الدخيل في التفسير - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 التعريف بالدخيل في التفسير وأنواعه - الإسرائيليات (1).

الدرس: 1 التعريف بالدخيل في التفسير وأنواعه - الإسرائيليات (1). بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (التعريف بالدخيل في التفسير وأنواعه - الإسرائيليات (1)) تمهيد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: مما ينبغي أن نتذكره أن الدخيل والإسرائيليات هي موجودة في ثنايا كتب التفسير، لكنها لم تُفرد بالتأليف إلا في العصر المتأخر، ومن ثَم سنرى أن مراجع هذه المادة المستقلة التي ألفت في هذا العلم استقلالًا مراجع حديثة، وإن كان السابقون الأقدمون قد بينوا الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتطرقوا لأنواع كثيرة من هذا العلم. فمن الكتب المشتهرة في هذا: (الإسرائيليات والموضوعات) لفضيلة الدكتور محمد أبو شهبة، وأيضًا (التفسير والمفسرون) للدكتور محمد حسين الذهبي، و (الإسرائيليات في التفسير والحديث) له أيضًا، وسنرى أيضًا (الدخيل في التفسير) للدكتور عبد الوهاب فايد، و (الدخيل في التفسير) لأستاذنا الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة. ولزملائنا في مجال التفسير الآن وفي حقل الدعوة سنرى: (الدخيل والإسرائيليات) للدكتور سمير شليوة، و (الدخيل في التفسير) للدكتور علي رضوان، و (الدخيل في التفسير) للدكتور المحمدي. أما السابقون، فلا يخفى أن الإمام السيوطي وابن عراق وغيرهم، هؤلاء لهم كتب، هناك (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة) لابن عراق الدمشقي، هناك أيضًا (تدريب الراوي على شرح تقريب النواوي) للإمام السيوطي، هناك (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص) للسيوطي وغيرها.

المقدمة التي ندخل بها إلى هذا العلم: القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي أنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليكون هدايةً للعالمين، وهذا القرآن الذي أنزله ربنا قد تكفل بحفظه فقال -جل وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وقد كلف الله -جل وعلا- رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يبين، وأن يفسر، وأن يشرح للناس كما قال -جل وعلا-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) كما تكفل له ربه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 17 - 19). هذا الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- بلغ وبين، وعلم الأمة، وتبعه أصحابه -رضوان الله عليهم- فكان من الصحابة جمع اشتهر بالتفسير هؤلاء، هم أعلام الهدى وأئمة التفسير: عبد الله بن عباس حبر الأمة، علي بن أبي طالب، عبد الله بن مسعود، أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وابن عمرو وغيرهم. وكانوا دائمًا يقرءون ويعملون ويشرحون ويفسرون القرآن الكريم لمن حولهم من التابعين، حتى عرف أن عبد الله بن عباس كانت له مدرسته في مكة المكرمة، وله تلاميذه، وعبد الله بن مسعود كانت مدرسته في الكوفة، وأبي كان مدرسته في المدينة المنورة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. ومما لا يخفى أن معرفة التفسير والوقوف على هدايات القرآن الكريم من أعظم الغايات، وأشرف المقاصد؛ ولذلك نجد صاحب (الإتقان) الإمام السيوطي عقد فصلًا كاملًا عن شرف علم التفسير لعله الباب السابع والسبعون، وتطرق لقوله سبحانه: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269) ونقل لنا ما رواه عن ابن عباس قال عن الحكمة: "المعرفة بالقرآن: حلاله وحرامه، ناسخه ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، مقدمه ومؤخره، وأمثال القرآن وقصصه". ونحو ذلك.

تعريف الدخيل والأصيل.

كل هذا بين أن التفسير من فروض الكفايات، ومن أجل العلوم الشرعية قاطبة؛ لأن موضوعه كتاب الله -سبحانه وتعالى- بعد جيل الصحابة جاء التابعون، فاعتمدوا على المصادر السابقة: القرآن، أقوال الرسول، أقوال الصحابة، وتلا ذلك التابعون وتابعو التابعين شرحًا لكتاب الله وبيانًا لما فيه. حتى جاءت العصور التي بدأ فيها يظهر التباس في الفهم، أو سوء وحقد من أعداء الإسلام، فأدخلوا في كتبنا وفي تفاسير القرآن ما ليس منه، بل إن بعض المفسرين القدامى كالثعلبي في كتابه (الكشف والبيان في تفسير القرآن) وهناك أيضًا الإمام الواحدي في تفسيره (الوسيط) وهناك أيضًا تفسير لابن جرير الطبري. هذه الكتب القديمة لم تخلُ من بعض الإسرائيليات والأقوال الضعيفة مما بدأ الدخيل يسري إلى كتب التفسير التي هي شرحٌ لكتاب الله -سبحانه وتعالى. تعريف الدخيل والأصيل تعريف الدخيل: الدخيل في اللغة: هو الوافدُ الذي تسلل من الخارج، وليس له أصل في المحيط الذي تسلل إليه، وتُستعمل هذه الكلمة في: الأشخاص، والألفاظ، والكلمات، والمعاني، وما أشبه ذلك. لو رجعنا إلى كتب اللغة سنرى صاحب (القاموس) و (لسان العرب) وصاحب كتاب (الأساس) العلامة الزمخشري و (المصباح المنير) و (المفردات) للراغب الأصفهاني، كل أولئك حدثونا عن معنى الكلمة "الدخيل": الدخل ما داخلك من فساد في عقل أو جسم، وقد دخل كفرح، ودخل كعني دخلًا ودخلًا، وهذا المعنى يفيد الغدر والمكر والدهاء والخديعة والعيب، سواء كان في الحسب أو في الشجر أو في الناس أو في القوم الذين ينتسبون إلى من ليسوا منهم.

وقالوا: داء دخيل، ودخل أمره؛ أي: فسَدَ داخله، فلان دخيل في القوم؛ أي: ليس منهم، هو من غيرهم، وإذًا كلمة الدخيل كلمة إذا أدخلت في كلام العرب تطلق على الكلمة التي تندس في كلام العرب، وليست من كلام العرب. يتحصل من ذلك أن الدخيل يدور حول معنى: العيب، الفساد الداخلي، سواء من الغرابة أو من المكر أو من الخديعة أو الريبة أو عفن الجوف ونحو ذلك، وإذا قلنا كلمة دخيل فعيل، أهي بمعنى فاعل أو مفعول؟ إذا أطلق على العيب نفسه كانت كلمة دخيل بمعنى داخل، بمعنى فاعل، وإن أطلق على الشيء المعيب نفسه كانت بمعنى مدخول أي: هو مفعول، وهذا مبالغة، فالدخيل في التفسير: العيب والفساد، عيب وفساد اجتهد صاحبه أن يدس حقيقته، ويخفيها في ثنايا الأصيل في التفسير للقرآن الكريم. لعل هذا يوضح الآن أن الدخيل في اللغة هو الوافدُ الذي تسلل من الخارج، وليس له أصل في المحيط الذي تسلل إليه، وإذا ما خلصنا إلى المعنى الاصطلاحي: هو الذي ليس له أصل صحيح في الدين، تسلل إلى رحاب التفسير على حين غِرة، وعلى حين غفلة من الزمن؛ بفعل مؤثرات مختلفة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ولو تساءلنا: الذي أثر في إظهار هذا الدخيل أكثر وأكثر؟ نقول: جانبان: الجانب الأول: جانب خارجي، وهذا يتمثل في أعداء الإسلام الحاقدين من اليهود والنصارى والشيوعيين، ومن الكافرين المشركين الذين كانوا حريصين على اللغو وعلى إظهار القرآن بأنه متناقض؛ ليشككوا فيه، لأن القرآن حمل على الشرك حملة شعواء، كما سيتضح الآن.

أنواع الدخيل، وفائدته.

دس هؤلاء خرافاتهم وأباطيلهم حول القرآن يريدون فتنة المسلمين في دينهم، يريدون تشكيك المسلمين في كتاب ربهم، يريدون تفتيت وحدة الأمة الإسلامية التي أرسى قواعدها رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم-. الجانب الآخر: الجانب الداخلي، ويتمثل هذا في طوائف مختلفة انتسبت إلى الِإسلام زورًا، ولكنها في الحقيقة وثيقة الصلة بأعداء الإسلام، من هؤلاء طوائف شوشت بخرافاتها وتحريفها، ولها مخططات رسمها لهم أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس، هم جميعًا يريدون أن يمكروا، وصدق الله إذ يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30)، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32). بهذا يتضح لنا معنى الدخيل، ماذا يقابل هذه الكلمة؟ الأصيل. قال علماء اللغة: الأصيل أو الأصل: أساس وأسفل كل شيء، ورجل أصيل: له أصل رجل ثابت الرأي عاقل، فلان أصيل الرأي، وقد أصل رأيه، ومجد أصيل أي: ذو أصالة، فالأصيل في الاصطلاح هو: التفسير الذي ثبت عن طريق القرآن أو السنة النبوية الصحيحة أو أقوال الصحابة أو أقوال التابعين ثبوتًا مقبولًا، أو ما يرِد عن طريق الرأي الصحيح المستكمل لشروط الرأي المحمود. أنواع الدخيل، وفائدته بعد هذا يمكن أن نسأل: هل لهذا الدخيل أنواع؟ أنواع كثيرة، ونقول: إن الدخيل أولًا قسمان، هذا الدخيل دخيل في المأثور، وسنبدأ به. ودخيل في الرأي، وسوف نثني به إجمالًا، ثم نتحدث عن الفائدة من دراسة الدخيل، وكيف نشأ؟ وكيف نَمَا، وكيف سرى وزحف إلى علم التفسير في حياة أمة الإسلام؟

أنواع الدخيل: الدخيل في المأثور يضم بإيجاز الأنواع السبعة الآتية: يضم الأحاديث الموضوعة على النبي -صلى الله عليه وسلم. الأحاديث الضعيفة، خاصة إذا كان ضعفها لا ينجبر. يضم الإسرائيليات المخالفة للقرآن أو السنة أو التي لا يعرف لها موافقة، ولا مخالفة، وهو ما نعرفه بأنه المسكوت عنه، أما الإسرائيليات الموافقة لما عندنا فلا تعتبر من قبيل الدخيل. رابعًا: يدخل تحت هذا القسم ما نُسب إلى الصحابة، ولم يثبت عنهم. خامسًا: ما نسب إلى التابعين، ولم يثبت عنهم. سادسًا: ما تعارض من أقوال الصحابة مع القرآن أو السنة أو العقل تعارضًا حقيقيًّا، ولا يمكن الجمع بينه وبين هذه الأشياء. سابعًا: ما تعارض من أقوال التابعين مع القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة أو العقل تعارضًا حقيقيًّا. ثانيًا: أنواع الدخيل في الرأي: قلنا: إن الدخيل إما في المأثور والمنقول وإما في الرأي. أنواع الدخيل في الرأي: نقول: إن هذه الأنواع تضمنت الأسبابَ التي أدت إلى وجود الدخيل في الرأي، وهذه الأنواع نتجت عن أحقاد أو جهل أصحابها. وها هي على الترتيب:

الإلحاد في آيات الله: هناك فرق كفرت بشريعة الإسلام، امتلأت قلوبها حقدًا وإلحادًا، فألحدت في آيات الله؛ فسرت القرآن بأقوال باطلة، وبما طفحت به قلوبهم ونفوسهم. ثانيًا: الأخذ بظاهر المنقول دون النظر إلى ما يجب ويليق بذات الله -سبحانه وتعالى- أو ما لا يليق، أخذوا بظاهر النصوص، وهؤلاء محسوبون على الإسلام. ثالثًا: تحريف النصوص الشرعية عن مواضعها، وتعطيلها وصَرْفها عن ظواهرها. رابعًا: التنطع أو التكلف الزائد في استخراج معانٍ من باطن النصوص، دون دليل يدل على صحتها أو جوازها. خامسًا: التنطع في اللغة والنحو والإعرابات، حتى خرج أصحاب ذلك عن القواعد المألوفة في النحو والصرف وعلوم اللغة. سادسًا: تفسير القرآن عن جهل دون الإلمام بشروط المفسر أو استكمال العلوم الواجب توافرها فيه. سابعًا: التكلف في التوفيق بين النصوص القرآنية، وما فُتِنَ به كثير من الشباب من المكتشفات العلمية الحديثة، فنرى أناسًا كثيرين حمّلوا القرآن نظريات علمية جَدت ووقعت في واقع الناس، حملوا عليها آيات القرآن الحكيم، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) والنظريات العلمية تتغير، وقد يأتي بعدها ما يبطلها أو يغيرها، فحمل القرآن على هذا النوع من المكتشفات كان نوعًا من دخيل الرأي أفسد كثيرًا من التفسير في حياة أمة الإسلام. فائدة دراسة هذا العلم: واضح جدًّا أن معرفة الدخيل في التفسير هدف حتى يتجنب المسلم الزللَ والوقوع في الخطأ، كما قال بعضهم:

كيف نشأ الدخيل؟.

عرفت الشر لا ... للشر بل لتوقيه ومن لم يعرف الشر ... من الناس يقع فيه فالفائدة من دراسة علم الدخيل باختصار شديد وإيجاز غير مخل، يتلخص في ثلاثة أشياء: أولًا: الانتفاع بتفسير القرآن الكريم، والاهتداء بهدي القرآن الكريم الصحيح، والامتثال لشريعة الإسلام امتثالًا صحيحًا. ثانيًا: رد مطاعن الطاعنين على القرآن الكريم، وكشف ضلالهم وكيدهم، والحقد الذي يطفح منهم، معرفة ذلك يساعدنا على أن نرد كيدهم، وأن ندافع عن قرآننا، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. أخيرًا: الوقوف على التفسير الصحيح السليم حتى نبلغ دعوة الإسلام تبليغًا صحيحًا، فنتجنب الأباطيل التي دست في التفسير، وألحقت به، إذا عرف المسلم هذه الأمور استطاع أن يميز بين الصحيح وبين الضعيف، وبين الأصيل وبين الدخيل، ويستطيع بذلك أن يسلم من حقد وأخطاء هؤلاء الذين أرادوا للإسلام أن لا ترتفع رايته. كيف نشأ الدخيل؟ كيف نشأ الدخيل؟ كيف سرى إلى علم التفسير، والتفسير يتعلق بشرح كتاب الله -سبحانه وتعالى-؟ نقول: إن الدخيل له مصدران أساسيان: المصدر الأول: أعداء الإسلام. المصدر الثاني: التباس، وسوء فهم من الفِرق المنسوبة إلى الِإسلام، أو حتى بعض الصحابة والتابعين، وسنرى ذلك واضحًا.

المصدر الأول: وهو ما يتعلق بأعداء الإسلام: هذا المصدر هم: أعداء الإسلام من الكفار، المشركين، اليهود والنصارى، الحاقدون على الإسلام، كل أولئك عندما نزل القرآن الكريم، وارتفعت رايتُه بدأت شبهات الكفار الذين يريدون إظهار القرآن بمظهر المتناقض، ليتوصلوا بذلك إلى أنه ليس من عند الله، وإسقاط حجيته، والطعن بعد ذلك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي جاءهم به، لا سيما وأن القرآن الكريم قد رفع راية التوحيد، وأظهر أن أصنامهم هي شرك، وحَطَّمَ مكانتها، وأنزل معنوياتهم، فالقرآن هو الذي يقول لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء: 98) وبين لهم أن هذه الأصنام لا تنفع، ولا تضر، وليس لها من جدوى، فحطم ما ألفوا عبادته مئات السنين أو قرونًا طويلة فيما مضى. فبدأ الكفار يثيرون الشبهات، ويعترضون على بعض الآيات، وينتشر كلامهم وأباطيلهم، ويعلنونها بين الناس، من أمثلة ذلك: حديث أخرجه الإمام مسلم يقول: عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى نجران، فقالوا: أريت ما تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُون} (مريم: 28) وموسى كان قبل عيسى بمئات السنين، فيقول: فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء الصالحين قبلهم؟)). إن أهل نجران أرادوا أن يلبسوا الأمر على المسلمين زاعمين أن القرآن تكلم عن هارون، وجعلت مريم أختًا لهارون، وهارون أخو موسى -عليهم السلام- بينما هناك فترة زمنية عدة قرون بين موسى وعيسى، فأرادوا بذلك أن يظهروا أن القرآن كلامه غير صحيح. تصدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذه الشبهة الدخيلة، وبين أن هارون هذا الذي نسبت مريم، وقيل في شأنها: {يَا أُخْتَ هَارُون} ليس هو أخو موسى -عليه السلام- إنما هو هارون آخر، إلى غير ذلك.

وبدأ الكفار يتندرون ببعض الآيات، لما نزلت: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} (الدخان: 43 - 45) إلى آخر الآيات: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: 65) بدأ الكفار يتندرون ويتكلمون حول الآيات عن شجرة الزقوم. ولما نزل قول الله -جل وعلا-: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30) عن النار، بدءوا يتكلمون ويسخرون من هذا الكلام، وهذه الآيات. كما تندر اليهود لما نزل قول الله -جل وعلا-: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًاَ} (البقرة: 245) بدءوا يتكلمون: الله يريد القرض؟ الله فقير؟ وأخذوا يثيرون الشبهات، وأنزل الله -جل وعلا- ردًّا على افتراءاتهم: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (آل عمران: 181). آيات من هذا النوع كانت تنزل لهم، وتعلن عليهم واقعًا وحقائق، لكنهم الكفر يملأ جوانحهم، والحقد على الإسلام وعلى القرآن، الذي حطم أصنامهم، ورفع التوحيد راية عالية، بدءوا يثيرون الشُّبه، والدخيل، والأباطيل حول هذه الآيات. المصدر الثاني لنشأة الدخيل في العهد النبوي الكريم، سواء كان من الالتباس أو سوء فهم لبعض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو كانت لبعض الفرق التي حسبت على الإسلام، وظهر آثارها بعد ذلك: هناك من غير سوء قصد، كان هناك لبس، تعجل بعض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند بعض الآيات، لما نزل قول الله -جل وعلا-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187) لم تكن

كلمة: {مِنَ الفَجْرِ} قد نزلت، هناك حديث في البخاري في صحيحه، عن سهيل بن حزم: لما نزلت هذه الآية، ولم ينزل قوله: {مِنَ الفَجْرِ} وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيضَ والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتها؛ فأنزل الله -جل وعلا- بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ}. فعلموا أنما المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود هو بياض النهار، وسواد الليل. وهكذا بدأ التباس في الفهم، فدخل شيء من هذا الفهم في عصر نزول القرآن الكريم، هم لا يريدون هذا اللبس، ولا يقصد منهم، ولكنه وقع. كذلك لما نزل قول الله -جل وعلا-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} (المائدة: 93) كان هناك موقف لبعض الصحابة، سنعرفه. كذلك: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) بعض الصحابة بكى، وفهم أن الظلم هو أي ظلم ولو كان قليلًا، والآية تحذر، فإذا لبس الإنسان إيمانه -أي: خلط إيمانه- بشيء من الظلم لم يكن في مأمن، وقع هذا اللبس، فبينه لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أما الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه، ونقله عنه الحافظ بن حجر في (الإصابة في تمييز الصحابة) أن أحد الصحابة تأول هذه الآية، وهو قُدامة بن مظعون، أخو عثمان بن مظعون فشرب الخمر، وزعم أنه لا حرجَ في شربها إذا كان الإنسان مؤمنًا تقيًّا، فلما علم عمر بذلك رد عليه، وبين له الفهم الصحيح للآية وقال له: "يا قدامة أخطأت التأويل، أنت إذا اتقيت الله

اجتنبت ما حرم الله". وأصر عمر على جلده بعد ثبوت سكره بالشهود، رغم أن قدامة بن مظعون، هو خال أولاد عمر، خال حفصة، وخال عبد الله بن عمر. والحديث مروي بسنده وروايته، وينتهي في آخر المطاف حتى لا نطيل الكلام، إلى أن عمر أقام عليه الحد، وغضب كل منهما من الآخر، عمر غضب على قدامة لفهمه السقيم، وقدامة كان غاضبًا حتى إنهم لما حج قدامة في بعض الأعوام تقابل مع عمر، وكان كل منهم غاضبًا من الآخر، عمر غضب؛ لأنه تأول تأولًا خطئًا، فقام عمر واستدعاه، فأبى قدامة أن يأتي، فأمر عمر أن يحضروه، فكلمه واستغفر له؛ لأن هذا تأويل غير صحيح. تعالوا بنا بعد ذلك أيام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- حدث ما لا تتوقعه الأمة، حدثت فتنة التحكيم، التي على أثرها حدثت اختلافات بين المسلمين، نعلم أن عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- كان هو الأرجح لأن يكون أمير المؤمنين بعد عثمان، وحدثت فتنة التحكيم، وافترق المسلمون على أثرها كما نقرأ في السيرة والتاريخ- افترقوا إلى شيع وأحزاب. ظهر على الساحة فرقة الخوارج الذين خرجوا على علي، كما ظهرت فرقة الشيعة، والمرجئة، والقدرية، والمعتزلة، وكل من هذه الفرق أراد أن يفسر القرآن الكريم على هواه، بحيث يخدم التفسير المبادئ التي يدعو إليها كل فريق، على الأقل لا تتصادم مع مبادئهم، فكانوا يجعلون المذهب أصلًا والتفسير فرعًا. كما ظهر على الساحة جماعات من المتصوفين، ونحن لا نكره التصوف، نحن نحب التصوف المعتدل الذي يقوم على شُعب الإيمان: الزهد، الصبر، التوكل، الخوف، الرجاء، الورع، أما إذا كان التصوف شطحاتٍ ونطحاتٍ ومعانٍ باطلةً تخرج عن نصوص القرآن الكريم، وهذا هو الذي ظهر، ظهرت الفرقة الباطنية،

وزعموا أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأن النص الظاهري هذا علم العوام، وأن العلم الباطني هو العلم الحقيقي اللدني، ووصلت بهم الشطحات أن فضلوا أتباعهم على الأنبياء، وكانوا يقولون: أنتم تتلقون علومكم عن البشر، ونحن نتلقى علومنا عن الله -سبحانه وتعالى-. كلام دخيل على الإسلام، ومدسوس على شريعة الله -سبحانه وتعالى-. أرادوا بذلك أن يتحللوا ويتخلصوا من شريعة الإسلام، وأن يقضوا على تفسير القرآن التفسير الصحيح، فمالوا بذلك إلى تفاسير فاسدة، وفرقة الباطنية هذه اتسع أتباعها، وتلونت في كل وقتٍ ومكانٍ حتى نرى منها فرق: البابية، والبهائية، والقاديانية، كما وجدنا فرقًَا تتلون بأسماء مستحدثة في عالمنا الذي نعيشه. كل هؤلاء، أقوالهم، تفسيرهم، اجتهاداتهم، كلها تعتبر دخيلًا على تفسير القرآن الكريم. وأخيرًا نقول: إن هناك نوعًا آخرَ ظهر على أيدي بعض العلماء، أو أرادوا يوفقوا بين نصوص القرآن وبين النظريات العلمية واكتشافات العلم الحديث، كلما ظهرت نظرية أو كلما وجدوا إعجازًا علميًّا قالوا: إن القرآن تحدَّث عنه، ودعا إليه، وحملوا آيات القرآن ما لا تحتمل، فهؤلاء تحت زعم الإعجاز العلمي للقرآن ظهر في توفيقهم للآيات كثير من التعسف، كثير من تحميل القرآن ما لا يتحمله، فهذا لون من ألوان الدخيل في تفسير القرآن الكريم. بعد هذا اتسع نطاق هذه الفِرق، كثر أتباعها، زاد تعصبها، حتى إننا أصبحنا نجد هذه الفرق بأتباعها وتابعيها تشمِّر عن سواعدها، وتسخر كل طاقاتها، سواء المشركون، سواء الأحقاد من الفرق الضالة، أو سواء من الصوفية أو سواء من

معنى الإسرائيليات، والعلاقة بين الدخيل والإسرائيليات.

الذين زعموا معرفة النظريات العلمية، وجدنا الكل يسخر طاقاته للقضاء على المسلمين، وتشكيك المسلمين في قرآن ربهم، والتشويش عليه، مثلما اتجه الكفار وحرصوا أشد الحرص عند نزول القرآن الكريم على أن يصرفوا عنه الناسَ، كما حكى عنهم القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26). لم تتوقف حملات هؤلاء الأعداء عند القرون الأولى للإسلام، بل تنوعت طوائفهم، وتجددت أساليبهم، وكثرت انحرافاتهم وتأويلاتهم حتى ظهر على الساحة أنواع من الدخيل، والأباطيل سرت إلى كتب التفسير، يا ترى هل هذا الفساد سيبقى وتنتشر فروعه وألوانه؟! إن الله سبحانه يقيض لهذا الدين مَن يدفع عنه كيد الكائدين، وتأويل المبطلين، وانتحال الغالين، كما وعد ربنا سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8). معنى الإسرائيليات، والعلاقة بين الدخيل والإسرائيليات ننتقل الآن إلى الدخيل في المنقول، فنتعرف على معنى الإسرائيليات، وعلى أقسام الإسرائيليات، وعلى أسباب تفشيها، وعلى أقطاب الرواية الإسرائيلية، ثم نماذج كثيرة من الإسرائيليات في القصص القرآني. أولًا: الإسرائيليات: ما علاقة كلمة الإسرائيليات بالدخيل؟ وما معناها؟ أما معنى الإسرائيليات: هي جمع مفرده إسرائيلية، نسبةً إلى بني إسرائيل، والنسبة في هذا المركب -بني إسرائيل- هذا المركب الإضافي النسبة فيه للعجُز لا للصدر، فنقول: إسرائيلي، وقصة إسرائيلية، خبر إسرائيلي، وقصة إسرائيلية أو حادثة إسرائيلية.

فما معنى إسرائيلية؟ هي القصة أو الحادثة، تروَى عن مصدر إسرائيلي، كلمة إسرائيلي نسبة إلى بني إسرائيل أو إلى أبيهم الأول؛ لأن بني إسرائيل هم بنو سيدنا يعقوب -عليه السلام. فلفظ إسرائيليات -كما يقول دكتور محمد الذهبي- وإن كان يدل على القصص الذي يروى أصلًا عن مصادر يهودية، يستعمله علماء التفسير والحديث على ما هو أوسع وأشمل من القصص اليهودي، فهو يُطلق على التفسير والحديث من أساطير قديمة منسوبة إلى مصدر يهودي أو نصراني. إذًا كلمة إسرائيليات ليست قاصرةً على المنسوب لليهود، إنما الكلمة تشمل ما نُسِبَ إلى اليهود أو إلى النصارى، بل توسع العلماء، فعدوا من الإسرائيليات ما دَسَّه أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم على التفسير وعلى الحديث، ومن أخبار لا أصلَ لها في مصدر قديم، قالوا عنها جميعًا: إنها إسرائيليات. وأطلق علماء التفسير والحديث لفظ إسرائيليات على كل ذلك من باب التغليب للون اليهود على غيرهم؛ وذلك لأن اليهود كانوا ساكنين في المدينة، واللقاءات التي كانت تتم بين العرب واليهود في رحلتي الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام، وفي اليمن والشام كثير من أهل الكتاب، كما كانت لقاءات هناك كثيرة بين اليهود والنبي -صلى الله عليه وسلم- وبين اليهود وبعض المسلمين، وكان اليهود يلقون الأسئلةَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا يقدمون ما يعن لهم، إما امتحانًا واختبارًا لصدق نبوته -عليه الصلاة والسلام- وإما تحديًا وتعجيزًا، فَرَدَّ الله كيدهم، وجعل كلمتهم السفلى، وجعل كلمة الله هي العليا -سبحانه وتعالى. كذلك يمكن أن نقول: إن اليهود كانوا قومًا بُهتًا، كانوا سماعين للكذب، أكالين للسحت، كذابين، هم أشد الناس عداوةً وبغضًا للإسلام والمسلمين، وكان لهم

حيل وخداعات كثيرة يتظاهرون بأنهم محبون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هم يضمرون العداوة والبغضاء للمسلمين، وما أصدقَ القرآن عندما قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}! (المائدة: 82). أما النصارى فكانت ثقافتهم تعتمد في الغالب على الإنجيل الذي أشار القرآن إلى أنه من الكتب السماوية في قوله: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلََ} (الحديد: 27). وعلى كل حالٍ الأناجيل يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل اسم "العهد الجديد" والكتاب المقدس عند النصارى يشمل: التوراة والإنجيل، يعني: يشمل العهد القديم والعهد الجديد، وهذا مما ينبغي أن نغفل عنه. وعلى كل حال فأثر الإسرائيليات هو الأكثر، وكان غالب اللون اليهودي هو الدخيل من كلام اليهود، فأُطلِقَ لفظ الإسرائيليات على كلام اليهود، وعلى كلام غيرهم. العلاقة بين الدخيل والإسرائيليات: بعدما عرفنا معنى الدخيل ومعنى الإسرائيليات، وأن كلًّا منهما غريب على التفسير وبعيد عنه. نقول: إن الإسرائيليات جزء من الدخيل، فالدخيل أعم من الإسرائيليات؛ لأن لفظ الدخيل كلمة واسعة تتناول القسمين، الدخيل المأثور، ودخيل الرأي، بينما الإسرائيليات هي جزء فقط من أنواع الدخيل في النقل والمأثور. وكلاهما الإسرائيليات والدخيل أمر مرفوض؛ لأنه يجيء بما لا يتفق مع القرآن الكريم شرحًا صحيحًا، وإن كنا سنقول: إن من الإسرائيليات ما يتفق مع القرآن أو ما لا يتعارض معه، وهذا سيكون مقبولًا إن شاء الله.

الدخيل يتناول في لفظه ومعناه أنواعًا كثيرةً: الإسرائيليات في التفسير، والأحاديث الضعيفة والموضوعة في القرآن الكريم، كما يتناول تأويلات الباطنية في التفسير، كما يتناول شطحات المتصوفة في التفسير، كما يتناول بدع التفاسير اللغوية والإعرابية، كما يتناول تحريفات الفرق الضالة: البهائية والقاديانية ونحوها. كما يتناول أيضًا هذا الشطط، وهذا التكلف الذي مال إليه العصريون في النظريات العلمية، كل هذا يعتبر من الدخيل، ويعتبر خارجًا عن معاني الآيات المعاني الصحيحة، وقطعًا للآيات عن السباق واللحاق، وعن سياق الآيات، والاستدلال بالآيات في غير ما تحتمله. فنستطيع أن نقول: إن العلاقة إذًا بين الدخيل والإسرائيليات هي العموم والخصوص المطلق، فكل الإسرائيليات دخيل، وليس كل الدخيل إسرائيليات. والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 2 الإسرائيليات (2).

الدرس: 2 الإسرائيليات (2).

أقسام الإسرائيليات.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الإسرائيليات (2)) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: أقسام الإسرائيليات: تنقسم باعتبار معنى الخبر الإسرائيلي وموضوعه، وهو بهذا ينقسم إلى ما يتعلق بالعقائد، وما يتعلق بالأحكام، وما يتعلق بالمواعظ أو الحوادث التي لا صلةَ لها لا بالعقائد، ولا بالأحكام، نأخذ مثالًا سريعًا عن كل نوعٍ من هذه الأنواع، ثم نثنِّي بما هو أهم، وهو أقسام الإسرائيليات من حيث القبول والرد. أولًا: ما يتعلق بالعقائد: رويت عندنا أحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام: 91) ونص الحديث الذي رواه الإمام البخاري قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول -جل وعلا-: أنا الملك. فضِحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه؛ تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. فمعنى قول الراوي: "فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر": اختلف علماؤنا حول قول الراوي هذا، فمنهم من ذهب إلى أن ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر لم يكن تصديقًا له، كما فهم الراوي، وصرح بذلك في رواية أخرى، وإنما كان تعجبًا وإنكارًا لقول اليهودي الذي يفيد التجسيم والتشبيه. ممن ذهب إلى هذا الرأي الإمام الخطابي، كما نقل عنه ابن حجر في شرحه على هذا الحديث قال: قال الخطابي: لم يقع ذكر الإصبع في القرآن، ولا في حديث

مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم في ثبوتها الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف هذا، ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي؛ لأن اليهود كما نعرف مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين. وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر، فيحتمل الرضا والإنكار؛ يعني: يحتمل هذا وذاك، وأما قول الراوي: "تصديقًا له"، فهذا ظن من الراوي وحسبان، وقد جاء الحديث من طرق أخرى ليس فيها هذه الزيادة، وعلى كل حال على تقدير صحتها، قد يستدل بحمرة الوجه على الخجل، كما يستدل بصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك، كما فهمنا. وعلى تقدير أن يكون هذا محفوظًا، فهو محمول على تأويل قول الله -جل وعلا-: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67). كما أن الإمام ابن حجر نقل في موضعٍ آخر من (فتح الباري) عن ابن التين أنه قال: تكلف الخطابي في تأويل الإصبع، وبالغ حتى جعل ضحكه -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا وإنكارًا لما قال الحبر، ورد ما وقع في الرواية الأخرى: "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا وتصديقًا" بأنه على قدر ما فهم الراوي. قال الإمام النووي: وظاهر السياق أنه ضحك تصديقًا له بدليل قراءة الآية التي تدل على صدق ما قال الحبر. وعلى كل حال فالأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد تنزيه الله -جل وعلا- فإن كل ما يستلزم النقص من ظاهرها غير مراد في هذه النصوص. ثانيًا: النوع الثاني: ما يتعلق بالأحكام، وهنا أيضًا روى الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب التفسير في باب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) روى لنا حديثًا عن نافع

عن ابن عمر: أن اليهود جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل منهم وامرأةٍ قد زنيَا فقال لهم: ((كيف تفعلون بمن زنا منكم؟)) قالوا: نحممها؛ أي: نسود وجهها، أو نحممهما ونضربهما، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تجدون في التوراة الرجم؟)) فقالوا: لا نجد فيها شيئًا. فقال لهم عبد الله بن سلام - عالمهم وحبرهم وإمامهم-: كذبتم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما فرجما قريبًا من حيث موضع الجنائز. قال: فرأيت أنهم يميلون وينحنون عليها، وهي تضرب بالحجارة، مثال ذلك، وهو ما يتعلق بالمواعظ أو الحوادث التي لا تمت إلى العقائد والأحكام بصلة ما أورده ابن كثير عند قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37) ذكر محمد بن إسحاق عن التوراة أن الله أمر نوحًا أن يصنع السفينة من خشب الساج، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعًا وعرضها خمسين ذراعًا وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤًا أزور يشق الماء ... كل هذا من كلام الإسرائيليات باعتباراتها المختلفة التي ذكرنا أنها تتعلق إما بالعقائد أو بالأحكام أو بالمواعظ. أما أقسام الإسرائيليات من حيث القبول والرد، فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولًا: القسم الأول: ما جاء موافقًا لما في كتاب الله -سبحانه وتعالى- لما في قرآن ربنا، فهذا نؤمن به ونصدقه، مثال ذلك: ما رواه البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة. قال: "والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ،

ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به قلوبًا غلفًا، وآذانًا صمًّا، وأعينًا عميًا". قال عطاء: ثم لقيت كعبًا، فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا إلا أن كعبًا قال بلغته: "قلوبيًّا غلوفيًّا، وآذانًا صمميًّا، وأعينًا عمميًّا". هذا هو القسم الأول جاء في صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقوالهم ما يتفق تمامًا مع ما في القرآن الكريم. القسم الثاني: ما جاء عنهم مخالفًا في شريعتنا، مثل الروايات التي تنص على أن الله لما فرغ من الخلق استراح في اليوم السابع، والتي تذكر أن الرب حَزِنَ؛ لأنه عمل الإنسان في الأرض، وأنه تأسَّف في قلبه لما كثرت ذنوب الإنسان، ومثلما ورد في شرب نوحٍ الخمر، فسكِر وتعرى، وما ورد في شأن لوط وأنه زنا بابنتيه وحملَا وأنجبَا!! كل هذه الأكاذيب والخرافات والأباطيل لا يمكن أن يقبلها عقل، ولا يتصور أنها ترد في شرع. هذا القسم ينافي عقيدة الإسلام والمسلمين؛ ولذلك فهو مرفوض مردود في وجه صاحبه إلى أن يلقى ربه فيجازيه بما هو أهله من الخزي المقيم، والهوان العظيم. القسم الثالث: لا يأتي موافقًا، ولا مخالفًا، إنما هو مسكوت عنه، لا دليل عليه في شرعنا يؤيد صدقه، ولا برهان في ديننا ينص على كذبه وإنكاره، مثال ذلك ما يروى عن اسم الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وعن عدد الذين أحياهم عيسى ابن مريم بإذن الله سبحانه وأسمائهم، أو عن أنواع الطعام التي كانت على مائدة عيسى -عليه السلام- أو عن البعض في البقرة الذي ضُرِبَ به قتيل بني إسرائيل، كما قال ربنا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (البقرة: 74). هذه الأمور لم تُقيد، ولم تفصل عندنا، فغالب ذلك -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) له،: هذا مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني،

أسباب تفشي الإسرائيليات، وخطورتها على أمة الإسلام.

فهذا القسم يتوقف في الحكم عليه، فلا نصدقه، ربما كان كذبًا، ولا نكذبه ربما كان حقًّا. التوقف هنا أولى لعدم وجود دليل بين يبين صدقه أو كذبه، وهذا يتفق مع منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما وجَّه الأمة فقال: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا)). أسباب تفشي الإسرائيليات، وخطورتها على أمة الإسلام أما أسباب تفشي الإسرائيليات وانتشارها، فإنها تعود إلى عدة أسباب، نلخصها فيما يلي: فقد ساعد على انتشار الإسرائيليات هذه أمور: أولًا: قوة الإسلام، وانتصاره، وسرعة انتشاره في أرض الله، ومدى اقتناع الناس بكتابه، وسماحة شريعته، وعدالة أهله، كل هذا أزعج أعداء الإسلام، وبخاصة اليهود، فأخذوا يدبرون له الكيد والمكر بكل سلاح وبكل وسيلة، يريدون أن يوقفوا مسيرة الإسلام المباركة، وأن يصرفوا الناس عنه، فتنوعت أساليبهم، وتعددت وسائلهم؛ ليصلوا إلى أغراضهم الدنيئة، فنفثوا سمومهم بالوضع والكذب والاختلاق والدس في المرويات الإسلامية عن رسول الله، وعن صحابته، وعن التابعين -رضي الله عنهم أجمعين-. واليهود أصحاب ألسنة أحلى من العسل -كما يقال- هم أصحاب إعلام، لكن قلوبهم مليئة بالسواد من شدة الحقد على الإسلام وأهله، فكانوا يؤلفون القصة ويحبكونها حبكًا تامًّا، ويثيروا الفتنة والفُرقة في خبثٍ ومهارةٍ بين الناس، وينشرون ذلك بين العامة، وينسبونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أن تظاهر منهم نفر للدخول في الإسلام، وقلوبهم خاوية، بل تشيعوا لآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-

وصدورهم طاوية على الحقد على رسول الله، وعلى أهل بيته، وعلى المسلمين عامة. هؤلاء نراهم سكبوا الدموع أسًى وحزنًا مظهرين تأثرهم بما حصل لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالغوا في ذلك في تقديرهم وتقديسهم لآل البيت، فوصلوا بهم إلى أن رفعوا منزلتهم إلى مرتبة النبوة، وصوروا أبا بكر وعمر وعثمان بأنهم سطوا على حقوقهم، واعتدوا على ما لهم من حقوق، واغتصبوا الخلافة التي زعموا أنها حق لعلي وذريته من بعده، فوضعوا في ذلك أحاديث غريبة، ونسجوا قصصًا عجيبةً معظمها منتزع من أصل يهودي. روى صاحب (العقد الفريد) عن الشعبي أنه قال لمالك بن معاوية: أحذرك الأهواء المضللة، وأحذرك شر الرافضة، فإنهم يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود الإسلام وأهله، وكما يبغض النصارى الإسلام وأهله، إنهم لم يدخلوا في الإسلام رغبةً فيه، ولا خوفًا أو رهبةً من الله، ولكن كُرهًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم، وقد حَرَّقهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وذلك أن محبة الرافضة محبة لليهود، قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود. وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه. السبب الثاني في تفشي الإسرائيليات وانتشارها: كثرة القصاصين، القصاصون الذين يجلسون ويقصون على الناس السيرة والتاريخ والقَصص، كثر هؤلاء كثرة أزعجت علماء المسلمين، كما أزعجت بعض أولي الأمر منهم، والقصاصون -بطبيعتهم- يستميلون قلوب العامة ويستهونهم بالغرائب والعجائب والفرائد، فاختلقوا بعض القصص الباطل وروجوا البعض الذي نقلوه، وفي هذا الكثير من الإسرائيليات، والكثير من الخرافات، والكثير من الأباطيل، لكن عامة الناس تلقف هذا بجهلٍ أو بحسن نية، ولم يعلموا أن هذه من الأكاذيب.

وفي القصاصين ومدى تأثيرهم على العامة ذكر ابن قتيبة، قال: إنهم كانوا يميلون وجوه العوام إليهم، ويشدون انتباههم بالمناكير والأكاذيب والغريب من الأحاديث. والعوام الذين يقعدون عند القصاص من شأنهم أن يصدقوا هذا، وهذا فيه عَجب، وكلام غريب على العقول، أو فيه كلام فيه ترقيق للقلوب، فكانوا يحبون هذا، وينزفون العيون، ويدمعون لذلك، فإذا ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران، وفيها وفيها، وفيها من اللؤلؤ، وفيها من القصور، وفيها سبعون ألف قبة، وفي كل قبة سبعون ألف فراش، وفي كل فراش سبعون ألف كذا وكذا، هذه الأخبار المكذوبة كانت تستهوي كثيرًا من العوام، ولا يزال هكذا في السبعين ألفًا والسبعين والسبعين، كأنه يرى أنه لا يمكن أن يكون العدد إلا بهذا، فيصدقه الكثير من الناس. اشتهر من المفسرين بالقصص والإسرائيليات أيضًا أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي النيسابوري، الذي عاش في القرن الرابع والخامس، توفي عام أربعمائة وسبعة وعشرين، كتابه (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وكتابه الآخر (العرائس الحِسان في قصص الأنبياء) كلا الكتابين مليء بالقصص والحكايات التي تستهوي عوامَّ الناس، وكتاب الخازن أيضًا نقل منه الكثير والكثير، مما لا يمت للحقيقة بصلة. ثالثًا: من الأسباب: بعض الزهاد والمتصوفة، قد استباح لأنفسهم وضع الأحاديث والقصص في الترغيب والترهيب، وتأولوا الحديث المتواتر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن كذَب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعدَه من النار)) وقالوا: إنما نكذب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نكذب عليه؛ أي: لترويج دينه، والانتصار لشريعته، لا للطعن فيها، وهذا منهم حصل مبالغةً وهذا كله كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان كذبًا له أو كذب

عليه، فألفوا قصصًا كثيرة، وقالوا: نحن نقولها كذبًا لرسول الله لا عليه، وهذا خطأ. رابعًا: من الأسباب: نقل كثير من الأقوال والآراء المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين من غير تثبت أو تحرٍّ عن رواتها، فمن ثم التبس الصحيح بالسقيم، لما نقلوا أقوال وآراء لا سند لها، وخلطوها بما له سند؛ التبس على الناس، واختلط الحق بالباطل، وصار كل من يقع على رأي يعتمده ويورده، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلًا، دون أن يكلف نفسه مئونة البحث عن منشأ الرواية، وعمن رويت، ومن الذي رواها. قال ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث): وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل القرآن الكريم سورةً سورةً. وقد بحث عن هذا الحديث، وعرف مخرجه حتى انتهى إلى مَن اعترف بأنه هو وجماعة قد وضعوه وكتبوه كذبًا وألفوا ذلك، وهذا الحديث ربما نورده في العبارات، وهو شامل لكل سور القرآن الكريم، وهو حديث معروف أنه مكذوب وموضوع عن أبي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. خامسًا: من الأسباب التي ساعدت على تفشي الإسرائيليات: النقل على أهل الكتاب، أهل الكتاب أصحاب ثقافة، أسلم منهم عدد كبير، منهم الصحابة، ومنهم التابعون، ومشهور منهم: عبد الله بن سلام، وتميم بن أوس الداري، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وأمثالهم، وهؤلاء جميعًا قد حملوا من المرويات المكذوبة والخرافات الباطلة الموجودة في التوراة وشروحها، وكتبهم القديمة التي تلقَّوْها عن أحبارهم ورهبانهم جيلًا بعد جيل، رووا لنا كثيرًا من القصص والحكايات التي لا تصح. هذه الإسرائيليات منها ما يتعلق بأصول الدين والحلال والحرام، وهي التي جرى العلماء من الصحابة والتابعين على التثبت منها، والتحري عن رواياتها، ومنها

ما كان يتعلق بالقصص والملاحم، وبدء الخليقة، وأخبار الأمم الماضية، والفتن، وأسرار الكون، وأحوال القيامة، كل هذا نقل عن هؤلاء، هذه الإسرائيليات رواها أهل الكتاب الذين أسلموا، إما أنهم لا يعرفون حقيقتها، أو ورثوها عن كتبهم السابقة، أو رووها للتحذير منها، وإن كانوا لم ينصوا على ذلك، فتلقفها الرواة ونشروها بين الناس، وتوارثتها الأجيال، ومُلِئت بها كتب التفسير. هذه الإسرائيليات التي رواها أحد الكتاب الذين أسلموا، إما لأنهم لا يعرفون حقيقتها، أو ورثوها عن كتبهم السابقة وملئت بها الكتب الإسلامية، ومنها كتب التفسير كما قلت. سادسًا: ولعله السبب الذي نختم به: وجود عددٍ غير قليل من الخطباء غير المؤهلين علميًّا في المساجد، والذين يغترفون معلوماتهم من أي منهلٍ، ويتلقفون أي حادثةٍ أو قصةٍ، ويلقونها على أسماع الناس من غير أن يتثبتوا أو يتعرفوا على حقيقة ما يقرءون ويبلغون، فيكونوا سببًا واضحًا في نشر الإسرائيليات بين المسلمين، وهذا هو الضلال المبين. أما أثر الإسرائيليات وخطورتها على المسلمين، فإن هذا يتلخص فيما يلي: أولًا: هذه الإسرائيليات أحدثت أثرًا سيئًا، ينعكس على الإسلام والمسلمين للأسباب الآتية: أولًا: أنها تفسد على المسلمين عقائدهم بما تنطوي هذه الإسرائيليات من أباطيل وأكاذيب في حق الله، بما لا يليق بذاته سبحانه، وبما يرد في حق الملائكة، وفي حق الأنبياء والرسل، بما يتنافَى مع العِصمة لهم، وبعض هذه الإسرائيليات كان يصور هؤلاء الرسل صورة استبدت بهم شهواتهم، وملذاتهم ونزواتهم، فأوقعتهم في قبائح وفضائح ما ينبغي أن تليق بهم.

من أمثلة ذلك: ما جاء في كتب السابقين في (سفر التكوين) مما لا يليق بجلال الله وكماله، في قصة نوح يقولون: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور في أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمح عن وجه الأرض هذا الإنسان". كلام ما ينبغي أن يتفوه به بشر، وهذا يعبر عن أن الله -جل وعلا- ندِمَ على خلق الإنسان، وكأنه لا يعلم الأمور قبل حدوثها، ومثل هذا أباطيل طفحت بها الكتب. ومن أمثلة ذلك: ما يروى في قصة أيوب -عليه السلام- من أنه ألقي على مزبلة لبني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، وتنهش منه. هذا كلام لا يليق بنبي كلفه ربه أن يكون بين الناس مبشرًا ونذيرًا. هذه الإسرائيليات نستطيع أن نقول: ثانيًا: إن وجودها في كتب التفسير كاد يذهب الثقة في علماء السلف، من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن التابعين؛ حيث أسند من هذه الإسرائيليات المنكرة شيء كثير إلى سلفنا الصالح الذين عرفوا بالثقة والعدالة، واشتهروا بين المسلمين بعلم التفسير وعلم الحديث، واعتبروا مصادر ومراجع لهذه الأمة، فاتهامهم بهذه الإسرائيليات من أبشع التهم، التي لا تنبغي، ولا تليق. ولذلك عدهم بعض المستشرقين ومن سار في ركابهم من المسلمين مدسوسين على الإسلام، فعلًا هذا الكلام الذي نسب إليهم يجعل الناس يتشككون فيهم، وقد صرف قلوب الأمة عن سلفنا الصالح لمثل هذه التهم التي لا تنبغي، ولا تليق، وهذا يقصد منه التشكيك في علماء الإسلام، والذين تحملوا عبء تبليغه

إلى المسلمين، فيطعنون بهذا في سند الخبر الإسلامي، ويفقدون الناس الثقة في الدين الإسلامي نفسه، ويبعدون الناس عن اتباعه والالتزام والتمسك به. ثالثًا: إن هذه الإسرائيليات في التفسير كادت تصرف الناس عن الغرض الصحيح، والهدف المنشود الذي أُنزِلَ القرآن من أجله، وهو هداية الناس وتوجيههم إلى ربهم وعبوديتهم لله -سبحانه وتعالى- فإن هذا ألهى الكثيرَ عن التدبر في الآيات، وأبعدهم عن الانتفاع بمواعظ الآيات القرآنية العظيمة. رابعًا: إن الإسرائيليات قد صورت الإسلامَ في صورة دين خرافي يعنَى بِتُرهات وأباطيل وأكاذيب لا سند لها من الصحة، ولكنها نسج عقولٍ ضالةٍ وخيالات جماعات مضللة، وهذا يشكك في علماء الإسلام وقادتنا من السلف الصالح -رضوان الله عليهم- وتصورهم بأنهم لا هَمَّ لهم إلا الأباطيل، فنفقد الثقة في هؤلاء. مثلًا: ما رواه وهب بن منبه أنه قال في قصة آدم: "لما أهبط الله آدم من الجنة، واستقر جالسًا على الأرض، عطس عطسةً فسال أنفه دمًا، فلما رأى سيلان الدم من أنفه، ولم يكن رأى قبل ذلك دماء، هاله ما رأى، ولم تشرب الأرض الدم فاسود على وجهها كالحُمم، ففزع آدم من ذلك فزعًا شديدًا، فذكر الجنة وما كان من الراحة، فخر مغشيًّا عليه، وبكى أربعين عامًا، فبعث الله إليه ملكًا، فمسح ظهره وبطنه، وجعل يده على فؤاده، فذهب عنه الحزن، فاستراح مما كان يصيبه". هذه روايات وأمثالها مما يروى في قصة أيوب، وقصص كثير من الأنبياء، هذه أكاذيب، وألقيت من بني إسرائيل على أمة الإسلام، فكانت آثارها سيئة، وكانت خطورتها شديدة.

أقطاب الرواية الإسرائيلية.

أقطاب الرواية الإسرائيلية: إن الذين نقل لنا عنهم هذه الإسرائيليات هم عدد ليس قليلًا، إنهم عرفوا بأن بعضهم كان من الصحابة، وبعضهم كان من التابعين، نستطيع أن نقول: إن المشهور من هؤلاء بما نسميهم أقطاب الرواية الإسرائيلية، في مقدمتهم مَن نقل عنهم بعض الإسرائيليات: عبد الله بن عباس، وأيضًا أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأيضًا عبد الله بن سلام الذي كان من أهل الكتاب وأسلم، وأيضًا اشتُهِرَ عن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه. واشتهر أيضًا من تابعي التابعين: محمد بن السائب الكلبي، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن مروان السدي الصغير، هؤلاء جماعة نقل عنهم الكثير والكثير. أما عبد الله بن عباس، فهو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَبر الأمة وبحرها، وهو صاحب الرصيد الأكبر في علم التفسير من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد دعا له النبي دعوة خاصة عندما قال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)). هل كان ابن عباس يرجع إلى الإسرائيليات، أو يفسر بعض الآيات القرآنية بالإسرائيليات؟ لقد اتهم بأنه كان يفسر بعض الآيات من خلال الإكثار من الأخذ عن أهل الكتاب، وأنه كان يصدقهم فيما يقولون مخالفًا بذلك التعاليم التي وردت عن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. من أبرز من اتهمه بذلك المستشرق الشهير اليهودي "جولد زيهر" وأيضًا تبعه أحمد أمين، ولهؤلاء كلام كثير عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- ونحن عندما ندافع عن عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنه- وهو حبر الأمة، نقول: إن رجوعه إلى مسلمي أهل الكتاب لم يكن بهذه الكثرة التي يحاول أعداء الإسلام أن يصوروها لنا، بل كان ما نقله ابن عباس قليلًا بل أقل القليل، بل إننا لا نتجاوز الصدق إذا قلنا: إن ما نقله كان قليلًا جدًّا. ثانيًا: إن هذا النادر الذي حدث فيه رجوع من الصحابة لأهل الكتاب، لم يكن في أمرٍ يتعلق بالعقيدة أو أمور التشريع، وإذا حدث فكان على سبيل الاستشهاد والتقوية لما جاء في بعض الآيات، ولم يكن يتعلق بأصول العقيدة، ولا بأصول التشريع. ثالثًا: إن الصحابة لم يسألوا أهل الكتاب عن شيء كان للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه كلام، فالصحابة أجل من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله شيئًا، بل كانوا يأخذون على سبيل الاستشهاد فقط. رابعًا: إن الصحابة -وخاصة ابن عباس- كانوا ينهون عن سؤال أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب حرفوا وغيروا وبدَّلوا، وزالت الثقة تمامًا عنهم، فلم يبقَ في الدنيا كتاب سماوي صحيح إلا القرآن، وهو المهيمن على ما عداه من الكتب السابقة، وفيه غُنية عما سواه. أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباسٍ -رضي الله عنها- قال: "يا معشر المسلمين، تسألون أهل الكتاب؟ وكتابكم الذي أنزله الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- أحدث الأخبار بالله

تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا رجلًا منهم قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم". أما ما يذكره هؤلاء الأفاكون من أن ابن عباس سأل عن معنى البرق الوارد في سورة الرعد، فإن هذا على فرض ثبوته لا يتعلق بالعقيدة أو أصول التشريع، وإذا نظرنا إلى هذا الحديث وجدناه ضعيفًا، ولا يصح. هذا ما يتعلق بعبد الله بن عباس الصحابي الجليل. أما أبو هريرة الذي كناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكنية الطيبة، فكانت له حافظة قوية، وكان حفظه الجيد سببًا في طعن الطاعنين عليه، قالوا: إنه كان مكثرًا، وأنه كان وعاء علمٍ لثقافة أهل الكتاب، من هؤلاء الطاعنين عليه: أبو رَية حيث نص صراحةً في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) فقال: إن أبا هريرة كان أكثر الصحابة وثوقًا بمسلمي أهل الكتاب، وأخذًا عنهم، وانقيادًا لهم، وإن كعب الأحبار، الذي أظهر الإسلام خداعًا، وطوى قلبه على يهوديته!!. وهذا افتراء من أبي رية على كعب، وعلى أبي هريرة -رضي الله عنهم أجمعين-. الرد على هذا، نستطيع أن نوجز فيما يلي: إن أبا هريرة لم يكن ساذجًا بالمرة إلى هذا الحد، والدليل على ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يستعمله على حراسة أموال الزكاة، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد ولاه إمارةَ البحرين، وكان أبو هريرة يتصدى للفتوى، وأخذ كثير من الصحابة

والتابعين العلم عنه. قال الإمام البخاري -فيما ذكر ابن حجر في (الإصابة) -: روى عنه الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ مَن روى الحديث في عصره عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أما ما كان يسمعه أبو هريرة من كعب الأحبار، فإن ذلك لا يطعن في أبي هريرة، ولا يدل على سَذاجته؛ لأن أبا هريرة والصحابة كانت لهم مقاييس خاصة ومعايير صحيحة في كل ما يسمعونه، كما روينا عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- ومن هذا أنهم كانوا يُعْمِلون عقولَهم فيما يسمعون وفيما ينقلون عن غيرهم. أما الروايات التي تروي أن أبا هريرة، أو تنسب إليه، فإنها تعامل كروايات غيره، توضع على قواعد القبول والرد، فما كان صحيحًا قُبِلَ، وما كان ضعيفًا فلا بأس برده. عبد الله بن عمرو بن العاص: ذلك الصحابي الجليل، أثنى عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: ((نعم أهل البيت: عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله)) هذا وارد في كتاب (تهذيب التهذيب) أسلم قبل أبيه، وكان عالمًا فاضلًا قرأ القرآن والكتب السابقة، واستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن يكتبَ عنه، فأذن له، فقال: "يا رسول الله: أكتب ما أسمع في الرضا والغضب؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: ((نعم، فإني لا أقول إلا حقًّا)) ". كانت لعبد الله بن عمرو هذه المكانة السامية، ولما كانت له هذه المكانة وجدنا كثيرًا من الروايات الإسرائيلية تُنسب إليه؛ حتى تأخذ مكانتها من الذيوع والشهرة، رغم اشتمالها على الغَث والسمين والصحيح والباطل، فوجدنا من يطعن فيه ويعتبره مخدوعًا من مسلمة أهل الكتاب ككعب الأحبار.

يقول أبو رية: في كتابه (أضواء على السنة): إن عبد الله بن عمرو بن العاص خدعه اليهود، ودل على هذا بحديث البشارة بنبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصف الحديث بأنه خرافة إسرائيلية امتدت وسرت إلى عبد الله بن عمرو بن العاص من أحد تلاميذ كعب الأحبار. هذا الكلام يمكن رده ودفعه: إن الحديث الذي وصف بأنه خرافة أو أنه من وضع عبد الله بن سلام وكعب الأحبار حديث صحيح، شهد له القرآن الكريم، وجاء في أصح مصادر السنة، وهو (صحيح البخاري) ففي القرآن الكريم يقول الله -تعالى-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثََ} (الأعراف: 156، 157) إلى آخر الآيات. أما الحديث في البخاري فقد جاء في كتاب التفسير: باب قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الأحزاب: 45) جاء الحديث عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال: في التوراة: يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحِرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ... ". إلى آخر الحديث. فهل يعقل أن هذا الحديث خرافة، كما يدعي أبو رية وغيره، هذا كلام ليس صحيحًا.

عبد الله بن سلام: ذلك الصحابي الجليل المشهود له بالجنة، وهو من الذين أسلموا من أهل الكتاب، عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف، من ذرية يوسف النبي -عليه السلام- حليف القوافل من الخزرج، وهو إسرائيلي، ثم أنصاري، حبر عظيم من أحبار اليهود، دخل الإسلام عندما قدم رسول الله إلى المدينة -صلوات الله وسلامه عليه- شهد له القرآن بالإيمان والصدق، فقد نزل فيه قول الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (الأحقاف: 10). وروى الإمام البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: "ما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لأحد إنه يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام. قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} ". وأعرف أنه نزلت فيه آية أخرى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد: 43). رغم هذه المكانة العظيمة لابن سلام طعن عليه المغرضون كأبي رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) بمثل ما طعن في عبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة الأجلاء، ويذكر حديث البشارة بالنبي بأنه خرافة، وسبق أن بينا صحة الحديث وثبوته في (صحيح الإمام البخاري). تميم بن أوس الداري: هذا الذي قدم المدينة فأسلم سنة تسعٍ، وهذا الصحابي الجليل الذي طعن فيه أبو رية وغيره، قال عنه: إنه لوث الإسلام بالمسيحية. وهذا قول مخالف للحقيقة، فلقد كان تميم صادقًا عَدْلًا، ومن أهل العلم، ووأهل الفن هم علماء الجرح والتعديل، وهم أدرى به حيث وثَّقوه وعدلوه، ورووا له في أصح كتب السنة.

أما ما يروى عنه أو ينسب إليه من رواياتٍ، فشأنها شأن كل المرويات المختلفة تعرض على قواعد القبول والرد، فما كان منها صحيحًا قبل، وما كان ضعيفًا يُرد، ولا وزر ولا ذنب لتميم فيها، إنما الوزر على من نسبها إليه وروجها عنه. هذا ما اشتهر من أقطاب الرواية الإسرائيلية، ونسب إليهم هذا من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أما طبقة التابعين، فهم أيضًا عدد لا بأس به، نستطيع أن نوجز القول عن اثنين منهم، ألا وهما كعب الأحبار، وهو كعب بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وقال عنه: كان على دين اليهودية فأسلم، قدم المدينة، ثم خرج إلى الشام، فسكن حمص حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان -رضي الله عنه. رماه بعد المعاصرين بالزندقة والنفاق والكذب، كما حدث من أبي رية وأحمد أمين، ومَن سار في فلكهم، والحقيقة: إن هذه الاتهامات مردودة على أصحابها، والرد عليها بشهادة الصحابة له وثنائهم عليه، قال عنه معاوية: "ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين". وثقه علماء الجرح والتعديل، روى له الأئمة الكبار الذين دونوا السنة، كالإمام مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي، وغيرهم كثيرون. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 3 الإسرائيليات (2) - نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (1).

الدرس: 3 الإسرائيليات (2) - نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (1).

تابع أقطاب الرواية الإسرائيلية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الإسرائيليات (2) - نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (1)) تابع أقطاب الرواية الإسرائيلية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أما وهب بن منبه فهو من خراسان، أسلم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن إسلامه، هكذا يروى. ولد باليمن، ولكنه -على كل حال- لم يحظ بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطعن فيه من بعض علماء الإسلام، كالشيخ محمد رشيد رضا، ومِن أحمد أمين الذي يكتب عن علماء التفسير من الصحابة والتابعين. وقد اتهمه الشيخ محمد رشيد رضا وأحمد أمين بالكذب، رغم أنه من العلماء الأفاضل، وإن نسب إليه بعض الراويات، فربما لم يكن يتعمد الكذب أو الغش أو الدس، كما نسب إليه. الرد على هذا الكلام عن وهب بن منبه، وعن كعب الأحبار وغيرهم، نقول: ليس كل ما ينسب إليهم من الإسرائيليات صحيح، فهناك قصص وروايات لم تنقل عنهم أصالةً، إنما نسبت إليهم، ووضعت كذبًا عليهم. ثانيًا: لقد حكم العلماء بالقبول والثقة والعدل على كلام هؤلاء، فأحاديثهم في كتب الصحاح، في كتب السنة، روى البخاري لهم، كما روى لغيرهم، وقال العلماء عن وهب بن منبه: إنه تابعي ثقة، وكان على قضاء صنعاء. قال عنه أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في (الثقات) كفى أن الإمام البخاري روى له بعض الأحاديث من روايته عن أخيه عن أبي هريرة -رضي الله عنهم.

بعد سرد هؤلاء الأعلام من الصحابة والتابعين، ولا ننسى أن ما نسب إليهم فيه افتراء كثير، فهؤلاء الأئمة من الصحابة والتابعين ما نقلوا لنا هذا بهدف الإساءة إلى الإسلام أو إفساد عقيدة المسلمين أو الدس والغش، كما اتهمهم هؤلاء الناس. المشتهرين من تابعي التابعين: هناك اشتهر محمد بن السائب الكلبي، كما اشتُهر عبد الملك بن جريج، وكذا مقاتل بن سليمان، ومحمد بن مروان السدي الصغير. نقول: إن محمد بن السائب الكلبي، وهو صاحب التفسير، وعِلم النسب، وكان سبئيًّا من أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، كذَّبه العلماء، وأجمعوا على تركه، قال أبو حاتم: الناس يجمعون على ترك حديثه، وهو ذاهب الحديث، لا يستقل به. قال النسائي عنه: ليس بثقة، ولا يُكتب حديثُه. على كل حال إذا كان هذا حاله، فكل رواية ينقلها لنا ترد ولا تقبل. أما عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، هذا كان نصرانيًّا فأسلم على ما كان عنده من ثقافة نصرانية، ولما أسلم كان صاحب علم غزير، وكان ثقة، إلا أن ما كان يحدث به كان فيه الغث والسمين، فيعرض ما ينقل عنه على موازين القبول والرد. ما يروى عنه من الإسرائيليات: فنحن نحكم فيه ما عرفناه، ما كان موافقًا لشرعنا يقبل، وما كان مخالفًا يرد ويرفض، أما ما لا يثبت موافقته أو مخالفته، فنتوقف فيه كما سبقت الكلمات في هذا المنهج. أما مقاتل بن سليمان: فكان حقًّا مكثرًا في الأخذ عن أهل الكتاب، وكان يفسر القرآن بما عندهم من نصوص، طَعن العلماء في علمه وعقيدته وتفسيره، وما

نقل عنه يحوي كثيرًا من الإسرائيليات والضلالات والخرافات، وبخاصة ما يتعلق بالتجسيم والتشبيه، وعلى هذا ما ينقل عنه يرفض أكثر. محمد بن مروان السدي الصغير، أجمع العلماء على تركه وكذبه، قال ابن معين عنه: إنه ليس بثقة. وقال غيره: إنه لا يكتب حديثه. بعد هذا نستطيع أن نقول: إن هؤلاء هم أقطاب الرواية الإسرائيلية التي نقلت وسرت إلى كتب التفسير، وإلى كتب الحديث عندنا. إن لكل مفسر في تفسيره منهجًا خاصًّا تجاه الإسرائيليات، فمن المفسرين من يذكر تلك الإسرائيليات بأسانيدها دون تعقيب عليها بتصحيح أو تضعيف، كما فعل شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره. هل هو أخطأ في ذلك؟ نقول: إن حجتهم في ذلك أنه ساق لك السند، ومن أسند لك فقد حملك؛ أي: إنهم أتوا لك بالإسناد، وعليك أن تبحث عن مدى صحتها ومدى بطلانها. من المفسرين من يذكر تلك الإسرائيليات بأسانيدها مع التعقيب عليها غالبًا، كما فعل العلامة ابن كثير في تفسيره، فهذا منهجه، وهو جهد عظيم، إلا أن الحيرة لا تزال تتعلق بالقارئ فيما لم يحكم عليه من الإسرائيليات. من المفسرين من يذكر في تفسيره ما استطاع ذكره، فلا يترك صغيرة، ولا كبيرة، ولا شاردة، ولا واردة إلا أتى بها دون إسناد ودون تعقيب، وهذا أخطر التفاسير؛ لأن القارئ عندما يقرأ هذه الإسرائيليات يتوهم أنها صحيحة أو أنها أخبار موثوق فيها، بينما تحمل في طياتها ما هو مكذوب وموضوع يصل في بعض الأحيان إلى إفساد العقيدة، وأبرز مثال لهذه التفاسير تفسير مقاتل بن سليمان، وتفسير الثعلبي، المسمى (الكشف والبيان عن تفسير آي القرآن) هذا الكتاب

جمع كثيرًا من الإسرائيليات، ويعتبر من المراجع القديمة التي تناقل المفسرون عنها أكثر الإسرائيليات والأقوال الباطلة. من المفسرين من يذكر الإسرائيليات بدون إسناد دون إشارة إلى ضعفها إلا نادرًا عندما يقول: روي أو قيل، ومثال ذلك تفسير الإمام الخازن المسمى (لباب التأويل في معاني التنزيل) وقيل: إنه مختصر من تفسير البغوي، كما نص الخازن في مقدمته على ذلك، وتفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي، كما نص على ذلك ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) إلا أن تفسير الإمام صاحب (معالم التنزيل) الإمام البغوي يعتبر أقرب إلى الصحة، وأقل كثيرًا من الإسرائيليات. من المفسرين من يذكر الإسرائيليات بدون سند؛ لقصد بيان ما فيها من الباطل وتنبيه الناس على خطئها، وإن ذكر شيئًا منها تعقبه بالنقد والبيان، وإبراء الذمة، الذي فعل هذا هو إمام المفسرين بالرأي، هو جمع بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور، وغيره، ألا وهو العلامة شهاب الدين الألوسي في تفسيره (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني). نختم ونقول: من المفسرين الكبار العظماء من سلك في تفسيره تجاه الإسرائيليات مسلك المحارب المنبه، الذي شَنَّع عليها وعلى رواتها، حتى ولو كانوا من طبقة الصحابة، الذين شهدوا الوحي، فعل ذلك الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره (المنار) الذي كنا نتمنى أن يكون قد أتم هذا التفسير وأكمله، هو على كل حال ما فسر إلا قريبًا من ثلث القرآن، وصل إلى قوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 11) فتوفاه الله ولم يكمل تفسيره، نقل في تفسيره كثيرًا من التوراة، وهذا يوهم أنها غير محرفة، لكنه أشار إلى أنها منقولة، وبين أكثرَ ذلك.

نماذج من الإسرائيليات.

