير إذا كان فوق أربع أصابع فلحديث عمر في الصحيحين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" وفيهما نحوه من حديث أنس وفيهما وغيرهما من حديث ابن عمر أنه رأى عمر حلة من إستبرق تباع فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابتغ هذه فتجمل بها للعيد والوفود فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما هذه لباس من لا خلاق له" وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحل الذهب والحرير للإناث من أمتى وحرم على ذكورها" وفي إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال: أبو حاتم إنه لم يلقه وقد صححه أيضا ابن حزم وروى من

_ 1 المحفوظ في هذا الحديث بهز بن حكيم عن أبيه فينظر في نسخة صحيحة! هـ. لمحرره.

حديث علي رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي" زاد ابن ماجه "حل لإناثهم" وهو حديث حسن وأخرج البيهقى بإسناد حسن نحوه وأخرج البزار من حديث عمرو بن جرير البجلى نحوه أيضا وفي إسناده قيس ابن أبي حازم وفي الباب أحاديث وقد ذكر المهدي في البحر أنه مجمع على تحريم الحرير للرجال وقال فيه إنه خالف في ذلك ابن علية وانعقد الإجماع بعده على التحريم وقال القاضي عياض: إنه حكى عن قوم إباحته وقال أبو داود: إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة وقد اختلف أهل العلم في الحرير المشوب بغيره واستدل المانعون من لبسه بما ورد من منعه صلى الله عليه وسلم للبس حلة السيراء كما في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه ولكنه قد وقع الخلاف في تفسير حلة السيراء ما هي فقيل إنها ذات الخطوط وقيل المختلفة الألوان وهذان التفسيران لا يدلان على مطلوب من استدل بذلك على المنع من لبس المشوب على أنه قد قيل إنه الحرير المحض واستدل من لم يقل بتحريم المشوب بل حرم الخالص فقط بمثل حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز" وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن وهو ضعيف والمصمت بضم الميم الأولى وفتح الثانية المخففة وهو الذى جميعه حرير لا بخالطه شيء قطن ولا غيره وهذا البحث طويل الذيول. وأما تقييد التحريم بما كان فوق أربع أصابع فلحديث عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه الوسطى والسبابة وضمهما" وفي لفظ لمسلم رحمه الله وغيره نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة". وأما جواز لبسه للتداوي فلحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما.

وأما كونه لا يحل فراش الحرير فلحديث حذيفة عند البخارى قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: "هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" وفي معنى ذلك أحاديث وهذا نص في محل النزاع. وأما الإسترواح بالقياس على جواز افتراش ما فيه تصاوير فقياس في مقابلة النص وهو فاسد الإعتبار وإلى التحريم ذهب الجمهور وروى عن ابن عباس وأنس أنه يجوز افتراش الحرير وإليه ذهب الحنفية والهدوية واستدل لهم بأن افتراش الحرير إهانة وليس هذا مما يستدل به على المسائل الشرعية على فرض عدم المعارض فكيف وقد عارضه الدليل الصحيح الصريح. وأما المنع من المصبوغ بالعصفر فلحديث عبد الله بن عمرو عند مسلم وغيره قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب أهل الكفر فلا تلبسها" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره أيضا من حديث علي قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر" وفي الباب أحاديث والعصفر يصبغ الثوب صبفا أحمرا على هيئة مخصوصة فلا يعارضه ما ورد في لبس مطلق الأحمر كما في الصحيحين من حديث البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا بعيد ما بين المنكبين وله شعر يبلغ شحمة أذنه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه" وفي الباب أحاديث يجمع بينها بأن الممنوع منه هو الأحمر الذى صبغ بالعصفر والمباح هو الأحمر الذى لم يصبغ به. وأما المنع من ثوب الشهرة فلحديث ابن عمر "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ورجال إسناده ثقات والمراد به الثوب الذى يشهر لابسه بين الناس ويلحق بالثوب غيره من الملبوس ونحوه مما يشهر به اللابس له لوجود العلة".

وأما كونه لا يلبس الرجل ما يختص بالنساء ولا العكس فلحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبس المرأة والمرأة تلبس لبس الرجل" وفي صحيح البخارى وغيره من حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء" وفي الباب أحاديث. وأما تحريم التحلي بالذهب على الرجال فلما تقدم من الأحاديث الواردة في تحريم الذهب وهو لا يكون إلا حلية إذ لا يمكن لبسه. وأما ما يخلط في بعض الثياب بالحرير أو بغيره فهو فضة وإن سماه الناس ذهبا ومن الأدلة على ذلك ما ورد في المنع من خاتم الذهب وما ورد فيمن حلى جيبا له ولو بجر بصيصه1 وقد جمعت رسالة مستقلة في تحريم التحلي بقليل الذهب وكثيره وجمعت أيضا رسالة مستقلة في تحلي النساء بالذهب وهل يجوز ذلك أم لا فليرجع إليهما.

_ 1 في القاموس جر بصيصه شيء من الخلي ونحوه.

كتاب الأضحية

كتاب الأضحية الاضحية ... كتاب الأضحية تشرع لأهل كل بيت وأقلها شاة ووقتها بعد صلاة النحر إلى آخر أيام التشريق وأفضلها أسمنها ولا يجزى ما دون الجذع من الضأن والثني من المعز ولا الأعور والمريض والأعرج والعجف وأعضب القرن والأذن ويتصدق منها ويأكل ويدخر والذبح في المصلى أفضل ولا يأخذ من له أضحية من شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي". أقول: أما كونها تشرع لأهل كل بيت فلحديث أبي أيوب الأنصارى قال: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته" أخرجه ابن ماجه والترمذي وصححه وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث أبي شريحة بإسناد صحيح وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث محنف بن سليم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية" وفى إسناده أبو رملة واسمه عامر قال: الخطاب مجهول وقد اختلف في وجوب الأضحية فذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة وذهب ربيعة والأوزاعى وأبو حنيفة والليث وبعض المالكية إلى أنها واجبة على الموسر وحكى عن مالك والنخعي وتمسك القائلون بالوجوب بمثل حديث "على كل أهل بيت أضحية" المتقدم وبمثل حديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم وقال ابن حجر: في الفتح رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه الموقوف أشبه بالصواف قاله الطحاوي: وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" ومن أدلة الموجبين قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} والأمر للوجوب وقد قيل أن المراد تخصيص الرب تعالى بالنحر لا للأصنام ومن ذلك حديث جندب بن سفيان البجلي في الصحيحين وغيرهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله". ومن حديث جابر

نحوه وجعل الجمهور حديث أنه صلى الله عليه وسلم ضحى عن من لم يضح من أمته بكبش" كما في حديث جابر عند أحمد وأبي داود والترمذي وأخرج نحوه أحمد والطبراني والبزار من حديث أبي رافع بإسناد حسن قرينة صارفة لما تفيده أدلة الموجبين ولا يخفى أنه يمكن الجمع بأنه ضحى عن غير الواجدين من أمته كما يفيده قوله: "من لم يضح من أمته مع قوله: "على كل أهل بيت أضحية" وأما مثل حديث "أمرت بالأضحى ولم يكتب عليكم" ونحوه فلا تقوم بذلك الحجة لأن في أسانيدها من رمي بالكذب ومن هو ضعيف بمرة. وأما كون أقلها شاة فلما تقدم. وأما كون وقتها بعد صلاة عيد النحر فلقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله" وهو في الصحيحين كما تقدم قريبا وفي الباب أحاديث وفيها التصريح بأن المعتبر صلاة الإمام. وأما كونه يمتد الوقت إلى آخر أيام التشريق فلحديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل أيام التشريق ذبح" أخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وله طرق يقوي بعضها بعضا وقد روى أيضا من حديث جابر وغيره وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم والخلاف في المسألة معروف. وأما كون أفضل الضحايا أسمنها فلحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين" الحديث وهو عند أحمد وغيره بإسناد حسن وأخرج البخارى من حديث أبي أمامة بن سهل "قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون". وأما كونه لا يجزيء ما دون الجذع من الضأن فلحديث جابر عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر

عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" وأخرج أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن" وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي والطبراني من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجوز الجذع من الضأن ضحية" وفي الصحيحين من حديث عقبة ابن عامر قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحايا بين أصحابه فصارت لعقبة جذعة فقلت يا رسول الله أصابني جذع فقال: "ضح به" وقد ذهب إلى أنه يجزئ الجذع من الضأن الجمهور. وأما كونه لا يجزئ دون الثنى من المعز فلحديث أبي بردة في الصحيحين وغيرهما أنه قال: يا رسول الله إن عندي داجنا جذعه من المعز فقال: "اذبحها ولا تصلح لغيرك". وأما ما روي في الصحيحين وغيرهما من حديث عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت" والعتود من ولد المعز ما أتى عليه حول فقد أخرج البيهقى عنه بإسناد صحيح أنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي فبقي عتود منها فقال: "ضح به أنت ولا رخصة لأحد فيه بعدك" وقد حكى النووى الاتفاق على أنه لا يجزئ الجزع من المعز. وأما كونه لا يجزئ الأعور إلى آخر ما ذكر من المعيب فلحديث البراء عند أحمد وأهل السنن وصححه الترمذى وابن حبان والحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عور ها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التى لا تنقى" أي التي لا مخ لها وقد وقع في رواية العجفاء بدل الكسيرة وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذى من حديث علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب القرن والأذن" قال: قتادة العضب النصف فأكثر من ذلك وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم والبخارى في تاريخه قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسيرة فالمصفرة التى

تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها والمستأصلة التى ذهب قرنها من أصله والبخقاء التى تبخق عينها والمشيعة التى لا تتبع الغنم عجفا وضعفا والكسيرة التى لا تنقى وهذا التفسير هو في أصل الرواية وفي الباب أحاديث. وأما مسلوبة الإلية فأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقى من حديث أبي سعيد قال: "اشتريت كبشا أضحى به فعدا الذئب فأخذ الإلية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به" وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جدا. وأما كون المضحي يتصدق منها ويأكل ويدخر فلحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلوا وادخروا وتصدقوا" وهو في الصحيحين وفي الباب أحاديث. وأما كون الذبح في المصلى أفضل فلحديث ابن عمر عند البخارى وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذبح وينحر بالمصلى". وأما كون المضحي لا يأخذ شعره وظفره بعد دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي فلحديث أم سلمة رضي الله عنها عند مسلم رحمه الله وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذى الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى وغيره أيضا "من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذى الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي" وقد اختلف العلماء في ذلك فدهب سعيد ابن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعى إلى أنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية وقال: الشافعى وأصحابه مكروه كراهة تنزيه وحكى المهدي في البحر عن الإمام يحيى والهدوية والشافعي أن ترك الحلق والتقصير لمن أراد التضحية مستحب وقال: أبو حنيفة لا يكره.

باب الوليمة

باب الوليمة فصل ماجاء في العقيقة ... باب الوليمة "هى مشروعة وتجب الإجابة إليها ويقدم السابق ثم الأقرب بابا ولا يجوز حصورها إذا اشتملت على معصية" فصل ما جاء في العقيقة "والعقيقة مستحبة وهى شاتان عن الذكر وشاة عن الأنثى يوم سابع المولود وفيه يسمى ويحلق رأسه ويصدق بوزنه ذهبا أو فضة". أقول: أما مشروعيتها فلحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعبد الرحمن بن عوف "أولم ولو بشاة" وقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه فأولم على صفية بتمر وسويق" كما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديثه أنه جعل وليمتها التمر والأقط والسمن" وهو في الصحيحين بنحو هذا وفيه التصريح بأنه ما كان فيها من خبز ولا لحم وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أولم على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة" وقد قال: بوجوب وليمة العرس مالك وقيل إن المشهور عنه أنها مندوبة وروى الوجوب عن أحمد وبعض الشافعية وأهل الظاهر وذهب الجمهور إلى أنها سنة غير واجبة. وأما كونها تجب الإحابة إليها فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الققراء ومن لم يجب الدعوة

فقد عصى الله ورسوله" وفيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها" وفي لفظ لهما من حديثه "إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها" وفي آخر لمسلم رحمه الله وغيره من حديثه "من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله" وفي مسلم وغيره من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك" وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله وغيره "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم" وقد نقل ابن عبد البر والقاضى عياض والنووي الإتفاق على وجوب الإجابة إلى وليمة العرس قال: في الفتح وفيه نظر نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين ونص عليه مالك وعن بعض الشافعية والحنابلة أنها مستحبة وحكى في البحر عن العترة الشافعي أن الإجابة إلى وليمة العرس مستحبة كغيرها والأدلة المذكورة تدل على الوجوب لا سيما بعد التصريح بأن من لم يجب فقد عصى الله ورسوله ووقع الخلاف في إجابة دعوة غير العرس هل تجب أم لا؟ فمن قال: بوجوبها استدل بالرواية المطلقة المذكورة ومن قال: بعدم الوجوب قال: المطلقة محمولة على المقيدة وقد أوضحت ما هو الحق في شرح المنتقى وأما كونه يقدم السابق ثم الأقرب بابا فلحديث حميد ابن عبد الرحمن الحميري عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا احتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا فإذا سبق أحدهما فأجب الذى سبق" أخرجه أحمد وأبو داود وفي إسناده زيد ابن عبد الرحمن الدالانى وقد وثقه أبو حاتم وضعفه ابن حبان وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن لي جارين فإلى أيهما أهدي فقال: إلى أقربهما منك بابا" فهذا يشعر باعتبار القرب في الباب. وأما كونه لا يجوز حضور الوليمة إذا اشتملت على معصية فلحديث علي عند ابن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح قال: "صنعت طعاما فدعوت رسول

الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع" وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مطعمين عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر وأن يأكل وهو منبطح" وفي إسناده انقطاع وقد ورد النهي عن القعود على المائدة التى يدار عليها الخمر من حديث عمر عند أحمد بإسناد ضعيف ومن حديث حابر عند الترمذى وحسنه وأخرجه أيضا أحمد والنسائي والترمذي والحاكم من حديثه مرفوعا وفي الباب غير ذلك ويؤيده أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ذلك "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وهو في الصحيحين وغيرهما. وأما العقيقة فيدل على مشروعيتها حديث سلمان بن عامر الضبي عند البخاري وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مع الغلام عقيقة فأهرقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذى والحاكم وعبد الحق من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق ر أسه" وقد قيل أن الحسن لم يسمع من سمرة إلا هذا الحديث وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: لا أحب العقوق فكأنه كره الإسم فقالوا: يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له قال: "من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاه" فكان هذا الحديث دليلا على أن الأحاديث الواردة في رهن الغلام بعقيقته ليست على الوجوب بل للاستحباب. وأما كونها شاتين عن الذكر وشاة عن الأنثى فلحديث عمرو بن شعيب المذكور ولحديث عائشة عند أحمد والترمذي وابن حبان والبيهقى وصححه الترمذي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة" وأخرج نحوه أحمد والنسائي والترمذي والحاكم والدارقطنى وصححه

الترمذى من حديث أم كرز الكعبية والمراد بقوله: "مكافأتان" المستويتان أو المتقاربتان ولا يعارض هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه عبد الحق وابن دقيق من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا"لأن الأحاديث المتقدمة متضمنة للزيادة وهي أيضا خطاب مع الأمة فلا يعارضها فعله صلى الله عليه وسلم كما تقرر في الأصول وقد وقع الإجماع على أن العقيقة عن الأنثى شاة وأما الذكر فذهب الجمهور إلى أن العقيقة عنه شاتان وقال: مالك والهدوية شاة. وأما كونها يوم سابع المولود وفيه يسمى ويحلق رأسه فلحديث سمرة المتقدم. وأما التصدق بوزن الشعر فلأمره صلى الله عليه وسلم لفاطمة الزهراء أن تحلق شعر رأس الحسين وتتصدق بوزنه من الورق" أخرجه أحمد والبيهقي وفي إسناده ابن عقيل وفيه مقال: ويشهد له ما أخرجه مالك وأبو داود في المراسيل والبيهقي من حديث جعفر بن محمد زاد البيهقي عن أبيه عن جده أن فاطمة رضي الله عنها وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بوزنه فضة" وأخرج الترمذي والحاكم من حديث علي رضي الله عنه قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن شاة وقال: "يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة" فوزناه فكان وزنه درهما أو بعض درهم" وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: "سبعة من السنة في الصبي يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى ويثقب أذنه ويعق عنه ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويتصدق بوزنه ذهبا أو فضة" وفي إسناده رواد ابن الجراح وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات وفي لفظه ما ينكر وهو ثقب الأذن والتلطيخ بدم العقيقة وقد أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح من حديث بريدة الأسلمى قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح

شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وقد أخرج نحوه ابن حبان وابن السكن وصححاه من حديث عائشة وقد ذهب الظاهرية والحسن البصري إلى وجوب العقيقة وذهب الجمهور إلى أنها سنة وذهب أبو جنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة وقيل إنها عنده تطوع.

كتاب الطب

كتاب الطب يجوز التداوي والتفويض أفضل لمن يقدر على الصبر ويحرم بالمحرمات ويكره الاكتواء ولا بأس بالحجامة والرقية بما يجوز من العين وغيرها". أقول: أما جواز التداوى فلما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله" وأخرج البخارى وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم من حديث أسامة قالت: الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: "نعم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا قالوا: يا رسول الله وما هو قال: الهرم " وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي خزامة قال: قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال: " هى من قدر الله". وأما كون التفويض أفضل فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته امرأة سوداء فقالت: إ ني أصرع وإني أنكشف فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت:: أصبر" وفي الصحيحين أيضا من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" ولا يخالف هذا ما تقدم من الأمر بالتداوى فالجمع ممكن بأن التفويض أفضل مع الإقتدار على الصبر كما يفيده قوله: "إن شئت صبرت" وأما مع عدم الصبر على المرض وصدور الحرج والحرد وضيق الصدر من المرض فالتداوى أفضل لأن فضيلة التفويض قد ذهب بعدم الصبر.

وأما كونه يحرم التداوي بالمحرمات فلحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث أخرجه مسلم رحمه الله وغيره وأخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام" وفي إسناده إسمعيل بن عياش وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن التداوى بالخمر كما في صحيح مسلم رحمه الله وغيره وفي البخاري عن ابن مسعود أنه قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" وقد ذهب إلى تحريم التداوي بالأدوية النجسة والمحرمة الجمهور ولا يعارض هذا إذنه صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل كما ورد في الصحيح لأنها لم تكن نجسة ولا محرمة ولو سلمنا تحريمها لكان الجمع ممكنا ببناء العام على الخاص. وأما كونه يكره الاكتواء فلحديث ابن عباس عند البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفاء في ثلاية في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنهى أمتي عن الكي" وفي لفظ "وما أحب أن أكتوي" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا وقد ورد ما يدل على أن النهي عن الكي للتنزيه لا للتحريم كما في حديث جابر عند مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ رضي الله عنه في أكحله مرتين وأخرج الترمذي وحسنة من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن زرارة من الشوكة ووجه الكراهة أن في ذلك تعذيبا بالنار ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار وقد قيل إن وجه الكراهة غير ذلك وقد جمع بين الأحاديث بمجموعات ما ذكرنا. وأما كونه لا بأس بالحجامة فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول "إن كان في شيء من أدويتكم خيرا في شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن اكتوي"

وتقدم حديث ابن عباس مثله وثبت من حديث أنس عند الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاحل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة واحدى وعشرين وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وواحد وعشرين كان شفاء من كل داء" ولا بأس بإسناده وفي الباب أحاديث متضمنة لذكر الأيام التي تنبغي فيها الحجامة وليس المراد هنا إلا الإستدلال على جوازها. وأما كونه لا بأس بالرقية بما يجوز فلحديث أنس عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة والمراد بالحمة السم من ذوات السموم وبالنملة القروح تخرج من الجنب وأخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث عوف بن مالك قال: كنا نرقى في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال: "اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" وفي صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث جابر رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقي فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله إنها كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقي قال: فعرضوها عليه فقال: "ما أرى بأسا فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" وفي الصحيحين من حديث عائشة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها أعظم بركة من يدي وما ورد من الأدلة الدالة على النهي عن الرقى وأنها من الشرك فهي محمولة على الرقية بما لا يجوز كالتي تكون بأسماء الشياطين والطواغيت ونحو ذلك وكذلك يحمل على هذا ما ورد في حديث المغيرة بن شعبة عن أحمد وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل" وقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقى من العين وأخرج أحمد والنسائي

والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال: "نعم فلو كان شيء سبق القدر لسبقته العين" وأخرج نحوه مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث ابن عباس وفي الباب أحاديث وفيها ذكر الإستغسال من العين أي غسل وجه العائن ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح ثم يصبب الماء على من أصيب بالعين على رأسه وظهره من خلفه أخرج ذلك أحمد ومالك في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة يجوز لجائز التصرف أن يوكل غيره في كل شيء ما لم يمنع منه مانع وإذا باع الوكيل بزيادة على ما رسمه موكله كانت الزيادة للموكل وإذا خالفه إلى ما هو أنفع أو غيره ورضي به صح. أقول: أما كون الوكالة تجوز في كل شيء فلأنه قد ثبت منه صلى الله عليه وسلم التوكيل في قضاء الدين كما في حديث أبي رافع أنه أمره صلى الله عليه وسلم أن يقضي الرجل بكره وقد تقدم وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في استيفاء الحد كما في حديث: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهو في الصحيح وسيأتي وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في القيام على بدنه وتقسيم جلالها وجلودها وهو في الصحيح وثبت عنه صلى الله عليه وسلم التوكيل في حفظ زكاة رمضان كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه وقد تقدم في الضحايا وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه وكل أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة وقد تقدم وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لجابر إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا كما أخرجه أبو داود والدارقطني وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ما يفيد جواز الوكالة فلا يخرج عن ذلك إلا ما منع منه مانع وذلك كالتوكيل في شيء لا يجوز للموكل أن يفعله ويجوز للوكيل كتوكيل المسلم للذمي في بيع الخمر أو الخنزير أو نحو ذلك فإن ذلك لا يجوز ولا يكون محللا للثمن لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وقد تقدم وقد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على جواز التوكيل كقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] وقوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف:55] وقد أورد البخاري في الوكالة ستة وعشرين حديثا ستة معلقة والباقية وموصولة وقد قام الإجماع على مشروعيتها. وأما كون الوكيل إذا باع بزيادة على ما رسمه موكله كانت الزيادة

للموكل فلما ثبت في البخاري وغيره من حديث عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري له به شاة فاشترى له شاتين فباع إحدهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى التراب لربح فيه وأخرج الترمذي من حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار فذكر نحو حديث عروة البارقي وفي إسناده انقطاع لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن حكيم ولم يسمع منه وأخرج أبو داود من حديث أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم نحو ذلك وفيه هذا الشيخ المجهول وقد ذهب إلى ما ذكرناه الجمهور وقال: الشافعي في الجديد وأصحابه والناصر أن العقد باطل أي عقد البيع من الوكيل في مثل الصورة المذكورة لأنه لم يأمره الموكل بذلك. وأما كون المخالفة إلى ما هو أنفع أو إلى غيره مع الرضا صحيحة فلكون الرضا مناطا مسوغا لذلك ومجوزا له وإذا لم يرض لم يلزمه ما وقع من الوكيل مخالفا لما رسمه له لعدم المناط المعتبر وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث معن بن يزيد قال: كان أبي خرج بدنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت بها فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك يا معن ما أخذت" ولعل هذه الصدقة صدقة تطوع لا صدقة فرض فقد وقع الإجماع على أنها لا تجزئ في الولد.

كتاب الضمانة

كتاب الضمانة يجب على من ضمن على حي أو ميت تسليم مال أن يغرمه عند الطلب ويرجع على المضمون عنه إن كان مأمورا من جهته ومن ضمن بإحضار شخص وجب عليه إحضاره وإلا غرم ما عليه. أقول: أما وجوب الغرامة على الضمين فلما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي أمام أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الزعيم غارم" وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه ثقة في الشاميين وقد رواه هنا عن شامي وهو شرحبيل بن مسلم فلم يصب ابن حزم في تضعيف الحديث بإسماعيل ابن عياش وقد أخرجه النسائي من طريقين إحداهما من طريق عامر الوصالي والأخرى من طريق حاتم بن حريث كلاهما عن أبي أمامة وقد صححه ابن حبان من طريق حاتم هذه وحاتم قد وثقه الدارمي وقد أخرج الحديث ابن ماجه والطبراني من طريق سعيد بن المسيب عن أنس وأخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس وضعفه بإسماعيل بن زياد السكوني ورواه أبو موسى المديني في الصحابة من طريق سويد بن جبلة قال: الدارقطني لا تصح له صحبة وحديثه مرسل قال: وبعضهم يقول له صحبة ورواه الخطيب في التلخيص من طريق ابن لهيعة عن عبد الله بن حبان الليثي عن رجل عن آخر منهم وأخرج البخاري وغيره من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه دين فقال: أبو قتادة صلِّ عليه يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه وأخرج هذه القصة الترمذي من حديث أبي قتادة وصححه وأخرجها أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم من حديث جابر وفي لفظ من حديث جابر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأبي قتادة: "قد أوفى الله حق الغريم وبرء منه الميت" قال: نعم فصلى عليه فلما قضاهما قال: له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت عليه جلده" أخرج ذلك أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم.

وأما كونه يرجع على المضمون عليه إذا كان مأمورا من جهته فلكون الدين عليه والأمر منه للضمين بالضمانة كالأمر بالتسليم فيرجع عليه بذلك. وأما كون الضامن بإحضار شخص يجب عليه إحضاره أو غرم ما عليه فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" والخلاف في الضمانة معروف وهذا خلاصة ما ورد في الشرع.

كتاب الصلح

كتاب الصلح هو جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ويجوز عن المعلوم والمجهول بمعلوم ولو عن إنكار وعن الدم كالمال بأقل من الدية أو أكثر. أقول: أما جوازه فلقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وأما استثناء الصلح الذي أحل حراما أو حرم حلالا فلحديث عمرو بن عوف عن أبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه وهو ضعيف جدا وقد صحح الترمذي فلم يصب وقد اعتذر له ابن حجر فقال: كأنه اعتبر بكثرة طرقه وذلك لأنه رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: الحاكم على شرطهما وصححه ابن حبان وحسنه الترمذي وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أنس ومن حديث عائشة وكذلك أخرجه الدارقطني. وأما جواز الصلح عن المعلوم والمجهول بمعلوم فلحديث أم سلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه قالت: جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلى رسول الله وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي به سطاما في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان وقال: كل واحد منهما حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه وفي

إسناد الحديث أسامة ابن زيد بن أسلم المدني وفيه مقال: ولكن أصل الحديث في الصحيحين وقد استدل به على جواز الصلح والإبراء من المجهول وأخرج البخاري من حديث جابر أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين فاشتد الغرماء في حقوقهم قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطى ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطي وقال: "سنغدو عليك" فغدا علينا حين أصبح فطاف في النحل ودعا في ثمرها بالبركة فجذذتها فقضيتها وبقي لنا من ثمرها وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول. وأما جواز المصالحة عن الدم كالمال فلكون اللازم في الدم مع عدم القصاص هو المال فهو صلح بمال عن مال يدخل تحت عموم قوله تعالى: أو إصلاح بين الناس وتحت قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وذلك عقل العمد وما صولحوا عليه فهو لهم". وذلك تشديد العقل وفي إسناده على بن زيد بن جدعان وفيه مقال. وأما جواز الصلح ولو كان عن إنكار فلعموم الأدلة واندراج الصلح عن إنكار تحتها ولم يأت من منعه ببرهان وقد ذهب إلى الجمهور وحكى في البحر عن العترة والشافعي وابن أبي ليلى أنه لا يصح الصلح عن إنكار وقد ثبت في الصحيح عن كعب في قصة المتخاصمين في المسجد في دين فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدين أن يضع شطر دينه ويتعجل الباقي وهو دليل على جواز الصلح مع الخصام ووضع البعض واستيفاء البعض.

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة من أحيل على ملىء فليحتل وإذا مطل المحال عليه أو أفلس كان للمحال أن يطلب المحيل بدينه. أقول: أما كون من أحيل على مليء يقبل ذلك فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم ومن أحيل على مليء فليحتل" وفي لفظ لهما "وإذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع" وقد أخرج نحوه بن ماجه وأحمد والترمذي من حديث ابن عمر وفي إسناد ابن ما جه إسماعيل بن توبة وهو صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح وقد قيل أنه يشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف والمحتال عند الأكثر والمحال عليه عند بعض أهل العلم. وأما كونه إذا مطل المحال عليه أو أفلس كان للمحال أن يطالب المحيل بدينه فلكون الدين باقيا في ذمة المحيل لا يسقط عنه إلا بتسليمه إلى المحتال من المحال عليه فإذا لم يحصل التسليم كان دينه باقيا كما كان قبل الحوالة ويستفاد ذلك من قوله: "على مليء" فإن من مطل أو أفلس ليس بالمليء الذي أرشد صلى الله عليه وسلم صاحب الدين أن يقبل الحوالة عليه.

كتاب المفلس

كتاب المفلس يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه إلا ما كان لا يستغني عنه وهو المنزل وستر العورة وما يقيه البرد ويسد رمقه ومن يعول ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه كان الموجود أسوة الغرماء وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه وليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله ويبيعه لقضاء دينه وكذا يجوز له الحجر على المبذر ومن لا يحسن التصرف ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف. أقول: أما كونه يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه مع مفلس فلحديث أبي سعيد عند مسلم رحمه الله وغيره قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال: "تصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه وأخرج سعيد ابن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء" قال عبد الحق: المرسل أصح وقال ابن الطلاع في الأحكام هو حديث ثابت فأفاد ما ذكرناه أن أهل الدين يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه أو أخرجوه من منزله أو تركوه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك.

وأما كون من وجد ماله عند مفلس فهو أحق به فلحديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به وأخرجه أحمد وأبو داود وقال: ابن حجر في الفتح إسناده حسن ولكن سماع الحسن عن سمرة فيه مقال معروف وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" وفي لفظ لمسلم رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه وفي لفظ لأحمد "أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فهو له" وأخرج الشافعي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: في مفلس أتوه به لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفلس أو مات فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به وأخرج مالك في الموطأ وأبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باع من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وقد وصله أبو داود فقال: عن أبي هرير ة وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه ههنا روى عن الحديث الزبيدي وهو شامي وهو قوى في الشاميين وقد ذهب إلى أن البائع أولى بعين ماله الموجود عند المفلس الجمهور وخالفت في ذلك الحنفية فقالوا: لا يكون أولى به والحديث يرد عليهم وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن المشترى إذا كان قد قضى بعض الثمن لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه بل يكون أسوة الغرماء كما أفاده ما تقدم في الرواية من قوله: ولم يكن اقتضى من ماله شيئا وقال: الشافعي والهدوية أن البائع أولى به وهكذا إذا مات المشترى والسلعة قائمة فذهب مالك وأحمد إلى أنها تكون أسوة الغرماء وقال: الشافعي: البائع أولى بها. وأما كونه إذ نقص مال المفلس كان الموجود أسوة الغرماء فذلك هو

العدل لأن الديون اللا زمة مستوية في استحقاق قضائها من مال المفلس وليس بعضها بأولى به من بعض إلا لمخصص ولا مخصص هنا وقد أشار إلى هذا ما تقدم في الرواية من قوله: "فصاحب المتاع أسوة الغرماء". وأما كونه لا يجوز حبس المفلس إذا تبين إفلاسه فلأنه خلاف حكم الله سبحانه قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ولمفهوم قوله: صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد ظلم" وهو حديث صحيح قد تقدم في الباب الذي قبل هذا والمفلس ليس بواجد فلا يحل عرضه ولا عقوبته وأما إذا لم يتبين إفلاسه ولا كونه واجدا فهذا هو محل اللبس والواجب البحث عن حاله بحسب الإمكان حتى يتبين كونه واجدا فيعاقب بالحبس ونحوه كما دل عليه حديث "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" وفي لفظ "ليُّ الواجد ظلم" والكل في الصحيح أو يتبين كونه غير واجد فينظر إلى ميسرة وأما حبس من تبين إفلاسه فلا يجوز بوجه فإنه ظلم بحت. وأما كونه يجوز للحاكم أن يحجر المفلس عن التصرف في ماله فلحجره صلى الله عليه وسلم على معاذ كما تقدم وكذا بيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه كما فعله صلى الله عليه وسلم في مال ومعاذ. وأما جواز الحجر على المبذر ومن لا يحسن التصرف فلقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] قال: في الكشاف السفاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقوم به الناس معايشهم كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء:5] ومما يدل على عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على قرابة حسان لما سألوه أن يحجر عليه إن صح ذلك ويدل ذلك رده صلى الله عليه وسلم لبيضة التي تصدق بها من لا مال له كما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث جابر وكذلك رده صلى الله عليه وسلم.

صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه كما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان من حديث أبي سعيد وكذلك رده صلى الله عليه وسلم عتق من أعتق عبدا له عن دبر ولا مال له غيره كما أشار إلى ذلك البخاري وترجم عليه باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام وأخرج الشافعي في مسنده والبيهقي عن عروة بن الزبير قال: ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا فقال: علي رضي الله عنه لآتين عثمان فلأحجرن عليه فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير فقال: أنا شريكك في بيعك فأتى عثمان رضي الله عنه فقال: احجر على هذا فقال: الزبير أنا شريكه فقال: عثمان أأحجر على رجل شريكه الزبير ففي هذه القصة دليل على أن الحجر كان عندهم أمرا معروفا ثابتا في الشريعة ولولا ذلك لأنكره بعض من اطلع على هذه القصة ولكان الجواب من عثمان على علي بان هذا غير جائز وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر لو كان مثل هذا الأمر غير جائز لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة وقد ذهب إلى جواز الحجر على السفيه الجمهور. وأما كونه لا يمكن اليتيم من ماله حتى يؤنس منه الرشد فلقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء:6] الآية. وأما كونه يجوز لولي أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف فلقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه بالمعروف وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو ابن شعيب عن أبي عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل" والمراد بقوله: "ولا مبادر" ما في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] أي مسرفين ومبادرين كبر الأيتام فهذه الآية والحديث مخصصان لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] .