بهذا نكون قد طُفنا بنماذج من التفاسير على اختلاف ألوانها، منها ما أكثر من الإسرائيليات دون تنبيه، ومن العلماء من أكثر في تفسيرهم من الإسرائيليات ونبه عليها، ومنهم من أقل، ومنهم من حاربها حربًا ظاهرة. نماذج من الإسرائيليات نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني: قصة هاروت وماروت، قول الله -جل وعلا-: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 102). نعم هذه الآية ورد فيها إسرائيليات كثيرة، الإمام الثعالبي والنسفي ومن سار في فلكهم، ونقل منهم، نقلوا كثيرًا من الإسرائيليات في هذه القصة، والمعلوم أن هذه الآية إنما وردت في بيان ما يحدث أيام سليمان، سنبدأ بتفسيرها الصحيح، ثم نذكر ما تورط فيه أصحاب التفاسير من القصص والإسرائيليات. هذه الآية هي في سورة البقرة، وتفسيرها الصحيح: أن اليهود الذين أوتوا التوراة، نبذوا القرآن بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، ولذلك قبل هذه الآية نعى الله

عليهم وذكر مثالبهم، فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 101) ثم قال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. إن اليهود الذين أوتوا التوراة لم يصدقوا بالقرآن، ورموه وراء ظهورهم استغناء عنه، وقلة التفات إليه، كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: نبذ اليهود كتاب الله، واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرأها الشياطين على عهد سليمان -عليه السلام- وفي زمان ملكه، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيبَ، يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوا منها في كتب يقرؤونها، ويعلمونها للناس. وفشا ذلك في أيام سليمان -عليه السلام- حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان مُلكُه إلا بهذا العلم، وبه سخر الجن، وسخر الإنس، وسخر الريح، وسخر الحيوان، وسخر وسخر قال الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} قال هذا تكذيبًا للشياطين، ودفعًا لما قالته بهتانًا عن سليمان من اعتقاد السحر والعمل به، وأنه سخر الجن وغيرهم بهذا السحر، فنطقت الآية: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} كفروا لاستعمال السحر، وتدوينه وتعليمه للناس وإغوائهم. ثم قالت الآية: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} الجمهور على أن "ما" هنا: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} عطف على السحر؛ أي: أن الجن يعلمون الناس السحرَ، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين، أو عطف على:

{مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}، {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} أي: اتبعوا ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. عن هاروت وماروت، هم علمان من الملائكة، أنزل عليهما علم السحر؛ ابتلاءً من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به كان كافرًا إن كان فيه رد ما لزم فيه شرط الإيمان، إلى آخره. ثم قالت الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي: وما يعلم الملاكان أحدًا حتى يقولا له وينصحاه بقولهم: إنما نحن فتنة، نزلنا ابتلاء واختبارًا للخلق من الله، فلا تكفر بتعلم السحر والعمل به على وجه يكون كفرًا، فتعليم السحر كان هذا فتنةً واختبارًا لهؤلاء الناس، كان الناس يتعلمون السحر من الملكين، وهذا السحر له أثر كانوا يفرقون به بين المرء وزوجه أي: في علم السحر الذي يكون سببًا في التفريق بين الزوجين، وهذا لا يحدث إلا بقضاء الله وقدره بأن يحدث عنده خلاف زوجي أو نشوذ أو ضرر، وهذا ابتلاء من الله -سبحانه وتعالى. {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ} أي: بالسحر. {مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} بعلمه ومشيئته. هذا هو التفسير الصحيح، هاروت وماروت ملكَان، أُنزلَا من السماء لبيان أن سليمان لا يتعامل بالسحر، وإنما نزَل الملكان بالسحر ليعلمَا الناسَ أن سليمان له معجزات وأنه إنما سخر الجن وعالم الريح والطير والحيوان وغيرَ ذلك معجزةً، ولم يكن هذا بتأثير السحر. كما قال بعض العلماء: إن تعليم الملكين للناس لهذا السحر كان أيضًا للعلاج والتخلص به مما وقع من السحرة والشياطين في إيذاء الناس، فكأن التعليم لاختبار الناس، ولبيان الفرق بين السحر والمعجزة، وأن سليمان إنما يتعامل بالمعجزات من ربه، وليس بالسحر، كما أن هذا العلم يستفيد منه الناس في دفع الأذى ودرأ المفاسد، والتخلص من ضرره.

ذكر المفسرون كثيرًا من الإسرائيليات، فالإمام النسفي وغيره ممن نقل عنهم يقول: إن هاروت وماروت كانَا ملَكين، اختارتهما الملائكة لتركب فيهما شهوة؛ حيث إن الملائكة عيرت بني آدم بأنهم أفسدوا في الأرض وقتلوا وكذا وكذا، فكانَا يحكمان في الأرض، ويصعدان بالليل، الملكان، فهويا زهرة فحملتهما على شرب الخمر، فوقعا في جريمة الزنا، فرآهما إنسان فقتلاه، فاختارَا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فهما يعذَّبان منكوسين في جب ببلدة ببابل، وسميت ببابل لتبلبل الألسنة بها. هذا في كتاب النسفي، ونقله عن غيره، والحقيقة ما ذكره النسفي في هذه القصة هو خلاصة ما ذكره المتقدمون، ومنهم ابن جرير الطبري وغيرهم من المفسرين، الذين نقلوا القصة عن الثعلبي وعن غيره. وقد رُوِيَ في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل وغيرهم، ذكرت في كتب التفسير من المتقدمين والمتأخرين وتناقلها الناس. الرد على هذه الإسرائيليات: لا ينبغي أبدًا أن يشك مسلم عاقل فضلًا عن أهل العلم في أن ما ذكر في قصة هاروت وماروت باطل، قال الإمام ابن الجوزي: إنها موضوعة. قال: وما رُفع في هذه القصة حدثنا الفرج بن فضالة أن هذا الشخص ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: إنه يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، كما أن سند ابن داود ضعفه أبو داود والنسائي، وهذا يدل على أن هذه الرواية موضوعة. ألحقها الفرج بن فضالة بسند صحيح.

قال الثعالبي في تفسيره: قال عياض: وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت، وما روي عن علي وابن عباس -رضي الله عنهما- في خبرها وابتلائها، فاعلم -أكرمك الله- أن هذه الأخبار لم يرد منها سقيم -أي: ضعيف- ولا صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس هو بشيء يؤخذ بقياس، والذي منه في القرآن اختلف فيه المفسرون، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود وافتراءاتهم، كما نصه الله في الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}. قال الإمام الفخر الرازي بعدما ذكر القصة بروايتها: واعلم أن هذه الرواية فاسدة، مردودة غير مقبولة؛ لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك، بل فيه ما يبطلها من وجوه: الأول: الدلائل الدالة على عصمة الملائكة، فالله يقول في صفة الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 50) هذه الآية تتناول جميعَ الملائكة في فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات؛ لأن كل من نهى عن فعل فقد أمر بتركه، فهل ما وصف به هاروت وماروت في هذه الرواية الباطلة يعد من قبيل الخوف من الله وامتثال أمره؟ ثانيًا: قال تعالى في وصف الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 26، 27). ثالثًا: قال في شأنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 20) وما كانت صفته كذلك لا يصدر عنه الذنب، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} (فاطر: 1) فهم رسل الله، والرسل معصومون عن كل نقص وعيب، لا يليق بهم لقوله في تعظيمهم: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (الحج: 75).

الثاني: أن قولهم: إنما خيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟. هذا كلام الإمام الرازي. الثالث: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه وهما يعاقبان. أما الإمام القرطبي، فقد قال في قصة هاروت وماروت: قلنا: هذا أثر ضعيف، وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناءُ الله على وحيه وسفراؤه إلى رسله. ثم ذكر نحو ما سبق عن الإمام الرازي في عصمتهم. الإمام ابن كثير: فقد حكم بوضع المرفوع من هذه القصة، قال: وهذا منشؤه روايات إسرائيلية أخذت عن كعب الأحبار وغيره، وألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام زورًا وبهتانًا، والشهاب العراقي نص على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما، فهو كافر بالله العظيم. وقال صاحب (الميزان) بعدما ذكر أسانيد الروايات: وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين، الذين وصَّى القرآن على نزاهة ساحتهم، وطهارة وجودهم عن الشرك، والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر، كل هذا نسب إليهم، وتنسب إلى كوكب الزهرة أنها امرأة زانية مسخت، إنها لأضحوكة، ثم كيف للعقل أن يقبل أن المرأة الفاجرة الزهرة ترفع إلى السماء وتكرم وتصير كوكبًا مضيئًا. هذا إشارة إلى تفاصيل هذه الرواية في الكتب التي ذكرتها مفصلة.

قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد عن خالد عن كذا عن كذا سمعت عليًّا -رضي الله عنه-. كل هذا يدل على أن الروايات نقلوها عن الصحابة والتابعين كذبًا، يقول علي: كانت الزهراء امرأة جميلة من أهل فارس، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما، إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء، فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء، فَمُسخت كوكبًا، وما هذا الكوكب الذي زعموا إلا في مكانه من يوم أن خلق الله السموات والأرض، وأن السماء لما خلقت خُلِقَ فيها كواكب ونجوم وسيارة هي: زحل والمشترى وعطارد والزهرة والشمس والقمر وغيرها: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) فالزهرة موجودة من قبل خلق آدم، وأقسم الله بها في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} (التكوير: 15، 16). ومما يدل على كذب هذه الروايات أيضًا أنها مختلفة، وبينها اضطراب وتعارض وروايات متناقضة، هذه روايات أخرى جاءت في بعض الروايات قال كعب: والذي نفس كعب بيده ما استكملا يومهما الذي نزلَا فيه حتى أتيا ما حرما الله عليهما. وجاء في رواية أخرى عن كعب الأحبار: فأنزلهما إلى الأرض، فركب فيهما الشهوة، فما مر بها شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية "بيدخت" وبالفارسية "ناصيل" وبالعربية "الزهرة" الأثر انظر إليه، التعارض واضح وظاهر، وليس فيها رواية أصح من الأخرى. أيضًا يقول: إن نزول الملكين هاروت وماروت كان بعد زمن سليمان، كما هو ظاهر الآية، وظاهر كلام الإمام النسفي، وجاء في بعض الروايات عن الربيع بن أنس أنهم كانوا في زمن إدريس -عليه السلام- وما جاء أنهما قصدا إلى إدريس -عليه السلام- فأخبراه بأمرهما، وسألاه أن يشفع لهما إلى الله -تعالى- ومن المعلوم أنه بين إدريس وسليمان زمن طويل.

مما يدل على كذب الرواية أيضًا الحديث الموضوع الذي رفع عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله الزهرة، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت". قال فيه ابن كثير: لا يصح، وهو منكر جدًّا. قال المحققون لتفسير ابن كثير: إن الحديث الذي رُفع إلى النبي في شأن الزهرة -أو الزُّهرة- حديث مشكوك في سنده، والأحاديث التي رويت عن السلف لا تخرج عما جاء في هذا الحديث، وهي، وإن صح بعض أسانيدها، فهي من السمعيات التي لا تثبت إلا بخبر عن المعصوم، فالروايات من الإسرائيليات التي لا تستند إلى برهان أو إلى دليل، ومن هنا يظهر لك أيها الباحث أن الروايات في هذا وفي هذه القصة كلها من الإسرائيليات. ثانيًا: نأخذ نموذجًا آخر، ألا وهو ما ورد في قصة أيوب -عليه السلام- هذا الرسول الذي مدحه الله في كتابه بأنه كان من الصابرين، الآيات في شأن أيوب وردت في أكثر من سورة، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83، 84) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 41 - 44). واضح في هذه الآيات أن أيوب -عليه السلام- اختبره ربه بالمرض، فدعا ربه بأدب: أنت أرحم الراحمين، إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجاب الله له دعاءه، كشف عنه الضر، آتاه أهله، ومثلهم معهم، والآيات الأخرى:

{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فالله أمره أن يركض برجله في الأرض، فخرج له مغتسل بارد، تطهر منه واغتسل وشفاه ربه، وعاد إليه، ووهب له أهله، وما كان قد فقد منه في حياته. ولما كان أيوب -عليه السلام- قد تغيبت عنه زوجه في بعض المواقف، وحلف أن يضربها، فالله -جل جلاله- بين له أن يضربها بحِزمة من الأعواد الخفيفة، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} الضغث: هي مجموعة من الأعواد الصغيرة، كحزمة صغيرة، ينفذ الوعد أو يفي بما قال في ضرب زوجته بشيء غير مؤذٍ، ولا يحنث، وأثنى عليه القرآن: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. ورد في هذه القصة إسرائيليات كثيرة، ووردت في كتب التفسير مثلما ذكرنا في ابن جرير، و (الكشف والبيان) للثعلبي ويمكن (الوسيط) أيضًا للواحدي، وتناقلها المفسرون والكثير من المفسرين كالرازي والقرطبي وغيرهما ذكروا القصة لبيان الإسرائيليات فيها. نقول: أولًا: قالوا: سبب بلائه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع. هذا كلام لا يعقل أنه رأى منكرًا فسكت عليه. الرأي الصحيح في هذه البلوى في سبب بلائه أن الله -جل وعلا- ابتلاه لرفع درجاته بلا زلة سبقت، كما قال ربنا في محكم كتابه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت: 2) الاختبار وارد لرفع الدرجات. ثانيًا: قالوا: من الإسرائيليات في امرأته، قالوا: إن امرأته باعت ضفائر شعرها برغيفين؛ لتطعم زوجها الذي لم يجد القوت. هذا الكلام غير مقبول؛ لأن الله -جل وعلا- أكرم من أن يعرض نبيه إلى هذا الحال، فالأنبياء إنما يُبعثون من أوساط الناس، وأكرم الناس، فأين كان أهله وذووه؟ كيف حال المؤمنين حولَه؟ هل تخلوا عنه في بلائه ومحنته؟ لا بد أن الأقارب يحيطون بالإنسان.

ثالثًا: قالوا في الإسرائيليات: إن الخلاف في عدد أولاده وأمواله وعقاره كبير. كلامهم لا نحكم عليه بصدق، ولا كذب، البعض بالغ والبعض قلل، كلام يتناقض، وكذا ما قيل في مدة بلائه كلام كثير، بعضهم قال: سنوات عديدة سبعين سنة وأكثر من ذلك. رابعًا: قالوا في قوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} قالوا: إن الشيطان قد سلط على ماله وعلى ولده وعلى جسده حتى نال منه، والصحيح في معنى الآية هو أن أيوب -عليه السلام- ما كان يوسوس به الشيطان إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، وكان يحمله على الكراهة والجزع، فكان يلتجأ -أي: أيوب- إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء عنه، وبالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. خامسًا: في الروايات التي ذكرت، ذكرت أن مرضه -مرض سيدنا أيوب- كان منفرًا، قيل: إنه صار به المرض إلى درجة أنتن فيها جسده، فأخرجه أهل القرية من القرية إلى كُناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته. كلام باطل؛ لأن الأنبياء معصومون من كل مرض منفر، أو كل مرض معد، وعن كل ما يبعد الناس عنهم، تجوز عليهم نعم الأحوال العادية، الأمراض العادية، لكن غير المنفرة؛ لأن الله -جل وعلا- كلفهم بالبلاغ والرسالة ودعوة الناس، فهذا الكلام يتناقض مع هذه الأسس في حق الرسل. سادسًا: ما قيل: إن امرأة أيوب كانت تخدم الناس، وأنها باعت شعرها وضفائرها، فحلف أن يضربها. هذا الكلام من الإسرائيليات. فالصحيح أن زوج أيوب امرأته ذهبت في حاجة له لقضاء مصلحة لإحضار طعام أو شيء فغابت عليه، وكان حاله لا يتحمل هذا الغياب الطويل، فحلَف عليها ليضربنها. الإسرائيليات في هذا كثيرة، والحقيقة إن الكلام في شأن أيوب كلام

كثير، لا يتسع المقام لذكره مفصلًا، وإلا قرأنا صفحات كثيرة، ووجدنا أقوالًا يطول الحديث عنها. بالرجوع إلى كتب التفسير تعرف القصة بما فيها من الكلام عن سبب بلائه، كفى قول الله -جل وعلا- عنه إنه كان صابرًا: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. نعود إلى قصة موسى -عليه السلام-: نموذج ثالث من الإسرائيليات، وقصة موسى في القرآن الكريم كثيرة، تعددت مواقفها، وكثرت آياتها حتى إن موسى -عليه السلام- ذكر في القرآن أكثر من مائة مرة، على ما أذكر 134 مرة، وهذا يدل على أن حياة موسى مع قومه مليئة بالدروس والعِظات، ومنهج دعوة كامل، كما أن موسى أرسل إلى بني إسرائيل، وبنو إسرائيل قوم اكتملت عندهم جميع الأمراض: العقلية والبدنية والنفسية والتكذيب، كل المواقف التي تناوئ الدعوة وقعت منهم، ولذلك لو تأملت القرآن الكريم، وعرفت أن فيه خمسة وعشرين رسولًا، فأكثر من نصف هذا العدد كان موجهًا لبني إسرائيل، تقريبًا ثلاثة عشر رسولًا من المذكورين في القرآن الكريم، كلهم أرسلوا إلي بني إسرائيل. على أية حال، الإسرائيليات في قصص موسى كثيرة، تبعًا لكثرة ذكر موسى، ومواقف قومه، وما وقع من فرعون، وما وقع من موسى مع قومه كلام كثير. قصة موسى -عليه السلام-: اختلفوا في عدد القتلى الذين ذبحهم فرعون في طلب موسى، كما نعرف، الله -جل جلاله- قال في محكم كتابه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص: 7) كان فرعون قد رأى رؤية وحكاها للكهنة أن رؤيا

أزعجته، فقالوا له: سيولد ولد في ملكك يكون زوال دولتك وملكك على يديه، فأمر بقتل المواليد، ولما انتبه المقربون منه إلى أن قتل المواليد عدة سنين سيقضي على القوة العاملة؛ لأن الموجودين سينالهم الكِبر والشيخوخة، والدولة بحاجة إلى قوة جديدة، فخفف الحكم، يقتل المواليد عامًا، ويبقيهم عامًا آخر. شاءت إرادة الله أن يولد موسى في العام الذي فيه أمر بقتل المواليد، وشاءت إرادة الله أن ينقل موسى إلى بيت فرعون، وأن يتربى بين يديه وفي حِجره، وهو الذي يحمله ويربيه، ولما امتنع موسى عن الإرضاع كان فرعون هو الذي يسعى على طلب مَن ترضعه، ويدفع الميزانية كاملةً لتربية موسى ورعايته وحضانته وهو في بيت أمه، ويعود موسى إلى بيت فرعون؛ بدلًا من أن يكون قرة عين لهذه الأسرة، بل كان كما أخبر الحق -جل وعلا- إن موسى جاء إليهم ليكون لهم عدوًّا وحزنًا. قال الإمام النسفي -وهو أحد رواة الإسرائيليات-: روي أنه في طلب موسى ذُبِحَ تسعون ألف وليد؛ يعني: حرصًا من فرعون على أن يقضي على الوليد الذي سيولد ويعيش ويكون دمار فرعون وذهاب مُلكه على يدي هذا الوليد، أمر بقتل المواليد. اختلف الناس أصحاب الإسرائيليات في هذا العدد، البعض قال: تسعون ألف وليد قتل، هذه الرواية ذكرها عدد من المفسرين: الزمخشري في (الكشاف) والفخر الرازي في (مفاتح الغيب) حتى الإمام النيسابوري في تفسيره على (هامش الطبري) والعلامة الألوسي أيضًا ذكر هذا العدد، هذه الرواية حددت عددًا من القتلى، يختلف مع العدد الذي ذكره رواة أُخر، الإمام الثعلبي في روايته عن وهب بن عتبة قال الثعلبي: وقال وهب: بلغني أنه ذبح في طلب موسى سبعون ألف وليد.

والملاحظ أن الروايتين مصدرهما واحد، وهو رواة أهل الكتاب، والقرآن الكريم لم يبين عددًا لهؤلاء القتلى حتى ولو بالإشارة، إنما ذكر أنه أمر أو علم من القرآن أن فرعون كان جبارًا، وكان طاغيةً، فالقرآن حتى ولو بالإشارة لم يشر إلى كثرة عدد القتلى حتى نفهم منه هذا التحديد، إنما قال ربنا: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 4). والأشياء التي لم يبينها القرآن وأجملها، ولم يفصل دقائقها، يجب أن نقف عندها تمامًا. هذا ما وجهنا إليه علماؤنا أن ما يذكره القرآن مجملًا، نقف عند إجماله، ولا نتعمق أو نتكلف التفصيل، فربما لا نسلم من الزلل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والله أعلم.

الدرس: 4 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (2).

الدرس: 4 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (2).

تسلل الإسرائيليات إلى كتب التفسير.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (2)) تسلل الإسرائيليات إلى كتب التفسير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أولًا: الإسرائيليات خطر عظيم اندس وسرى في كتب التفسير، فكان خطرًا على ثقافة المسلمين عامة وعلى كتب التفسير خاصة؛ لأن اليهود كانوا أكثر أهل الكتاب صلة بالمسلمين، وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، كما ذكر القرآن الكريم، وهؤلاء بحكم عداوتهم للإسلام لم تعوذهم الحيل؛ يعني: لم تنقصهم الوسائل، ولا الحيل، ولا الخداع الذي يصلون من خلاله إلى إفساد عقائد المسلمين، فدخلوا الساحة من أكثر من باب: من الكذب، ومن تحريف الكلم عن مواضعه، ومن الكتمان لما أنزل الله -سبحانه وتعالى- ناهيك عن فرقة منهم تعمدت أن تظهر الإسلام، اعتنقت طائفة منهم الإسلام، ليس حبًّا في الإسلام، ولكن رغبة في القضاء عليه، وتحريفه، وإظهاره أمام الناس بالأساطير والخرافات والأباطيل. ونعلم جميعًا قصة عبد الله بن سبأ، هذا الرجل اليهودي الأصل، دخل الإسلام ليضل من أمكنه من المسلمين، كما قال الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) قال: دخل ابن سبأ الإسلام ليضل المسلمين، فمال إلى طائفة رذلة كانوا يتشيعون لعلي، كانوا يقولون بإلهيته، على نهج ما قال أحد أتباع المسيح بولس لما قال لأتباعه أن يقولوا بإلهية عيسى -عليه السلام- مع أنه منزه عن ذلك. فالقرآن الكريم يبين أنه لا ألوهية إلا لله -جل وعلا- وأن الله سائل عيسى -عليه السلام-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (المائدة: 116) والآيات كثيرة ليس بصددها الرد على شبهات هؤلاء.

على كل حال هذه الطائفة من ابن سبأ وأتباعه، قصدت إلى إدخال قدر كبير من الأباطيل في ثقافة المسلمين للنيل من دين المسلمين، ومن مكانة المسلمين. كيف تسللت الإسرائيليات إذًا إلى التفسير؟ هذا أمر يرجع إلى عصر الصحابة -رضي الله عنهم- وذلك لأن القرآن يتفق مع التوراة والإنجيل في أمور كثيرة، في العقائد، وفي الأخلاقيات، وكذلك في بعض القصص؛ يعني: هناك قصص ذكر في التوراة والإنجيل وذكر في القرآن مع فارق واحد، هو أنه ذكرت هذه القصص ذكرت في القرآن الكريم على وجه الإيجاز، بينما كان في التوراة والإنجيل بسط وتفصيل لبعضها. فكان من مصادر التفسير عند الصحابة أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، غير أن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا على فطنة؛ إذ لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شيء، ولم يقبلوا منهم كل شيء، وإذا ما عرضنا بعض الأمثلة أمامنا روايات، فهناك ما ورد بين الصحابي الجليل أبي هريرة وكعب الأحبار، وما ورد أيضًا بين أبي هريرة وعبد الله بن سلام. والروايات في هذه كما ذكرها الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئًا، إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها)) اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية، فهل في جمعة واحدة من السنة أو في كل يوم جمعة؟ فنجد أبا هريرة -رضي الله عنه- يسأل كعب الأحبار عن ذلك، فيجيبه بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا، ويبين له أنها في كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة فيرى الصواب مع أبي هريرة، فيرجع إليه.

المثال الآخر: أبو هريرة أيضًا يسأل عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة: فمتى تكون؟ ويقول له: "أخبرني، ولا تضن علي. فيجيبه ابن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((لا يصادفها عبد مسلم، وهو يصلي)) وتلك الساعة لا يصلي فيها أحد، فيجيبه ابن سلام بقوله: ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من جَلَس مجلسًا ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي)) ". انظر إلى هذه المراجعات بين أبي هريرة وكعب، وبين أبي هريرة وبين ابن سلام، كلها تدل على أن الصحابة كانوا يسمعون، ويتناقشون مع أهل الكتاب، ويتحرون الصواب ما استطاعوا، لا يقبلون كل ما يقال لهم عن أهل الكتاب، إنما كانوا يزينون ما يقولونه، إن وافق ما عندنا كانوا يصدقون، وإن خالف كانوا لا يصدقون. كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحًا لقصة أو بيانًا لما أجمله القرآن الكريم منها، يعرفون التفصيل، ويتوقفون فيما يلقى إليهم بالصدق أو الكذب عملًا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم و {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ... } الآية (البقرة: 136)))، كما أن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسألوهم عن أشياء تتعلق بالعقيدة أو تتصل بالأحكام إلا إذا كان على وجه الاستشهاد والتقوية، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعًا من اللهو أو العبث، يعني: ما كان صحابة رسول الله يتساءلون عن الأمور التي لا جدوى لها عن لون كلب أهل الكهف، ومثلًا عصا موسى كانت من أي شجر، الطير الذي كان أحياه الله لإبراهيم ما أسماؤه، هذه الأمور لا تسمن ولا تغني من جوع، هذا مبلغ رجوع صحابة رسول الله إلى أهل الكتاب.

أما التابعون، فالأمر يختلف، لأن التابعين توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب، ولم يلزموا أنفسهم بالمنهج الذي كان عليه سلفهم من تمحيص الأخبار، ووزنها بميزان الشرع الدقيق، فكثرت في أيامهم الروايات الإسرائيلية في التفسير، ويرجع ذلك أيضًا لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وميل نفس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين، أرادوا أن يسدوا الثغرات القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود وعند النصارى، فحشوا كتب التفسير بكثير من القصص المتناقض أو الباطل أو الذي يتصادم مع بعض الآيات القرآنية. من هؤلاء: مقاتل بن سليمان، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وغير هؤلاء. ثم جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرطوا في الأخذ منها، إلى درجة جعلتهم يقبلون كل شيء، لا يردون قولًا، ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يسمعون، وكل ما يروى لهم، وإن كان يخالف العقل أو الشرع، إلى أن جاء دور التدوين للتفسير، لا سيما التفسير بالمأثور، فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلي، الذي كاد يصد الناس عن النظر في آيات الله والاهتداء بهديه. وكان عصر ما بعد التابعين مليئًا بالروايات الإسرائيلية، ونقل كثير من المفسرين قصصًا وروايات في كتبهم مما يتنافى مع عصمة الأنبياء، وقد ساعد على هذا أناس نقلوا لنا هذا، نشك في عقيدتهم، بل إن رجال الحديث والكتب التي تحدثت عن الرجال بينت أنهم اتصفوا بالكذب، أمثال محمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن مروان السدي الصغير، بالإضافة إلى مقاتل بن سليمان، الذي ذكر آنفًا.

أما الكلبي فكان سبئيًّا متسترًا بحبه أهل البيت، قال ابن حبان: قد كان الكلبي سبئيًّا، من أولئك الذين يقولون أن عليًّا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا، ويملأها عدلًا كما ملئت جورًا، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها. وقال أحمد بن زهير: قلت لأحمد بن حنبل: يحل النظر في تفسير الكلبي؟ قال: لا. وذكر السيوطي الإمام العلامة أن أوهَى الطرق عن ابن عباس طريقة الكلبي عن أبي صالح، فإن أنضم إليها رواية محمد بن السدي بن مروان السدي الصغير، فهي سلسلة الكذب. أما مقاتل بن سليمان فإنه متهم بالتجسيم، قال ابن حبان: كان مقاتل يشبه الرب بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث كما كان متهمًا في علمه. وقال يحي بن معين: مقاتل بن سليمان ليس حديثه بشيء. وكذا قال ابن حنبل عنه. وهكذا إخوة الإسلام كثرت الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير بَيْد أنها كانت مسندة؛ يعني: كانت الروايات تذكر بأسانيدها، وحجة من ذكر هذه الروايات ذكر السند على حد قول من قال: من أسند فقد حملك، من ذكر لك الرواية بسندها، فربما خرج من التبعة؛ فأنت تستطيع أن تقيّم السند، وتحكم على درجة الحديث، وفَعَل هذا ابن جرير وغيره من المفسرين. ثم حصلت الطامة الكبرى عندما جاء بعد ذلك من المفسرين من روى هذه الإسرائيليات محذوفة السند، ولم يتحر الدقة فيما ينقل، فكان ذلك بلاءً وشرًّا مستطيرًا؛ لأن حذف السند وحذف الأسانيد جعل من ينظر في الروايات وفي هذه الكتب يظن أنها صحيحة، فكان يعتقد صحة كل ما جاء فيها؛ ثقةً منه بأصحابها الذين نقلوها، وجاء من نقل عنهم كل ما حوته رواياتهم من الأكاذيب والأباطيل معتقدين صحتها وصدقها، فامتلأت كتب التفسير بالإسرائيليات.

حكم رواية الإسرائيليات.

حكم رواية الإسرائيليات هل يجوز رواية الإسرائيليات؟ نحن قسمناها إلى ثلاثة أقسام، باستعراض النصوص الشرعية الخاصة بالتحديث عن بني إسرائيل نجد أن هناك نصوصًا في القرآن والسنة تدل على المنع من الأخذ عن أهل الكتاب، كما أن هناك نصوصًا تدل على الجواز والإباحة. نستعرض النصوص التي دلت على المنع، ثم نستعرض النصوص التي تدل على الإباحة، ثم نجمع بين الروايات، ونوفق ونستخرج من هداياتها الرأي الصحيح. النصوص التي دلت على المنع كثيرة، منها: الآيات التي تدل على تحريفهم لكتبهم، وأفقدتنا الثقة فيها: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75) وقوله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (النساء: 46) وقوله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (الأنعام: 91). وعن النصارى وحدهم قال -جل وعلا-: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وعن النصارى واليهود عنهما معًا جاءت آيات، منها قوله سبحانه: {يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15) آيات كثيرة في هذا المعنى.

ومن الأحاديث: ما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده قال: أتى عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب النبي، وقال: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً، لا تسألوهم عن شيء يخبرونكم بحق فتكذبوا أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني)) وأحاديث كثيرة في البخاري وغيره، ها هو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويقرءونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا})) ". ومنها أيضًا: ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدث؟ تقرءونه محضًا -أي: خالصًا- لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلًا يسألكم عن الذي أنزل عليكم". والحديث العام الذي رواه ابن مسعود أيضًا، وذكره ابن حجر أنه قال: "لا تسألوا أهل الكتاب، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم، فتكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل". أحاديث صحيحة، وآيات صريحة، كلها تدل على المنع من الأخذ عن بني إسرائيل. أما الطائفة الثانية، وهي النصوص الدالة على الجواز والإباحة بالأخذ من بني إسرائيل، فهي كثيرة أيضًا، منها قول الله سبحانه: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (البقرة: 211) وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يونس: 94) ومن الآيات أيضًا قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) آيات صريحة.

ومن الأحاديث أيضًا أحاديث كثيرة، تلك الأحاديث التي تدل على أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت تستدعيه بعض المواقف، فيستمع لما عند اليهود، جاء في (مسند أحمد) الحديث: حدثنا إسماعيل، عن أبي صخر العقيلي، حدثنا رجل من الأعراب قال: "جاءت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فرغت من بيعتي قلت: لألقين هذا الرجل، فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أثنائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرأها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت، كان له ولد يعاني سكرات الموت، فكان الولد جميلًا كأحسن الفتيان وأجملهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لليهودي: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي)) فقال: -أي: اليهودي- برأسه هكذا -أي: لا- فقال ابنه، الذي يعاني سكرات الموت، أنطقه الله نطق فقال: إي، والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك، ومخرجك يا رسول الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أقيموا اليهودي عن أخيكم))، ثم ولي الرسول كفنه والصلاة عليه". قال العلامة ابن كثير: هذا حديث جيد قوي، له شاهد في الصحيح عن أنس. ومن أحاديث الجواز الحديث المشهور قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) حديث في البخاري في كتاب الأنبياء. وإذا ما تصفحنا الأحاديث، نراها كثيرة، فثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب؛ يعني: مجموعة من كتبهم، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث الذي أباح التحديث عنهم، كتب ذلك صاحب (مقدمة في أصول التفسير) ابن تيمية، كل هذا يدل على الجواز، فقد أباح الله لنبيه أن يسأل أهل الكتاب، وكذا أباح لأمته أن يسألوا عما

هو مقرر شرعًا، وانظر قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (الرعد: 43) والمراد بـ {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} هم علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كما قال أكثر المفسرين. بعد هذا نصوص منعت، ونصوص وافقت وأباحت، هل هناك توفيق بين النصوص؟ نعم، إن أمامنا الآن نصوص أجازت الأخذ عن بني إسرائيل، تقابلها نصوص منعت الأخذ عن بني إسرائيل بأنهم حرفوا كلام الله من بعد ما عقلوه، وأخفوا منه الكثير، ونسوا حظًّا مما ذكروا به، نصوص هذه في جهة، وتلك في جهة أخرى. وللتوفيق بين هذه النصوص نقول: إن ما جاء منها موافقًا لشريعتنا، فإنه مقبول، وتجوز روايته، وعليه تحمل النصوص القرآنية التي تحمل في طياتها جواز الرجوع إليهم، وكذلك حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج)) وسائر النصوص الأخرى في هذا المعنى. أما ما جاء مخالفًا لشريعتنا، فلا يُعقل أن تحمل عليه النصوص الشرعية الدالة على الرجوع إليهم والتحديث عنهم؛ لأن ما ينقل عنهم كذب، ورواية المكذوب غير جائزة إلا إذا كانت الرواية مقترنة ببيان كذب ما فيها، وعلى هذا تحمل الأحاديث والآيات التي تدل على المنع من الأخذ عن أهل الكتاب، كالآيات التي تحدثنا عنها، والأحاديث كذلك. أما ما سكتت عنه شريعتنا، فلا وسيلة لنا للجزم بتصديقه، ولا بتكذيبه أيضًا، وعليه فلا يسعنا إلا التوقف في أمره، وعليه ينطبق حديث: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)).

بعد هذا نستطيع أن نقول: مع التوقف عن التصديق وعن التكذيب، الصنف الثالث الذي لا نؤيده، ولا نعارضه، المسكوت عنه، هل تجوز روايته؟ الإسرائيليات التي سكتت عنها شريعتنا، هل يجوز روايتها؟ نقول: اختلف العلماء في ذلك، فبعض العلماء أجاز روايةَ هذا النوع من الإسرائيليات، ومن العلماء الذين أجازوا ذلك الإمام ابن تيمية، وأيضًا وافقه الأستاذ الدكتور الذهبي -عليه رحمة الله- حيث يقول الشيخ الذهبي: وما سكت عنه شرعنا توقفنا فيه، فلا نحكم عليه بصدق، ولا بكذب، وتجوز روايته؛ لأن غالب ما يروى من ذلك راجع إلى القصص والأخبار لا إلى العقائد والأحكام، وروايته ليست إلا مجرد حكاية له، كما هو في كتبهم، أو كما يحدثون به بصرف النظر عن كونه حقًّا أو غير حق. لكن بعض العلماء الآخرين قالوا: لا يجوز رواية هذا النوع من الإسرائيليات، من هؤلاء الدكتور عبد الوهاب فايد، وآخرون سأذكرهم الآن؛ حيث يقول: ولكنني أرى هذا القسم المسكوت عنه، وهو الذي لا نعلم صدقه، ولا كذبه، لا تجوز روايته، بل يجب أن نتوقف في روايته، كما توقفنا في قبوله؛ لأن روايته توهم قبوله والتصديق به، وما دمنا قد توقفنا في قبوله، فمن الأحوط أن نتوقف كذلك في روايته، إذًا فالمقياس في القبول والرواية واحد، وهو ما ورد من نصوص في القرآن أو السنة، فما كان من الإسرائيليات موافقًا لذلك قبلناه وأجزنا روايته، وما كان منها مخالفًا لذلك رددناه أخذًا، وأبطلنا روايته، وما كان مسكوتًا عنه في ديننا؛ بحيث لا يكون في نصوص القرآن أو السنة ما يوافقه، ولا ما يخالفه توقفنا في قبوله؛ عملًا بالحديث الشريف، وأرى كذلك أن نتوقف في روايته قياسًا على توقفنا في قبوله وسدًّا للذريعة.

والحقيقة أن النفس تميل إلى عدم رواية الإسرائيليات فعلًا، أميل إلى رأي أستاذنا الدكتور عبد الوهاب فايد؛ لأن الروايات التي سكتت عنها شريعتنا، فالأولى أن نسكت عنها كذلك، فلا نؤيد ما يفعله كثير من المفسرين يأتون بالإسرائيليات المسكوت عنها، ويفسرون بها النص القرآني، فإن ذلك يوهم أو يعني تفصيلًا لما أجمل أو تبيينًا لما أبهم، وهذا يتنافى مع الحديث أيضًا: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)). نقول أيضًا: لا منافاة بين كون الرواية الإسرائيلية صحيحة السند أو حسنة أو ثابتة، وبين كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وخرافاتهم، فهي صحيحة السند إلى ابن عباس أو إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، أو إلى مجاهد أو عكرمة أو سعيد بن جبير، لكنها ليست متلقاة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بالذات، ولا بالواسطة، إنما هي متلقاة عن أهل الكتاب الذين أسلموا، فثبوتها إلى من رويت عنه شيء، وكونها مكذوبة في نفسها أو باطلة أو خرافة شيء آخر. بعض الأحاديث التي فيها موافقات وفيها مخالفات فيما مضى: نقول: إن الحديث الذي أورده جابر فيما مضى، والذي رواه أبو هريرة أنهم كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها، نريد أن نلقي نظرة عابرة، الحديث الذي رواه جابر، والذي يفيد نهي المسلمين عن سؤال أهل الكتاب، السبب في نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك أن ثقافات أهل الكتاب لا يوثق بها؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وبدلوا الكتب التي أنزلها الله على رسلهم، وفيها اضطرابات وفيها بلبلة، فهذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه، كامل مهيمن، لا ينقصه شيء، فإذا لم يوجد فيه نص، ففي النظر والاستدلال غنى عن سؤالهم، الذي يدخل فيه البعض.

أما حديث أبي هريرة الذي يفيد أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية، وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر المسلمين ألا يصدقوهم، ولا يكذبوهم، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب مما يكون محتملًا للصدق والكذب؛ إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين السالم من التحريف وغيره، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: وخصص النهي هذا في هذا الحديث بقوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم)) إلى آخره، ولذلك نبه على هذا الإمام الشافعي أيضًا فقال: وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك. أما الحديث الذي أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو، والذي يفيد أن النبي أباح للمسلمين أن يحدثوا عن بني إسرائيل، فهذه الإباحة بعد أن أصبح المسلمون لا يُخشى عليهم مما عند أهل الكتاب من أخبارهم، وإباحة التحدث عن بني إسرائيل إنما تنصرف إلى المسكوت عنه في شرعنا، ويحتمل الصدق والكذب، وعلى ذلك يحمل حديث عبد الله بن عمرو من الزاملتين اللتين أصابهما الكتيبين الذين وجدهما يوم اليرموك، أما ما يقطع بصدقه أو كذبه، فلا يحمل عليه هذا الإذن. وقال الشافعي -رحمه الله-: من المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجيز التحدث بالكذب، فقوله: ((حدثوا عن بني إسرائيل)) أي: بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه، فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم)) ولا يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه. مما تقدم نستنج أن الحكم تدرج من المنع إلى التوقف، ثم إلى الإذن بالحديث عنهم فيما لا يعلم صدقه أو كذبه، وكل مرحلة من هذه المراحل كان لها ما يدعو إليها، قال العلامة ابن حجر، يوفق بين تلك المراحل الثلاث: وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية؛ خشيةَ الفتنة، ثم لما زال المحظور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.

قصة موسى -عليه السلام- مع بنات شعيب، وما ورد في تعيين أسمائهم.

ومن كلام ابن حجر يفهم أن النهي عن الرجوع إلى أهل الكتاب كان ذلك في مبدأ الإسلام؛ مخافةَ الفتنة والتشويش، وأن الإذن والإباحة كان بعد استقرار أصول الشريعة الإسلامية، وزوال المحظور، إذن فلا تعارض بين هذه النصوص، والله أعلم. ويقول الدكتور محمد أبو زهرة: ويرى بعضهم أن معنى حديث ابن عمر: ((حدثوا عن بني إسرائيل)) بما يثبت لديكم كذبه في المواعظ والقصص، لا في العقائد والأحكام، وحمل الحديث على هذا المعنى؛ يعني: التحديث عن بني إسرائيل بما لا يعلم كذبه، ولا صدقه في المواعظ والقصص، أما ما يعلم كذبه فلا بد من من التنصيص عليه، نعم ما لم يثبت كذبه عندنا نوعان: أحدهما: ما ثبت صدقه، وهذا تجوز حكايته باتفاق، ولا ينبغي أن يخص بالمواعظ والقصص. وثانيهما: ما لم يثبت صدقه ولا كذبه، ولا فائدة تعود على المسلمين من التحديث بهذا النوع، فشرعنا فيه الكفاية، ولا نحتاج إلى مثل هذا، وكذا مال إلى هذا الرأي فضيلة الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- فإنه رأى عدم الخوض في ذلك؛ صيانة لكتبنا وتراثنا مما يفهم أنه حق، وليس كذلك. والله أعلم. قصة موسى -عليه السلام- مع بنات شعيب، وما ورد في تعيين أسمائهم نماذج من الإسرائيليات: قصة موسى -عليه السلام-: فإن في قصص موسى في القرآن دروسًا وعبرًا كثيرةً، كما أن كتب التفسير حوت كثيرًا من الإسرائيليات لا بد من بيانها لا سيما أن موسى هو أكثر الأنبياء ذِكرًا في القرآن الكريم، وهو بهذا له مواقف كثيرة كثيرة، وكل موقف له فيها منهج دعوة ومنهج هداية، والقرآن الكريم إنما يذكر ذلك لأمة الإسلام؛ لنأخذ منها العظة

والعبرة، كما قال ربنا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111). من المواقف التي وردت في شأن موسى وفيها دروس وعظات، كما أن فيها أيضًا كثيرًا من الإسرائيليات في التفسير، العظات والدروس من الآيات، لكن التفسير ما خلا من الإسرائيليات. قصة موسى -عليه السلام- مع بنات شعيب: الآيات في هذا هي قول الله -جل وعلا-: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (القصص: 25 - 28). الآيات فيها دروس كثيرة وعظات، فموسى القوي الأمين، والحياء من بنات شعيب، وزواج موسى من واحدة منهما، وقال أبوها: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} كانت الأجرة والصداق أن يعمل موسى عند والد الفتاة ثماني حجج، فإن أتم عشرًا، فهذا من عنده. والدروس واضحة في الآيات، لكن كتب التفسير سار إليها بعض الإسرائيليات في هذا، فالإمام النسفي وأبو السعود وابن جرير وغيرهم تكلموا إلى أن صهر

موسى هو شعيب -عليه السلام- ويقول ابن كثير: وهذا ما ذهب إليه كثير من المفسرين، والطبري يقول روايةً عن الحسن: يقولون: شعيب صاحب موسى، ولكنه سيد أهل الماء يومئذٍ. وأجيب عنها: بأن شعيبًا -عليه السلام- كان قبل زمان موسى بمدة طويلة، لأنه قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} (هود: 89) وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل إبراهيم -عليه السلام- بنص القرآن الكريم، وقد علم أنه كان بين موسى والخليل إبراهيم مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. وما قيل: إن شعيبًا عاش مدة طويلة، إنما هو احتراز من هذا الإشكال، وورد في رواية الحسن: ولكنه سيد أهل الماء يومئذٍ، كيف يكون شعيب -عليه السلام- سيد أهل الماء، وتنتظر ابنتاه بدون سقي حتى يصدر الرعاء؛ أي: يرجعون بماشيتهم ويتمنون سقيها، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص: 23). من الجواب أيضًا: لو كان صهر موسى -عليه السلام- هو شعيب لما انتظرت ابنتاه السقي حتى ينتهي الرعاء ويصدر، وله رهط كبير، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} (هود: 92). من الإجابات أيضًا: لم يذكر حديث صحيح، ولا نص قاطع يفيد بأن شعيبًا هذا الذي هو الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان هو صهر موسى -عليه السلام- كل ما ورد فيه لا يقوى إلى درجة الاعتبار في مثل هذا الموضوع، ولا يكتفى فيه بالشهرة، وكثرة أخذ المفسرين به؛ لأن ذلك وحده لا يكفي، وإنما المعول على ذلك النقل الصحيح من المصادر المعتمدة شرعًا، وهي الكتاب والسنة.

القول الفصل في هذه القضية: إن كان الكلام الذي سبق ذكره ليس فيه جدوى كثير، كون شعيب هو الرسول الذي أرسله الله، وذكر اسمه في القرآن الكريم من بين خمسة وعشرين رسولًا أو ليس غيره، يعني: قضية لا جدوى من ورائها كثير، لكن يرى العلامة ابن جرير الطبري يقول: التوقف في تعيين صهر موسى -عليه السلام- هو الأفضل، وهو الأسلم، وهذا هو رأي ابن جرير، حيث يقول: إن تعيين صهر موسى مما لا يدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر بذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله -جل ثناؤه-: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ويفهم أنه كان رجلًا صالحًا، لكن اسمه لم يثبت عنه من مصدر صحيح. وأما الأثر الذي ذكره الإمام النسفي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: فقد رواه الحافظ ابن كثير هكذا: قال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال: {أَكْرِمِي مَثْوَاه} (يوسف: 21) وصاحبة موسى حين قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ". وهو الموافق للصواب؛ إذ إنه بدون تعيين لاسم أبيها. ما ورد في كتب التفسير من تعيين أسماء بنات شعيب، هل ورد في تسميتهم نص يعتمد عليه؟ الحقيقة ذكر المفسرون ومنهم الإمام النسفي أن كُبراهما كانت تسمى صفراء، والصغرى صُفيراء، وأن موسى -عليه السلام- تزوج صفراء الكبرى. هكذا ذكر النسفي، ولكن هذا الذي ذكره الإمام النسفي يتنافَى مع ما رواه الطبري عن طريق وابن جريج عن شعيب الجبائي، قال: اسم الجاريتين: ليا

وصفورا، وامرأة موسى هي صفورا بنت يثرون كاهن مدين، والكاهن حبر. كما روى الطبري عن ابن إسحاق بنحوه، وقال: إن اسم الثانية شرفا ويقال: ليا. والأولى عند ذلك عدم التعيين في اسم الجاريتين؛ لأن طرق روايات تعيينها غير صحيحة، فلم تثبت، وإن ابن جريج وابن إسحاق سبق أن ذكرنا أنهما يرويان الإسرائيليات، وإذا كان القرآن الكريم لم يحدد اسم إحداهما، فيجب علينا ألا نخوض فيما لم يذكره القرآن، وأن نتوقف عندما أجمل القرآن الكريم؛ إذ لا فائدة ولا جدوى من الخوض والتنطع، أو البحث والتقصي وراء ما أجمله القرآن الكريم، فالعظة والدرس فيما أجمل، ولا فائدةَ من تقصي تفاصيل ما أجمله أو بيان ما أبهمه القرآن الكريم، ففيه العظة والعبرة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 5 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (3).

الدرس: 5 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (3).

قصة عصا موسى -عليه السلام-، وقضية الأجلين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدر س الخامس (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (3)) قصة عصا موسى -عليه السلام-، وقضية الأجلين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: نذكر أن كتب التفسير التي عُنيت بالإسرائيليات، أو ذكرتها سواء بحسن قصد أو بعدم تعمد، ابن جرير الطبري (معالم التنزيل) للبغوي، (لباب التنزيل) للخازن، ابن كثير القرطبي، أبو السعود، النسفي، هذه الكتب مع أن ابن كثير من أميزها وأفضلها؛ إذ أنه عقَّب على كثير مما ذكر، ومحَّص كثيرًا من الروايات إلا أن أكثر ما ورد في هذه الكتب لا يزال يحتاج إلى تنقية. وردت روايات بشأن العصا مع صِهر موسى -عليه السلام-: ورد في تفسير النسفي: أن موسى -عليه السلام- هو الذي أخذ العصا بعدما ردَّها سبع مرات، وأن هذه العصا توارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب -عليه السلام- فكان مكفوفَ البصر فلما مسَّها هداه الله وأكرمه الله بها، وأنه ضَنَّ بها -عليه السلام. وفي رواية الطبري: أن العصا استودعها ملِك في صورة رجل عند شعيب، وأن الذي أعطى موسى العصا ابنة شعيب، وفي رواية أخرى للطبري: أن العصا هي التي طارت إلى موسى، وليس موسى ولا ابنة شعيب أخذها أو أعطتها له، وهي رواية مقاتل عند الثعلبي في قصصه. وهناك رواية أخرى ثالثة عند الطبري: أن الذي أعطى العصا لموسى هو جبريل، ولا شك أن تناقض هذه الروايات واختلافها يدل على بطلانها.

ونستطيع أن نقول: إن إبطال هذه الروايات يتأتى من وجوه: هذه الروايات كلها ضعيفة، فرواية النسفي عن طريق محمد بن السائب الكلبي وهو معروف بالضعف، ورواية الطبري الأولى من طريق السدي وهو ضعيف أيضًا، والروايات الأخرى تأتي عن طريقهما، وهذان الراويان مشهوران برواية الإسرائيليات، كما أن رواية الإمام النسفي ذكرت أن شعيبًا كان مكفوفًا، وفي هذا وصف للأنبياء بما لا يليق بهم؛ إذ إن العمى نقص بشري، والأنبياء منزهون عن كل نقص بشري؛ لأنهم يرسلون إلى الناس، ولا بد أن يكونوا مع الفطانة، والتبليغ، والصدق، والأمانة يكون شكلهم مقبولًا وطيبًا، لا يقدح في أداء رسالتهم. ثالثًا: نقول: لقد ورد في رواية النسفي أن موسى -عليه السلام- عرف قيمة العصا، وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18) أن موسى -عليه السلام- لما ذكر بعض المآرب شكرًا أجمل الباقي؛ حياءً من التطويل، أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام، والمآرب الأخرى أنها كانت تماشيه، وتحدثه، وتحارب العدو والسباع، وتصير رِشاء فتطول بطول البئر أي: كالحبل الذي يُنزل به الدلو ليملأ به الماء، وتصير شعبتاها دلوًا، وتكونان شمعتين بالليل وتحمل زاده ويركزها، فتثمر ثمرة يشتهيها، ويركزها فينبع الماء، فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوامّ. هذا تكلف صعب وتعسف بالغ الشدة، إذ لو كانت كذلك لما استنكر موسى -عليه السلام- صيرورتها ثعبانًا، أو حيةً تسعى، أو جانًّا كما كان يفرّ منها هاربًا، ويولي مُدبرًا. إذًا فكل ذلك من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الأخبار والقصص، وكذا قولهم: أن العصا كانت لآدم -عليه السلام- أو أعطاه إيَّاه جبريل -عليه السلام- وأيضًا بينما ذكره الإمام النسفي في شأن العصا، وبين ما جاء في القرآن الكريم تناقض واضح،

ففي قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} (طه: 17 - 23) تدل هذه الآيات على أن موسى -عليه السلام- لم يكن يعرف ما في العصا من أسرار، وإنما عَرَف ذلك بعدما ألقاها بأمر ربه، ولما تحولت إلى حية تسعى خاف منها، فأم َّ نه الله. وكون العصا آية من آيات الله الكبرى يبطل كل ما ذكر فيها من روايات، فإن العصا عصى عادية تمامًا، وليست كما صوروا، وقد صوروها ووصفوها بكل هذه الأوصاف التي لا ت ُ تصو َّ ر قبل أن يوحى إلى موسى -عليه السلام - وكانت العصا آية ومعجزة لموسى بعد الوحي، كما أن هناك فرقًا بين المقامين كما جاء في حال موسى والعصا في سورة "النمل" و"القصص". قال الإمام النسفي في المآرب: إ ن العصا شعبتاها تكونان شمعتين بالليل، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا قال موسى لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (القصص: 29). قضية الأجلين: أي الأجلين قضى موسى -عليه السلام- مع صهره؟ الذي يظهر من نص القرآن الكريم أن موسى قضى أبعد الأجلين عشر سنين عند صهره، وهذا ما تدل ّ عليه الآية: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} (القصص: 29)، ذكرت الآية هذا الكلام، وع ُ طفت بالفاء، والفاء للترتيب والتعقيب، يعني: عقب انقضاء الأجل سار موسى لأهله، وقد

بعض مواقف موسى -عليه السلام- مع فرعون.

ذُكرت فيه أخبار موقوفة على ابن عباس تدل على هذا. أما ما ذكره الإمام النسفي عن وهب بن منبه قال: لبث موسى عند شعيب ثماني ة وعشرين سنة، عشر منها نهر بصافوراء، وأقام عنده ثماني عشرة سنة بعدها، حتى ولد له أولاد، فهو ظاهر أنه من الإسرائيليات التي لا حاجة لنا فيها، وليست متطابقة مع النص القرآني. بعد ذلك أي ّ البنتين تزوج موسى - عليه السلام-؟ وردت الروايات تفيد أن موسى -عليه السلام- تزوج من الصغرى لكنها روايات ضعيفة، والأرجح أن موسى -عليه السلام- تزوج واحدة من ابنتي الشيخ الكبير، والله أعلم أهي الصغرى أم الكبرى؟. بعض مواقف موسى -عليه السلام- مع فرعون موقف آخر مع موسى وفرعون، وما حدث من المواقف بينهما والعصا والثعبان المبين ... إلى آخره: الإسرائيليات في قصة موسى مع فرعون مع أول لقا ئ هـ به حتى عبر البحر ببني إسرائيل: في قوله تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (الأعراف: 106 - 108). وردت روايات في الثعبان تفيد أنه كان ذكرًا فاغرًا فاه بين لحييه ثمانون ذراعًا، وضع لحية الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه فرعون فهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وحمل على الناس فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضهم بعض ً ا، وصاح فرعون: يا موسى يا موسى

خذه، وأنا أؤمن بك، فأخذه موسى، فعاد عصى. كلام مذكور في النسفي و (الكشاف) وكتب التفسير، ولا شك أن هذه روايات كلها إسرائيليات، والقرآن الكريم فيه غن ًى عن مثل هذه الإسرائيليات. وترى أيضًا مما نقل قال وهب بن منبه: لما دخل موسى على فرعون قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم، قال: ألم نربك فينا وليدًا، قال: فرد إليه موسى الذي رد قال فرعون: خذوه، فبادره موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فحملت على الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضهم بعض ً ا، وقام فرعون منهزمًا حتى دخل البيت. كل هذا كلام قال عنه ابن الكثير: فيه غرابة في سياقه. وهذه الرواية إسرائيلية إذ إن من رواتها السدي، وهو معروف بالكذب. بياض يد موسى -عليه السلام-: ورد فيها كلام كثير ذكر الإمام النسفي أن بياض يد موسى غلب شعاع الشمس، وهذا من الإسرائيليات، ويكفي ما ذكر القرآن الكريم أنها: {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (طه: 22). الإسرائيليات في إسراء موسى ببني إسرائيل، وأين ذهبوا، وماذا حال ألواح التوراة، والكلام عن غضب موسى - عليه السلام-؟ الآيات قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (الشعراء: 52 - 56)، وردت الروايات تفيد أن جيش موسى كان ستمائة ألف وسبعين ألفًا، وعن الضحاك كان الجيش سبعة آلاف ألف، وروي أن الجيش

ألف ألف وسبعمائة ألف، قال ابن كثير: هذه الروايات من الإسرائيليات التي لا فائدةَ فيها، إنما القول الصحيح في هذه المسألة أن جند موسى كانوا أقل من جند فرعون؛ لأن الله - عز وجل - يقول على لسانهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} انظر إسرائيليات كثيرة نحن في غن ًى عنها، لكنها غ ُ ص َّ ت بها كتبُ التفسير. الإسرائيليات في ألواح التوراة: قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (الأعراف: 145) ولها آيات آخر بنفس المعنى، وردت فيها آيات في عدد الألواح، والله سبحانه يقول: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية على الإجمال والعموم، لكن الروايات الإسرائيلية تفيد أنها عشرة، وقيل سبعة، وقيل كانت من نوع من زمرد، قيل من خشب، وقيل أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير أي: حمل بعير، التوراة يحملها سبعون بعير كلام مبالغ فيه، ثم قال وا: لم يقرأ كلها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزير، وغيرهم. وقال ابن جريج: كانت من زمرد، الله أعطاه جبريل حتى جاء بها من عدم، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، واستمد َّ من نهر النور. كل هذه إسرائيليات. وما روي أن التوراة أنزلت وهي سبعون وقر بعير إلى آخره رواها ربيع بن أنس، هكذا قال الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه (الإسرائيليات والموضوعات) والتحقيق أن كل هذه الروايات إسرائيليات حملها عنها مَن حملها كالحسن البصري بحسن نية، وابن جريج، والسدي، وغيرهم، وغيرهم، وكلها روايات ضعيفة وبينها تعارض، وبينها فروق وتناقض، ترى مثلًا الروايات مما صنفت هذه الألواح، وكيف

كتبت، وكم عددها، وما ثقلها حتى تكون حمل سبعين بعيرًا؟ ثم تكون التوراة والألواح بهذا القدر العظيم الذي يحمله سبعون بعيرًا، ولم يقرأه اإلا أربعة!! وعلى هذا فإن البحث في كل ذلك لا جدوى له، وعلينا أن نؤمن بما جاء في القرآن من هذا الموضوع كما نصت عليه الآية. هل كس َّ ر موسى الألواح في غضبه وألقى بها؟ الآية في هذا ناطقة بما يلي: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} (الأعراف: 150) هذا غضب موسى، لكن الروايات التي ذ ُ كرت تفيد أنه حينما ألقى الألواح تكسرت فر ُ فعت ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي هدى ورحمة. تفسير النسفي والطبري وغيرهم، إنما رواه النسفي في هذه الرواية كله من الإسرائيليات لم؟ أولًا: لأن ابن إسحاق وهو صاحب الرواية عند الطبري معروف برواية الإسرائيليات. ثانيًا: كيف ر ُ فع تفصيل كل شيء في ستة أسباع الألواح، وهو كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام، فالقرآن أثبت بطلان هذه الرواية بقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف: 154) هذه الألواح بالألف واللام، فالألف واللام هنا ذكرت في الألواح كلمة معرفة بأل، وفي قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وفي قوله: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} وفي: {أخَذَ الْأَلْوَاحَ} كلها بالألف واللام، والاسم إذا

قصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش.

تكرر معرفًا كان الثاني عين الأول، فموسى -عليه السلام- أخذ الألواح كلها لا بعضها، وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةٌ} تعمُّ كل ما في الألواح من شرائع ومواعظ وغيرها، وإلا فما معنى الهدى والرحمة؟!. ثالثًا: كيف رُفع تفصيل كل شيء وقد قال الله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِزيد سالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 43 - 45). قصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش قصة ز واج النبي -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش ابنة عمته -عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنها-: هذه القصة التي تناقل المفسرون فيها إسرائيليات لا تقبل؛ لأن فيها ما ينافي عصمة الأنبياء، فيها ما يقدح في خُلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يجب أن يتصف به من الصدق، والأمانة، والعِصمة.

أما الآيات فهي قوله سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (الأحزاب: 37). روى البعض من المفسرين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى زينب أبصرها بعدما أنكحها زيد بن حارثة وتبن َّ اه بعدما أعتقه، فوقعت زينب في نفسه، فقال: "سبحان مقلب القلوب " وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، أوردوا أيضًا أن الرسول خرج يوم ً ايريد زيدًا، وعلى الباب ستر من شعر فيرفع الريح الستر ف انكشفت زينب بنت جحش وهي في حجرتها حاسرة؛ فوقع إعجابها في قلب النبي، حاشاه -صلى الله عليه وسلم. هذه القصة البا ط لة ما ذكره بعض المفسرين بهذا الشأن ما هو إلا أكاذيب وأ باطيل وإسرائيليات، وإذا ما حققنا في هذا الأمر عرفنا أن الذي كان سببًا في هذه الثورة الاستشراقية على الإسلام والرسول يرجع في أصله إلى يوحنا الدمشق ي، نصراني عاش في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري: هذا الرجل وجد أن ينقل هذه الإسرائيليات، وو ُ جد في عهد عبد الملك بن مروان وكان اسمه بالعربي منصور، هذا الرجل هو الذي دس َّ أو ل فِرية مما يتناقله الناس بعده من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشق زينب بنت جحش، وفشت هذه الفرية وراجت بين تابعي التابعين حتى جاءت على لسان قتادة منسوبةً إليه، وذكرها ابن جرير الطبري ونقلها عنه غيره من المفسرين فكانت أعظمَ ال افتراء، وهي تتجافى عن نسق الآية وعن عصمة نبينا محمد ٍ -صلى الله عليه وسلم- وعن خلقه. ولم يثبت في الصحاح شيء من هذا أبدًا، ولم ينسب هذا التاريخ لأحد ٍ بطريق مقبول، وكان يوحنا هذا نصراني ًّا، له باع في المجادلة والمناظرة، وكان يستطيع

بمجادلته ومناظرته إفحام بعض المسلمين العوام ببراهين كاذبة من الإسرائيليات، ومن هذه البراهين الإسرائيلية دس َ هذه القصة الكاذبة مقارنًا إي َّ اها بما ن ُ سب كذبًا وبهتانًا إلى داود -عليه السلام- من أنه تخلص من أوريا بعدما أحب زوجته حتى ق ُ تل وتزوجها. كل ذلك دس ٌّ رخيص على رسل الله -عليهم الصلاة والسلام. نقول توضيحًا في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الخصوم فسروا هذه العبارة بأن الذي كان يخفيه في نفسه هو حب زينب، ورغبته الأكيدة في طلاقها من زيد؛ ليتزوجها بعده. وهذا كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفسير خطأ عظيم، وخروج بالآية عن معناها الحقيقي، وتحميل لها بما لا تحتمله. والتفسير الصحيح لقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} هو ما ذكرته الآية بعد ذلك، والبيان: أي: وتخفي ما أعلمك الله به من قبل من أن زيدًا سيطلقها وأنك ستتزوجها بعدها؛ هدمًا لظاهرة التبني، وتشريعًا للأمة أن زوجة المتبنا ة لا تحرم إذا ط لقها المتبن ى؛ لأ نه ليس ابنًا حقيق يًّ اللإنسان، وهذا: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}. لماذا أخفى النبي ذلك؟ مراعاةً لشعور زيد؛ حياءً منه، مع أن الله - جل وعلا - سيبد ي هذا الأمر لا محالة، ويظهره إلى حيز الوجود، وإنما خشي النبي -صلى الله عليه وسلم- من ملامة الناس لعدم علمهم أن يقولوا: إ ن محمدًا تزوج زوجة متبناه، فهذا الذي معنى الآية: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أي: تخشى الناس أن يقولوا تزوج محمد زوجة ابنه. {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} فهو الذي بيده الخلق والأمر، وهو الذي شرع لك ما أوحى به إليك في هذا الموضوع، فلا

تلتفت إلى مقالة الناس ما دامت الأوامر وحي ًا من الله، ولا تستحي من أحد؛ لأن الله أحق أن يستحيا منه. والعجيب أن القرآن الكريم قد قرر أن زواج زوجة المتبنا ة هذا مباح لا حرج فيه، بل هو مشروع وكان مقررًا في الشرائع السابقة، تأم َّ ل الآية: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (الأحزاب: 38) إذًا الذي أخفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أن زوج زيد السيدة زينب بن جحش سوف يطلقها ويتزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلم الناس أن زواج زوجة المتبنَّى هذا أمر جائز مشروع، ويجب أن ي ُ بطل ما عرفته العرب من حرمة زواج زوجة المتبنى، وأن ذلك كزوجة ال ابن، أراد القرآن الكريم بعد أن تبنى رسول الله زيد ًا ثم أعتقه وزوجه ابن ة عمته زينب ًا، وكانت أمام رسول الله لو كان يريدها لتزوجها من قبل، ولكن الله أراد بهذا أن تنتهي هذه الحالة التي كانت العرب تأنف منها، وكان وا لا يرضون أن يتزوج الرجل زوجة متبناه. فالذي أخفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} هو الذي أبداه الله وأظهره بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} هذا الذي أخفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- خشيةَ الحرج من زيد، وخشية ملامة البعض؛ لأنهم لا يفهمون الحكم الشرعي، ومن أجل ذلك كانت الآيات واضحة. فكلام الناس في الروايات الإسرائيلية أن النبي رآها وأ ُ عجب بها، ونظر إليها، هذا من الإسرائيليات والأكاذيب التي دس َّ ها لكتب التفسير في العصر الأول هذا الرجل النصراني الذي كان عدو ًّا للإسلام يوحنا الدمشقي.

قصة "إرم ذات العماد".

بهذا يتبين أن هذه القصة الحق فيها واضح، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل َّ فه ربه أن يخبر بهذا؛ لكي يبطل عادة التبني، وعادة حرمة زواج زوجة المتبنى، وهذا مقرر في الشرائع السابقة كما نطقت الآية القرآنية المباركة. قصة "إرم ذات العماد" الآيات: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (الفجر: 6 - 8) بعض المفسرين ذكر إن إرم ذات العماد مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، أساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أنواع الأشجار والحدائق وأصناف ال أشجار والأنهار، انظر تفسير الن س في، و (قصص الأنبياء) للثعلبي، و (الكشاف)، والكتب الأخر ى التي توس َّ عت في ذكر هذه الإسرائيليات في قصة إرم ذات العماد. وقوم عاد كانوا أشد الناس في الأرض، مما لا يخف ى أن الله - عز وجل - ذكر عنهم أنهم قالوا: {م َ ن ْ أ َ ش َ د ُّ م ِ ن َّ اق ُ و َّ ة ً} استفهام (فصلت: 15) وأن القرآن الكريم لم ينكر عليهم هذا، فالقران الكريم ما قال: إ نهم ليسوا أقوى الناس في الأرض، وإنما انتقل إلى شيء آخر فبعدما قالوا في قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (فصلت: 15) قال الله -جل وعلا- بعدها: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (فصلت: 15) كانوا قوم عمالقة أقوياء، نعم، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم فرعون ذكروا في هذه السورة؛ لأنهم طغوا في البلاد.

ذكر بعض المفسرين أن إرم ذات العماد مدينة عظيمة، ودخل في هذه القصة خرافات لبني إسرائيل من وضع زنادقتهم، وعندما نقرأ الآيات نعرف أن التفسير الصحيح لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} أن هذه القبيلة أو هؤلاء الناس سواء كانت إرم اسم القبيلة أو اسم جدهم الكبير، أو اسم البلد إ ن الله - عز وجل - أهلكهم بعدما عصوا الله - سبحانه وتعالى - وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، والآيات في هذا كثيرة جد ًّ ا. كلمة إرم تسمية لهم ب اسم جدهم، ولمن بعدهم، فإرم إذًا عطف بيان لكلمة عاد: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ} هي عطف بيان لهم، وبيان أنهم عاد الأولى القديمة. {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، {ذَاتِ الْعِمَادِ}: كانوا بدوًا بين أهل عمد، أو كانوا طوال الأجسام، هذا ما ذكره المفسرون، كانوا قوم ًا أشداءً وأقوياء ً، وهذا القول واضح لكن دع اكثير من المفسرين أن ينقلوا كلام ًا مبالغًا فيه، فمما ورد عنهم، الأصح طبع ً اأن هذا القول هو قوم أقوياء البدن، ولهم أعمال في الأرض قوية، ودعاهم نبيهم إلى عبادة الله وحده، وذكرهم بنعمه عليهم، وأن يسخروا نعمة الله في طاعته، فكما قال ربنا: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69) وقال أيضًا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا} وقال تعالى عنهم: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} هذه الآيات تشير إلى أن المراد بعاد إرم هي القبيلة المعروفة المشهورة التي لم يخلق م ثلها في بلادهم، ولا في زمانهم؛ لقوتهم وشدتهم، وعظم تركيبهم؛ وأيضًا لأن الآية بعدها تقول: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي} (الفجر: 9) فذكر قبيلة ثمود.

فتنة سليمان -عليه السلام-.

ورد إسرائيليات كثيرة في طول هؤلاء الأقوام، أقوال كثيرة بعض المفسرين يقول: كان طول الرجل منهم أربعم ائة ذراع، تتصور أربعم ائة ذراع يعني: مائتي متر كان الطول، هكذا، وقال الطبري: كان الرجل مهم اثن ي عشر ذراعًا، واحد يقول: أربعم ائة، والثاني يقول: اثن ي عشر ذراعًا طول ً افي السماء!! هذا كلام ذكره النسفي والطبري، وكله من الإسرائيليات من أجل ذلك نقول: لسنا مكلفين بالنظر إلى هذه الأحجام الطوال ما دام أحدها لا هذا الرأي ولا ذاك لم يثبت ولم يرد عن طريق صحيح، وإنما نحن يجب أن نعتقد بما صر َّ حت به الآيات، ونؤمن بما في القرآن والسنة الصحيحة، فالآيات بينت أنهم قوم أشداء وأقوياء، أما تحديد أطوالهم وأعمارهم وكل هذا، هذا من الكلام الذي لم يثبت لنا به نص ٌّ أو دليل صحيح. فتنة سليمان -عليه السلام- نبي الله سليمان -عليه السلام- كنموذج آخر فيه إسرائيليات: قوله - جل وعلا - عن سليمان وعن الهدهد: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (النمل: 22) الآيات، وإذا ما تأملنا الآيات نرى قول الله - جل وعلا - عن لسان سليمان: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (النمل: 20 - 22) حقيقةً أن الله سخر لرسوله سليمانَ وآ تاه مُلكًا كما دعا، وقال: {مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (ص: 35) فقال الله له: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

من هذا العطاء أن الله سخر لسليمان الطير، وهذا الهدهد الذي كان يرسل بمأموريات خاصة، فيرجع بتقارير ويرجع بتكاليف يكلف بها، وهذا موقف من مواقفه، جاء الهدهد فأخبر نبيَّ الله سليمانَ: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} المفسرون، ومنهم العلامة الألوسي رغم أنه يم ي ّز بين الغث ّ والسمين، قال: وفي بعض الآثار أن سليمان -عليه السلام- لما لم ير َ الهدهد دع اعريفَ الطير وهو النسر، فسأله فلم يجد عنده علم ًا، ثم قال لسيد الطير وهو العُقاب: علي به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى، وقال: بحق الله الذي قواكِ وأقدرك علي إلا رحمتيني فتركته، وقالت: ثكلتك أمك، إن نبي الله تع الى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك، قال: وما استثنى؟ قلت: بلى، قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ف قال: نجوت إذًا، فلما قرب من سليمان أرخى ذَنَبه وجناحيه يجرهما على الأرض؛ تواضعًا له، فلما دَن َا منه أخذ برأسه فمد َّ هـ إليه، فقال: يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله -عز وجل- فارتعد سليمان وعف اعنه. وعن عِكرمة أنه عف اعنه؛ لأنه كان بار ًّا بأبويه يأتيهما بالطعام فيذقهما لكبرهما. والقصة -كما ترى- ظاهر عليها أمارات الوضع، فمن الذي نقل لنا حوار الطير، وترجم لنا منطقه؟ ومن الذي عرف قتادة أن الهدهد كان بارًّا بأبويه، وأنه من أجل ذلك عفا عنه سليمان؟ ترى القصة موضوعة ولا شك. ولكن العلامة الألوسي في هذا الموضع على غير عادته يرويها، ولا يعقب عليها بما يفيد بطلانها، نعم العلامة الألوسي من أعظم المفسرين، ومن أنزههم عندما يعرض الإسرائيليات فيفرزها ويمحصها، ويعقب عليها، لكن أفلتت منه بعض الإسرائيليات، هذا الموقف منها.