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة من وجد لقطة فليعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها دفعها إليه وإلا عرف بها حولا وبعد ذلك يجوز له صرفها ولو في نفسه ويضمن مع مجيء صاحبها ولقطة مكة أشد تعريفا من غيرها ولا بأس بأن ينتفع الملتقط بالشىء الحقير كالعصا والسوط ونحوهما بعد التعريف به ثلاثا وتلتقط ضالة الدواب إلا الإبل. أقول: أما كونه يعرف عفاصهاوهو الجلد الذي يكون على رأس القارورة ووكاءها وهو الخيط الذي يشد به الوعاء فلحديث عياض بن حماد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها فلا يكتم فهو أحق بها وإن لم يجيء صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء" وأخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والنسائي وابن حبان وفي الصحيحين من حديث زيد بن خالد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكاءها وعصافها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فلتستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" وسأله عن ضالة الإبل فقال: "مالك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها" وسأله عن الشاة فقال: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأطها إياه وإلا فهي لك وفي مسلم وغيره من حديث أبي كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائا ووكائها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها فدل ما ذكرناه على أنه إذا جاء صاحبها دفعها إليه وإلا عرف بها حولا وبعد الحول يصرفها فإن جاء بعد ذلك غرمها له إن كان قد أتلفها وألرجعها بعينها إن كانت باقية كما يفيده قوله: صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه" وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب التعريف بعد الحول وقد ورد في لفظ للبخاري رحمه الله تعالى

من حديث أبي ما يدل على أن التعريف يجب بعد الحول ولفظه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عرفها" فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: عرفها حولا فلم أجد ثم أتيته ثالثا فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة وقد وقع الخلاف بين الحفاظ في هذه الرواية فعن بعضهم بعضهم أن الزيادة على العام غلط كما جزم بذلك ابن حزم قال ابن الجوزي والذي يظهر لي أن سلمة أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد وجمع بعضهم بأن الزيادة على العام محمولة على مزيد الورع والكلام في ذلك يطول والمراد بقوله: في الحديث ولتكن وديعة عندك أنه يجب ردها فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب الرد لعوضها بعد الإستنفاق لها. وأما كون لقطة مكة أشد تعريفا من غيرها فلما ثبت في الصحيح أنها لا تحل لقطة مكة إلا لمعرف مع أن التعريف لا بد منه في لقطة مكة وغيرها فحمل ذلك على المبالغة في التعريف لأن الحاج قد يرجع إلى بلده ولا يعود فاحتاج الملتقط لها إلى المبالغة في التعريف وقد قيل غير ذلك. وأما كونه لا بأس أن ينتفع الملتقط بالشيء الحقير كالعصا والسوط ونحوهما فلما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث جابر قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به وفي إسناده المغيرة بن زياد وفيه مقال: وقد وثقه وكيع وابن معن وابن عدى وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: "مر بتمرة في الطريق فقال: "لولا إني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" وقد أخرج أحمد والطبراني والبيهقي من حديث يعلى بن مرة مرفوعا "من التقط لقطة يسيرة حبلا أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام" زاد الطبراني "فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها" وفي إسناد عمر بن عبد الله بن يعلى وهو ضعيف وأخرج عبد الرزاق من حديث أبي سعيد أن عليا رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق فقال: النبي صلى الله عليه وسلم:

عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعرفه فقال: كله وأما إذا كان الشيء مأكولا فلا يجب التعريف به بل يجوز أكله في الحال لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في التمرة. وأما كونها تلتقط ضالة الدواب إلا الإبل فللحديث المتقدم عن زيد بن خالد وإلحاق سائر الدواب بالشاة لكونها مثلها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "هي لك أو لأخيك أو للذئب" ولا يخرج من ذلك إلا الإبل كما صرح به صلى الله عليه وسلم ومما يفيد ذلك ما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى من حديث زيد ابن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها" فإن الضالة تصدق على الشاة وغيرها وقيد ذلك بالتعريف فدل على جواز الإلتقاط وخرجت الإبل بالحديث الآخر.

كتاب القضاء

كتاب القضاء إنما يصح قضاء من كان مجتهدا متورعا من أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك ومن كان متأهلا للقضاء فهو على خطر عظيم وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدا في البحث وتحرم عليه الرشوة والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضيا ولا يجوز له الحكم حال الغضب وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافرا والسماع منهما قبل القضاء وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح وحكمه ينفذ ظاهرا فقط، فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع. أقول: أما كون إنما يصح قضاء من كان مجتهدا فلما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله ولا يعرف العدل إلا من كان عارفا بما في الكتاب والسنة من الأحكام ولا يعرف ذلك إلا المجتهد لأن المقلد إنما يعرف قول إمامه دون حجته وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهدا لا من كان مقلدا فما أراه الله شيئا بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه وممايدل على اعتبار الإجتهاد حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" أخرجه ابن ماجه وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وقد جمع ابن حجر طرقة في جزء مفرد وجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا وأما المقلد فهو يحكم بما قال: إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل فهو القاضي الذي قضى للناس على جهل وهو أحد قاضيي النار ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ

هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: له بم تقضي؟ قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد" قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد"؟ قال: فبرأيي وهو حديث مشهور قد بينت طرقه ومن أخرجه في بحث مستقل ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة ولا رأى له بل لا يدري بأن لحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به أو ليس بموجود فيجتهد رأيه فإذا ادعى المقلد أنه حكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لا يعرف كتابا ولا سنة فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت. وأما اعتبار كونه متورعا عن أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية فلكون من لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة وهي تحول بينه وبين الحق كما سيأتى وهكذا من لم يكن عادلا لجرأة فيه أو مداهنة أو محاباة فهو يترك الحق وهو يعلم به فهو أحد قضاة النار لأنه عرف الحق وجار في الحكم. وأما كونه يحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه فلحديث عبد الرحمن ابن سمرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن ابن سمرة: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها". وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنة من حديث أنس رضي الله عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك عليه يسدده" وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه من

حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار" لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور وأما كونه لا يحل للإمام تولى من كان حريصا على القضاء أو طالبا له فلحديث أبي موسى في الصحيحين قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال: أحدهما يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال: الآخر مثل ذلك فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه" وأما كون من كان متأهلا للقضاء فهو على خطر عظيم فلحديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال: ألقه ألقاه في مهوى فهوى أربعين خريفا" وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنس وفيه مقال: وأخرج ابن ماجه والترمذي وحسنة الحاكم في المستدرك والبيهقي وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه" وفي لفظ للترمذي "تخلى عنه ولزمه الشيطان" وفي الباب أحاديث مشتملة على الترغيب وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى. وأما كون له مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدا في البحث فلحديث عمرو بن العاص الثابت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" وقد ورد في روايات أنه إذا أصاب فله عشرة أجور. وأما كونه يخرم عليه الرشوة والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضيا.

فلحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والطبراني والدارقطني من حديث عبد الله ابن عمرو كحديث أبي هريرة وأخرج أحمد والحاكم من حديث ثوبان قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعنى الذي يمشي بينهما" وفي إسنادهما ليث بن أبي سليم قال: البزار إنه تفرد به وفي إسناده أيضا أبو الخطاب قيل وهو مجهول وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليها الترمذي وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] كما روى عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال: لا ومن لا يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك فإن أهدي لك فلا تقبل وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضيا حديث "هدايا الأمراء غلول" أخرجه البيهقي وابن عدى من حديث ابن أبي حميد قال ابن حجر: وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال: ابن حجر وإسناده أشد ضعفا وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره من حديث جابر وفي إسناده إسماعيل ابن مسلم وهو ضعيف أيضا وأخرجه الخطيب في تلخيص التشابه من حديث أنس بلفظ "هدايا العمال سحت" وأخرج أبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "من استعلمناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول" وقد بوب البخاري من أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر حديث ابن اللتبية المشهور ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضيا نوع من الرشوة عاجلا أو آجلا.

وأما كونه لا يجوز له الحكم في حال الغضب فلحديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه في الصحيحين وغيرهما أنه اختصم هو وأنصاري فقال: النبي صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى أخيك فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في غضبه ورضاه بخلاف غيره فإن الغضب يحول بينه وبين الحق وظاهر النهي التحريم وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان إن وافق الحق. وأما كونها تجب عليه التسوية إلا إذا كان أحدهما كافرا فلحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في الكنى أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجالس" وقد قال: أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه أنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح ورواه البيهقي من وجه آخر من طرق جابر الجعفي عن الشعبي قال: خرج على السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرف علي الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان وأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف. وأما كونه يجب السماع منهما قبل القضاء فلحديث علي عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنة وابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء" وللحديث طرق.

وأما كونه يجب عليه تسهيل الحجاب بحسب الإمكان فلحديث عمرو بن مرة عند أحمد والترمذي والحاكم والبزار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ابن مريم الأزدي مرفوعا بلفظ "من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته" قال: ابن حجر في الفتح أن إسناده جيد وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ "أيما أمير احتجب عن الناس فأهملهم احتجب الله عنه يوم القيامة" قال ابن أبي حاتم: وهو حديث منكر وإنما قلنا بحسب الإمكان لأن لنفسه عليه حقا ولأهله عليه حقا فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه ولا يحتجب كل أوقاته فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على قف البئر وثبت في الصحيح أيضا في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا أن عمر استأذن له الأسود لما قال: يا رباح استأذن لي وقد ثبت في الصحيح أيضا أنه كان لعمر حاجب يقال: له يرفا-. وأما كونه يجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة فلما ثبت في البخاري من حديث أنس أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم. وأما كونه يجوز للحاكم الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح فلحديث كعب بن مالك في الصحيحين وغيرهما أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى " يا كعب قال: لبيك يا رسول الله قال: ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال: قد فعلت يا رسول الله قال: قم فاقضه" وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والإستيضاع

والإرشاد إلى الصلح أيضا وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنه والقاضي داخل في عموم الأدلة. وأما كون حكمه ينفذ ظاهرا فقط إلخ فلحديث أم سلمة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام قال: النووي والقول بأن حكم الحاكم لا يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور وبالجملة فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا ويحلل الحرام وقد جاء في هذا المقام بما لا ينفق على من في العلم قدم.

كتاب الخصومة

كتاب الخصومة على المدعى البينة وعلى المنكر اليمين ويحكم الحاكم بالإقرار وبشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين المدعي وبيمين المنكر وبيمين الرد وبعلمه ولا يقبل شهادة من ليس بعدل ولا الخائن ولا ذي العداوة والمتهم والقانع لأهل البيت والقاذف ولا بدوى على صاحب قرية وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله: إذا انتفت التهمة وشهادة الزور من أكبر الكبائر وإذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى وإذا لم يكن للمدعي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا ولا تقبل البينة بعد اليمين ومن أقر بشيء عاقلا بالغا غير هازل ولا بمحال عقلا أو عادة لزمه ما أقر به كائنا ما كان ويكفى مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرهما كما سيأتي. أقول: أما كون على المدعى البينة فلقوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه" كما في الصحيحين من حديث الأشعث بن قيس وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للكندي "ألك بينة"؟ قال: لا قال: "فلك يمينه". وأما كون على المنكر اليمين فلحديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح بلفظ البينة على المدعى واليمين على من أنكر وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وروى عن مالك أنها لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه الفضل وهو رد للرواية بمحض الرأي. وأما كونه يحكم الحاكم بالإقرار فليس في ذلك خلاف وهو أقوى مستندات

الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان ولزوم المقر لما أقر به وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى إيراد الأدلة عليه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسفك به الدماء ويقيم الحدود ويقطع الأموال بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم كما وقع من المقر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهو في الصحيح كما سيأتي فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم. وأما الحكم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين فهو نص القرآن الكريم وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين كما قال: تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] . وأما الحكم بشهادة رجل ويمين المدعى فلحديث ابن عباس عند مسلم رحمه الله وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشهادة وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وقد روى من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق أخرجه أحمد والدارقطني وقد صحح حديث جابر أبو عوانة وابن خزيمة وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد ورجال إسناده ثقات وصححه أبو حاتم وأبو زرعه وأخرج ابن ماجه وأحمد من حديث سرق ورجاله رجال الصحيح إلا الراوي عن سرق فإنه مجهول وقد ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من روى هذا الحديث أعني حكمه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين من الصحابة فزاد على عشرين صحابيا وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ويروى عن زيد ابن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والحنفية أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين وأحاديث الباب ترد عليهم. وأما كونه يجوز الحكم بيمين المنكر فلما قدمناه من أن اليمين على المنكر،

وقد ثبت في مسلم من حديث وائل ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للكندي "ألك بينة" قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء فقال: "ليس لك منه إلا ذلك". وأما كونه يجوز الحكم بيمين الرد فلأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا أنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا وقد استدل من لم يجعلها مستندا بمفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن اليمين على المدعى عليه" كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره ولقوله في حديث وائل: "ليس لك منه إلا ذلك" ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد إذا طلبها المنكر ورضي بها وقبل ذلك المدعي فحلف فلا. وأما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق فلو صح لكان صالحا لتخصيص ما تقدم ولكن في إسناده محمد ابن مسروق وهو غير معروف وفي إسناده إسحاق بن الفرات وفيه مقال: وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين في قوله تعالى: {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة:108] ولكن فيه احتمال إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها. وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله: ولكن اليمين على المدعى عليه فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعا المدعي وأيهما وقع كان صالحا للحكم به كما مر. وأما كونه يجوز له الحكم بعلمه فلأن ذلك من العدل والحق اللذين أمره الله بالحكم بهما وليس في الأدلة ما يدل على المنع من ذلك وحديث "شاهداك أو يمينه" لا حصر فيه ومما يؤيد جواز الحكم بعلم الحاكم ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي "ألك بينة"؟ فإن البينة ما يتبين به الأمر وليس بعد العلم بيان بل هو أعلى أنواع البيان فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم إلا مجرد الظن بأن

المقر صادق في إقراره والحالف بار في يمينه والشاهد صادق في شهادته وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح ولا تنطبق على محل النزاع وأقربها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: للمدعي أقم البينة فلم يقمها فقال: للآخر احلف فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت ولكن قد غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله" وفي رواية الحاكم بل هو عندك ادفع إليه حقه وأما أقوال الصحابة فلا تقوم بها الحجة إلا إذا أجمعوا على ذلك عند من يقول بحجية الإجماع. وأما كونها لا تقبل شهادة من ليس بعدل فلقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات:6] الآية وقد حكى في البحر الإجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق التصريح. وأما كونها لا تقبل شهادة الخائن وذي العداوة والمتهم فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا يجوز شهادة القانع لأهل البيت وا لقانع الذي ينفق عليه أهل البيت" ولأبي داود في رواية "ولا زان ولا زانية". قال: ابن حجر في التلخيص وسنده قوي والغمر بكسر المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة الحقد أي لا تقبل شهادة العدو على العدو وأخرج الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولا قرابة" وفي إسناده يزيد ابن زياد الشامي وهو ضعيف وقد أخرج الطبراني والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناده عبد الأعلى أو شيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهما ضعيفان وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد اللهبن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم

ولا ظنين" ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة" يعني الذي بينك وبينه عداوة" ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله قال: ابن حجر وفي إسناده نظر والمراد بالمتهم هو من يظن به أنه يشهد زورا لمن يحابيه كالقانع والعبد لسيده وقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده. وأما القاذف فلقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في حكم التوبة المذكورة في آخر الآية. وأما كونها لا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية فلحديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على قرية" أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي قال: المنذري رجال إسناده احتج بهم مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه قال في النهاية: إنما ذكر شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وبنحو هذا قال: الخطابي وروى نحوه عن أحمد بن حنبل وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبو عبيد: وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم انتهى وهذا توجيه قوي ومحمل سوي. وأما كونها تجوز شهادة من شهد على تقرير فعله أو قوله: إذا انتفت التهمة فلأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى نخصصه من عموم الأدلة وأيضا حديث قبول خبر المرضعة وقوله صلى الله عليه وسلم بعد خبرها: "كيف وقد قيل"؟ ورتب على خبرها التحريم وقد تقدم في الرضاع وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى ولم يستدل المانع إلا على أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله لم يخل من تهمة وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة. وأما كون شهادة الزور من أكبر الكبائر فلحديث أنس في الصحيحين

وغيرهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قول الزور أو قال شهادة الزور" وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور فما يزال يكررها حتى قلنا ليته سكت". وأما كونه إذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى فلحديث أبي موسى عند أبي داود والحاكم والبيهقي أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة وصححه وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث تميم بن طرفة ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة وثبتت قسمة المدعى عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المذكور أولا بزيادة ذكرها النسائي فقال: ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما. وأما كونه إذا لم يكن للمدعي بينه فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا فلحديث الأشعث بن قيس في الصحيحين وغيرهما قال: كان بينى وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "شاهداك أو يمينه" فقلت إنه إذا يحلف ولا يبالى فقال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث وائل ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: "ألك بينة"؟ قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف وليس يتورع من شيء فقال: "ليس لك منه إلا ذلك".

وأما كونها لا تقبل البينة بعد اليمين فلما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي فهي مستند للحكم صحيح ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها أنه لا يحصل لكل منهما إلا مجرد ظن ولا ينقض الظن بالظن وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم والخلاف معروف. وأما كون من أقر بشيء لزمه فلما تقدم وأما تقييده بكون المقر عاقلا بالغا فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين فلا حكم لإقرارهما. وأما تقييده بكونه غير هازل فلكون إقرار الهازل ليس هو الإقرار الذي يجوز أخذه به وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة لأن كذبه معلوم ولا يجوز الحكم بالكذب. وأما كونه يكفي الإقرار مرة واحدة في الحدود وغيرها فلكون المقر بالشيء على نفسه قد لزمه إقراره واعتبار التكرار في الحدود سيأتى أنه لم يثبت عليه دليل يوجب المصير إليه.