قول الدكتور محمد حسين الذهبي تعقيبًا على موقف العلامة الألوسي: ولقد كنا نودّ أن لو وقف الألوسي موقف المتشدد دائمًا من رواية الإسرائيليات، فلا يروي رواية ويسكت عنها، ذكر ذلك الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه (الإسرائيليات في التفسير والحديث). هذا موقف الهدهد والكلام عنه الكثير وكثير، والكلام عن النمل، وعن تسخير الله لعالم الطير، وعالم الحيوان، وعالم الجن أشياء كثيرة في حياة نبي الله سليمان -عليه السلام-. الآية الأخرى في شأن سليمان -عليه السلام- والتي أثارت جدلًا واسعًا وكلامًا كثيرًا مِن مَن دسُّوا الإسرائيليات في كتب التفسير: أما الآية فهي قوله -جل وعلا -: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) الآية حولها إسرائيليات كثيرة، ذكرها المفسرون بين مقلٍّ وبين متوسعٍ، في بيانها بما يحتاج وقت طويل نفصلها فيه، لكنها باختصار: ذكر ابن جرير الطبري، وهو من أسبق من تحدث عن قصة الفتنة التي فُتن بها سليمان، واختبر بها، وتحدث عن الجسد الذي أُلقي على كرسيّه -عليه السلام-. قال ابن جرير: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة في الآية: أن سليمان أمر ببناء بيت المقدس فقيل له: ابنيه ولا يُسمع فيه صوتُ حديدٍ، قال: فطلب ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إن شيطانًا في البحر يقال له صخر المارد ة، قال: فطلبه وكانت عين في البحر يريدها في كل سبعة أيام مرة ً، فنزح ماؤها وجُعل فيها خمر، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تُصبّين الحليم وتزيدين الجاهل جهلًا، قال: ثم رجع حتى عطش عطشًا شديدًا، ثم آتاها، فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تُصبِّين الحليم وتزيدين الجاهل جهلًا، ثم شربها حتى غلبت على عقله، قال: فأرى الخاتم، أو ختم به

بين كتفيه، فذلَّ، قال: فكان ملكه في خاتمه، فأتى به سليمان فقال: إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت، وقيل لنا: لا يسمع عنا فيه صوت حديد، قال: فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد فدار حولها يرى بيضه ولا يقدر عليه، فجاء بالماس فوضعه عليها فقطعها به، ثم أفضى إلى بيضه، فأخذ الماسّ، فجعلوا يقطّعون به الحجارة. فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخله بالخاتم، فانطلق يومًا إلى الحمام، وذلك الشيطان اسمه صخر كان معه عند مفارقة ذنب قارف فيه بعض نسائه، قال: فدخل الحمام، وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه في البحر، فالتقمته سمكة، ونُزع ملك سليمان منه، فألقي على الشيطان شبه سليمان، قال: فجاء -أي: الشيطان- فقعد على كرسي سليمان وسريره، وسلّط على ملك سليمان كله غير نسائه، قال: فجعل يقضي بينهم، وجعلوا يُنكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فتن نبي الله، وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب، فقال: والله لأجربنه، قال: فقال: يا نبي الله، وهو لا يرى إلا أنه نبي الله، أحدنا تصيبه الجَنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدًا حتى تطلع الشمس، أترى عليه بأسًا؟ قال: لا. فبين هو كذلك أربعين ليلةً حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة، فأقبل لا يستقبله جنيّ إلا سجد له حتى انتهى إليهم: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قال: هو الشيطان صخر. هذه القصة واضح كل الوضوح أنها إسرائيليات، وكذب وافتراء؛ إذ محال إن يلقي الله شبه سليمان -عليه السلام- على شيطان، فيلبس على الناس أمر دينهم، ومحال أن يمكّن الله شيطانًا من التسلط على ملك سليمان، فيتحكم فيه كيف يشاء، ومحال أن يشرب سليمان الخمر أو شيئًا من هذا، كل هذا لا يقبله عقل ولا شرع. فكيف يمكن أن يتمثل الشيطان بنبي الله سليمان ويتسلط على ملكه؟

ثم ما لنا نذهب في تفسير الآية إلى هذه القصة التي لا أصل لها، وقد روى البخاري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يمكن أن تُحمل الآية عليه؛ فالذي ألقي على كرسي سليمان يُمكن أن يُفهم من حديث الإمام البخاري -رحمه الله- فقد روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يمكن أن تُحمل الآية عليه، من غير أن نقول زورًا أو نرتكب محذورًا، جاء الحديث في البخاري بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قال سليمان بن داود -عليه السلام-: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، أو تسع وتسعين كلهنّ يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله؛ فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشِق ولد، أو بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله؛ لجاهدوا في سبيل الله فرسان أجمعون)). فيمكن أن يكون هذا الذي فُتن به سليمان وألقي على كرسيه هذا الطفل الصغير الذي لم يكتمل، أو أن الله امتحنه بمولود فأحبه واهتمَّ به، فمات هذا المولود، أو قتل، وألقته الشياطين على كرسي سليمان جسدًا لا حَراكَ فيه، فأدرك أن الله امتحنه به، فرجع إلى الله ودعاه أن يهَبه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 6 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (4).

الدرس: 6 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (4).

المسوخ من المخلوقات في روايات بني إسرائيل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (4)) المسوخ من المخلوقات في روايات بني إسرائيل الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين: المسوخ من المخلوقات: المسوخ جمع: مسخ، أي: الممسوخ من حالة إلى حالة أخرى، يعني: هناك مخلوقات مسخها الله وحوَّلها من شيء إلى شيء، ونعلم أن الله -سبحانه وتعالى- قد عاقب فريقًا من بين إسرائيل أصحاب السبت، لما عصوا ربهم واعتدوا في يوم السبت كان العقاب لهم كما نطقت الآية: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (البقرة: 65). حديثنا عن حديث أو عن إسرائيلية وردت ذكرها زنادقة أهل الكتاب، فوضعوا حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خرافات لا يُصدقها عقل، قالوا: إن هناك بعضَ أنواع الحيوانات زعموا أنها مُسخت -سبحان الله العظيم- ولو أن هذه الخرافات نُسبت إلى من دخل في الإسلام من أهل الكتاب، من نسميهم أقطاب الرواية الإسرائيلية مثل كعب الأحبار وأمثاله، أو حتى نسبوها إلى بعض الصحابة أو التابعين؛ لهان الأمر، ولكن عظم الإثم أن يُنسب ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعصوم، وهذا اللون من الوضع والدسّ مِن أخبث أنواع الكيد للإسلام ونبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم. ذكر الإمام السيوطي -عفا الله عنه، بعدما أورد طامَّات وإسرائيليات في قصة هاروت وماروت، ولم يعلق عليها بكلمة - هذا الحديث الغريب ونصه: أخرج الزبير بن بكار في (الموفقيات) وابن مردويه والديلمي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن المسوخ فقال: "هم ثلاثة عشر الفيل، والدب، والخنزير، والقرد، والجريث، والضب، والوطواط، والعقرب، والدعموث، والعَنكبوت، والأرنب، وسهيل، والزهرة، فقيل: يا رسول الله، وما سبب مسخهنّ؟ يعني: كأن هذه الأشياء كانت خلقًا آخر، ثم مُسخت إلى هذه الحيوانات، فقال -كما زعم هؤلاء-:

فأما الفيل فكان رجلًا جبارًا لوطيًّا لا يدع رطبًا ولا يابسًا، وأما الدب فكان مؤنثًا يدعو الناس إلى نفسه، وأما الخنزير فكان من النصارى الذين سألوا المائدة، فلما نزلت كفروا، وأما القردة فيهودٌ اعتدوا في السبت، وأما الجريث -هي على وزن سكيت، وهي نوع من السمك- فكان ديّوثًا الذي لا يغار على زوجته - فنسخ إلى الجريث يدعو الرجال إلى حليلته، ولا يغضب. أما الضب فكان أعرابيًّا يسرق الحاج بمحجنه، وأما الوطواط فكان رجلًا يسرق الثمار من رءوس النخل، وأما العقرب فكان رجلًا لا يسلم أحدٌ من لسانه، وأما الدعموث -دابة صغيرة مثل الدودة دويبة، أو دودة سوداء تكون في أماكن تجمع الماء إذا نضب ماؤها - فكان نمامًا يفرق بين الأحبة، وأما العنكبوت فامرأة سَحرت زوجَها، وأما الأرنب فامرأة كانت لا تتطهر من حَيْضها، وأما سهيل فكان عشارًا باليمن -العشار هو الذي يأخذ عشر الثمرات، والإنتاج، ضرائب يأخذها بلا مقابل، وهو معروف أن هذا من المكسب من المحرمات - وأما الزهرة فكانت بنتًا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت وماروت". حديث ذكره السيوطي ونقله عن غيره، ويتعلق بقضية المسوخ من المخلوقات. ألا قبح الله من وضع هذا الكذب وهذا الزور والباطل، ونسبه إلى المعصوم إلى مَن لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم. يقول شيخنا فضيلة الشيخ محمد أبو شهبة: ومما يقضى منه العجب أن الإمام السيوطي ذكر هذا الهُراء من غير سند، ولم يعقب عليه بكلمة استنكار، سبحان الله، مع أن الإمام السيوطي له مواقف كثيرة طيبة في التعقيب على الأحاديث الباطلة، والموضوعات، ونحو ذلك: ومثل هذا لا يشك طالب علم في بطلانه فضلًا عن عالم كبير.

ما ورد في بناء الكعبة المشرفة.

وأما العلامة ابن الجوزي فقد حكم عليه بالوضع، وكذا ذكره الإمام السيوطي في (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) وتعقبه بما لا يجدي، يعني: كأنه عقَّب عليه بكلام هزيل لا يبين بطلانه وفساده، وكان من الأمانة العلمية -والكلام لشيخنا الشيخ أبو شهبة- أن يشير -أي: السيوطي- إلى هذا، وبعد هذا الكذب والتخريف ينقل الإمام السيوطي ما رواه الطبراني في (الأوسط) بسندٍ ضعيفٍ، كذا قال عن عمر بن الخطاب قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في غير حينه، ثم ذكر قصة طويلة في وصف النار، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، وأن جبريل بكى حتى نوديَا: إن الله أمنكما أن تعصياه. الكلام هذا مذكور في تفسير الإمام السيوطي (الدر المنثور) الجزء الأول صفحة 102 وما بعدها، وأغلب الظن -كلام شيخنا الشيخ أبو شهبة- أن هذا من الإسرائيليات التي دُسَّت في الرواية الإسلامية على حين غفلة من الناس. ما ورد في بناء الكعبة المشرفة الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، وعندما نتذكر هذا البيت العتيق في التاريخ السحيق نعلم أنه بُني أكثر من مرة. القرآن الكريم بيَّن أن الذي بناه هو إبراهيم -عليه السلام- وبعد ذلك بُني عدة مرات، ويذكر أنه بنته الملائكة وبناه آدم، وكذا، وكذا، كلام كثير. ما ذكره العلامة السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) عند قوله -جل وعلا-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127) نقل عن الأزراقي وأمثاله من المؤرخين والمفسرين الذين هم كحاطبي ليل، ولا يميزون بين بين الغث والسمين، والخبيث والطيب، والمقبول

والمردود في بناء البيت: ومن بناه قبل إبراهيم أهم الملائكة أم آدم؟ والحجر الأسود من أين جاء؟ وورد في فضلهما كلام كثير، وقد استغرق في هذا النقل الذي معظمه من الإسرائيليات التي أخذت عن أهل الكتاب بضعة عشرة صحيفة. ما ذكره الإمام السيوطي لا يصح منه عُشر ما ذكره من الروايات، ولو أن الإمام السيوطي اقتصر على الروايات الصحيحة التي رواها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (النساء: 125) ورواه غيرُه من العلماء الأثبات لأراحنا وأراح نفسه، ولما أفسد العقول، وسمم النفوس بكل هذه الإسرائيليات التي نحن في غُنية عنها بما تواتر من القرآن الكريم، وثبت من السنة الصحيحة. والحق أن ابن جرير كان مقتصدًا في الإكثار من هذه الإسرائيليات وإن كان لم يسلم منها، وذكر بعضها، وذلك مثل ما رواه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك بيتًا يُطاف حوله كما يُطاف حول عرشي، ويصلَّى عنده كما يصلى عند عرشي، فلما كان زمن الطوفان رفع فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوَّأه الله إبراهيم -عليه السلام- وأعلمه مكانَه، فبناه من خمسة أجبن من: حراء وثبير ولبنان وجبل الطور وجبل الخمر. كلام!! وأعجب من ذلك ما رواه بسنده عن عطاء بن أبي رباح قال: لما أهبط الله آدم من الجنة كان رِجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها؛ فوجَّه إلى مكة فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى

مكة، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله إبراهيم -عليه السلام- فبناه، فذلك قوله الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} (الحج: 26) إلى غير ذلك مما مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل وخرافاتهم. ولم يصح عن ذلك خبر عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم - ورحم الله الإمام الحافظ ابن كثير فقد بيَّن لنا منشأ معظم هذه الروايات التي هي من صُنع بني إسرائيل، ومن دسّ زنادقتهم، فقد قال ما رواه البيهقي في (الدلائل) من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بعث الله جبريل إلى آدم، فأمره ببناء البيت فبناه آدم ثم أمره بالطواف به، وقال له: أنت أول الناس، وهنا أول بيت وضع للناس ". قال العلامة الإمام ابن كثير: إن هذا من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف، والأشبه -والله أعلم- أن يكون موقوفًا على عبد الله بن عمرو بن العاص، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك، وهي قدر من الكتب أخذها على بعير كان يحمل عليه متاعه؛ لعله فاز بزاملتين بعيرين بما فيهما وما عليهما، فكان في ما نقل عليهما وأخذه يوم اليرموك بعض الكتيبات التي فيها عن أهل الكتاب من هذا الكثير، فكان هذا من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث بما فيهما. والعلامة ابن كثير قال في كتابه (البداية): ولم يجئ في خبر صحيح عن المعصوم أن البيت كان مبنيًّا قبل الخليل -عليه السلام - ومن تمسك في هذا بقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فليس بناهضٍ ولا ظاهر؛ لأن مراده مكانه المقدر في علم الله تعالى المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه من آدم إلى زمان إبراهيم -عليه السلام. ورغم هذا أقول: إن كثيرًا من كُتَّاب التاريخ ذكروا أن الكعبة بُنيت عشر مرات، حتى نسجوا في ذلك أبياتٍ من الشعر:

الإسرائيليات في قصة التابوت.

بنى بيت رب العرش عشر ... فخذهم ملائكة الله الكرام وآدم فشيث فإبراهيم ثم عمالق ... قصي قريش قبل هذين جُرهم وعبد الإله بن الزبير بنى ... كذا بناء لحجاج وهذا متمم ثم جاء بعد ذلك السلطان مراد العثماني فبنى المرة الحادية عشرة. وعلى هذا القول كأن الكعبة بُنيت إحدى عشرة مرةً، لا يعنينا إلا أن ما ذكره القرآن الكريم أن إبراهيم هو الذي بنى البيت وكان معه إسماعيل، وهذا ثابت في القرآن، وما كان بعد ذلك من بناء قريش وعبد الله بن الزبير والحجاج ونحو ذلك، هذا تذكره كتب التاريخ، أما قبل إبراهيم، فكما ذكر العلامة ابن كثير أن البيت لم يُذكر في خبر صحيح عن المعصوم من الذي بناه قبل إبراهيم -عليه السلام-؟ الإسرائيليات في قصة التابوت والتابوت شيء ذُكر في قصة طالوت الذي كان ملكًا على بني إسرائيل، والآيات القرآنية أشارت إلى هذا، والذي ذُكر في التابوت في القرآن إشارات لم يفصل ولم يبين. الإسرائيليات باختصار التي أوردها المفسرون حول هذا التابوت، وما له من بركات، وما فيه من آثار. من الإسرائيليات التي التبس فيها الحق بالباطل ما ذكره غالب المفسرين في تفسيرهم في قصة طالوت، وتنصيبه ملكًا على بني إسرائيل، واعتراض بني إسرائيل عليه، وإخبار نبيهم لهم بالآية الدالة على ملكه، وهي التابوت،

والآيات في هذا واضحة، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 248). نعرف أن بني إسرائيل قال لهم نبيهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 247). {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}. ذكر العلامة ابن جرير والثعلبي والبغوي والقرطبي وابن كثير، والسيوطي في كتابه (الدر)، وغيرهم في تفسيرهم كثير من الأخبار عن الصحابة والتابعين، وعن وهب بن منبه وغيره من مسلمة أهل الكتاب، وعندما نقول: "مسلمة أهل الكتاب" نَصِفُ الذين دخلوا من أهل الكتاب في الإسلام وأسلموا، وطبعًا منهم من كان ينقل أخبارًا لا يقصد أن يدسّ في ثقافة المسلمين؛ إنما ينقل من أخبارهم، فورد عن وهب بن منبه وغيره من مسلمة أهل الكتاب في وصف التابوت، وكيف جاء، وعلام يشتمل، وعن السكينة وكيف صِفتها؟ كل هذا ورد في أشياء كثيرة نحكيها باختصار، مع أنني قرأت في (معالم التنزيل) للإمام البغوي في هذا التابوت وفي داود وجالوت وطالوت روايات إسرائيلية أكثر من ثلاث عشرة صفحة. ذكروا في شأن التابوت أنه كان من خشب الشمشات، ونحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين. كلمة الشمشاد أو الشمساد نوع من أنواع الخشب الجيد، كان عند آدم إلى

أن مات، كلها أخبار، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاده إلى إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل، ثم يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل، إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام. فكان يضع فيه التوراة ومتاعًا من متاعه، فكان عنده إلى أن مات ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت شمويل، وكان عندهم حتى عصوه فغلبهم عليه العمالقة، وهذا الكلام وإن كان محتملًا للصدق والكذب، لكننا في غُنية عنه، ولا يتوقف تفسير الآية عليه، أين كان؟ وكم كان مقداره؟ ومَن الذي توارثه من آدم إلى شيث إلى إبراهيم إلى إسماعيل إلى يعقوب؟ كل هذا كلام لا يُسمن ولا يغني من جوع. وقال بعضهم: إن التابوت إنما كان في بني إسرائيل ولم يكن من عهد آدم -عليه السلام - وأنه الصندوق الذي كان يحفظ فيه موسى -عليه السلام- التورا ة، ولعل هذا أقرب إلى الحق والصواب كما قال شيخنا الشيخ أبو شهبة. وكذلك أكثروا من النقل في السكينة، فروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "هي ريح خجوج وهفافة لها رأسان، ووجه كوجه الإنسان". الريح الخجوج: هي التي تمر كثيرًا شديدة المرور من غير استواء، ولكن تأمل كيف يكون للريح رأسان، ووجه كوجه الإنسان، كل هذا إسرائيليات!! وورد عن مجاهد أنه قال: السكينة حيوان كالهِر -يعني: كالقط- له جناحان وذنب، ولعينيه شعاع إذا نظر إلى الجيش انهزم، وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هِر أيقنوا بالنصر. وهذا من خرافات بني إسرائيل وأباطيلهم. وعن وهب بن منبه قال: السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تتكلم، فتخبرهم ببيان ما يريدون. وعن ابن عباس: "السكينة: قسط من ذهب، كانت تُغسل فيه قلوب الأنبياء أعطاه الله موسى -عليه السلام".

كل هذه الروايات لم يثبت منها شيء، والحق أنه ليس في القرآن ما يدل على شيء من ذلك، ولا فيما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، وإنما هذه من أخبار بني إسرائيل التي نقلها إلينا مسلمة أهل الكتاب، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين، وتناقلوها، ومرجعها إما إلى كعب الأحبار أو وهب بن منبه وأمثالهما. التفسير الصحيح للسكينة: التفسير الصحيح -والذي ينبغي أن تُفسر به- أن المراد بها الطمأنينة والسكون الذي يحلّ بالقلب عند تقديم التابوت أمام الجيش، فهي من أسباب السكون: الطمأنينة، وبذلك تقوى نفوسهم، وتشتدّ وترتفع معنوياتهم، فيكون ذلك من أسباب النصر، فهو كقوله -جل وعلا-: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} (التوبة: 40) أي: طمأنينته، وما ثبَّت به قلبه، ومثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح: 4) {فَأَ نْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26) فالمراد بالسكينة طمأنينة القلب، ثبات النفوس، اليقين الذي ينزل على قلوب مَن يتبع شرع الله ويتبع رسوله. يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: ويعجبني في هذا ما قاله الإمام أبو محمد الشيخ عبد الحق بن عطية، حيث قال: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس به، وتقوى، وكذلك ذكروا في مجيء التابوت أقوالًا متناقضةً متضاربةً يردّ بعضُها بعضًا، مما يدل على أن مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل وابتداعاتهم، وأنه ليس فيه نقل يُعتدّ به، ولا يُوثَق به.

روي عن ابن عباس أنه قال: "جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون". ورُوي عن السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون، وأطاعوا طالوت، وقال الحسن: كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت المُلكَ حملته الملائكة. سبحان الله!! هذا مع أنهم رووا -كما سلف- أنهم لما عصوا وأفسدوا غلبتهم العمالقة، فأخذوا التابوت. الرواية عن الحسن: فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم، وقال قتادة: بل كان التابوت في التيح خلَّفه موسى عند يوشع بن نون، فبقي هناك حتى حملته الملائكة ووضعته في دار طالوت فأقروا بمُلكِه. وذكر غير هؤلاء: أن التابوت كان بأريحاء، وكان الذين استولوا عليه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الأكبر، فأصبح التابوت على رأس الصنم، فأنزلوه فوضعوه تحته، فأصبح كذلك، فسمروه تحتهم فأصبح الصنم مكسورَ القوائم مُلقًى بعيدًا، فعلموا أن هذا أمر من الله لا قِبل لهم به، فأخرجوا التابوت من بلدهم، فوضعوه في بعض القرى، فأصاب أهلها أمراض في رقابهم. هذه كلها إسرائيليات. وقيل: بل جعلوه في مخرأة قوم لهم -المكان الذي يذهبون إليه للغائط- فكان كل من تبرز هناك أصيب بالناصور وقيل: بالباصور، فتحيروا في الأمر فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون، ما دام هذا التابوت فيكم، فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت، ثم علقوها على ثورين وضربوا جنوبهما، فأقبل الثوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل، فكسروا نَيريهما -ما يوضع على رقبة الثور عند الحرف، والجر بالجر -.

والرواية تقول: أنهما كسرَا نيريهما، وقطعا حبالهما، ووضعَا التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل، ورجعا إلى أرضهما فلم يرع بني إسرائيل أي: ويلفت أنظارهما إلا التابوت، فكبروا، وحمدوا الله تعالى، فذلك قوله تعالى: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَة} أي: تسوقه. وكل هذا من أخبار بني إسرائيل، الذين غيروا وحرفوا وبدلوا، فالله أعلم بصحتها، وأقرب هذه الأقوال من الصحة، وما يدل عليه القرآن هو ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وكذلك اختلفوا في تعيين البقية مما ترك آل موسى وآل هارون، يعني: كل جزئية مما يتعلق بالتابوت فيها أخبار واختلافات وتناقضات، اختلفوا في تعيين قوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} ما هذه البقية؟ والمراد بآل موسى وآله هارون هما ذاتهما، وهذا أمر معهود في لغة العرب، فالحديث الشريف: ((لقد أُعطي مزمارًا من مزامير آل داود)) أي: صوتًا حسنًا، ولم يكن في آل داود حسن الصوت أحد إلا هو، فالمراد بآل داود هو داودُ نفسُه، فعندما نقول: {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} يعني: موسى وهارون، وكانت هذه الأشياء محفوظةً في التابوت، فعن عبد الله بن عباس قال: "عصاه ورضاض الألواح" أي: البقية هذه كانت عصى موسى، والرضاض: الألواح، الرضاض هو الفتات الذي ينفصل من احتكاك لوحين وما يتهشم منهما، قال ابن عباس: "هذه هي البقية الباقية مما ترك آل موسى وآل هارون". لأن الألواح لما انكسرت عندما ألقاها موسى -عليه السلام- حين عاد ووجدهم يعبدون العجل بقيت منه هذه الآثار. وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة، وبعضهم قال: والتوراة، قال أبو صالح: الآثار هذه عصى موسى وعصى هارون، ولوحين من التوراة، وقفيذ من المن، القفيذ: قدر من الكيل من المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل

شجرة طوبى.

في التيه، وقيل: عصى موسى ونعلاه، وعصى هارون وعمامته، وثياب موسى وثياب هارون، ورضاض الألواح. إلى غير ذلك. على كل حال، هي أقوال متقاربة، كما قال شيخنا الشيخ أبو شهبة، ولا يردّ بعضها بعضًا، وكلها محتملة، فالله أعلم بالصواب منها. وهي على كل حال، من الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، فلا نصدقها ولا نكذبها، بل نتوقف عندها، والذي نقطع به ويجب الإيمانُ به، أنه كان في بني إسرائيل تابوت أي: صندوق من الخشب مثلًا ونحوه، من غير بحث في حقيقته وهيئته، من أين جاء؟ لا يلزمنا أن نسأل من أين جاء؟ إذ ليس في ذلك خبر صحيح عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا التابوت كان فيه مخلفات، وآثار من مخلفات موسى وهارون -عليهما السلام- مع احتمال أن يكون تعيين ذلك في بعض ما ذكرنا آنفًا، وأن هذا التابوت كان مصدرَ سكينة وطمأنينة لبني إسرائيل لا سيما عند قتال عدوهم، وأنه عاد إلى بني إسرائيل تحمله الملائكة، من غير بحث في الطريق الذي حملته بها الملائكة، وبذلك كان التابوت آية دالة على صدق طالوت في كونه ملِكًا عليهم، وما وراء ذلك من الأخبار التي نقلناها، أو نقلنا بعضًا منها لم يقم عليه دليل. شجرة طوبَى من الأشياء التي وردت فيها إسرائيليات: شجرة طوبى: كلمة طوبَى: كلمة طيبة، وحسنة، وجميلة، إلا أن الإسرائيليات لم تتركها أيضًا، أورد المفسرون في كلمة طوبى ومعناها كلامًا كثيرًا، وإسرائيلياتٍ كثيرةً. إليك هذه الإسرائيليات:

من الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين عند الآية وهي قول الله -جل وعلا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (الرعد: 29)، أورد ابن جرير بسنده وغيره عن وهب، قال: إن في الجنة شجرة يقال لها: طُوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، زهرتها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينما هم في مجلسهم؛ إذ أتتهم ملائكة من ربهم، يقودون نجبًا مزمومةً -النجب أي: الإبل الكرام- بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح حسنًا، ووبرها كخز المرعزي من لينه -الخز الحرير- عليها رحال، ألواحها من ياقوت، دفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فيفتحونها، يقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه، وتسلموا عليه، قال: فيركبونها، فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نُجبًا من غير مهنة، يسير الرجل إلى جنب أخيه، وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى، ولا برك راحلة برك الأخرى -أي: الصدر- حتى إن الشجرة لتتنحى عن طريقهم؛ لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيُسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه، قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول الله تعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم السلام، حقت رحمتي ومحبتي، مرحبًا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري، قال: فيقولون: ربنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا في السجود قدامك، قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نَصَب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنية، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي تنافس

أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، ربي فآتني مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد. قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال، قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قُبة من ذهب مفرَّغة فيه، كل قبة منها فرش من فرش الجنة، متظاهرة، في كل منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح ولا طيب إلا قد عبق بهما، ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن مَن يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صاحبه كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى هو لهما مثل ذلك، ويدخل إليهما فيحييانه، ويقبِّلانه، ويتعلقان به، ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفًّا في الجنة، حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له. هذا الكلام رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية، وكذا (الدر المنثور) للإمام السيوطي عند تفسيره لهذه الآية. أما العلامة ابن الكثير فقد وصف في تفسيره هذا الأثر بعدما أورده باختصار بأنه غريب، وعجيب، وساقه، وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب أيضًا، وزاد زيادات أخرى رغم أن ابن أبي حاتم قد اشترط ألا يُخرج إلا ما صح، لكن أورد هذا الأثر أيضًا، وكذا ذكره البغوي وغيرهم.

التفسير الصحيح لقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ}: المأثور عن السلف في تفسير طوبى غير الذي ذكر، فقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسيرها قال: "فرح لهم وقرة عين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} ". قال عكرمة: نِعم مالهم، وقال قتادة: حسنى لهم، وقال إبراهيم النخعي: خير لهم وكرامة، وروي أيضًا عن بعض الصحابة وغير واحد من السلف: أن: {طُوبَى} هي شجرة في الجنة، بل ورد ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا قال: ((طوبى شجرة في الجنة، ظلها مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة، تخرج من أكمامها)) هذا كلام ذكره العلامة ابن كثير. بل قيل أيضًا: إن الشجرة التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثة: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)) والحديث طبعًا في (مسند أحمد) ومتفق عليه في البخاري، ومسلم، قيل: إنها الشجرة أي: شجرة طوبى هي التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الراكب يسير في ظلالها مائة عام، فلا يقطع ظلالَها. وفي بعض روايات الإمام أحمد والبخاري، اقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الواقعة: 30) إلى آخره. ونحن لا ننكر احتمال أن تكون هذه الشجرة المذكورة في الحديث الصحيح أن تكون هي هذه الشجرة، ولكن الذي ننكره، ونقول إنه من الإسرائيليات: هذه الزيادات التي زادها وهب، ومن أخذ عنه من هذه التخريفات والتهويلات، ونحن في غُنية عن هذا بما ثبت في الأحاديث الصحاح، ونحن نرى أن الأحاديث الصحاح جاءت خاليةً من هذه التخريفات والتهويلات التي ننزّه عنها الرواية الإسلامية. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 7 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (5).

الدرس: 7 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (5).

قصة ذي القرنين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (5)) الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قصة ذي القرنين: ذلك الرجل الذي تحدثت عنه سورة "الكهف"، وبينت لنا أنه كان رجلًا ملِكًا، آتاه الله من كل شيء، والقرآن الكريم عندما يشير إلى أشياء هو يشير إلى أشياء باختصار على قدر ما يأخذ من العظة والعبرة، لكن الإسرائيليات فتحت الأبواب على مصاريعها، فما تمر قصة لنبي، أو قصة لشخصية، كذي القرنين، ولقمان، وأصحاب الأخدود، وعزير، وغير هؤلاء، إلا وترى أن الإسرائيليات سرت إلى كتب التفسير بأخبار كثيرة في هذا الشأن. فنقول: ومن الإسرائيليات التي طفحت بها بعضُ كتب التفسير ما يذكرونه في تفسيرهم عند الآيات التي ذُكرت في سورة الكهف. أما الآيات فهي قول الله -جل وعلا-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (الكهف: 83 - 85) والآيات تتوالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (الكهف: 86) {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} (الكهف: 90) {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} (الكهف: 93). وردت الآيات في هذا الشأن واضحة، أوجزت الإخبار عن هذا الملك الذي كان مطيعًا لله، وسخَّر الله له كثيرًا من الأشياء كما قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا}. الإمام ابن جرير عادةً ما يكون أسبقَ مَن تحدَّث ونقل هذه الأخبار كغيره من التفاسير القديمة، ذكر في تفسيره بسنده عن وهب بن منبه اليماني، وكان له عِلم بالأحاديث الأولى، كان له دراية وصلة بالأخبار القديمة والقصص القديم، وما كان قبل الإسلام، فيقول:

ذو القرنين رجل من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس له ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر، وإنما سُمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتَا من النحاس، فلما بلغ: وكان عبدًا صالحًا، قال الله -عز وجل- له: يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم الأرض، وهي أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. ثم استرسل في ذكر أوصافه، وما وهبه الله من العلم والحكمة، وأوصاف الأقوام الذي لقيهم، وما قال لهم، وما قالوا له، وفي أثناء ذلك يذكر ما لا يشهد له عقل ولا نقل، وقد سوَّد بهذه الأخبار أكثر من أربع صحائف من كتابه (جامع البيان) التي ليس لها مستند. إ نه قد ورد في قصة ذي القرنين أخبار وروايات كثيرة، ذكرها ابن جرير في ت فسيره وغيره، وكنا وصلنا إلى أنه ذكر أشياء لا يشهد لها عقل ولا نقل، وما ورد في وصف ذي القرنين والأمم التي شهدها. وردت كذلك روايات أخرى في سبب تسميته بـ"ذي القرنين" مما لا يخلو عن الخط أوالتخليط والتخبُّط، فقد ذكر ذلك عن غير ابن جرير، الإمام السيوطي في كتابه التفسير (الدر المنثور)، حيث قال: وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم، والشيرازي في (الألقاب)، وأبو الشيخ، عن وهب بن منبه اليماني أيضًا، وهو صاحب الرواية التي نقلها ابن جرير، وكان له علم بالأحاديث الأولى أنه كان يقول: كان ذو القرنين رجلًا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه " الإسكندر "، وإنما سمي ذا القرنين؛ ل أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، هكذا كما وردت

رواية ابن جرير. ونحن لا نشك في أن ذلك مما تلقاه وهب بن منبه عن كتبهم، وفيها ما فيها من الأباطيل والأكاذيب. ثم حملها عنه بعض التابعين، وأخذها عنهم محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب كتب التفسير والسير والأخبار. ويرحم الله الإمام الحافظ ابن كثير حيث قال في ت فسيره: وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلًا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونَكَارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم، إلى غير ذلك. كما روى ابن أبي حاتم عن أبيه أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم. هذا كلام ابن كثير، وحتى لو صح الإسناد إليها فلا شك في أنها من الإسرائيليات؛ لأنه لا تنافي بين الأمرين؛ فهي صحيحة السند إلى من رويت عنه، لكنها في نفسها من قصص بني إسرائيل المكذوب الباطل وأخبارهم التي لا تصح، ولو أن هذه الإسرائيليات وقف بها عند منابعها أو من حملها عنهم من الصحابة والتابعين لكان الأمر محتملًا، ولكن الإثم والكذب والباطل أن تُنسب هذه الأخبار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - ولو أنها كما أسلفنا، كانت صحيحة في معناها ومبناها لما حل نسبتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبدًا، فكيف وهي أكاذيب ملفقة وأخبار باطلة؟. روى أيضًا ابن جرير وغيره عند تفسير قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 83)، أورد حديثًا مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة قال: حدثني

عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من تجيب أنهما انطلقا إلى عقبة بن عامر فقالا له: جئنا لتحدثنا، فقال: " كنت يومًا أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت من عنده، فلقيني قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن لنا عليه، فدخلت عليه فأخبرته، فقال: ما لي ولهم، ما لي علم إلا ما علمني الله، ثم قال: اسكب لي ماءً، فتوض أثم صلى، قال: فلما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه، ثم قال: أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي، فدخلوا فقاموا بين يديه، فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبًا، وإن شئتم أخبرتكم، قالوا: بلى، أخبرنا، قال: جئتم تسألون عن ذي القرنين، وما تجدونه في كتابكم، كان شابًّا من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندري، فلما فرغ جاءه ملك، فعلى به في السماء، فقال له: ما ترى، فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل، وتثبِّت العالم، فأتي به السد، وهو جبلان ليّنان ينزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج، ثم مضى به إلى أمة أخرى، وجوههم وجوه الكلاب، يُقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم "، ثم عقَّب ذلك بسرد المرويات في سرد المرويات في سبب تسميته بذي القرنين .. إلخ. كل هذا ذكره (جامع البيان) ابن جرير. وذكر الإمام السيوطي في (الدر المنثور) مثل ذلك، وقال: إ نه أخرجه ابن عبد الحكم في (تاريخ مصر)، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في (الدلائل).

والحقيقة أن كل هذا من الإسرائيليات التي دُسَّت على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو شئت أن أقسم بين الركن والمقام أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما قال هذا لأقسمت، وابن لهيعة ضعيف في الحديث، وقد كشف لنا الإمام الحافظ ابن كثير عن حقيقة هذه الرواية في ت فسيره، وأنحى باللائمة على من رواها، فقال رحمه الله: وقد أورد ابن جرير هـ اهنا والأموي في مغازيه، حديثًا أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاءوا يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به: أنه كان شابا من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب، وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، والعجب أن أبا زرعة الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه (دلائل النبوة)، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني وهو ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، وكان وزيره أرسطا طاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم. هذا كلام العلامة ابن كثير. وهنا نسأل من هو ذو القرنين؟ والذي نقطع به أنه ليس الإسكندر المقدوني؛ لأن ما ذكره المؤرخون في تاريخه لا يتفق وما حكاه القرآن الكريم عن ذي القرنين، والذي نقطع به أيضًا أنه كان رجلًا مؤمنًا صالحًا، ملكه شرق الأرض وغربها، وكان من أمره ما قصه الله - تعالى - في كتابه، وهذا ما ينبغي أن نؤمن به وأن نصدقه، أما معرفة هويته، وما اسمه؟ ومن أين؟ وفي أي زمان كان؟ فليس في القرآن ولا في السنة الصحيحة ما

قصة يأجوج ومأجوج.

يدل عليه، على أن الاعتبار بقصته والانتفاع بها لا يتوقف على شيء من ذلك، وتلك سمة من سمات القصص القرآني، وخصيصة من خصائصه أنه لا يُعنى بالأشخاص والزمان والمكان مثلما يُعنى بانتزاع العبرة منها، والاستفادة منها، والدروس التي ينتفع بها البشر فيما سيقت لها. قصة يأجوج ومأجوج يتعلق أيضًا بقصة " ذي القرنين " ما يتصل بقصة "يأجوج ومأجوج"، وهي كذلك لم تسلم من إيراد الإسرائيليات، يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: ومن الإسرائيليات التي اتسمت بالغرابة، والخروج عن سنة الله في الفطرة وخلق بني آدم ما ذكره بعض المفسرين في تفسيرهم عند قوله: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (الكهف: 94)، ففي معناها ذكروا عن يأجوج ومأجوج الش يء الكثير من العجائب والغرائب. قال العلامة السيوطي في (الدر المنثور) الجزء الخامس، في تفسير هذه الآيات: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردوي هـ وابن عدي وابن عساكر وابن النجار، عن حذيفة قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يأجوج ومأجوج، فقال: "يأجوج ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف أمة، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صُلبه، كل حمل السلاح، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف؛ صنف منهم أمثال الأرز، قلت: وما الأرز؟ قال شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع في السماء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية".

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره هذه الرواية وغيرها من الروايات الموقوفة، وكذلك صنع القرطبي في تفسيره، وإذا كان بعض الزنادقة استباحوا لأنفسهم نسبة هذا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكيف استباح هؤلاء الأئمة ذكر هذه المرويات المختلقة المكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتبهم، وهذا الحديث المرفوع، نص الإمام أبو الفرج بن الجوزي في موضوعاته وغيره على أنه موضوع، وأ ذكر أيضًا (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة)، ووافقه السيوطي في كتابه (اللآلئ)، فكيف يذكره في تفسيره ولا يعقب عليه، وحُقَّ له أن يكون موضوعًا، فالمعصوم -صلى الله عليه وسلم- أجل من أن يروى عنه مثل هذه الخرافات. وفي كتب التفسير من هذا الخلط وأحاديث الخرافة شيء كثير، ورَوَوْا في هذا عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعن كعب الأحبار، ولكي تتأكد أن ما رُفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هي إسرائيليات نُسبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- زورًا وكذبًا، نذكر لك ما روي عن كعب، قال: "خلق يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف؛ صنف كالأرز، وصنف أربعة أذرع طول وأربعة أذرع عرض، وصنف يفترشون آذانهم ويلتحفون بالأخرى، يأكلون مشائم نسائهم". المشائم طبعًا جمع مشيمة، وهي ما ينزل مع الجنين حين يولد، ومنها يتغذى الجنين في بطن أمه، أشياء عجيبة، وعلى حين نراهم يذكرون م ن هول وعظم خلقهم ما ذكرت الآن وما سمعنا إذ اهم يرون عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن يأجوج ومأجوج شبر وشبران، وأطولهم ثلاثة أشبار، وهم من ولد آدم"، كل هذا كلام متناقض، بل رَوَوا عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بعثني الله ليلة أسري بي إلى يأجوج ومأجوج، فدعوتهم إلى دين الله وعبادته، فأبوا أن يجيبوني، فهم في النار مع من عصى من ولد آدم وإبليس"، والعجب أن الإمام

السيوطي قال عن هذا الحديث: إن سنده واهن، ولا أدري لما ذكره مع وهاء سنده، الإمام الشيخ أبو شهبة يتعجب من صنع الإمام السيوطي؛ إذا كان حكم على سنده بأنه واهن فيه ضعف فلما يذكره؟ قال صاحب (الدر) الإمام السيوطي: "وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي في (البعث) وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن يأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث أمم، تاويل وتاريس ومنسك ". قال: وأخرج أحمد والترم ذ ي وحسنه وابن ماج هـ وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في (البعث) عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستفتحونه غدًا ولا يستثني " يعني: لا يقول: إن شاء الله؛ لأنه إذا قال: إن شاء الله هي في معنى الاستثناء؛ يعني: إلا أن يشاء الله يقول: ستفتحونه غدًا ولا يستثني، " فإذا أصبحوا وجدوه قد رجع كما كان، فإذا أراد الله خروجهم على الناس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستفتحونه إن شاء الله ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فيستقون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون: قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء، قسوا وعلوا، فيبعث الله عليه نغفًا في أعناقهم فيهلكون "، يبعث الله عليهم النغف، النغف: نوع من الحشرات هـ والدود، عادة يكون في أنوف الإبل والغنم، والنغف جمع مفرده نغفه، الله يرسل عليهم هذه الحشرات والديدان في أعناقهم فيهلكون.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " فوالذي نفس محمد بيده، إن دوابّ الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرًا من لحومهم "، هذا من أثر أنهم يأكلون منه م، هذا الحديث على كل حال، أورده صاحب (الدر المنثور) الإمام السيوطي، ومهما كان سند مثل هذا، فهو من الإسرائيليات عن كعب وأمثاله، وقد يكون رفعها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- غلطًا وخطأً من بعض الرواة، أو كيدًا يكيد به الزنادقة اليهود للإسلام، وإظهار رسوله -صلى الله عليه وسلم- بمظهر من يروي ما يخالف القرآن، فالقرآن قد نص بما لا يحتمل الشك على أنهم لم يستطيعوا أن يعلوا السد، الآيات واضحة: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (الكهف: 97)، فهم لم يستطيعوا أن يعلوا السد، ولا أن ينقبوه كما جاء في الآية السابعة والتسعين. وإليك ما ذكره في هذا الإمام الحافظ ابن كثير وهو ناقد بصير، يقول ابن كثير في ت فسيره بعد أن ذكر من روى هذا الحديث، قال: وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة، ثم قال: غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه، وإسناده جيد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه، ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدَّته، ولكن هذا قد رُوي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه، حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون: غدًا نفتحه، فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه، حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك فيصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون: غدًا نفتحه، ويُلهمون أن يقولوا: إن شاء الله، فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه، وهذا متجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كثيرًا ما كان يجالسه ويُحدّثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فر ف عوه، والله أعلم. هذا مذكور في (تفسير ابن كثير).

قصة الذبيح ابن إبراهيم - عليه السلام -.

إن من الإسرائيليات المستنك ر ة في هذا ما روي أيضًا، أن يأجوج ومأجوج خُلقوا من مني خرج من آدم، فاختلط بالتراب، وزعموا أن آدم كان نائمًا فاحتلم، فمن ثمَّ اختلط منيه بالتراب، ومعروف أن الأنبياء لا يحتلمون؛ لأن الاحتلام من الشيطان، قال ابن كثير: وهذا قول غريب جدًّا لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد ها هنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم. طبعًا هذا مذكور عند ابن كثير وعند غيره. والخلاصة: إن ذا القرنين، ويأجوج ومأجوج حقائق ثابتة، وأصحاب الكهف حقائق ثابتة، ذكرتها سورة " الكهف "، لا شك في ذلك، ولا سيما قد أخبرنا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ولكن الذي ننكره أشدّ الإنكار هذه الخرافات والأساطير التي حيكت حولهم، ودست إلى المرويات الإسرائيلية، والله بريء منها، ورسوله منها بريء، وإنما هي من أخبار بني إسرائيل وأكاذيبهم وتحريفاتهم. قصة الذبيح ابن إبراهيم - عليه السلام - ننتقل إلى موضوع واسع كثر الكلام فيه، وهو أيضًا عمر بالإسرائيليات الكثيرة، ألا وهو ما ورد في قصة الذبيح ابن إبراهيم - عليه السلام - أهو سيدنا إسماعيل أو أنه سيدنا إسحاق؟. وردت في هذا إسرائيليات كثيرة وكثيرة؛ ومن الإسرائيليات ما يذكره كثير من المفسرين عند تفسير الآيات التي ذكرت هذا بتفصيل، في قوله -جل وعلا- في سورة " الصافات ": {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا

أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: 99 - 113). هذه الآيات في تفسيرها في معظم كتب التفسير، روى المفسرون رو ايات كثيرة على رأسهم ابن جرير الطبري في تفسيره للآيات في (جامع البيان)، وكذا البغوي في (معالم التنزيل)، وصاحب (الدر المنثور) الإمام السيوطي، روايات كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين وكعب الأحبار، ومعظمها يركز على أن الذبيح هو إسحاق، سبحان الله العظيم، المعروف أن الذبيح هو سيدنا إسماعيل وليس إسحاق، ومع ذلك أورد المفسرون روايات كثيرة في هذا الشأن، سنقف عليها إن شاء الله. والأمر لم يقف ولم يقتصر عند المذكور عن الصحابة والتابعين، بل بعضهم رفع ذلك زورًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقد روى ابن جرير، عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الذبيح إسحاق"، وهذا حديث ضعيف ساقط، لا يصح الاحتجاج به، فالحسن بن دينار مطرود، وشيخه علي بن زيد بن جدعان منكر الأحاديث، فهذا يبين درجة هذا الحديث. وأخرج الديلمي في (مسند الفردوس) بسنده، عن أبي سعيد خضري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن داود سأل ربه مسألة، فقال: اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه؛ إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر، وابتليت اسحاق بالذبح فصبر، وابتليت يعقوب فصبر"، هذا طبعًا كلام لا يصح.

وأيضًا أخرج الدارقطني والديلمي في (مسند الفردوس) بسندهما، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الذبيح إسحاق"، وهي أحاديث لا تصح، هكذا قال علماؤنا؛ علماء الجرح والتعديل، وعلماء الحديث، وعلى رأسهم شيخنا "الشيخ أبو شهبة" قال: وهي أحاديث لم تثبت ولم تصح، وأحاديث الديلمي في (مسند الفردوس) شأنها معروف، والدارقطني ربما يُخرج في (سننه) ما هو موضوع. كما أخرج الطبراني في (الأوسط)، وابن أبي حاتم في ت فسيره، من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يس ار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي؛ فاخترت شفاعتي، ورجوته أن تكون أعم لأمتي، ولو الذي سبقني إليه العبد الصالح، لعجلت دعوتي، إن الله - تعالى - لما فرج عن إسحاق كرب الذبح، قيل له: يا إسحاق، سل تعطى، قال: أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بالله شيئًا قد أحسن فاغفر له". وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، كما قال شيخنا "الشيخ أبو شهبة"، وابن زيد يروي المنكرات والغرائب، فلا يحتج بمروياته، وقد قال ابن كثير: الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة، وهي قوله: إن الله لما فرج عن إسحاق كرب الذبح، وإن كان محفوظًا فالأشبه أنه إسماعيل وحرفوه بإسحاق. إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أن الذبيح إسحاق قبلناه، ووضعناه على العين والرأس، ولكنها كما ترى لم يصح منها شيء، هكذا قال العلامة ال ألوسي عندما عرض لذلك.

والحق أن المرويات في أن الذبيح إسحاق هي من إسرائيليات أهل الكتاب، وقد نقلها من أسلم منهم ككعب الأحبار، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين، تحسينًا للظن بهم، فذهبوا إليه، وجاء بعدهم العلماء فاغتروا بها، وذهبوا إلى أن الذبيح إسحاق، وما من كتاب من كتب التفسير والسير والتواريخ إلا ويذكر فيه الخلاف بين السلف في هذا، إلا أن منهم من يعقب ببيان وجه الحق في هذا، ومنهم من لا يعقب اقتناعًا بها وتسليمًا لها. يقول شيخنا العلامة فضيلة الشيخ دكتور "محمد أبو شهبة": وحقيقة هذه المرويات أنها من وضع أهل الكتاب؛ ل عداوتهم المتأصلة من قديم الزمان للنبي الأمي العربي محمد -عليه الصلاة والسلام- وقومه العرب، فقد أرادوا ألا يكون لإسماعيل الجد الأعلى للنبي -صلى الله عليه وسلم- والعرب فضل أنه الذبيح؛ حتى لا ينجر ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى الجنس العربي. نقول أيضًا: إنهم حرفوا التوراة؛ أهل الكتاب حرفوا التوراة، ولأجل هذا ولأجل أن يكون هذا الفضل لجدهم إسحاق لا لأخيه إسماعيل حرفوا التوراة في هذا، ولكن الله أبى إلا أن يغفل عما يدل على هذه الجريمة النكراء، والجاني غالبًا يترك من الآثار ما يدل على جريمته، والحق يبقى له شعاع ولو خافت يدل عليه مهما حاول المبطلون إخفاء نوره وطمس معالمه، فقد حذفوا من التوراة لفظ إسماعيل، ووضعوا بدله لفظ إسحاق، ولكنهم غفلوا عن كلمة كشفت عن هذا التزوير، وذلك الدث المشين، وإليك نص التوراة: ففي التوراة الإصحاح الثاني والعشرون، الفقرة الثانية هذا النص: "فقال الرب خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" انظر إلى العبارة، فليس أدلّ على كذب

هذا من كلمة وحيدك، وإسحاق -عليه السلام- لم يكن وحيدًا قط؛ لأنه ولد ولإسماعيل نحو أربع عشرة سنة، نعرف أن أول من بشر به سيدنا إبراهيم من الأولاد سيدنا إسماعيل، ثم كان إسحاق بعد ذلك، وهذا صريح في توراتهم هذا الكلام، وقد بقي إسماعيل -عليه السلام- حتى مات أبوه الخليل إبراهيم وحضر وفاته ودفنه. وإليك ما ورد في هذا أيضًا في سفر التكوين، الإصحاح السادس عشر، الفقرة السادسة عشر هذا نص آخر: " وكان إبرام -كلمة إبرام يعني إبراهيم- ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لإبرام". وفي سفر التكوين الإصحاح الحادي والعشرون الفقرة الخامسة: "وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه". وأيضًا عبارة أخرى: "ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمرح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق، فقبح الكلام جدَّا في عيني إبراهيم لسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك في كل ما تقول سارة اسمع لقولها؛ لأنه بإسح اق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضًا سأجعله أمة لأنه نسلك" .. إلى آخر القصة. فالكلام هنا، ما قول اليهود الذين يحرفون في هذا الكلام؟ وكيف يتأتى أن يكون إسحاق وحيدًا مع هذه النصوص التي هي من توراتهم التي يعتقدون صحتها ويزعمون أنها ليست محرفة؟ ثم ما رأيهم في الروايات التي تقول: إن الذبيح إسحاق بعدما تأكدوا تحريف التوراة في هذا؟.

دلَّ القرآن الكريم ودلت التوراة ورواية البخاري في ص حيحه على أن الخليل إبراهيم -عليه السلام- أسكن هاجر وابنها عند مكان البيت المحرم، وقد بُني فيما بعد، وقامت مكة بجوار هذا البيت، وقد عبَّرت التوراة بأنهما كانا في برية فاران، وفاران هي مكة كما يعبر عنها العهد القديم، وهذا هو الحق في أن قصة الذبح كان مسرحها بمكة ومنى، وفيها يذبح الحُجاج ذبائحهم اليوم، وقد حرف اليهود النص الأول وجعلوه جبل المريا، وهو الذي تقع عليه مدينة أورشاليم القديمة؛ مدينة القدس الإسلامية اليوم؛ ليتمَّ لهم ما أرادوا فأبى الحق إلا أن يظهر تحريفهم. وقد ذكر العلامة شيخ الإسلام "ابن تيمية" وتلميذه "ابن كثير" أن في بعض نسخ التوراة لفظ "بكرك" بدل كلمة "وحيدك"، هما نقلوا عبارة وحيدك،"خذ ابنك وحيدك" في بعض الروايات "خذ ابنك بكرك" بدل وحيدك، وهذا أظهر في البطلان وأدل على تحريف كلام اليهود في توراتهم؛ إذ لم يكن إسحاق بكرًا للخليل بنص التوراة. هيا نؤكد أن الذبيح هو إسماعيل -عليه السلام، فالحق أن الذبيح هو إسماعيل -عليه السلام- وهو الذي يدل عليه ظواهر الآيات القرآنية، والآثار عن الصحابة والتابعين، ومنها ما له حكم الرفع بتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- له، فلا عجب أن ذهب إليه جمهرة الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأئمة العلم والحديث؛ منهم الصحابة النجباء والسادة العلماء، منهم علي وابن عمر وأبو هريرة، فقد ذكروا أن الفاروق عمر -رضي الله عنه- كان يقول: إنه إسحاق، وأنا استبعد ذلك جدًّا، الإمام الشيخ أبو شهبة يقول: وأنا استبعد ذلك أن عمر يقول: إنه إسحاق، وهو أيقظ من أن يخدع برواية كعب، ولو صح ما نقل عنه؛ لتأثر الابن بأبيه، وكذلك اختلف في علي، فالبغوي على أنه يقول: إسحاق، وابن أبي حاتم على أنه يقول: إسماعيل، تفسير ابن كثير فيه كثير.

مشاهير الصحابة؛ علي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو الطفيل، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والحسن البصري، ومحمد بن كعب القر ظ ي، وابن المسيب، وأبو جعفر محمد الباكر، وأبو صالح، والربيع بن أنس، وأبو عمرو بن العلاء، وابن حنبل الإمام، وغيرهم؛ كل ذلك في الروايات القوية الثابتة عنهم أنه هو إسماعيل -رضي الله عنه، وكذلك ورد عن ابن عباس. في (زاد الميعاد) لابن القيم قال: إنه الصواب أن الذبيح إسماعيل عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهذا الرأي هو المشهور عند العرب قبل البعثة، نقلوه بالتواتر جيلًا عن جيل، وذكره أمية بن أبي السلط في شعر له. ينقل لنا أيضًا العلامة "الشيخ أبو شهبة" فيقول تحت عنوان: العلماء المحققون على أنه إسماعيل -عليه السلام- فيقول: نقل العلامة ابن القيم عن شيخيه ابن تيمية كلام ً اهذا خلاصته: ولا خلاف بين النسابين أن عدنان من ولد إسماعيل -عليه السلام - وإسماعيل هو القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فباطل من عشرين وجهًا، وسمعت شيخ الإسلام "ابن تيمية" -قدس الله روحه- يقول: "هذا القول متلقى عن أهل الكتاب القول بأنه إسحاق مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم بذبح ابنه البكر، وفيه لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر هؤلاء أنه في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم؛ لأنها تناقد قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.

ثم إننا نقول: وكيف يسوغ أن يقال: إ ن الذبيح إسحاق؟ والله - تعالى - قد بشَّر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، قال - تعالى -: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (هود: 71)، فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد، وللولد ولد، ثم يأمر بذبحه، هذا كلام عظيم من شيخنا الشيخ أبو شهبة، ولا ريب أن يعقوب -عليه السلام- داخل في البشارة، ويدل عليه أيضًا أن الله ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة " الصافات "، ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (فاطر: 112)، وهذا ظاهر جدًّا في أن المُبَشَّر به غير الأول، بل هو كالنص في ذلك، وغير معقول في أفصح الكلام وأبلغه أن يبشر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح؛ فتعيَّن أن يكون الذبيح غيره، وهذا لا يكون إلا إسماعيل -عليه السلام. وأيضًا لا ريب أن الذبيح كان بمكة؛ ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامته لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، ولو كان الذبح بالشام -كما يزعم أهل الكتاب- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة، وأيضًا فإن الله -سبحانه- سمى الذبيح "حليمًا"؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه "عليمًا": {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28)، وهذا إسحاق بلا ريب؛ لأنه من امرأته وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية، وأيضًا فلأنهما بُشِّرا به على الكبر واليأس من الولد، فكان ابتلاؤهما بذبحه أمرًا بعيدًا، وأما إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك .. إلى آخر ما قال، وكلمة إسماعيل من السرية؛ السرية: أي الجارية.

أما الآثار التي تدل على أن الذبيح إسماعيل فكثيرة، فقد دلَّت بعض الأحاديث عن الصحابة والتابعين، أحاديث وآثار على أن الذبيح إسماعيل، روى الحاكم في (المستدرك) وابن جرير في تفسيره بسنده، وغيرهما، عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: "حضرنا مجلس معاوية، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، أيهما الذبيح؟ فقال بعضهم: إسماعيل، وقال البعض: إسحاق، فقال معاوية: على الخبير سقطم، كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآتاه أعرابي، فقالوا: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسًا، والمال عابسًا -يراد أن الحياة كان فيها شدة وبأس، شدة جوع وعطش- هلك ال عيال وضاع المال، فعُد علي مما أفاء الله -تعالى- عليك يابن الذبيحين، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يُنكر عليه، فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه، فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة، فخرج السهم على عبد الله، فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزون، وقالوا: ارضِ ربك وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، قال معاوية: هذا واحد والآخر إسماعيل. يقول الشيخ "أبو شهبة" في تخريجه على هذا الحديث هذا الحديث في حكم المرفوع لتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي على مقالاته، واختلف فيه؛ فمنهم من صححه، ومنهم ضعفه، ولكنه أثر موجود. وشهد شاهد على أهلها فقد روى ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت انظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان يهوديًّا، فأسلم، وحسن إسلامه، وكان من علمائهم، فسأله: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهودًا لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وهذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه.

قال العلامة ابن كثير في تفسيره: والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى، والله أعلم. انظر تفسير ابن كثير، وانظر أيضًا (معالم التنزيل) للبغوي، فقد أوردوا هذه الرواية وقالوا هذا الكلام. وبعد هذا التحقيق والبحث يتبيَّن لنا أن الصحيح أن الذبيح إسماعيل -عليه السلام- وأن ما رُوي من أنه إسحاق والمرفوع منه إما موضوع وإما ضعيف لا يصح الاحتجاج به، والموقوف منه على الصحابة أو على التابعين إن صح سنده إليهم، نقول: هو صحيح الإسناد لكنه في المتن من الإسرائيليات التي رواها أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنها في أصلها من دسائس اليهود وكذبهم وتحريفهم للنصوص؛ حسدًا للعرب ولنبي العرب، فقاتلهم الله أنَّى يُؤفكون، يريدون أن يقولوا: إن النبي من العرب من نسل إسماعيل -عليه السلام- نحن نقول: إنه رسولنا من نسل إسماعيل -عليه السلام- لكنهم يريدون أن يقولوا: إنه نبي للعرب فقط، ونحن نقول: هو نبي الله إلى قومه وإلى الناس كافة، فهو رسول الله إلى الناس جميعًا. هذا الدسّ اليهودي جاز على بعض كبار العلماء كابن جرير والقاضي عياض والسهيل؛ فذهبوا إلى أنه إسحاق، وتحيَّر بعضهم في الروايات فتوقف؛ الإمام السيوطي العجب منه أن نراه يتوقف عند هذه الروايات، وحاول البعض الجمع بينها فزعم أن الذبح وقع مرتين، شيء عجيب، والحق هو ما سبق القول به وهو أنه إسماعيل -عليه السلام- فهو القول الذي تؤيّده الشواهد والآثار والنصوص، والله أعلم. ثم نعقّب بأن الإسرائيليات في قصص الأنبياء والأمم السابقة كثيرة، ما أكثرها، وما أشدّ خطرها على كتب الثقافة الإسلامية؛ وخاصة كتب التفسير، كتب

التفسير على اختلاف مناهجها جاء فيها إسرائيليات كواذب، مرويات بواطل لا يحصيها العدّ، وهذا يتعلق بقصص الأنبياء والمرسلين والأمم والأقوام السابقين، والعجب أن بعض الصحابة والتابعين يروون هذا الهراء، وربما رفعوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هذه المرويات والحكايات لا تمّت إلى الحقيقة، ولا تمت إلى الإسلام، وإنما هي من خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم وافتراءاتهم على الله وعلى رسوله، رواها عن أهل الكتاب الذين أسلموا وأخذها منهم الصحابة أو بعض الصحابة والتابعين، وفيها ما هو محرف، وفيها ما هو منقول من الأباطيل، والحقيقة لا يمكن استقصاء كل ما ورد من الإسرائيليات وإلا احتجنا إلى مجلدات، وإنما سنكتفي بما ورد في المنهج ونبين بطلانه وخطأه، وخاصة ما يخل بالعقيدة الصحيحة إن شاء الله. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 8 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (6).

الدرس: 8 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (6).

قصة سليمان - عليه السلام -.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (6)) قصة سليمان - عليه السلام - الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن قصة سليمان -عليه السلام- ورد فيها من الإسرائيليات الكثير والكثير، وقد ذكر بعض المفسرين فيها كلامًا طويلًا، ولا سيما ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي وغيرهم، فذكروا في تفس يرهم روايات كثيرة، أوجزتُ بعضها فيما مضى وأفصله الآن، فكل ما روي في هذا يتلخص م ن بعض الروايات: ذكروا الإسرائيليات من غير تمييز بين الصحيح والضعيف، والغثِّ والثمين، والإمام السيوطي أيضًا في (الدر المنثور) ذكره، وليته -إذ فعل- نقد الروايات التي يسوقها، وبيَّن منزلتها من القبول والرد، وما هو من الإسرائيليات، وما ليس منها، يقول السيوطي في (الدر ": (أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، بسند قوي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أراد سليمان -عليه السلام- أن يدخل الخلاء، فأعطى الجرادة خاتمه، وكانت الجرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته، فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين. فلما خرج سليمان من الخلاء، قال لها: هاتي خاتمي، فقالت: لقد أعطيته سليمان، قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحدًا يقول له: أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك، عرف أنه من أمر الله -عز وجل- وقام الشيطان يحكم بين الناس. فلما أراد الله - تعالى - أن يردّ على سليمان -عليه السلام- سلطانه، ألقى الله في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسل وا إلى نساء سليمان -عليه السلام- فقالوا لهن: أيكون من سليمان شيء؟ قلن: نعم -يعني: هل يحدث شيء غير طبيعي- قالت

النساء: نعم، إنه يأتينا ونحن حيّض، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتبًا فيها سحر ومكر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثروها؛ أي: أخرجوها وقرءوها على الناس قالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم، فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر، فتلقته سمكة، فأخذته، فكان سليمان على شط البحر يعمل بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكًا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان -عليه السلام- فقال له: تحمل لي هذا السمك؟ ثم انطلق إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان -عليه السلام- وشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، وعاد إلى حاله، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان -عليه السلام- في طلبه، وكان شيطانًا مريدًا يطلبونه ولا يقدرون عليه، حتى وجدوه يومًا نائمًا فجاءوا فبنوا عليه بنيانًا من رصاص، فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا دار معه الرصاص، فأخذوه وأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان -عليه السلام- فأمر به، فنقب له في رخام، ثم أدخل في جوفه ثم سدّ بالنحاس، ثم أمر به فطرح في البحر، فذلك قوله: {وَل َقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) {ص: 34)، جسدًا؛ يعني الشيطان. والإمام السيوطي روى في (الدر) روايات أخرى، عن ابن عباس وعن قتادة، في أن هذا الشيطان كان يسمى "صخرًا "، وروى عن مجاهد أن اسمه "آصف " وأن سليمان سأله؛ كيف تفتنون الناس؟ فقال الشيطان: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فَسَاحَ سليمان وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه، حتى كان ما كان من أمر السمكة والعثور على الخاتم ورجوع ملك سليمان إليه.

غير أن في رواية قتادة ومجاهد؛ أن الشيطان لم يسلط على نساء سليمان ومنعهنّ الله منه، فلم يقربهنّ ولم يقربنه. على كل حال، روايات مختلفة في هذا الأمر، وكلها إسرائيليات. ويقول شيخنا الشيخ أبو شهبة - رحمه الله -: ونحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل وأباطيلهم، وأن ابن عباس وغيره تلقوها عن مُسلمَة أهل الكتاب؛ أي: الذين أسلموا من أهل الكتاب، وليس أدلّ على هذا مما ذكره السيوطي في (الدر) قال: وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي، حتى سألت عنهن كعب الأحبار -رضي الله عنه- وذكر منها، وسألته عن قوله - تعالى -: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ {، قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان -عليه السلام- الذي فيه ملكه، فقذف به في البحر، فوقع في بطن سمكة، فانطلق سليمان يطوف؛ إذ تُصدّق عليه بتلك السمكة فاشتواها فأكلها، فإذا فيها خاتمه، فرجع إليه ملكه. وكذا ذكرها مطولة جدًّا الإمام البغوي في ت فسيره كعادته، يروي القصص برواياته المطولة، رواه عن محمد بن إسحاق، عن وهب بن المنبه؛ قد يسأل سائل: إذا كانت هذه الرواية سندها قوي، فهل هذا يعني أنها مقبولة؟ الجواب: لا، فقوة السند لا تنافي كونها إسرائيليات، ويجب أن نعلم ونتأكد من أن قوة السند لا تنافي كون القصة مما أخذه ابن عباس وغيره عن كعب الأحبار وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب، فثبوتها في نفسها لا ينافي كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وكذبهم وخرافاتهم وافتراءاتهم على الأنبياء. يقول الشيخ أبو شهبة: ولنا سلف من العلماء في رد هذا الغثاء، فقد سبق إلى التنبية إلى ذلك القاضي عياض في كناب (الشفا) فقال: ولا يصح ما نقله

الإخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه والظلم؛ لأن الشياطين لا يُسلطون على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثل هذا. هذا كلام القاضي عياض في كتابه (الشفا). وكذلك الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في ت فسيره قال بعد أن ذكر ال كثير من هذه الرويات, قال: وهذه كلها من الإسرائيليات. ومن أنكرها أيضًا ما قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حسين، قال: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: أخبرنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله - تعال ى-: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}، قال: أراد سليمان -عليه الصلاة والسلام- أن يدخل الخلاء وكذا وكذا؛ ذكر الرواية التي سبق ذكرها، ثم قال -أي قال العلامة ابن كثير -: إسناده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما- قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس -رضي الله عنهما- إن صح عنه من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان -عليه الصلاة والسلام- فالظاهر أنه يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف، أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان، بل عصمهنّ الله -عز وجل- منه تشريفًا وتكريمًا لنبيه -عليه السلام- وقد رويت هذه القصة عن جماعة من السلف -رضي الله عنهم- بطولها؛ كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وآخرين، وكلها متلقاة عن أهل الكتاب، والله - سبحانه - أعلم بالصواب. قال علماؤنا: كلها أكاذيب وتلفيقات، ولكن بعض الكذبة من بني إسرائيل كان أحرص وأبعد غورًا من البعض الآخر؛ فلم يتورّط فيما تورط فيه البعض من ذكر تسلط الشيطان على نساء سليمان؛ وذلك حتى يكون لما لفقه وافتراه بعض

القبول عند الناس، أما البعض الآخر فكان ساذجًا في كذبه، مغفّلًا في تلفقيه، فترك آثار الجريمة بينة واضحة، وبذلك أشتمل ما لفقه على دليل كذبه. هذا كلام شيخنا الشيخ أبي شهبة، ويستطرد قائلًا: ومن العجيب أن الإمام السيوطي نبه في كتابه (تخريج أحاديث الشفاء) أنها إسرائيليات تلقاها تلقاها ابن عباس عن أهل الكتاب، وليته نبَّه إلى ذلك في التفسير ولكنه لم يفعل. والحق أن نسج القصة مهلهل عليه أثر الصنعة والاختلاق والكذب، كما أنها هذه القصة تصادم العقل السليم والنقل الصحيح في هذا. وإذا جاز للشيطان أن يتمثَّل برسول الله سليمان -عليه السلام- فأيُّ ثقة بعد ذلك بالشرائع تبقى؟ وكيف يسلط الله الشيطان على نساء نبيه سليمان، وهو أكرم على الله من ذلك؟ وأيُّ ملك أو نبوة يتوقف أمرهما على خاتم يدومان بدوامه، ويزولان بزواله؟ وما عاهدنا في التاريخ البشري شيئًا من ذلك، وإذا كان خاتم سليمان -عليه السلام- بهذه المثابة؛ فكيف يغفل الله شأنه في كتابه الشاهد على الكتب السماوية، ولم يذكره بكلمة؟ وهل غير الله سبحانه خلقة سليمان في لحظة حتى أنكرته أعرف الناس به، وهي زوجته جرادة؟ هذا كلام لا يُعقل. الحق أن نسج القصة مهلهل لا يصمد أمام النقد، وأن آثار الكذب والاختلاق ظاهرة عليها. نسبة بعض هذه الأكاذيب إلى رسول الله؛ مشكلة أخرى عندما نرى أنه قد تجرأ بعض الرواة أو غلط فرفع بعض هذه الإسرائيليات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؛ قال الإمام السيوطي في (الدر المنثور): وأخرج الطبراني في (الأوسط)، وابن مردويه بسند ضعيف، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- "و ُ ل ِ د َ لسل ي مان و َ لد، فقال للشياطين تواريه من الموت، قالوا: نذهب به إلى المشرق، فقال: يصل إليه

الموت، قالوا: فإلى المغرب، قال: يصل إليه الموت، قالوا: إلى البحار، قال: يصل إليه الموت، قالوا: نضعه بين السماء والأرض، قال: نعم. ونزل عليه ملك الموت فقال: إني أمرت بقبض نسمة طلبتها في البحار وطلبتها في تخوم الأرض، فلم أصبها، فبين أنا قاعد أصبتها فقبضتها، وجاء جسده حتى وقع على كرسي سليمان، فهو قول الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَْ} ". هذا الحديث موضوع مكذوب مختلق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد يكون ذلك من عمل بعض الزنادقة، أو من غلط بعض الرواة، وقد نبه على وضعه الإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وقال: يحيى بن كثير يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، ولا ينسب إلى نبي الله سليمان ذلك، ووافقه السيوطي على وضعه، انظر كتاب (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) له، ولا يشك في وضع هذا إلا من يشك في عصمة الأنبياء عن مثله، وأحرى بمثل هذا أن يكون مختلقًا على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى نبي الله سليمان، وإنما هو من إسرائيليات بني إسرائيل وأكاذيبهم. نعود إلى ختام القول في هذه الفتنة، وقد سبقت الإشارة إلى شيء منها، وقد أردت تفصيلها؛ درءًا للمفاسد التي قد تفهم حول هذه القصة، فيقول شيخنا الشيخ أبو شهبة -رحمه الله -: والصحيح المتعين في تفسير الفتنة هو ما جاء في (الصحيحين)، واللفظ للإمام البخاري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسًا يُجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه -قرينه من الملائكة-: ق ل: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل واحدة منهم شيئًا، إلا واحدة جاءت بولد ساقط إحدى شقيه))، فقال البني -صلى الله عليه وسلم-: ((لو قالها لجاهدوا في سبيل الله أجمعين)).

الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب - عليه السلام -.

فهذا هو الراجح والمتعين في تفسير الآية، وخير ما يُفسر به كلام الله هو ما صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بينت بعض الروايات أن الترك كان نسيانًا، والمراد بصحابه؛ الم َ ل َ ك، كما جاء في بعضها. الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب - عليه السلام - قصة أخرى نعقب أيضًا على ما جاء في بعضها، ألا وهي: "قصة أيوب - عليه السلام - " ذلك الرسول الذي كثرت أيضًا حوله الإسرائيليات، وسبق القول فيه بإجمال، وإلى تفصيل يوضح جوانب الدخيل والإسرائيليات أكثر وأكثر في قصة هذا الرسول الكريم الذي له قصة، وله أحوال تكررت في القرآن الكريم، فمن القصص التي تزيَّد فيها المتزيدون واستغلها القصاصون وأطلقوا فيها لخيالهم العنان هذه القصة، فقد رووا فيها ما عصم الله أنبياءه عنه، وصور وهـ بصورة لا يرضاها الله لرسول من رسله. ذكر بعض المفسرين عند الآيات في قوله - جل وعل ا -: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 41 - 44). هذه الآيات غير الآيات الأخرى التي ذكرت المرض والضر الذي أصاب سيدنا أيوب، وجاءت الآيات الأخرى كما ذكرت سابقًا في س ورة "الأنبياء": {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83، 84)، هنا في هذه الآيات ذكر السيوطي في (الدر المنثور)، وغير السيوطي، ذكروا عن قتادة في قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} الآية، قال:

ذهاب الأهل والمال، وأ ما الضر الذي أصابه في جسده، فقد قالوا: ابتلي سبع سنين وأشهرًا، فألقي على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وأعظم له الأجر وأحسن. قال: وأخرج الإمام أحمد في (الزهد)، وابن أبي حاتم وا بن عساكر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن الشيطان عرج إلى السماء، فقال: يا ربي سلطني على أيوب -عليه السلام-، قال الله: قد سلطك على ماله وولده، ولم أسلطك على جسده، فنزل فجمع جنوده، فقال لهم: قد سلطت على أيوب -عليه السلام- فأروني سلطانكم، فصاروا نيرانًا، ثم صاروا ماء، فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى بقره - أي: ماشيته - وطائفة إلى غنمه، فقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض، فجاء صاحب الزرع فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك عدوًّا فذهب به، وجاء صاحب الإبل فقال: ألم تر إلى ربك أرسل على إبلك عدوًّا فذهب بها، ثم جاء صاحب البقر فقال: ألم تر إلى ربك أرسل على بقرك عدوًّا فذهب بها؛ وتفرَّد هو ببنيه جمع هم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون ويشربون؛ إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم. فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام، فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم، فقال له أيوب: أنت الشيطان، ثم قال له: أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام فحلق رأسه، وقام يصلي، فرنَّ إبليس رنَّة سمع بها أهل السماء

وأهل الأرض، ثم خرج إلى السماء فقال: أي ربي إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك، قال: قد سلطك على جسده، ولم أسلطك على قلبه. فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة، قُرح ما بين قرنيه إلى قدمه، فصار قرحة واحدة، وأُلقيَ على الرماد حتى بدا حجاب قلبه فكانت امرأته تسعى إليه حتى قالت له: أما ترى يا أيوب قد نزل بي والله من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمك، فادعو الله أن يشفيك ويريحك، قال: ويحك كنا في النعيم سبعين عامًّا فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عامًا، فكان في البلاء سبع سنين ودعا، فجاء جبريل -عليه السلام- يومًا، فأخذه بيده ثم قال: قم فقام، فنحاه عن مكانه وقال: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فركض برجليه فنبعت عين، فقال: اغتسل، فاغتسل منها، ثم جاء أيضًا فقال: اركض برجلك، فنبعت عين أخرى، فقال له: اشرب منها وهو قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}، وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب فجلس في ناحية، وجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان هنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، وجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك أنا أيوب، قد ردّ الله عليّ جسدي، وردَّ الله عليه ماله وولده عيانًا ومثلهم معهم. والإمام أحمد أيضًا قد أخرج في (الزهد)، عن عبد الرحمن بن جبير -رضي الله عنه- قال: ابتلي أيوب بماله وولده وجسده، وطرح في المزبلة، فجاءت امرأته تخرج فتكتسب عليه ما تطعمه، فحسده الشيطان بذلك، فكان يأتي أصحاب الخير والغن ى، فيقول: اطردوا هذه المرأة التي ت غ شاكم؛ فإنها تعالج صاحبها، وتلمسه بيدها، فالناس يتقذرون طعامكم من أجلها، فجعلوا لا يدنونها منهم - أي: لا يقربونها - ويقولون: تباعدي ونحن نطعمك ولا تقربينا.

وكذلك ابن جرير وابن أبي حاتم ذكرا الكثير من هذه الروايات في تفسيريهما؛ منها ما هو موقوف، ومنها ما هو مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكر ابن جرير والبغوي وغيرهما عند تفسير قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الآيات التي ذكرت في سورة " الأنبياء "، ذكروا الكثير هناك من الإسرائيليات، رويا قصة أيوب وبلائه، عن وهب بن منبه في صحائف كثيرة، والتبس فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب، كما قال شيخنا العلامة الشيخ أبو شهبة. أما الإمام ابن كثير فقد قال في تفسيره عند هذه الآية: وقد روي عن وهب بن منبه في خبره -يعني: أيوب- قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها كثير من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول. ومن العجيب أن الحافظ الناقد ابن كثير وقع فيما وقع فيه غيره في قصة أيوب من ذكر الكثير من الإسرائيليات، ولم يعقّب عليه، وهذا ما ينبغي أن نذكر به أبناءنا طُلَّاب العلم، أن ابن كثير مع كونه حافظًا ناقدًا علامة ومحدثًا ومفسرًا؛ إلا أن له بعض الهفوات في بعض القصص التي ذكر فيها إسرائيليات في تفسيره ولم يعقب عليها، مع أن عهدنا به أن لا يذكر شيئًا إلا بينه ونبه على مصدره، ومن أين دخل في الرواية الإسلامية؟ ... إلى آخره. ولا نظن أنه يرى في هذا أنه مما تباح روايته، فقد ذكر أنه يقال: إنه أصيب بالج ذ ام في سائر بدنه -كلام ابن كثير- ولم يبقَ منه سليم سوى قل ب هـ ولسانه؛ يذكر بهما الله -جل وعلا- حتى عافه الجليس، وصار أيوب منبوذًا في ناحية من البلد، ولم يبقَ أحد من الناس يحنو عليه غير زوجته، وتحملت في بلائه ما تحملت، حتى صارت تخدم الناس، بل قد باعت شعرها بسبب ذلك، ثم قال: وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيّج له على هذا الدعاء.

قال الحسن البصري وقتادة: ابتلي أيوب - عليه السلام- سبع سنين وأشهرًا، ملقى على كناسة بني إسرائيل، تختلف ال دواب في جسده -كما سبق القول- ففرج الله عنه، وأعظم له الأجر، وأحسن عليه الثناء. قال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص. وقال السدي: تساقط لحم أيوب -انظر السدي، وإذا كان السدي الصغير فهو كذاب، وإذا كان السدي الكبير فمختلف في عدالته، على أي حال كلامه غير مقبول- قال: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام؛ ثم ذكر القصة بطولها، وذكر أيضًا ما رواه ابن أبي حاتم بسند هـ عن الزهري، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ". مرة يقولوا سبع سنين، ومرة ثلاثة سنين، ومرة ثماني عشر سنة، والاختلافات هذه تدل على اختلاق الكلام وأنه من الإسرائيليات، استمر في بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم -والله- لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب -عليه السلام-: ما أدري ما تقول، غير أن الله -عز وجل- يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما؛ كراهية أن يذكرا الله إلا في حق. قال: وكان يخرج في حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحي الله إلى أيوب في مكانه؛ أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب.

والعلامة ابن كثير قال: رفع هذا الحديث غريب جدًّا، وكذا قال الحافظ ابن حجر، وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير، وصححه ابن حبان والحاكم بسند عن أنس: أن أيوب؛ ثم ذكر مثل ذلك. يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: والمحققون من العلماء على أن نسبة هذا إلى المعصوم -صلى الله عليه وسلم- إما من عمل بعض الوضاعين الذين يركبون الأسانيد للمتون، أو من غلط بعض الرواة، وأن ذلك من إسرائيليات بني إسرائيل وافتراءاتهم على الأنبياء، والأصحية هنا نسبية، على أن صحة السند لا تنافي أن أصله من الإسرائيليات. أنبّه أبناءنا وإخواننا الشباب طلاب العلم إلى هذه القضية مرة أخرى؛ أن صحة السند لا تنافي أن يكون المتن، الخبر نفسه، الرواية من الإسرائيليات، وقد لفَّق السند الصحيح على الرواية، وهذا كلام ينبغي ألا نغفل عنه، والإمام ابن حجر -على جلالة قدره- ربما يوافق على تصحيح بعض الروايات التي تخالف الأدلة العقلية النقلية. هذا كلام شيخنا أبو شهبة؛ يعني: الإمام ابن حجر ليس معصومًا، فربما أورد رواية يوافق على صحة سندها، ولكن لا يعطي رأيه واضحًا في قيمة الرواية نفسها بما يضحض مخالفتها العقلية والنقلية. ويذكر شيخنا أبو شهبة كما فعل في قصة الغرانيق وهاروت وماروت وكل ما روي موقوفًا أو مرفوعًا، كل هذا لا يخرج عما ذكره وهب بن منبه في قصة أيوب التي ذكرت آنفًا، وهذا يدل أعظم الدلالة على أن معظم ما روي في قصة أيوب إنما هو مما أُخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا، وجاء القصاصون المولعون بالغرائب فزادوا في قصة أيوب وأذاعوها، حتى اتخذ منها الشحاذون والمتسولون وسيلة لقصص يحكونها لاسترقاق قلوب الناس، واستدرار العطف عليهم.

ثم نختم بالحق في هذه القصة، يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: وقد دل كتاب الله الصادق على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- الصادق، على أن الله -تبارك وتعالى- ابتلى نبيه أيوب -عليه الصلاة والسلام- في جسده وأهله وماله، وأنه صبر حتى صار مضرب الأمثال في ذلك، وقد أثني الله عليه هذا الثناء المستطاب، فقال -جل شأنه-: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، فالبلاء مما لا يجوز أن يشك فيه أبدًا، والواجب على المسلم أن يقف عند كتاب الله، ولا يتزيّد في القصة كما تزيّد زنادقة أهل الكتاب، وألفقوا بالأنبياء ما لا يليق بهم، وليس هذا بعجيب من بني إسرائيل الذين لم يتجرءوا على أنبياء الله ورسله فحسب، بل تجرءوا على الله -تبارك وتعالى- ونالوا منه وفحشوا في القول، ونسبوا إليه ما قامت الأدلة العقلية والنقلية المتواترة على استحالته عليه - سبحانه وتعالى -، فكلنا يعلم أن بني إسرائيل هم الذين قالوا: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ} (آل عمران: 181)، وهذا القول جاء في سورة " آل عمران " على لسانهم، وهم الذين جاء على لسانهم أيضًا قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} (المائدة: 64)، عليهم لعائن الله. والذي يجب أن نعتقده أن أيوب قد ابتلي ولكن بلاءه لم يصل إلى حد هذه الأكاذيب؛ من أنه أصيب بالج ذ ام، ونعلم أن الج ذ ام مرض من أخبث الأمراض وأقذرها، وأيضًا أن جسمه أصبح قُرحة، هذا كلام لا يُقبل، وأنه ألقي على كناسة بني إسرائيل، هذا كلام لا يقبل، وأن الدود كان يرعى في جسده وتعبث به دواب بني إسرائيل، أو أصيب بمرض الجدري، كل هذا كلام ينافي سلامة الأنبياء والرسل الذين كلفهم الله بتبليغ الرسالة. وأيوب -عليه صلوات الله وسلامه- أكرم على الله من أن يُلقى على مزبلة، وأن يصاب بمرض ينفّر الناس من دعوته ويق ز زهم منه، وأيّ فائدة تحصل من الرسالة وهو على هذه الحالة المزرية التي لا يرضاها الله لأنبيائه ورسله.

والأنبياء إنما يبعثون من أوساط قومهم؛ أي: من خيارهم وأكرمهم وأفضلهم نسبًا وعشيرة ووجاهة، فأين كانت عشيرته فتواريه أو تطعمه؟ بدل ًا أن تخدم امرأته الناس وتبيع ضفيرتيها في سبيل إطعامه، بل أين كان اتباعه والمؤمنون منه؟ فهل تخلو عنه في بلائه؟ وكيف والإيمان ينافي ذلك؟. الحق أن هذه القصة من الأكاذيب وأن نسجها مهلهل، لا يثبت أمام النقد، ولا يؤيده عقل سليم، ولا نقل صحيح، وأن ما أصيب به أيوب من المرض إنما كان من النوع غير المنفر والمقزز، وأنه من الأمراض التي لا يظهر أثرها على البشرة؛؛ يعني: ممكن أمراض المفاصل أو الروماتيزم، الأشياء التي نعرفها، التي لا تنفّر ولا تجعل الإنسان يلقى على مزبلة .. إلى غير ذلك، أمراض العظام هذه الأمور تنال الكثير من الناس. ويؤيد ذلك أن الله لما أمره أن يضرب الأرض بقدمه فنبعت عين، فاغتسل منها وشرب، فبرأ بإذن الله، وقيل: إ نه ضرب الأرض برجله فنبعت عين حارة فاغتسل منها، وضربها مرة أخرى فنبعن عين باردة فشرب منها، والله أعلم بالصواب. وظاهر القرآن عدم التعدّد في الضرب ولا في نبع الماء؛ لأنه قيل: اضرب برجلك. بعد ذلك نعرج أيضًا على مقالة الإمام القاضي أب ي بكر بن العربي في هذا الشأن، ونختم بها قصة أيوب -عليه السلام- يقول شيخنا الإمام أبو شهبة: يعجبني ما قاله الإمام القاضي أبو بكر بن العربي -رحمه الله- قال: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين الأولى في قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، والثانية في "ص": {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}.

وأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد، إلا قوله: ((بينما أيوب يغتسل إذ خرَّ عليه رجل من جراد من ذهب)) الحديث الذي نحفظه، وقد رواه الإمام البخاري في ص حيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه رجل جراد -مجموعة من الجراد- من ال ذهب، فجعل يحفي في ثوبه لعله يجمع، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا ربي، ولكن لا غنى لي عن بركتك)). هذا هو الذي أثر لنا من صحاح الأحاديث من رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في شأن أيوب؛ أما مرضه، وأما ما أصابه، وأما ما فعله الشيطان معه من المرض، وما أصابه؛ هذا شيء لم يصح فيه عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر فيه شيئًا؛ وإذا لم يصح فيه قرآن ولا سنة إلا ما سبق ذكره، فلماذا تساق هذه الروايات المكذوبة؟! فأخا الإسلام أعرض عن سطورها بصرك، وأصمّ عن سم اعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالًا، ولا تزيد الفؤاد إلا خبال ًا، وفي الصحيح واللفظ للبخاري، عن ابن عباس قال: "يا معشر المسلمين لا تسألوا أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله - تعالى - تقرءونه محضًا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدّلوا من كتاب الله وغيَّروا، وكتبوا بأيديهم الكتب، فقالوا: هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ف لا والله ما رأينا رجل منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم" هذا الحديث في (صحيح الإمام البخاري). وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الموطأ على عمر قراءته للتوراة. تعالوا بنا إلى الإمام ال ألوسي -رحمه الله - فقد قال في ت فسيره بعد أن ذكر بعضًا من هذا القصص، وعظم بلائه -عليه السلام- مما شاع وذاع، ولم يختلف فيه اثنان، لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة ونحو ذلك، فيه خلاف، بل ربما لا يقبل.

قال الطباسي: قال أهل التحقيق: إنه لا يجوز أن يكون النبي بصفة يستقذره الناس عليها؛ لأن في ذلك تنفيرًا، فأما الفقر والمرض وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله - تعالى - بذلك. وأيضًا في (هداية المريد) للزرقاني أنه يجوز على الأنبياء كل عرض بشري ليس محرمًا ولا مكروهًا ولا مباحًا مذريًا ولا مزمنًا، ولا مما تعافه الأنفس، ولا مما يؤدي إلى النفرة. وأما الإغماء فقد قال النووي: لا يشك في جوازه عليهم؛ لأنه مرض بخلاف الجنون؛ فإنه نقص. أما أبو حامد الغزالي فقد قيَّد الإغماء بغير الطويل، وجزم به البلقيني، وقال السبكي: وليس كإغماء غ ي رهم؛ لأنه إنما يس ت ر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم؛ ل أنها معصومة من النوم الأخف، ويمتنع عليهم الجنون وإن قلّ؛ لأنه نقص ويلحق به العمى، ولم يعمى نبي قط، وما ذ ُ كر عن شعيب من أنه كان ضريرًا، هذا كلام لم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت. هذا ما تعلق بهذه القصة، ويكفينا منها ما تبين من بطلانها وما ورد فيها من الأكاذيب. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 9 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (7).

الدرس: 9 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (7).

تعقيب على قصة "إرم ذات العماد".

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (7)) تعقيب على قصة "إرم ذات العماد" الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: نعود فنعرج أيضًا على ما ذكرته عن "إرم ذات العماد"، فقد سبق القول فيما ذكر في هذه القصة من الإسرائيليات، إنما نعقب تعقيب يكمل ما مضى، فذكر الطبري والثعلبي والزمخشري وغيرهم في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَاد} (الفجر: 6 - 8)، فقد زعموا أن " إرم " مدينة، وذكروا في بنائها وزخارفها ما هو من قبيل الخيال، ورَوَوْا في ذلك أنه كان لعاد ابنان؛ شداد وشديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها؛ فبنى " إرم " في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة وسورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والي اقوت، ولما تم بناؤها س ار إليها بأ هـ ب -الأُ هـ ب هذه جمع أُ هـ بة، وهي العدة- مملكته، فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله - تعالى - عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وروى وهب بن منبه، عن عبد الله بن قلابة، أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها، يعني: على مدينة " إرم "، فحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه، فبعث إلى كعب الأحبار يسأله، فقال: هي " إرم ذات العماد "، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانه، أحمر، أشقر، قصير، على حاجبه خال - أي: علامة - ثم التفت فأبصر ابن قلابه، فقال: هذا والله ذاك الرجل.

هذه القصة على كل حال موضوعة، كما نبه إلى ذلك الحفاظ، وآثاروا الوضع لائحة عليه، وكذا مما روي أن " إرم " مدينة دمشق، أو هي مدينة الإسكندرية. قال السيوطي في (الدر المنثور): أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: " إرم " هي دمشق. وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد وابن عساكر، عن سعيد المقبري مثله. وأخرج آخرون كابن جرير وابن المنذر أنها مدينة الإسكندرية. وكل ذلك من خرافات بني إسرائيل، ومن وضع زنادقتهم، ثم رواها مُسلمَة أهل الكتاب فيما رَوَوا، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين، وألصقت بتفسير القرآن الكريم. قال ابن كثير: ومن زعم أن المراد بقوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، هي مدينة إما دمشق أو الإسكندرية أو غيرها، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، إن جُعل بدلًا أو عطف بيان؛ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة "بعاد"، وما أحلّ الله بهم من بأسه الذي لا يُردّ؛ لأن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، إنما نبهت على ذلك؛ لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية. هذا من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب والفضة، وحصباؤها من اللآلئ والجواهر، وترابها بنادق المسك، فإن هذا كله من خرافات الإسرائ ي لي ات من وضع زنادقتهم؛ ليختبروا بذلك القو ل الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.

ونقل العلماء أن هذا كله من خرافات الإسرائيلي ات، ومما ينبغي أن يذكر أنه قد روي أيض ً اعن ابن كلابة كلام في هذا الشأن، وهذا لا يصح سنده، حتى ولو صح ذلك إلى الأعرابي، فقد يكون اختلق ذلك، أو أصابه نوع من الخيال الذي وصف هذه الصفات وذكرها. فالحقيقية كل ما ذكر ليس له دليل، ويقطع العقل بعدم صحته، ان ظ ر (تفسير ابن كثير) , والحقيقة هذا أيضًا قريب مما يخبر به من الجهلة والطامعين، والذين يقولون من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة فيحتالون على أموال الأغنياء والسفهاء والضعفة، فيأكلونها بالباطل ففي صرفها في هذه الأمور. والصحيح إذ ً افي تفسير الآية والآيات التي وردت {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} (الفجر: 6، 7)، الصحيح كما ذكر شيخنا الشيخ أبو شهبة أن المراد بقوله - تعالى -: {عَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} هي قبيلة عاد المشهورة التي كانت تسكن الأحقاف في جنوب الجزيرة شمالي حضر موت، وهي عاد الأولى التي ذكرها الله - سبحانه وتعالى - في سورة " النجم " قال - سبحانه -: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} (النجم: 50)، ويقال لمن بعدهم: عاد الآخرة، وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قاله بن إسحاق وغيره، وهم الذين بعث فيهم رسول الله هود -عليه السلام- بعد ذلك، فكذَّبوه وخالفوه فأنجاه الله من بين أظهرهم، ومن آمن معه منهم, وأهلكهم كما نطق القرآن الكريم في آيات عديدة، أهلكهم الله بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية. وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع؛ ليعتبر بمصرعهم المؤمنون, ففي قوله - سبحانه -: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} هذه الآية " إرم " بدل من " عاد "، أو عطف بيان زيادة تعريف بهم.

وقوله - تعالى -: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لأنهم كانوا في زمانهم أشد الناس خلقة، وأعظمهم أجسامًا، وأقواهم بطشًا؛ هذا رأي، وقيل: ذات العماد؛ أي: ذات الأبنية التي بنوها والدور والمصانع التي شيَّدوها، وقيل: لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعب التي تُرفع بالأعمدة الغلاظ الشداد؛ والرأي الأول أقرب إلى الصواب، وهو أصح وأوجب, فقد ذكرهم نبيهم هود بهذه النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة الله - تبارك وتعالى - الذي خلقهم ومنحهم هذه القوة فقال -عليه السلام-: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69)، وقال - جل وعلا -: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فصلت: 15)، وقال - سبحانه - عنهم: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (الفجر: 8)؛ أي: القبيلة المعروفة المشهورة التي لم يخلق مثلها في بلادهم في زمانهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم. ومهما يكن من تفسير " ذات العماد " فالمراد القبيلة، وليس المراد مدينة، فالحديث في السورة إنما هو عمن مضى من الأقوام، الذين مكن الله لهم في الأرض، ولما لم يشكروا نعم الله عليهم ويؤمنوا به وبرسله بطش بهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ففيه تخويف ل كفار مكة الذين هم دون هؤلاء في كل شيء، وتحذيرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء. بقي لنا كلمات قليلة تُعبّر أو تبين ما رُوي في عظم طولهم، وأنه شيء لا يصح؛ إذ ليس معنى قوة هؤلاء القوم، ولا قوة هذه القبيلة، وعظم، خلقهم وشدة، بطشهم، أنهم خارجون عن المألوف في الفطرة، فمن ثمَّ لا نكاد نصدق ما روي

في عظم أجسامهم، وخروج طولهم عن المألوف المعروف حتى في هذه الأزمنة، فقد رو ى ابن ج ر ير في ت فسيره وابن أبي حاتم وغيرهم عن قتادة فقال: كنا نحدث أن " إرم " قبيلة من عاد كان يقال: لهم ذات العماد كانوا أهل عمود، كما قال القرآن: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعًا؛ يعني: ستة أمتار طولًا في السماء، وهذا من جنس ما روي في العماليق، وأغلب الظن عندنا أن من ذكر لهم ذلك هم أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنه من الإسرائيليات المختلطة. وأيضًا لم نكد نصدق ما روي أو ما نسبوه إلى المعصوم -صلى الله عليه وسلم- في هذا، فقد رو ى ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن من حدثه، عن المقدام بن معدي كرب عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه ذكر "إ رم ذات العماد " فقال: كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم، طبعًا هذه الرواية ذكرها ابن كثير، ولعل البلاء والاختلاق فيه من المجهول، وروى مثله ابن مردويه كما ذكر صاحب (الدر المنثور)، ولعن الله من نسب مثل هذا الباطل إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم، ولا نشك أن هذا من عمل زنادقة اليهود والفرس وأمثالهم الذين عجزوا أن يقاوموا سلطان الإسلام، فسلكوا في محاربته مسلك الدس والاختلاق بنسبة أمثال هذه الخرافات إلى المعصوم -صلى الله عليه وسلم. يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة معلقًا: وأنا أعجب لمسلم يقبل أمثال هذه المرويات التي تزري بالإسلام وتنفّر منه، ولا سيما في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم والمعارف، وأصبح ذكر مثل هذا يثير السخرية والاستنكار والاستهزاء.

الإسرائيليات التي وردت في سؤال موسى ربه الرؤية.

الإسرائيليات التي وردت في سؤال موسى ربه الرؤية إن موسى -عليه السلام- قد ورد في القرآن الكريم أكثر من مائة وثلاثين مرة - كما سبق القول - وله مواقف كثيرة، ومشاهد عديدة، وأحوال فيها صراعات مع بني إسرائيل الذين ألفوا الكذب والتكذيب والتعنت، وسبق القول فيما يتعلق بموقف سيدنا موسى من زواج بنات شعيب، وسبق الحديث عن عصا موسى، وعن يده التي خرجت بيضاء للناظرين، وها نحن الآن ننتقل إلى الإسرائيليات التي وردت في سؤال موسى ربه الرؤية. فمن الإسرائيليات الواردة في هذا الشأن ما يذكره بعض المفسرين عند قوله - جل وعلا -: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 143)، ذكر الثعلبي والبغوي وغيرهما عن وهب بن منبه وا بن إسحاق قالا: لما سأل موسى ربه الرؤية أرسل الله الضباب، والصواعق، والظلمة، والرعد، والبرق، وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى أربعة فراسخ من كل جانب، وأمر الله ملائكة السموات أن يعترضوا على موسى، فمرَّت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقر -ك الثيران؛ هذا من سوء أدب بني إسرائيل في وصفهم للملائكة - كثيران البقر ينبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد. ثم أمر الله ملائكة السماء الثانية أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه، فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لهج بالتسبيح والتقديس، ففزع العبد الضعيف ابن

عمران ممّا رأى وسمع، واقشعرت كل شعرة في رأسه وجسده، ثم قال: لقد ندمت على مسألتي؛ فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه؟ فقال له خير الملائكة ورأسهم - يعني: جبريل -: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت. ثم أمر ملائكة السماء الثالثة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه، فهبطوا أمثال النسور لهم قصف ورجف ولج م شديد، وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس كجلب الجيش العظيم، ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه، وأيس من الحياة، فقال له خير الملائكة: مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه. ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى بن عمران فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم، ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض، أصواتهم عالية بالتقديس والتسبيح، لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم، فاصطكت ركبتاه وارتعد قلبه واشتد بكاؤه، فقال له خير الملائكة ورأسهم: يا بن عمران اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت. ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة أن اهبطوا فاعترضوا على موسى فاعترضوا على موسى، فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان، فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم؛ فامتلأ جوفه خوفًا، واشتد حزنه وكثر بكاؤه، فقال له خير الملائكة ورأسهم: يا بن عمران مكانك حتى ترى بعض ما لا تصبر عليه. ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه، فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارًا أشد ضوءً امن الشمس، ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من

ملائكة السماء كلهم يقولون بشدة أصواتهم: سُبّوح قُدّوس رب الملائكة والروح، رب العزة أبدًا لا يموت، وفي رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يُسبح معهم حين سبحوا، وهو يبكي ويقول: ربي اذكرني ولا تنسَ عبدك، لا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا، إن خرجت احترقت، وإن مكثت مت، فقال له كبير الملائكة ورأسهم: قد أوشكت يا بن عمران أن يشتدَّ خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي رأيت، هذا كلام كما يعلق عليه صاحب كتاب الشيخ أبو شهبه كيف يتفق هذا، وما ذُكر قبل من شدة خوفه وفزعه في المرات الخمس؟ هذا من إمارات الوضع والتهافت. ثم أمر الله أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب - جل جلاله -، ورفعت ملائكة السماء أصواتهم جميعًا يقولون: سبحان الملك القدوس رب العزة أبدًا لا يموت بشدة أصواتهم، فارتجَّ الجبل واندكَّت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقًا على وجهه ليس معه روحه، فأرسل الله برحمته الروح فتغشَّاه، وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى، فأقام موسى يسبح الله ويقول: آمنت بك ربي وصدقت أنه لا يراك أحد، فيحيى من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظم ملائكتك وما أعظمك، أنت رب الأرباب، وإله الآلهة، وملك الملوك، ولا يعدلك شيء، ولا يقوم لك شيء، ربي تبت إليك، الحمد لله لا شريك لك، ما أعظمك، وما أجلك رب العالمين، فذلك قوله - تعالى -: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (الأعراف: 143). وبعد أن ذكر الأقوال الكثيرة فيما تبدَّى من نور الله قال: ووقع في بعض التفاسير أنه طارت لعظمته ستة أجبل، وقع ثلاثة بالمدينة؛ أحد وورقان ورضوى، وو قع ثلاثة بمكة، ثور وسبير وحراء.

كل هذا كلام كما نرى من أمارات الاختلاق والوضع الذي لا يقبل، وهذه المرويات وأمثالها مما لا نشك أنها من الإسرائيليات، من إسرائيليات بني إسرائيل وكذبهم على الله وعلى الأنبياء وعلى الملائكة، فلا تلقِ إليه بال ً اأخا الإسلام، وليس تفسير الآية في حاجة إلى هذه المرويات، والآية ظاهرة واضحة وليس فيها ما يدل على امتناع رؤية الله في الآخرة، كما دل على ذلك القرآن الكريم، فنحن نعلم أن تعليق الرؤية على شيء ممكن يدل على إمكانية الرؤية، فعندنا دلَّ القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتوترة، وغاية ما تدل عليه امتناع الرؤية البصرية في الدنيا؛ لأن العين الفانية لا تقدر أن ترى الذات الباقية. ومن ذلك أيضًا ما ذكره الثعلبي والبغوي والزمخشري في ت فسيرهم) عند قوله - تعالى -: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}؛ أي: م غ شيًّا عليه وليس المراد ميتًا كما قال قتادة، فقد قال البغوي: وفي بعض الكتب أن ملائكة السماء أتوا موسى وهو مغشي عليه، فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون: يا بن النساء الحيَّض أطمعت في رؤية رب العزة، كلام، وانظر إليه، وذكر مثل هذا الزمخشري في ت فسيره وقد نقلها؛ لأنها تساعده على إثبات مذهبه الفاسد، يعني: الإمام الزمخشري أكثر من الروايات التي تعوق وتمنع الرؤية؛ لأن الإمام الزمخشري معتزلي، ومن مذهبه واعتقاده استحالة رؤية الله في الدنيا والآخرة. وهذا وأمثاله مما لا نشكّ أنه من الإسرائيليات، هكذا قال علماؤنا؛ وعلى رأسهم شيخنا الشيخ أبو شهبه، هذا من الإسرائيليات المكذوبة، وموقف بني إسرائيل من موسى ومن جميع أنبياء الله معروف، فهم يحاولون تنقيص الأنبياء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وقد تنبه إلى هذا الإمام أحمد بن المنير صاحب كتاب (الانتصاف من صاحب الكشاف) هو دائمًا يُطبع تعليقه على هامش (تفسير الكش اف)؛ ليبيّن ما فيه من عقائد المعتزلة.

قال هذا الإمام الشيخ أحمد بن المنير: وهذه حكاية إنما يوردها من يتعسَّف لامتناع الرؤية، فيتخذها عونًا وظهرًا على المعتقد الفاسد والوجه التوركي بالغلط على ناقلها؛ لفظ " التورك "، توريك الرجل ذنبه غيره، كأنه يُلزمه إيَّاه، وورك فلان ذنبه على غيره توريكًا إذا أضافه إليه وقرفه به، وإنه لمورك في هذا الأمر؛ أي: ليس له فيه ذنب؛ يعني: كأنه بهذه العبارة يريد أن يبين أن الإمام الزمخشري يحمل ما يعتقده من المذهب الفاسد على كلام غيره، ويستدل بكلام الآخرين على تقوية مذهبه في منع رؤية الله - جل وعلا. أما نحن أهل السنة فنحن نؤمن أن الله - جل وعلا - تجوز الرؤي ة في الدنيا، وإن لم تقع أوعلى خلاف هل وقعت لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج أو لم تقع فيها خلاف، أما في الآخرة فنحن على يقين أن الله - سبحانه - يُرى في الآخرة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} (القيامة 21، 22) والحديث الصحيح في رؤية الله في الآخرة معروف لنا جميعًا. نقول كلام الشيخ ابن المنير أن كلام الزمخشري يقول في هذا وما فيه من إهانة موسى الكريم، وفيه طمس في الخطاب وكلام كثير. ويرحم الله الإمام ال ألوسي حيث قال في ت فسيره معلقًا: ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذٍ فيلكزونه بأرجلهم؛ أي: أن الملائكة كانوا يلكزون موسى ويقولون: يا بن النساء الحيض أطمعت في رؤية ربك، وهو كلام ساقط لا يعوّل عليه بوجه، وسبق إيراد هذا الكلام. يقول الألوسي: فإن الملائكة -عليهم السلام- مما يجب تبرئتهم من إهانة الكريم -عليه السلام- بالوكز بالرجل، والغمس في الخطاب، ونكتفي بهذا فيما يتعلق بقضية سيدنا موسى -عليه السلام- وما يتعلق برؤية ربه.

موقف موسى من ألواح التوراة، وغضبه عند إلقائها.

موقف موسى من ألواح التوراة، وغضبه عند إلقائها موقف آخر من مواقف نبي الله موسى: إن الإسرائيليات في قصص الأنبياء لا تتوقف، وها نحن مع الموقف الثاني من مواقف الإسرائيليات، أو من أقوال الإسرائيليات عند موقف موسى من ألواح التوراة. فمن الإسرائيليات ما ذكره الإمام الثعلبي والإمام البغوي والزمخشري والإمام القرطبي والعلامة ال ألوسي عند تفسير قوله - جل وعلا -: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (الأعراف: 145) هذه الآية ذُكر فيها عند تفسيرها كلام في الألواح مما هي؟ يعني: الألواح من أي شيء؟ وما عددها؟ ذُكر في هذا أقوال كثرة عند بعض الصحابة والتابعين وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه من أهل الكتاب الذين أسلموا مما يُشير إلى منبع هذه الروايات، وأنها من أكاذيب بني إسرائيل وإسرائيلياتهم؛ إذ فيها من المرويات ما يخالف المعقول والمنقول. وإليك ما ذكره الإمام البغوي في هذا؛ قال: قوله - تبارك وتعالى -: {وَكَتَبْنَا لَهُ} أي: لموسى في الألواح، قال ابن عباس: يريد ألواح التوراة، وفي الحديث: ((كانت من سدر الجنة، طول اللوح اثن اعشر زراع ًا)) - يعني: ستة أمتار - وجاء في الحديث ((خلق الله آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده)) والحديث ان لم يخرجهما البغوي ولم يبرز سندهما، إنما العلامة الألوسي ذكر أن الحديث الأول رواه ابن أبي الحاتم، واختار القول به إن صح السند إليه، وأما الحديث الثاني فقال: إنه مروي عن علي، وعن ابن عمر وعم غيرهما من التابعين، وانظر تفسير العلامة الألوسي في هذه الآية.

وقال الحسن: كانت الألواح من خشب، وقال الكلبي: كانت من زبرجدة خ ض راء، وقال سعيد بن جبير: كانت من ياقوت أحمر، وقال الربيع: كانت الألواح من برد؛ أي: ثوب مختلط. هذا كلام نراه متناقض، ومع ذلك قال ابن جريج: كانت من زمرد أمر الله جبريل حتى جاء بها من عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، واستمد من نهر النور، وقال وهب: أمر الله بقطع الألواح من صخرة صماء لينها الله له فقطعها بيده، ثم شققها بيده، وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر، وكان ذلك في أول يوم من ذي القعدة، وكانت الألواح عشرة أزرع على طول موسى. وقال مقاتل ووهب في قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} قال: كنقش الخاتم، وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يُقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر؛ موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى؛ سبحان الله يُعلق على هذا الكلام صاحب كتاب شيخ أبو شهبه كيف يقبل عقل أنها حِمل سبعين بعير ًا، وإذا لم يقرأها إلا أربعة فلماذا أنزلها الله - سبحانه وتعالى -؟ انظر حقيقة هذه الروايات التي لا يقبلها عقل, فن قول ن علق على هذا الكلام: وكل هذه الروايات المتضاربة التي يرد بعضها بعضًا مما نحيل أن يكون مرجعها المعصوم -صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي من إسرائيليات بني إسرائيل، حمل ها عنهم بعض الصحابة والتابعين بحسن نية، وليس تفسير الآية متوقفًا على كل هذا الذي رووه، والذي يجب أن نؤمن به أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل الألواح على موسى وفيها التوراة، أما هذه الألواح مما صنعت وما طولها وما عرضها، وكيف كتبت فهذا لا يجب علينا الإيمان به، والأولى عدم البحث فيه؛ لأن البحث فيه لا يؤدي إلى

فائدة، ولا يوصل إلى غاية، وطبعًا قيل: إن الألواح أعطيها موسى قبل التوراة، والصحيح أن الله أنزل الألواح على موسى وفيها التوراة. بعد ذلك نقول: مما ذكروه حول هذا المعنى في قوله - تعالى -: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء، فقد جعلوا التوراة مشتملة على كل ما كان، وكل ما يكون، وهذا لا يعقل ولا يصدق. فمن ذلك ما ذكره الإمام الألوسي في ت فسيره، قال: وما أخرجه الطبراني والبيهقي في (الدلائل) عن محمد بن يزيد الثقفي قال: اصطحب قيس بن خرشة وكعب الأحبار حتى إذا بلغ صفين، وقف كعب، ثم نظر ساعة، ثم قال: ليغرقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يراق ببقعة من الأرض مثله، فقال قيس: ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله - تعالى - به، فقال كعب: ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزلها الله - تعالى - على موسى ما يكون منه، وما يخرج منه إلى يوم القيامة. وهذا من المبالغات التي روى أمثالها كثيرون عن كعب، ولا نصدق ذلك، ولعلها من الكذب الذي لاحظه عليه الصحابي الداهية معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- على ما أسلفنا سابقًا، ولا يعقل قط أن يكون في التوراة كل أحداث الدنيا إلى قيام الساعة، أو إلى يوم القيامة. فالمحققون من المفسرين سلفًا وخلفًا على أن المراد أن في التوراة أو في الألواح تفصيلًا لكل شيء مما يحتاجون إليه من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح مما يلائم شريعة موسى وعصره، وإلا فقد جاء القرآن الكريم بأحكام وآداب وأخلاق لا توجد في التوراة قط، وقد ساق الإمام الألوسي هذا الخبر للاستدلال

به لمن يقول: إن لفظ من كل شيء هذا عام، وكأنه استشعر بعد هذا القول، فقال عقبه: ولعل ذك ر من باب الرمز كما ندعيه في القرآن الكريم. وإنني لأقول للعلامة ال ألوسي ومن لفّ لفه؛ الكلام لشيخنا الشيخ أبو شهبه: إنه أراد أن يبين أن هذا مردود وغير معقول أن يقال: إن التوراة فيها تفصيل لكل شيء لا هي فيها تفصيل لما يحتاجون إليه في شريعاتهم في الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح فقط، أما أن تشمل التوراة كل شيء قد كان وكل ما يكون، هذا كلام لا يُعقل، وهو مردود وغير مقبول، ونحن أيضًا لا نسلم بأن في القرآن رموز وإشارات لأحداث، وإن قاله البعض والحق أحق أن يتبع. ننتقل بعد ذلك إلى ما ورد في غضب موسى عندما ألقى الألواح؛ فمن الإسرائيليات التي وردت في غضب موسى، والآية صرحت بأن موسى -عليه السلام- لما رجع إلى قومه غضبان أسفًا، ألقى الألواح، وحول هذا المعنى وردت إسرائيليات كثيرة، فقد روى ابن جرير في ت فسيره والبغوي في ت فسيره وغيرهما في سبب غضب سيدنا موسى -عليه السلام- حين ألقى الألواح من يديه، وهذا في قوله - تعالى -: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 150). ألقى الألواح؛ معنى هذه الكلمة أي: طرحها وألقى بها، إنما الإسرائيليات غمرت هذا التفسير عند هذه الآية، فقد رُوي عن قتادة أنه قال: نظر موسى في التوراة فقال: ربي إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن أمتي اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: ربي إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون -أي: آخرون في الخلق- سابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: ربي إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرًا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا، ولم يعرفوه، وأن الله أعطاهم من الحفظ شيئًا لم يعطه أحد من الأمم، قال: ربي اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: ربي إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فصول الضلالة حتى لا يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.

قال: ربي إني أجد أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها، وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقُبلت منه بعث الله نارًا فأكلتها، وإن رُدت عليه تركت فتأكلها السباع والطير، وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم، قال: ربي فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: ربي إني أجد في الألواح أمة إذا همَّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ربي اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: ربي إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفوع لهم فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال قتادة: فذُكر لنا أن نبي الله موسى نبذ الألواح، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد. هذه هي الرواية؛ أقول -الكلام لشيخنا الشيخ أب ي شهبة -: إن آثار الوضع والاختلاق بادية عليه، والسند مطعون فيه، وهي أمور مأخوذة من القرآن والأحاديث، ثم صيغت هذه الصياغة الدقيقة، وجعلت على لسان موسى -عليه السلام -

والظاهر المتعين أن إلقاء سيدنا موسى بالألواح إنما كان غضبًا وحميَّة لدين الله، وغيرة لانتهاك حرمة توحيد الله - تبارك وتعالى -، وأما ما ذكره قتادة فغير مُسلَّم. وإن كنا نرى أن المعاني التي وردت أن أمة الإسلام أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- هم سابقون إلى الجنة، نعم، وأن قرآنهم يُحفظ في الصدور أناجيلهم في صدورهم هذه ميزة لأمة الإسلام؛ إذ لا نجد أمة من الأمم تحفظ كتابها ووحيها كأمة الإسلام التي جعل الله لها القرآن الكريم ميسرًا {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرٍِ} (القمر: 17)، والأوصاف التي وردت في الصدقات وفي الحسنات وفي الشفاعات كلها ما شاء الله من فضائل أمة الإسلام. وإليك ما قاله الإمام الحافظ الناقل ابن كثير في ت فسيره عند هذه الآية قال: ثم ظاهر السياق أنه -أي: سيدنا موسى- ألقى الألواح غضبًا على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولًا غريبًا لا يصح إسناده إلى حكاية قتاد ة، وقد ردَّه ابن عطية وغير واحد من العلماء، وهو جدير بالرّدّ، وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب، وفيهم كذَّابون وواضعون وأفاقون وزنادقة، وصدق ابن كثير فيما قال, وأرجح أن يكون من وضع زنادقتهم كي يظهروا الأنبياء بمظهر المتحاسدين، لا بمظهر الإخوان المتحابين. قال الإمام القرطبي عند تفسير قوله: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ}؛ أي: مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم، قال سعيد بن جبير: ولذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة، ولا التفات لما رُوي عن قتادة إن صح، ولا يصح؛ ولا يصح أن إلقاء الألواح إنما كان لما رأى من فضيلة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن ذلك ل أمته، فهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى -عليه السلام.

ومما يؤيِّد أنه من وضع بعض الإسرائيليين الدُّهَاة أن نحوًا من هذا المروي عن قتادة قد رواه الثعلبي وتلميذه البغوي عن كعب الأحبار، ولا خلاف إلا في تقديم بعض الفضائل وتأخير البعض إلا إنه لم يذكر إلقاء الألواح، وفي آخره فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدًا وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (الأعراف: 144) إلى قوله {دَارَ الْفَاسِقِينَ} (الأعراف: 145) , {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) قال فرضي موسى كل الرض اء. هذا ما ورد في إلقاء الألواح وغضب موسى - عليه السلام. من الإسرائيليات والخرافات ما ذكره أيض ً ابعض المفسرين عند تفسير قوله - تعالى -: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} في سورة الأعراف، وسورة الأعراف من السور التي أكثرت من مواقف بني إسرائيل مع موسى، ومن الصراعات التي وقعت في حياتهم مع رسل الله وخاصة رسول الله موسى -عليه السلام. ذكر ابن جرير في تفسير هذه الآية خبرًا عجيبًا، فقال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج في قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياء هم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطًا تبرأ سبطًا منهم مما صنعوا، واعتذروا وسألوا الله -عز وجل- أن يفرّق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقًا في الأرض فصاروا حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا، قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (الإسراء: 104) ووعد الآخرة هو عيسى ابن مريم، قال ابن جريج:

قال ابن عباس: صاروا في السرب سنة ونصفًا، قال ابن عيينة: عن صدقة عن أبي الهزيل عن السدي {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال: قوم بينكم وبينهم نهر من شهد. وقد وصف العلامة ابن كثير ما رواه ابن جرير ب أنه خبر عجيب. وقال البغوي في ت فسيره: قال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر مجرى الرمل يُسمى نهر الأرداف، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يُمطرون بالليل ويصحون بالنهار، ويزرعون لا يصل إليهم منا أحد، وهم على دين الحق. وذكر أن جبريل -عليه السلام- ذهب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به إليهم فكلمهم، فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، فقال: لهم هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به، فقالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام، فردّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على موسى وعليهم، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون -أي: يعظمون السبت كاليهود- فأمرهم أن يجمعوا -أي: يعظموا يوم الجمعة- ويتركوا السبت، وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- والأول أصح. وهذا على كل حال من خرافات بني إسرائيل ولا محالة، والعجب من الإمام البغوي أن يجعل هذه الأكاذيب أصح من القول الآخر الذي هو أجدى بالقبول وأولى بالصحة، ونحن لا نشك في أن ابن جريج وغيره ممن رَوَوْا ذلك إنما أخذوه عن أهل الكتاب الذين أسلموا، ولا يمكن أبدًا أن يكون متلقى عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام ال ألوسي بعد ذكر ما ذكرناه: وضعف هذه الحكاية واضح، وقد ضعفها ابن الخازن، وأنا لا أراها شيئًا، وأظنك لا تجد لها سند ًا يعول عليه، ولو ابتغيت نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء. نختم هذه القصة بالتفسير الصحيح للآية، وما ورد فيها، والآية {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} يروي لنا الشيخ أبو شهب ة نقلًا عن التفاسير يقول: والذي يترجح عندي أن المراد بهم أناس من قوم موسى -عليه السلام- اهتدوا إلى الحق، ودعوا الناس إليه، وفي وبالحق يعدلون فيما يعرض لهم من الأحكام والقضايا، وأن هؤلاء الناس وُجدوا في عهد موسى وبعده، بل وفي عهد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أمثال عبد الله بن سلام وأضرابه. وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- إن اليهود وإن كانت الكثرة الكاثرة فيهم تجحد الحق وتنكره، وتجور في الأحكام، وتعادي الأنبياء، وتقتل بعضهم، وتكذب البعض الآخر، وفيهم من شكاسة الأخلاق والطباع ما فيهم، فهنالك أمة كثيرة منهم يهدون بالحق وبه يعدلون، فهم لا يتأبون عن الحق، ففيه شهادة وتزكية لهؤلاء، وتعريض بالكثرة الغالبة منهم التي ليست كذلك، والتي جحدت نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيمن جحدها من طوائف البشر، وناصبته العداوة والبغضاء، وهو ما يُشعر به قوله - سبحانه - قبلُ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158). وبذلك تظهر المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها مباشرة والآيات التي قبل ذلك.

أما ما ذكروه فليس هناك ما يشهد له من عقل ولا نقل صحيح، بل هو يُخالف الواقع الملموس والمشاهد المتيقن، وقد أصبحت الصين وما وراءها والبلاد في هذه المنطقة وغيرها معلومًا كل ما فيها، وكل شبر فيها معلوم، فأين هم؟ ثم ما هذا النهر من الشهد؟ وما هذا النهر من الرمل؟ وأين هما؟ ثم أي فائدة تعود على الإسلام والمسلمين من التمسك بهذه الروايات التي لا فائدة منها، ولا خطام، ولا زمام؟ وماذا يكون موقف الداعية إلى الإسلام في هذا العصر الذي نعيش فيه إذا انتصر لمثل هذه المرويات الخرافية الباطلة؟ إن هذه الروايات لو صحت أسانيدها لكان لها بسبب مخالفتها للمعقول، والمشاهد الملموس ما يجعلنا في حلٍّ من عدم قبولها، فكيف وأسانيدها ضعيفة واهية؟ وقد قلنا كثيرًا: إن كونها صحيحة السند فرضًا لا ينافي كونها من الإسرائيليات. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 10 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (8).

الدرس: 10 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (8).

الإسرائيليات التي وردت في تفسير آية: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (8)) الإسرائيليات التي وردت في تفسير آية: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (الإسراء: 4 - 8). يقول الشيخ أبو شهبة في كتابه: وليس من قصدنا هنا تحقيق مرَّتَي إفسادهم، ومن سلط الله عليهم في كلتا المرتين، فلذلك موضع آخر إن شاء الله، وعلى كل حال فالذي يترجح أن العباد ذوي البأس الشديد الذين نكَّلوا بهم - ببني إسرائيل - وأذلوهم وسبوهم هم "بختنصر" وجنوده، وأن الآخرين الذين أساءوا وجوههم ودخلوا المسجد الأقصى؛ سواء كانوا من الرومان وجيوشهم، أو كانوا من المسلمين بعد ذلك، فقد أساموهم سوء العذاب، وتأمل عاقبة الآية في قوله - جل وعلا -: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فإنه يدل على أنهم سيعودون ثم يفسدون، فيرسل الله لهم من يسومهم العذاب ألوانًا. ونعود الآن إلى ما يتصل ببيان ما رُوي من الإسرائيليات في هاتين المرتين، والكلام عن الإفسادتين، واسم من سلط عليهم، وصفته، وكيف كان، وإلى ما صار أمره.

وقد كانت معظم الروايات في بيان العباد ذوي البأس الشديد الذين سُلِّطوا عليهم تدور حول هذا الرجل "بختنصر" هذا البابلي، ولكن أحاطوه بهالة من العجائب والغرائب والمبالغات التي لا تُصدَّق، ومن العجيب أن هذه الروايات قد أخرجها ابن جرير في ت فسيره، وأكثر منها جدًّا، وكذا ابن أبي حاتم والبغوي وغيرهم عن ابن عباس وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعن السدي، وعن وهب بن منبه، وابن إسحاق، وغيرهم، وخرجها من ذكر أسانيدها مع عزوها إلى مخرجيها الإمام السيوطي في تفسيره (الدر المنثور). وفي هذه الروايات ولا شك الكثير من أكاذيب بني إسرائيل التي اختلقها أسلافهم، وتنوقلت عليهم، ورواه أخلافهم من مسلمتي أهل الكتاب الذين أسلموا، وأخذها عنهم بعض الصحابة والتابعين؛ تحسينًا للظن بهم، ورواها من غير تنبيه إلى ما جاء فيها من الكذب, وفي هذه الأخبار الإسرائيلية ما يحتمل الصدق والكذب، ولكن الأولى عدم الاشتغال به، وأن لا نفسر القرآن بها، وأن نقف عند ما قصه الله علينا من غير أن نفسد جمال القرآن وجلاله بمثل هذه الإسرائيليات. وقد أكثر ابن جرير هنا من النقل عن ابن إسحاق، وفي بعضها روى عن ابن إسحاق عن من لا يُتَّهم عن وهب بن منبه، وفي بعضها بسنده عن وهب بن منبه بدون ذكر ابن إسحاق، وبذلك وقفنا على من كان المصدر الحقيقي لهذه المرويات، وأنه وهب بن منبه وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب, وقد سود ابن جرير بضع صفحات من كتابه في النقل عن ابن إسحاق وعن وهب، ولا نحب أن ننقل كل ما ذكره بنصه، وإلا طال الكلام، فإن في ذلك تسويدًا للصفحات، ولكن سنذكر البعض ليكون القارئ وطالب العلم والباحث والذي يريد معرفة التفسير على حذر من مثل ذلك.

قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وفي إحداثهم ما هم فاعلون بعده، فقال: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلن علوًّا كبيرًا، ولما نقول: مما أنزل الله موسى؛ يعني: أنزل المعنى لا هذا اللفظ؛ لأن التوراة طبعًا لم تكن باللغة العربية، ولا كان لسان موسى -عليه الصلاة والسلام- عربيًّا؛ إنما أنزل عليه بلغته وبالمعنى، فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله -جل وعلا- في ذلك متجاوزًا عنهم متعطفًا عليهم محسنًا إليهم. فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدَّم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع أن ملكًا منهم كان يُدعَى صديقه، وكان الله إذا ملك الملك عليهم بعث نبيًّا يسدده ويرشده، ويكون فيما بينه وبين الله، ويحدث إليه في أمرهم، لا يُنزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون ب اتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة. فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعياء بن أمصيا، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء الذي بشر بعيسى ومحمد -صلى الله عليه وسلم، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانًا، فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشيعاء معه؛ بعث الله عليهم رجل يُسمى " سن ج اريب " ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فأقبل سائرًا حتى نزل نحو بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء فقال له: يا ملك بني إسرائيل إن " سن ج اريب " ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس، وفركوا منهم، فكَبُر

ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به، كيف يفعل الله بنا، وب ـ" سن ج اريب " وجنوده؟ فقال له النبي -عليه السلام: لم يأتنِ ي وحي أحدث إليَّ في شأنك. فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته؛ فإنك ميت، ثم استرسل ابن جرير في الرواية حتى استغرق أربع صفحات كبار من كتابه، لا يشك الناظر فيها أنها من أخبار بني إسرائيل، وفيما ذكره ابن جرير عن ابن إسحاق الصدق والكذب، والحق والباطل، ولسنا في حاجة إليه في تفسير الآيات. أما الإفساد الثاني ففيه: ومن سلط الله عليهم، روى ابن جرير أيضًا قال: حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه، قال ا: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: قال عن وهب بن منبه إلى أن قال عن ابن إسحاق، عن مَنْ لا يُتَّهم، عن وهب بن منبه اليماني، واللفظ لحديث ابن حميد أنه كان يقول -يعني: وهب-: قال الله -تبارك وتعالى- ل ـ" أرمي ا " حين بعثه نبيًّا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ولأمر عظيم اختبأتك، فبعث الله "أرم يا" إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدّده ويرشده، ويأتيه بالخبر من الله فيما بينه وبين الله. قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله -سبحانه وتعالى- صنع بهم وما نجاهم من عدوهم " سنجاريب " وجنوده، فأوحى الله إلى "أرميا" أن ائت قومك من بني إسرائيل، واقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم. واسترسل وهب بن منبه فيما يذكره من أخبار بني إسرائيل حتى استغرق ذلك من تفسير ابن جرير عدة صفحات؛ ثلاث صفحات كبار إلى غير ذلك.

ومما ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم من قصص عجيب غريب في "بختنصر" هذا، وما خرب من البلاد وما قتل من العباد كلام كثير. وتأمَّل الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنسبة هذه الإسرائيليات إليه، ولو أن هذه الإسرائيليات والأباطيل وقف بها عند رواتها من أهل الكتاب الذين أسلموا، أو عند من رواها عنهم من الصحابة والتابعين؛ لهان الأمر، ولكن عظم الإثم في أن تُنسب هذه الإسرائيليات إلى المعصوم -صلى الله عليه وسلم- صراحة، ولا نشكّ أن هذا الدسّ من عمل زنادقة اليهود أو الفرس. وإليك ما رواه ابن جرير في ت فسيره قال: حدثنا عصام بن راود بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري، قال: حدثنا منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليماني يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلو وقتلوا الأنبياء؛ بعث الله عليهم ملك فارس "بختنصر"، وكان الله ملَّكه سبعمائة سنة فصار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها، وفتح، وقتل على دم زكريا سبعين ألفًا، ثم سبى أهلها، وبني الأنبياء، وسلب حُلي بيت المقدس، واستخرج منها سبعين ألفًا ومائة ألف من حلي حتى أوردها بابل". انظر إلى هذه المبالغات والأكاذيب التي ينسبونها إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام. قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيمًا عند الله؟ قال: " أجل بناه سليمان بن داود من ذهب، ودر، وياقوت، وزبرجد، وكان بلاطة من ذهب، وبلاطة من فضة، وكانت عُمُده ذهب، أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين، فصار "بختنصر" بهذه الأشياء حتى دخل بها بابل فأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة تعذبهم المجوس وأبناء المجوس،

فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له: " قورش " وكان مؤمنًا أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم، فصار " قورش " ببني إسرائيل وحُلي بيت المقدس حتى ردَّه إليه. فقام بنو إسرائيل مطيعين الله مائة سنة، ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط الله عليهم " بطي ان م وس "، فغز ابأبناء من غز امع "بختنصر"، فغز ابني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس فسبى أهلها، وأحرق بيت المقدس، وقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء، فعادوا في المعاصي فسيَّر الله عليهم السباء الثالث، ملك روميه يقال له " فاقس بن إسبايوس "، هذا الكلام موجود في كتب التفسير حتى في (تفسير البغوي) " قاقس بن إستيانوس "، فغزاهم في البر والبحر، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس، وأحرق بيت المقدس بالنيران، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " هذا من صنعة حلي بيت المقدس، ويردّه المهدي إلى بيت المقدس، وبها يجمع الله الأولين والآخرين". وعفا الله عن ابن جرير -هذا كلام شيخنا الشيخ أب ي شهبه- كيف استجاز ابن جرير أن يذكر هذا الهراء، وهذه التخريفات عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم - وكان عليه أن يصون كتابه عن أن يسوّده بأمثال هذه المرويات الباطلة. ويرحم الله أيضًا الإمام الحافظ الناقد ابن كثير حيث قال في ت فسيره: وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولًا، وهو حديث موضوع لا محالة لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته، وقد صرح شيخنا أبو الحجاج البزي -رحمه الله- بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب؛ كتاب (تفسير ابن جرير).

وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أرَ تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يُحتمل أن يكون صحيحًا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبلها، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم، وقهرهم؛ جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمرّدوا، وقتلوا خلقًا كثيرًا من الأنبياء والعلماء. راجع في ذلك (تفسير ابن كثير)، و (تفسير البغوي) أيضًا. أما التفسير الصحيح للآية وبه نختم؛ فنقول: وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يُصار إليه في الآية، والقصص القرآني لا يُعنى بذكر الأشخاص ولا الأماكن؛ لأن الغرض منه العبرة والتذكرة والتعليم والتأويل، والذي دلَّت عليه الآية أنهم أفسدوا مرتين في الزمن الأول، وظلموا وبغوا؛ فسلط الله عليهم في الأولى من أذلَّهم وسباهم، ولا يعنينا أن يكون هذا الذي أذلهم هـ و " سنجاريب " أو "بختنصر" وجيشه، أو غيره؛ إذ لا يترتب على العلم به فائدة تُذكر، وسلط الله عليهم في الثانية من أذلهم وساء وجوههم، ودخل المسجد الأقصى فأفسد فيه ودمَّر، ولا يعنينا أن يكون هذا الذي نكَّل بهم هو " طيطوس " الروماني أو غيره؛ لأن المراد من سياق قصته ما قضاه الله على بني إسرائيل أنهم أهل فساد وبطر وظلم وبغي، وأنهم لما أفسدوا وطغوا وتجبروا سلط الله عليهم من عباده من نكَّل بهم وأذلَّهم وسباهم وشرَّدهم. ثم إن الآيات دلَّت أيضًا على أن بني إسرائيل لا يقف طغيانهم ولا بغيهم وإفسادهم عند المرتين الأوليين، بل الآية توحي بأن ذلك مستمر إلى ما شاء الله، وأن الله سيسلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب، ويبطش بهم ويردّ ظلمهم

الإسرائيليات التي وردت في قصة أصحاب الكهف.

وعدوانهم، قال - عز وجل -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أليس في قوله هذا إنذار ووعيد لهم إلى يوم القيامة؟ بلى. ومما يُؤكّد هذا الإنذار والوعيد قوله - تعالى -: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأعراف: 167) فهل يُسلط الله عليهم اليوم من يردّ ظلمهم وبغيهم وطردهم أهل فلسطين من ديارهم واغتصاب الديار واستغلال العباد واستهانتهم بالقيم الخلقية والحقوق الإنسانية، ندعو الله ونرجوه أن يُحقّق ذلك في من يعاقبهم ويسلطه عليهم, وما ذلك على الله بعزيز، وبإمكان أمة الإسلام لو اتَّحدت كلمتها، وجمعت صفها، ورفعوا راية الإسلام والجهاد، وأخذوا الحذر والأهبة، وأعدوا العدة؛ فإن الله يمكّنهم إن شاء الله. الإسرائيليات التي وردت في قصة أصحاب الكهف إن قصة أصحاب الكهف التي سُمّيت السورة بهذا الاسم، ورد فيها من الإسرائيليات ما ورد، فمن قصص الماضيين التي أكثر المفسرين فيها من الإسرائيليات قصة أصحاب الكهف ذكرها ابن جرير وابن مردويه وغيرهما، وطبع ً االكثير من أخبار هؤلاء لا يدل له أو عليه كتاب الله، ولا يتوقف فهم القرآن وتدبره على ما أورده المفسرون من هذه الإسرائيليات. فمن ذلك ما ذكره ابن جرير في ت فسيره عن ابن إسحاق صاحب (السيرة) في قصتهم، فقد ذكر نحو ثلاث صفحات أو ورقات، ونقل عن وهب بن منبه، وابن عباس، ومجاهد أخبارًا كثيرة أخرى، وكذلك ذكر السيوطي في (الدر المنثور) الكثير مما ذكره المفسرون عن أصحاب الكهف؛ عن هويتهم، ومن

كانوا، وفي أي زمان، وفي أي مكان وجدوا، وتحدث عن أسمائهم، واسم كلبهم، وهو قطمير أم غيره، وعن لونه أهو أصفر أم أحمر. بل روى ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال: رجل بالكوفة يقال له: عبيد، وكان لا يُتَّهم بالكذب، قال: رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني، نسبة إلى بلد اسمها أنبج تُعرف بصنع الأكسية، ولا ندري كيف كان لا يُتهم بالكذب، وما زعم كذب لا شك فيه، فهل بقي كلب أصحاب الكهف حتى يومنا هذا، أو حتى الإسلام حتى رآه هؤلاء كلام لا يُعقل. وذكروا أخبار ًا غرائب في الرقيم؛ فمن قائل: إنه قرية، وروى ذلك كعب الأحبار، ومن قائل: إنه وادٍ بفلسطين بقرية أيلة، وقيل: اسم جبل أصحاب الكهف إلى غير ذلك، مع أن الظاهر أنه كما قال كثير من السلف: إنه الكتاب أو الحجر الذي دُوِّن فيه قصتهم وأخبارهم أو غير ذلك مما لا نجزم به فالله أعلم به. وكلمة الرقيم فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مرقوم، وفي الكتاب الكريم جاء قوله سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين: 19 - 21)، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 8، 9) يعني: رقيم بمعنى مفعول. وفي هذه الأخبار التي نُقلت عن الرقيم وعن أصحاب الكهف وعن صفاتهم وعددهم وأسمائهم الحق والباطل، والصدق والكذب، وفيها ما هو محتمل للصدق والكذب، ولكن فيما عندنا غُنية عنه، ولا فائدة من الاشتغال بمعرفة هذا، وتفسير القرآن الكريم به، فإن الآيات لا تحتاج إلى هذا التفسير، والأولى والأحسن أن نضرب عنه صفحنا، وقد أدبنا الله بذلك حيث قال لنبيه بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب في عدد أصحاب الكهف قال - سبحانه: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 22).

الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف - عليه السلام -.

وغالب ذلك ما أشرنا إليه وغيره متلقى عن أهل الكتاب الذين أسلموا، وحمله عنهم بعض الصحابة والتابعين لغرابته والعجب منهم. قال العلامة ابن كثير في ت فسيره: وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظرٌ في صحته، والله أعلم؛ فإن غالب ذلك تُلُقي من أهل الكتاب، وقد قال تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}؛ أي: سهلًا هينًا لينًا، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة، ولا تستفت ي فيهم منهم أحدًا؛ أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولون من تلقاء أنفسهم رجمًا بالغيب من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شكّ فيه، ولا مرية فيه، فهو المقدم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال. راجع في ذلك (تفسير ابن كثير). الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف - عليه السلام - أمامنا قصة عظيمة الأثر؛ وهي القصة الفريدة التي ذُكرت في صورة واحدة، فإن ما نعهده في القرآن الكريم أن أكثر قصص الأنبياء والرسل إنما ذُكر في أماكن عِدَّة، ومواقف عديدة، كل موقف يتناسب فيه ما ذُكر لأخذ العظة والعبرة، إلا قصة نبي الله ورسوله يوسف - عليه السلام - فإن قصة يوسف إنما ذُكرت في سورة " يوسف " في موقف واحد، وجُمعت أطرافها كلها في هذه السورة المباركة. سورة يوسف -عليه السلام- وقصته ذُكرت مجموعة في هذه السورة وحدها، ورغم ذلك فقد وردت في قصة يوسف -عليه السلام- إسرائيليات ومرويات مختلقة مكذوبة، وأحاديث كثيرة ذُكرت في هذا الشأن مما تقدح في عصمة الأنبياء والرسل، لا سيما ما يتعلق بقوله - جل وعلا -: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) على الرغم من أن

الآيات في هذا الشأن ناطقة ببراءة يوسف وعصمته، وأنه من عباد الله المخلصين، وأن المرأة هي التي راودته كما سنتبيّن من خلال الآيات في هذا الشأن. وردت في قصة يوسف -عليه السلام- إسرائيليات ومرويات؛ فمن ذلك ما أخرجه ابن جرير في ت فسيره والسيوطي في (الدر المنثور) وغيرهما في قوله - تعالى - في أول السورة: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: 4) قال السيوطي: وأخرج سعيد بن منصور، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي في (الضعفاء)، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه؛ طبع ً اعندما يقول السيوطي: إ ن الحاكم صححه؛ يجب أن نتذكر أن تصحيح الحاكم لا يعتد به إلا إذا وافقه الشيخ الذهبي أو غيره من علماء الحديث. وروى أيضًا ابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا في (الدلائل) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: جاء بستاني اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف -عليه السلام- ساجدة له؛ ما أسمائها؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يجبه بشيء، فنزل جبريل -عليه السلام- فأخبره بأسمائها، فبعث رسول ال ل هـ -صلى الله عليه وسلم- إلى البستاني اليهودي، فقال: " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ " قال: نعم، قال: " حرفان، والطارق، والزيال، وذو الكفتا ن، وقابس، ودنان، وهدان، والفيلق، والمصبح، والضروح، والفريخ، والضياء، والنور". هذه الأسماء في (تفسير ابن جرير) فيها بدل حرفان جربان،، بدل دنان في وثاب، وبدل هودان في عمودان، وفي هـ بدل الف ي لق الفليق؛ يعني: أسماء مختلفة في الروايات الأخرى, بقية الحديث "رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قص يوسف على يعقوب، قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد "، فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.

والذي يظهر لي -والكلام لشيخنا الشيخ أب ي شهبة- أن هذا من الإسرائيليات، وأُلصقت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- زورًا، ثم إن سيدنا يوسف رأى كواكب بصورها لا بأسمائها، نعم رآها بصورها لا بأسمائها، ثم ما دخل الاسم فيما ترمز إليه الرؤية، ومدار هذه الرواية على الحكم بن ظهير، وقد ضعفه الأئمه وتركه الأكثرون، وقال الجوزجاني: هذا ساقط وهو صاحب حديث حُسن يوسف وكله من الأكاذيب. وقال الإمام الذهبي في (ميزان الاعتدال): قال ابن معين: ليس بثقة؛ أي: راوي هذه الرواية التي هي مروية عنه، وهو الحكم بن ظهير، قال ابن معين عنه: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال مر ة: تركوه، وهو راوي حديث " إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ". فهل مثل هذا تُعتبر روايته في مثل هذا، وبحسبه سقوطًا مقالة البخاري فيه منكر الحديث وتركوه، طبعًا لا تعتبر روايته. الإسرائيليات في الآية التي حيَّرت بعض المفسرين، وكثر الكلام فيها من الإسرائيليات, الآية هي قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ومن الإسرائيليات المكذوبة التي لا توافق عقلًا ولا نقلًا ما ذكره ابن جرير في ت فسيره وصاحب (الدر المنثور) وغيرهما من المفسرين في هذه الآية؛ فقد ذكروا في همّ يوسف -عليه السلام- ما ينافي عصمة الأنبياء، وما يخجل القلم فمن تسطيره لولا أن المقام مقام بيان، وتحذير من الكذب على الله وعلى رسله، وهو من أوجب الواجبات على أهل العلم. فقد روى هؤلاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سُئِل عن همِّ يوسف -عليه السلام- ما بلغ؟ قال: حلَّ الهميان -يعني: السراويل- وجلس منها مجلس الخاتن، فصيح به: يا

يوسف لا تكن كالطير له ريش، فإذا زنا قعد ليس له ريش. ورووا مثل هذا عن علي -رضي الله عنه- وعن مجاهد وعن سعيد بن جبير، معاذ الله. ورَوَوْا أيضًا في البرهان الذي رآه، ولولاه لوقع في الفاحشة بأنه نُودي أنت مكتوب في الأنبياء، وتعمل عمل السفهاء، وقيل: رأى صورة أبيه يعقوب في الحائط، وقيل: في سقف الحجرة، وأنه رآه عاض ًّا على إبهامه، وأنه لم يتعظ بالنداء حتى رأى أباه على هذه الحال. بل أسرف واضع وهذه الإسرائيليات الباطلة؛ فزعموا أنه لمَّا لم يرعوِ من رؤية صورة أبيه عاضًّا على أصابعه ضربه أبوه يعقوب، فخرجت شهوته من أنامله، ولأجل أن يؤيِّد هؤلاء الذين افتروا على الله ونبيه يوسف هذا الافتراء يزعمون أيضًا أن كل أبناء يعقوب قد وُلد له اثنا عشر ولدًا ما عدا يوسف، فإنه نقص بتلك الشهوة التي خرجت من أنامله ولدًا فلم يولد له غير أحد عشر ولدًا. بل زعموا أيضًا في تفسير البرهان فيما روي عن ابن عباس أنه رأى ثلاث آيات من كتاب الله؛ وهي قوله - تعالى -: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} (الانفطار: 10، 11)، وقوله - تعالى -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه} (يونس: 61)، وقوله - تعالى -: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: 33). وقيل: رأى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32). ومن البديهي أن هذه الآيات بهذا اللفظ العربي لم تنزل على أحد قبل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذين افتروا هذا ل ايعدمون جوابًا بأن يقولوا: رأى ما يدل على معاني هذه الآيات بلغتهم التي يعرفونها. بل قيل في البرهان: إنه أُرِي تمثال الملك وهو العزيز، وقيل: خياله.

وكل ذلك مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل وأكاذيبهم التي افتجروها على الله وعلى رسله، وحمله إلى بعض الصحابة والتابعين كعب الأحبار ووهب بن منبه، وأمثالهما، وليس أدلّ على هذا مما رُوي عن وهب بن منبه قال: لما خلا يوسف وامرأة العزيز خرجت كفٌّ بلا جسد بينهما مكتوب عليها بالعبرانية: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، ثم انصرفت الكف، وقاما مقامهما، ثم رجعت الكفّ بينهما مكتوب عليها بالعبرانية: وإنا عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون، ثم انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكف الثالثة مكتوب عليها: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا، وانصرفت الكف وقاما مقامهما، فعادت الكف الرابعة مكتوب عليها بالعبرانية: واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون؛ فولى يوسف -عليه السلام- هاربًا. هذا الكلام في (الدر المنثور) رواه الإمام السيوطي وغيره. وقد كان وهب أو من نقل عنه وهب ذكيًّا بارعًا حينما زعم أن ذلك كان مكتوبًا بالعبرانية، وبذلك أجاب عمَّا استشكله، ولكن مع هذا لن يجوز هذا الكذب إلا على الأغرار والسُّذَّج من أهل العلم، ولا أدري أيّ معنى يبقى للعصمة بعد أن جلس بين فخذها وخلع سرواله، وما امتناعه عن الزن ى على مروياتهم المفتراة إلا وهو مقهور مغلوب، ولو أن عربيدًا رأى سورة أبيه بعد مماته تحذره من معصية؛ لكفَّ عنها وانزجر، فأي فضل ليوسف إذًا وهو نبي من سلالة أنبياء. ويتابع شيخنا الشيخ أبو شهبه فيقول: بل أي فضل له في عدم مقارفته الفاحشة بعدما خرجت شهوته من أنامل قدميه، وما امتناعه حينئذٍ إلا قصريٌّ جبريّ، ثم ما هذا الاضطراب الفاحش في الروايات، أليس الاضطراب الذي لا يمكن

التوفيق بينه كهذا من العلل التي ردَّ المحدثون بسببها ال كثير من المرويات؛ لأنه أمارة من أمارات الكذب والاختلاق، والباطل لجلج، وأما الحق فهو أبلج. ثم كيف يتفق ما حيك حول نبي الله يوسف -عليه الصلاة والسلام- وقول الحق -تبارك وتعالى- عقب ذكر الهمّ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24)، فهل يستحق هذا الثناء من حلّ التكة وخلع السروال، وأن جلس بين رجليها إلى آخر ما ذكروه من الكذب، ولا أدري أنصدق القرآن أم نصدق كَذَبة بني إسرائيل ومخرفيهم؟! بل كيف يتفق ما روى هو وما حكاه الله -عز وجل- عن زليخة بطلة المراودة؛ حيث قالت: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) وهو اعتراف صريح من البطلة التي أعيتها ال حي ل عن طريق التزين حينًا، والتودد إليه بمعسول القول حينًا آخر، والإرهاب والتخويف حينًا ثالثًا فلم تفلح، وقالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 32). ثم انظر ماذا كان جواب السيد العفيف الكريم ابن الكريم ابن الكريم اين الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم صلوات الله وسلامه- قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (يوسف: 33). وقصده -عليه الصلاة والسلام- بقوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنََّ} تبر ؤ من الحول والطول، وأن الحول والقوة إنما هما من الله - جل وعلا - وهو سؤال منه لربه واستعانة به على أن يصرف عنه كيدهنَّ، وهكذا شأن الأنبياء. والحقيقة عندما نتأمل الآيات نجد فيها أكثر من عشرة أدلة كلها واضحة، فبعد ما مضى من قولها: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51)، وقول

الله - عز وجل - {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} (يوسف: 24)، وقوله - عز وجل - {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) نرى أن الشيطان نفسه قد شهد ليوسف -عليه السلام- في ضمن قوله كما ذكر القرآن وحكاه الله عنه بقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 82، 83)، ويوسف بشهادة الحق السالفة من المخلصين. وكذلك شهد ليوسف شاهد من أهلها، هذا الشاهد كما نطقت الآية عندما قال - جل وعلا -: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (يوسف 26: 28)، وهذا الشاهد قيل: كان رجلًا عاقلًا حكيمًا مجربًا من خاصة الملك، وكان من أهلها، وقيل: كان صبيًّا في المهد، وكان ذلك إرهاصًا بين يدي نبي الله يوسف إكرامًا له. على أيَّة حال نطق هذا الشاهد بالقول الفصل عندما قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ}؛ أي: شُقَّ وقطع من الأمام {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} كأنه هو الذي يقدم عليها ويقبل، فدفعته {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} لأن قدّ القميص وشقه من الخلف معناه أنه كان يجري ويهرب منها {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} الآيات. وقد أسفر التحقيق عن براءة يوسف وإدانة زليخة امرأة العزيز، فكيف تتفق كل هذه الشهادات الناصعة الصادقة، وتلك الروايات المزوّرة عن الإسرائيليات لا تتفق، وقد ذكر الكثير من هذه الروايات ابن جرير الطبري، والثعلبي، والبغوي، وابن كثير، والسيوطي.

وتعرَّف أخا الإسلام ويا طالب العالم أن هذه الكتب مع جلالة قدرها لم تسلم من سوق هذه الروايات الكثيرة الإسرائيلي ات، وقد مر بها ابن كثير بعد أن نقلها حاكيًا من غير أن ينبّه إلى زيفها، وهذا من المواضع التي تعدّ زلَّات لابن كثير؛ إذ ينقل هذه الإسرائيليات وهذه الروايات ولا يعقّب عليها، ولا ينص على تزييفها، مع أن ابن كثير تأخّر؛ يعني: لو كان لابن جرير الطبري المتوفى في أول القرن الرابع أو الثعلبي أو البغوي، أو هؤلاء الذين تقدمت بهم الحياة في القرون الأربعة أو الخمسة الأولى، فابن كثير الذي تُوفي في عام سبعمائة وأربع وسبعين في أواخر القرن الثامن كان حريًّا به أن يدفع هذه الأباطيل وأن ينقدها، وأن يبين زيفها. ومن العجيب حقًّا إن الإمام ابن جرير على جلالة قدره يحاول أن يضعف في ت فسيره مذهب الخلف الذين ينفون هذا الزور والبهتان، ويفسرون الآيات على حسب ما تقتضيه اللغة وقواعد الشرع، وما جاء في القرآن والسنة الصحيحة الثابتة، ويعتبر هذه المرويات التي سقناها الآن هي قول جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين يؤخذ عنهم. راجع (تفسير ابن جرير). وكذلك تابعه على مقالته هذه الثعلبي والبغوي في تفسيريهما؛ تفسير البغوي (معالم التنزيل)، والثعلبي في أيضًا (الكشف والبيان) تفسيره، وهذه المرويات الغثة المكذوبة التي يأباها النظم الكريم، ويج ز م القلم والنقل باستحالتها على الأنبياء -عليهم السلام - هي التي اعتبرها الطبري ومن تبعه أقوال السلف, بل يسير في خط اعتبار هذه المرويات، فيورد على نفسه سؤالًا فيقول: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا، وهو

لله نبي؟ ثم أجاب بما لا طائل تحته، ولا يليق بمقام الأنبياء والمرسلين. فانتبه أخا الإسلام. ثم نذكر أيضًا ما وقع فيه الإمام الواحدي وهو صاحب تفسير (البسيط)، و (الوسيط)، و (الوجيز)، وله قدمه الراسخة في علم التفسير إلا أنه أيضًا ذهب إلى ما ذهب إليه هؤلاء؛ فذهب الواحدي في تفسيره (البسيط) قال: قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمَّن شاهد التنزيل: هم يوسف -عليه السلام- بهذه المرأة همًّا صحيحًا، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه؛ زالت كل شهوة منه، وهي غفلة شديدة من هؤلاء الأئمة من الواحدي وغيره لا نرضاها ولا يرضاها الله ورسوله. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 11 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (9).

الدرس: 11 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (9).

تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف -عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (9)) تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة يوسف -عليه السلام- الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: لا زلنا مع نبي الله يوسف -عليه السلام- تلك القصة التي ذُكرت مكتملة في سورة "يوسف" وفيها ما فيها من الإسرائيليات التي أوردها المفسرون في تفسيرهم، وسبق أن تكلمنا عن يوسف -عليه السلام- وعن الآيات التي بينت أن امرأة العزيز راودته عن نفسه، وأنه كان صادقً؛ إذ لم يقترب من جانب الخط، والآيات في هذا في هذه السورة وغيرها كثيرة، فالله -جل جلاله- يقول: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24). وقلت: من الآيات ما يوضح براءة هذا الرسول المعصوم -صلوات الله وسلامه عليه- وماذا بعد قول الله -جل وعل-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23). وتتوالى الآيات ونرى الآية {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24). ولقد شهد الشيطان نفسه من الآيات ليوسف -عليه السلام- عندما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص: 82) فيوسف من عباد الله المخلصين. والآيات على لسان هذه المرأة بطلة المراودة عندما تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} ولما استبقا الباب وصل يوسف إلى الباب يهرب منها؛ فعند ذلك وجده الملك وعندها جاء شاهد ليشهد في القضية {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ} 29).

والآيات كثيرة فهي أيضًا تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51). ثم ننتقل بعد ذلك إلى قوله -جل وعل-: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (يوسف: 52) وفيها إسرائيليات كثيرة وردت، وقبلها نذكر ما ذكره المفسرون أيضًا إذ يقولون: إن يوسف هم بهذه المرأة هما صحيحًا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه. هذا كلام لا يقبله العقل ويقدح في عصمه الأنبياء، ومن هنا نستكمل ما بدأناه، يقول علماؤن؛ يقول الدكتور محمد أبو شهبة، والعلماء ذوي البصيرة يقولون: إن هذا الكلام فيه غفلة شديدة من الأئمة الذين ذكروا هذا الكلام، وهذا كلام لا نرضاه، ولولا أننا ننزه ألسنتنا وأقلامنا عن الهُجر من القول، وأنهم خلطوا في مؤلفاتهم عملًا صالحًا وآخر سيئًا؛ لقسونا عليهم في الحكم على نقلهم لهذا الكلام، فنسأل الله لنا ولهم العفو والمغفرة. يقول شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة: وهذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسرون؛ إما إسرائيليات وخرافات وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء الذين أرادوا بها النيل من الأنبياء والمرسلين، ثم حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا وتلاقها عنهم بعض الصحابة والتابعين بحسن نية أو اعتمادًا على ظهور كذبها وزيفه، وإما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة دسّها عليهم أعداء الأديان كي تروج تحت هذا الستار، وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد وتعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة الصحيحة؛ وهذا ما نميل إليه. ننتقل إلى الفرية الأخرى على سيدنا يوسف؛ وهي ما ذكروه في قوله -جل وعل-: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فلكي يؤيدوا باطلهم الذي ذكر فيما

مضي رواه عن الصحابة والتابعين ما لا يليق بمقام الأنبياء، واختلقوا على النبي -صلي الله عليه وسلم- زورًا، وقوّلوه ما لم يقله؛ قال صاحب (الدُّر) وأخرجه الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في (شُعب الإيمان) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما جمع الملك النِّسوة قال لهن: انتن {رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51)، قال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فغمزه جبريل -عليه السلام- فقال: ولا حين هممت به، قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53) هذا كلام لا يقبل لا عقلًا ولا شرعًا؛ وانظر إلى كلام النسوة: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} (يوسف: 51)، وانظر اعتراف المرأة صاحبة القصة {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} -أي: ظهر- {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}. أما نسبه هذا القول: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} نسبته إلى يوسف وما زادوه من أنّ جبريل جاءه وكلمه، وقال: ولا حين هممت به، هذا كلام مدسوسٌ يَقينًا. أخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد، والسُدي مثل هذا الكلام. وأخرج الحاكم في (تاريخه) وابن مردويه والديلمي عن أنس -رضي الله عنه- أنّ رَسول الله -صلي الله عليه وسلم- قرأ هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال: "لما قال يوسف ذلك قال له جبريل -عليه السلام-: ولا يوم هممت بما هممت به؛ فقال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} ". قال: وأخرج ابن جرير عن عكرمة مثله وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر في نفس الآية قال جبريل: "ولا حين حللت السراويل" إلى

غير ذلك من المرويات المكذوبة يقينًا والإسرائيليات الباطلة التي خرجها بعض المفسرين الذين كان منهجهم ذكر المرويات، وجمع أكبر قدر منها سواء منها ما صح وما لا يصح، والإخباريون الذين لا تحقيق عندهم للمرويات، وليس أدل على ذلك من أنها لم يخرجها أحدٌ من أهل الكتب الصحيحة، ولا أصحاب الكتب المعتمدة الذين يرجع إليهم في مثل هذا. يقول شيخنا دكتور محمد أبو شهبة: وقد فات هؤلاء الدساسين الكذابين أن قوله -تعالى-: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ليس من مقالة سيدنا يوسف -عليه السلام- وإنما هو من مقالة امرأة العزيز وهو ما يتفق وسياق الآية؛ ذلك أن العزيز لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن قال له: {قَالَ ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف: 50) فأحضر النّسوة وسألهن، وشهدن ببراءة يوسف فلم تجد امرأة العزيز بدًّا من الاعتراف فقالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 51 - 53). فكل ذلك من قولها، ولم يكن يوسف حاضرًا ثَمّ -أي: هناك- بل كان في السجن؛ فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك في مجلس التحقيق الذي عقده العزيز. وقد انتصر لهذا الرأي الذي يتلاءم مع السياق والسباق شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، وألف في ذلك تصنيفًا مستقلا على حده. قال الإمام الحافظ المفسر ابن كثير في تفسيره: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} تقول إنما اعترفت بهذا على نفسها، أو إنما اعترفت بهذا علي نفسي؛ ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحظور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع؛ فلهذا اعترفت ليعلم أني برئيه {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي؛ فإن النفس

تتحدث وتتمنى ولهذا راودته {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي: إلا من عصمه الله -سبحانه وتعالى- {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- فأفرضه بتصنيف على حدة، هذا كلام العلامة ابن كثير. وبعد أن ذكر بعض ما ذكره ابن جرير الذي ذكرناه آنفًا عن ابن عباس وتلاميذه وغيره، قال: والقول الأول أقوى وأظهر وهو قول ابن عباس الذي يؤيد ما انتصر له الإمام ابن تيمة؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف -عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك. ننتقل بعد ذلك إلى التفسير الصحيح لهذه الآية التي ذل فيها كثيرون؛ وهى قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يوسف: 24). يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة والعلماء ذوي البصيرة: والصحيح في تفسير قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّه} أنّ الكلام تم عند قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وليس من شك في أن همها كان بقصد الفاحشة {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّه} الكلام من قبيل التقديم والتأخير، والتقدير: "ولولا أن رَأَى برْهان ربه لهم بها" وقوله -تعالى-: {وَهَمَّ بِهَا} هذا جواب لولا مقدم عليه، ومعروف في اللغة العربية أنّ "لول" حرف امتناع لوجود؛ أي: امتناع الجواب لوجود الشرط؛ فامتنع الهم لوجود البرهان؛ أي: فيكون الهم ممتنعا لوجود البرهان الذي ركزه الله في فطرته، والمقدم إما الجواب أو دليله؛ على الخلاف في هذا بين النحويين.

لكن هنا نسأل: ما المراد بالبرهان الذي رآه؟ المراد هو حجة الله الباهرة الدالة على قبح الزنى، وهو شيء مركوز في فطر الأنبياء، ومعرفه ذلك عندهم وصل إلى عين اليقين، وهو ما نعبر عنه بالعصمة؛ فهذا البرهان هو الفطرة النقية والقلب السليم والإخلاص الذي ركزه رب العالمين في قلوب الأنبياء، والعصمة هي التي تحولُ بين الأنبياء والمرسلين وبين وقوعهم في المعصية. ويرحم الله الإمام جعفر بن محمد الصادق -رضي الله عنهما- حيث قال: البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يُسخط الله -عز وجل- وهذا هو القول الجزل الذي يوافق ما دل عليه العقل من عصمة الأنبياء، ويدعو إليه السابق واللاحق. وأما كون جواب "لول" لا يجوز أن يتقدم عليها؛ فهذا أمر ليس ذا خطر حتى نعدل عن هذا الرأي الصواب إلى التفسيرات الأخرى الباطلة لهمّ يوسف -عليه السلام- والقرآن هو أصل اللغة؛ فورود أي أسلوب في القرآن يكفي في كونه أسلوبًا عربيًّا فصيحًا، وفي تأصيل أي قاعدة من القواعد النحوية؛ أي: إن كلمات القرآن ولغة القرآن يُقعّد منها، ولا يُقعد عليها؛ فلا يجوزُ لأجل الأخذ بقاعدة نحوية أن نقع في محظورٍ لا يليق بالأنبياء كهذا، وخاصة أن قواعد النحو قواعد أغلبية وليست مجمع عليها من جميع العرب. وقد قال الإمام الألوسي في تفسيره في الرد على المُبرد في تشنيعه على قراءة حمزة -هذا في موضع آخر- وحمزة أحد القراء السبعة فله قراءة في قوله: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" (النساء: 1) بجر لفظ "الأرحام" عطفًا على الضمير المجرور من غير إعادة حرف الجر، وحمزة أحد القراء السبعة الذين قالوا أساطين الدين: إنّ قراءتهم متواترة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع هذا لم يقرأ به وحده، بل قرأ به جماعه من غير السبعة؛ كابن مسعود وابن عباس والنخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش.

فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة، ونهاية الجسارة والبشاعة، وربما يُخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين، ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في (البحر) الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيين من الجواز. وورد ذلك في (لسان العرب) نثرًا ونظمًا وإلى ذلك ذهب العلامة ابن مالك. وقيل: إن ما حصل من هَمّ يوسف كان خَطرةً وحديث نفس بمقتضى الفطرة البشرية، ولم يستقر ولم يظهر له أثر؛ قال البغوي في تفسيره: قال بعض أهل الحقائق: الهمُ همان؛ همُ ثابتً: وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضى، مثل هم امرأة العزيز، والعبد مأخوذ به. وهمُ عارضً: وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم، مثل هم يوسف -عليه السلام- والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم به ويعمل، هكذا قال البغوي. وقيل: همت به هم شهوة وقصد للفاحشة، وهم هو بضربه، يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: ولا أدري كيف يتفق هذا القول وقوله -تعالي-: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. مما أذكر أيضًا أن القول بأن هَمّ يوسف كان بضربها ودفعها قال به كثيرٌ من المفسرين، وسواء كان يتوافق ولا يتوافق؛ ففيه تنزيه لساحته، لكن الحق ما سبق إليه القول؛ وهو أن جواب "لول" فيه تقديم وتأخير فلولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فيكون الهمُّ ممتنعًا ولم يقع منه لوجود البرهان، وهو الذي ركزه الله في فطرة الأنبياء والمرسلين من نقاء القلب والعصمة الواجبة لهم.

فنقول: القول الجزل هو هذا الرأي الذي نستريح إليه، والسر في إظهاره في هذا الأسلوب والله أعلم تصوير المشهد المثير المغري العرم الذي هيئته امرأة العزيز لنبي الله يوسف، وأنه لولا عصمة الله له، وفطرته النبوية الذكية لكانت الاستجابة له، والهَمُّ بِهَا أمرًا مُحققًا، وفى هذا تكريمُ ليوسف وشهادة له بالعفة البالغة والطهارة الفائقة. ننتقل بعد ذلك إلى ما ورد في لُبث يوسف -عليه السلام- في السجن ولعلها المشهد الأخير الذي نروي فيه ما ساقه المفسرون. فمن الإسرائيليات ما يذكره بعضُ المُفَسّرين في مدة سجن يوسف -علية السلام- وفي سبب لُبثه ومُكثه في السجن بضع سنين، وذلك عند تفسير قوله -تعالى-: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (يوسف: 42) فقد ذكر ابن جرير والثعلبي والبغوي وغيرهم أقوالًا كثيرة في هذا، فقد قال وهب بن مُنبه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب "بختنصر" فحول في السباع سبع سنين. والحقيقة يعلق الشيخ أبو شهبة لا أدري ما المناسبة بين نبي الله وبين "بختنصر" الذي أذل اليهود وسباهم. على كل حال؛ وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف، اتخذت من دوني وكيلًا لأطيلنّ حبسك؛ فبكى يوسف، وقال: يا ربّ، أنسى قلبي كثرة البلوى؛ فقلت كلمة ولن أعود. وقال الحسن البصري: دخل جبريل -عليه السلام- على يوسف في السجن، فلما رآه يوسف عرفه، فقال له: يا أخ المنذرين، أني أراك بين الخاطئين، فقال له جبريل:

يا طاهر، يا بن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين، ويقول لك: أما استحييت مني أن استشفعت بالآدميين فوعزتي وجلالي لألبثنك في السجن بضع سنين، فقال يوسف: وهو في ذلك عني راضٍ؟ قال: نعم، قال: إذًا لا أبالي. وقال كعب الأحبار: قال جبريل ليوسف: إن الله -تعالى- يقول: من خلقك؟ قال: الله -عز وجل-، قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: الله، قال: فمن نجاك من كرب البئر، قال: الله، قال: فمن علمك تأويل الرؤي؟ قال: الله، قال: فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله، قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ فلما انقضت سبع سنين قال الكلبي: وهذه السبع سوى الخمسة التي قبل ذلك. يعلق شيخنا الشيخ أبو شهبة فيقول: بعض المفسرين لا يكتفي بالسبع، بل يضم إليها خمسًا قبل ذلك، ولا أدري ما مستنده في هذا، وظاهر القرآن لا يشهد له؛ فلو كان كذلك لصرح به القرآن أو لأشار إليه؛ فلما انقضت السنين جاءه الفرج من الله؛ فرأى الملك ما رأى من الرؤيا العجيبة، وعجز الملأ عن تفسيره؛ تذكر الساقي يوسف وصِدْق تعبيره للرؤى فذهب إلى يوسف، فعبرها له خير تعبير فكان ذلك سبب نجاته من السجن، وقول امرأة العزيز: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وأغلب الظن عندي أنّ هذا من الإسرائيليات، هذا كلام علمائن؛ يقول الدكتور محمد أبو شهبة: وهذا من الإسرائيليات؛ فقد صورت سجن يوسف على أنه عقوبة من الله؛ لأجل الكلمة التي قالها، مع أنه -عليه السلام- لم يقل هجرًا ولا منكرًا؛ فالأخذ في أسباب النجاة العادية، وفي أسباب إظهار البراءة والحق لا ينافي قط التوكل على الله -تعالى- والبلاء للأنبياء ليس عقوبة، وإنما هو لرفع درجاتهم؛ وليكونوا أسوة وقدوة لغيرهم في باب الابتلاء.

وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلي الله عليه وسلم-: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، فالأمثل فالأمثل))، وقد روى أبن جرير هاهنا حديثًا مرفوعًا؛ فقال: حَدّثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم ابن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا، قال: قال النبي -صلي الله عليه وسلم-: "لو لم يقل -يعني: يوسف- الكلمة التي قالها ما لبث في السجن طول ما لبث؛ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله" ولو أن هذا الحديث كان صحيحًا أو حسنًا؛ لكان للمتمسكين بمثل هذه الإسرائيليات التي أظهرت سيدنا يوسف بمظهر الرجل المذنب المدان وجهة؛ ولكن الحديث شديد الضعف، كما قال علماؤنا: لا يجوز الاحتجاج به أبدًا، وهذا قول شيخنا الدكتور محمد أبي شهبة. قال الإمام الحافظ الناقد ابن كثير: وهذا الحديث ضعيف جدًّ؛ أي لا يحتج به، لا في الأحكام ولا في الفضائل؛ فما بالك في مثل هذا؛ لأن سيفان بن وكيع الراوي عنه ابن جرير ضعيف، وإبراهيم بن يزيد أضعف منه أيضًا، وقد روى عن الحسن وقتادة مرسلً؛ روي الحديث مرسلًا عن كل منهما، وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل، لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن، والله أعلم، طبعًا لا يحتج به. وقد تكلف بعض المفسرين بالإجابة عما يدل عليه هذا الحديث وحاله كما سمعت، بل تكلف بعضهم؛ فجعل الضمير فيه {فَأَنْسَاهُ}، جعل الضمير ليوسف وهو غير صحيح، والذي يجب أن نعتقده أن يوسف -عليه السلام- مكث في السجن كما قال الله -تعالى- بضع سنين، وكلمه البضع من الثلاث إلى التسع أو إلى العشرة بغير تحديد بالمدة؛ فجائز أن تكون سبعة، وجائز أن تكون تسعًا، وجائز أن تكون خمسًا، ما دام ليس هناك نقل صحيح عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وكذلك

الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة.

نعتقد أنه لم يكن السجن عقوبة على كلمة، وإنما هو بلاء ورفعة درجة، ثم كيف يتفق هذا الحديث الضعيف، وما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في (الصحيحين)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي)) وفى لفظ للأمام أحمد: ((لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر)). الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة ومن الإسرائيليات التي ذكرها المفسرون عند الآيات عند قوله -تعالى-: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 112 - 115). اختلف العلماء في المائدة أنزلت أم لا؟ وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا على نزولها، وهذا هو ظاهر القرآن؛ فقد وعد الله -سبحانه- ووعده محقق لا محالة في قوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}. وذهب الحسن ومجاهد إلى أنها لم تنزل؛ وذلك لأن الله -سبحانه- لما توعدهم على كفرهم بعد نزولها بالعذاب البالغ غاية الحد؛ خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا: لا نرُيدها فلم تنزل، ولا ندري ما الحامل لهم على هذا، وقد أحيطت المائدة كما قال شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة: أحيطت المائدة بأخبار

كثيرة، أغلب الظن أنها من الإسرائيليات، ورويت عن وهب ابن منبه وكعب الأحبار وسَلمان وابن عباس ومقاتل والكلبي وعطاء وغيرهم، بل رووا في ذلك حديثًا عن عمار بن ياسر، عن النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: "إنها نزلت خبزًا ولحمً، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا لغد" وفي رواية بزيادة "ولا يخبئوا" فخانوا وادخروا ورفعوا لغد؛ فمسخوا قردة وخنازير. ورفع مثل هذا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- غلط ووهم من أحد الرواة على ما أرجح؛ فقد روى هذا ابن جرير في تفسيره مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أصح، وقد نص على أن المرفوع لا أصل له الإمام أبو عيسى الترمذي، فقال بعد أن روى الروايات المرفوعة: هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن خلاس، عن عمار بن ياسر موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة، وبعد أن ذكر رواية موقوفة عن أبي هريرة، قال: "وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلًا". انظر (سنن الترمذي) في كتاب التفسير باب سورة "المائدة". وقد اختلفت المرويات في هذ؛ فروى العوفي عن ابن عباس أنها -أي: المائدة- خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا، إذا شاءو، وقال عكرمة، عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة وأريغفة، وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أُنزلت على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم، وقال كعب الأحبار: نزلت المائدة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام إلا اللحم، وقال وهب ابن منبه: أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل؛ فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة فأكلوا ما شاءوا من دروب شتى؛ فكان يقعد عليها أربعة آلاف، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم، فلبثوا على ذلك ما شاء الله -عز وجل-

وقال وهب أيضًا: نزل عليهم أقرصة من شعير، وأحوات -جمع حوت أي سمك- وحشى الله بين أضعافهن البركة؛ فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون حتى أكل جميعهم وأفضلوا، وهكذا لم يتفق الرواة على شيء مما يدل على أنها إسرائيليات مبتدعة، وليس مرجعها إلى المعصوم -صلى الله عليه وسلم- والحق أبلج والباطل لجلج لا يتفق عليه غالبًا. وسنكتفي بذكر الرواية الطويلة التي ذكرها ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده)، عن وهب ابن منبه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وخلاصته: أن الحوارين لما سألوا عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك؛ خشية أن تنزل عليهم؛ فلا يؤمنوا بها؛ فيكون فيها هلاكهم، فلما أبوا إلا أن يدعو لهم الله لكي تنزل دعا الله؛ فاستجاب له؛ فأنزل الله -تعالى- سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منضدة من السماء، تهوي إليهم وعيسى -عليه السلام- يبكي خوفًا من الشرط التي اتخذ عليهم فيها، فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه، والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط، وخرّ عيسى -عليه الصلاة والسلام- والحواريون سجدًا شكرًا لله تعالى. وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفو، فأقبل عيسى -عليه السلام- ومن معه ينظرونها؛ فإذا هي مغطاة بمنديل، قال -عليه السلام- من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاءً عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا -سبحانه وتعالى- ونأكل من رزقه الذي رزقنا؛ فقالوا: يا روح الله وكلمته، أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءًا جديدًا، ثم دخل مصلاه وصلى ركعات ثم بكى طويلًا ودعا الله -تعالى- أن يأذن له في الكشف عنه، ويجعل لها وقومه فيها بركة ورزقًا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، وكشف عنها؛ فإذا

عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير -أي: قشر- وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها -أي: الدهن- قد نُضض حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعلى رأسها خل وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد -قديد: يعني لحم مجفف. فقال شمعون -رأس الحواريين- لعيسى: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية؛ فقال له شمعون: لا، وإله إسرائيل ما أردت بهذا سؤالًا يا بن الصديقة، فقال عيسى -عليه السلام-: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهر، فقالوا: يا روح الله وكلمته إنا نحب أن يرينا الله آية في هذه الآية، فقال -عليه السلام-: سبحان الله -تعالى- أما اكتفيتم؟ ثم قال: يا سمكة، عودي بإذن الله -تعالى- حية كما كنت؛ فأحياها الله وعادت حية طرية، يا سمكة، عودي بإذن الله -تعالى- كما كنت مشوية فعادت، ثم دعاهم إلى الأكل فامتنعوا حتى يكون هو البادئ فأبى، ثم دعا لها الفقراء والزمنى -أي: كبار السن- وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم واحمدوا الله -تعالى- الذي أنزلها لكم؛ فيكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم بسم الله -تعالى- واختتموه بحمد الله ففعلو، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ.

ونظر عيسى والحواريون؛ فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منه، وبرئ كل زمن أكل منه، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات. يعلق على هذه القصة فيقول: هذا مما يضعف القصة ويدل على الاختلاق، وإلا فكيف يطلبونها ثم يمتنعون عن الأكل؛ لأن عيسى لم يبدأ به تعليق على كلام هذه القصة، وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل إليها بنو إسرائيل يسعون من كل مكان، يزاحم بعضهم بعضًا؛ فلما رأى ذلك جعلها نوبًا تنزل يومًا ولا تنزل يومً، ومكثوا على ذلك أربعين يومًا تنزل عليهم غبًّا عند ارتفاع النهار، فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا -أي: جلسوا في وقت القيلولة وسط النهار- ارتفعت عنهم إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى تتوارى عنهم. هناك تعليق على هذ؛ فالقرآن الكريم يدل دلالة واضحة على أن المائدة لم تنزل إلا مرة واحدة، وهذا الكلام يدل على تكرار نزولها، وهذا أيضًا يدل على اختلاف تفاصيل القصة، وهذا واضح أنها من تزايدات بني إسرائيل. بقية الكلام: فأوحى الله -تعالى- إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام- أن اجعل رزق لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس؛ فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم، وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وساوسه في قلوب المرتابين؛ فلما علم عيسى ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح، سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم؛ فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقًا وأراكم فيها

الآيات والعبر؛ كذبتم بها وشككتم فيها؛ فأبشروا بالعذاب؛ فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله -تعالى. وأوحى الله -تعالى- إلى عيسى -عليه السلام-: إني آخذ المكذبين بشرطي؛ فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين؛ فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين؛ فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير؛ فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات. قال العلامة ابن كثير في تفسيره بعد ذكره: هذا أثر غريب جدًّ؛ ما معني غريب؟ الغريب ما تفرد به رواته في كل السند أو بعضه، ومنه الصحيح، ومنه غير الصحيح وهو الغالب والكثير. هذا أثر غريب جدًّا قطعه ابن أبي حاتم من مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل والله -سبحانه وتعالى- أعلم. هذا كلام العلامة ابن كثير. أقول -شيخنا الشيخ أبو شهبة-: ومن هذه الروايات الغريبة دخل البلاء على الإسلام والمسلمين؛ لأن غالبها لا يصح؛ ولذلك قال الإمام الجليل أحمد بن حنبل: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب؛ فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء. وقال الإمام مالك -رضي الله عنه-: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال ابن المبارك: العلم الذي يجيئك من هاهنا وهاهنا -يعني المشهور الذي رواه الكثيرون- رواها البيهقي في (المدخل). وروي عن الزهري أنه قال: ليس من العلم ما لا يُعرَف، إنما العلم ما عُرِف وتواطأت عليه الألسن. انظر في هذا (تدريب الراوي) للإمام السيوطي.

ويقول شيخنا: وأحب أن أنبه إلى أن أصل القصة ثابت بالقرآن الذي لا شك فيه، وإنما موضع الشك في كل هذه التزايدات التي هي من الإسرائيليات. وقد ذكر المفسرون جميعًا كل ما يدور حول قصة المائدة، وإن اختلفوا في ذلك قلة وكثرة؛ انظر (تفسير ابن جرير) عند هذه الآيات و (الدر المنثور)، والزمخشري والفخر الرازي، و (تفسير أبي السعود) وحتى ابن كثير والبغوي والألوسي والقرطبي، ذكروا كل هذه القصة، إلا أنّ الإمام القرطبي قال: في هذا الحديث مقال، ولا يصح من قبل إسناده. ولا زلنا نتابع قبل أن نتبين التفسير الصحيح للآيات؛ فنتابع يقول شيخنا: وأحب أن أنبه إلى أن أصل القصة ثابت، والمفسرون جميعًا قد ذكروا كل ما يدور حول قصة المائدة، وإن اختلفوا في ذلك قلة وكثرة، والعجب أن أحد لم ينبه على أصل هذه المرويات -هذا كلام شيخنا الدكتور محمد أبي شهبة- أن أحد لم ينبه على أصل هذه المرويات، والمنبع الذي نبعت منه حتى الإمامين الجليلين ابن كثير والألوسي وهما من العلماء الأثبات النقاد، وإن كان ابن كثير قد أشار من طرف خفي إلى عدم صحة معظم ما روي، ولعلهم اعتبروا ذلك مما يباح روايته، ويحتمل الصدق والكذب؛ فذكروه من غير إنكار له، وكان عليهم أن ينزهوا التفسير عن هذا وأمثاله. هذا كلام شيخنا. وقد شكك في القصة الطويلة التي اختصرناها الإمام القرطبي شكك فيها؛ فقال: قلت: في هذا الحديث مقال، ولا يصح من قبل إسناده. ثم عرض بعد لما روي مرفوعًا وموقوفًا، وذكر ما قاله الإمام الترمذي من أن الموقوف أصح، وأن المرفوع لا أصل له. وصلي الله على سيدنا محمد، وعلي اّله وصحبه وسلم

الدرس: 12 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (10).

الدرس: 12 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (10).

تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (10)) تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة المائدة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: التفسير الصحيح للآيات: الآيات في هذا هي قول الله -جل وعلا -: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء} (المائدة: 112). {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، وهو مفعول لفعل محذوف والتقدير: اذكر يا محمد -صلى الله عليك وسلم- ما حدث في هذا الزمان البعيد؛ لكي يكون دليلًا على صدق نبوتك؛ فما كنت معهم، ولا صاحبت أهل الكتاب، ولم تكن قارئًا ولا كاتبًا؛ فمعرفتك بهذه القصة دليل على أنك تلقيتها من الوحي من ربك. {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} الحواريون جمع حواري: وهم المخلصون الأصفياء من أتباع عيسى -عليه السلام- ويطلق أيضًا على الأصحاب المخلصين من أتباع الأنبياء، وفي الحديث الصحيح: ((لكل نبي حواري، وحواريي الزبير)) أي: ابن العوام. و" المائدة ": هي الخوان الذي عليه الطعام؛ فإن لم يكن عليها طعام؛ فهو خوان. و"السماء" {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنْ السَّمَاءِ} هي السماء المعروفة، أو المراد بها جهة العلو فإنها قد تطلق ويراد بها كل ما علا. والاستفهام في هذه الآية: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ليس المراد هو أصل الاستطاعة وأنهم ما كانوا يعلمون هذا؛ لأن السائلين كانوا مؤمنين عارفين عالمين بالله وصفاته؛ بل في أعلى درجات هذه الصفات؛ وإنما المراد بالسؤال: الإنزال بالفعل؛ يعني: هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة، المعنى: هل ينزل علينا

ربك مائدة؟ فالسؤال لا يراد منه السؤال عن أصل الاستطاعة؛ إنما المراد إنزال الشيء بالفعل، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى: هل يجيبنا ربك يا نبينا عيسى إلى ذلك أم لا؟. وقال بعض العلماء: ليس ذلك بشك في الاستطاعة؛ وإنما هو تلطف في السؤال وأدب مع الله تعالى بهذه الصيغة المهذبة؛ كقول الرجل لآخر: هل تستطيع أن تعينني على كذا وكذا؟ -وهو يعلم أنه يستطيع. وأما قول من قال: إنه من قول من كان مع الحواريين، فبعيد؛ لخروجه عن ظاهر الآية؛ ولا سيما أن تفسير الآية مستقيم غاية الاستقامة على ما ذكرنا وما يعرف في قواعد اللغة. وهذا السؤال إما لفقرهم وحاجتهم، وإما لتعرف فضل نبيهم عيسى -عليه السلام- وفضلهم وكرامتهم عند ربهم. وأما ما روي أن عيسى أمرهم بصيام ثلاثين يومًا ثم ليسألوا ربهم ما يشاءون؛ فصاموا وسألوا؛ فهذا كلام لسنا منه على يقين. بقية الآية: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 112) ليس هذا شكًّا في إيمانهم؛ وإنما هو أسلوب معهود حملًا على التقوى؛ كما قال تعالى في حق المؤمنين الصادقين من هذه الأمة المحمدية: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} (الأنفال: 1) والمعنى: اتقوا الله ولا تسألوه؛ فعسى أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق، أو اتقوا الله ودعوا كثرة السؤال؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- إنما يفعل الأصلح لعباده. {إِنْ كُنتُمْ مُّؤْمِنِين} أي: من أهل الإيمان بالله ورسله؛ ولا سيما أنه سبحانه آتاكم من الآيات ما فيه غنية عن غيره.

{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} (المائدة: 113) بدءوا بالغذاء المادي، ثم ثنوا بالغذاء الروحي، فقالوا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} (المائدة: 113) وهو مثل قول الخليل إبراهيم -عليه السلام-: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260). بقية الآية: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} (المائدة: 113)؛ أي نزداد علمًا ويقينًا بصدقك وحقيقة رسالتك {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِين} (المائدة: 113)؛ أي: المقرين المعترفين لله بالوحدانية ولك بالنبوة والرسالة، أو نكون عليها من الشاهدين عليها لمن لم يرها ويعاينها. {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا} (المائدة: 114) العيد: يوم الفرح والسرور، {لِأَوَّلِنَا}: لأول أمتنا، {وَآَخِرِنَا}: آخر أمتنا أو لنا ولمن بعدنا، {وَآيَةً مِّنكَ}؛ أي: دليلًا وحجة على قدرتك على كل شيء، وعلى إجابتك لدعوتي؛ فيصدقوني فيما أبلغه عنك. {وَارْزُقْنَا} أي: من عندك رزقًا هنيئًا لا كلفة فيه ولا تعب، {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وأنت خير من أعطى ورزق؛ لأنك الغني الحميد. {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 15)؛ أي: يُكذِّب بها من أمتك يا عيسى وعاندها؛ فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من عالم زمانكم، وهذا على سبيل الوعيد لهم والتهديد، وليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا، ولا على أن غيرهم قد كفر بها، ولا على أنهم استعفوا من نزول المائدة؛ وإنما الذي دعا بعض المفسرين إلى هذه الأقوال ما سمعتَ من الروايات الإسرائيلية وما ذكرناه، وها نحن -والحمد لله- فسرنا الآيات تفسيرًا صحيحًا من غير حاجة إلى ما روي ونقل من الإسرائيليات؛

الإسرائيليات التي وردت في قصة "بلقيس"، وما حدث لنبي الله سليمان -عليه السلام-.

مما يدل دلالة قاطعة على أن مفسر القرآن في غنية عن الإسرائيليات التي شوهت جمال القرآن الكريم. الإسرائيليات التي وردت في قصة "بلقيس"، وما حدث لنبي الله سليمان -عليه السلام- ننتقل بعد ذلك إلى ما نقل في قصة ملكة سبأ وما حدث لنبي الله سليمان -عليه السلام- استكمالًا لما قد مضى في شأن سليمان والهدهد وما جرى، والآيات لسليمان ذكرت في أكثر من موضع، وفي كل موضع ذكر المفسرون بعض الإسرائيليات، وها نحن الآن أمام قول الله -جل وعلا- في قصة بلقيس ملكة سبأ في الآيات؛ وهي قوله: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (النمل: 44). ذكر ابن جرير والثعلبي والبغوي والخازن وغيرهم أن سليمان أراد أن يتزوجها، فقيل له: إن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، فأمرهم فبنوا له هذا القصر على هذه الصفة؛ فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لتخوضه؛ فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدمًا وساقًا إلا أنها كانت شعراء الساقين؛ فكره ذلك؛ فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى - أي: الآلة الصغيرة التي تزيل الشعر، فقالت بلقيس: لم تمسني حديدة قط، وكره سليمان ذلك خشية أن تقطع ساقيها، فسأل الجن؛ فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين؛ فقالوا: إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء؛ فاتخذوا لها النورة - مادة يزال بها الشعر - والحمام؛ فكانت النورة والحمام من يومئذٍ.

وقد روي هذا عن ابن عباس -رضي الله عنه ا - ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم، وروى أيضًا أنها سألت سيدنا سليمان عن أمرين، قالت له: أريد ماء ليس من أرض ولا من سماء؛ فسأل سليمان الإنس ثم الجن ثم الشياطين؛ فقالت الشياطين: هذا هين أجري الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الآنية؛ فأمر بالخيل فأجريت، ثم أخذ العرق، فملأ منه الآنية، فسألته عن لون الله -عز وجل- فوثب سليمان عن سريره وفزع من السؤال، وقال: لقد سألتني يا رب عن أمرٍ إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك، ولكن الله أنساه وأنساهم ما سألته عنه، وأن الشياطين خافوا لو تزوجها سليمان وجاءت بولد أن يبقوا في عبوديته؛ فصنعوا له هذا الصرح الممرد فظنته ماءً؛ فكشفت عن ساقيها لتعبره؛ فإذا هي شعراء؛ فاستشارهم سليمان: ما يذهبه؟ فجعلت له الشياطين النورة. هذا كلام طبعًا فيه كذب ظاهر؛ كأن النورة والحمام لم يكونا إلا لها، وكأن سليمان -عليه السلام- لم يكن له هم إلا إزالة شعر ساقيها، وهو تجنٍّ وكذب صارخ على الأنبياء، وإظهار الأنبياء بمظهر المتهالك على النساء ومحاسنهم، قبح الله اليهود هم وراء ذلك. كلمة "الصرح": صنعوا له هذا الصرح: هو القصر المشيد المحكم البناء، المرتفع في السماء. و"الممرد"، أي: الناعم الأملس، والقوارير هنا: هي الزجاج الصافي النقي. يقول لنا شيخنا الشيخ أبو شهبة -معلقًا على هذا الكلام وناقلًا عن العلامة ابن كثير في (تفسيره) -: قال ابن كثير -بعد أن ذكر بعض المرويات-: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم؛ كرواية كعب ووهب، سامحهما الله فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من

الأوابد؛ أي: الأمور المشكلة البعيدة المعاني مأخوذة من كلمة: "آبدة" وهي النافرة من الوحش التي يستعصى أخذها. هي من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح من هـ وأنفع وأوضح وأبلغ -ولله الحمد والمنة. أما التفسير الصحيح لبناء الصرح؛ فالحق أن سليمان -عليه الصلاة والسلام- أراد ببناء الصرح أن يريَهَا عظمةَ ملكه وسلطانه، وأن الله -سبحانه وتعالى- أعطاه من الملك ومن أسباب العمران والحضارة ما لم يعطِها؛ فضلًا عن النبوة التي هي فوق الملك، والتي دونها أية نعمة من النعم، وحاشا لسليمان -عليه السلام- وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكمًا يوافق حكم الله فأوتيه، حاشاه أن يتحايل هذا التحايل حتى ينظر إلى ما حرم الله عليه: وهما ساقاها، وهو أجل من ذلك وأسمى. ولولا أنها رأت من سليمان ما كان عليه من الدين المتين والخلق الرفيع لما أذعنت إليه لما دعاها إلى الله الواحد الحق، ولما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب والشمس وأسلمت مع سلمان لله رب العالمين، هذا ما يتعلق بالصرح. أما ما يروى في الهدية: التي وردت في قوله -جل وعلا- على لسانها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل: 35) فقد ورد فيها أيضًا إسرائيليات ولا نطيل فيها القول. فمن الإسرائيليات ما ذكره كثير من المفسرين كابن جرير والثعلبي والبغوي وصاحب "الدر" في الهدية التي أرسلتها بلقيس إلى سيدنا سليمان -عليه الصلاة السلام- وإليك ما ذكره البغوي في (تفسيره) عند هذه الآية: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}:

قال البغوي: فأهدت إليه وصفاء ووصائف - أي: خدم من الرجال ومن النساء - قال ابن عباس: ألبستهم لباسًا واحدًا كي لا يعرف الذكر من الأنثى، وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري لبسة الغلمان، واختلفوا في عددهم؛ فقال ابن عباس: مائة وصيف -أي: خادم- ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائتا غلام ومائتا جارية، وقال قتادة وسعيد بن جبير وغيرهما: أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج - اللبنة: قطعة من الحجارة، أي: بوزنها وثقلها ذهب. وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية؛ فألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقًا من ذهب، وفي آذانهم أقراطًا وشنوفًا مرصعات بأنواع الجواهر، وألبست الجواري لباس الغلمان؛ الأقبية، والمناطق، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة -أي: الفرسان والبغال- وحملت الغلمان على خمسمائة برذون -وهي البغال أيضًا- على كل فرس لجام مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب، وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجًا مكللًا بالدر والياقوت، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود، وعمدت إلى ح ط ة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وأرسلت مع الهدية رجالًا من عقلاء قومها وكتبت معهم كتابًا إلى سليمان بالهدية، وقالت: إن كنت نبيًّا فميز لي بين الوصائف والوصفاء -أي: بين الإناث والذكور- وأخبرني بما في الح ط ة قبل أن تفتحها، واثقب الدر ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن. ورووا أيضًا أن سليمان -عليه السلام- أمر الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة، ثم أمرهم أن يفرشوا الطريق من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا

الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم -عليه السلام-.

واحدًا بلبنات الذهب والفضة ... كلام عجيب ... وأن يعدوا في الميدان أعجب دواب البر والبحر؛ فأعدوها، ثم قعد على سريره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفًا فراسخًا، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ، وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره؛ فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم ترَ أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة؛ تقاصرت أنفسهم، ورموا بما معهم من الهدايا، ثم كان أن استعان سليمان بجبريل والشياطين والأرضة في الإجابة عما سألته عنه. انظر (تفسير البغوي) وغيره. يقول الشيخ أبو شهبة: ومعظم ذلك مما لا نشك أنه من الإسرائيليات المكذوبة وأي ملك في الدنيا يتسع لفرش تِسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة؟! وفي رواية وهب ما يدل على الأصل الذي جاءت منه هذه المرويات؛ وأن من روى ذلك من السلف فإنما أخذه عن مسلمة أهل الكتاب، وما كان أجدر كتب التفسير أن تنزه عن مثل هذا اللغو والخرافات التي تدسست إلى الرواية الإسلامية فأساءت إليها. الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم -عليه السلام- أما آدم -عليه السلام- فله في القرآن مواقف لم تخلُ أيضًا من الدخيل ومن الإسرائيليات، وهي من القصص؛ قصص الأنبياء: قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} (البقرة: 36): ورد في هذه الآية إسرائيليات أيضًا؛ فمن تلك الإسرائيليات ما رواه ابن جرير في (تفسيره) بسنده عن وهب بن منبه قال: لما أسكن الله آدم وذريته أو زوجته -الشك من أبي جعفر، وهو في أصل كتابه: وذريته- ونهاه عن الشجرة، وكانت

شجرة غصونها متشعبة بعضها في بعض، وكان له ثمر تأكله الملائكة لخلدهم. هذا كلام انظر إليه؛ الملائكة لا تأكل ولا تشرب، تأمل هذه الإسرائيليات؛ وكان له ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته؛ فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربعة قوائم كأنها بختية -البختية ناقة من الجمال والنوق الخراسانية- من أحسن دابة خلقها الله. فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس؛ فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته؛ فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها؛ فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت إلى آدم؛ فقالت له مثل ذلك حتى أكل منها؛ فبدت لهما سوءاتهما؛ فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، قال: ملعونة الأرض التي خلِقْتَ منها لعنة يتحول شجرها شوكًا، ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي؛ فإنك لا تحملين حملًا إلا حملتيه كرهًا؛ فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي؟ َ ملعونة أنتِ لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب ... أنتِ عدوة بني آدم وهم أعداؤك. قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء. انظر لما سأل عمر أحد الرواة: هل الملائكة تأكل؟ فقال: يفعل الله ما يشاء ... هذا تهرب من الجواب وعجز عن تصحيح هذا الكذب الظاهر. قال ابن جرير: وروى ابن عباس نحو هذه القصة، ثم ذكر ابن جرير بسنده عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة نحو هذا الكلام، وفي السند:

"أسباط عن السدي" وعليهما تدور الروايات، وقد قدمنا حال هذه الروايات وحال أسباط والسدي. وكذلك ذكر السيوطي في (الدر المنثور) ما رواه ابن جرير وغيره في هذا مما روي عن ابن عباس وابن مسعود؛ ولكنه لم يذكر الرواية عن وهب بن منبه، وأغلب كتب التفسير بالرأي ذكرت هذا أيضًا، وكل هذا من قصص بني إسرائيل الذي تزيدوا فيه وخلطوا الحق بالباطل، ثم حمله عنهم ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين وفسروا به القرآن الكريم. ويرحم الله الإمام ابن جرير؛ فقد أشار بذكر الرواية عن وهب إلى أن ما يرويه عن ابن عباس وابن مسعود إنما مرجعه إلى وهب وغيره من مسلمة أهل الكتاب، ويا ليته لم ينقل شيئًا من هذا، ويا ليت من جاء بعده من المفسرين صانوا تفاسيرهم عن مثل هذا، وفي رواية ابن جرير الأولى ما يدل على أن الذين رووا عن وهب وغيره كانوا يشكون فيما يروونه لهم؛ فقد جاء في آخرها: قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء. فهُم قد استشكلوا عليه: كيف أن الملائكة تأكل؟ وهو لم يأتِ بجوابٍ يعتد به. ووسوسة إبليس لآدم -عليه السلام- لا تتوقف على دخوله في بطن الحية؛ إذ الوسوسة لا تحتاج إلى قرب ولا مشافهة، وقد يوسوس إليه وهو على بعد أميال منه، والحية خلقها الله -يوم خلقها- على هذا، ولم تكن لها قوائم كالبختي ولا شيء من هذا. هذا كلام فيه تعليق عليه. انظر التوراة سفر التكوين الإصحاح الثالث فإن فيه هذا الكلام ليزداد المسلم يقينًا أن هذا من الإسرائيليات التي نقلت إلينا من كتبهم وليس لنا شيء عن المعصوم -صلوات الله وسلامه عليه.

بعد هذا ننتقل إلى موقف آخر ألا وهو ما ذكر في قوله -جل وعلا-: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (البقرة: 37) فمن الروايات التي لا تثبت: ما ذكره السيوطي في (الدر) قال: أخرج الطبراني في (المعجم الصغير) والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في (الدلائل) وابن عساكر: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه، رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي؛ فأوحى الله إليه: ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك؛ لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك؛ فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ فعلمت أنه ليس أحد أعظم عندك قدرًا ممن جعلت اسمه مع اسمك؛ فأوحى الله إليه: يا آدم؛ إنه آخر النبيين من ذريتك، ولولا هو ما خلقتك ". ثم قال: وأخرج الديلمي في (مسند الفردوس) بسند واهٍ -السند الواهي، أي: الشديد الضعف الذي ربما يصل إلى حد السقوط والوضع- عن علي قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول الله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} فقال: " إن الله أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس ببيسان، والحية بأصبهان، وكان للحية قوائم كقوائم البعير، ومكث آدم بالهند مائة سنة باكيًا على خطيئته حتى بعث الله إليه جبريل، وقال: يا آدم؛ ألم أخلقك بيدي؟ أم أنفخ فيك من روحي؟ ألم أسجد لك ملائكتي؟ ألم أزوجك حواء أمتي؟ قال: بلى، قال: فما هذا البكاء؟ قال: وما يمنعني من البكاء وقد أخرجت من جوار الرحمن؟ قال: فعليك بهذه الكلمات؛ فإن الله قابل توبتك وغافر ذنبك، قل: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، سبحانك لا إله إلا أنت عملتُ سوءًا وظلمت نفسي فاغفر لي؛ إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد، سبحانك

لا إله إلا أنت عملت سوءًا وظلمت نفسي، فتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم ". فهؤلاء الكلمات التي تلقى آدم. يقول الشيخ أبو شهبة: ولا أدري ما دام سنده واهيًا -أي: شديد الضعف- لم ذكره؟! ومثل هذا عليه أمارات الوضع والاختلاق والكذب. ويسترسل السيوطي في (الدر) فيذكر عن ابن عباس أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: " سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبتَ عليَّ؛ فتاب عليه "، ومثل هذا لا يشك طالب حديث في اختلاقه، وأنه من وضع الشيعة واختلاقهم وكذبهم. ثم يسترسل في الرواية فيذكر: أن آدم لما هبط كان مسودًا جسمه، ثم بيض الله جسده بصيامه ثلاثة أيام؛ ولذلك سميت بالأيام البيض، وأنه -عليه والسلام- كان يشرب من السحاب، بل يروى عن كعب: أنه أول من ضرب الدينار والدرهم ... إلى غير ذلك مما لا يخرج عن كونه من الإسرائيليات. التفسير الصحيح: بعد ما عرفنا هذا الكذب وهذه الإسرائيليات يجدر بنا أن نقف على التفسير الصحيح للكلمات التي وردت في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}: فالصحيح في الكلمات: هو ما روي من طرقٍ عدة: أنها قوله -تبارك وتعالى- في القرآن: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) تفسير ال قرآن ب ال قرآن، وقد رواه السيوطي في (الدر) من طرق عدة؛ ولكنه خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وقد أفاض ابن جرير في (تفسيره) في ترجيح هذا القول وإن ذكر غيره من الأقوال التي هي بعيدة عن الحق والصواب.

موقف آخر لآدم -عليه السلام-: فهناك حادثة ابني آدم لما قتل أحدهما الآخر؛ لم تخلُ أيضًا من الإسرائيليات؛ فما نسب إلى ابني آدم لما قتل أحدهما الآخر كثير من الإسرائيليات، من ذلك ما ذكره ابن جرير الطبري في (تفسيره) والسيوطي في (الدر المنثور) في هذه القصة؛ قصة ابني آدم قابيل وهابيل وقتل أولهما الآخر؛ فقد روي عن كعب: أن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، وعن وهب: أن الأرض نشفت دم ابن آدم المقتول؛ فلعن ابن آدم الأرض؛ فمن أجل ذلك لا تنشف الأرض دمًا بعد دم هابيل إلى يوم القيامة، وأن قابيل حمل هابيل سنة في جراب على عنقه حتى أنتن وتغير؛ فبعث الله الغرابين اللذيْن قتل أحدهما الآخر؛ فحفر له ودفنه برجليه ومنقاره؛ فعلم كيف يصنع قابيل بأخيه. مع أن القرآن عبر بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب من غير تراخٍ؛ قال تعالى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ} (المائدة: 31)، وروى أيضًا أنه لما قتله اسودَّ جسده -وكان أبيض- فسأله آدم عن أخيه؛ فقال: ما كنت عليه وكيلًا، قال: بل قتلته؛ فلذلك اسودَّ جسدك ... إلى نحو ذلك. فكل هذا وأمثاله -عدا ما جاء في القرآن- من إسرائيليات بني إسرائيل، وقد جاءت بعض الروايات صريحة عن كعب ووهب؛ وما جاء عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما فمرجعه إلى أهل الكتاب الذين أسلموا، والآيات هي قول الله -جل وعلا-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِين، إِنِّي

أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين * فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين} (المائدة: 27 - 31) إلى آخر الآيات. ننتقل بعد ذلك إلى ما نسب إلى آدم -عليه السلام- ونختصر القول في ذلك؛ نُسب إلى آدم من قول الشعر أيضًا كلام. من الإسرائيليات؛ ما رواه ابن كثير في (تفسيره) وما ذكره السيوطي في (الدر) من أن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنًا عليه؛ فأتى على رأس المائة فقيل له: حياك الله وبياك، وبُشر بغلام؛ فعند ذلك ضحك. وكذلك ما ذكره من أن آدم -عليه السلام- رثى ابنه بشعر؛ روى ابن جرير عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: لما قتل ابن آدم آخاه بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لونٍ وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح قال السيوطي: وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما قتل ابن آدم آخاه قال آدم -عليه السلام ... وذكر البيتين السابقين باختلاف قليل ... فأجابه إبليس -عليه اللعنة-: تنحَّ عن البلاد وساكنيها ... فبي في الخلد ضاق بك الفسيح وكنتَ بها وزوجك في رخاء ... وقلبك من أذى الدنيا مريح فما انفك مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الثمن الربيح

سبحان الله! كلام مذكور في الكتب، وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) وقال: إن الآفة فيه من المخرمي أو شيخه. انظر كتاب (ميزان الاعتدال). وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق؛ فالأنبياء لا يقولون الشعر، وصدق الزمخشري حيث قال: روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر -وهو كذب بحت- وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر. (انظر تفسير الكشاف). وقد قال الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِين} (يس: 69). وقال الإمام الألوسي في (تفسيره): وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: من قال إ ن آدم -عليه السلام- قد قال شعرًا فقد كذب؛ إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء؛ ولكن لما قتل قابيل هابيل بكاه آدم بالسريانية؛ فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية؛ فقدم فيه وأخر وجعله شعرًا عربيًّا، وذكر بعض علماء العربية أن في ذلك لحنًا وإقواءً وارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب لما فيه من الركاكة الظاهرة. انظر تفسير (روح المعاني) للعلامة الألوسي. يقول شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة: والحق أنه شعر في غاية الركاكة، والأشبه أن يكون هذا الشعر من اختلاق إسرائيلي ليس له من العربية إلا حظ قليل، أو قصاص يريد أن يستولي على قلوب الناس بمثل هذا الهراء. انتهينا مما نسب إلى آدم من قول الشعر بقي لنا في حق آدم جزئية أخرى في غاية الأهمية؛ ألا وهي:

ما نسب إليه -عليه الصلاة والسلام- من الشرك له ولحواء في قوله -تبارك وتعالى-: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} (الأعراف: 190): هنا موقف آخر لآدم -عليه السلام- ففيه إسرائيليات وردت، وهذه الآية كثُر فيها القو ل مما ينسب إلى آدم وهو رسول معصوم كسائر الرسل. فمن الروايات التي لا تصح ومرجعها إلى الإسرائيليات: ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} (الأعراف: 189، 190). وهذه الآية تعتبر من أشكل الآيات في القرآن من حيث إ ن ظاهرها يدل على نسبة الشرك لآدم وحواء؛ وذلك على ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن المراد بالنفس الواحدة: نفس آدم -عليه السلام- وبقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: حواء -رضي الله عنها- وقد أوَّل العلماء المحققون الآية تأويلًا صحيحًا يتفق وعصمة الأنبياء في عدم جواز إسناد الشرك إليهم -عليهم الصلاة والسلام- كما سنبين ذلك -إن شاء الله. الحديث المرفوع والآثار الواردة في هذا: وقد زاد الطين بلة ما ورد في الحديث المرفوع وبعض الآثار عن بعض الصحابة والتابعين في تفسير قوله: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} وقد اغتر بهذه الروايات كثير من المفسرين؛ كالإمام ابن جرير، والثعلبي، والبغوي، والقرطبي، وإن كان الأخير قد ضعَّف الروايات ولم تركن نفسه إليها واعتبرها من الإسرائيليات، وصاحب (الدر المنثور) أيضًا. والعجيب أن إمامًا كبيرًا له في رد الموضوعات والإسرائيليات فضل غير منكور ومفسرًا متأخرًا وهو عالم عظيم هو الإمام الألوسي قد انخدع بهذه المرويات،

والكلام في هذا لشيخنا الدكتور محمد أبو شهبة، يقول: إن الإمام الألوسي قد انخدع بهذه المرويات فقال: وهذه الآية عندي من المشكلات، وللعلماء فيها كلام طويل ونزاع عريض، وما ذكرناه هو الذي يشير إليه الجبائي وهو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات. ثم قال: وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحارث، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبيل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرًا للآية، وأنت قد علمت أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأراه قد صح، ولذلك أحجم كُميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل؛ كلمة كميت قالوا: إنها من الخيل والإبل وهي أنواع جيدة، يحجم قلمه عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره، والله تعالى الموفق للصواب. وبعض المفسرين أعرض عن ذكر هذه المرويات، وذلك كما فعل صاحب (الكشاف) وتابعه النسفي، وبعض المفسرين عرض لها ثم بين عدم ارتضائه لها؛ وذلك كما صنع الإمام القرطبي في (تفسيره) فقال: ونحو هذا مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره، وفي الإسرائيليات كثير ليس لها إثبات؛ فلا يعول عليها، ولا يعول عليها من له قلب؛ فإن آدم وحواء وإن غرهما بالله الغرور؛ فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر وكتب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خدعهما مرتين: خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض". فارس هذه الحلبة هو الإمام ابن كثير؛ فقد نقد المرويات نقدًا علميًّا أصيلًا على مناهج المحدثين وطريقتهم في نقد الرواة، وبيَّن أصل هذه المرويات وأن مرجعها إلى الإسرائيليات؛ وإنا لنعجب كيف أن الإمام ال ألوسي وهو المتأخر لم يشِر إلى كلامه؟ لعله لم يطلع عليه. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 13 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (11).

الدرس: 13 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (11).

تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (11)) تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة آدم -عليه السلام- الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: كلام الإمام ابن كثير سنذكره وبنصه لنفاسته وجودته كما قال شيخنا فضيلة الدكتور محمد أبو شهبة، ولشدة الحاجة إلى كلام ابن كثير في هذا المقام قال - رحمه الله -: يذكر المفسرون هاهنا آثارًا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها، ثم نُتبِعُ ذلك ببيان الصحيح في ذلك -إن شاء الله- وبه الثقة. قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عمر بن إبراهيم، قال: حدثنا قتادة عن الحسن، عن سمرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولما وَلدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد؛ فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره". وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار، عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، كما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية، عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب -يعني: انفرد به راويه- لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم. ورواه بعضهم عن بعض الصمد ولم يرفعه -يعني: لم ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ورواه الحاكم في مستدركه في حديث عبد الصمد مرفوعًا؛ ثم قال: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، وكلمة صحيح الإسناد من المعروف عند المحققين أنّ الحاكم متساهل في التصحيح؛ فلا يؤخذ بقوله، ولا سيما في مثل هذا، قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي، عن هلال بن فياض، عن عمر بن إبراهيم به - أي: ببقية السند مرفوعًا.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعًا، قلت -أي: قال ابن كثير- وشاذٌّ هذا هو بلال، وكلمة شاذ لقبه، والغرض أن هذا الحديث معلولٌ من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي: لا يُحتجُّ به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا، فالله أعلم. الثاني - أي: من وجوه الإعلال -: أنه قد روي من قول سمرة نفسه؛ ليس مرفوعًا كما قال ابن جرير، حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر عن أبيه، قال: حدثنا بكر بن عبد الله، عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب، قال: "سَمّى آدم ابنه عبد الحارث". والثالث من وجوه العلل: أنّ الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا؛ فلو كان هذا عنده عن سَمُرة مرفوعًا لما عدل عنه، قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن في قوله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن ب آدم. وحدثنا -الكلام لابن جرير- محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده؛ يعني قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} يستطرد ابن جرير فيقول: وحدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادًا؛ فهودوا ونصروا، فيه إشارة إلى حديث رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مولد إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) الحديث متفق عليه. وقال ابن كثير: وهذه

أسانيد صحيحة عن الحسن -رضي الله عنه- أنه فَسّر الآية بذلك؛ أي: بأنّ الشِّركَ هذا إنما هو من ما ينسب لليهود والنصارى، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما عَدَل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم؛ مثل: كعب أو وهب بن منبه وغيرهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع والله أعلم. هذا ما ذكره العلامة ابن كثير. فأما الآثار: فقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، قال: "كانت حواء تلد لآدم -عليه السلام- أولادًا فيعبدهم با لله، ويُسَمّيهم عبد الله وعبيد الله، ونحو ذلك؛ فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس؛ فقال: إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش؛ قال: فولدت له رجلًا فسماه عبد الحارث؛ ففيه أنزل الله يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ... } إلى آخر الآيات. وقال العوفي عن ابن عباس: قوله في آدم {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله: {فَمَرَّتْ بِهِ} شكت أحملت أم لا؛ {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} الآية؛ فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولدُ لكما أم هل تدريان ما يكون أبهيمةٌ أم لا؟ وزين لهما الباطل إنه غوي مبين؛ وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويًّا، ومات كما مات الأول؛ فسميا ولدهما عبد الحارث فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} الآية.