كتاب الحدود

كتاب الحدود باب حد الزنى ... كتاب الحدود باب حد الزاني إن كان بكرا حرا جلد مائة جلدة وبعد الجلد يغرب عاما وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر ثم رجم حتى يموت ويكفي إقراره مرة وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الإستثبات وأما الشهادة فلا بد من أربعة ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج ويسقط بالشبهات المحتملة وبالرجوع عن الإقرار وبكون المرأة عذراء أو رتقاء وبكون الرجل مجبوبا أو عنينا وتحرم الشفاعة في الحدود ويحفر للمرجوم إلى الصدر ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرا وكذلك المفعول به إذا كان مختارا ويعزر من نكح بهيمة ويجلد المملوك نصف جلد الحر ويحده سيده أو الإمام. أقول: أما جلد الزاني البكر الحر مائة جلده فلقوله: تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وأما التغريب فلحديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله وقال: الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل" قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنا بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة

وتغريب عام واغد يا أنيس - لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال: فغدا إليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت قال مالك: العسيف الأجير وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفى عام وإقامة الحد عليه وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن الجمهور حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين وقد حكى بن المنذر أنه عمل بالتغريب الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعا ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة وغاية ما تمسكوا به عدم ذكره في بعض الأحاديث وذلك لا يستلزم العدم فاختلف من أثبت التغريب هل تغرب المرأة أم لا فقال: مالك والأوزاعي لا تغريب على المرأة لأنها عورة وظاهر الأدلة عدم الفرق. وأما جلد الثيب فيما تقدم من الأدلة وغيرها كرجمه صلى الله عليه وسلم لماعز ورجمه صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية ورجمه للغامدية والكل في الصحيح. وأما كونه يكفي إقرار مرة فاعلم أن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة فمن أوجب تكرار الإقرار في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه ولا دليل ههنا بيد من أوجب تربيع الإقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أو غيره بأن يكرر الإقرار ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول لقصد التثبت في أمره ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم: "أبك جنون"؟ ووقع منه صلى الله عليه وسلم السؤال لقوم ماعز عن عقله وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار مرة واحدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة كما قال: في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره وكما

أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد ابن اللجلاج عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه وفي رواية أنه عفا عنه والحديث في سنن النسائي والترمذي ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار فلو كان الإقرار أربع مرات شرطا في حد الزاني لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة له في عدة قضايا فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل وعدمه والصحو والسكر ونحو ذلك وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة على من كان معروفا بصحة العقل ونحوه. وأما اعتبار كون الشهود أربعة فذلك لمزيد الإحتياط في الحدود لكونها تسقط بالشبهة ولا وجه للإحتياط بعد الإقرار فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقي بعده ريبة بخلاف شهادة الشهود عليه وهذا أمر واضح وقد ذهب إلى ما ذكرناه جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم وحكاه صاحب البحر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار. وأما اعتبار كون الشهود أربعة فلا أعلم في ذلك خلافا وقد دل عليه الكتاب والسنة. وأما كونه لا بد من التصريح في الإقرار والشهادة بإيلاج الفرج في الفرج فلقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت"؟ فقال: لا يا رسول الله قال: أفنكتها لا يكنى قال: نعم" فعند ذلك أمر برجمه أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس وأخرج أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة قال: جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال: "أنكتها"؟ قال: نعم قال: "كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر"؟

قال: نعم الحديث وفي إسناده ابن الهصهاص قال البخاري: حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا والقصة معروفة. وأما كون الحد يسقط بالشبهات فلحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطىء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة" أخرجه الترمذي وقد رواه الترمذي أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وقد أعل الحديث بالوقف وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا" وقد روي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا "ادرأوا الحدود بالشبهات" وروى نحوه عن عمر وابن مسعود بإسناد صحيح وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه بعضا ويقويه ومما يؤيد ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها يعني امرأة العجلاني كما في الصحيحين من حديث ابن عباس. وأما كونه يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار فلحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه" قال الترمذي: حديث حسن وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" وقد أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله طرفا من هذا الحديث وفي الباب روايات وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنفية والعترة وهو مروى عن مالك في قول له وقد ذهب ابن ابي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار.

وأما سقوطه بكون المرأة رتقاء أو عذراء أو بكون الرجل مجبوبا أو عنينا فلكون المانع موجودا فتبطل الشهادة أو الإقرار لأنه قد علم كذب ذلك قطعا وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية فذهب فوجده يغتسل في ماء فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله فرآه مجبوبا فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك والقصة مشهورة وهذا معناها. وأما كونها تحرم الشفاعة في الحدود فلما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره" وفي الصحيحين من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله" وأخرج أحمد أهل السنن وصححه الحاكم وابن الجارود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصفوان: لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه "هلا كان قبل أن تأتيني به" وفي الباب أحاديث. وأما كونه يحفر للمرجوم إلى الصدر فلكونه صلى الله عليه وسلم أمر أن يحفر للغامدية إلى صدرها وهو في صحيح مسلم رحمه الله وغيره من حديث عبد الله بن بريدة وفي مسلم وغيره أنه حفر لماعز حفرة ثم أمر به فرجم كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز وأخرجها أحمد وزاد حفرله حفرة فجعل فيها إلى صدره وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه اعترف رجل بالزنا فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحصنت"؟ قال نعم فأمر برجمه فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ وقد ثبت في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا وثقناه ويؤيد هذا ما وقع في حديث غيره أنه هرب كما تقدم ولكن ترك الحفر له لا ينافي مشروعية الحفر. وأما كونها لا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه

فلحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم رحمه اللذه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز ابن مالك قال: "وما ذاك قالت: إني حبلى من الزنا قال: أنت قالت: نعم فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وضعت الغامدية فقال: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا رسول الله قال: فرجمها وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عمران ابن حصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني" ففعل فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت الحديث وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس رضي الله عنهم وأحاديثهم عند مسلم رحمه الله تعالى وقد اختلفت الروايات ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك فرجمت وقد جمع بينهما بمجموعات. وأما كونه يجوز الجلد حال المرض ولو بعثكال ونحوه فلحديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد ابن عبادة قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: "اضربوه حده فقال: يا رسول الله إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: "خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة" قال: ففعلوا روا أحمد وابن ماجه والشافعي والبيهقي والدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة عن أبي سعيد الخدري ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن

سهل بن حنيف عن أبيه وإسناد الحديث حسن وقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث علي رضي الله عنه قال: أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت اتركها حتى تماثل" وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول بأن المريض إذا كان مرضه مرجوا أمهل كما في الحديث الآخر وإن كان مأيوسا جلد كما في الحديث الأول وقد حكي في البحر الإجماع على أنه تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو فإن كان مأيوسا فقال: الهادي وأصحاب الشافعي أنه يضرب بعثكول إن احتمله وقال: المؤيد بالله والناصر لا يحد في مرضه وإن كان مأيوسا. وأما كون من لاط بذكر يقتل ولو كان بكرا وكذا المفعول به إذا كان مختارا فلحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" قال ابن حجر: رجاله موثوقون إلا أن فيه اختلافا وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا" وإسناده ضعيف قال: ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطيا قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن وأخرج أيضا عن أبي بكر رضي الله عنه أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي ابن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أن نحرقه فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر

يوجد على اللوطية يرجم" وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع الحجارة وقد اختلف أهل العلم في عقوبة اللواط بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا به وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم وقد حكى صاحب شفاء الأوام إجماع الصحابة على القتل وحكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق وروى عن النخعي أنه قال: لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي قال المنذري حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله ابن الزبير وهشام بن عبد الملك وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني وقال الشافعي: في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصنا رجم وإلا جلد وغرب وحد المفعول به الجلد والتغريب وفي قول كالفاعل وفي قول يقتل الفاعل والمفعول به وقال: أبو حنيفة يعزر باللواط ولا يجلد ولا يرجم. وأما كونه يعزر من نكح بهيمة فلكون الحديث المروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقد روى الترمذي وأبو داود من حديث أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: " من أتى بهيمة فلا حد عليه" وقال: إنه أصح من الحديث الأول والعمل على هذا عند أهل العلم وروى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل ولكن في إسناده عبد الغفار قال ابن عدي أنه رجع عنه وذكر أنهم كانوا لقنوه وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر ووقع الخلاف بين أهل العلم فقيل يحد كحد الزاني وقيل يعزر فقط إذ ليس بزنا وقيل يقتل ووجه ما ذكرناه من التعزير أنه فعل محرما مجمعا عليه فاستحق العقوبة بالتعزير وهذا أقل ما يفعل به.

وأما كونه يجلد المملوك نصف جلد الحر فلقوله: تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر وقد أخرج عبد الله بن أحمد في المسند من حديث على قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد فوجدتها في دمها فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين". وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى كما تقدم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وذهب ابن عباس إلأ أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] الآية وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا الإسلام. وأما كونه يحد العبد سيده أو الإمام فلعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد وأما سيده فلحديث أبي هريرة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثه فليبعها ولو بحبل من شعر" وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه جماعة من السلف والشافعي وذهب العترة إلى أن حد المماليك إلى الإمام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى السيد.

باب ما جاء حد السرقة

باب ما جاء حد السرقة من سرق مكلفا مختارا من حرز ربع دينار فصاعدا قطعت كفه اليمنى ن ويكفي الإقرار مرة واحدة أو شهادة عدلين ويندب تلقين المسقط ويحسم موضع القطع وتعليق اليد في عنق السارق ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب ولا قطع في ثمر ولا كثر مالم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع وقد اثبت القطع في جحد العارية. أقول أما اشتراط التكليف والإختيار فقد تقدم وجهه. وأما قطع السارق فلقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] الآية وأما اعتبار الحوز فقد استدل على ذلك بما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال: يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها في أكمامها قال: من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وقد أخرجه أيضا أحمد والنسائي والحاكم وصححه وحسنه الترمذي والحريسة التي ترعى وعليها

حرس. وكذا حديث لا قطع في ثمر ولا كثر عند أحمد وأهل السنن، والحاكم وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث رافع بن خديج وقد ذهب إلى اعتبار لحرز الأكثر وذهب أحمد إسحاق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره واستدلوا على عدم الإعتبار وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومالك في الموطأ والشافعي والحاكم وصححه من حديث صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي فسرقت فاخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقلت يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهما إنا أهبها له قال: فهلا كان قبل أن تأتيني به وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر أن رسول الله قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم وقد أخرج مسلم رحمه الله تعالى معناه وقد روى نحوه حديث صفوان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وضعف إسناده ابن حجر ويجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز بأن المساجد حرز لما دخل إليها ولو كان على صاحبه فيكون الحرز أعم مما وقع تبينه في كتب الفقه ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد العارية وسيأتي ويمكن أن يكون ذلك خاصا بما ورد فيه فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره. وأما كون نصاب القطع ربع دينار فصاعدا فلحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا وفي رواية لمسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وفي لفظ لأحمد اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنى عشر درهما وفي رواية للنسائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة ما ثمن المجن قالت: ربع دينار وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه

ثلاثة دراهم" وقد عرفت أن الثلاثة الدراهم هي صرف ربع الدينار كما تقدم في رواية أحمد قال: الشافعي وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر درهما بدينار وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار ومن الفضة باثني عشر ألف درهم وقد ذهب إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم الجمهور من السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة اثنا عشر مذهبا قد أوضحتها في شرح المنتقي وأما ما روي من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" فقد قال: الأعمش كانوا يرون أنها بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم كذا في البخاري وغيره. وأما كونه يكفي الإقرار مرة واحدة فلما قدمناه في الباب الأول وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق المجن وسارق رداء صفوان ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قوله صلى الله عليه وسلم للسارق الذي اعترف بالسرق: " ما أخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاثا فهذا هو من باب الإستثبات كما تقدم وقد ذهب إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة مالك والشافعية والحنفية وذهبت العترة وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى اعتبار المرتين. وأما اعتبار شهادة عدلين فلكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين. وأما كونه يندب تلقين المسقط فلحديث أبي أمية المخزومي عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاثا وقد روى عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت قل: لا، وسمي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أخرجه عبد الرزاق وفي الباب عن جماعة من الصحابة.

وأما حسم موضع القطع وتعليق اليد في عنق السارق فلما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق قد سرق شملة فقال: قالوا يا رسول الله إن هذا سرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أخاله سرق" فقال: السارق بلى يا رسول الله فقال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال: تب إلى الله فقال: قد تبت إلى الله فقال: تاب الله عليك" وأخرج أهل السنن وحسنه الترمذي من حديث فضالة بن عبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناد الحجاج ابن أرطاه قال: النسائي ضعيف لا يحتج. وأما كونه يسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فلحديث صفوان المتقدم وأخرج النسائي وأبو داود وصححه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وأما كونه لا قطع في ثمر ولا كثر إلخ فلحديث عمرو بن شعيب ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب والكثر جمار النخل أو طلعها وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل قال: وضرب نكال ليجمع له بين عقوبة المال والبدن والخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وقد تقدم ضبطها وتفسيرها. وأما كونه ليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع فلحديث جابر عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر وأخرجه ابن ماجه أيضا والطبراني من حديث أنس نحوه. وأما كونه قد ثبت القطع في جحد العارية فلما أخرج مسلم رحمه الله تعالى

وغيره من حديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وأبو عوانة في صحيحه من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية من لا يشترط الحرز وهم من تقدم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع جاحد العارية قالوا لأن الجاحد للعارية ليس بسارق وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقا لغة فهو سارق شرعا والشرع مقدم على اللغة وقد ثبت الحديث من طريق عائشة وابن عمر كما تقدم وكذا من حديث جابر وابن مسعود وغير هؤلاء وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وصححه أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حليا فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية"

باب حد القذف

باب حد القذف من قذف غيره بالزنا وجب عليه حد القذف ثمانين جلده ويثبت ذلك بإقراره مرة أو شهادة عدلين وإذا لم يتب لم تقبل شهادته فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود سقط عنه الحد وكذلك إذا أقر المقذوف بالزنا. أقول: الدليل على ثبوت حد القذف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقد أجمع أهل العلم على ذلك وروى مالك عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أدركت عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء وهلم جرا فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا فذهب الأكثر إلى الأول وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الآية. وأما كونه يثبت بإقراره مرة فلكون إقرار المرء لازما له ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين فعليه الدليل ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة. وأما اعتبار شهادة العدلين فكسائر ما يعتبر فيه الشهادة كما اطلقه الكتاب العزيز. وأما كونه يسقط حد القذف إذا جاء القاذف بأربعة شهود يشهدون على المقذوف أنه زنا فلأن القاذف حينئذ لم يكن قاذفا بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة فيقام الحد على الزاني وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا فلا حد

على من رماه به بل يحد المقر بالزنا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إنه جلد أهل الإفك كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنة وأشار إلى ذلك البخاري في صحيحه فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا حيث لم تكمل الشهادة وذلك معروف ثابت.

باب حد الشرب من شرب مسكرا مكلفا مختارا جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين ولو على القىء وقتله في الرابعة منسوخ فصل: والتعزير في المعاصي التي لا توجب حدا ثابت بحبس او ضرب أو نحوهما ولا يجاوز عشرة أسواط: أقول: أما اعتبار التكليف والإختيار فقد تقدم دليله. وأما كون حد الشرب مفوضا إلى نظر الإمام فلما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وفي مسلم من حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال: عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين جلده فأمر به عمر وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث قال: جيء بالنعمان شاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد وفيه أيضا من حديث السائب بن يزيد قال: كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرا من إمرة عمر فنقوم نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من أمرة

عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفيه أيضا من حديث أبي هريرة نحوه وفي الباب أحاديث يستفاد من مجموعها أن حد السكر لم يثبت تقريره عن الشارع وأنه كان يقام بين يديه على صور مختلفة بحسب ما تقتضيه الحال وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه. وأما كونه يكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين فلما تقدم ولعدم وجود دليل على اعتبار التكرار. وأما كون الشهادة تصح على القىء فلكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها والأصل عدم المسقط ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان أحدهما أنه شربها والآخر أنه تقيأها فقال: عثمان رضي الله عنه إنه لم يتقيأها حتى شربها كما في مسلم وغيره. وأما كون قتله في الرابعة منسوخ فلما رواه الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" قال: ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله ومثله أخرج أبو داود والترمذي من حديث قبيصة بن ذؤيب وفيه ثم أتى به يعني في الرابعة فجلده ورفع القتل وفي رواية لأحمد من حديث أبي هريرة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة فخلى سبيله. وأما جواز التعزير في المعاصي وأنه لا يجوز عشرة أسواط فلحديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنة وقال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث بهز بن حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه وأخرج الحاكم له شاهدا من حديث أبي هريرة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة وقد ثبت

أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته لما عزله عن إمارة الجيش كما في كتب السير وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شيء من أموال الله وتقدم في باب السرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وضرب النكال.

باب ما جاء في حد المحارب

باب ما جاء في حد المحارب هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن القيل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض يفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا لكل من قطع طريقا ولو في المصر إذا كان قد سعى في الأرض فسادا فإن تاب قبل القدرة سقط عنه ذلك. أقول: هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب فإن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} فضم إلى محاربة الله ورسوله أي معصيتهما السعي في الأرض فسادا فكان دليلا على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فسادا كان حده ما ذكره الله في الآية ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق وهم العرنيون كان دخول من قطع طريقا تحت عموم الآية دخولا أوليا ثم حصر الجزاء في قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة:33] فخير بين هذه الأنواع فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحا منها فإن لم يكن إمام من يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم ولم يأت من الأدلة النبوية ما يصرف ما دل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب وأما ما روى عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في مسنده أنه قال: في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا

نفوا من الأرض فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة عل أحد ولو فرضنا أنه في الحكم التفسير للآية وإن كان مخالفا لها غاية المخالفة ففي إسناده ابن يحيى وهو ضعيف جدا لا تقوم بمثله الحجة وأما ما روى عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في المشركين كما أخرجه أبو داود والنسائي عنه فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين وقد كانوا أسلموا كما في الأمهات ولو سلمنا ماروى عن ابن عباس لم تقم به حجة من قال: باختصاص ما في الآية بالمشركين لما تقرر من أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن في إسناد ذلك علي بن الحسين بن واقد وهو ضعيف وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف كالحسن البصري وابن المسيب ومجاهد وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزنيين أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية وهو القطع كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس والمراد بالصلب المذكور هو الصلب على الجذوع ونحوها حتى يموت إذا رأى الإمام ذلك أو يصلبه صلبا لا يموت فيه فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت والصلب الذي لا يفضي غلى الموت ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل لأن الصلب هو قتل خاص. وأما النفي من الأرض فهو طرده عن الأرض التي أفسد فيها وقيل إنه الحبس وهو خلاف المعنى العربي. وأما سقوط الحد عنه أن تاب قبل أن يقدر عليه فلنص القرآن بذلك.

باب من يستحق القتل حدا

باب من يستحق القتل حدا "هو الحربي والمرتد والساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله او للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين والزنديق بعد استتابتهم والزاني المحصن واللوطى مطلقا والمحارب. أقول: أما الحربي فلا خلاف في ذلك لأوامر الله عز وجل بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا من قتالهم وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث ويأمر بذلك من يبعثه للقتال. وأما المرتد فلقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس وحديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان" الحديث وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود ولحديث أبي معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال: انزل وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله. وأما الساحر فلكون عمل السحر نوعا من الكفر ففاعله مرتد يستحق ما يستحق المرتد وقد روى الترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الساحر ضربه بالسيف قال الترمذي والصحيح عن جندب موقوفا ثم قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس وقال: الشافعي إنما يقتل

الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ الكفر فإذا عمل عملا دون الكفر فلم ير عليه قتلا انتهى وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل ابن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة والأرجح ما قاله الشافعي لأن الساحر إنما يقتل لكفره فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجبا للكفر. وأما الكاهن فلكون الكهانة نوعا من الكفر فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا لصحة الكهانة ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد" وفي الباب أحاديث. وأما الساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة أو الطاعن في الدين فكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ففاعلها مرتد حده حده. وقد أخرج أبو داود من حديث علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها ولكنه من رواية الشعبي عن علي وقد قيل إنه سمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي برزة قال: كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل فاشتد غضبه فقلت أتأذن لي يا خليفة رسول الله أن أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا قلت ائذن لى أن أضرب عنقه قال: أكنت فاعلا لو أمرتك قلت نعم قال: لا والله ما كان لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال: كفر بالسب

فيسقط القتل بالإسلام قال: الخطابي لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما انتهى وإذا ثبت ما ذكرناه في سب النبي صلى الله عليه وسلم فبالأولى سب الله تبارك وتعالى أو سب كتابه أو الإسلام أو طعن في دينه وكفر من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان. وأما الزنديق فهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعتقد بطلان الشرائع فهذا كافر بالله وبدينه مرتد عن الإسلام أقبح ردة إذا ظهر منه ذلك بقول أو بفعل وقد اختلف أهل العلم هل تقبل توبته أم لا والحق قبول التوبة. وأما اعتبار الاستتابةة في هؤلاء المذكورين فلحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت وله طريقان ضعفهما ابن حجر وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم استتاب رجلا أربع مرات وفي إسناده العلاء ابن هلال وهو متروك وأخرج البيهقي من وجه آخر وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه استتاب امرأة يقال: لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها قال: ابن حجر وفي السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل أم قرفة يوم قريظة وهي غير تلك وأخرج مالك في الموطأ والشافعي أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل من مغربة خبر قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به قال: قربناه فضربنا عنقه فقال رضي الله عنه: هل حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الاسلام قبل السيف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ولا يقاتلهم حتى يدعوهم فهذا ثبت في كل كافر فيقال: للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا

قتلناك وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة أو الطاعن في الدين أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الإستتابة وهي واجبة كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام. وأما كونه يقال: للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثا أو في ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك بل يقال: لكل واحد من هؤلاء ارجع إلى الإسلام فإن أبي قتل مكانه. وأما الزاني المحصن واللوطى والمحارب فقد تقدم الكلام فيهم.

كتاب القصاص

كتاب القصاص ... كتاب ماجاء في القصاص "يجب على المكلف المختار العامد إن اختار ذلك الورثة وإلا فلهم طلب الدية وتقتل المرأة بالرجل والعكس والعبد بالحر والكافر بالمسلم والفرع بالأصل لا العكس ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان ويسقط بإبراء أحد الورثة ويلزم نصيب الآخرين من الدية وإذا كان فيهم صغير انتظر في القصاص بلوغه ويهدر ما سببه من المجني عليه وإذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك وفي قتل الخطا الدية والكفارة وهو ما ليس بعمد أو من صبي أو مجنون وهي على العاقلة وهم العصبة. أقول: أما وجوبه فبنص الكتاب العزيز {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] وبمتواتر السنة كحديث "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث منها النفس بالنفس" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود وفي مسلم وغيره من حديث عائشة وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي شريح الخزاعى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد رابعة فخذوا على يده" وفي إسناده سفيان ابن أبي العوجاء السلمي وفيه مقال: وفيه أيضا محمد ابن إسحاق وقد عنعن وقد أخرج البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] الآية فمن عفي له من أخيه قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية

والاتباع بالمعروف لأن يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فيما كتب على من كان قبلكم ولا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب القصاص عند المقتضي وانتفاء المانع. وأما اعتبار التكليف والإختيار فقد يقدم وجهه. وأما اعتبار العمد فلما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث عائشة بلفظ "لا يحل قتل امرىء إلا في إحدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا أو رجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ "من قتل متعمدا سلم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا" الحديث وهو معلوم بالأدلة والإجماع من أهل الإسلام أن القصاص لا يجب إلا مع العمد ولا بد من أن يكون عدوانا لأن من قتل عمدا مقتولا يستحق القتل شرعا لا يجب عليه القصاص وأما كون القصاص لا يجب إلا مع اختيار الورثة له وإلا فلهم طلب الدية فلما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين". وأما كونها تقتل المرأة بالرجل والعكس فلما أخرجه مالك والشافعي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى اليمن "أن الذكر يقتل بالأنثى" ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلا ورواه النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولا مطولا من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وفي هذا الحديث كلام طويل وقد صححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وقال: ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإستناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول وقال: يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله والتابعين يرجعون إليه ويدعون

رأيهم وقال الحاكم: قد شهد عمر ابن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب ومما استدل به على ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان حتى سمى اليهودي فأومأت برأسها فجىء به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين وقد استوفيت الحديث في شرح المنتقى وإلى ذلك ذهب الجمهور واختلفوا هل تتوفى ورثة الرجل من ورثة المرأة نصف الدية أم لا؟ وقد حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل بالمرأة إلا رواية عن علي والحسن وعطاء ورواه البخاري عن أهل العلم هذا في قتل الرجل بالمرأة وأما قتل المرأة بالرجل فالأمر واضح وهكذا قتل العبد بالحر والكافر بالمسلم والفرع بالأصل وليس في ذلك خلاف. وأما العكس من هذه الصور الثلاث فقد قيل إنه يقتل الحر بالعبد وهو يحكى عن الحنفية وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري هذا إذا كان العبد مملوكا لغير القاتل وأما إذا كان مملوكا له فقد حكي في البحر الإجماع على أنه لا يقتل السيد بعبده إلا عن النخعي وهكذا حكى الخلاف عن النخعي وبعض التابعين الترمذي واستدل المثبتون بما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه" وفي إسناده ضعف لأنه من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف مشهور واستدل المانعون بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] وفي الاستدلال لآية إشكال كالإشكال الذي في استدلال من استدل بقوله: تعالى النفس بالنفس واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه رواه عن الأوزاعي وهو شامي وإسماعيل قوى في الشاميين وفي إسناده أيضا محمد بن عبد العزيز الشامي وهو ضعيف.

وأخرج البيهقي وابن عدى من حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده" وفي إسناده عمر ابن عيسى السلمي وهو منكر الحديث كما قال: البخاري وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: "لا يقتل حر بعبد" وفي إسناده جويبر وغيره من المتروكين وأخرج البيهقي عن علي قال: "من السنه لا يقتل حر بعبد" وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك وأخرج البيهقي من حديث على نحو حديث عمرو بن شعيب وفي الباب أحاديث تشهد لهذه وتقويها. وأما كونه لا يقتل المسلم بالكافر فلحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل مسلم بكافر" أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر وأخرج البخاري وغيره عن علي أنه قال له أبو جحيفة هل عندكم من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحب وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال: "المؤمنون تتكافأ دمائهم وفكاك الأسير وأن لا يقتل المسلم بالكافر" وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقتل المسلم بالكافر الحربى وأما الذمي فذهب إلى ذلك الجمهور ولم يات من ذهب إلى قتل المسلم بالذمي بما يصلح للإستدلال به. وأما كونه لا يقتل الأصل بالفرع فلحديث "لا يقتل الوالد بالولد" أخرجه الترمذي من حديث عمر وفي إسناده الحجاج بن أرطأة ولكن له طريق أخرى عن أحمد والبيهقي والدارقطني ورجال إسنادها ثقات وأخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث سراقة وفي إسنادهما ضعف وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس وقد أجمع أهل العلم على ذلك لم يخالف فيه إلا البتي ورواية عن مالك. وأما كونه يثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان

فلقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] إلى آخر الآية وهي وإن كانت حكاية عن بني إسرائيل فقد قرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما أن الربيع كسرت ثنية جارية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وأما تقييد ذلك بالإمكان فلأن بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها كعدم إمكان الاقتصار على مثل ما في المجنى عليه وخطاب الشرع محمول على الإمكان من دون مجاوزة للمقدار الكائن في المجني عليه فإن كان لا يمكن إلا بمجاوزة للمقدار وبمخاطرة أو أضرار فالأدلة الدالة على تحريم دم المسلم وتحريم الإضرار به بما هو خارج عن القصاص مخصصه لدليل الإقتصاص. وأما كونه يسقط بإبراء أحد الورثه ويلزم نصيب الآخرين من الدية فلما تقدم من كون أمر القصاص إلى الورثة وأنهم بخير النظرين فإذا أبرأوا من القصاص سقط وإن أبرأ أحدهم سقط لأنه لا يتبعض ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية وأخرج أبو داود من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" والمراد بالمقتتلين أولياء المقتول وينحجزوا أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة وأما قوله: الأول فالأول أي الأقرب فالأقرب هكذا فسر الحديث أبو داود وفي إسناده حصن بن عبد الرحمن ويقال: ابن محصن أبو حذيفة الدمشقي قال: أبو حاتم الرازي لا أعلم من روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم أحدا نسبه وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن المرأة تعقل عصبتها من كانوا ولا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد فقوله: وهم يقتلون قاتلها يفيد ان ذلك حق لهم يسقط بإسقاطهم أو إسقاط بعضهم وقد ذهب إلى ذلك العترة والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه.

وأما كونه إذا كان صغير انتظر في القصاص بلوغه فدليله ما قدمناه من أن ذلك حق لجميع الورثة ولا اختيار للصبي قبل بلوغه. وأما كونه يهدر ما سببه من المجني عليه فلحديث عمران بن حصين في الصحيحين وغيرهما أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنياته فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك" وفيهما أيضا من حديث يعلى ابن أمية نحوه وإلى ذلك ذهب الجمهور. وأما كونه إذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك فلحديث ابن عمر عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك" وهو من طريق الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر ورواه معمر وغيره عن إسماعيل قال: الدارقطني والارسال أكثر وأخرجه أيضا البيهقي ورجح المرسل وقال: إنه غير محفوظ قال: ابن حجر رجاله ثقات وصححه ابن القطان وأخرج الشافعي عن علي أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت وقد ذهب إلى ذلك العترة والحنفية والشافعية ويؤيدة قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] وبالجملة فقتل القاتل مندرج تحت الأدلة المثبتة للقصاص وأما حبس الممسك فذلك نوع من التعزير استحقه بسبب إمساكه للمقتول وقد روى عن النخعي ومالك والليث انه يقتل الممسك كالمباشر لأنهما شريكان. وأما كون في قتل الخطأ الدية والكفارة فلنص الكتاب العزيز على ما في النظم القرآني من القيود والتفاصيل وقد وقع الإجماع على وجوب الدية والكفارة في الجمله وإن وقع الخلاف في بعض الصور كوجوب الكفارة من ماله معروف فمن لم

يوجبها جعل إيجابها من باب خطاب التكليف فقال: لا تجب إلا على مكلف ومن أوجبها جعله من باب خطاب الوضع وهكذا المجنون والكفارة هي ما ذكره الله تعالى من تحرير الرقبة وما بعده من الإطعام1 والصوم وأما الدية فسيأتي بيانها وبيان دية الخطأ الذي هو شبه العمد. وأما كون دية الخطا على العاقلة وهم العصبة فلحدجيث أبي هريرة في الصحيحين قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد او أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها وفي لفظ لهما وقضى بدية المرأة على عاقلتها وفي مسلم وغيره من حديث جابر قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة وأخرج أبو داود وابن ماجه أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتول على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " ميراثها لزوجها وولدها" وصححه النووي وفي إسناده مجالد وهو ضعيف وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب قريبا وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل المرأة عصبتها الحديث وقد أجمع العلماء على ثبوت العقل وإنما اختلفوا في التفاصيل وفي مقدار ما يلزم كل واحد من العاقلة.

_ 1 زيادة الإطعام سبق قلم من شيخنا سلمه الله أهـ. لمحرره.

كتاب الديات

كتاب الديات مقدار الدية ... كتاب الديات دية الرجل المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألفا شاة أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مائتا حلة وتغلظ دية العمد وشبهه بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها ودية الذمي نصف دية المسلم ودية المرأة نصف دية الرجل والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث وتجب الدية كاملة في العينين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين وفي الواحدة منها نصفها وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان والذكر والصلب وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشرها وفي الهاشمة عشرها وفي كل سن نصف عشرها وكذا في الموضحة وما عدا هذه المسماة فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى إحدها تقريبا وفي الجنين إذا خرج ميتا الغرة وفي العبد قيمته وأرشه بحبسها. أقول: أما تقدير الدية بما ذكر فلحديث عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داو د مسندا ومرسلا وفيه عنعنة محمد بن إسحاق وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه جماعة وفي حديث عمرو بن حزم أن في النفس الدية مائة من الإبل وقد تقدم تخرجه في قتل الرجل بالمرأة وفيه أيضا وعلى أهل الذهب ألف دينار وأخرج أبو

داود من حديث ابن عباس أن رجلا من بنى عدى قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا وأخرجه الترمذي مرفوعا ومرسلا وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب تعن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين قال: كان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتى بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة ولا يخفى أن هذا لا يعارض ما تقدم فقد وقع التصريح فيه برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلف أهل العلم في مقادير الدية والحق ما ثبت من تقدير الشارع كما ذكرناه. وأما كونها تغلظ دية العمد وشبهه أن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها فلحديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في تاريخه وساق اختلاف الرواة فيه وأخرجه لأيضا الدارقطني وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ كالعمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فيكون دما في غير ضغينة ولا حمل سلاح" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" وصححه ابن حبان وابن القطان وأخرج هذا الحديث من تقدم ذكره من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين إلى أن القتل على ثلاثة أضرب عمد وخطأ وشبه عمد ففي العمد القصاص وفي الخطأ الدية وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا والسوط والإبرة مع كونه قاصدا لقتل دية مغلظة وهي مائة من الإبل منها أربعون في بطونها

أولادها. وممن ذهب إلى هذا زيد بن علي والشافعية والحنفية وأحمد وإسحاق وقال مالك والليث والهادي: أن القتل ضربان: عمد وخطأ فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب أو من غير مكلف أو غير قاصد للمقتول ونحوه أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة والعمد ما عداه والأول لا قود فيه وقد حكى صاحب البحر الإجماع على هذا مع كون مذهب الجمهور على خلافه. وأما كون دية الذمي نصف دية المسلم فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل الكافر نصف دية المسلم" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وابن الجارود وصححه وأخرجه أيضا ابن ماجه بنحوه وأخرج ابن حزم من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دية المجوسي ثمانمائة درهم" وأخرجه أيضا الطحاوي والبيهقي وابن عدي وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف وأخرج الشافعي والدارقطني والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة وقد ذهب إلى كون دية الذمي نصف دية المسلم مالك وقال: الشافعي إن دية الكافر أربعة آلاف درهم كذا روى عنه والذي في منهاج النووي أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم قال: شارحه المحلى أنه قال: بذلك عمر وعثمان وابن مسعود وحكى في البحر عن زيد بن علي والقاسمية وأبي حنيفة أن دية المجوسي كالذمي كدية الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو حنيفة والهدوية إلى أن دية الذمي كدية المسلم وروى عن أحمد أن ديته مثل دية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف الدية احتج القائلون بتنصيف دية الذمي بالنسبة غلى دية المسلم بما تقدم واحتج القائلون بأنها كدية المسلم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] ويجاب بأن هذا الإطلاق مقيدا بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من كونها على النصف من دية المسلم. وأما كون دية المرأة نصف دية الرجل والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث فلحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته" أخرجة النسائي