وقال عبد الله بن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} قال: قال الله تعال ى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} آدم حملت، أتاهما إبليس - عليه لعنة الله - فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما لتطيعاني أو لأجعلنّ له قرني "أيل" و"أيل" - يعني: ذكر الأوعال أو ذكر أنواع من الحيوانات - فيخرج من بطنك؛ فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتًا، ثم حملت - يعني الثانية - فأتاهما، فقال لهما مثل الأول؛ فأبيا أن يطيعاه؛ فخرج ميتًا، ثم حملت الثالثة، فأتاهما أيضًا فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا}. رواه ابن أبي حاتم. وهذا الأثر تلقاه عبد الله بن عباس، وتلقاه عنه جماعة من أصحابه؛ كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومن الطبقة الثانية؛ قتادة والسدي وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف، ومن المفسرين المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة؛ وكأنه -والله أعلم- مأخوذ من أهل الكتاب؛ فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب، وعلى هذا؛ فلا يكون له حكم الرفع؛ لأنه سمعه من صحابي مثله، كما رواه ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو الجماهر، قال: حدثنا سعيد -يعني: ابن بشير- عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب -وطبعًا يقول: أبي قد تلقاه وسمعه من مسلمة أهل الكتاب- عن أبي بن كعبٍ قال: "لما حملتْ حواءُ أتاها الشيطان، فقال لها: أتطيعيني ويسلم لك ولدك، سميه عبد الحارث؛ فلم تفعل فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل، ثم حملت الثالثة فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم، وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعا".

قال: وهذه الآثار يظهر عليها -والله أعلم- أنها من آثار أهل الكتاب، وبعد أن بين أن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام؛ فمنها ما علمنا صحته مما بأيدينا من كتاب أو سنة، ومنها ما علمنا كذبه لما دل على خلافه من الكتاب والسنة، ومنها ما هو مسكوتٌ عنه فهو المأذون في روايته؛ بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) وهو الذي لا يصدق ولا يكذب. قال: وهذا الأثر من الثاني - أي: مما علمنا كذبه - أو الثالث فيه نظر؛ والحقيقة كونه من القسم الثالث والذي نقطع به -والله أعلم- أنه من القسم الثاني؛ أي: من الذي سمعناه من بني إسرائيل وعلمنا كذبه؛ لأنه يخالف ما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة فهذا من القسم الثاني؛ لقيام الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء من مثل ذلك. قال: فأما من حدث به من صحابي أو تابعي؛ فإنه يراه من القسم الثالث؛ أي مما يحتمل الصدق والكذب، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، رحم الله شيخنا الدكتور أب اشهبة فهذا قول هـ؛ أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا؛ أي: في تفسير الآية، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنّما المراد من ذلك المشركون من ذريته؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} فذكر آدم وحواء كالتوطئة لما بعدهما من الوا ر دين وهو كالاستطراد من الشخص إلى الجنس؛ هذا تفسير ابن كثير والبغوي في هذا المعنى. وهذا الذي ذهب إليه هذا الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في تخريج الحديث والآثار هو الذي يجب أن يصار إليه، وهو الذي ندين الله عليه، ولا سيما أنّ التفسير الحق للآيتين لا يتوقف على شيء مما روي. بقي لنا أن نقف على التفسير الصحيح والمرتضى بعد عرض أقوال ابن كثير وشيوخنا ممن جاءوا بعده، والمحققون من المفسرين منهم من نحا منحا العلامة ابن

الإسرائيليات التي وردت في قصة نوح - عليه السلام -.

كثير؛ فجعل الآية الأولى في آدم وحواء، وجعل قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} الآية في المشركين من ذريتهما؛ أي: جعلا أولادهما شركاء لله فيما آتاهما، والمراد بهما الجنس أي: جنس الذكر والأنثى، فمن ثم حسن قوله: {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُون} بالجمع، ويكون هذا الكلام من الموصول لفظًا المفصول معنًا، ومنهم من جعل الآيتين في ذرية آدم وحواء؛ أي: خلقكم من نفس واحدة، وهي نفس الذكر، وجعل منها؛ أي: من جنسها زوجها، وهي الأنثى {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} أي: بشرًا سويًّا كاملًا؛ {جَعَلاَ} أي: الزوجان الكافران لله شركاء فيما آتاهما وبذلك أبدلا شكر الله كفرانًا به وجحودًا؛ وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر ما في الآيتين، وهنالك تفاسير أخرى لا نستريح لها، يقول شيخنا: لست منها على ثلج ولا طمأنينة. كما روي في تفاسير الكشاف والقرطبي وأبي السعود وال ألوسي وغيرها. الإسرائيليات التي وردت في قصة نوح - عليه السلام - قصة نوح - عليه السلام- من القصص الذي ذكر في القرآن الكريم، ومنهجه في الدعوة، وصبره على قومه، وأنّ الله -سبحانه وتعالى- نصره على من كذبه، وأمره بصنع سفينة يحمل فيها من آمن معه؛ هذه القصة التي ذُكرت في أكثر من سورة لم يسلم التفسير الذي رواه المفسرون وذكره حول هذه القصة من بعض الإسرائيليات، ودائمًا نقول: إن ابن جرير والبغوي وأبو السعود، والقرطبي و (الدر المنثور) هذه التفاسير حوت قدرًا من الإسرائيليات. فمن الإسرائيليات التي اشتملت عليها بعض كتب التفسير؛ كابن جرير و (الدر المنثور) ما روي في سفينة نوح عليه السلام؛ فقد أحاطوها بهالة من العجائب

والغرائب؛ من أي خشب صنعت؟، وما طولها؟، وما عرضها؟، وما ارتفاعها؟، وكيف كانت طبقاتها؟ وذكروا خرافات في خلقة بعض الحيوانات من الأخرى، وقد بلغ ببعض الرواة أنهم نسبوا بعض هذا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال صاحب (الدر المنثور) وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كانت سفينة نوح - عليه السلام - لها أجنحة، وتحت الأجنحة إيوان" أقول: قبّح الله من نسب هذا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كلام شيخنا الشيخ أبو شهبة. وأخرج ابن مردويه عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم؛ أولاد سيدنا نوح، وذكر أن طول السفينة كان ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها. ثم ذكر عن ابن عباس مثل ذلك في طولها وارتفاعها، وهذا أمارة على أن ذلك من رواية ابن عباس عن أهل الكتاب، وأن من رفعها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد غلط، ثم قال -أي: ابن مردويه-: وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر، عن ابن عباس: أن نوحًا لما أمر أن يصنع الفلك، قال: يا رب، وأين الخشب، قال: اغرس الشجر؛ فغرس الساج عشرين سنة، إلى أن قال: فجعل السفينة ستمائة ذراع طولها وستين ذراعًا في الأرض -يعني: عمقها- وعرضها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون. كلام يتناقض، لا ندري بأي رواية نصدق، أبرواية ابن عباس هذه أم بروايته السابقة؟ وهذا الاضطراب أمارة الاختلاق والكذب ممن وضعوها أولًا، وحملها عنهم ابن عباس وغيره. وأمر -أي: نوح- أن يطليها بالقار؛ القار والقير وهو الدهان الأسود يُطلى به الخشب والإبل وهو ما يعرف بالزفت أو شيء من هذا المعنى، أُمر أن يطليها

بالقار، ولم يكن في الأرض قار؛ ففجر الله له عين القار حيث تنحت السفينة تغلي غليانًا حتى طلاها؛ فلما فرغ منها جعل لها ثلاثة أبواب، وأطبقها وحمل فيها السباع والدواب؛ فألقى الله على الأسد الحمى وشغله بنفسه عن الدواب، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، ثم أطبق عليهما. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح -عليه السلام- ألف ذراع، ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع. وإليك ما ذكره بعد ذلك من العجب العجاب، قال: وأخرج ابن جرير عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم -عليه م االسلام-: لو بعثت لنا رجلًا شهد السفينة، فحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًّا من ذلك التراب؛ قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كعب حام بن نوح؛ فضرب الكثيب بعصاه قال: قم بإذن الله؛ فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، قد شاب، قال له عيسى -عليه السلام: هكذا هلكت؟ قال: لا، مت وأنا شاب؛ ولكنني ظننت أنها الساعة قامت، فمن ثَمّ شبتُ، قال: حَدّثنا عن سفينة نوح، قال: طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، كانت ثلاث طبقات؛ فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير؛ فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل فغمزه؛ فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فلما وقع الفأر يخرب السفينة بقرضه أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد؛ فخرج من فمه سنور وسنورة؛ فأقبلا على الفأر فأكلاه -السنور: القط- وفي رواية أخرى: أن الأسد عطس فخرج من منخره سنوران -قطان ذكر وأنثى- فأكلا الفأر، وأن الفيل عطس فخرج من منخره خنزيران ذكر وأنثى؛ فأكلا أذى السفينة.

وأنه لما أراد الحمار أن يدخل السفينة أخذ نوح بأذني الحمار، وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح -عليه السلام- يجذبه وجعل إبليس يجذبه، فقال نوح: ادخل شيطان يريد به الحمار؛ فدخل الحمار ودخل معه إبليس؛ فلما سارت السفينة جلس إبليس في أذنابها يتغنى؛ فقال له نوح -عليه السلام-: ويلك! من أذن لك؟ قال: أنت، قال: متى؟ قال: أن قلت للحمار ادخل يا شيطان، فدخلت بإذنك. وزعموا أيضًا أن الماعز لما استصعبت على نوح أن تدخل السفينة؛ فدفعها في ذنبها، فمن ثم انكسر وبدا حياها، ومضت النعجة فدخت من غير معاكسة ف مسح على ذنبها، فستر الله حياها - يعني فرجها. وزعموا أيضًا أن السفينة نوح -عليه السلام- طافت بالبيت أسبوعًا - أي: بالكعبة، يعني سبع مرات - بل رووا عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعًا، وصلّت عند المقام ركعتين" سُبحان الله! كلام عجيب. يقول شيخنا الدكتور أبو شهبة: وهذا من تفاهات عبد الرحمن هذا، وقد ثبت عنه من طريق أخرى نقلها صاحب (التهذيب) عن الساجي، عن الربيع، عن الشافعي، قال: قيل لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن جدك أنّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلّت خلف المقام ركعتين" قال: نعم، وقد عُرف عبد الرحمن بمثل هذه العجائب المخالفة للعقل، وتندر ب هـ العلماء. قال الشافعي فيما نقل في (التهذيب) أيضًا: ذكر رجل ٌ لمالك حديثًا منقطعًا؛ فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يُحدثك عن أبيه، عن نوح. وأنه لما رست السفينة على الجودي، وكان يوم عاشوراء صام نوح وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرًا لله، إلى غير ذلك من التخريفات

الإسرائيليات التي وردت في قصة داود -عليه السلام-.

والأباطيل التي جاءت في (تفسير ابن جرير) وفي تفسير (الدر المنثور) وغيرهما من التفاسير، وهذه التخاريف والأباطيل التي لا نزال نسمعها ونسمع أمثالها من العوام والعجائز هذا لا يمكن أن يمت إلى الإسلام بصلة. وإنا لننزه المعصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أن يصدر عنه ما نسبوه إليه، وإنما هي أحاديث خرافة اختلقها اليهود وأضرابهم على توالي العصور، وكانت شائعة مشهورة في ال جاهلية؛ فلما جاء الإسلام نشرها أهل الكتاب الذين أسلموا بين المسلمين، وهؤلاء رووها بحسن نية، ولم يزيفوها اعتمادًا على أنها ظاهرة البطلان؛ لكن زنادقة اليهود أوغلوا هم وأمثالهم في الكيد للإسلام ونبيه فزوروا بعضها، ونسبوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وما كُنّا نُحِبُّ لابن جرير ولا للسيوطي ولا لغيرهما من المفسرين أن يسودوا صحائف كتبهم بهذه الخرافات والأباطيل، فحذاري أيها القارئ في أي كتاب من كتب التفسير تجد مثل هذا أن تجعله كلامًا مصدقًا، وألق بهذا دبر أذنيك -أي: ألقه وراء ظهرك- وكن عن الحق منافحًا وللباطل مزيفًا. الإسرائيليات التي وردت في قصة داود -عليه السلام- لننتقل بعد ذلك إلى قصة أخرى؛ ألا وهي قصة داود -عليه السلام- ذلك الرسول الذي ذكر القرآن له بعض المواقف؛ فهناك موقف مع خصومه الذين جاءوا إليه خصمان بغى بعضهما على الآخر ولهما قصة ذكرت في س ورة " ص "، كذلك قصة داود - عليه السلام - مع جالوت وطالوت وقد تكلم المفسرون في ذلك وأفاضوا ونقل في تف اسيرهم إسرائيليات كثيرة تخل بمقام الأنبياء وتنافي عصمتهم. وإليك ما ذكر باختصار حول قصة داود عليه السلام.

فمن الإسرائيليات التي تناقلها المفسرون ما ذكره بعضهم في قصته عند قوله - جل وعلا -: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب} (ص: 21 - 25) ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم والبغوي والسيوطي في (الدر المنثور) من الأخبار ما تقشعر منه الأبدان، ولا يوافق عقلًا ولا نقلًا؛ عن ابن عباس ومجاهد، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار، والسدي وغيرهم، روايات محصلها: أن داود -عليه السلام- حدث نفسه إن ابتُلي أن يعتصم؛ فقيل له: إنك ستُبتَلى وستعلم اليومَ الذي تُبتلى فيه؛ فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الذي تُبتلى فيه؛ فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق بابه وأقعد خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحدٍ اليوم؛ فبينما هو يقرأ الزبور إذا جاء طائر مذهب يدرج بين يديه؛ فدنا منه فأمكن أن يأخذه فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه؛ فطار فأشرف عليه لينظر أين يقع؛ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض؛ فلما رأت ظله نفضت شعرها، فغطت جسدها به، وكان زوجها غازيًا في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة أن اجعله في حملة التابوت -أي: صندوق فيه بعض مخلفات أنبياء بني إسرائيل. وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا؛ فقدمه في حملة التابوت فقتل، وفي بعض هذه الروايات الباطلة أنه فعل ذلك ثلاث مرات، حتى قتل في

الثالثة؛ فلما انقضت عدتها خطبها داود -عليه السلام- فتسور عليه الملكان، وكان ما كان مما حكاه الله تعالى في الآيات، أو مما ذُكر في الآيات؛ رفع ذلك إلى النبي. ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة عن بعض الصحابة والتابعين، ومسلمة أهل الكتاب أيضًا نقلوها لنا، بل جاء بعضها مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال صاحب (الدر) وأخرج الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) وابن جرير، وابن حاتم بسند ضعيف عن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن داود -عليه السلام- حين نظر إلى المرأة قطع على بني إسرائيل؛ هكذا في (الدر المنثور) وفي (تفسير البغوي)، ولعل العبارة: فظع -يعني فوجئ بهذا- إن داود عليه السلام حين نظر إلى المرأة قطع على بني إسرائيل وأوصى صاحب الجيش؛ فقال: إذا حضر العدو فقرب فلانًا بين يدي التابوت -وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قُدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم معه الجيش- فقُتل وتزوج المرأة، ونزل الملكان على داود -عليه السلام- فسجد فمكث أربعين ليلة ساجدًا؛ حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، فأكلت الأرض جبينه وهو يقول في سجوده: رب ذلّ داود ذلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنوبه جعلت ذنوبه حديثًا في المخلوق من بعده. فجاء جبريل -عليه السلام- من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود، إن الله قد غفر لك، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل؛ فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة؛ فقال: يا رب، دمي الذي عند داود، قال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك؛ فإن شئت لأفعلن، فقال: نعم، فعرج جبريل وسجد داود -عليه السلام- فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة؛ فيقول له: هب لي دمك الذي عند داود؛ فيقول: هو لك يا رب،

فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت، عوضًا. وقد رواها البغوي أيضًا عن طريق الثعلبي في تفسيره. يقول شيخنا الدكتور أبو شهبة: والرواية منكرة مختلقة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي سند هذه الرواية المختلقة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن لهيعة وهو مضعف في الحديث، وفي سندها أيضًا يزيد بن أبان الرقاشي كان ضعيفًا في الحديث، وقال فيه النسائي والحاكم أبو أحمد: إنه متروك، وقال فيه ابن حبان: كان من خيار عباد الله من البكائين بالليل، غفل عن حفظ الحديث شغلًا بالعبادة؛ حتى كان يقلبُ كلام الحسن؛ يجعله عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تحل الرواية عنه إلا على جهة التعجب. وقال العلامة ابن كثير في ت فسيره: وقد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثًا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس -رضي الله عنه- ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة؛ ومن ثَمّ يتبين لنا كذب رفع هذه الرواية المنكرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نكاد نصدق ورود هذا عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام- وإنما هي اختلاقات وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب. وهل يشكّ مُؤمن عاقل يقر بعصمة الأنبياء في استحالة صدور هذا عن داود -عليه السلام- ثُمّ يكون على لسان من؟! على لسان من كان حريصًا على تنزيه إخوانه الأنبياء عما لا يليق بعصمتهم، وهو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومثل هذا التدبير السيئ والاسترسال فيه على ما رووا لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامتهم؛ لاعتبر هذا أمرًا مستهجنًا مستقبحًا، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه وطهرت سريرته وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أرسل إليه؟!.

ولو أنّ القصة كانت صحيحة؛ لذهبت بعصمة داود، ولنفرت منه الناس، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان به فلا يحصل المقصد الذي من أجله أرسل الله الرسل، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله في شأنه: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآب} قال ابن كثير في تفسيرها: وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله -عز وجل- بها، وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية في الجنة؛ لنبوته وعدله التام في ملكه، ك ما جاء في الصحيح ((المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في حكمهم وما وُل ُّ وا)) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أحب الناس إلي يوم القيامة وأقربهم مني مجلسًا؛ إمام عادل، وإن أبغض الناس إلي يوم القيامة هو أشدهم عذابًا؛ إمام جائر)) رواه أحمد والترمذي. ولكي يستقيم هذا الباطل، قالوا: إن المراد بالنعجة في الآية: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} (ص: 23) حول هذا المعنى قالوا: إن المراد بها المرأة، وإ ن القصة خرجت مخرج الرمز والإشارة، ورووا أن الملكين لما سمعا حكم داود وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء من فعل ذلك، قال: يقطع هذا - وأشار إلى عنقه - وفي رواية: يضرب من هاهنا وهاهنا - وأشار إلى جبهته وأنفه وما تحته - فضحكا وقالا: أنت أحق بذلك منه ثم صعدا. ولننتقل إلى ما ذكره البغوي في ت فسيره؛ فقد ذكر في ت فسيره وذكر غيره عن وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلًا ولا نهارًا، وكان أصاب الخطيئة، وهو ابن سبعٍ وسبعين سنة؛ فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي والجبال والسواحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب؛

فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه فيساعدونه على ذلك؛ فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير فيبكي ويبكي معه الشجر والرمال والطير والوحش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي وتبكي معه الجبال والحجارة والدواب والطير حتى تسيل من بكائهم الأودية، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء والسباع ... إلى آخره. والحق أن الآيات ليس فيها شيء مما ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وهي التي عليها المعول، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة. وما أحسن ما قال الإمام القاضي عياض: لا تلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه في قصة داود هو قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت. هذا الكلام نقله القاضي في كتابه (الشفا ب التعريف بحقوق المصطفى) - صلى الله عليه وسلم. والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي؛ قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم، وقد روي عن سيدنا علي -رضي الله عنه- أنه قال: من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة. وذلك حد الفرية على الأنبياء لماذا؟ لأن حد القذف لغير الأنبياء ثمانون؛ فرأى -رضي الله عنه- تضعيف هذا الحد بالنسبة للأنبياء، وفي الكذب عليهم رمي لهم بما هم براء منه؛ فف ي هـ معنى القذف لداود بالتعدي على حرمات الأعراض والتحايل في سبيل ذلك، وهو كلام مقبول من حيث المعنى إلا أنه لم يصح

عن الإمام ذلك كما قال العراقي؛ سواء ثبت أو لم يثبت فمن يتهم الأنبياء يستحق أكثر من ذلك. بقيت لنا خاتمة: وهي التفسير الصحيح للآيات؛ وإذا كان ما روي من الإسرائيليات الباطلة التي لا يجوز أن تفسر بها الآيات؛ فما التفسير الصحيح لها إذًا؟ والجواب: أن داود -عليه السلام- كان قد وزع مهام أعماله ومسئولياته نحو نفسه ونحو الرعية على الأيام، وخص كل يوم بعمل؛ فجعل يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء وفصل الخصومات، ويومًا للاشتغال بشئون نفسه وأهله، ويومًا لوعظ بني إسرائيل. والختام: بأن نبي الله داود -عليه السلام- كان بريئًا مما نسبه الكذابون وأصحاب القصص الإسرائيلي ودسوه في كتب التفسير. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 14 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (12).

الدرس: 14 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (12).

تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة داود -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (12)) تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة داود -عليه السلام- الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ففي يوم العبادة بينما كان مشتغلًا بعبادة ربه في محرابه دخل عليه خصمان، ت س ورا عليه من ال س ور، ولم يدخلا من المدخل المعتاد - أي: من الباب - فارتاع منهما، فوجئ وحصل له شيء من المفاجأة وفزع فزعًا لا يليق بمثله من المؤمنين، فضلًا عن الأنبياء المتوكلين على الله غاية التوكل الواثقين بحفظه ورعايته، وظن بهما سوءًا، وأنهما جاءا ليقتلاه، أو ليبغيا به شرًّا، ولكن تبين له أن الأمر على خلاف ما ظن، وأنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه فلما قضى بينهما وتبين له أنهما بريئان مما ظنه بهما، استغفر ربه، وخر ساجدًا لله تعالى تحقيقًا لصدق توبته والإخلاص له، وأناب إلى الله غاية الإنابة. ومثل الأنبياء في علو شأنهم وقوة ثقتهم بالله والتوكل عليه، ألا تعلق نفوسهم بمثل هذه الظنون بالأبرياء، ومثل هذا الظن وإن لم يكن ذنبًا بالعادة إلا أنه بالنسبة للأنبياء يعتبر خلاف الأولى، والأليق بهم، وقديمًا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالرجلان خصمان حقيقة وليسا ملكين كما زعموا، والنعاج على حقيقتها، وليس ثمة رموز ولا إشارات وهذا التأويل هو الذي يوافق نظم القرآن، ويتفق مع عصمة الأنبياء، فالواجب الأخذ به ونبذ الخرافات والأباطيل التي هي من صنع بني إسرائيل، وتلقفها القصاص، وأمثالهم ممن لا علم عندهم ولا تمييز بين الغث والسمين.

وقيل: إنَّ الذي صنعه داود أنه خطب على خطبة "أوريا" فآثره أهلها عليه، وقد كانت الخطبة على الخطبة حرامًا في شريعتهم، كما هي حرام في شريعتنا، وقيل: إنه طلب من زوجها "أوريا" أن ينزل له عنها، وقد كان هذا في شريعتهم ومستساغًا عندهم، وقيل: إنه أوخذ بأنه حكم بمجرد سماعه لكلام أحد الخصمين كما نرى، جاء له الأول وقال: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} (ص: 23)، وقال: إنه له نعجة واحدة، فحكم له داود - عليه السلام - دون أن يسمع حجة الآخر، وهذا الرأي موجود، وقد قيل: إنه أوخذ؛ لأنه حكم بمجرد سماعه لكلام أحد الخصمين، وكان عليه أن يسمع كلام الخصم الآخر. وقد قيل: إذا جاءك أحد الخصمين وقد فقئت عينه، فلا تحكم له؛ لجواز أن يكون خصمه قد فقئت عيناه معًا، وهذه الأقوال الثلاثة ونحوها، لا يطمأن إليها بعض المفسرين، يقول شيخنا الشيخ أبو شهبة: لست منها على ثلج - يعني لا تبرد القلب ولا يطمئن إليها - فإنَّها وإن كانت لا تخل بالعصمة، لكنها تخدشها، ثم هي لا تليق بالصفوة المختارة من الخلق وهم الأنبياء. فالوجه الجدير بالقبول في تفسير الآيات هو الرأي الأول، ومفاده أنَّ الخصمين جاءا فجأة، ت س ورا عليه المحراب، فارتاع منهما وفزع، وظن بهما سوءًا، ظن أنهما جاءا ليقتلاه أو يبغيا شرًّا، ولكن تبين أنَّ الأمر على خلاف ما ظنَّ وأنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه في أمر خاص، فلما قضى بينهما وتبين له براءتهما مما ظنه بهما استغفر ربه، وخر ساجدًا لله - سبحانه وتعالى. فهذا الرأي الذي ارتضاه كثير من المفسرين، ف إن شاء الله يبقى هو الرأي الراجح، وفي هذا المقام اتضحت الأمور في قضية الخصمين مع نبي الله داود - عليه السلام. ولننتقل الآن إلى القصة التي ذكرت في سورة " البقرة " في قصة قتل داود لجالوت؛ وورد فيها أيضًا من الإسرائيليات الكثير والكثير وتناقل المفسرون كابن جرير

الطبري والبغوي والثعلبي والخازن وصاحب (الدر المنثور) وغيرهم أشياء كثيرة تزيد عن اثنتي عشرة صفحة ولسوف أختصرها وأوجزها إيجازًا. فمن الإسرائيليات ما يذكره المفسرون في قصة قتل داود وهو جندي صغير في جيش طالوت، قتل داود جالوت الملك الجبار، وذلك في تفسير الآيات في قوله - تبارك وتعالى -: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين} (البقرة: 251)، ومعلوم أن هذه الآية تسبقها آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} (البقرة: 246)، الآيات، وتتوالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم * وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} (البقرة: 247 - 249). وتتوالى الآيات في بيان ما جرى بين طالوت الملك، وما حدث لجالوت، وما جرى من نبي الله داود - عليه السلام - فالآيات تصل بنا إلى قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} إلى آخر الآية.

ذكر "الثعلبي" و"البغوي" و"الخازن" وصاحب (الدر) وغيرهم ما خلاصته: أنَّه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت داود وهو جندي صغير، عبر النهر مع طالوت ملك بني إسرائيل، وفي ثلاثة عشر ابنًا له؛ يعني الذي عبر مع طالوت إيشا أبو داود، وكان له أولاد كثيرون، ثلاثة عشر ابنًا، وكان داود أصغرهم، وكان يرمي بالقذافة - شيء يقذف به كالمقلاع - فلا يخطئ هدفه، وأنه ذكر لأبيه أمرَ قذافته تلك، وأنه دخل بين الجبال فوجد أسدًا، فأخذ بأذنيه فلم يهبه، وأنه مشى بين الجبال، فسبّح فما بقي جبل حتى سبح معه، فقال له أبوه: أبشر، فإن هذا خير أعطاك الله تعالى إياه. تتوالى الأخبار والقصص في هذا، فأرسل جالوت إلى طالوت، أن أبرز إليَّ من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، فشق ذلك على طالوت، فنادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي، وناصفته ملكي، فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد. فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى، فدعا الله في ذلك، فأتى بقرن في هـ دهن القدس، وتنور من حديد، فقيل: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي الدهن حتى يدهن منه رأسه، ولا يسيل على وجهه، بل يكون على رأسه كالإكليل -الإكليل التاج الذي يلبسه الملوك على رء وسهم- ويدخل هذا التنور فيمل ؤ هـ، ولا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد، فأوحى الله إلى نبيهم: إن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت. فدعا طالوت إيشا فقال: اعرض هذا على بنيك، فأخرج له اثن اعشر رجلًا أمثال السواري -السواري يعني الطوال كالأعمدة كانوا طوالًا- فجعل يعرضهم على

القرن فلا يرى شيئًا، فقال لإيشا: هل بقي لك ولد غيرهم؟ قال: لا، فقال نبي هذا الزمان: يا رب إ نَّه زعم أنه لا ولد له غيرهم، فقال الله: كذب، فقال هذا النبي لإيشا: إن الله كذبك، فقال إيشا: صدق الله يا نبي الله، إن لي ابنًا صغيرًا، يقال له: داود، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلفته في الغنم يرعاها، وهو في شعب كذا وكذا. وكان داود رجلًا قصيرًا مسقامًا مصفارًا أزرق أمعر -يعني: ضعيف البنية، وأمعر قليل الشعر، ونحيف الجسم- ورغم كل هذا كل هذا أخا الإسلام من أكاذيب بني إسرائيل، ومن رميهم الأنبياء بأبشع الصفات فقاتلهم الله أنى يؤفكون. وما كان لأبيه وقد أخبره داود بما ذكره أول القصة أن ينتقصه، ويصفه بهذه الأوصاف، ومع هذا سنسرد القصة الإسرائيلية. فدعاه طالوت، ويقال: بل خرج إليه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزبيبة التي كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين يجيز بهما السيل، ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم، فدعاه ووضع القرن على رأسه، ففاض -يعني من غير أن يسيل على وجهه- فقال طالوت: هل لك أن تقتل جالوت، وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟ قال: نعم، قال: وهل آنست من نفسك شيئًا تتقوى به على قتله؟ قال: نعم، وذكر بعض ذلك. فأخذ طالوت داود، ورده إلى عسكره، وفي الطريق مرَّ داود بحجر، فناداه: يا دود احملني؛ فإني حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا، فحمله في مخلاته، ثم مضى بآخر، فناداه قائلًا: إنه حجر موسى الذي قتل به ملك كذا، فأخذه في مخلاته، ثم مر بحجر ثالث فناداه قائل ً اله: احملني فإني حجرك الذي تقتل بي جالوت، فوضعه في مخلاته، فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت، وسأل

المبارزة، انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسًا ودرعًا وسلاحًا، فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريبًا، ثم لم يلبس أن نزع ذلك، وقال لطالوت: إن لم ينصرني الله لم يغنِ عني هذا السلاح شيئًا، فدعني أقاتل جالوت كما أريد، قال: فافعل ما شئت، قال: نعم، أخذ داود مخلاته، فتقلدها - يعني لبسها على كتفه - وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشد الرجال وأقواهم، وكان يهزم الجيش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد -البيضة هي ما يلبسه المحارب على رأسه - ولكن هذا الثقل، ثلاثمائة رطل حديد، هذا من أكاذيب بني إسرائيل وتخريفاتهم، فيعني أي عاقل يدري كيف يمكن لجالوت أن يحارب وعلى رأسه هذا الثقل، وهذا القدر من الحديد، ثلاثمائة رطل يعني 150 كيلو جرامًا من الحديد، طبعًا هذا كلام لا يعقل، وأيضًا يكون حمل على رأسه ما يزيد على ثلاثة قناطير من الحديد، وذكروا في وصفه أنَّ ظله كان ميلًا، وهذا لا شك من خرافات بني إسرائيل. المهم تقدم جالوت كما ذكروا على رأسه هذا الثقل، فلما نظر إلى داود، ألقى الله في قلبه الرعب، وبعد مقاولة بينهما، وتوعد كل منهما الآخر، أخرج داود حجرًا من مخلاته، ووضعه في مقلاعه، وقال: ب اسم إله إبراهيم، ثم أخرج الآخر وقال: ب اسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب، ووضعه في مقلاعه، فصارت كلها حجرًا واحدًا، ودور داود المقلاع، ورمى به فسخر الله له الريح، حتى أصاب الحجر أنف البيضة، فخلص إلى دماغه، وخرج من قفاه -أي: جالوت - وقتل من ورائه ثلاثون رجلًا، وهزم الله تعالى الجيش وخر جالوت قتيلًا صريعًا، وأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح جيش طالوت فرحًا شديدًا؛ لأنَّ الله نصر داود على جالوت.

وانصرفوا إلى مدينتهم سالمين والناس يذكرون بالخير داود، فجاء داود طالوت، وقال له أنجز لي ما وعدتني، فقال: وأين الصداق؟ فقال له داود: ما شرطت علي صداقًا غير قتل جالوت، ثم اقترح عليه طالوت أن يقتل مائتي رجل من أعدائه م، ويأتيه بغلفهم -الغلف هي ما يقطع عند الختان- ففعل داود فزوجه طالوت ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود وأحبوه، وأكثروا ذكره فحسده طالوت، وعزم على قتله، فأخبر ابنة طالوت رجلًا من أتباعه، فحذرت داود وأخبرته بما عزم أبوها عليه، وبعد مغامرة من طالوت لقتل داود ومكيدة وحيلة من داود، أنجى الله داود - عليه السلام - فلما أصبح الصباح وتيقن طالوت أن داود لم يقتل، خاف منه فتوجس خيفة واحتاط لنفسه، ولكن الله أمكن داود منه ثلاث مرات ولكن لم يقتله، ثم كان أنَّ فر داود من طالوت في البرية، انظر إلى هذا الكذب، فرآه طالوت ذات يوم فيها فأراد قتله، ولكن داود دخل غارًا وأمر الله العنكبوت فنسجت عليه من خيوطها، وبذلك نجى من طالوت، ولجأ إلى الجبل، وتعبد مع المتعبدين. فطعن الناس في طالوت بسبب داود واختفائه، فأسرف طالوت في قتل العلماء والعباد، ثم كان أن وقعت التوبة في قلبه، وندم على ما فعل وحزن حزنًا طويلًا، وصار يطلب من يفتيه أن له توبة، فلم يجد؛ حتى دُل على امرأة عندها اسم الله الأعظم، فذهب إليها وأمن روعها، فانطلقت به إلى قبر "إشماويل" فخرج من قبره، وأرشده إلى طريق التوبة، وهو أن يقدم ولده ونفسه في سبيل الله حتى يقتلوا، ففعل وجاء قاتل طالوت إلى داود؛ ليخبره بقتله، فكانت مكافأته على ذلك أن قتله، وأ تى بنو إسرائيل إلى داود، وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم.

هذه الإسرائيليات، يعلق شيخنا، يقول: استغرق ذلك من (تفسير البغوي) بضع صحائف؛ يعني هذه القصة فيها تفاسير وكلام فيه الحق والباطل والصدق والكذب، وليس عندنا ما يدل على وجه اليقين على ثبوت شيء من ذلك. يقول شيخنا: وفي هذا الذي ذكروه الحق والباطل والصدق والكذب، ونحن في غنية عنه لما في أيدينا من القرآن والسنة، وليس في كتاب الله ما يدل على ما ذكرو هـ، ولسنا في حاجة إلى شيء من هذا في فهم القرآن وتدبره؛ أي أنَّ تفسير الآيات لا يحتاج إلى هذا الكلام، وتلك الإسرائيليات التي أكثرها باطل لا يصدق ولا يعقل، فلا تلقي إلى ذلك بالًا، وارمِ به دبر أذنيك، كما قال شيخنا الشيخ أبو شهبة؛ فإن فيه تجنيًا على من اصطفاه الله ملكًا عليهم؛ يعني الصفات التي ذكروها عن طالوت، وهو الملك الذي اصطفاه عليهم، صفات تنقيص لا تليق بمن اصطفاه الله واجتباه ملكًا عليهم. كما أنَّ في هذه الإسرائيليات كذبًا على نبي الله داود - عليه السلام -، ويرحم الله الإمام العلامة ابن كثير، فقد أعرض عن ذكر هذه الترهات، وهذه الأباطيل، ونبه إلى أنها من الإسرائيليات، فقال في قوله تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} (البقرة: 251)، ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده، رماه به فأصابه فقتله، حتى كلمة ابن كثير وهو يقول: ذكروا في الإسرائيليات؛ هذا يؤكد أنه من الإسرائيليات، وأن هذا أكثره مأخوذ من كتبهم التي حرفت واتهمت الأنبياء والرسل بما لا يليق بعصمتهم، " انظر (التوراة) صفر صمويل الأول، الإصحاحات 16، 17، 18 " ترى فيها من الأكاذيب ما نقل نصًّا في كتب التفاسير، ونحن في غنًى عن كل ذلك. كلام ابن كثير، يقول: ذكروا في الإسرائيليات أن داود قتل جالوت بمقلاعٍ كان في يديه أصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته،

الإسرائيليات التي وردت في قصة موسى - عليه السلام -.

ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إلى داود - عليه السلام - مع ما منحه الله من النبوة العظيمة؛ ولهذا قال تعالى: {وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ}، الملك الذي كان بيد طالوت، والحكمة؛ أي النبوة بعد "شمويل"، {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء}؛ أي: من العلم الذي اختصه به - عليه الصلاة والسلام. الإسرائيليات التي وردت في قصة موسى - عليه السلام - في قصة موسى -عليه السلام- الكثير والكثير، وكنا تكلمنا عن نبي الله موسى وعن زواجه من بنات شعيب، وتكلمنا عن إفساد بني إسرائيل، وتكلمنا عن مواقف عدة، وها نحن ننتقل إلى عنوانٍ جديد، وهو: الإسرائيليات في عظم خلق الجبارين؛ القوم الجبارون الذين قال بنو إسرائيل لموسى: إن فيها قومًا جبارين، وخاف وا منهم، وما ورد في شأن عوج بن عنق من الخرافات. الإسرائيليات التي وردت في هذا أيضًا كثيرة، أما الآيات فهي قول الله - سبحانه وتعالى -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون} (المائدة: 22)، الحقيقة إنّ بني إسرائيل مواقفهم كثيرة، فيها التعنت، فيها الجبن والخور، فيها الخوف، فيها الكبرياء، فيها الإفساد الذي لم يحدث له نظير بين البشر، إلى ما ذكر في هذا الشأن. ذكر الجلال السيوطي في (الدر) عندما نتكلم عن السيوطي نحدد كتابه، لماذا؟ لأن الإمام السيوطي دون غيره من علماء التفسير والمفسرين عبر القرون له أكثر من تفسير؛ يعني إذا عرف ابن جرير بتفسيره في تفسير القرآن الكريم، هو تفسير واحد، (تفسير ابن جرير الطبري)، ابن كثير تفسير واحد، إنما الإمام السيوطي له (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وله (تفسير الجلالين) وله (مطلع البدرين ومجمع

البحرين) وله (ترجمان القرآن) وله أيضًا تفسير (نواهد الأبكار وشواهد الأفكار) فعندما نقول السيوطي نحدد تفسيره. الكتاب الذي حوى كثيرًا من الإسرائيليات هو الكتاب الذي عني فيه بالتفسير بالمأثور، وهو (الدر المنثور)، ولعله أوسع التفاسير عنده، ذكر كثيرًا من الروايات في صفة هؤلاء القوم وعظم أجسادهم، مما لا يتفق هو وسنة الله في خلقه، ومما يخالف ما ثبت في الأحاديث الصحيحة؛ من ذلك ما أخرجه ابن عبد الحكم عن أبي ضمرة قال: "استظل سبعون رجلًا من قوم موسى في خفِّ رجلٍ من العماليق"، خفِّ رجلٍ وسع سبعين رجلًا -يعني: كأنه خيمة كبيرة وسعت قبيلة من القبائل، ومثل ما أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) عن زيد بن أسلم قال: "بلغني أنه ر ئ يت ضبع وأولادها رابضة في حجاج عين رجل من العماليق"، في حجاج؛ يعني: حاجب عظيم، الحاجب فقط، كان داخله هذه الضبعة وأولادها، جالسة بأولادها في هذه المقلة الكبيرة. ومثل ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "أُمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين، فسار بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة -وهي أريحاء- فبعث إليهم اثني عشر نقيبًا من كل سبطٍ منهم عين، ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيبتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا -أي بستانًا لبعضهم- فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار فنظر إلى آثارهم فتبعهم، فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه، فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم، فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم، فقال: اكتموا عنا، فجعل الرجل يخبر أخاه وصديقه، ويقول: اكتم عني، فأشيع في عسكرهم،

ولم يكتم منهم إلا رجلان؛ يوشع بن نون وكا رم بن يوحنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} (المائدة: 23). ويروي ابن جرير بسنده عن مجاهد نحوًا مما قدمنا الآن، ثم يذكر: "أن عنقود عنبهم، لا يحمله إلا خمسة أنفس، بينهم فيه خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة" إلى غير ذلك من الإسرائيليات الباطلة. هيا ننتقل إلى خرافة عوج بن ع ن ق: فمن الإسرائيليات الظاهرة البطلان أيضًا التي ولع بذكرها بعض المفسرين والإخباريين عند ذكر الجبارين؛ قصة عوج بن عنق، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، وأنه كان يمسك الحوت فيشويه في عين الشمس، وأن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه، وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح، وأن موسى كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع، ووثب في الهواء عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج بن عنق فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل سنة، إلى نحو ذلك من الخرافات والأباطيل التي تصادم العقل والنقل، وتخالف سنن الله في الخليقة. يقول شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة: ولا أدري كيف يتفق هذا الباطل، وقول الله - تبارك وتعالى -: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِين * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين} (هود: 42، 43) اللهم إلا إذا كان عوج أطول من جبال الأرض. فمن تلك الروايات الباطلة المخترعة ما رواه ابن جرير بسنده عن أسباط عن السدي في قصة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل، وبعث موسى النقباء الاثني

عشر، وفيها: فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له: عوج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته -الحجزة: موضع الرباط على السروال- يعني أخذ الاثني عشر رجلًا فجعلهم في داخلة جزءٍ من الإزار، وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: بل خلي عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، كلام لا يصدقه العقل. وكذلك ذكر مثل هذا وأشنع منه غير ابن جرير والسيوطي بعض المفسرين والقصاصين، وهي كما قال ابن قتيبة: أحاديث خرافة، كانت مشهورة في الجاهلية، ألصقت بالحديث، بقصد الإفساد. وينقل شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة، يقول: وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في ت فسيره، قال: وقد ذكر كثير من المفسرين ها هنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأنَّ منهم عوج بن عنق، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعًا وثلثا ذراع " تحرير الحساب " وهذا شيء يُستحيا من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في (الصحيحين)؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن)). أنا أقف مع هذا الحديث وقفة يسيرة، ستون ذراعًا؛ أي ثلاثون مترًا، والخلق من آدم يتناقصون، فإذا ذكروا أن عوج بن عنق هذا كان طوله ثلاثة آلاف ذراع؛ يعني آدم - عليه السلام - ستون ذراعًا، وهذا الذي جاء من بعده بأجيال، طوله ثلاثة آلاف ذراع، وكان يمسك الحوت فيشويه في عين الشمس، وأن طوفان نوح لم يصل

إلى ركبتيه، وأن موسى كان بطوله هذا وعشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب في الهواء، ثم ما بلغ كعب عوج هذا، هذا كلام لا يعقل، وما أجمل سوق هذا الحديث من ابن كثير: ((إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن)). ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافرًا، وأنه كان ولد زانية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه، وهذا كذب وافتراء؛ صدق ابن كثير، العلامة الناقد الحافظ، يستدرج أو يواصل الكلام فيقول: وهذا كذب وافتراء، فإنّ الله تعالى ذكر أن نوحًا - عليه السلام - دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح: 26)، وقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِين} (الشعراء: 119، 120)، وقال تعالى: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ}، وإذا كان ابن نوح الكافر قد غرق فكيف يبقى عوج بن ع ن ق وهو كافر وولد زانية أو ولد امرأة زنية، هذا لا يسوغ في العقل، ولا في الشرع، ثم في وجود رجل يقال: له عوج بن ع ن ق نظر؛ يعني: في وجود رجل بهذا الاسم نظر والله أعلم. هذا كلام العلامة ابن كثير في ت فسيره. وينقل الدكتور أبو شهبة، فيقول: وقال العلامة ابن قيم الجوزية، بعد أن ذكر حديث عوج بن عنق: وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث، وكذب على الله، وإنّما العجب ممن يدخل هذا في كتب العلم من التفسير وغيره، فكل ذلك من وضع زنادقة أهل الكتاب، الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل وأتباعهم، أقول -الكلام لابن القيم-: وسواء أكان عوج بن عنق شخصية وجدت حقيقة، أو شخصية خيالية فالذي أنكره هو ما أضفوه عليه من صفات، وما حاكوه حوله من أثواب الزور والكذب والتجرؤ على أن يفسر كتاب الله بهذا

الهراء، وليس في نص القرآن ما يشير إلى ما حكوه وذكروه، ولو من بعد أو على وجه الاحتمال، ثم أين زمن نوح من زمن موسى - عليهما السلام - وما يدل عليه آية: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا} (المائدة: 22)، كان في زمن موسى قطعًا، ولا مرية في هذا، فهل طالت الحياة بعوق حتى وصل إلى زمن موسى؟ بل قالوا: إن موسى هو الذي قتله، ألا لعن الله اليهود، فكم من علمٍ أفسدوا، وكم من خرافات وأباطيل وضعوا وزينوا. بهذا ننتهي من الحديث عن هذا الشخص الذي يدعى عوج بن عنق والخرافات التي انتشرت وفشت في إسرائيليات بني إسرائيل. ننتقل بعد ذلك إلى قصة أخرى وهي تتعلق بموسى - عليه السلام - وما أكثر مواقف موسى في القرآن. كان هناك قصة تسمى قصة التيه التي وردت فيها الآية، وهي قول الله - جل وعلا - بعد أن قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} (المائدة: 25، 26). حول هذه الآية في تفسيره أخبار عجيبة، رواها المفسرون، وتناقلوها في قصة التيه، من ذلك ما رواه ابن جرير بسنده عن الربيع، قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين}، وهم يومئذٍ ستمائة ألف مقاتل، فجعلهم فاسقين بما عصوا، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ

ستة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادين؛ لكي يخرجوا منها حتى يمسوا وينزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، وأنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم، فأنزل عليهم المن والسلوى. المن والسلوى من نعم الله على بني إسرائيل، المن شيء كالعسل كان ينزل على الشجر من السماء فيأخذون ويأكلون، والسلوى طير لذيذ الطعم جدًّا يشبه طائر السماني، كما قال العلماء. أنزل عليهم المن والسلوى، وأعطاهم من الكسوة ما هي قائمة لهم، ينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته، وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما أنزل القوم، ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عين {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} (الأعراف: 160). وكذلك روي أن ثيابهم ما كانت تبلى ولا تتسخ، وكذلك نقل بعض المفسرين؛ كالزمخشري وغيره: أنهم كانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثن اعشر ميلًا، وكذلك ذكروا أن الحجر كان من الجنة، ولم يكن حجرًا أرضي ًّ ا، ومنهم من قال: كان على هيئة رأس إنسان، ومنهم من قال: كان على هيئة رأس شاة، وقيل: كان طوله عشرة أذرع وله شعبتان تتقدان في الظلام إلى غير ذلك من تزيدات بني إسرائيل. وليس في القرآن ما يدل على هذا الذي ذكروه في وصف الحجر، مع أنّه لو أريد بالحجر الجنس وأن يضرب أيَّ حجر ما، لكان أدل على القدرة وأظهر في الإعجاز. لاحظ ابن خلدون من قبل المغالط التي تدخل في مثل هذه المرويات، فقال في مقدمته: اعلم أنّ فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو

يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يروم في أحول الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت. ويستطرد قائلًا: ولو قيس الغائب منها على الشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غث ًّ اأو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها ولا ثبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات. ويستطرد ويقول: إن هذه الحكايات هي مظنة الكذب، ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد، وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل وأن موسى أحصاهم في التيه، بعد أن أجاز من كان يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام واتساعهما لمثل هذا العدد، ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير، يشهد لذلك ما كان من غلب " بختنصر " لهم والتهامه بلادهم واعتدائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس، إلى آخره، وكانت ممالكهم بالعراق وخرسان وما وراء النهر، أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبًا منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرين ألفًا كلهم متبوع إلى آخره. ويستطرد ابن خلدون، يقول: فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم، وانفسح مدى دولتهم، إلى آخره، وأيضًا فالذي بين موسى وإسرائيل

إن هو إلا أربعة آباء على ما ذكره المحققون، فإنه موسى بن عمران بن يصفر بن قاهف بن لاوي بن يعقوب، وهو إسرائيل؛ إسرائيل الله، هكذا نسبه في التوراة، والمدة بينهما على ما نقله المسعودي، قال: دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط، وأولادهم حين أتوا إلى يوسف، إلى آخر ما ذكره. ثم قال في آخر قوله: إنَّ هذا الذي ذكروه من الأعداد، والذي تجاوز ما يعقل، وكل هذا نجد زعمًا باطلًا ونقلًا كاذبًا، فالذي ثبت في الإسرائيليات أنَّ جنود سليمان كانت اثني عشر ألفًا خاصة، وأن مركوباته كانت ألفًا وأربعمائة فرس. هذا هو الصحيح من أخبارهم، ولا يلتفت إلى خرافات العامة، منهم، وفي أيام سليمان عليه السلام وملكه كان عنفوان دولتهم. وهذا الفصل من النفاسة بمكان؛ فلذلك حرصت على ذكره؛ لأنه يفيدنا في رد الكثير من الإسرائيليات التي وقعت فيها المغالط والأخبار الباطلة والخرافات التي كانت سائدة في العصور الأولى. هذا ما ختم به شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة، نقل عن ابن خلدون من مقدمته ما يؤكد كذب أخبارهم وخرافاتهم التي تناقلها المفسرون في معاني الآيات. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 15 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (13).

الدرس: 15 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (13).

الإسرائيليات التي وردت في قصة إدريس -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (13)) الإسرائيليات التي وردت في قصة إدريس -عليه السلام- الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: سيدنا إدريس -عليه السلام- هو أحد الرسل الذين ذكروا في القرآن الكريم، والقرآن الكريم تناول بعض الرسل بكثير من المواقف، ومناهج الدعوة، ومواقف أقوامهم؛ كموسى، ونوح، وإبراهيم، وعيسى -عليه السلام- وهناك من الرسل من تناولتهم آيات قليلة، فلم يكن لهم ذكر إلا في مواضع معدودة في القرآن الكريم؛ من هؤلاء سيدنا إدريس -عليه السلام- ولنبدأ بموجز عنه: هو إدريس بن ي ارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم -عليه السلام- وسواء هذا النسب هو صحيح يقينًا أو من كلام كتاب التاريخ، وكتاب السير، هو على كل حال قريب من أبينا آدم -عليه السلام- وواضح أنه إذا كان بينه وبين أبيه آدم خمسة آباء، فهو يقينًا قبل سيدنا نوح -عليه السلام- ذكر أن اسمه في التوراة سيدنا "أخنوخ" وفي الترجمة العربية بنفس المعنى كتب هذا أصحاب قصص الأنبياء، كالشيخ عبد الوهاب النجار، وغيره. الآيات التي تحدثت عن سيدنا إدريس كما قلت قليلة قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (مريم: 56، 57). قال الإمام أبو السعود عند قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى، وقيل: علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى، عن رسولنا - عليه الصلاة والسلام -: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} (الشرح: 4)، وقيل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، قيل: في الجنة، وقيل: السماء السادسة، أو الرابعة. روي عن كعب وغيره في بسبب رفع إدريس -عليه السلام-: أنه سئل ذات يوم في حاجة، فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب، إني قد مشيت فيها يومًا، وقد أصابني

منها ما أصابني، فكيف من يحملها مسيرة خمسمائة عام، في يوم واحد؟! اللهم خفف عن هـ من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يُعرف، فقال: يا رب ما الذي قضيت فيه، فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فأجبته، قال: يا رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن الله تعالى له فرفعه إلى السماء. الدخيل في هذا كما قال زميلنا الدكتور على حسن رضوان: أقول ما ذكره أبو السعود من أقوال في معنى الآية محتملة المعنى المراد منها؛ إذ إن الذي أنبأت عنه الآية يحتمل عدة احتمالات: يحتمل أن يكون العلو معنويًّا، وهو علو الرتبة بشرف النبوة، أو بالذكر الجميل في الدنيا -كما قال أبو السعود- ويحتمل أن يكون العلو حسيًّا ب رفعه إلى السماء، وإن كنت أميل إلى الرأي الثاني لما في ذلك من خبر صحيح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يؤيده، وهو ما ثبت في (الصحيحين) عن أنس - رضي الله عنه - في حديث المعراج أنّه - صلى الله عليه وسلم - رأى إدريس في السماء الرابعة، الحديث في (البخاري) " كتاب: مناقب الأنصار، باب " المعراج ". وإليه ذهب الفخر الرازي في تفسيره حيث قال: إن المراد به الرفعة في المكان إلى موضع عالٍ وهذا أولى؛ لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة. أما القول بأن إدريس -عليه السلام- في الجنة أدخلها بعد أن أذيق الموت وأحيي، فهو خبر موضوع والمتهم به إبراهيم بن عبد الله المصيصي؛ إذ إن الهيثمي أورده في (مجمع الزوائد) من حديث أم سلمة، وعزاه للطبراني في (الأوسط)، وقال: في إسناده إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو متروك؛ انظر (مجمع الزوائد) " كتاب: ذكر الأنبياء " للهيثمي.

قلت - كلام للدكتور علي رضوان -: قال عنه الذهبي في (الميزان): هذا رجل كذاب، وقال الحاكم: أحاديثه موضوعه، وأما ما ذكره أبو السعود في سبب رفع إدريس -عليه السلام- من أنه مشى يومًا في الشمس فأصابه وهجها، فسأل ربه أن يخفف ثقلها عما يحمله فاستجاب له، ولما أصبح الملك وجد من خفتها وحرها ما لا يعرف، فسأل ربه عن ذلك فقال له ربه: إن عبدي إدريس سألني تخفيف حملها عنك، فأجبته، فقال: يا رب اجعل بيننا خلة، فأذن له فرفعه إلى السماء، فلا يشك عاقل في أنه من أخبار كعب الإسرائيلية التي نقلها عن أهل الكتاب والتي لا تصح سندًا ولا مخبرًا ومن ثم فلا يسوغ نقلها ولا روايتها. وهذا الذي ذكره أبو السعود سبقه إليه من سبقه من المفسرين؛ ابن جرير الطبري، فقد روى عن كعب الأحبار أيضًا خبرًا يتعلق بنفس السبب، ولكن بسياق آخر، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يسار قال: سأل ابن عباس كعب، وأنا حاضر، قال: ما قول الله تعالى لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني رافع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن تزداد عملًا، فأتاه خليل له من الملائكة، فقال: إنَّ الله أوحى إليَّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملًا، فحمله بين جناحيه، ثم صعد به إلى السماء، فلما كانت السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت، منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: العجب، بعثت، وقيل: اقبض لي روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، ف ذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. . قال ابن كثير: هذا من أخبار كعب الأحبار.

وفي رواية لكعب أنّ إدريس قال للملك: هل لك أن تسأل ملك الموت، كم بقي من أجلي كي أزداد من العمل؟ وفيه أنه لما سأله قال: لا أدري، حتى أنظر، فنظر ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلى طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه، فإذا هو قد قبض -عليه السلام- وهو لا يشعر به، هذه من الإسرائيليات. ورواه ابن أبي حاتم عن السدي بنحو هذا السياق، وفي القرطبي، قال السدي: إنه نام ذات يوم -أي سيدنا إدريس- واشتد عليه حر الشمس، فقال: وهو منها في كرب، فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، ثم ذكر نحو حديث كعب، قال ابن كثير: وهذا من أخبار كعب الأخبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم. وفي ذلك دلالة واضحة على أن ما ذكر من الإسرائيليات التي يذكرها الرواة عن أهل الكتاب، فهي من الإسرائيليات، على أن رواية السدي يكفي في إبطالها نسبتها إليه، فهو من عرف عنه الكذب، وعدم الثقة بمروياته؛ ولذلك قال عنه الإمام البخاري: سكتوا عنه لا يكتب حديثه، وقال ابن معين عنه: ليس بثقة، وقال النسائي: متروك، وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات لا يحل كتابة أحاديثه. أما حديث كعب، فقد ساقه الحافظ ابن كثير في (التفسير)، نقلًا عن ابن جرير، ووصفه بأنه أثر غريب عجيب، ثم حكم عليه كما أسلفت الآن، بأنه من الإسرائيليات، وقال: إن فيه نكارة شديدة، وتبعه في ذلك الحافظ ابن حجر، حيث قال تعقيبًا على هذا الخبر: وهذا من الإسرائيليات والله أعلم بصحة ذلك.

نتساءل الآن ما الرأي الصحيح في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}، نقول: الأسلم تفويض علم ذلك إلى الله تعالى، وقد قال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس، أن إلياس هو إدريس واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري، عن أنس في الإسراء، أنه لما مر به -عليه السلام- قال: ((مرحبًا بالأخ الصالح))، ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح، فلو كان في عمود نسبه، لقال له كما قالاه له، وقال الحافظ ابن كثير بعد أن نقل ذلك: وهذا لا يدل، ولا بد؛ لأنه قد لا يكون الراوي حفظ جيدًا، أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتسب له في مقام الأبوة كما انتسب لآدم أبي البشر، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين. مما تقدم يبدو واضحًا أن ما ذكره أبو السعود، والمفسرون الآخرون في سبب رفع إدريس -عليه السلام- أن هذا من الإسرائيليات التي لا حاجة لنا بها ومن التزايدات التي لا أصل لها، وفي الكتاب الكريم والسنة الصحيحة غنية عن الغرائب، والآراء الاجتهادية، ويكفينا في هذا المقام، أن نعتقد أن الله - سبحانه وتعالى - كرم إدريس، ورفعه مكانًا عليًّا؛ سواء كانت الرفعة في الدرجة أم في المكان؛ يعني معنويًا أو حسيًّا، الآية صرحت بهذه الدرجة، ولم تفصح لنا عن كنهها وكيفيتها إلى آخر الكلام، فيجب الإيمان بها كما يجب الوقوف عند القدر الذي أخبر الله به دون تفصيل ما لم يرد به نص قرآني صريح، أو خبر متواتر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وحينئذٍ نأخذ بما قام عليه الدليل القاطع، لا بما يحكيه القصاصون والإسرائيليون. هذا باختصار ما تناقله أكثر المفسرين في شأن إدريس -عليه السلام.

الإسرائيليات التي وردت في قصة إلياس -عليه السلام-.

الإسرائيليات التي وردت في قصة إلياس -عليه السلام- فمن الإسرائيليات التي اشتملت عليها بعض كتب التفسير ما ذكروه في قصة إلياس -عليه السلام- عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِين * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُون * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِين * وَاللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِين * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِين * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِين * سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِين * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين} (الصافات: 123 - 132). روى البغوي، والخازن، وصاحب (الدر المنثور) الإمام السيوطي، وغيرهم؛ عن ابن عباس، والحسن وكعب الأحبار ووهب بن منبه مرويات تتعلق بإلياس -عليه السلام- قال صاحب (الدر المنثور): أخرج ابن عساكر عن الحسن - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِين}، قال: إن الله تعالى بعث إلياس إلى بعلبك، وكانوا قومًا يعبدون الأصنام، وكانت ملوك بني إسرائيل متفرقة على العامة، كل ملك على ناحية يأكلها، وكان الملك الذي كان إلياس معه يقوّم له أمره، ويقتدي برأيه، وهو على هدى من بين أصحابه، حتى وقع إليه م قوم من عبدة الأصنام، فقالوا له: ما يدعوك إلا إلى الضلالة والباطل، وجعلوا يقولون له: اعبد هذه الأصنام، هذه الأوثان التي تعبد الملوك، وهم على ما نحن عليه يأكلون ويشربون، وهم في ملكهم يتقلبون، وما تنقص دنياهم من ربهم الذي تزعم أنه باطل، وما لنا عليهم من فضل، فاسترجع إلياس، فقام شعر رأسه وجلده، فخرج عليه إلياس.

قال الحسن: وإن الذي زين لذلك الملك امرأته، وكانت قبله تحت ملك جبار، وكان من الكنعانين في طول وجسم وحسن، فمات زوجها، فاتخذت تمثالًا على صورة بعلها من الذهب، وجعلت له حدقتين من ياقوتتين وتوجته بتاج مكلل بالدر والجوهر، ثم أقعدته على سرير تدخل عليه فتدخنه وتطيبه وتسجد له، ثم تخرج عنه، فتزوجت بعد ذلك هذا الملك الذي كان إلياس معه، وكانت امرأة فاجرة، قد قهرت زوجها، ووضعت البعل في ذلك البيت، وجعلت سبعين ساجنًا فعبدوا البعل - السجنة: الساجن هو الخادم الذي يقوم على خدمة الأصنام، جعلت سبعين ساجنًا فعبدوا البعل - فدعاهم إلياس إلى الله فلم يزدهم ذلك إلا بعدًا. فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، وعبادة غيرك، فغير ما بهم من نعمتك، فأوحى الله إليه: إني قد جعلت أرزاقهم بيدك، فقال: اللهم أمسك عنهم القطر ثلاث سنين، فأمسك الله عنهم القطر، وأرسل إلى الملك فتاه "اليسع" -اليسع هذا قد نشأ على يديه- فقال له: قل له: إن إلياس يقول لك: إنك اخترت عبادة البعل، على عبادة الله، واتبعت هوى امرأتك، فاستعد للعذاب والبلاء، فانطلق اليسع، فبلغ رسالته للملك، فعصمه الله تعالى من شر الملك، وأمسك الله عنهم القطر حتى هلكت الماشية والدواب، وجهد الناس جهدًا شديدًا، وخرج إلياس إلى ذروة جبل، ف كان الله يأتيه برزق، وفجر له عينًا معينًا لشرابه وطهوره، حتى أصاب الناس الجهد، فأرسل الملك إلى السبعين، فقال لهم: سلوا البعل أن يفرج ما بنا، فأخرجوا أصنامهم فقربوا لها الذبائح وعطفوا عليها وجعلوا يدعون حتى طال ذلك بهم، فقال لهم الملك: إن إله إلياس كان أسرع إجابة من هؤلاء، فبعثوا في طلب إلياس، فأتى، فقال: أتحبون أن يفرج عنكم؟ قالوا: نعم، قال: فأخرجوا أوثانكم، فدعا إلياس -عليه السلام- ربه أن

يفرج عنهم، فارتفعت سحابة مثل الترس -الترس يعني ثياب يلبسه المحارب، يعني جاءت سحابة تغطي المكان - وهم ينظرون ثم أرسل الله عليهم المطر، فتابوا ورجعوا. قال: وأخرج ابن عساكر عن كعب - رضي الله عنه - قال: أربعة أنبياء اليوم أحياء؛ اثنان في الدنيا: إلياس والخضر، واثنان في السماء عيسى وإدريس، قال: وأخرج ابن عساكر عن وهب - رضي الله عنه - قال: دعا إلياس -عليه السلام- ربه أن يريحه من قومه، فقيل له: انظر يوم كذا وكذا، فإذا رأيت دابة لونها مثل لون النار، فاركبها فجعل يتوقع ذلك اليوم، فإذا هو بشيء قد أقبل على صورة فرس، لونه كلون النار، حتى وقف بين يديه، فوثب عليه فانطلق به، فكان آخر العهد به، فكساه الله الريش، وكساه النور، وق ط ع عنه لذة المطعم والمشرب فصار في الملائكة -عليه السلام. قال: وأخرج ابن عساكر عن الحسن - رضي الله عنه - قال: إلياس -عليه السلام- موكل بالفيافي، والخضر -عليه السلام- موكل بالجبال، وقد أ ُ عطي الخلد في الدنيا، إلى الصيحة الأولى -أي: إلى النفخة الأولى- وأنهم يجتمعان كل عام بالموسم. كلام لا دليل عليه، يدعي أنَّ إلياس يلتقي مع الخضر - عليهما السلام - وكل عام يجتمعان هذا كلام رواه هؤلاء عن ابن عساكر. وأخرج الحاكم عن كعب - رضي الله عنه - قال: كان إلياس صاحب جبال وبرية، يخلو فيها يعبد ربه - عز وجل - وكان ضخم الرأس، خميص البطن، دقيق الساقين، في صدره شامة حمراء، وإنّما رفعه الله إلى أرض الشام، لم يصعد به إلى السماء، وهو الذي سماه الله ذا النون. كل هذا من روايات السيوطي في (الدر). التعقيب على هذا لشيخنا الدكتور محمد أبو شهبة يقول: وكل هذا من أخبار بني إسرائيل وتزايداتهم، واختلاقاتهم، وما روي منها عن بعض الصحابة

والتابعين، فمرجعه إلى مسلمة أهل الكتاب؛ ككعب ووهب وغيرهما، وقد رأيت كيف تضارب وتناقض كعب ووهب؛ فكعب يقول: لم يصعد به إلى السماء، ويزعم أنه ذو النون، ووهب يقول: إنه رفعه إلى السماء، وصار في عداد الملائكة - عليهم السلام -، وأ ن بعض الروايات تقول: إنه الخضر، والبعض الآخر يقول: إنه غير الخضر، إلى غير ذلك من الاضطرابات والأباطيل، كزعم مختلق الروايات الأولى؛ أن الله أوحى إلى إلياس إني قد جعلت أرزاقهم بيدك، بينما في بعض الروايات الأخرى أن الله أبى عليه ذلك مرتين وأجابه في الثالثة، وهكذا الباطل يكون مضطربًا لجلجًا، وأما الحق فهو ثابت أبلج، وواضح. ولم يقف الأمر عند نقل هذه الإسرائيليات عمن ذكرنا، بل بلغ الافتراء ببعض الزنادقة والكذابين إلى نسبة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كي يؤيد به أكاذيب بني إسرائيل وخرافاتهم، وكي يعود ذلك بالطعن على صاحب الرسالة العامة الخالدة - صلوات الله وسلامه عليه - قال السيوطي (الدر): وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الخضر هو إلياس". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في (الدلائل) وضعفه عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فنزلنا منزلًا، فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفورة المثاب لها، فأشرفت على الوادي، فإذا رجل طوله ثلاثمائة ذراع وأكثر فقال: من أنت؟ قلت: أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين هو؟ قلت: هو ذا يسمع كلامك، قال: فأته وأقرئه مني السلام، وقل له: أخوك إلياس يقرئك السلام، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان، فقال له: يا رسول الله إني إنما آكل في كل سنة يومًا، وهذا يوم

فطري فكل أنت وأنا فنزلت عليهما مائدة من السماء وخبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصليا العصر، ثم ودعني وودعته، ثم رأيته مر على السحاب، نحو السماء. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الإمام الذهبي: بل هذا حديث موضوع، قبح الله من وضعه، ثم قال -أي الذهبي-: وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم أن يصحح مثل هذا. وأخلق بهذا أن يكون موضوعًا، كما قاله الإمام الحافظ الناقد البصير الإمام الذهبي، هذه القصة أيضًا لها أطراف أُخر تناولها كثير من المفسرين يمكن جمع أطرافٍ منها فيما يلي: قال الطبري عن تسمية إلياس: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص، ينتهي نسبه إلى هارون، أخي موسى، فهو إسرائيلي من سبط هارون، وفي (العجائب) للكرماني: أنه ذو الكفل، وعن وهبٍ أنه عمّر كما عمّر الخضر، ويبقى إلى فناء الدنيا، وسبق القول عن ابن عساكر عن الحسن أن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار -هذا اختلاف في الروايات الفيافي؛ أي: الصحاري والخضر موكل بالبحار- والجزائر وأنهما يجتمعان كل عام. وحديث اجتماعه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما - عليهما السلام - من السماء خبز وكذا وكذا، والصلاة صليا العصر معًا، هذا مما رواه الحاكم وصححه، ولكن سبق القول بأنه موضوع كما عقب شيخنا الإمام الذهبي. قال العلامة ال ألوسي: وكل ذلك من التعمير أنه معمر، وأنه يلتقي مع الرسول وكذا، وأكل كل هذا، وما بعده لا يعول عليه. وحديث الحاكم ضعفه البيهقي، وسبق القول أن الذهبي قال: إنه موضوع قبح الله تعالى من وضعه.

وأخرج كثيرون: عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر، عن ابن مسعود: أن إلياس هو إدريس. ونُقل عنه أنه قرأ -يعني عبد الله بن مسعود-: "وإن إدريس لمن المرسلين"، كأن الآية: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِين}، هناك قراءة لابن مسعود: "وإن إدريس لمن المرسلين"، والحكم بأنه إدريس هذا قول الضحاك أيضًا، قال ال ألوسي: والمستفيض في القراءة عن ابن مسعود أنه قرأ كالجمهور: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِين}، نعم قرأ ابن وثاب والأعمش والمنهال بن عمرو، والحكم بن عتيبة الكوفي كذلك، ثم أخذ العلامة الألوسي يرد القول بزعم أنّ إلياس هو إدريس، الذي قال الله عنه: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} لأنَّ إدريس كان بعد آدم بقليل كما سبق في ذكر نسبه أول القصة، هو قريب من آدم بينه وبين أبيه آدم أربعة أجداد له أو خمسة، وكان قبل نوح بيقين وبزمان، كما ذكر المؤرخون. فهو على ما قيل -والكلام للعلامة ال ألوسي: اسمه أخنوخ بن يزد بن مهلا ئ يل بن أنوش بن قنان بن شيث بن آدم؛ لا بأس هذا السند يعني إن اتفق مع ما سبق أو اختلف قليلًا، فهو من ولد آدم، قبل نوح. وفي (المستدرك) عن ابن عباس: أن بينه وبين نوح ألف سنة. وعن وهب: أنه جد نوح. كل هذا يؤكد أن إدريس كان قبل نوح -عليه السلام. يقول العلامة ال ألوسي: وهذا يمثل إشكالًا؛ لأن الآية تبين أنَّ إلياس من ذرية نوح، أو إبراهيم، فهو غير إدريس الذي عرف بأنه قبل نوح بزمان يقينًا، أما الآية فهي قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِين} (الأنعام: 83 - 85).

فقوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ}، الضمير فيها إما أن يكون لإبراهيم؛ لأن الكلام فيه، وإما أن يكون لنوح؛ لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطًا ليسا من ذرية إبراهيم، وعلى التقديرين تقدير أن يكون الضمير {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} إما لإبراهيم أو لنوح لا يتسنى نظم إلياس، المراد به إدريس، الذي هو قبل نوح؛ يعني هذا يدل على أنّ إلياس من بعد نوح، ومن بعد إبراهيم، ومن ذريتهما بزمانٍ وزمان، أو من ذرية أحدهما، أما إدريس المذكور أولًا، فكان قبل نوح. فيقول العلامة ال ألوسي: فنظم إلياس المراد به إدريس الذي هو قبل نوح هذا طبعًا يتناقض، فالله - تبارك وتعالى - قال عنه: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُون} الكلام استكمالًا لما ورد: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُون} (الصافات: 124)، الكلام عن إلياس: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِين} (الصافات: 25) استنكار من نبي الله إلياس لقومه، أتدعون بعلًا -أي: أتعبدون بعلًا، وهو اسم صنمٍ لهم قيل: كان من ذهب طوله عشرون ذراعًَا وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة ساد ن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوفه، ويتكلم بشريعة الضلال، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، هذا كلام موجود. وقيل: بعلًا، هو اسم امرأة، أتتهم بضلالة فاتبعوها، قال ال ألوسي: واستأنس له بقراءة بعضهم: "أتدعون بعلاء" بالمد فالكلمة فيها ألف التأنيث الممدودة على وزن حمراء. وذكر ابن كثير: أن إلياس هو ابن نسيّ بن فنحاص ينتهي نسبه إلى هارون، ولعل هذا نقل عما ذكره الطبري، ثم قال: بعثه الله في بني إسرائيل وكانوا قد عبدوا صنمًا، وكفروا بالله ورسله، ثم قد نشأ على يديه اليسع، فأمر إلياس أن يذهب

الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم -عليه السلام-.

إلى مكان كذا وكذا، ثم جاءته الفرس من النار فركب وألبسه الله النور، وكساه الريش، وطار مع الملائكة ملكًا إنسيًّا سماويًّا أرضيًّا، هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب، وعلق عليه الإمام ابن كثير ب قوله: والله أعلم بصحة هذا. الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم -عليه السلام- ورد في القرآن الكريم ذكر لأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- وهو من هو، هو أبو الأنبياء، وله مواقف عظيمة في القرآن الكريم، فنعرف ما ذكره الله في شأنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين} (النحل: 120)، وإبراهيم -عليه السلام- هو صاحب الملة العظيمة التي كان عليها الأنبياء من بعد، وهو أنه كان مسلمًا، صلوات الله وسلامه عليه. ولإبراهيم في القرآن مواقف متعددة، فله مواقف مع قومه، وله مواقف مع النمرود، وله مواقف مع أبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 45)، الآيات .. ، له مواقف كثيرة، وهل أبوه هو آزر الذي ذكر نص ًّ افي الآيات؟ أم أن آزر هذا ليس أباه بل هو عمه؟ كلام حول هذا في كتب التفسير، إسرائيليات وردت في هذه الآيات الكريمات، ولنعد إلى إبراهيم الخليل -عليه السلام-. ذكروا أن اسمه هو إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرف ج شاز بن سام بن نوح -عليه السلام- طبيعي أنّ هذا النسب لم يذكر لا في القرآن ولا في صحيح السنة، إنما هذا كتب في تفسير الآيات من المفسرين، ولعله منقول من التوراة، أو كتب التاريخ القديمة، نعم؛ ولذلك هذا يذكر ولا يصدق قولًا واحدًا، ولا ينكر أيضًا قولًا واحدًا، هذا نسب موجود في التوراة،

وقد جاء في الكتاب الكريم قرآن ربي: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين} (الأنعام: 74). وقد اختلف المفسرون في اسم أبي إبراهيم، فقال بعضهم: إنّ لفظ " آزر " في الآية، بدل من لفظ لأبيه، ويكون مقول القول: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} يكون هذا الكلام موجه لأبيه " آزر "، وقال آخرون: إن اسمه "تارح" وأن لفظ "آزر" كلمة ذم في نعته ومعناه أعرج، كما قال السهيلي في (التكملة)، وقال آخرون: إن معناه الخاطئ، وفي (التكملة) يا مخطئ يا خرف، كما قال: إن كلمة "آزر" تعني وصفا ليس جيدا فمعناه الخاطئ والخرف، وقيل: معناه: يا شيخ، أو هي كلمة زجر عن الباطل. على كل حال إن كانت هذه المعاني في معنى آزر لغة، فليس عندنا ما يجزم، أو يقطع بتحديد واحدٍ منها، بل نقول: إنه بعيد جدًّا أن يكون إبراهيم -عليه السلام- قد واجه أباه بكلمات فيها هذا التحقير أو العيب، أو الزجر كأعرج أو خرف أو مخطئ؛ لأنَّ إبراهيم -عليه السلام- كان لطيفًا في خطابه، وكان بار ًّ ابه حتى في دعوته، وإذا ما وصلنا إلى الآيات التي يخاطب فيها إبراهيم أباه: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} حتى وصل بالآيات: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}، (مريم: 46) فانظر كيف كان رد إبراهيم عليه -عليه السلام- قال: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}، (مريم: 47)، فلا يقبل أن يكون كلمة " آزر " كلمة تعييب أو زجر أو ردع من إبراهيم لأبيه -عليه السلام- والآيات في هذا الأمر واضحة. نرى بعد ذلك أنَّ إبراهيم لما قال لأبيه: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} هذا واضح في حسن الرد والبر الحسن بالوالد، قال آخرون: إن "تارح" هذا الذي جعلوه اسمًا لأبي إبراهيم واسمه العلم، وأن " آزر " وصف له كأنه هذا وصفه وتلك تسميته.

نقول: إذا صح أن والد إبراهيم كان له اسم علمي واسم وصفي يكون معناه القوي أو الناصر أو المعين؛ لأن لفظ " آزر " من الأزر؛ أي: القوة والنصر والعون، ومنه نقول: الوزير؛ أي: المعين، وهذا في اللفظ واللغة معروف، وقد جاء في (دائرة المعارف الإٍسلامية) ما نصه، والكلام ذكره شيخنا وأخونا الدكتور علي حسن رضوان يقول: جاء هذا النص في (دائرة المعارف): آزر اسم أبي إبراهيم في القرآن، في سورة الأنعام " الآية 74 "، ويظهر أن في هذا بعض الخلط؛ لأنّ اسم " آزر " لم يرد مطلقًا على أنه أبو إبراهيم في غير هذا الموضع، كما أن "تارح" أو "تارخ" قد ورد في روايات بعض المؤرخين والمفسرين من المسلمين على أنه أبو إبراهيم أيضًا؛ ولذلك لجئوا إلى التحايل للتوفيق بين هاتين الروايتين. ونعقب على هذا؛ لأن هذا التحايل لا قيمة له، ونصل إلى الرأي الصحيح: الرأي الصحيح هو أن " آزر " اسم صنم كان يعبده "تارخ" والد إبراهيم وكان سادنًا له، هذا الرأي موجود. وروي عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}، قال: لم يكن بأبيه ولكن " آزر " اسم صنم، فموضعه نصب على إضمار الفعل، والتلاوة كأنه قال: وإذ قال إبراهيم: أتتخذ آزر إلهًا؛ أي: أتتخذ أصنامًا آلهة، وقال الصنعاني: أتتخذ آزر إلهًا، ولم ينصب باتخاذ الذي بعده؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله، ولأنه استوفى مفعوله. وقد نقل المرحوم أحمد زكي عبارة (تاج العروس) في أول كتابه وقال: وهذا القول الذي قاله مجاهد أو ل ى الأقوال عندي بالقبول، وعلى هذا يكون والد إبراهيم لم يذكر باسمه العلمي في القرآن، ومما يستأنس له بأن " آزر " اسم إلهٍ أننا نجد في الآلهة القديمة عند المصريين الإله "إزوريس" و"إيزيس" ومعناه الإله القوي المعين، وقد كانت الأمم السابقة يقلد بعضهم بعضًا في أسماء الآلهة.

على كل حال هذا كلام اختلف فيه المفسرون على أنه لا مانع أن يكون هذا الاسم وهو " آزر " اسم أبي إبراهيم -عليه السلام- والكلمات تطلق في إطلاقات كثيرة وروايات ومعان ٍ كثيرة. ننتقل بعد ذلك إلى الموضع الثاني الذي ثار حوله كلام وإسرائيليات كثيرة الآيات في سورة " الأنبياء ": {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين} (الأنبياء: 51) إلى أن وصلنا إلى قوله - جل وعلا -: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم} (الأنبياء: 69). فعند تفسير الآية الأولى؛ وهي قول الله - جل وعلا -: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين} ذكر المفسرون، ومنهم أبو السعود فقال: قيل: القائل هو نمرود بن كنعان بن السنجاريد بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح، وقيل: رجل من أكراد فارس، اسمه هايون، وقيل: هدير، خسفت بهم الأرض. روي أنهم لما أجمعوا على إحراق إبراهيم -عليه السلام- بنوا له حظيرة "بكوشي" قرية من قرى الأنباط عملوا له حقلًا كبيرًا أو حظيرة كبيرة مكانًا واسعًا في هذه القرية؛ وذلك قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم} (الصافات: 97). فجمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يومًا فأوقدوا نارًا عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحد، حتى إن كانت الطير لتمر بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها، ولم يكد أحد يحوم حولها فلم يعلموا كيف يلقون إبراهيم -عليه السلام- فيها، فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق، فعملوه -المنجنيق هو عبارة عن حبل يوضع فيه لفافة يوضع فيها الضحية أو الغرض ويقذف به من بعيد- فعملوا له هذا، وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد، فخسف

الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، ثم عمدوا إلى إبراهيم -عليه السلام- فوضعوه فيه مغلولًا مقيدًا فرموا به فيها، فجاءه جبريل، فقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فجعل الله ببركة قوله الحظيرة الموقع المحترق هذا النار شديدة اللهب، جعلها الله روضة رائعة له. وعند تفسيره للآية الثانية، وهي قول الله تعالى في هذا الشأن: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم}، قال المفسرون: روي أنّ الملائكة أخذوا بقميص إبراهيم -عليه السلام- وأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب، وورود حمر؛ ورد ونرجس، ولم تحرق النار إلا وثاقه -الحبل الذي كان يربط فيه. وروي أنه -عليه السلام- مكث في النار أربعين يومًا أو خمسين يومًا، وقال: ما كنت أطيب عيشًا مني إذ كنت فيها. وصلى الله عليه وسيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 16 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (14).

الدرس: 16 نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (14).

تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم -عليه السلام-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (نماذج من الإسرائيليات في القصص القرآني (14)) تابع الإسرائيليات التي وردت في قصة إبراهيم -عليه السلام- الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: الحديث موصول في قصة إبراهيم -عليه السلام- ذلك الرسول الكريم المجتبى الذي له في القرآن مواقف كثيرة وكنا وصلنا إلى الآيات؛ وهي قول الله - جل وعلا -: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم} (الأنبياء: 68، 69) وكنا وصلنا إلى ما روي من أنه -عليه الصلاة والسلام- وهذا كلام من الإسرائيليات لا دليل عليه أنه مكث في النار أربعين يومًا، وقيل: خمسين يومًا، وأنه قال: ما كنت أطيب عيشًا مني إذ كنت فيها. قال ابن يسار: وبعث الله ملك الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه؛ فنظر نمرود من صرحه فأشرف عليه فرآه جالسًا في روضة مورقة، ومعه جليس على أحسن ما يكون من الهيئة؛ النار محيطة به، فناداه: يا إبراهيم، هل تستطيع أن تخرج منها؟، قال: نعم، قال: فقم فاخرج، فقام يمشي فخرج منها، فاستقبله نمرود وعظمه، وقال: من الرجل الذي رأيته معك؟، فقال: ذلك ملك الظل أرسله ربي؛ ليؤنسني، فقال: إني مقربٌ إلى إلهك قربانًا؛ لما رأيتُ من قدرته وعِزّته فيما صنع بك؛ فقال - عليه السلام -: لا يقبل الله منك، ما دمت على دينك هذا، قال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح أربعة آلاف بقرة، فذبحها وكف إبراهيم عليه، وكان إذ ذاك ابن ستة عشر سنة. وهكذا كما نرى من أبدع المعجزات. ونتناول بشيء من التفصيل جوانب الدخيل فيما ذكره المفسرون حول هذا:

أولًا: الدخيل يتناول عدة نقاط: أولها: ما ذكره أبو السعود عن النمرود من أنه اسمه نمرود بن كنعان بن السنحاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح؛ فهذا يخالف ما ذكره العلامة ابن كثير حيث قال في كتابه (البداية والنهاية) عن مجاهد أن اسمه: النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. وقال ابن الأثير: إ ن هذا النسب هو قول المفسرين، وغيرهم من علماء النسب والأخبار، وقد اختار هذا القول من المفسرين الإمام الرازي، ومن المؤرخين ابن الأثير، وهو الظاهر؛ هذا تناقض واضح. ثانيًا: ما ذكره من اختلاف الروايات فيمن قال لهم: حرقوه؛ هل قائل هذه المقالة هو النمرود أو هو من أكراد فارس اسمه ميون أو اسمه هيرز كما قال في القرطبي وجاء فيه أو هو هدير أو هو غير ذلك؟ روايات متباينة في تعيين القائل، وفي ذكر اسمه في كتب التفسير ما نرى من ذكرها من سبب إلا تضييع الوقت فيما لا يفيد. قال العلامة ال ألوسي: وفي (البحر) -أي: (البحر المحيط) لابن حيان- أنهم ذكروا له اسم ًا مختلفًا فيه لا يوقف منه على حقيقة، قلت: وماذا يُفيدنا تعيين قائل هذه المقالة، وبأي الأسماء كان يُسمى؟ هذا كلام لا جدوى له، وماذا علينا لو توقفنا عند النص القرآني؟ فالقرآن يقول: {قَالُوا حَرِّقُوه} أي: قال بعض قوم إبراهيم لبعض: حرقوا إبراهيم بالنار، {وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}. وعلى ذلك جرى جمهور المفسرين. فالقول الصحيح والذي يتعين أن نقوله: إن القول بتعيين القائل أو بذكر اسمه من الدخيل الذي يجب أن نغض الطرف عنه ونغمض النظر عنه، بل نلتزم بما أجمله القرآن دون تزيدات ما أنزل الله بها من سلطان.

ثالثًا: من الدخيل: ما أورده المفسرون ومنهم: أبو السعود وكثيرون من أنهم -أي: قوم إبراهيم- حين قرروا حَرقه بنوا له حظيرة لإلقائه فيها، ولذلك جمعوا أصلاب الحطب لمدة أربعين يومًا - أي: الحطب الغليظ وجذوع الأشجار وغير ذلك - وجعلوا الخليل في كفة المنجنيق بإشارة إبليس اللعين، أو صنعه لهم رجلٌ من الأكراد؛ فخسف الله تعالى به الأرض؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. هذه أخبار لا نملك دليلًا ينهض بصحتها، ومثل ذلك لا يعرف إلا عن طريق ثقة، أو خبر معصوم، وحيثُ لا يُوجد لا هذا ولا ذاك؛ فهذه الأخبار إنما هي من قبيل ما لا يُصدق ولا يُكذب. على أن الأخبار التي ذكرها أبو السعود دون أن يعزوها لقائل؛ إنما هي من رواية محمد بن مروان السُّدي ومقاتل بن سليمان البلخي، وسبق أن أشرنا إلى أن ما يُروى عن طريق محمد بن مروان السُّدي والكلبي إنما هي رواياتٌ لا تُقبل؛ لأن محمد بن السائب الكلبي ومقاتل بن سليمان ومحمد بن مروان السُّدي الصغير كلهم كانوا متهمين؛ الكلبي كان متهمًا بكونه سبئيًّا متسترًا بحب آل البيت؛ كما سبق القول ويتستر بالإخلاص لآل البيت، قال عنه ابن حبان: كان الكلبي سبئيًّا من الذين يقولون: إن عليًّا لم يمت، وأنه راجع إلى الدنيا ويملؤها عدلًا كما مُلئت جورًا، قال الإمام أحمد: لا يَحِلُّ النظر في تفسير الكلبي. أما مقاتل بن سُليمان؛ فهو متهم بالقول بالتجسيم، قال ابن حبان: كان مقاتل يشبه الرب بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث كما كان متهمًا في علمه. وأما محمد بن مروان السدي الصغير؛ فروايته مع رواية الكلبي إن جاءت فهي سلسلة الكذب؛ كما قال الإمام السيوطي وغيره. فعلى كل حال ما ذكره الإمام ابن جرير وابن كثير والإمام الرازي في تفاسيرهم: أن هذه الروايات منقولة عن هذا الثالوث: الكلبي ومقاتل بن سليمان ومحمد بن

مروان السُّدي، وما ذكر ابن كثير وابن جرير والرازي في تفاسيرهم؛ إنما نقوله عن هؤلاء؛ وهؤلاء مُتّهمونَ بالكذب من قبل عُلماء الجرح والتعديل. ولنتأمل؛ الأول: أنهم هؤلاء كذابون كما قال ابن نمير، وكانوا يصنعون الأحاديث، وقال البخاري: إنهم هؤلاء رواياتهم مسكوتٌ عنها، وإنهم كانوا يصنعون الأحاديث كما سبق في التوضيح. رابعًا: من مجالات الدخيل في هذه القصة عن سيدنا إبراهيم؛ نقول الخبر الذي أورده أبو السعود وغيره، وهو أنّ إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار عَرَض له جبريل -عليه السلام- فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال جبريل -عليه السلام-: فاسأل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. هذا الكلام رواه ابن جرير عن معتمر بن سليمان عن أصحابه، وفي سنده جهالة، والحافظ ابن كثير أيضًا قال: إن هذا كلام غير مقبول، وذكره الشيخ العجلوني في (كشف الخفا ومزيل الإلباس) من رواية البغوي عن كعب الأحبار، وذكره كثيرٌ من المفسرين عن أبي بن كعب موقوفًا عليه. ومن ثم يبدو لنا أنه من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع، وقد أورد ابن عراق في (تنزيه الشريعة) ثم عقب عليه بقوله: قال ابن تيمية: إنه حديث موضوع. مع أن الكلام جميل أن جبريل يأتيه؛ فيقول: ألك حاجة؟ أما إليك فلا، قال: سل ربك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، كلام جميل طيب لكن لم يثبت هذا، القول الصحيح هو أنّ الخبر لا يصح؛ لأنه يشير إلى ترك الدعاء مع أن الدعاء مخُّ العِبادَة كما صح الحديث، وقد جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بالأمر بالدعاء، والحث عليه، ليس ببعيد عنا، قول ربنا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} (غافر: 60).

خامسًا: ما أوردوه من أن الملائكة أخذوا بضبعي إبراهيم؛ يعني: الملائكة أمسكت إبراهيم من عضديه؛ فأجلسوه على الأرض، فإذا عين ماءٍ عذب، وورود ونرجس وأشياء عطرة، وأنّ النار لم تحرق إلا الوثاق - أي: الرباط الذي كان يُربط به - وأن مُكثه بقاءه في النار كان أربعين يومًا، أو خمسين. يُجاب عن هذا: بأنه لا مانع من ذلك في قدرة الله -جل وعلا- غير أنه يتوقف على نقلٍ صحيح؛ فليس كل كلامٍ يُقبل يكون ثابتًا؛ وحيث لا يوجد نقل صحيح؛ فنحن أمام هذه الروايات في حل، وإذا علمنا أنها من رواية محمد بن مروان السدي، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، كما جاء في كتاب (زاد المسير) وغيره من التفاسير علمنا قيمة هذه الروايات؛ إذ لا قيمة لها. بهذا استبان مما لا يدع مجالًا للشك أنها من الإسرائيليات التي يذكرها الرواة عن أهل الكتاب، وموقفنا منها أنها من قبيل ما لا يُصدق ولا يكذب؛ فإلقاء إبراهيم في النار هذا حقيقة، والوقوف أمام ذلك هذه آية؛ لكن أن نتجاوز ما دلت عليه الآية من التفاصيل والكيفيات التي لم يرد بها نصٌّ؛ فهذا شيء لا يلزمنا؛ إبراهيم -عليه السلام- نطقت الآية بأنه ألقي في النار، وأن الله -جل وعلا- بقدرته أمر فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم}. سادسًا: من الدخيل في قصة إبراهيم ونختم به ولا نطيل؛ ما ذكر عن ملك الظل الذي أرسله الله إلى إبراهيم؛ ليؤنسه في محنته، وأن النمرود أشرف عليه من سرحه، ورآه جالسًا؛ فناداه يا إبراهيم، هل تستطيع الخروج من النار، قال: نعم، قال: فاخرج؛ فخرج فاستقبله النمرود، وقال: ملك الظل كان معه، قال: لأقربن لإلهك قربانًا لما رأيت -الكلام الذي سبق ذكره- وأنه قال -عليه الصلاة والسلام- للنمرود: لا يقبل الله منك ما دمت على دينك؛ فقال: لا أستطيع تركه، وأنه

ذبح أربعة آلاف بقرة، وكف عن إبراهيم؛ إلى غير ذلك من الروايات، هذا كله لا يصح، وفيه نظر، ولا يؤيده أثر صحيحٌ. على أن أسطورة ملك الظل التي اختلقها القصاصون؛ مصدرها الحقيقي محمد بن السائب الكلبي، وقد سبقت الإشارة إلى أنه أحد الموردين للإسرائيليات والأكاذيب، وأنه محمد بن السائب الذي كان سبئيًّا ومتخفيًا ليسوق لنا الأباطيل والخرافات، وقد نص على أن هذا من كلام محمد بن سائب الكلبي الإمام القرطبي في ت فسيره عند تفسير الآية، والكلبي كذابٌ متروك لا يعتمد عليه، وكان يكفي في إبطال هذه الرواية نسبتها إليه، ولكنّ القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءوا من ذلك بغير ما قصه الله علينا؛ فكل هذا من خرافات بني إسرائيل وزنادقتهم أرادوا أن يشوهوا صورة القرآن والإسلام والمسلمين، وبثوا في عقيدتنا ما يُفسد عقائدنا. بعضُ المُفسرين فطنوا لذلك؛ فلم يُقيموا لها وزنًا، بل نبهوا على بطلانها؛ من ذلك هذا الإمام الشيخ الشنقيطي -عليه رحمة الله- هو من الأئمة الأعلام، صاحب كتاب (أضواء البيان) إذ قال: وذكروا في القصة أن نمرود أشرف على النار من الصرح؛ فرأى إبراهيم جالسًا على السرير يؤنسه ملك الظل؛ فقال: نعم الرب ربك يا إبراهيم؛ لأقربن له أربعة آلاف بقرة، وكف عنه. وكل هذه من الإسرائيليات والمفسرون يذكرون كثيرًا منها في هذه القصة، وغيرها من قصص الأنبياء. انظر (أضواء البيان) للشنقيطي الجزء الرابع في تفسير هذه الآيات. تعليقنا النهائي: والصواب ما ذكره الإمام الشنقيطي وغيره أنّ هذه إسرائيليات لا تُقبل إذ لم يثبت بها نص، وهذا هو الصواب، وهو الأولى والأفضل، وألا نتجاوز ما نطق به

الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط - عليه السلام -.

القرآن الكريم؛ فما أجمله نقف عند إجماله، ولا نخوض أو نتطفل في التفاصيل؛ فالدخول في التفاصيل لم يرد بها قرآن، ولا نقل صحيح عن رسول -صلى الله عليه وسلم. الإسرائيليات التي وردت في قصة لوط - عليه السلام - ننتقل إلى سيدنا لوط -عليه السلام- وبداية نبدأ بذكر نسبه -عليه الصلاة والسلام- فهو: لوط بن هاران - أخي إبراهيم - بن تارخ. آمن بإبراهيم واهتدى بهديه كما قال سبحانه: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} (العنكبوت: 26) وتبع لوط -عليه السلام- عمه إبراهيم في رحلاته فكان معه بمصر وأغدق عليه ملك مصر، كما أغدق على إبراهيم؛ فكثر ماله ومواشيه، ثم افترق من إبراهيم عن تراضٍ؛ لأن الأرض لم تتسع لمواشيهما -كلام موجود- ونزل إلى سدوم بلد في دائرة الأردن. كان أهل هذا البلد -أهل سدوم- ذوي أخلاق سيئة رديئة، لا يستحيون من منكر يفعلونه، ولا يتعففون عن معصية يأتونها على رءوس الأشهاد، كما قال على لسان لوط -عليه السلام- وهو يعظهم وينهاهم {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} (العنكبوت: 29)؛ أي: كانوا يجاهرون بالمعاصي والأخطاء التي لا يُستحي امنها. كان أهل هذه البلد يتربصون لكل داخل لمدينتهم من التجار، يجتمعون عليه من كل صوب، ويمدون أيديهم إلى بضاعتهم يأخذ كل واحد منها شيئًا قليلًا؛ حتى لا يبقى في يده؛ فإذا جلس، جلس حزينًا وجأر بالشكوى يأتي الواحد منهم ويقول: كل هذا لأني أخذت منك الشيء اليسير دونكه - يعني خذه - فيقول: ما عسى أن ينفعني ما جئت به بعد أن ذهبت بضاعتي، اذهب عني بهذا الذي جئت به؛ فإذا انصرف جاء آخر بشيء تافه يريد رده عليه، فيتركه الرجل لزهادة ما أتى

به وينصرف، وهكذا يخسر الرجل بضاعته؛ لتفرقها في الأيدي الكثيرة -يعني كانوا سرقة- وكانوا أصحاب منكرات وفواحش، فهم كما قال الله تعالى عنهم: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} (العنكبوت: 29) إلى آخر الآيات. أهل هذا البلد كانوا ظلمة؛ ومن دلائل ظلمهم واستغراقهم فيه أن سارة زوجة إبراهيم أرسلت لعازر كبير عبيد إبراهيم؛ ليأتيها بسلامة لوط؛ فلما دخل مدينة سدوم لقيه رجل من أهلها؛ فعمد لعازر بحجر ضربه به في رأسه؛ فأسال منه دمًا كثيرًا، ثم تعلق به قائلًا: إن هذا الدم لو بقي لأضر بك، فأعطني أجري ثم آل الأمر بينهم إلى الترافع إلى قاضي سدوم، فلما سمع الخصمين حكم لعازر بأن ي ُ عطي للسدومي أجر ما ضربه بالحجر وأسال دمه؛ فلما رأى لعازر الجور من القاضي والخصم في أمره؛ عمد إلى حجر ضرب به رأس القاضي؛ فأسال دمه وقال: له الأجر الذي وجب لي عليك بإسالة دمه، عليك أن تعطيه لضاربي السدومي جزاء ضربه إياي وإسالة دمي. هذه الحكاية مع احتمال وضعها تفيدنا معرفة الفكر العام في أحوال هؤلاء الناس، وأنهم من الشرّ بحيثُ يصلحون أن تسند إليهم أمثالها؛ فهم يحرفون الكلام، ويغيرون ... إلى آخره. هيا بنا ننتقل إلى إبراهيم عليه السلام مع لوط عليهما السلام؛ إن الملائكة أخبرت إبراهيم أنهم ذاهبون للانتقام من قوم لوط الذين هم أهل هذا البلد؛ أهل سدوم وعامورة؛ فخاف إبراهيم أن يُمسّ لوط بأذى؛ فأخبروه بأنه ناج هو ومن آمن معه، ثم أخبروه -أي: الملائكة- بأن وقوع العذاب بالقوم أمر حتمي لا تقبل فيه شفاعة، ولا يغني جدال؛ الآيات: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود} (هود: 76).

ولنبدأ قصة لوط كما ذكرت في القرآن؛ ذ ُ ك ِ ر َ ت قصة لوط في القرآن بتمامها في عدة سور يكمل بعضها بعضًا، وتتلخص في أن قوم لوط كانوا من الشر بمكان، وأنهم كانوا يقطعون الطريق على السابلة؛ أي: على الناس الذين يمرون، وقد ذهب الحياء من وجوههم؛ فلا يستقبحون قبيحًا، ولا يرغبون في حسن كما قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَر}. وكانوا قد ابتدعوا من المنكرات ما لم يسبقهم إليه أحد من خلق الله؛ وذلك أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين شهوة من دون النساء، ويستعلنون بذلك ولا يستترون -معاذ الله- ولا يرون في ذلك سوءًا أو قبيحًا، وأنّ لوطًا قد وعظهم ونصحهم ونهاهم وخوفهم بأس الله تعالى؛ فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالعظات والأنذار هددوه تارة بالرجم، وتارة بالإخراج من بينهم، إلى أن جاء إلى لوط الملائكة؛ وقد جاءوا إليه بهيئة غلمانٍ مُرد حسان الوجوه؛ فجاء أهل القرية إلى لوط طالبين ضيوفه؛ ليفعلوا فيهم الفاحشة، وقد جهد لوط في ردّهم وبالغ في ذلك؛ حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته فلم يصغوا إليه حينئذٍ؛ يعني: طلب منهم أن يتزوجوا بناته فلم يصغوا إليه، حينئذٍ التفت لوط إلى الملائكة وقال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؛ لجاهدتهم بكم وأوقعت بهم ما يستحقون، وكان لا يعلم أنهم ملائكة إلى ذلك الحين، وحينئذٍ أعلمه الملائكة بحقيقة أمرهم، وأنهم جاءوا للتنكيل بأولئك القوم، ولما حاول أهل القرية أخذ أولئك الغلمان المردان بالقوة، وهجموا على بيت لوط؛ طمس الله أعينهم فلم يبصروا، ولم يهتدوا إلى مكان يقتحمون منه عليه وعلى من معه. ثم أخرج الملائكة لوطًا وابنتيه وزوجه من القرية، وأمروهم أن لا يلتفت منهم أحد، وأن يحضروا حيث يؤمرون؛ فصدعوا بالأمر إلا امرأته؛ فالتفت إلى القرية لترى ما يحل بها، وكان هواها في أهل القرية دون لوط؛ فحل بها من السخط

والعذاب ما حل بهم، وكانت كافرة غير مؤمنة؛ فأمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وقلبت ديار القوم، وجعل عاليها سافلها. ونعتقد أن البحر الميت المعروف الآن ببحر لوط وبحيرة لوط لم يكن موجودًا قبل هذا الحادث، وإنما حدث من الزلزال الذي جعل عالي البلاد سافلها، وصارت أخفض من س طح هذا المكان بنحو أربعة مائة متر، وقد اكتشفوا آثار قوم لوط على حافة البحر الميت، كما ذكر أصحاب قصص الأنبياء. القول الصحيح في عرض لوط -عليه السلام- بناته على هؤلاء الفسقة: قال تعالى في هذه القصة: {قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي} (الحجر: 68) الكلام على لسان سيدنا لوط: {قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُون * وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُون * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِين * قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِين} (الحجر: 68 - 71). القول الصحيح: إن لوطًا عرض على هؤلاء الفسقة بناته عرضًا سابريًّا؛ أي: عرضًا غير مؤكد، السابري هو نوع من أنواع الب ز النسج فيه متلاحم، وبائعه لا يلح في عرضه، ولا يزينه، كأنه عرض عرضًا غير مؤكد، ويعني كان عرض بناته على ما يوافق الشرع، إذا تريدوا الشهوة تزوجوا البنات، وإن كان البعض ذكر أنه عرضهم عليهم من باب ذر الرماد في العيون؛ ولكنه عرض بناته عليهم على أمل أنهم يستحيون منه، ويبتعدون ويخجلون؛ لينكفوا عن خزايته في ضيفه، بعض المفسرين يقول: كما تقول لرجل يضرب آخر وأنت تحجزه عنه، تقول له: دعه واضربني أنا؛ لأنك تقول هذا القول وأنت واثق أنه لن يضربك، هذا كلام على كل حال موجود في كتب التفاسير.

ولكننا نربأ بسيدنا لوط أن يعرض بناته على قومه الفسقة الفجرة عرض شهوة، كما كانوا يقعون في الفواحش، لعله قال: هؤلاء بناتي تزوجوهم، وتقضى الشهوات في الحلال، ولكنهم قوم ألفوا الفسق والفجور؛ إلى آخر الكلام، وهذا القول أورده كثير من المفسرين. هناك أقوال باطلة حول هذه الآيات {قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِين} منها أن لوطًا لم يعرض عليهم بناته الصلبيات؛ وإنما عرض عليهم بنات القرية، وهـ ن أزواجهم؛ لأن كل نبي أرسل إلى قوم فأولادهم أبنا ؤ هـ ونساؤهم بناته مجازًا؛ إذ كيف يكون لوط أبًا لهؤلاء الكافرات غير المؤمنات، وكيف يعبر عنهن ببناتي وهنّ يأبون أبوته، ويكفُرنه ويجحدون نبوته ورسالته؟! هذا قول من الأباطيل والدخيل. ثانيًا: نقول: إن الملائكة الذين طمع فيهم هؤلاء الفجرة، كانوا ثلاثة؛ ولا يُعقل أن يكون كل واحد من أهل القرية الذين جاءوا إليه يزفون، يأمل أن ينال حاجته منهم، وأهل القرية آلاف أو يزيدون، ولكن المعقول أنه كان هناك رئيسان مطاعان أو ثلاثة في القوم، وهم الذين يطلبون الملائكة، وإنما عبر بأهل القرية لمظاهرتهم لهم حتى يتم مرادهم؛ فعرض لوط على القوم لبناته أو لبنتيه الصلبيتين؛ ليأخذوهما بطريق التزوج لا على سبيل الفاحشة أو المنكرات. ثالثًا: نقول: ما مرجع كاف الخطاب: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد} (هود: 80) إنّ مرجع الكاف إلى قومه؛ الذين جاءوا يهرعون إليه، والمعنى لو أجد قوة تمكنني من صدكم، وإحلال النكال بكم؛ لفعلت. 2 - لو أن مرجع الخطاب هم الملائكة؛ وعلى ذلك فإن لوطًا تمنى لو كان عدد ضيوفه كثير؛ ليجد بهم قوة على مجاهدة قومه، وكفهم والإيقاع بهم، هذا كلام موجود على كل حال.

نعود فنبين كرم أصل سيدنا لوط ور عايته للجار، ومجادلة إبراهيم عن قوم لوط: دلت الآيات في قصة لوط -عليه السلام- على أنه كريم، وأنه يرعى حق الجار؛ لمّا أراد قومه سوءًا بضيوفه قام يدفع عنهم، ويدافع أهل بلده دونهم؛ فقال أبو سعود في هذه الآيات: إنه إذا أخذ ضيف الرجل أو جاره؛ فقد خزي الرجل، ولذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة وظلم الجار إذلال المجير. تدل أيضًا القصة على أن لوطًا كان عظيم الإيمان، مطمئن القلب؛ حتى إنه لم يحتج من عمه إلى ال معالجة، وأنه في سبيل الإيمان بالله رضي بأن يهاجر من وطنه، وينتقل عنهم. نعود إلى المجادلة لإبراهيم عن قوم لوط: كان إبراهيم -عليه السلام- رجلًا رقيق القلب؛ فلما علم أن قوم لوط هالكون، وأنّ العذاب نازلٌ بهم، وأن الملائكة قادمون لإنفاذ الأمر فيهم، أخذته شفقة عليهم؛ فأخذ يجادل في شأن قوم لوط، ويطلب الرحمة ويرجو أن ينظر الله إليهم نظر رحمة، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوط * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيب} (هود: 74، 75) هذه المجادلة عنهم لم تفصل في القرآن الكريم، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيب} (هود: 77) وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُود * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد} (هود: 82، 83). عند تفسير الآية الأولى؛ ذكر أبو السعود وغيره عن مجادلة إبراهيم للملائكة؛ فقال: ومجادلته إياهم هو أنه قال لهم حين قالوا له: إنا مهلكو أهل هذه القرية،

قال: أرأيتم لو كان فيها خمسين رجلًا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون قالوا: لا، قال: فثلاثون، قالوا: لا حتى بلغ العشرة، ف قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجلًا مُسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطًا؛ قالوا: نحن أعلم بمن فيها؛ لننجينه وأهله. وعند تفسيره للآية الثانية؛ تحدث عن ذهاب الملائكة إلى لوط -عليه السلام- الآية الثانية أنهم أتوه؛ فقال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: انطلقوا من عند إبراهيم -عليه السلام- وبين القريتين أربعة فراسخ، ودخلوا عليه في صورة غلمان، أو في صور غلمان مُرد حسانٍ؛ فلذلك سيء بهم، أي: ساءه مجيئهم؛ لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه، ويعجز عن مدافعته عنهم، وروي أن الله تعالى قال للملائكة: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات؛ فلما مشى معهم منطلقًا بهم إلى منزله، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرها؟ قال: أشهد بالله أنها لشر قرية في الأرض عملًا، يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد. وعند تفسيره للآية الثالثة؛ ذكر أن عدد قرى لوط كانت خمسًا؛ فقال: قرى قوم لوط وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات خمس مدائن، فيها أربعمائة ألف ألف، ثم تحدث عن كيفية هلاك قوم لوط، فقال: روي أنه جعل جبريل -عليه السلام- جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم. هذا الكلام موجود في (تفسير أبي السعود) الجزء الرابع في تفسير هذه الآيات، وذكره غيرهم. وإلى بيان ما في ذلك من دخيل: ما ذكره أبو السعود بشأن العدد الذي جادل عنه إبراهيم الملائكة لا يُعول عليه؛ لما فيه من التناقض بين مروياته؛ إذ إن رواية أبي سعود التي تذكر أن إبراهيم

جادلهم بعدد أقصاه خمسين، ثم أخذ ينقص منه؛ حتى بلغ عشرة فإنها تختلف مع العدد الذي ذكره ابن جرير الطبري في ت فسيره من رواية السدي؛ حيث ذكر أن إبراهيم جادلهم في مائة من المسلمين، ولم يزل يحطّ حتى بلغ عشرة، وكذا من رواية ابن جرير أنه جادلهم في مائة أيضًا؛ حتى هبط إلى خمسة، بينما نجد الحافظ ابن كثير يذكر في رواية ابن إسحاق وآخرين أن مجادلة أبينا إبراهيم لهم كانت في ثلاثمائة، وما زال يُنقص حتى بلغ معهم إلى مؤمن واحد، ويذكر ابن عباس وغيره أن إبراهيم -عليه السلام- جادلهم في أربعمائة، وأخذ ينقص منهم حتى بلغ أربعة عشر. انظر (قصص الأنبياء). وهكذا ن جد تعارضًا وتضاربًا واضحًا في تعيين العدد الذي جادل عنه إبراهيم الملائكةَ مما يدل دلالة واضحة على أن تلك الروايات إنما هي من اجتهاد الرواة، ولذلك قال العلامة الإمام ال ألوسي في التعقيب على ما ذُكر: وروي نحو ذلك عدة روايات الله أعلم بصحتها. على أن تلك المجادلة التي ذكرها المفسرون؛ لم تفصل في القرآن الكريم، ولا في سنة النبي العظيم محمد -عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم- وإنما فصلت في الكتب المحرفة عند اليهود، جاءت هذه التفاصيل في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين؛ فمن العبارات هذا نصها: فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم على أن يكون خمسون في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أن تميت البار مع الأثيم؛ فيكون البار كالأثيم، حاشا لك، فقال الرب: إن وجدتُ خمسين بارًّا في المدينة؛ فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم؛ فأجاب إبراهيم وقال: إني شرعت أكلم المولى، وأنا تراب ورماد ربما نقص الخمسون بارًّا خمسة أتهلك كل

المدينة بالخمسة، فقال: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين. الكلام الذي نقله المفسرون نقلًا عن التوراة، وهو كلام متناقض؛ خمسين أربعين ثلاثين عشرين؛ إلى أن قال: لا أهلك من أجل العشرين، فقال: لا يسخط المولى؛ فأتكلم هذه المرة، فقال: عسى أن يوجد هناك عشرة؛ فقال: لا أهلك من أجل العشرة. من هذا يتضح أن هذه المجادلات منقولة نص ًّا عن التوراة، وما أكثر التحريف والتناقض والأباطيل التي فيها. وحاصل المسألة: أن القرآن الكريم لم يبين ما جادل به إبراهيم والملائكة في قوم لوط، ولكن القرآن أشار إليه في سورة " العنكبوت " بقوله: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين} (العنكبوت: 31، 32). فحاصل جداله لهم: أنه يقول: إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا} الآية. ومنه يفهم أن المجادلة كانت تعني شخص نبي الله لوط -عليه الصلاة والسلام- والله تعالى أعلى وأعلم. أما ما ذكره أبو السعود: من أن العذاب لم ينزل بهؤلاء القوم حتى شهد عليهم لوطٌ -عليه السلام- أربع شهادات بأنهم شرُّ قومٍ عملًا؛ فذلك أمر يثير الدهشة والتساؤل، من كان هناك فشاهد هذه الأحداث؛ ليشهد عليها الآن، وهب أن لوطًا -عليه السلام- لم يدل ِ بشهادته -كما هو الزعم أنه شهد- فهل كان الرسل الذين أرسلهم الله لإهلاك الغابرين يعودون إلى حيث أتوا دون أن يقوموا بما كُلفوا به، وهم الذين قالوا لإبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين}

فهل احتاج نزول العذاب بهؤلاء إلى شهادة رُسلهم أمام الملائكة؛ نقول: إن هذا الكلام الذي ذكره أبو السعود والمفسرون؛ وسبقه إليه ابن كثير حيث أورده من رواية قتادة والسدي؛ هذا الظن أنه منقول عن أهل الكتاب. وكذلك بالنسبة لعدد قرى قوم لوط؛ سواء كانت خمس مدائن، أو أقل أو أكثر؛ هذا كلام يحتاج إلى دليل؛ إذ إ ن ظاهر التنزيل والآيات يدل على أنها كانت قرية واحدة، قال - جلت قدرته -: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وقال - جلت حكمته -: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون} (العنكبوت: 34) وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن. وما ذكره المفسرون عن كيفية هلاك قوم لوط من أن جبريل جعل جناحه في أسفل القرية ثم رفعها إلى السماء حتى سمع نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم دون أن ينسب هذا القول لقائل هو من رواية السدي؛ كما ذكر ابن كثير وذكر ابن الجوزي أيضًا في تفسيريهما، وهذا يدل على أنه من الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب. وه ذ اهو صاحب (فتح القدير) الإمام الشوكاني يُبَيّن لنا أن ما ذكره المفسرون من ال روايات ليس في ذكره فائدة؛ وغالبه مأخوذ عن أهل الكتاب، وقد ذكر المفسرون -هذا قوله- روايات وقصصًا في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة، وليس في ذكرها فائدة؛ لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك وبين هلاك قوم لوط دهرٌ طويل لا يتيسر له في مثله إسنادٌ صحيح، وأكثره مأخوذ عن أهل الكتاب، وقد أُمرنا بألا نصدقهم، ولا نكذبهم؛ فاعرف هذا أخا الإسلام؛ فهي روايات من قصص الأنبياء؛ ليس لها مصدر ولا توثيق.

يقول صاحب (تفسير المنار) الشيخ محمد رشيد رضا: وفي خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات: أن جبريل -عليه السلام- قلعها من تخوم الأرض بجناحه، وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها، ثم قلبها قلبًا مستويًا؛ فجعل عاليها سافلها، وهذا تصورٌ مبني على اعتقاد متصوره: أن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب سكان الأرض وما فيها من الحيوان، ويبقون أحياء. وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلي أن الطيارات والمناضيد التي تحلق في الجو؛ تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها، وهم يصنعون أنواعًا منها يضعون فيها من الأكسجين وكذا وكذا، وقد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر بقوله: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: 125). فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبريل -عليه السلام- من الممكنات العقلية، وكان وقوعه من خوارق العادات؛ فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفًا على ما عرف من سنن الكائنات. قال، أي صاحب (المنار): نعم؛ ولكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمرٍ جاء على غير السنن والنواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه ولا علة على الأقل، ولم يذكر في كتاب الله تعالى شيء من هذا، ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا تظهر حكمة الله فيه، وإنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة، ولا شك أنه من الإسرائيليات.

ومما قالوه فيها: إن عدد أهلها كان أربعة ملايين، وبلاد فلسطين كلها لا تتسع لهذا العدد؛ فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع. والله تعالى أعلم بهذا الكلام. انتهى كلام الشيخ محمد رشيد رضا (تفسير المنار) الجزء الثاني عشر. ونخلص إلى أن ما ذكره القرآن الكريم موجز، وإشارات ليس فيها توسع ولا تفصيل لما نقل من الإسرائيليات، وتأمل أخا الإسلام؛ جبريل أتى ليزيل القرية معه قرار الإزالة والدمار، ورغم ذلك تجرأ أهل القرية وتمادوا في باطلهم وفي منكراتهم وفي فواحشهم؛ ألا يستحقون هذا العقاب الأليم، أن الله جعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد، وهكذا من ينكر شرائع الله ومن يكذبها ومن يتمرد على طاعة الله يستحق هذا العقاب الأليم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 17 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (1).

الدرس: 17 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (1).

تعريف الحديث الموضوع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (1)) تعريف الحديث الموضوع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ننتقل إلى النوع الثاني؛ وهو: الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة. ومما ينبغي أن يعرف أن الأحاديث الموضوعة هي شر أنواع الأحاديث الضعيفة؛ لأنه ينسب كذبًا وزورًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك أسوأ العواقب، وأشنع الآثار، كما أن الأحاديث الموضوعة أخطر شيء على الإطلاق في مجال التفسير بالمأثور؛ لأنه ينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيعتقد العامة صدقه فيؤمنون به؛ ويعملون بمقتضاه. ولهذا جاءت تحذيرات النبي -عليه الصلاة والسلام- من أن يقال عليه ما لم يقل، وتوعده لمن يسلك هذا المسلك بنار جهنم يوم القيامة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((من تعمد عليَّ كَذِبًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) وإن أشنع الكذب هو ما كان على رسول الله؛ إذ إن الكذب عليه ليس ككذبٍ على غيره من البشر، والكذب على رسول الله كذبٌ على الله سبحانه، وفي هذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((إن كذبًا علي َّ ليس ككذبٍ على أحد، فَمَن كذبْ علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعدَهُ من النار)) وعند ذلك نبدأ بتعريف الحديث الموضوع في اللغة والاصطلاح، ونتعرف متى نشأ الوضع في التفسير بالمأثور. الحديث الموضوع تعريفه لغة؛ مأخوذٌ من وضع الشيء يضعه وضعًا إذا حطه وأسقطه، أو من وضعت المرأة ولدها إذا ولدتْهُ؛ فالحديث الموضوع ساقط، ومنحط عن الاعتبار، ومتولد؛ لأنه شيء جَدَّ وَوُجِدَ ما كان موجودًا من قبل؛ هذا تعريفه في اللغة. أما في الاصطلاح؛ فأئمة الحديث، وعلى رأسهم الإمام النووي قد عَرَّفُوا هذا الحديث فقال: الحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المكذوب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو على من بعده من الصحابة والتابعين، وهو شر أنواع الضعيف، وهذا الحديث

الموضوع آثاره السيئة كثيرة وشديدة الخطر، وعرفه صاحب (الباعث الحثيث)، بقوله: الخبر الموضوع هو المختلق المصنوع، وهو الذي نسبه الكذابون المفترون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو شر أنواع الرواية. ونعود إلى هذا الحديث الموضوع سواء اختلقه الوضاعون من عند أنفسهم ونسبوه كذبًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أخذوه من كلام غيرهم من الإسرائيليات، أو حتى من كلام الصحابة، ونسبوه كذبًا إلى رسول الله، أو من كلام التابعين أو الصوفية أو الأطباء أو الحكماء، ثم ينسبونه كذبًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلقى رواجًا وقبولًا. فمن كلام الإسرائيليات الحديث الذي يروى كثيرًا ونصه: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". قال الإمام ابن تيمية: ليس له أصل معروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومثل الحديث المروي من الإسرائيليات أيضًا ومنسوب إلى ابن عباس؛ يعني: ممكن الحديث ينسب إلى رسول الله، وهو من اختلاق قائِلِهِ، أو ينقله عن آخرين، وينسبه إلى الرسول، ويمكن أن ينسبه إلى أحد أصحابه أيضًا، وهو نوع من الكذب؛ فقد روي أيضًا عن ابن عباس: "أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة" وهو أيضًا كلام غير صحيح. ومن كلام الصوفية ما نسبوه أيضًا إلى الحديث حتى جعلوه حديثًا قدسيًّا نصه: "كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق، فعَرَّفْتُهُم بي فعرفوني" هذه الأحاديث، وأنواع أخر سوف نذكرها، ونذكر منها نماذج عديدة؛ لنتعرف على ما ذكر تحت هذا العنوان في الأحاديث الموضوعة مما أفسد، وكان له آثار سيئة في كتب تراثنا، وبخاصة كتب التفسير. حكم الكذب على رسول الله باختصار: جمهور العلماء على أن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أكبر الكبائر، ومن أقبح الذنوب، بل عده أحد العلماء كفرًا،

فقد جزم الشيخ أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين جزم بتكفير واضع الحديث؛ الجويني هذا من بلد اسمها جوين ناحية من نواحي نيسابور، حكم بتكفير واضع الحديث، وهذا كلام ينسب إليه، ووافقه الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير المالكي صاحب التعليق وكشف الاعتزاليات في كتاب (الكشاف) للزمخشري، وتابعه أيضًا بعض الحنابلة، والإمام الذهبي وافقهم على هذا الرأي في تعمد الكذب في الحلال والحرام؛ قال: إن الكذب في الحلال والحرام يكفر به صاحبه، هذا باختصارٍ شديدٍ، ومعنا الحديث الذي بلغ مبلغ التواتر: ((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) الحديث متفق عليه، وروي من طرقٍ كثيرة حتى قال العلماء: إنه متواتر. والمسألة التالية هذا الوضع في التفسير بالمأثور -وضع الأحاديث- وامتلاء كتب التفسير بها متى نشأ؟ نشأ الوضع في التفسير مع نشأة الوضع في الحديث؛ لأن التفسير والحديث كانا مزيجًا لا يستقل أحدهما عن الآخر؛ فكما نجد الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف، وفي رواية من هو موثوق به، ومن هو مشكوك فيه، ومن عرف بالوضع نجد مثل ذلك فيما روي من التفسير، ومن روى من المفسرين. وكان مبدأ ظهور الوضع في الحديث، كما قال كثيرٌ من العلماء: سنة أربعين، أو إحدى وأربعين من الهجرة، كما ذكر شيخنا الشيخ الذهبي في (التفسير والمفسرون) أو في أواخر عصر الخلفاء الراشدين وأوائل عصر بني أمية حين وقعت الفتنة بين المسلمين، وتم أن قتل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- واختلف المسلمون سياسيًّا، وتفرقوا إلى شيعة وخوارج وجمهور أهل السنة، والخوارج يعادون الشيعة، وهناك فرق أخرى.

ووجد من أهل البدع من روجوا بدعهم وتعصبوا لأهوائهم، ودخل في الإسلام ناس من أهل البدع، ومن أبطن الكفر والتحق بالإسلام، ومنهم من أخفى إسلامه بغرض الكيد للإسلام، وتضليل أهله، فوضعوا الروايات الباطلة؛ ليصلوا بها إلى أغراضهِم السيئة ولينتصروا لفرقِهم ويؤيدوا مذاهبهم، واستمرت حركة الوضع تتضخم، وفشا الكذب وانتشر حتى امتلأت كتب التفسير وغيرها بالأباطيل. توالت حركة الوضع، فما أسبابها؟ نقول: لو نظرنا إلى أسباب الوضع في التفسير بالمأثور، وكتب التفسير بالمأثور هي أكثر كتب التفسير فيها قدر كبير من الأحاديث الموضوعة؛ أول الأسباب في وضع الأحاديث: الزندقة: تطلق الزندقة على أتباع دين المجوس مع التظاهر بالإسلام فهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وقد اتسع إطلاق الزندقة؛ فصارت تطلق على الملحدين الذين لا دين لهم، كما أطلقت أيضًا على الإباحيين الذين يتحججون بالقول فيما يمس الدين، وكان الطريق الذي سلكه الزنادقة لانتشار الزندقة هو الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإثارة الشبه، وسوق المطاعن؛ رغبة منهم في تنفير الناس من الإسلام والتحلل من أحكامه حتى تضعف قوة المسلمين. انظر (فتح المغيث) للإمام السخاوي، وانظر أيضًا كتاب (السنة النبوية في مواجهة التحدي) للأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم شيخنا؛ فقد نقل مثل هذا وبين أن أسباب الزندقة أو أسباب الوضع منها الزندقة والكراهية، والحقد الراسخ في أذهان أهله للإسلام، والمسلمين؛ فلما وجد هؤلاء الزنادقة أقدس مقدسات

المسلمين هو القرآن الكريم، ولما عجزوا من النيل من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد وعد بأنه حافظ كتابه، فهذا الوعد في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} (الحجر: 9) لما لم ينل هؤلاء مآربهم من النص القرآني مباشرةً؛ تصوروا أنهم سيجدون في التقول على نبي الإسلام والكذب عليه مآربهم، ومن هنا راحوا يدسون سمومهم، ويروجون أباطيلهم، يحللون بها الحرام، ويحرمون بها الحلال، ويدعون إلى مذاهب الكفر والإلحاد. انظر ما قاله الإمام السيوطي في (تدريب الراوي) قال: وضعت الزنادقة جملًا من الأحاديث يفسدون بها الدين، ولكن جهابذة الحديث؛ أي: رجاله ونقاده بينوا أنها موضوعة، وكشفوا زيفها، ولله الحمد. روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال: وضعت الزنادقة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعةَ عشر ألف حديث، منهم: عبد الكريم بن أبي العرجاء الذي قتل وصلب في زمن المهدي، قال ابن عدي: لما أخذ يضرب عنقه، قال: وضعت فيكم أربعةَ آلاف حديث؛ أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، هذا اعتراف لواحد من هؤلاء الزنادقة. ومن هؤلاء بيان بن سمعان النهدي الذي ظهر بالعراق بعد المائة، وادعى ألوهية علي، وزعم مزاعم فاسدة فقتله خالد بن عبد الله القسري على ذلك، وأحرقه بالنار. ويقول الحاكم: كمحمد بن سعيد الشامي المصلوب بالزندقة، فقد روى عن حميد عن أنس مرفوعًا: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله" وضع هذا الاستثناء؛ لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة، والدعوة إلى التنبؤ. انظر أيضًا: (تدريب الراوي) الجزء الأول، وانظر: (الملل والنحل) للشهرستاني، و (الباعث الحثيث) كلهم نقلوا لنا هذه النماذج من أسماء الزنادقة.

إذًا إن الزنادقة وضعوا قدرًا كبيرًا من الأحاديث في العقائد والأخلاق، والحلال والحرام؛ يفسدون بها الدين، ولكن اللهَ قيض للأمة الإسلامية من يحفظ لها دينها من إفساد هؤلاء الزنادقة وعبثهم؛ فقام جهابذة الحديث ونقاده ببيان هذه الأحاديث الموضوعة، وكشفوا عن بطلانها. ثانيًا نقول: من أسباب الوضع في الحديث غير الزندقة؛ مناصرة البدع والآراء والأهواء ومتابعة الضلالات واتباع الهوى دون دليل من القرآن أو السنة؛ ظل المسلمون فكرًا واحدًا وجماعة قوية متحدة لا يتحكم فيها هوى، ولا يتسلط عليها شيطان مدةً من الزمن إلى أن نجح أعداء الإسلام في زرع الفتنة، وهذه الفتنة التي تمثلت في قتل الخليفةِ الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فَإِثْرَ ذلك انقسم المسلمون بعد ذلك، انقسموا إلى شيعة وخوارج وجمهور أهل السنة، الشيعة هم الذين شايعوا عليًّا وقبلوا التحكيم، الخوارج هم الذين خرجوا على علي بعد قبول التحكيم وانصرفوا عنه وعادوا الشيعة، وكانت حجتهم أنهم: يعدون قبولَ التحكيم كفرًا، وظهر طبعًا جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة، وهم الذين وقفوا على الحياد، لم ينغمسوا في التشيع، ولم يخرجوا مع الخوارج؛ فلم يغمسوا أيديهم في تلك الفتنة، ولم يلوثوها ببدعة الخروج، ولا التشيع. كما ظهرت فرق كلامية كثيرة؛ كالمعتزلة بعد ذلك، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والكرامية؛ فرق كثيرة، وكان بالطبع لكل طائفة من هذه الطوائف آراء ومذاهب، وكل طائفة تدَّعِي أنها وحدها على الحق اليقين، وأن غيرها يهيم في ضلال مبين، بل نظرت كل فرقة إلى ظاهر النصوص من الكتاب والسنة، وحاولت من غير كللٍ أو ملل لَيَّ عنق النص -يعني: يؤولون الآيات والأحاديث بما يتفق مع أهوائهم، وينتصر لمذاهبهم ويا ليت الأمر وقف عند

هذا، بل ذهب بعضهم إلى وضع قدر كبير من الأحاديث، ونسبوها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو منها بَرَاء. يروي لنا الإمام ابن الجوزي بسنده عن شيخ من الخوارج قد تاب ورجع يقول هذا الشيخ: "إن هذه الأحاديث دين؛ فانظر وا عمن تأخذوا دينكم؛ فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا". كما يروي أيضًا ابن الجوزي بسنده إلى حماد بن سلمة، قال: حدثني شيخ لهم؛ الشيعة الرافضة، وهي فرق من شيعة الكوفة سموا بذلك؛ لأنهم رفضوا أي: تركوا زيد بن علي بن الحسين -رضي الله عنه- حين نهاهم عن الطعن في الصحابة، فلما عرفوا مقالته، وأنه لا يبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر رفضوه، ومن ثم استعمل هذا اللقب في كل من غلى في هذا المذهب، وأجاز الطعن في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: حدثني شيخ لهم عن الرافضة قال: كنا إذا اجتمعنا واستحسنا شيئًا جعلناه حديثًا. وقال الحاكم أيضًا: كان محمد بن القاسم الطيكاني من رءوس المرجئة، وكان يضع الحديث على مذهبهم، ثم روى بسنده عن المحاملي قال: سمعت أبا العيناء يقول: أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك، وأدخلناه على الشيوخ ببغداد قبلوه، إلا ابن أبي شيبة العلوي؛ فإنه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوله، وأبى أن يقبله. وإذا كانت هذه الفرق المبتدعة قد وضعت كل هذه الأحاديث لخدمة أغراضها؛ فإن علماء المسلمين أصحاب العقيدة السليمة قد تنبهوا لها منذ مولدها، وكانوا لها بالمرصاد.

روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. مقدمة الإمام مسلم في صحيحه. السبب الثالث من أسباب الوضع في الحديث؛ التعصب العنصري؛ وفي هذا الصدد نجد الشعوبية وضعت أحاديث كثيرة، الشعوبية فرقة تحقر أمر العرب، وتفضل العجم على العرب، وقد نشأت هذه الفرقة في أواخر العهد الأموي، وقويت في عهد الخلفاء العباسيين، الشعوبية وضعوا بعض الأحاديث في تفضيل الفرس على العرب، وفي تفضيل بلدانهم، وعلمائهم وكذلك اللغة الفارسية مع غيرها مثل حديث: "إن كلام الله حول العرش بالفارسية، وإن الله إذا أوحى بأمر فيه شدة أوحاه بالعربية" سبحان الله حديث واضح يحقرون فيه لغة العرب. والعبارة الأخرى: "إذا أوحى بأمر فيه شدة أوحاه بالعربية" يريدون أن يبغضوا إلى الناس اللغة العربية. قال الإمام الشوكاني: هذا الحديث رواه ابن عدي عن أبي أمامة مرفوعًا، وهو موضوع وباطل، لا أصل له، وكل ما ورد في هذا المعنى فهو موضوع، ومن زعم غير ذلك فقد تعسف. ومن ذلك أيضًا ما وضعوه في منقبة أبي حنيفة النعمان: بأنه من أصل فارسي، ومن ذمٍّ للشافعي؛ لأنه عربي، كحديث: "يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة، وهو سراج أمتي هو سر أمتي". انظر: (تدريب الراوي) للسيوطي سبحان الله انظر كيف ينتصرون لأبي حنيفة وهو الإمام، ويذمون الشافعي وهو إمام؛ تعصبًا للعجمية والفارسية وضد العروبة.

ومن أمثلة ما وضعوه في هذا المجال حديث: "يكون في أمتي رجل يقال له النعمان بن ثابت يكنى أبو حنيفة، يحيي الله على يديه ديني، وسنتي" (تدريب الراوي). رابعًا: التعصب المذهبي الفقهي الممقوت؛ فالتعصب ينتج عن الجهل حيث لم يأخذ أصحاب التعصب المذهبي الفقهي بالمبدأ المتفق عليه بين أئمة الفقه، ونادى به كل صاحب مذهب، وهو إذا صح الحديث فهو مذهبي؛ لم يأخذوا بهذا الكلام. فالتعصب الممقوت قد يدفع بعض أصحاب التعصب المذهبي إلي وضع أحاديث تؤيد وتشهد لهم بصحة ما يرون. ومن ذلك ما روي: أنه قيل لمحمد بن عكاشة الكرماني: إن قومًا يرفعون أيديهم في الركوع، وفي الرفع فيه؛ فقال: حدثنا المسيب بن واضح عن أنس مرفوعًا: "من رفع يديه في الركوع؛ فلا صلاة له" حديث أخرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) قال الشوكاني: رواه الجوزقاني عن أنس مرفوعًا، وهو موضوع، والمتهم به محمد بن عكاشة الكرماني. وهكذا كان للتعصب المذهبي أثره السيئ على الثقافة الإسلامية؛ حيث كان كل صاحب مذهب يكذب، وينسب أحاديث مكذوبة، ويرفعها كذبًا انتصارًا لمذهبه. خامسًا: من الأسباب استرضاء الخلفاء والحكام، والتقرب إليهم بما يوافق هواهم؛ لقد بلغ من بعض النفوس الضعيفة التي أحبت الدنيا، ورغبت في متاعها الزائل أن وضعت الأحاديث، ورأت أن ذلك خير وسيلة للتزلف والتقرب إلى الأمراء، والتقرب إلى الخلفاء؛ لما يوافق هواهم، ويساير رغباتهم؛ بسبب ذلك ما روي عن غياث بن إبراهيم حيث وضع للمهدي في حديث: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح" فزاد فيه كلمة أو جناح، والحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وكان المهدي إذ ذاك يلعب بالحمام؛ فتركها بعد

ذلك، وأمر بذبحها، وقال: أنا حملته على ذلك؛ يعني أدرك هذا الأمير أن الحديث زيد فيه، وكذب فيه بزيادة لفظ "أو جناح"، وذكر: أنه لما قام قال هذا الخليفة: أشهد أن قفاك قفا كذاب. وقد يحمل هذا النوع بعدًا سياسيًّا، كما حكى أبو عبد الله ولي المهدي، قال: قال لي المهدي: ألا ترى ما يقول لي مقاتل، قال: إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس، قال: لا حاجة لي فيها سبحان الله. سادسًا: من الأسباب أيضًا التي روجت للأحاديث الموضوعة الترغيب والترهيب مع الرغبة في الخير والجهل بالدين؛ وذلك أن قومًا من العباد والزهاد رأوا الناس قد انصرفوا عن القرآن، فأرادوا أن يصرفوهم إلى القرآن ويعيدوهم إليه، وإن كانت الوسيلة في ذلك غير مشروعة، وتتمثل في الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد فعلوا ذلك. ومن أمثلة ما وضع حسبة ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قال لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق؛ فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لأبي عصمة هذا: نوح الجامع، قال ابن حبان: نوح هذا جمع كل شيء إلا الصدق. وروى ابن حبان في (الضعفاء) عن ابن مهدي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث؟ من قرأ كذا فله كذا، ومن قرأ سورة كذا فله كذا؟، قال: وضعتها أرغب الناس، وهذا العمل مع ما فيه من حسن النية إلا أنه مردود غير مقبول؛ لأن النصوص الشرعية فيها من الترغيب والترهيب ما يجعلنا في غنًى عن هذا الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا العمل كأنه استدراك على الله وهو

يتنافى مع قول الله -عز وجل- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3). على كل حال أيًّا كان الكذب الكذب للقرآن أو لرسول الله هو كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتناوله عموم الحديث الذي مضى، وقلنا: إنه متواتر: ((من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)). سابعًا: من الأسباب التي أدت إلى نشر وفشو الأحاديث الموضوعة؛ حب الظهور؛ حب الظهور حمل أصحابه على الوضع في الحديث فجعلوا لذي الإسناد الضعيف إسنادًا صحيحًا، وجعل بعضهم الحديث إٍسناده غير إسناده المشهور ليستغرب ويطلب، قال الحاكم أبو عبد الله: ومن هؤلاء إبراهيم بن اليسع، وهو ابن أبي حية كان يحدث عن جعفر الصادق وهشام بن عروة فيركب حديث هذا على حديث ذلك؛ لتستغرب بتلك الأحاديث بتلك الأسانيد، قال: ومنهم حماد بن عمرو النصيحي، وبهلول بن عبيد، وأصغم بن حوشب. قال الحافظ ابن حجر: وهذا داخلٌ في قسم المقلوب، نوع من الأحاديث الضعيفة الأحاديث المقلوبة يأخذ سند هذا على الحديث الآخر وسند الحديث الآخر على الحديث الأول، ويقلب هذا وذاك. ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) فيقول: روى مسلم بن الحجاج: أن يحيى بن أكثم دخل مع أمير المؤمنين حمص فرأى كل من بها شبيه الثيران، فدخل شيخ على رأسه ديبة، وله جبة، فأدناه، وقال: يا شيخ من أنت؟ قال: استغنيت عن جميع الناس بشيخي، قال: ومن لقي شيخك، قال الأوزاعي: عن من؟ قال: عن مكحول، قال: ومكحول عن من؟ قال: عن سفيان بن عيينه، قال: وسفيان عن من؟ قال: عن عائشة، قال له: يحيى قال: يا شيخ أراك تعلو إلى أسفل" نقل هذا الحديث ابن الجوزي في (الموضوعات).

تاسعًا: من الأسباب في الوضع؛ طلب الدنيا بذكر غرائب القصص وأعاجيب الروايات يستميلون بها الناس؛ لقد استغل بعض القصاص ميول الفطرة إلى استماع ما كان غريبًا عن الطبائع؛ فكذبوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورووا الأعاجيب والغرائب والأشياء التي لا تصدق؛ يستميلون بها الناس. روى ابن الجوزي في (الموضوعات) بسنده إلى جعفر بن محمد الطيالسي قال: صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهِم رجل قاص -يعني: يذكر قصصًا- فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال لا إله إلا الله؛ خلق الله من كل كلمة منها طيرًا منقاره من ذهب، وريشه من مرجان، وأخذ في قص نحو عشرين ورقة؛ فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى بن معين الذي قال الراوي هذا: إن الرواية عنهما، وأخذ يحيى ينظر إلى أحمد فقال له: أنت حدثته بهذا؟ قال: والله ما سمعت بهذا إلا الساعة، فلما فرغ من قصصه وأخذ القطيعات، ثم قعد ينتظر بقيتها، قال له يحيى بن معين بيده تعالى؛ فجاء متوهمًا النوال، ظنه سيعطيه من الأموال والعطايا الكثير، فقال له يحيى: من حدثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال: أنا يحيى بن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كان لا بد والكذب فعَلَى غيرنا، فقال له: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم، قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق ما تحققته إلا هذه الساعة، قال له يحيى: كيف علمت أنني أحمق؟ قال: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، قد كتبت عن سبعة عشرة أحمد بن حنبل ويحيي بن معين، فوضع أحمد كُمَّهُ على وجهه يغطي وجهه، وقال: دعه يقوم فقام كالمستهزئ بهما.

والروايات في هذا كثيرة؛ بعض الذين يكذبون إذا استنكر من يقومه ويصحح كذبه أو يكشف كذبه كان يضرب العالم الذي يصحح له كذبه. عاشرًا: إقامة دليل على ما أفتى؛ قال الإمام السيوطي -رحمه الله-: وهناك درب يلجئون إلى إقامة دليل على ما أفتوا به بآرائهم فيضعون؛ أي: يكذبون، وقيل: إن الحافظ أبا الخطاب بن دحية كان يفعل ذلك؛ وكأنه الذي وضع الحديث في قصر المغرب، ومن ذلك ما رواه ابن الجوزي عن سعيد بن طريف: أنه رأى ابنه يبكي، فقال: ما لك؟ قال: ضربني المعلم، فقال: أما والله لأخزينهم، حدثني عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "معلمو صبيانِكُم شرارُكُم". انظر: (الموضوعات) لابن الجوزي هكذا كانوا يكذبون؛ ليقيموا دليلًا على ما أفتوا به من القول. الحادي عشر: وهو ما ذكره الإمام السيوطي بقوله: وهناك درب امتحنوا بأولادهم أو ربائب أو وراقين فوضعوا لهم أحاديث ودسوها عليهم، فحدثوا بها من غير أن يشعروا كعبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي، وكحماد بن سلمة ابتلي بربيبه ابن أبي العرجاء؛ فكان يدس في كتبه، وكعمر كان له ابن أخ رافضي فدس في كتبه حديثًا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس قال: نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى علي، فقال: "أنت سيد في الدنيا، وسيد في الآخرة، ومن أحبك فقد أحبني، وحبيبي حبيب الله وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك بعدي". فحدث به عبد الرزاق عن معمر وهو باطل موضوع. كما قال ابن معين. هذه هي الأسباب حول الوضع وأسباب انتشاره في التفسير وفي كتب التفسير في بالمأثور على وجه الخصوص.

علامات الحديث الموضوع.