والدارقطني وصححة ابن خزيمه وأخرج البيهقي من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية المرأة نصف دية الرجل" قال: البيهقي إسناده لا يثبت مثله وأخرج ابن أبي شيبة والبهيقي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل" وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن عمر وقد أفاد الحديث المذكور أن دية المرأة على النصف من دية الرجل وأن أرشها إلى الثلث من الدية مثل أرش الرجل وقد وقع الخلاف في ذلك بين السلف والخلف وأخرج مالك في الموطأ والبهيقي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة قال: عشر من الإبل قلت فكم في الأصبعين قال: عشرون من الإبل قلت فكم في ثلاث أصابع قال: ثلاثون من الإبل قلت فكم في أربع قال: عشرون من الإبل قلت حتى عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال: سعيد أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو في الأمور متعلم قال: هي السنة يا ابن أخي. وأما كونها تجب الدية كاملة في الأمور المذكورة فلحديث عمرو بن حزم الذي تقدم تخريجة وتصحيحة وفيه "أن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية وفي السان وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة الدية نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشر من الإبل وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل وإذا جدعت أرنبته فنصف العقل وقضى في العين نصف العقل والرجل نصف العقل واليد نصف العقل وأما المأمومة ثلث العقل والمنقله خمسة عشر من الإبل" وقد أخرجه أبو داود وابن ماجه بدون ذكر العين والمنقلة وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد تكلم فيه جماعة ووثقه جماعة وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دية أصابع اليدين والرجلين

سواء عشر من الإبل لكل أصبع وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي موسى وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في كل أصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من الإبل والأصابع سواء والأسنان سواء" وأخرج أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن الجارود وصححاه من حديث عمرو ابن شعيب أيضا عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "في المواضح خمس من الإبل" وفي البخاري وغيره من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه وهذه يعني الخنصر والإبهام سواء وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأسنان سواء الثنية والضرس سواء" والمراد بالمأموة الجناية التي بلغت أم الدماغ أو الجلدة الدقيقة التي عليها وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب علي وعمر والحنيفة والشافعية والمراد بالجائفة الجناية التي تبلغ الجوف وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب الجمهور والمراد بالمنقلة التي تنقل العظام عن أماكنها وقد ذهب إلى إيجاب خمس عشرة ناقة فيها على وزيد ابن ثابت والعترة والشافعية والحنفية والمراد بالهاشمة التي تهشم العظم وقد أخرج الدارقطني والبهيقي وعبد الرزاق من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشرا من الإبل وقد قيل أنه موقوف لكن لذلك حكم الرفع في المقادير والمراد بالموضحة التي تبلغ العظم ولا تهشم وقد اختلف في المنقلة والهاشمة والموضحة هل هذا الأرش هو بالنسبة إلى الرأس فقط أم في الرأس وغيره والظاهر أن عدم الإستفصال في مقام الإحتمام ينزل منزلة العموم في المقال: كما تقرر في الأصول. وأما كون ماعدا هذه الجنايات التي ورد الشرع بتقديرها يقدر أرشة بحسبها منسوبا إليها فلأن الجناية قد لزم أرشها بلا شك إذ لا يهدر دم المجنى عليه بدون سبب ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش لم يبق إلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع وبيان ذلك أن الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية كما

ثبت عن الشارع نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجناية فإن أخدت الجناية نصف اللحم وبقي نصفة إلى العظم كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة وإن أخدت ثلثة كان الأرش ثلث الموضحة ثم هكذا وكذلك إذا كان المأخودة بعض الأصابع كان أرشة بنسبه ما أخذ من الأصبع إلى جميعها فأرش نصف الأصبع نصف عشر الدية ثم كذلك وهكذا الأسنان إذا ذهب نصف ألسن كان أرشه نصف أرش السن ويسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف إذا كان الذاهب نصفة ففيه نصف الدية والذكر ونحو ذلك فهذا أقرب المسالك إلى الحق ومطابقة العدل وموافقة الشرع. وأما كون في الجنين إذا خرج ميتا الغرة فلحديث أبي هريرة في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمه وهو ثابت في الصحيحن بنحو هذا من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة والغرة بضم المعجمة وتشديد الراء وأصلها البياض في وجة الفرس وهنا في العبد أو الأمة كأنه عبر بالغرة عن الجسم بكمالة وأما إذا خرج الجنين حيا ثم مات من الجناية ففيه الدية أو القود وهذا في الجنين الحر والخلاف في الغرة طويل قد اسوفيته في شرح المنتقى. وأما كون في المملوك قيمتة أو أرشه بحسبها فلا خلاف في ذلك وإنما اختلفوا إذا جاوزت قيمة دية الحر هل تلزم الزيادة أم لا والأولى اللزوم وأرش الجناية عليه منسوب من قيمته فما كان فيه في الحر نصف الدية أو ثلثها أو عشرها ونحو ذلك ففيه في العبد نصف القيمة أو ثلثها أو عشرها ونحو ذلك. وأما الدابة إذا قتلها قاتل ففيها قيمتها وإذا جنى عليها كان الأرش مقدار نقص قيتها بالجناية وهذا وإن لم يقم عليه دليل بخصوصه فهو معلوم من الأدله الكليه لأن العبد وسائر الدواب من جمله ما يملكه الناس فمن أتلفه كان الواجب عليه قيمته ومن جنى عليه جنايه تنقصه كان الواجب عليه أرش النقص كما لو جنى على غير مملوكه من غير الحيوانات وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر الدواب يجب في الجناية عليه نقص القيمة.

باب القسامة

باب القسامة ... باب ماجاء في القسامة إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينا يختارهم ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت وإن التبس الأمر كانت من بيت المال. أقول: أما كون القسامة خمسين يمينا فلقوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" وهو في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة. وأما كون الدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا فما أخرجه مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان عن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهليه وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية كما في القسامة التي كانت في بني هاشم كما أخرجة البخاري والنسائي من حديث ابن عباس وهي قصة طويلة وفيها أن القاتل كان معينا وأن أبا طالب قال له: اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم فقالوا نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجير ابني هذا الرجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب أردت خمسين أن يحلفوا مكان مائة من الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران إن هذان البعيران فاقبلهما مني ولا

تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلها وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس: فوالذي نفسى بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف. وأما كون الديه مع التباس الأمر تكون من بيت فلحديث سهل بن أبي حثمه قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيص بن مسعود إلى خبير وهو يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصه إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينه فانطلق عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: "كبر كبر" وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم"؟ فقالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا"؟ فقالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا وما ذكرناه هو أقرب إلى الحق وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمتة" فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف. وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم قال: البهيقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقلي: هذا الحديث ليس له أصل وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبه والبهيقي عن الشعبي أن قتيلا وجد بين وداعة وشاكر فأمرهم عمر ابن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وداعة أقرب وأحلفهم خمسين يمينا كل رجل ما قتله ولا علمت قاتلا ثم أغرمهم الدية فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال: عمر كذلك الحق وأخرج نحوه الدارقطني والبهيقي عن سعيد ابن المسيب وفيه أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم قال:

البهيقي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكرا وفيه عمر بن صبيح أجمعوا على تركه وقال الشافعي: ليس بثابت إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده على فرض رفعة وأما مع عدم الرفع فليس في ذلك حجة ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح فالرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب وقد تقدم ذكرها وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سلمه ابن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: "يحلف منكم خمسون رجلا" فأبوا فقال: للأنصار: " استحلفوا" فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم وهذا إذا صح لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا ولكن مخالف لما ثبت في الصحيحين إن كانت هذه القصة هي تلك القصة وقد قال: بعض أهل العلم إن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه.

كتاب الوصية

كتاب الوصية تجب على من له ما يوصي فيه ولا تصح ضرارا ولا لوارث ولا في معصية وهي بالقرب من الثلث ويجب تقديم قضاء الدين ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال. أقول: أما وجوب الوصية على من له ما يوصي فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ماحق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه وقد ذهب إلى الوجوب عطاء والزهري وأبو مجلز وطلحة بن مصرف وآخرون وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال: إسحاق وداود وأبو عوانة وابن جرير وذهب الجمهور إلى أن الوصيه مندوبة وليست بواجبة ويجاب عنه بحديث الباب فإنه يفيد الوجوب. وأما كونها لا تصح ضرارا فلحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ} [النساء:12] إلى قوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] أخرجة أبو داود والترمذي وأخرج أحمد وابن ماجه معناه وقالا فيه وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحي بن معين وأخرج سعيد ابن منصور موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس الإضرار في الوصية من الكبائر وأخرجه النسائي مرفوعا بإسناده رجاله ثقات والآيه الكريمة مغنية عن غيرها ففيها تقيد الوصية المأذون بها بعدم الضرار وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار. وأما كونها لا تصلح لوارث فلما روى عن عمر وخارجة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اعطى كل ذي حق حقة فلا وصية لوارث" وأخرجه

أحمد وابن ماجه والنسائي والترمذي والدارقطني والبهيقي وصححة الترمذي وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنة من حديث أبي أمامة وفي إسناده إسماعيل بن عياش وهو قوي إذا روى عن الشاميين وهذا الحديث من رواية عنهم لأنه رواه عن شرحبيل ابن مسلم وهو شامي ثقة وقد حسنه الحافظ أيضا وقد أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس قال: ابن حجر رجاله ثقات ولفظه لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة وأخرج الدارقطني من حديث عمرو بن سعد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة" قال: في التلخيص إسناده ورواه وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وقد قال الشافعي إن هذا المتن متوافر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازى من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث" ويأثرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى فيكون هذا الحديث مقيدا لقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وأما كونه لا تصح في معصية فلحديث أبي الدرداء عند أحمد والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها الله زيادة لكم في أعمالكم" وأخرجه ابن ماجه والبزاز والبهيقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وأخرجه العقيلي في الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق وفيه متروك وأخرجه ابن السكن وابن قانع وأبو نعيم والطبراني من حديث جابر بن عبد الله السلمي وهو مختلف في صحبته وهي تنتهض بمجموعها وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات والوصية في المعصية معصية وقد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو لم يرد ما يدل على تقيد الوصيه بغير المعصية

لكانت الأدلة الداله على المنع من معصية الله تعالى مقيدة للمنع من الوصية في المعصية. وأما كون الوصية في القرب تكون من الثلث فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير" ومثله حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "الثلث كثير أو كبير" لما قال: له أأتصدق بثلثى مالى؟ قال: "لا" قال: فالشطر؟ قال: "لا" قال: فالثلث قال: "الثلث والثلث كثير أو كبير إنك لأن تذر ورثتك أغنياء خير لهم من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وهو في الصحيحين وغيرهما وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث ولو لم يكن للموصي وارث وجوز الزيادة مع عدم الوارث الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على الإطلاق وحكاه في البحر عن العترة وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي زيد الأنصاري أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة وفي لفظ لأبي داود أنه قال صلى الله عليه وسلم لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين وقد أخرج الحديث مسلم رحمه الله وغيره من حديث عمران بن حصين وفي لفظ لأحمد أنه جاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع فقال: "أو فعل لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه". وأما كونه يجب تقديم قضاء الديون فلحديث سعد الأطول عند أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح أن أخاه مات وترك ثلثمائة درهم وترك عيالا قال: فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه" فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال: "فأعطها فإنها محقة" وليس في ذلك خلاف وقد دل عليه قوله: تعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12]

وأما كون من مات ولم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال فلحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم في خطبته "من خلف مالا أو حقا فلورثته ومن خلف كلا أو دينا فكله إلي ودينه علي" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني من حديث جابر وأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد وأخرجه الطبراني من حديث سلمان وأخرجه ابن حبان في ثقاته من حديث أبي أمامة.

كتاب المواريث

كتاب المواريث هي مفصلة في كتاب العزيز ويجيب الابتداء بذوي الفروض المقدرة وما بقي فللعصبة والأخوات مع البنات عصبة ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين والجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم وهو للجد مع من لا يسقطه ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الابن أو ابن الإبن أؤ الأب وفي ميراثهم مع الجد خلاف ويورثون مع البنات إلا الإخوة لأم ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال فإن تزاحمت الفرائض فالعول ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس ولا يرث المولود إلا إذا استهل وميراث العقيق لمعتقة ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام ويحرم بيع الولاء ووهبته لا توارث بين أهل ملتين ولا يرث القاتل من المقتول. أقول: اعلم أن المواريث المفصلة في الكتاب العزيز معروفة لم نتعرض هنا لذكرها واقتصرنا هنا على ما ورد في السنه والاجماع ولم نذكر ما كان لا مستند له إلا محض الرأي كما جرت به عادتنا في هذا الكتاب فليس مجرد الرأي مستحقا للتدوين فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر وإذا عرفت هذا اجتمع لك مما في الكتاب العزيز وما ذكرناه ههنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنه فإن عرض لك من المواريث مالم يكن فيهما فاجتهد فيه رأيك عملا بحديث معاذ المشهور. وأما كونه يجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة وما بقي فللعصبة فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" والمراد بالفرائض هنا الأنصباء

المقدرة وأهلها هم المستحقون لها بالنص وما بقي إعطاء ذوي الفرائض فرائضهم فهو لأولى رجل ذكر. وأما كون الأخوات مع البنات عصبة أي يأخدن ما بقي من غير تقدير كما يأخذ الرجل بعد فروض أهل الفرائض فلحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت وقد أفاد هذا أن لبنت الإبن مع البنت السدس تكملة الثلثين. وأما كون للأخت لأب السدس مع الأخت لأبوين تكملة الثلثين فقد قيل إن ذلك مجمع عليه. وأما كون للجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم فلحديث قبيصة بن ذؤيب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وصححة وابن حبان والحاكم قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل فسأل الناس فقال: المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس فقال: هل معك غيرك فقام محمد ابن مسلمة الأنصاري فقال: مثل ما قال: المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شيء ولكن هو ذلك السدس فإن اجمتمعتما فهو بينكما وأيكما خلت به فهو لها قال ابن حجر: وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسله فإن قبيصه لا يصح سماعة من الصديق ولا يمكن شهوده القصة قاله ابن عبد البر وقد اختلف في مولده والصحيح أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة وأخرج عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وابن منده في مستخرجة والطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما وهو من رواية إسحاق بن يحي عن عبادة ولم يسمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث

بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم وصححة ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل وقواه ابن عدي وفي إسناده عبيد الله العتكي وهو مختلف فيه وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن بن يزيد مرسلا قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جدات السدس ثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الأم وأخرجه أبو داود أيضا في المراسيل عن إبراهيم النخعي وأخرجه أيضا البيهقي من مرسل الحسن وأخرجه الدارقطني من طرق عن زيد بن ثابت وفي الباب آثار غير ما ذكر قال: في البحر مسألة فرضهن يعني الجدات السدس وإن كثرن إدا استوين وتستوى أم الأم وأم الأب لا فصل بينهما فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب ولا يسقطهن إلا الأمهات والأب يسقط الجدات من جهتة والأم من الطرفين. وأما كون للجد السدس مع من لا يسقطه فلحديث عمران ابن حصين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثة قال: "لك السدس" فلما أدبر دعاه فقال: "لك سدس آخر" فلما أدبر دعاه فقال: "إن السدس الآخر طعمة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححة وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن الحسن أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد فقام معقل ابن يسار المزني فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا قال: السدس قال: مع من قال: لا أدري قال: لا دريت فما تغنى إذن وهو منقطع لأن الحسن لم يسمع من عمر وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحها حديث الحسن عن معقل وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم اختلافا كثيرا ورويت عنهم قضايا متعددة وقد دل الدليل على أنه يستحق السدس وأنه فرضة فإذا صار إليه زيادة عليه فهو طعمة وذلك كما في حديث عمران وإنما قيدنا استحقاقه للسدس بعدم المسقط لأنه إذا كان معه من يسقطه كالأب فلا شيء له وهكذا إذا كان مع الجد من يسقطه فله الميراث كله. وأما كونه لا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا مع الإبن أو ابن الإبن أو الأب فلا خلاف في ذلك بين أهل العلم.

وأما كون في ميراث الإخوة مع الجد خلاف فلعدم ورود الدليل الذي تقوم به الحجة فذهب جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر إلى أن الجد أولى من الإخوة وذهب جماعة منهم علي وابن مسعود وزيد ابن ثابت إلى أن الجد يقاسم الإخوة والخلاف في المسألة يطول فمن قال: إنه يسقط الإخوة قال: إنه يطلق عليه اسم الأب وأجاب الآخرون بأنه مجاز لا تقوم به الحجة ووقع الخلاف في كيفية المقاسمه كما هو مبين في كتب الفرائض. وأما كون الإخوة لا يرثون مع البنات إلا الإخوة لأم فلحديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم قال: جاءت امرأة سعد ابن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك شهيدا في أحد وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا بمال فقال: يقضى الله في ذلك فنزلت آية الميراث فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك" فهذا دليل على ميراث الإخوة مع البنات. وأما الإخوة لأم فلا يرثون مع البنت لقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء:12] الآية وهي في الأخوة كما في بعض القراءات. وأما كونه يسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين فلحديث علي قال: إنكم تقرءون هذه الآية {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخية لأبيه أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي والحاكم وفي إسناده الحارث الأعور ولكنه قد وقع الإجماع على ذلك والمراد بالأعيان الإخوة لأبوين والمراد ببني العلات الإخوة لأب ويقال: للإخوة لأم الأخياف. وأما كون أولى الأرحام يتوارثون فلقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ

أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب:6] فإنها تفيد أنه إذا مات ميت ولا وارث له إلا من هو من ذي رحمه وهو من عدا العصبات وذوي السهام في مصطلح أهل الفرائض فإنه يرثة وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء:7] ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام ومما يؤيد ذلك حديث المقدام ابن معدي كرب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرث والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "والخال وارث من لا وارث له" وأخرجه بهدا اللفظ من حديث عائشة الترمذي والنسائي والدارقطني وحسنه الترمذي وأعله الدارقطني بالاضطراب وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينه وأخرجه العقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء وأخرجه ابن النجار عن أبي هريرة كلها مرفوعة وهو حديث له طرق أقل أحواله أن يكون حسنا لغيره ومن ذلك حديث "ابن أخت القوم منهم" وهو حديث صحيح ومن ذلك ما ثبت من جعله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنه لورثة أمه وهم لا يكونون إلا ذوي الأرحام والكلام على هذه الأحاديث مبسوط في شرح المنتقى ويمكن إن يقال: أن حديث "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" يدل على أن الذكور من ذوي الأرحام أولى من الإناث فيكون حديث نفي ميراث العمة والخالة مفيدا لهذا المعنى ومقويا له مع حديث " الخال وارث" وبذلك يجمع بين الأحاديث وقد قال: بمثل ذلك أبو حنيفة وقد اختلف في ذلك الصحابة فمن بعدهم وإلى توريث ذوي الأرحام ذهب الجمهور وهذه الأدله كما تفيد إثبات التوارث بين ذوي الأرحام تفيد تقديمهم على بيت المال ومما يؤيد ذلك حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم خر من عذق نخلة فمات فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل له من نسب أو رحم"؟ فقالوا:

لا قال: "اعطو ميراثه بعض أهل قريته" فقوله: "أو رحم"؟ فيه دليل على تقديم ميراث ذوي الأرحام على الصرف إلى بيت مال المسلمين وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما من الآخر فنسخ ذلك آية الأنفال فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب:6] وفي إسناده علي بن الحسين ابن واقد وفيه مقال: وأخرجه أيضا الدارقطني وأخرج نحوه ابن سعد عن أبي الزبير وفي ذلك دليل على أن الآية في توريث ذوي الأرحام محكمة وبها نسخ ماكان من الميراث بالمحالفة. وأما ثبوت العول عند تزاحم الفرائض فذلك هو الحق الذي لا يمكن الوفاء بما أمر الله به إلا بالمصير إليه وقد أوضحت هذا في رسالة مستقلة سميتها "إيضاح القول في إثبات مسألة العول" ودفعت جميع ما قاله النافون للعول. وأما كونه لا يرث ولد الملاعنه والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس فلحديث سهل بن سعد في الصحيحين وغيرهما في حديث الملاعنه أن ابنها كان ينسب إلى أمه فجرت السنه أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها وأخرجه أبو داود من حديث عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل ميراث ابن الملاعنه لأمه ولورثتها من بعدها وفي إسناده ابن لهيعة وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث واثلة ابن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة تجوز ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه قال: الترمذي حسن غريب وفي إسناده عمرو بن رويبه التغلبي وفيه مقال: وقد صحح هذا الحاكم وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا مساعاة في الإسلام ومن ساعى في الجاهلية فقد ألحقتة بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشده فلا يرث ولا يورث" وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل عاهر بحرة أو أمه فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث" وفي إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي قال:

البيهقي ليس بمشهور وأخرج أبو داود من حديث عمرو ابن شعيب أيضا عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستحلق ولد زنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمه وذلك فيما استحلق في أول الإسلام وفي إسناده محمد بن راشد المكحول الشامي وفيه مقال: وقد أجمع العلماء على أن ولد الملاعنة وولد الزنا لا يرثان من الأب ولا من قرابتة ولا يرثونهما وأن ميراثهما يكون لأمهما ولقرابتها وهما يرثان منها. وأما كونه لا يرث المولود إلا إذا استهل فلحديث أبي هريرة عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استهل المولود ورث وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال: معروف وقد روى عن ابن حبان تصحيحه وأخرج أحمد في روايه ابن عبد الله في المسند عن المسور بن مخرمة وجابر بن عبد الله قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرث الصبي حتى يستهل وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ: "إذا استهل السقط صلى عليه وورث" وفي إسناده إسماعيل ابن مسلم وهو ضعيف قال: الترمذي وروى مرفوعا والموقوف أصح وبه جزم النسائي وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعة والموار بالاستهلال صدور ما يدل على حياة المولود من صياح أو بكاء أو نحو ذلك ولا خلاف بين أهل العلم في اعتبار الاستهلال في الإرث. وأما كون ميراث العتيق لمعتقه ويسقط بالعصبات ولد الباقي مع ذوي السهام فلحديث: "الولاء لمن أعتق" وهو ثابت في الصحيح وأخرج أحمد عن قتادة عن سلمى بنت حمزة أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنته النصف وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى ورجال أحمد رجال الصحيح ولكن قتادة لم يسمع من سلمى بنت حمزة وأخرجه أيضا الطبراني وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنه حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته النصف وابنه حمزة النصف وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابنه حمزة وكذا أخرجه النسائي وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي

ليلى وهو ضعيف وقد وقع الاختلاف في اسم ابنه حمزة فقيل سلمى وقيل فاطمة وفي الحديثين دليل على أن لذوي سهام العتيق سهامهم والباقي للمعتق أو لعصبته وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقة فروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس أن مولى العتاق لا يرث ذوي الأرحام وذهب غيرهم إلى أنه يقدم على ذوي الأرحام ويأخذ الباقي بعد ذوي السهام ويسقط بالعصبات وقد روى أن المولى كان لحمزة واستدل به من قال: إنه يكون لذوي سهام المعتق الباقي لذوي سهام العتيق والصحيح أنه مولى ابنة حمزة وقد أخرج ابن أبي شيبه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ميراث الولاء للأكبر من الذكور ولا ترث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن" وأخرج البيهقي عن علي وعمر وزيد بن ثابت أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن وأخرج البرقاني على شرط الصحيح عن هزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير فقال: إني أعتقت عبدا وجعلتة سائبة فمات وترك مالا ولم يدع وارثا فقال: عبد الله إن أهل الإسلام لا يسيبون وإنما كان أهل الجاهليه يسيبون وأنت ولي نعمته ولك ميراثه وإن تأثمت أو تحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال. وأما كونه يحرم بيع الولاء وهبته فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الولاء وهيته وفي الباب أحاديث قد تقدم بعضها منها حديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وقد صححة ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عمر أيضا وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع الولاء وهبته وخالف في ذلك مالك وتقدمه بعض الصحابة. وأما كونه لا توارث بين أهل ملتين فلما أخرجة أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وابن السكن من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين شيئا" وأخرج الترمذي من حديث جابر

مثله من دون لفظ شيء وفي إسناده ابن أبي ليلى وأخرج البخاري وغيره من حديث أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وهو أيضا في مسلم وأخرج البخاري وغيره حديث "وهل ترك لنا عقيل من رباع"؟ وكان عقيل وطالب كافرين وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم والخلاف في توارث الملل الكفريه المختلفه وعموم حديث عبد الله ابن عمرو وجابر يقتضي عدم التوارث. وأما كونه لا يرث القاتل من المقتول فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئا" أخرجه أبو داود والنسائي وأعله الدارقطني وقواه ابن عبد البر وأحرج مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه والنسائي والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليس لقاتل ميراث وفيه انقطاع وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعا "لا يرث القاتل" شيئا وفي إسناده كثير بن مسلم وهو ضعيف وأخرج البيهقي عنه حديثا آخر بلفظ من قتل قتيلا فإنه لا يرثة وإن لم يكن له وارث غيره وفي لفظ وإن كان والده أو ولده وفي إسناده عمرو بن برق وهو ضعيف وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ القاتل لا يرث وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروه وهو ضعيف وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وهي تدل على أنه لا يرث القاتل من غير فرق بين العامد والخاطيء وبين الدية وغيرها من مال المقتول وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفه وأكثر أهل العلم وقال مالك والنخعي والهادوية: إن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية وهو تخصيص بغير مخصص ويرده على الخصوص ما أخرجه الطبراني أن عمرو بن شيبة قتل امرأتة خطأ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "اعقلها ولا ترثها" وما أخرجه البيهقي أن عديا الجدامي كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فذكر له ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعقلها ولا ترثها" وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فطالب في

ميراثها فقال النبي صلى الله عليه وسلم حقك من ميراثها الحجر وأغرمه الدية ولم يعطه شيئا وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة مصرحة بذلك ساقها البيهقي وغيره. أما إرث المماليك من بعضهم البعض أو من مواليهم فقد قيل إنه وقع الاجماع على أن الرق من موانع الإرث وفي دعوى الإجماع نظر فإن الخلاف في كون العبد يملك أو لا يملك معروف ومقتضى ذلك إثبات الميراث وليس في المقام ما يدل على عدم الإرث وقد ورد من حديث ابن عباس أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك وارثا إلا عبدا فأعطاه ميراثه أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وقد قيل إنه صرف إليه ذلك صرفا وهو خلاف الظاهر.

كتاب الجهاد والسير

كتاب الجهاد والسير مدخل ... كتاب الجهاد والسير الجهاد فرض كفايه مع كل بر وفاجر أذا أذن الأبوان وهو مع إخلاص النيه يكفر الخطايا الا الدين ويلحق به حقوق الآدمي ولا يستعان فيه بالمشركين إلا لضرورة ويجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله وعليه مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده وأن يذكي العيون ويستطلع الأخبار ويرتب الجيوش وينخد الرايات والألويه وتجب الدعوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف ويحرم قتل النساء والاطفال والشيوخ الا لضرورة والمثلة والإحراق بالنار والفرار من الزحف إلا إلى فئة ويجوز تبييت الكفار والكذب في الحرب والخداع. أقول: الجهاد قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنه ما هو معروف وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال وأوجب على عباده أن ينفورا إليه وحرم عليهم التثاقل عنه وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجنة تحت ظلال السيوف" كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى وابن أبي أوفى وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" فناهيك بعمل يوجب الله الجنه لصاحبه ويحرمه على النار ويكون مجرد الغدو إليه والرواح منه خير من الدنيا وما فيها.

وأما كونه فرض كفاية فلما أخرجة أبو داود عن ابن عباس قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة:120] إلى قوله: {يَعْلَمُونَ} نسختها الآية التي تلها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:122] وقد حسنه ابن حجر قال: الطبري يجوز أن يكون {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] خاصا والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع قال: ابن حجر والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما ومن الأدله الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين وقد كانت سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور وقال: الماوردي أنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم وقال: السهيلي كان عينا على الأنصار وقال: ابن المسيب أنه فرض عين وقال: قوم أنه فرض عين في زمن الصحابة. وأما كونه مع كل بر وفاجر فلأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عبادة المسلمين من غير تقيد بزمن أو مكان أو شخص أو عدل أو جور فتخصيص وجوب الجهاد يكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد مالا يبليه البار العادل وقد ورد بهذا الشرع كما هو معروف وأخرج أحمد في المسند في روايه ابن عبد الله وأبو داود وسعيد ابن منصور من حديث أنس قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الايمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجة عن الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما قال: سئل

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. وأما اعتبار إذن الأبوين فلحديث عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك"؟ قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد" وفي روايه لأحمد وأبي داود وابن ماجه قال: يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" وقد أخرج هدا الحديث مسلم رحمه الله تعالى من وجه آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن"؟ فقال: أبواي فقال: "أذنا لك"؟ قال: لا فقال: "ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية ابن جاهمة السلمى أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال: "هل لك من أم"؟ قال: نعم قال: "ألزمها فإن الجنة عند رجليها" وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال فقال: "الصلاة" قال: ثم مه قال: "الجهاد" قال: فإن لي والدين قال: "آمرك بوالديك خيرا" قال: والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال: "فأنت أعلم" قالوا وهو محمول على الجهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو أحدهما توفيقا بين الحديثين. وأما كون الجهاد مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين فلحديث أبي قتادة عند مسلم رحمه الله وغيره أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله هل تكفر عني خطاياي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج مثله

أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال: لي ذلك" وأخرج الترمذي نحوه من حديث أنس وحسنه ويلحق بالدين كل حقوق الآدمين من غير فرق بين دم أو عرض أو مال إذا لا فرق بينهما. وأما كونه لا يستعان في الجهاد بالمشركين إلا لضرورة فلقوله صلى الله عليه وسلم من أراد الجهاد معه من المشركين "ارجع فلن أستعين بمشرك" فلما أسلم استعان به وهو في صحيح مسلم رحمه الله تعالى وغيره من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد والشافعي والبيهقي والطبراني نحوه من حديث حبيب ابن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ورجال إسناده ثقات وأخرج أحمد والنسائي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تستضيئوا بنار المشركين" وفي إسناده أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية إسناده ثقات وأخرج الشافعي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث الزهري وأخرجه أيضا الترمدي مرسلا وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ذي مخبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم" وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الإستعانة بالمشركين وذهب آخرون إلى جوازها وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين في يوم أحد وانخزل عنه عبد الله بن أبي بأصحابه وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين وقد ثبت في السير أن رجلا يقال: له قزمان خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثه من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر". وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون فيجمع بين الأحاديث بأن الإستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة لا إذا لم تكن ثم ضرورة.

وأما كونه يجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال: نزلت في عبد الله ابن حذافة بن قيس ابن عدي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا فقالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسل الله من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوا لم يخرجوا منها أبدا" وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعورف" والأحاديث في هذا الباب مثيرة وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما تجب طاعة الأمراء مالم يأمروا بمعصية الله. وأما كون على الأمير مشاورة الجيش والرفق بهم وكفهم عن الحرام فلدخول ذلك تحت قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينوبه ووقع منه في غير موطن وأخرج مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه لما بلغه إقبال أبي سفيان والقصة مشهورة وأجاب عليه سعيد بن عبادة بقوله: والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها وأخرج أحمد والشافعي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: مارأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عائشه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وأخرج مسلم رحمه الله تعالى أيضا من حديث معقل

ابن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج أبو داود من حديث جابر قال: كان وسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في السير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم وأخرج أحمد وأبو داود من حديث سهل معاذ عن أبيه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى "من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له" وفي إسناده إسمعيل ابن عياش وسهل بن معاذ ضعيف وقد جاءت الأدله المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحق الناس بذلك الأمراء. وأما كونه يشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يورى بغير ما يريده فلحديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها وهو في الصحيحين وغيرهما. وأما كونه يشرع له أن يذكي العيون فلحديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب "من يأتيني بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا الحديث وثبت في صحيح مسلم رحمه الله وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان وثبت أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر وغيره وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو ويقف في المواضع التي بينه وبينهم وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السير والغزوات. وأما كونه يشرع له أن يرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور فكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان وآخرين في المكان الآخر وقال للرماه يوم أحد: أنهم يقفون حيث عينه لهم ولا يفارقون ذلك المكان ولو تخطفه هو ومن معه الطير" وقد كانت رايات كما في حديث ابن عباس عند الترمذي وأبي داود قال كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء وفي إسناده مجهول وأخرج أهل السنن والحاكم وابن حبان من حديث

جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض وفي حديث الحارث بن حسان أنه رأى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم رايات سوداء أخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله رجال الصحيح وفي الباب أحاديث. وأما كونها تجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى الثلاث الخصال المذكورة فلحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم رحمه الله وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله غزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا ولدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهم ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وإخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم الذي يجرى على المسلمين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تقديم الدعوة لمن لم تبلغهم الدعوة ولا تجب لمن قد بلغتهم وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا. وأما كونه يحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا لضرورة فلحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض معازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" وأخرج أبو داود من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة" وفي إسناده خالد بن القرز وفيه مقال: وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح ابن ربيع أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا" والعسيف الأجير وأخرج أحمد من

حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" وفي إسناده إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد وأخرج أحمد أيضا والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان ورجاله رجال الصحيح وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة مرفوعا بلفظ "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وقد قيل أنه وقع الاتفاق على المنع من قتل النساء والصبيان إلا إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم المقاتلة أويقاتلون وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه"؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصله الطبراني في الكبير. وأما كونها تحرم المثلة فلما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن جده وفيه "ولا تمثلوا" وأخرج نحو ذلك أحمد وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال وأحاديث النهي عن المثله كثيرة. وأما تحريم الإحراق بالنار فلحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فاحرقوهما بالنار" ثم قال: حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما". وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع إذا كان فيه مصلحة. وأما تحريم الفرار من الزحف فقد نطق بذلك القرآن قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ

اللَّهِ} [الأنفال:16] وثبت في الصحيحين وغيرهما إن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات ولا خلاف في الجمله وإن اختلفوا في مسوغات الفرار وقد جوز الله سبحانه الفرار إلى فئه وأما التحرف للقتال فهو وإن كان فيه تولية الدبر لكنه ليس بفرار على الحقيقة. وأما كونه يجوز تبييت الكفار فلحديث الصعب بن جثامة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال: "هم منهم" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث سلمة بن الأكوع قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيات هو الغارة بالليل قال: الترمذي وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وكرهه بعضهم قال: أحمد وإسحاق لا بأس أن يبيت العدو ليلا. وأما جواز الكذب في الحرب فلما ثبت عند مسلم رحمه الله من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة ليقتل كعب بن الأشرف فقال: يا رسول الله فأذن لي فأقول قال: قد فعلت يعني يأذن له أن يخدعه بمقال: ولو كان كذبا كما وقع منه في هذه القصة وهي أيضا في البخاري وأخرج مسلم رحمه الله تعالى أم كلثوم بنت عقبه قالت: لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها وهكذا الكذب المذكور هنا هو التعريض والتلويح بوجه من الوجوه ليخرج عن الكذب الصراح كما قاله جماعة من أهل العلم. وأما جواز الخداع في الحرب فلما في الصحيحين من حديث جابر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة" وفيهما من حديث أبي هريرة قال: سمى النبي صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة" قال: النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد.

فصل في تقسيم الغنائم

فصل في تقسيم الغنائم وما غنمه الجيش كان لهم أربعه أخماسه وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه فيأخد الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهما ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل ويجوز تنفيل الإمام بعض الجيش وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش ويرضخ من الغنيمة لمن حضر ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا وإذا رجع ما أخده الكفار من المسلمين كان لمالكه ويحرم الإنتفاع بشيء من الغنيمة قبل القسمة إلا الطعام والعلف ويحرم الغلول ومن جملة الغنيمة الأسرى ويجوز القتل أو الفداء أو المن. أقول: أما كون ما غنمه الجيش كان لهم أربعه أخماسة وخمسه يصرفه الإمام في مصارفة فلقوله: تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] الآية ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم في الفئ والغنيمة وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم فلما سلم أخد وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس مردود فيكم" وأخرج نحوه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت وحسنه ابن حجر وأخرج نحوه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه أيضا ابن حجر وروى نحو ذلك من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية. وأما كونه للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم فلما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث بن عمر في الصحيحين وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس وفرسه ثلاثه أسهم وللراجل سهما وفيهما معنى ذلك حديث أنس رضي الله عنه ومن حديث عروة البارقي ومنها حديث الزبير

نحو ذلك عند أحمد ورجاله رجال الصحيح وحديث أبي رهم عند الدارقطني وأبي يعلى والطبراني ومن حديث أبي هريرة عند الترمذي والنسائي ومن حديث جرير عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود وحديث جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين والراجل سهما وتمسكوا بحديث مجمع ابن حارثة عند أحمد وأبي داود قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما". وهذا الحديث في إسناده ضعف وقال: أبو داود إن فيه وهما وإنه قال: ثلثمائة فارس وإنما كانوا مائتين. وأما كونه يستوى في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل فلحديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم وصححه أبو الفتح في الاقتراح على شرط البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بالسواء بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل ونزول قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال:1] وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك قال: قلت يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم ويكون سهمه وسهم غيره سواء قال: "ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وأخرجه البخاري أيضا والنسائي عن مصعب ابن سعد قال: "رأى سعد أن له فضلا على من دونه" فقال: النبي "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححة. وأما كونه يجوز تنفيل بعض الجيش فلما أخرجه مسلم رحمه الله وغيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل جميعها له وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعزاه المنذري في مختصر السنن

إلى مسلم رحمه الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل سعد ابن أبي وقاص يوم بدر سيفا" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور. وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن أبي سلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعتة" وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان من حديث عبادة ابن الصامت وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن ابن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس". وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعد أن يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسمة عامه الجيش والخمس في دلك كله وفيهما أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا وفي الباب أحاديث. وأما كون للإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش فلحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري قال: كنا بالمريد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله" فقلنا من كتب هذا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمى الرجل النمر بن تولب وأخرج أبو داود عن الشعبي مرسلا قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس وأخرج أبو داود من حديث ابن عون مرسلا نحوه وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت: كانت صفية من الصفي وأخرج أبو داود من حديث أنس نحوه ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أيضا قال:

صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه اشتراها منه بسبعة أرؤس. وأما كونه يرضخ من الغنيمة لمن حضر فلحديث ابن عباس وغيره أنه سأله سائل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضرا البأس فأجاب إنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة. وأما السهم فلم يضرب لهن وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمر مولى أبي اللحم أنه شهد خيبر مع مواليه فأمر له صلى الله عليه وسلم من حرثي المتاع وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق قال: قمن فانصرفن حتى إذا فتح الله عليه خيبرا أسهم لنا كما أسهم للرجال قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك قالت: تمرا وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج وقال: الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة وأخرج الترمذي عن الأوزاعي مرسلا قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وحديث حشرج كما عرفت ضعيف وهذا مرسل فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم وقد حمل الإسهام هنا على الرضخ جمعا بين الأحاديث وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك. وأما كونه يؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك في ذلك صلاحا فلحديث فلحديث أنس في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم وترك الأنصار والمهاجرين وهكذا ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود وغيره

أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها والمراد بأشراف قريش أكابر مسلمة الفتح كأبي سفيان ابن حرب وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم ابن حزام وصفوان بن أمية. وأما كونه إدا رجع ما أخده الكفار من المسلمين كان لمالكه فلحديث عمران بن حصين عند مسلم رحمه الله وغيره أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت فركبتها امرأة من المسلمين ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت نذرت أن تنحرها إذا نجاها الله عليها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وفاء بندر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد" وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية لأبي داود أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليهم المسلمون فرده صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم وقد ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من المسلمين ولصاحبه أخده قبل الغنيمة وبعدها وروى عن علي والزهري وعمرو بن دينار أنه لا يرد أصلا ويخنص به أهل الغنائم وروى عن عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليثي ومالك وأحمد وآخرين إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخده إلا بالقيمة وقد روى عن ابن عباس والدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا وإسناده ضعيف جدا وقد ذهب إلى هدا التفصيل الهدوية والفقهاء السبعة. وأما كونه يحرم الإنتفاع بشيء من الغنيمه قبل القسمه إلا الطعام والعلف فلحديث رويفع ابن ثابت عند أحمد وأبي داود والدارمي والطحاوي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن

يتناول مغنما حنى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف وقال ابن حجر: أن رجال إسناده ثقات وقال: أيضا أن إسناده حسن وأخرج البخاري من حديث ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازيل العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه وزاد أبو داود فلم يؤخد منهم الخمس وصحح هده الزياده ابن حبان وأخرج أبو داود والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر أيضا أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يأخد منهم الخمس وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عبد الله ابن المغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمنه فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجىء فيأخد منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق وأخرج أبو داود من حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنا نأكل الجرر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه وقد تكلم في القاسم غير واحد وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور سواء أذن الإمام أو لم يأذن وقال: الزهري لا يؤخذ شيء من الطعام ولا غيره وقال سليمان ابن موسى: يؤخذ إلا أن ينهى الإمام. وأما كونه يحرم الغلول، فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغير هما في قصة العبد الذي أصابه سهم فقال: الصحابة هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخدها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم" قال: ففرغ الناس فجاء رجل بشراك أو بشراكين فقال: يا رسول الله أصبت هذا يوم خيبر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك أو شراكان من نار" وأخرج مسلم رحمه الله من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان

شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال: له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءه قد غلها وقد قال: سبحانه {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة" الحديث. وقد نقل النووي الاجماع على أنه من الكبائر وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه وفي إسناده زهير بن محمد الخراساني وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الغال قد غل فاحرقو متاعه واضربوه" وفي إسناده صالح بن محمد ابن زائدة تكلم فيه غير واحد. وأما كون من جملة الغنيمة الأسرى فلا خلاف في ذلك. وأما كونه يجوز القتل والفداء والمن فلقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأساري وأخذ الفداء منهم والمن عليهم ثبوتا متواترا في وقائع ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخد الفداء من غالبهم وأخرج البخاري من حديث جبير ابن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" وفي مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر الذين هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقهم فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح:24] الآية وقد ذهب الجمهور إلى أن

الإمام يفعل ماهو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسرى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن وقال: الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخد الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يخير المن والفداء وعن مالك لا يجموز المن بغير فداء وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره

فصل في استرقاق العرب وعدمه

فصل في استرقاق العرب وعدمه ويجوز استرقاق العرب وقتل الجاسوس وإدا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله وإذا أسلم عبد لكافر صار حرا والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قيمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين ومن أمنه أحد المسلمين صار أمنا والرسول كالمؤمن ويجوز مهادنة الكفار ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين ويجوز تأييد المهادنة بالجزية ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون في جزيرة العرب. أقول: أما كونه يجوز استرقاق العرب فلحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرعما أنه كان عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل" وأخرج البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حين جاء وفد هوزان مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال" الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن جويرية بنت الحارث من سبي المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقضي كتابها فلما تزوجها قال: الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم من السبي أخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز

استرقاق العرب الجمهور وحكى في البحر عن العترة والحنفية أنه لا يقبل مشركي العرب الأ الإسلام أوالسيف واستدل بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] الآية ولا يخفي أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخير بين المن والفداء فقال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا بما أخرجه الشافعي والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لو كان الإسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى" وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد خصت الهدوية عدم جواز الاسترقاق بذكور العرب لا بإناثهم وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الاسترقاق وأما قتل الجاسوس فلحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه فاقتلوه" فسبقهم إليه فقتله فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه وهو متقن على قتل الجاسوس الحربي. وأما المعاهد والذمى فقال: مالك والأوزعي ينتقص عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فهو بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم فقال: رجل من الأنصار يارسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم قرات بن خبان وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السرى وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم رحمهما الله ورواه عن الثوري ايضا عباد ابن الأزرق العباداني وهو ثقه. وأما كونه إذا اسلم الحربي قبل القدره عليه أحرز ماله فلحديث صخر بن

عيلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله" أخرجة أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ أن القول إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا "من أسلم على شيء فهو له" وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال: البيهقي إنما يروى عن ابن أبي مليكة عن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريضة فأسلم ثعلبة وأسيد بن سعية فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت له جميع أمواله في ملك فلا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو في دار الإسلام. وأما كونه إذا أسلم عبد الكافر صار حرا فلحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواه أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال: "لا هو طليق رسوله" وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبه في دينك إنما خرجوا هربا من الرق فقال: ناس صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتبهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب أعناقكم على هذا" وأبى أن يردهم وقال: "هم عتقاء الله عز وجل" وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد إذا جاء وأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به وهو مرسل.

وأما كون الأرض المغنومة أمرها إلى الإمام يفعل الأصلح من تلك الوجوه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لما ينزل به الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير بن يسار عن رجل من الصحابة وأخرج أيضا نحوه أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأرض مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم وقد ذهب إلى ماذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فخمسها لله ورسوله ثم هي لكم". وأما كون من أمنه أحد المسلمين صار آمنا فلحديث علي رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحة من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤعم وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم رحمة الله من حديث أبي هريره أيضا بلفظ "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد من المسلمين صار آمنا قال: ابن المنذر أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى. وأما العبد فأجاز أمانة الجمهور.

وأما الصبي فقال: ابن المنذر أجمع أول العلم على أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف. وأما كون الرسول كالمؤمن فلحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لرسولي مسيلمة "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: "والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي رافع لما بعثته قريش إليه: فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع". وأما كونه تجوز مهادنة الكفار ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين فلحديث أنس عند مسلم رحمه الله وغيره أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا" وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله صلى الله عليه وسلم يدل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه. وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفارفي كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع عليها الصلح ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل أنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاثة سنين ولا تجوز مجاوزة سنتين.

وأما كونه يجوز تأييد المهادنة بالجزية فلما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بدعاء الكفار إلى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء ابن الحضرمي وأخرج أبو عبيدة عن الزهري مرسلا قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وأخرج أبوداود من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالدا إلى أكيدر دومة فأخده فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة ابن شعبة أنه قال: لعامل كسرى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد ماشأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال: جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الإتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس وقال: مالك والأوزعي وفقهاء الشام أنها أقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم وقال: الشافعي بأن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "أنه يريد منهم كلمه تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية يعني كلمة الشهادة" وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان ابن بريدة المتقدم: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال" وفيها الجزية. وأما كونه يمنع المشركون وأهل الذمة من السكون ي حزيرة العرب

فلحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة" والشك من سليمان الأحول وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما" وأخرج أحمد من حديث عائشة أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "لا يترك بجزيرة العرب دينان" وهو من رواية ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب" وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح البارى عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال: وهو مكة والمدينة وما والاهما لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة وقال: الشافعي لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام وذهب الهدوية إلى أنه يجوز الإذن لهم بسكون جزيرة العرب لمصلحة المسلمين.

فصل في قتال البغاة حتى يعودوا إلى الحق

فصل في قتال البغاة حتى يعودوا إلى الحق "ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم" أقول: أما وجوب قتلا البغاة فلقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] فأوجب سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من أحد من المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم. وأما كونه لا يقتل أسيرهم إلى آخر ما ذكرناه فلما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم" وفي لفظ "ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم" سكت عنه الحاكم وقال: ابن عدي هذا الحديث غير محفوظ وقال: البيهقي ضعيف وقال: صاحب بلوغ المرام أن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك وصح عن على من طرق نحوه موقوفا والصحيح أن نادى بذلك منادي على يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن على بلفظ نادى منادي على يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال: صرخ صارخ لعلي رضي الله عنه يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقي السلاح فهو آمن وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه. وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال:

شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يلبسون قتيلا وأخرج البيهقي عن علي أنه قال: يوم الجمل إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آله فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم قال: البيهقي هدا منقطع والصحيح أنه لم يأحذ منه شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شيء منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف أن يتم قتله ويسرع فيه وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لاقصاص في أيام الفتنة. وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري والبيهقي بلفظ هاجست الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيه على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينها وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترجع إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول انتهى. قال: في البحر ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام مايجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن أكثر العتره أنه يجوز اغتنام ماجلبوا به من مال وآله حرب وحكى عن النفس الزكية والحنفية أنه لا يغنم منهم شيء

فصل في وجوب طاعة الإمام

فصل في وجوب طاعة الإمام وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله ولا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا ويجب الصبر على جورهم وبذل النصيحة لهم وعليهم الذب عن المسلمين وكف يد الظالم وحفظ

ثغورهم وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال وتفريق أموال الله في مصارفها وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة. أقول: أما وجوب طاعة الأئمة إلا في معصية الله تعالى فلقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] والأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة منها ماأخرجة البخاري من حديث أنس مرفوعا اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسة زبيبة ماأقام فيكم كتاب الله وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وأما كونه لا يجوز الخروج عليهم ماأقاموا الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا فلحديث عوف بن مالك رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عنذ ذلك قال: " لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولى عليهم وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره مايأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة" وأخرج مسلم رحمه الله أيضا وغيره من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يكون بعدي أئمة لايهتدون بهديى ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع وأخرج مسلم رحمة الله أيضا من حديث عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصامكم أو يفرق جماعتكم

فاقتلوه" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" والبواح بالموحدة والمهملة قال: الخطابي معنى قوله: بواحا ظاهرا وأخرج مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتتة جاهلية" وأخرج رحمه الله نحوه أيضا عن ابن عمر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "من حمل علينا السلاح فليس منا" وأخرجناه أيضا من حديث أبي موسى رضي الله عنه وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة وسلمه ابن الأكوع رضي الله عنهما والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وقد ذهب إلى ماذكرنا جمهور أهل العلم وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة أو وجوبه تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص ويحمل ما وقع من جماعة من أفاضل السلف على اجتهاد منهم وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم. وأما كونه يجب الصبر على جورهم فلما تقدم من الأحاديث وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهيلة" وفيها من حديث أبي هريرة مرفوها: "أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" وأخرج أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر كيف بك عند ولاه يستأثرون عليك بهدا الفيء قال: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك قال: "أو لا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني" وفي الباب أحاديث كثيرة. وأما وجوب بذل النصيحة لهم فلما ثبت في الصحيح من أن "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمه المسلمين" من حديث تميم الداري بهدا اللفظ والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الأئمة.

وأما كونه على الأئمة الذب عن المسلمين إلى آخر ما في المختصر فذلك معلوم من أدلة الكتاب والسنه الني لا يتسع المقام لبسطها ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام وهذه الأمور هي التي شرع الله نصب الأئمة لها فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشيء منها فهو غير مجتهد لرعينة ولا ناصح لهم بل غاش خائن وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مامن عبد يسترعيه الله رعية يوم يموت وهو غاش لرعيتة إلاحرم الله عليه الجنة" وفي لفظ لمسلم رحمه الله تعالى ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة وأخرج مسلم رحمة الله وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وبالجملة فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأني ويذر فإنه إن فعل ذلك كان اه ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابت في الكتاب والسنة وحاصلها الفوز بنعم الدنيا والآخرة. وإلى هنا انتهى تحرير ما أردنا بعونة الله فله الحمد كثيرا في يوم السبت لاثنى عشر خلت من جمادى الآخرة سنة عشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. انتهى كلام المؤلف سلمه الله تعالى فرغ من تحريره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي عفا الله عنه وعن المؤمنين أجمعين يوم الأربعاء حادى عشر شهر شعبان عام "1338" والحمد لله الذي بنعمتة تتم الصالحات

§1/1