علامات الحديث الموضوع علامات الحديث الموضوع: إنها علامات متنوعة؛ فمنها ما هو خاص بالراوي، ومنها ما هو خاص بالمروي؛ المتن الكلام نفسه، ومنها ما يشمل الأمرين معًا. فمن العلامات الموجودة في الراوي: أن يُقِرَّ الراوي بأنه هو الذي وضع الحديث، كما أقر ميسرة بن عبد ربه الفارسي، أنه هو الذي وضع أحاديث في فضل القرآن، سورةً سورة، وكما اعترف عمر بن صبح بوضع خطبة على النبي -صلى الله عليه وسلم. وقد اعترض ابن دقيق العيد على الحكم بالوضع بإقرار من ادعى وضعه، كيف يعمل بقوله مع اعترافه بالوضع؟ يعني: إذا كان هو كذابًا، فكيف يعمل بقوله؟ ثم أجاب عن هذا الاعتراض بقوله: وهذا كاف في ردِّهِ كونه يكذب ويضع، فما يرويه وينقله بعد ذلك مردود، لكن ليس بقاطع في كونه موضوعًا؛ لجواز أن يكذب في هذا الإقرار بعينه، هكذا ذكر الإمام السيوطي، قال ابن عراق: وإنما هو مؤاخذة له بموجب إقراره، كما يؤخذ الشخص باعترافه بجريمة الزنا، أو جريمة القتل، ونحو ذلك. ثانيًا: من العلامات الموجودة في الراوي؛ ما يُنَزَّل منزلة إقراره بالوضع بأن يكون هناك قرينة مانعة من صحة الحديث، كأن يروي الحديث عن شخص ثم لم يثبت لقاؤه به، أو أنه ولد بعد وفاته، أو أنه لم يدخل المكان الذي ولد فيه. قال الإمام السيوطي: سأل إسماعيل بن عياش رجلًا اختبارًا، أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟ قال: سنة ثلاثة عشرة ومائة، فقال: أنت تزعم أنك سمعت منه بعد موته بسبع سنين؛ فإنه مات سنة ستٍّ ومائة.

وسأل الحاكم محمد بن حاتم الكيني عن مولده لما حدث عن عبد بن حميد، فقال: سنة ستين ومائتين، فقال: هذا سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة، هذا كلام (تدريب الراوي) على ما في هذه العبارات من أخطاء. ولهذا فقد اهتم المحدثون بمعرفة وفيات الرواة ومواليدهم، ومقدار أعمارهم، وهو فن عظيم يعرف به اتصال السند وانقطاعه، ويعرف به كذلك الكذابون والمدلسون، قال سفيان الثوري: لما استعمَلَ الرواةُ الكذبَ؛ استعملنا لهم التاريخ. ننتقل إلى علامات الوضع المتعلقة بمتن الحديث؛ أي: إلى الكلام نفسه؛ فمن علامات الوضع التي ترجع إلى الكلام نفسه: أن يكون الحديث مخالفًا للقرآن الكريم؛ مثال ذلك حديث: "إذا روي عني حديث فعرضوه على كتاب الله، فإذا وافقه فاقبلوه، وإن خالفه فردوه". قال عنه الإمام الشوكاني: قال الخطابي: وضعته الزنادقة، ويدفعه حديث ((أوتيت الكتاب ومثله مع)) كذا قال الصنعاني: قلت: وقد سبقهما إلى نسبة وضعِهِ إلى الزنادقة الإمام يحيى بن معين، كما حكاه عنه الذهبي على أن في هذا الحديث الموضوع نفسه ما يدل على رده؛ لأنا إذا عرضناه على كتاب الله -عز وجل- خالفه؛ ففي كتاب الله -عز وجل- قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7). فإن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل بنص القرآن: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) وهذه الآية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} فكل ما يأتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصح نقله عنه يقبل، ولن نجد فيه مخالفةً لما في كتاب الله؛ لأن مصدرَ الوحي واحدٌ، والله -جل جلاله- يقول: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 2 - 4).

ثانيًا: من علامات الوضع الراجعة إلى متن الحديث: أن يكون الحديث مخالفًا للسنة مثاله الحديث: "إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق؛ فخذوا به حدثت به أو لم أحدث" فهذا مناقض لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتواتر السابق ذكره: ((من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). وثالثًا: أن يكون الحديث مخالفًا للإجماع، وذلك مثل حديث: "من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان؛ كان ذلك جابرًا لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة" قال القاضي عن هذا الحديث: باطل؛ لأنه مناقض لإجماع الأمة، على أن شيئًا من العبادات لا تقوم مقام صلاة فاتته سنوات، ثم لا عبرة بنقل النهاية ولا تبعية. (شرح الهداية) فإنهم ليسوا من المحدثين، ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرجين. رابعًا: من علامات الوضع التي تعود إلى متن الحديث: أن يكذبه الحس والمشاهدة وترده، كحديث ما ورد في بعض الخضر، والمطعومات "إنما الباذنجان شفاء من كل داء، ولا دواء فيه" قال عنه ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا سقى الغيث قبر من وضعه؛ لأنه قصد شين الشريعة؛ بنسبة رسول الله إلى غير مقتضى الحكمة والطب، ثم نسبه إلى ترك الأدب في أكل باذنجانة في لقمة إلى أن يقول: والمتهم في هذا الحديث أحمد بن محمد بن حرب، قال ابن عدي: كان يتعمد الكذب، ويلقن فيتلقن، وهو مشهور بالكذب، ووضع الأحاديث. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس: 18 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (2) - نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (1).

الدرس: 18 الدخيل في المنقول عن طريق الأحاديث الموضوعة (2) - نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (1).

تابع علامات الحديث الموضوع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (الدخيل في المنقو ل عن طريق الأحاديث الموضوعة (2) - نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (1)) تابع علامات الحديث الموضوع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: العلامة الخامسة من علامات الحديث الموضوع - العلامة التي تعود إلى النص-: أن يكون الحديث مخالفًا للعقل، ومثل هذا ما ذكر له السيوطي أمثلة، بقوله: ومن المخالف للعقل ما رواه ابن الجوزي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعًا، وصَلَّتْ عند المقام ركعتين" وسبق هذا الحديث، فيما تكلمنا عن الدخيل في سفينة نوح -عليه السلام. وقد أسند من طريقه محمد بن شجاع البلخي، عن الحسان بن هلال، عن حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله خلق الفَرَسَ فأجراها فعرقت، فخلق نفْسَهُ منه" هذا الحديث سنورده بتفصيل أكثر ونعرف أنه لا يضعه مسلم ولا عاقل، فهذا الحديث كما نقلته كتب النقد البينة الواضحة؛ قد نقل عن ابن قتيبة. الحديث يدخله الشوب والفساد من وجوه ثلاثة من الزنادقة واجتيالهم للإسلام، وكالأحاديث التي ذكروها من عرق الخيل، وعيادة الملائكة، وقصص الذهب على جملٍ أورق، وزغب الصدر، ونور الذراعين، مع أشياء لا تعقل، وليست تخفى على أهل الحديث. قال شيخنا أبو شهبة، وهو يروي لنا هذا الحديث بتفصيل، يقول: حديث عرق الخيل هو ما روي كذبًا " أن الله لما أراد أن يخلق نفسه، خلق الخيل وأجراها فعرقت، فخلق نفسه منها"، قال ابن عساكر: هذا حديث موضوع، وضعه الزنادقة؛ ليشنعوا على أهل الحديث في روايتهم المستحيلَ، وهو مما يقطع ببطلانِهِ عقلًا وشرعًا.

أما حديث عيادة الملائكة: فهو ما روي كذبًا أيضًا "أن الله اشتكت عيناه، فعادته الملائكة" وأما حديث قصص الذهب فلعل المراد به ما روي كذبًا "ينزل ربنا عشية عرفه على جمل أورق، يصافح الركبان ويعانق المشاة" قال العلامة ابن تيمية: هو من أعظم الكذب، أما حديث زغب الصدر؛ فهو أيضًا ما روي زورًا "خلق الله تعالى الملائكة من شعر ذراعيه وصدره، أو نورهما". أحاديث كلها كذب لا تقبل لا عقلًا ولا شرعًا ولا منطقًا، وربما يكون لنا عودة إلى أنواع من الأحاديث، التي ذكرتها الفرق الضالة والزنادقة، كما فعلت الخوارج والقدرية والمرجئة والكرامية والباطنية. ونظرة سريعة: الخوارج: هم الذين خرجوا على علي ومعاوية وأتباعهما، بعد ارتضاءِ عليٍّ ومعاوية بالتحكيم، وقالوا -أي الخوارج-: لا حكم إلا لله. القدرية هم الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، فقد سلبوها عن الله سبحانه ونسبوها لأنفسهم. المرجئة: هم الذين يؤخرون الأعمال عن الإيمان، ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفرِ طاعة. أما الكرَّامية: فهم أتباع محمد بن كرَّام السجستاني. الباطنية: هم الذين يقولون: إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، والمراد الباطن، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر، ولهؤلاء أحاديث وضعوها تؤيد مذاهبهم، وينتصرون بها لأهوائهم، لنا عودة إلى نماذج من كلام هؤلاء فيما يأتي -إن شاء الله.

نعود إلى استكمال هذا الحديث، الذي ذكره لنا الإمام السيوطي -رحمه الله- في (تدريب الراوي)، يقول: هذا الحديث: "إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت، فخلق نفسه منه" لا يضعه مسلم ولا عاقل، والمتهم به محمد بن شجاع كان زائغًا في دينه، وفيه أبو المهزم؛ قال شعبة: رأيته ولو أعطي درهمًا وضع خمسين حديثًا. سادسًا: من علامات وضع الحديث الراجع إلى متنه: أن يكون الحديث مخالفًا لما ثبت من حقائق تاريخية. وذلك كالحديث الذي رواه ابن الجوزي في (الموضوعات) في فضائل السيدة فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث وَرَدَ من طريقين عن عمر -رضي الله عنه- ومن أربعة طرق عن عائشة -رضي الله عنها- وينص هذا الحديث على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيرًا ما يقبل فاطمة، فقالت له أم المؤمنين عائشة: يا رسول الله، أراك تفعل شيئًا لم تفعله، قال: "أو ما علمتي يا حميراء، أن الله -عز وجل- لما أسري بي إلى السماء أمر جبريل فأدخلني الجنة، ووقفني على شجرة، ما رأيت أطيبَ منها رائحةً، ولا أطيبَ ثمرًا، فأقبل جبريل يفرك، ويطعمني، فخلق الله -عز وجل- في صلبي منها نطفة، فكما صرت إلى الدنيا، وو اقعت خديجة فحملت بفاطمة، كلما اشتقت إلى رائحة تلك الشجرة شممت نحو فاطمة، فوجدت رائحة تلك الشجرة فيها، وأنها ليست من نساء أهل الدنيا، ولا تفعل، كما يفعل أهل الدنيا". هناك روايات فيها أكثر من ذلك، قال عن هذا الحديث ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، لا يشك المبتدئُ في العلم في وضعه، فكيف بالمتبحر؟ ولقد كان الذي وضعه أجهل الجهال بالنقل والتاريخ، فإن فاطمة ولدت قبل النبوة بخمسِ سنين، وقد تلقفه منه جماعة أجهل منه؛ فتعددت طرقه، وذكره الإسراء كان أشد لفضيحته، فإن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة بعد موت خديجة -رضي الله عنها- فلما

هاجر أقام بالمدينة عشر سنين، فعلى قول من وضع هذا الحديث يكون لفاطمة يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين وأشهر. وقال عنه الحافظ ابن حجر: فاطمة ولدت قبل ليلة الإسراء بالإجماع، وقال الذهبي: فاطمة ولدت قبل النبوة فضلًا عن الإسراء، كل هذا يدل على أن راوي هذا الحديث واضح كذبه، فقد ذكر ولادتها بعد التوقيت الصحيح بسنين طويلة. سابعًا: من علامات الوضع في الحديث: أن يكون الخبر مخالفًا لسنة الله في الكون والإنسان، وذلك مثل حديث: "ابنتي فاطمة حوراءُ آدميةٌ، لم تحض ولم تطمث، وإنما سماها الله فاطمة؛ لأن الله تعالى فطمَهَا وحجبَهَا عن النار"، قال ابن عراق تعقيبًا على هذا الحديث: أخرجه الخطيب من حديث ابن عباس، وقال: ليس بثابت، وفيه غير واحد من المجهولين. ثامنًا: أن يكون الخبر ركيكًا؛ هذه علامة من علامات الوضع الراجعة إلى متن الحديث: أن يكون الخبر ركيكًا في معناه؛ سواء اجتمعت مع ركاكة المعنى ركاكة في اللفظ أو لا، قال الحافظ ابن حجر: المدار في الركة ركة المعنى، فحينما وجدت دلت على الوضع، وإن لم ينضم إليها ركةُ اللفظ؛ لأن هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداءة، أما ركاكةُ اللفظِ؛ فلا تدل على ذلك؛ لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى؛ فغيَّرَ ألفاظه بغير فصيح. تاسعًا: من علامات الوضع: أن يشتمل الحديث على إفراط ومبالغة في الثواب العظيم على العمل اليسير، أو اشتماله على المبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير. وأكثر ما يكون ذلك في أخبار القصاص وحكايات المتصوفين، مثال ذلك حديث "من سمع سورة " يس " عدلت له عشرين دينارًا في سبيل الله، ومن قرأها عدلت له عشرين حجة، ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف يقين، وألف نور، وألف رحمة، وألف رزق، وألفَ هداية، ونزعت منه كل غل".

قال عنه الإمام الشوكاني: رواه الخطيب عن علي -رضي الله عنه- مرفوعًا، وهو ضعيف. ومثال الثاني؛ أن يكون فيه وعيد شديد على العمل اليسير، حديث "من لم يداوم على أربع قبل الظهر، لم تنله شفاعتي" قال ابن عراق الدمشقي: سئل عنه الحافظ ابن حجر، فقال: لا أصل له. ومن ذلك خبر "من أعان تارك الصلاة بلقمة، فكأنما أعان على قتل الأنبياء كلهم" قال الشوكاني: قال السيوطي في (الذيل): موضوع. عاشرًا: من علامات الوضع: أن يكون الراوي رافضيًّا والحديث في فضائل آل البيت؛ لأن الروافض متعصبون لآل البيت، وذلك مثل حديث "خلقت أنا وعلي من نور، وكنا على يمين العرش، قبل أن يخلق آدم بألفي عام، ثم خلق الله آدم، فانقلبنا في أصلاب الرجال، ثم جعلنا في صلب عبد المطلب، ثم شق أسماء نا من اسمه، فالله محمود، وأنا محمد، والله الأعلى، وهذا علي" قال الشوكاني: هو موضوع، وضعه جعفر بن أحمد بن علي، وكان رافضيًّا وضاعًا. وقد يعرف الوضع أيضًا، وهذا رقم حادي عشر والأخير: يعرف الوضع بقرائن في الراوي؛ وهذه الأشياء ترجع إلى الراوي أو المروي أو فيهما معًا، ومثال ذلك ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التيمي، أنه قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكُتَّابِ يبكي، فقال: ما لك؟ قال: ضربني المعلم، قال: لأخزينه اليوم، الحديث الذي سبقه، فقال الحديث، حدثني عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا: "معلمو صبيانكم شراركم؛ أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين" هذا كلام واضح أنه موضوع من كلام الراوي، وسع ي د بن طريف هذا المذكور في السند، قال فيه يحي بن معين: لا يحل لأحدٍ أن يرويَ عنه، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث، وراوي القصة عنه سيفُ بن عمر، قال فيه الحاكم: اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط.

حكم رواية الحديث الموضوع.

حكم رواية الحديث الموضوع إذا كانت هذه الأحاديث الموضوعة بهذه الكثرة، على اختلاف أسبابها، وعلى اختلاف علامات الوضع، فهل يجوز روايةُ الحديث الموضوع؟ الحقيقة: لا تجوز رواية الحديث الموضوع، إلا إذا جاء مقترنًا ببيان وضعه، والنص على كذبه، حتى لا يعتقد الناس في صحته، ويعملون بمقتضاه، ويأخذ ابن الجوزي -رحمه الله- على بعض العلماء، روايةَ الموضوع من غير تبيينٍ لدرجتِه، أو كشف وضعه، ويعتبرُهُ من تلبيس إبليس عليهم، يقول ابن الجوزي: ومن تلبيس إبليس على علماء المحدثين رواية الحديث الموضوع من غير أن يبينوا أنه موضوع، وهذه جناية منهم على الشرع، ومقصودهم ترويج أحاديثهم وكثرة رواياتهم. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من روى عني حديثًا، يُرَى أنه كذب -أو يرى- أنه كذب، فهو أحد الكاذِبَين، أو الكاذِبِين)) يقرئ الحديث بالتشكيلتين. ((ي ُ رى)) أي: يظن أنه كذب، حتى مجرد أن تظن أن هذا كذب على رسول الله، فمن ينقله يعتبر مشاركًا في الكذب على رسول الله، ((أو يَرَى)) ويعلم أنه كذب تكون المصيبة والإثم أعظم، ((فهو أحد الكاذ ِ ب َ ين)) كأن الذي يكذب، الذي ينقل الحديث عن الكذابين وقائله الذي كذب أولًا، أو ((هو أحد الكاذ ِ ب ِ ين)) كأن الكاذبين هم جملة، وهو واحد منهم. هكذا قال العلماء سلفًا وخلفًا، لا يحل رواية الحديثِ الموضوع في أيِّ بابٍ من الأبواب، سواء كان في الحلال والحرام، أو في الترغيب أو في الترهيب، أو في

الأحاديث الموضوعة في فضائل سور القرآن.

القصص أو نحو ذلك، إلا مقترنًا ببيان أنه موضوع ومكذوب؛ سواء كان في الحلال والحرام، أو في التواريخ، أو في أيِّ نوعٍ من أنواعِ الموضوعاتِ. وفي حكم الموضوعات الإسرائيليات، التي أُلْصِقَت كذبًا وزورًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن فاعل ذلك يستوجب التأديب والعقاب، بل يستوجب الضرب الشديد والحبس الطويل كما نقل عن الإمام البخاري، بل بالغ بعض العلماء؛ فأحل دمَ من يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نقل شيخنا الدكتور محمد أبو شهبة هذا الرأي عن يحيى بن معين -رحم الله الجميع. هذه خلاصة حكم رواية الحديث الموضوع. الأحاديث الموضوعة في فضائل سور القرآن ولشيخنا الشيخ أبو شهبة في هذا المجال نقل عن عمر بن الخطاب وعن علمائنا ورجالنا، يحذرونا أشد التحذير من رواية هذه الأحاديث الموضوعة؛ لأنها تفسد عقائد الأمة وتؤثر في من يقرؤها؛ إذ إنه يرى في هذه الأحاديث طعنا في ديننا وثقافتنا الإسلامية. ولا مانع أن نمر سريعًا على ما نقل عن بعض هؤلاء الفرق، التي نقلت أحاديث ودسوها في كتب التفسير، هناك الخوارج والقدرية والفرق الأخرى وضعوا أحاديث تؤيد مذاهبهم، قال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم إنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من هذا، وتفاقم الأمر في الفلاسفة؛ فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه. فالرافضة مثلًا يقولون في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1)، يقولون هما أبي بكر وعمر، ويقولون في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65)، يقولون: أي بين أبي بكر وعمر، وعلي في الخلافة: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}

كأن الخطاب إن أشركت أب ابكر وعمر في الخلافة، وقالوا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة: 67) قالوا: المراد عائشة، وقالوا في قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (التوبة: 12) قالوا: هم طلحة والزبير، وقالوا في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (الرحمن: 19) والآية: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 22) {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} علي وفاطمة، {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الحسن والحسين، وقالوا: إنما وليكم في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة: 55) قالوا: هو علي. ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، في أن عليًّا تصدق بخاتمه، وهو في الصلاة، وسنذكر ذلك فيما يستقبل -إن شاء الله. في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 157) قالوا: نزلت في علي لما أصيب بحمزة، ومما يقارب هذا ما ذكروه أيضًا في قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران: 17)، إن {الصَّابِرِينَ} رسول -صلى الله عليه وسلم- {وَالصَّادِقِينَ} أبو بكر {وَالْقَانِتِينَ} عمر، {وَالْمُنْفِقِينَ} عثمان {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ} علي، مع أن الصفات طيبة، لكن هذا لم يرد فيه تحديد، هناك كلام كثير نغض الطرف عنه الآن، ولنعد إلى نماذج من الأحاديث الموضوعة الأخرى. ونبدأ بأشهر ما ورد في هذا النوع من الأحاديث الموضوعة. نقول: لا نقصدُ في ذكر الأحاديث الموضوعة في مجال التفسير، أن نستقْصِيَ كل ما ذُكِر، إنما نشير إلى نماذج منها، وعلى سبيل الإجمال ودون تفصيل، فإن الحقيقة التي لا تخفى، ولا تغيب، أننا لو أردنا استقصاء، واستقراء كل ما ورد من الأحاديث الموضوعة أو الإسرائيليات مما يسمى الدخيل والموضوعات في

كتب التفسير، فإنها تحتاج إلى عشرات الساعات، وبما أننا محكمون بمنهج محدد، فسنورد نماذج على سبيل الذكر والمثال، لا على سبيل الحصر والإحصاء. من تلك الأحاديث: الأحاديث الموضوعة في فضائل سور القرآن، ومنها أيضًا سنعرفُ بعد ذلك ما وَرَدَ في أسبَابِ النُّزُولِ، فإنَّ العَاقِلَ عندما يستقرئُ كتبَ التفسير، يرى الكَمَّ الكثيرَ، والقدرَ الهائلَ في الموضوعاتِ؛ إما فِي فَضَائلِ السور، أو في فواتح السور، أو في قصص الأنبياء، أو في أسباب النزول، على كل حال معظم ما أورده المفسرون في فضلِ سورِ القرآنِ أحاديث موضوعة، وانتبه أخَا الإسلام ليست كلُّ الأحاديث التي وردت في فضائلِ السورِ موضوعة، هناك سور صح في فضلها أحاديث بينها الإمام السيوطي، ونحن إذا رجعنا إلى هذه الأحاديث سنرى أنها صحيحة في بعض السور، وقليل من الآيات. إنما الحديث الذي شَمَلَ كُلَّ السورِ المائة والأربع عشرة سورة، ال حديث ال مشهور المروي عن أُبَي بن كعب هو حديث موضوع -إن شاء الله. والأحاديث التي وردت وصحَّتْ في فضائل بعض السور، هي كما بينَهَا الإمام السيوطي، بقوله: واعلم أن السورَ التي صَحَّتْ الأحاديث في فضلها هي الفاتحة، والزهراوان - البقرة وال عمران - وسورة الأنعام، والسبع الطوال -الطول جمع طول ى، والطوال جمع طويلة - وهي البقرة وأل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وبراءة أو الأنفال مع براءة، على كل حال مجملًا، وسورة الكهف، وسورةُ يس، والدخان، والملك، والزلزلة، والنصر، والكافرون، والإخلاص، والمعوذتين، وما عداها لم يصح فيه شيء. نتحفظ قليلًا على كلام الإمام السيوطي، فأحاديث الفاتحة صحيحة والزهراوين والأنعام والكهف، أما حديث يس؛ فقد صححه البعض وحسنه آخرون

وضعفه آخرون، وكذلك ما ورد في الدخان والملك والزلزلة، أما سورة النصر والإخلاص والمعوذتين؛ فالأحاديث فيها صحيحة، ومعظمها متفق عليه. على كل حال: من الأحاديث الموضوعة في فضائل السور؛ ما ذكره أبو السعود، وعند الانتهاء من سورة " يونس "، ذكر حديث في فضلها ورفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة يونس، أعطيَ لَهُ من الأجرِ عشرَ حسناتِ، بعدد من صدق يونس، وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون". والأحاديث تناولت جميع السور وهي أحاديث معروفة، حديث أُبَي بن كعب -رضي الله عنه- وضعت في فضائل السور جملة شاملة لكل السور من الأحاديث، وواضعُوهَا قصدوا ترغيب الناس في قراءة القرآن، وزعموا أن في ذلك حسبةً إلى الله تعالى، وهذا غلط وقصدهم فاسد، وزعمهم باطل؛ لأن كُلَّ هذا داخل تحت وعيد الحديث: ((من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))، ولا فرق بين الكذب على رسول الله، والكذب له. أما حديث أُبَي بن كعب الطويل، فهذا الحديث يروى عن أُبَي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسند هذا الحديث كما ذكره العلماء؛ ف قد بحث مؤمل بن إسماعيل حتى وصل إلى من اعترف بوضعه، قال مؤمل: حدثني شيخٌ بهذا الحديث، هذا أصل الحديث المنسوب كذبًا إلى أُبي، قال مؤمل: حدثني شيخ بهذا الحديث، فقلتُ له: من حدَّثَكَ بهذا؟ قال: رجل بالمدائن، وهو حي فسرتُ إليهِ، فَقُلْتُ: من حدَّثَكَ بِهَذا؟ قال: حدثني شيخ بواسط، فسرتُ إليه فقلتُ: من حدَّثَكَ بِهَذا؟ قال: حدثني شيخٌ بالبصرة، فسرتُ إليه فقلتُ: من حدَّثَكَ بِهَذا؟ قال: حدثني شيخ بعبَّادَان، فسرتُ إليه فأخذ بيدي، فأدخلني بيتًا، فإذا فيه قومٌ من المتصوفةِ ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ هو الذي حدثني، فسألته قلت: يا

شيخ من حدَّثَكَ بهذا؟ قال: لم يحدثن ي أحد. ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن - أي: انصرفوا عنه - فوضَعْنَا لَهُم هذا الحديث؛ ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن. وقد روي هذا الحديث من طريق علي بن زيدِ بن جدعَان، وعطاء بن أبي ميمونة كلاهما عن زِرِّ بن حبيش عن أُبَي بن كعب، ومن طريق هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة عن أُبَي بن كعب، ومن طريقٍ آخر، والحديث بجميع طرقه باطل موضوع. وروي عن ابن المبارك أنه قال: أظنه من وَضْعِ الزنَادِقَة، ومن ذلك أيضًا: حديث عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن حديث مشابه؛ إلَّا أنه مسندٌ إلى ابن عباس، يشبهُ الحديثَ الذي ينسب إلى أُبَي بن كعب، وهو فِي فضائلِ القرآن سورةً سورة أيضًا، فقد سئل عنه واضعه نوح بن أبي مريم، الذي سبق القول بأنه جامع؛ إذ إ نه جمع لجمعه علومًا كثيرة، سبحان الله تلقى العلوم عن علماء لكنه كان كذبًا؛ أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وأخذ التفسير عن الكلبي، وعلم السير والمغازي عن محمد بن إسحاق، وأخذ الحديث عن حجاج بن أطأة، قيل: إنه كان جامع ً الكل شيء إلا الصدق؛ كما سبق أن أشرت. فنوح بن أبي مريم قال: رأيت الناس قد اعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبةً، يقول الدكتور محمد أبو شهبة: وقد خطأ المحدثون من ذكر هذه الأحاديث من المفسرين في كتبهم؛ كالإمام الثعلبي والإمام الواحدي والزمخشري، والنسفي والبيضاوي وأبي السعود، والحقيقة أن أصحاب هذه الكتب، وهم من القدامى نقلت منهم هذه الأحاديث؛ سواء ذكرها المفسرون في أواخر السور؛ لأنها كالوصف لها،

أو في بيان فضلها في أوائل السور، والنسفي والبيضاوي وأ بو السعود كل هؤلاء ذكروها في كتبهم. ولكن من أبرز سنده وذكره كالثعلبي والواحدي فهو أبسط لعذره لعل عذره يقبل؛ إذ أحال ناظره على الكشف عن السند، والبحث عن الرواة، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه، أما من لم يبرز السند، وأورد الحديثَ بصيغةِ الجزم فخطؤه كبير، بل وخطؤه أفحش وعذره أبعد، كالمتأخرين والزمخشري جاء من بعدهِم، والنسفي، والبيضاوي، وأب والسعود. قال الإمام ابن الجوزي: وقد فرَّقَ هذا الحديث أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره فذكر عند كل سورة منه ما خصَّها من القول، وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك، قال: ولا أعجب منهُمَا؛ لأنهما ليسا من أصحابِ الحديث، وإنما عجبتُ من أبي بكر بن أبي داود في كتابه الذي صنفه بعنوان (فضائل القرآن)، وذكر الحديث، وهو يعلم أنه حديثٌ محالٌ مصنوعٌ بلا شك. يقول شيخنا الدكتور أبو شهبة: رجعت إلى (تفسير الثعلبي) ووجدته يبرز السند كاملًا تارةً، وتارةً يقول: عن أُبَي بن كعب، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر لنا أمثلة من سورة " هود "، قال: قال النبي: "من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدق نوحًا، وهودًا، وصالحًا، ولوطًا، وموسى" وفي صدر سورة " يوسف "، قال: وعن أُبَي بن كعب، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا سورة يوسف؛ فإنه ما من مسلم تلاها وعلَّم أهله إلا هَوَّنَ الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة ألا يحسد أحدًا" والواحدي يذكر الفضائل في أول السور؛ ليكون أدعى إلى عناية القارئ وتنشيطه.

الزمخشري ومن تبعه يذكر الفضائل في أواخر السور، ولما سئل الزمخشري عن هذا، فأجاب بأن الفضائل صفات، وهي تستدعي الموصوف، والموصوف مقدم على صفته، كما أنهم لا يذكرون شيئًا من السند حتى الصحابي، وإليك مثالًا مما ذكره الزمخشري من هذا الحديث الطويل عقب كل سورة؛ ليكون القارئ على حذر منها. ومن أمثال ذلك ما ذكره في آخر سورة آل عمران عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورة آل عمران، أعطيَ بكل آية منها أمانًا على جسر جهنم" وعنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "من قرأ السورة التي يذكر فيها " آل عمران " يوم الجمعة، صلَّى اللهُ عليه وملائكته حتى تحجب الشمس" وفي آخر " المائدة " عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ سورةَ المائدةِ أعطيَ من الأجرِ عشرَ حسنات، ومحيَ عنه عشرُ سيئات، ورفع له عشر درجات، بعددِ كل يهوديٍّ ونصرانيٍّ يتنفس في الدنيا" أحاديث كثيرة. ورغم أن سورة البقرة والفاتحة وآل عمران والكهف صحت في فضلها أحاديث، فقد أخرجوا أيضًا جُمَلًا من الأحاديث الموضوعة في هذه السور، وقبل أن نترك كلام أُبي، أو الحديث المسند إلى أُبَي، نقول: إن هناك أحاديث موضوعة عن غير أُبَي بن كعب؛ فبعض المفسرين قد يذكر في فضائلِ السورِ أحاديث عن غير أبي، كالذي ذكره الزمخشري والبيضاوي في فضل الفاتحة، قالا: وعن حذيفة بن اليمان: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتمًا مقضيًّا، فيقرأ صبيٌّ من صبيانِهِم في الكُتَّاب: الحمد لله رب العالمين، فيرفع الله عنهم العذاب أربعين سنة" قال ولي الدين العراقي: في سنده الجويباري، ومأمون الهروي كذَّبَان، فهو من وضع أحدهما. وقد يذكر المفسرون في فضائل الآيات ما لا يعرفه المحدثون؛ وذلك مثل ما ذكره الزمخشري وتبعه النسفي وغيره في فضل آية الكرسي من قوله: "ما قرئت هذه

الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يومًا، ولا يدخله ساحرٌ، ولا ساحرة، أربعين ليلة، يا علي علمها ولدك، وأهلك وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها" وإن كانت آية الكرسي فعلًا لها أحاديث أخرى في فضلها، لكن هذا النص من الأحاديث الموضوعة. وكذلك الحديث الذي ذكره بعده، وهو أن الصحابة تذاكروا أفضل ما في القرآن، فقال لهم علي - رضي الله عنه - أين أنتم من آية الكرسي؟، ثم قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا علي سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي". فقد قال الحافظ في تخريج أحاديث (الكشاف) لم أجدهما؛ الحافظ ابن حجر. وهذا لا يعني أن كل ما ذكر في فضائل السور ضعيف كما أشرت؛ فقد صح في بعض السور كما سبقت الإشارة، وصح في آية الكرسي وفي الآيتين من آخر سورة البقرة، فقد جاء الحديث: ((من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) فقد رواه البخاري ومسلم، وأيضًا الحديث الآخر: ((أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يؤتهن نبيٌّ قبلي)) وا لحديث أخرجه النسائي وأحمد. وأيضًا ينبغي أن يعلم أنه ليس كل ما ذكره الزمخشري، وأمثاله عن أُبَي بن كعب يكون موضوعًا؛ فقد يذكر عن أُبَي بن كعب ما هو صحيح أو حسن، وذلك مثل ما ذكره في تفسير سورة الفاتحة، حيث قال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأُبَيِّ بن كعب: ((ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فاتحة الكتاب، إنها السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)) أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي والحاكم وصححه على شرط مسلم.

ما جاء في فضل يونس -عليه السلام-، وما ورد في إهلاك قوم لوط.

وتفسير الحافظ ابن كثير من أجَلِّ ما يعتمد عليه في أحاديث الفضائل ما صح منها وما لم يصح، والسور التي صحت في فضلها الأحاديث الفاتحة، والزهراوان، والسبع الطوال، والكهف، ويس -كما قلنا- والإخلاص والمعوذتان، وطبعًا الإمام ابن كثير عمدة في ذكر الأحاديث ويصحح منها الصحيح ويضعف منها الضعيف. ما جاء في فضل يونس -عليه السلام-، وما ورد في إهلاك قوم لوط فإلى نماذج أخرى نستكمل منها هذا النوع من الأحاديث في فضائل السور؛ يروي لنا زملاؤنا في كتبهم ما ورد أيضًا من الأحاديث؛ ما جاء في فضل سيدنا يونس -عليه السلام- فقد أخرج أبو السعود رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تفضلوني على يونس بن متى، فإنه كان له كل يوم مثل عمل أهل الأرض" وهذا الحديث طبعًا غير الحديث الصحيح الوارد في (الصحيحين) ((ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) فطبعًا الزيادة هذه في الحديث الأول غير صحيحة، أدخلت على الحديث الجملة "كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض" أبدًا كلام غير صحيح. فالشيخان وأصحاب السنن لم يوردوا لنا هذه الجملة. ورد في إهلاك قوم لوط عند قوله تعالى في الحجارة التي ألقيت عليهم: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (هود: 83) قال: إنهم -يعني قوم لوط- بسبب ظلمهم مستحقون لها، وهم لابسون بها؛ أي: بالحجارة التي عذبوا بها، وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة، وعن رسول الله أنه سأل جبريل -عليه السلام- فقال: "يعني ظالمي أمتك، وما من ظالم منهم إلا وهو يعرض علي هـ حجر، يسقط عليه من ساعة إلى ساعة". وهذا الخبر الذي أورده أبو السعود في تفسير الآية مردود من وجهين؛ أولهما: أن الحكم باقٍ على عمومه، أما قوله في الحديث يعني: "ظالمي أمتك" فتخصيص

ما قيل عن عقوق الوالدين.

يحتاج إلى دليل ولا دليل، ثانيهما: أن الخبر مجهول الأصل لا يعرف له سند، وفيه يقول الحافظ ابن حجر: ذكره الثعلبي من غير سند. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 157). قال بعض المفسرين: إنه لم يعطَ الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة، فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة، وهذا عندنا ضعيف، هذا قول الحافظ ابن حجر، وهذا عندي ضعيف؛ لأن قوله: {إِنَّا لِلَّهِ} (البقرة: 156) إشارة إلى أنا مملكون لله، وهو الذي خلقنا وأوجدنا، وقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة، ومن المحال: أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك، فمن عرف عند نزول بعض المصائب أو عرف بأنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى، فهناك تحصل السلوى التامة عند تلك المصيبة، ومن المحال: أن يكون المؤمن بالله غير عارف بذلك. ومن ذلك نرى الخبر الذي أورده أبو السعود ضعيف سندًا متنًا. ما قيل عن عقوق الوالدين نختم بما قيل عن عقوق الوالدين في تفسير قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 23، 24). فعند تفسير هاتين الآيتين ذكر أبو السعود عددًا من الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رضا اللهِ في رضا الوالدين، وسُخْطُهُ في سخطهما" هذا الحديث رواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) في رواية البزار عن ابن عمر، قال: في إسناده عصمة بن محمد، وهو متروك.

وقال يحيى بن معين عنه: إنه كذاب يضع الحديث، هذا راوي الحديث الذي فيه عصمة بن محمد، ورواه السيوطي في (الجامع الصغير) معزو في الطبراني في (الكبير) عن ابن مسعود، وتعقبه المناوي بأن المتهم به عصمة بن محمد كما قال الهيثمي، وروى الترمذي في (سننه) هذا الحديث بإسناد آخر مرفوعًا وموقوفًا؛ بيد أنه رجح الموقوف فقد ثبت عنه أنه رواه من حديثِ خالد بن الحارث عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، ثم ساقه من حديث محمد بن جعفر عن شعبة به نحوه ولم يرفعه، قال: وهذا أصح. وهكذا رواه أصحاب شعبة عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعَهُ غير خالد بن الحارث، وهو ثقة مأمون، وهكذا يبدو أن الوقف به أشبه، وإذا علم أن الحديث موقوف فمن الخطأ رفعه كما توهم أبو السعود وغيره، على أن في سند المرفوع ما يمنع قبوله كما سبق بيانه. ومن الأحاديث التي قيلت في عقوق الوالدين ونقلها أبو السعود أيضًا هذا الحديث "يفعل البار ما شاء أن يفعل، فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما شاء أن يفعل، فلن يدخل الجنة" هذه الأحاديث التي وردت في عقوق الوالدين ضعيفة أو غير صحيحة، فهذا الحديث ذكره اب ن عمران من رواية الديلمي من حديث الحسين بن علي، وقال: فيه عيسى بن عبد الله، وأصرم بن حوشب؛ الأول متهم بالكذب، والثاني: منكر الحديث، قال عنه يحيى: كذاب خبيث، وقال البخاري ومسلم والنسائي عنه: متروك، وقال ابن حبان: إنه كان يضع الحديث.

وذكر الشوكاني هذا الحديث ضمن (الأحاديث الموضوعة في الفوائد المجموعة) وقال عنه: في إسناده كذاب، وبناء على هذا فإن الحديث لا يصح من حيث السند ولا من حيث المتن، فهو كذلك من حيث المتن لا يصح؛ لأنه يدل بظاهره على أن البار بوالديه لن يدخل النار بأي حال من الأحوال، وهذا لم يقل به مسلم، فدخول النار لا يمتنع على أيِّ إنسانٍ مهما كان إلا برحمة من الله تعالى، حتى يقال: إن البار لن يدخلها، ولو ارتكب من المعاصي ما شاء، وكذلك دخول الجنة لا يرحم منه أي إنسان نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، حتى يقال: إن العاق لن يدخلها، ولو عمل من الطاعات ما شاء. على كل حال: ليست الطاعات محصورة في بر الوالدين، ولا المعاصي محصورة في عقوق الوالدين. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 19 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (2).

الدرس: 19 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (2).

تابع ما قيل عن عقوق الوالدين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (2)) تابع ما قيل عن عقوق الوالدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: كنا قد تكلمنا عن الأحاديث الموضوعة، وخاصة ما يتعلق ببر الوالدين، وهناك كثرة من الأحاديث التي أوردها المفسرون في بر الوالدين، ومن ذلك ما أخرجه أبو السعود في ت فسيره لقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 116)، فقد أخرج في هذه الآية، قال: قال رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبويا بلغا من الكبر، وإني أَلِي منهما ما ولِيَ مني في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا؛ فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك، وأنت تريد -أو تنتظر- موتهما". هذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر حين تعرض له في تخريجه لأحاديث (الكشاف): لم أجده. من الأحاديث الضعيفة أيضًا في عقوق الوالدين: ما أخرجه كثير من المفسرين رووا: أن شيخًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن ابني هذا له مالٌ كثيرٌ، وإ نه لا ينفق عليَّ من مالِهِ، فنزل جبريل -عليه السلام- قال: إن هذا الشيخ قد أنشأَ في ابنه أبياتًا، ما قُرِعَ سمعٌ بمثلها، فاستشهدها فأنشدها الشيخ فقال: غَذَوْتُك مَوْلُودًا ومُنْتُك يَافعًا ... تُعلُّ بما أُحْنُو عَلَيكَ وتَنْهَلُ إذَا لَيْلةٌ ضَافَتْك بالسُّقْمِ لَم أَبِتْ ... لسُقْمِكَ إلَّا باكِيًا أَتَملْمَلُ كَأَنِّي أنا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بالذي ... طُرِقتَ به دُوني وعَيْنِيَ ت هـ ملُ فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتي ... إليْها مَدَى مَا كُنْتُ فِيك أُؤَمِّلُ جَعَلْتَ جزَائي غلْظَةً وفَظَاظَةً ... كأَنّك أنتَ المُنْعمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَكَ إذ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبوَّتي ... فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المجاورُ يَفْعَلُ وأنشد هذه الأبيات، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنت ومالك لأبيك" ذكر هذه الرواية أبو السعود وغيره، هذا الحديث فيه ضعف وانقطاع، يقول صاحب

الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات.

كتاب (تمييز الطيب من الخبيث) أخرجه ابن ماجه، والطبراني في (الأوسط) و (الصغير) من طريق المنكدر بن محمد المنكدر عن أبيه عن جابر، والمنكدر هذا ضعفوه من قِبَلِ حفظه، وهو في الأصل صدوق، لكن في السند من لا يعرف، والحديث عند البزار منقطع، قال شيخنا بعد إيراده من طرق كثيرة: وهو قوي. وهذا الحديث أورده القاضي أبو بكر بن العربي من نفس الطريق في (أحكام القرآن)، وقال تعقيبًا عليه: قال سليمان: لا يروى هذا الحديث عن محمد بن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد تفرد به عبد الله بن خلصة. كما أورد هذا الحديث ابنُ جرير في (المطالب العالية) من رواية بن أبي عمر عن الشعبي، وعنه قال حبيب الرحمن تعقيبًا عليه في كتابه (المطالب العالية)، ضعف البوصيري السند؛ لضعف محمد بن أبي ليلى، وإذا ثبت أن الحديث ضعيف السند منقطع غير متصل لا نعلم صحةَ نسبِهِ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن الخطأ البَيِّنِ رفعُهُ إلى المعصوم -عليه الصلاة والسلام- على أنه قد روي في بر الوالدين في (الصحيحين) وغيرهما ما يغني عن هذه الأحاديث، فقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عن العقوق أنه من أكبر الكبائر، وأقبح الذنوب. الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات ننتقل بعد ذلك إلى أسباب وأحاديث أخرى لها صلةٌ بمثل هذا: نَرى كثيرًا من المفسرين حول الموضوع والضعيف من أسباب النزول، قد أوردوا كثيرًا من الأسباب، فذكَرُوا في تفاسيرهم أسبابًا للنزول، ولم يلتزموا الصحة فيما ذكروهُ من أسباب، بل إنهم سودوا كتبهم بما هو ضعيف السند، أو واهي الأساس، وربما ذكروا ما يتعارض مع نصٍّ من نصوص الإسلام، أو يتنافى مع الإجماع.

من تلك الروايات في قوله -سبحانه وتعالى- حول هذه الآية: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (هود: 5) قال أبو السعود عند تفسير هذه الآية: روي عن بن عباس -رضي الله عنهما- أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلًا حلوَ المنطق حسنَ السياق للحديث، يُظْهِرُ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- المحبة، ويضمر في قلبه الحقد والبغضاء، هذا السبب ذكره الواحدي عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي هذا متهم بالكذب من علماء الجرح والتعديل، قال أبو النضر: الكلبي تركه يحيى بن معين، وابن مهدي، ثم قال البخاري: قال علي: حدثنا يحيى عن سفيان، قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح، فهو كذب. انظر: (ميزان الاعتدال) للذهبي، وذكره أيضًا ابن الجوزي في (الموضوعات) في تفسيره (زاد المسير) وبيَّن أنه حديث ضعيف، وقال: رواه أبو صالح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ومعلوم: أن طريق أبي صالح عن ابن عباس من أوهى الطرق. وقال الحافظ ابن حجر: إن ما ذكره أبو السعود سبب في نزول الآية، وفي أنها نزلت في المنافقين بعيدٌ جدًّا عن الصواب؛ لأن الآية مكيةٌ، والنفاق إنما حدثَ بالمدينةِ، فكيف يتسنَّى القول: بأنها نزلت با لمنافقين، هذا ما أورده البعض. في قوله -جل وعلا-: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31)، قال أبو السعود في سبب نزول هذه الآية، قيل: إن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن كنت نبيًّا سَيِّر بقرآنك الجبال عن مكة، حتى تتسع لنا، ونتخذ فيها البساتين والقطائع، وقد سُخِّرَتْ لداود -عليه السلام- فلست بأهون على الله منه، إن كنت نبيًّا كما زعمت، أو سخر لنا به الريح كما سخرت لسليمان -عليه السلام- لنتَّجِرَ عليها إلى الشام؛ فقد شق

علينا قطع المسافة البعيدة، أو ابعث لنا رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا" فنزلت الآية. قال عنه الحافظ ابن حجر، بعد أن ذكر هذا الكلام بالنص: لم أجدْهُ بهذا السياق، وذكره الطبري ابن جرير بنحوه، حيث أخرج في تفسيره روايات عديدة حول هذا المعنى بسندٍ ضعيفٍ، وكذا الواحدي في أسبابه، بهذا المعنى مطولًا بسندٍ فيه ضعف، حيث أخرجَهُ من طريق عبد الجبار بن عمر الإيلي عن عبد الله بن عطاء عن جدته أم عطاء مولاة الزبير، فابن عمر ضعيف، عنده مناكير، كما قال عنه الإمام البخاري، وابن عطاء قال عنه الحافظ ابن حجر في (التقريب): صدوق يخطئ ويدلس. وإضافة إلى ما سبق: ف إن السورة مدنية في قول أكثر العلماء، كذا قال صاحب (الإتقان)، وعلى هذا إذا كانت السورة مدنية؛ فإن ما ذكره أبو السعود سببًا لنزولِ الآية، يحول دون صحتِهِ الواقع التاريخي لزمن النزول، فسورةُ " الرعد " مدنيةٌ نزلت بالمدنية، وأبو جهل كان بمكةَ، فكيف يتسنَّى القول ب أنها نزلت في أبي جهل. أيضًا من الأسباب في قوله -تبارك تعالى-: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (الإسراء: 73)، أوردوا في سبب نزولها أحاديث، وأسباب واهية، فهذا أبو السعود يقول: نزلت في ثقيف، إذ قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ندخل في أمرك، حتى تعطينا خصالًا نفتخر بها على العرب؛ لا نحشر، ولا نعشر، ولا ننحني في صلاتنَا، وكل رِبًا لنا فهو لنا، وكل رِبًا علينا فهو موضوع عنَّا، وأن تمتعنَا باللاتِ سنة، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإذا قالت العرب: لما فعلت؟ فقل: إن الله أمرني بذلك" (تفسير أبي السعود).

هذا السبب ذكره الواحدي أيضًا في أسبابه دون سند، عن عطاء عن ابن عباس، وعنه قال الحافظ ابن حجر: لم أجده، وذكره الثعلبي عن ابن عباس من غير سند. وتتوالى أسباب النزول الضعيفة والإسرائيليات، وما أكثرها، نوجز منها أيضًا هذه المواقف التي وردت معنا في المنهج. ف أيضًا حول سورة {ق وَالقرآن الْمَجِيدِ} (ق: 1)، ذكروا حول جبل " ق " المزعوم وحدوث الزلازل التي تحصل كلامًا ضعيفًا أو باطلًا لا يعقل ولا يقبل؛ فمن ذلك ما ذكره بعضهم في تفسير قوله تعالى: {ق وَالقرآن الْمَجِيدِ} ذكر صاحب (الدر المنثور) وغيره روايات كثيرة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "خلق الله من وراء هذه الأرض، بحرًا محيطًا بها، ثم خلق من وراء هذا البحر جبلًا يقال له: " ق " سماء الدنيا مرفوعة عليه، ثم خلق الله تعالى من وراء هذا الجبل أيضًا مثل تلك الأرض سبع مرات، واستمر على هذا حتى عد سبع أراضين، وسبعة أبحر، وسبعة أجبل، وسبع سماوات؛ وهذا الأثر لا يصح سنده عن ابن عباس، وفيه انقطاع، ولعل البلاء فيه من المحذوف. ولو سلمنَا صحته عنه؛ فقد أخذه ابن عباس من الإسرائيليات. وأخرج بن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عنه أيضًا، قال: "خلق الله جبلًا يقال له: " ق " محيط بالعالم، وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قريةً، أمر ذلك الجبل فيحرك العرق الذي يلي تلك القرية، فيزلزلهَا ويحركهَا، فمن ثم تتحرك القرية دون القرية" وكل ذلك كما قال القرافي: لا وجود له، ولا يجوز اعتمادُ ما لا دليل عليه، وهو من خرافات بني إسرائيل الذين يقع في كلامهم الكذب والتغيير والتبديل، دست على هؤلاء الأئمة، أو

تقبلوها بحسن نية، ورووها لغرابَتِها لا اعتقادًا بصحتها، ونحمد الله أن وُجِدَ في علماء الأمة من ردَّ هذا الباطل وتنبه له، قبل أن تتقدم العلوم الكونية، كما هي عليه اليوم. ومن العجيب: أن يتعقب كلام القرافي ابن حجر الهيتمي، فقال: ما جاء عن ابن عباس مروي من طرق خرجها الحفاظ، وجماعة ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. وأنا أقول للشيخ الهيتمي: إن تخريجَ من التزم الصحةَ ليس بحجة، وكم من ملتزمٍ شيئًا لم يفِ بِهِ، والشخص قد يسهو ويغلط مع عدالَتِهِ، وأنظار العلماء تختلف؛ هذا كلام شيخنَا أبو شهبة، يقول: انظر العلماء تختلف، والإمام الحاكم على جلالته، صحح أحاديث حكم عليها الإمام الذهبي وغيره بالوضع، وكذلك ابن جرير على جلالة قدرِهِ أخرج رواياتٍ في تفسيره حكم عليها الحفاظ بالوضع والكذب، ولو سلمنَا صحتهَا عن ابن عباس فلا ينافي ذلك أن تكون من الإسرائيليات الباطلة، كما قال العلماء غير مرة. وأما أن لها حكم الرفع فغير مُسَلَّم؛ لأن المحققين من أئمة الحديث على أن ما لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع؛ إذا لم يكن الصحابي ممن عُرِفَ بأنه يأخذ عن مسلمةِ أهلِ الكتاب، وابن عباس ممن أخذ عنهم، فلا يسلَّمُ لكلامه أن يكون له حكم الرفع، ثم يقول الشيخ أبو شهبة: أقول للهيتمي، ومن يرى رأيه: أي فائدةٍ نجنيهَا من وراء هذه المرويات التي لا تتقبلها عقول تلاميذ المدارس فضلًا عن العلماء، اللهم إلا أننا نفتح با لانتصار لها بابًا للطعن في عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا جاز هذا في عصور الجهل والخرافات فلا يجوز اليوم؛ وقد أصبح رواد الفضاء يطوفونَ حولَ الأرض، ويرونها معلقة في الفضاء بلا عمد ولا جبال ولا

بحار ولا صخرة استقرت عليها الأرض، فهذه الإسرائيليات مخالفة للحس والمشاهدة قطعًا، فكيف نتعلق بها؟ وهو يقصد بكلمة عصور الجهل والخرافات، المراد عصور جهل أهل الكتاب الذين بدل وا وغيروا، أما عصور المسلمين وحكم المسلمين فهي -بفضل الله- زاهية، وعصور تقدم وازدهار. يقول شيخنا: ورحم الله الإمام الألوسي حيث قال: والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي؛ من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحِس، فقد قطعوا هذه الأرض برَّهَا وبحرهَا على مدار السرطان مرات، فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحةِ الأخبارِ، وإن كانَ جماعةٌ من رواتِهَا ممن التزم تخريجَ الصحيح أهون من تكذيب الحس، وأمْرُ الزلازل لا يتوقف أمرها على ذلك الجبل، بل هي من الأبخرة المتولدة من شدة حرارة جوف الأرض، وطلبها والخروج مع صلابة الأرض، فيحصل هذا الاهتزاز، وإنكار ذلك مكابرة عند من له عرق من الإنصاف. هذا كلام العلامة الألوسي، وهو على كل حال ليس متخصصًا في علوم الفيزياء والطبيعة، لكن هذا اجتهاده، والمشاهد والحس الذي نراه يبين أنه لا صلة ب هذه الجبال والبحار التي ذكرت؛ فهي خرافات وأباطيل نقلت عن بني إسرائيل. يقول شيخنا: ولا أدري لو أن الإمام الجليل الألوسي عاش في عصرنا هذا، ووقف على ما وقفنا عليه من عجائبِ الرحلات الفضائية ماذا كان يقول؟ إن كل مسلم ينبغي أن يكون له من العقل الواعي المتفتح والنظر الثاقب البعيد ما لهذا الإمام الكبير. وإليك ما قاله عالم حافظ ناقد سبق الإمام الألوسي بنحو خمسة قرون؛ ألا وهو الإمام ابن كثير، المتوفى سنة أربعمائة أربعة وسبعين قبل الإمام الألوسي بخمسة

قرون، فقد قال في تفسيره عند هذه الآية، وقد روي عن السلف أنهم قالوا: " ق " جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل "ق"، وكأن هذا -والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائِهَا وحفظاهَا وأئمتهَا أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما بالعهد من قدم، فكيف بأمر بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتبِ الله وآياته؟ وإنما أباحَ الشارع الروايةَ عنهم في قوله: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل والله أعلم. هذا كلام العلامة ابن كثير. قال: وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ولله الحمد والمنة، حتى إن الإمام ابن أبي حاتم الرازي أورد هنا أثرًا غريبًا لا يصحُ سنده عن ابن عباس، ثم ساق السند والمتن الذي سبق ذكره، ثم قال: ف إسناد هذا الأثر فيه انقطاع؛ أي: راوٍ سقط من رواته. والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-في قوله: -عز وجل- {ق} هو اسم من أسماء الله -عز وجل- والذي ثبت عن مجاهد، وهو من تلاميذ ابن عباس الملازمين له الناشرين لعلمِهِ، أنه حرفٌ من حروف الهجاء، كقوله تعالى: {ص} (ص: 1) {ن} (القلم: 1) {حم} (غافر: 1) {طس} (النمل: 1) {الم} (البقرة: 1)، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما.

ولننقل إلى سبب آخر مما أورده المفسرون، حول قوله تعالى: {ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1، 2) فقد ورد فيها إسرائيليات؛ ففي قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} ذكروا أنه الحوت الذي على ظهره الأرض ويسمى اليهموت، وقد ذكر ابن جرير، والسيوطي روايات عن ابن عباس؛ منها: "أول ما خلق الله القلم؛ فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، وخلقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه، فاضطرب النون فمادت الأرض؛ أي: تحركت ومالت، فأثبتت أو أثبتت بالجبال". وقد روي عن ابن عباس أيضًا في معنى {ن} أنه الدواة، ولعل هذا هو الأقرب والمناسب لذكر القلم، وقد أنكر الزمخشري، ورود {ن} بمعنى الدواة في اللغة، ور وي عنه أيضًا أنه الحرف الذي في آخر كلمة الرحمن؛ أي: روي عن ابن عباس هذا، وأن هذا الاسم الجليل فرق في {الر} (الحجر: 1) و {حم} (غافر: 1) و {ن} (القلم: 1) واضطراب النقل عنه يقلل الثقة بما روي عنه؛ ولا سيما الأثر الأول عنه، والظاهر أنه افتراء عليه أو هو من الإسرائيليات ألصق به -رضي الله عنه. وإليك ما قاله إمام حافظ؛ وهو الإمام ابن القيم إمام حافظ ناقد من مدرسة اشتهرت بأصالة النقد، قال في أثناء كلامه على الأحاديث الموضوعة: ومن هذا حديث أن {ق} جبل من زمردة خضراء، محيط بالدنيا، كإحاطةِ الحائط بالبستان، والسماء واضعة أكنافها عليه، ومن هذا حديث أن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة؛ فهذا من وضع أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء بالرسل. وقال الإمام أبو حيان في تفسيره لا يصح من ذلك شيء ما عدا كونه اسمًا من أسماء حروف الهجاء، ولعل هذا الرأي بأن {ق} و {ن} إنما هي أسماء

من أسماء الحروف، هو الرأي الراجح في فواتح السور من أمثال: {الم} و {حم} وغيرها، فهي أسماء مسمياتُهَا الحروف الهجائية؛ لتكون بمثابةِ الدليلِ على إعجاز القرآن، والدليل على كونِهِ من عندِ اللهِ -جل وعلا- كأن الله يقول: إن القرآن مؤلَّفٌ من جنس هذه الحروف، ومن كلمات من هذه الحروف، وقد تحدى به النبي -صلى الله عليه وسلم- الإنس والجن فعجزوا، وما ذلك إلا لأنه ليس من كلام بشر، وإنما هو من عند خالق القوى والقدر. إذا ما انتقلنا إلى الأحاديث الموضوعة والأسباب التي أوردها المفسرون سنراها كثيرة، نجتزئ منها أيضًا ما أوردوه في فضائل السور والآيات، ولعل هذا العنوان سبق بإيجاز. فقد أورد المفسرون ما يتعلق بأسباب النزول، وفيما يتعلق بفضائل السور، وفيما يتعلق بسيرةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- كقصةِ الغرانيق، وتزوجه -عليه الصلاة والسلام- بالسيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها- ومن هذه الموضوعات ما هو خفي دقيق لا يدركه إلا الحفاظ المتقنون العارفون بقواعد الجرح والتعديل وتواريخ الرجال، ومنهَا مَا لا يدركه من ليسَ له قدمٌ ثابتةٌ في حفظ الحديث ونقده، والعلم برجاله وأحوال رواته؛ لأن ذلك يصادم المعقول، ويناقض ما أجمع عليه العلماء من عصمةِ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فلذلك رد العلماء النقاد هذه الأكاذيب التي يكذبها القل والنظر، ولم يت وسعوا في نقلها وروايتها، فكان على الجميع أن يستدرك ما فاتهم، وأن نتوسع نحن في نقد ما أوردوه سواء من جهة السند أو من جهة المتن. ومن هذه المرويات المختلقة ما أجمع العلماء على الحكمِ بوضعه واختلاقه، ولكن الوقوف على كلامِهِم وكتبهم ليس متيسرًا، ولا سهلًا على كل قارئ؛ فمن ثم وقع فيما وقع فيه الكثيرون من الاغترار بهذه المرويات وأمثالها، ولذلك

إتمامًا للفائدة وإكمالًا للبحث كان لزامًا أن نتعرض لما علمناه من الموضوعات، ونكشف عما قاله العلماء في تزييف هذه الموضوعات. الأحاديث الموضوعة في فضائل السور والآيا ت: وضعت أحاديث كثيرة في فضائل السور والآيات، وقصد واضعوها ترغيب الناس في قراءة القرآن، وزعموا أن في ذلك حسبة إلى الله تعالى، وهذا غلط وسوء قصد وزعم باطل؛ لأن الحديث واضح وهو قول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: ((من كذب علي متعمد ً افليتبوأ مقعده من النار))، حديث متفق عليه. من الأحاديث في فضائل السور حديث أبي بن كعب ولعلني ذكرته فيما مضى باختصار، هذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضائل القرآن سورة سورة، فقد بحث مؤمل بن إسماعيل حتى وصل إلى من اعترف بوضع هذا الحديث، قال مؤمل: حدثني شيخ بهذا الحديث فقلتُ له: مَن حَدَّثَكَ بهذا؟، قال: رجل بالمدائن، وهو حي، فسرتُ إليه فقلتُ: مَن حَدَّثَكَ بهذا؟، قال: حدثني شيخ بواسط، فسرتُ إليه فقلتُ: مَن حَدَّثَكَ بهذا؟، قال: حدثني شيخ بالبصرة، فسرتُ إليه فقلتُ: مَن حَدَّثَكَ بهذا؟، فقال: حدثني شيخ بعبادان، فسرتُ إليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتًا، فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ الذي حدثني، فقلتُ: يا شيخ مَن حَدَّثَكَ بهذا؟ فقال: لم يحدثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن؛ فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن الكريم. وهذا الحديث روي من طرق كثيرة؛ روي من طريق علي بن زيد بن جدعان وعطاء بن أبي ميمونة كلاهما عن ذر بن حبيش عن أبي بن كعب، ومن طريق

هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، ومن طريق آخر؛ والحديث بجميع طرقه باطل موضوع. وا بن المبارك روي عنه أنه قال: أظنه من وضع الزنادقة. ومن ذلك أيضًا حديث عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، فقد سئل عنه واضعه نوح بن أبي مريم، فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة، ونوح بن أبي مريم هذا هو ملقب بالجامع لجمعه علوم ً اكثيرة؛ درس الفقه عن أبي حنيفة وا بن أبي ليلى، ودرس التفسير عن الكلبي، والمغازي والسير عن محمد بن إسحاق، والحديث عن حجاج بن أرطاء، قيل: إ نه قيل إنه كان جامع ً الكل شيء إلا الصدق وسبقت الإشارة إلى مثل هذا. على كل حال: إن المحدثين قد خطئوا من ذكر هذه الأحاديث في تفاسيرهم، كالثعلبي في (الكشف والبيان) والواحدي في ت فسيره وأسباب نزوله، والزمخشري والنسفي والبيضاوي وأبي السعود وغيرهم كثير وكثير، إلا أننا نلتمس العذر القليل للسابقين، فمن أبرز السند وذكره كالثعلبي والواحدي فعذره أيسر؛ إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده، أما من لم يبرز السند وأورده بصيغة الجزم فخطأه كبير وعذره كبير؛ كالزمخشري والنسفي والبيضاوي وأبي السعود وغيرهم إلى آخره. ننتقل بعد ذلك إلى ما أورده المفسرون، هناك أحاديث موضوعة عن غير أبي بن كعب، ففي فضائل السور ذكر الزمخشري والبيضاوي في فضل الفاتحة،

قالا: وعن حذيفة بن اليمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتمًا مقضيًّا، فيقرأ صبيًّا من صبيانهم في الكتاب، الحمد لله رب العالمين، فيرفع الله عنهم العذاب أربعين سنة" قال ولي الدين العراقي: في سنده الجويباري، ومأمون الهروي وهما كذابان، فهذا الكلام من وضع أحدهما، إلى آخر ما يورده المفسرون حول بعض الآيات. أيضًا أوردوا في فضل آية الكرسي كلام ً اكثير ً اوأحاديث موضوعة كثيرة. راجع (الكشاف) فيما أورده، فقد أورد حول هذه الآية " ما قرئت هذه الآية في دار، إلا إهتجرتها الشياطين ثلاثين يومًا، ولا يدخله اساحر ولا ساحرة، أربعين ليلة، يا علي علمها ولدك وأهلك وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها". ومع هذه الأحاديث الموضوعة فلا يخفى أن سورة الفاتحة وآية الكرسي، قد ورد في فضلهما أحاديث صحيحة كثيرة، ليس المقام الآن مقام ذكرها. مما ينبغي أن نشير إليه أن المفسرين قد يذكرون أحاديث صحيحة في الفضائل، فلا يظن إخواننا طلاب العلم أن جميع ما أورده المفسرون؛ كالزمخشري والبيضاوي والنسفي وغيرهم في الفضائل موضوع، فهناك أحاديث في غاية الصحة، هناك ((من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) متفق عليه. وهناك أيضًا: ((أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز من تحت العرش، لم يؤتهن نبي قبلي))، وهناك الأحاديث في الفاتحة ((ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاتحة الكتاب؛ إنها السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)) وتفسير الحافظ ابن كثير والعلامة الألوسي كلاهما، من أجل ما يعتمد عليه في أحاديث الفضائل ما صح منها وما لم يصح.

ولا يخفى أن السور التي صحت في فضلها الأحاديث هي الفاتحة والزهراوان -أي البقرة وآل عمران - والأنعام والسبع الطوال مجملة وسورة الكهف وسورة يس، والدخان والملك والزلزلة على اختلاف في تصحيح هذه الأحاديث أو تحسينها وسورة النصر والكافرون والإخلاص والمعوذتان، وما عدا هذه السور لم يصل إلى علمنا أنه صح فيها شيء يرقى إلى درجة الصحة، وأصح ما ورد في فضائل السور ما ورد في سورة الإخلاص والبقرة، والحمد لله وردت أحاديث كثيرة حسان، وبعضها اختلف العلماء في تحسينها أو تضعيفها، لكن لم تصل إلى حد الوضع. هيا بنا ننتقل إلى جزء آخر من الأحاديث الموضوعة في أسباب النزول؛ فمن الأحاديث والآثار الموضوعة في كتب التفاسير وما يتعلق بأسباب النزول ما سأذكره في هذه الروايات. من ذلك قصة الغرانيق، وقصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها- سبق الكلام تفصيلًا عن قصة السيدة زينب، لكن لا مانع أن نزيد من بيان ما فيها من دخيل، وردود العلماء على هذه الشبهة التي أكثر المفسرون فيما رووا من الأحاديث الباطلة والموضوعة في هذه القصة. وما روي في سببِ نزولِ قوله تعالى أيضًا: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14)، روى ابن عباس: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه، حينما خرجُوا ذات يوم، فاستقبلهم نفرٌ من الصحابة، فقال ابن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد الصديق -رضي الله عنه- فقال: مرحبًا بالصديق سيدٍ بني تميم، وثاني رسول الله في الغار، وأخذ بيد عمر فقال: مرحبًا بالفاروق، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبًا بابن عم النبي وختنه - الختن؛ أي: زوج الابنة فهو زوج السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها- سيد بني هاشم، ما خلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم افترقوا، فقال ابن أبي لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء؟ فإذا قابلتموهم فافعلوا مثل ما فعلت.

وهذا من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال ابن حجر في تخريج أحاديث (الكشاف) هو سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوضع لائحة عليه، وسورة " البقرة " نزلت في أوائل الهجرة، وتزوج علي بفاطمة كان في السنة الثانية، انظر: كيف نقد الحافظ القصة من جهة السند والمتن، وهذا يرد مزاعم المستشرقين وأتباعهم من أنهم عنوا بنقد السند دون المتن، وقد ذكر هذا السبب الثعلبي، والواحدي، والزمخشري والنسفي في تفاسيرهِم، ولم يتنبه أحد منهم إليه، وتنبه له شيخ المفسرين ابن جرير فلم يذكره، وكذا ذكره السيوطي في (الدر) إلا أنه قال: بسندٍ واهٍ، وكان عليه ألا يذكره ما دامَ سندهَا واهيًا، وقد سمعتَ مقالة الحافظ ابن حجر فيه. من ذلك أيضًا من أسباب النزول الموضوعة: ما ذكره بعض المفسرين في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (البقرة: 104)، فقد روى أبو نعيم في (الدلائل) من رواية محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: {رَاعِنَا} بلسان اليهود السب القبيح، فكانت اليهود تقولها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرًّا، فلما سمعها أصحابه أعلنوا بِهَا، فكانوا يقولونها، ويضحكون منها، فسمعها سعد بن معاذ منهم، فقال: لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقَهُ فنزلت. قال الحافظ ابن حجر في تخريجه: السدي الصغير متروك وكذا شيخه، أقول: وهي سلسلة الكذب -كما تقدم- وقد ذكر هذا الزمخشري والبيضاوي الألوسي وغيرهم. ومن ذلك ما ذكره المفسرون أيضًا كالزمخشري والنسفي والخازن وغيرهم في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة: 55)، فقد ذكروا: أنها نزلت في سيدنا علي، انظر: كلام الشيعة، وتعصب الفرق، قالوا: إنها نزلت في سيدنا علي -رضي الله عنه- حينما مر به سائل

وهو في الصلاة، فطرح له خاتمَهُ وتصدق به عليه، وهو راكع، وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع، كما حكم عليه بالوضع أيضًا الإمام ابن تيمية، وغيره من الأئمة وأثر التشيع ظاهر عليه، وجميع أسانيده لا تخلو من ضعف وجهالة. والمعروف عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- رضوان الله عليهم، أنهم ما كانوا يشتغلون في الصلاة بغيرها، بل كانوا في غاية الخشوع والاستغراق في الصلاة، والركوع هنا على معناه اللغوي؛ وهو الخشوع والخضوع، وهذا السبب ذكره ابن كثير في ت فسيره، وحكم على كل طرقِهِ بالضعفِ أو بالوضعِ؛ حيث جاء من طريق الكلبي. إذا ما انتقلنا إلى قصة عظيمة الأثر، لها صدى واسع في كتب التفاسير، والتقطها المستشرقون ونسجوا منها خيوطًا كثيرة؛ ألا وهي قصة الغرانيق، فإن هذه القصة ذُكِرَت في كتب التفسير وغيرهَا، ولا يخفَى على عالمٍ أنها من نسجِ أعداءِ الإسلام، وأنها من الموضوعات، فسنبدأ بها. ونقو ل: إن بعض المفسرين ذكروا في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الحج: 52 - 54)، ويتعلق بهذه الآيات أيضًا ما ورد في تفسير قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 1، 2) إلى أن وصلنا إلى الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْآخرى} (النجم: 19، 20) الآيات. ذكر بعض المفسرين في سبب هذه الآيات ما قاله السيوطي أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر من طرق بسند صحيح -كما زعموا- زعموا أن السند

صحيح، ذكروا عن سعيد بن جبير قال: قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْآخرى} ألقى الشيطان على لسانه "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى" فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجدوا وسجد"، فنزلت الآيات. وأخرجه البزار وابن مردويه بوجهٍ آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما نحسبه وقال: لا يروى إلا متصلًا بهذا الإسناد، وبعد أن ذكر له طرقًا كثيرة، قال: وكلها إما ضعيفة وإما منقطعةٌ سوى طريق سعيد بن جبير الأولى، وهذا الطريق وطريقان آخران مرسلان عند ابن جرير هم معتمدُ المصححين للقصة كابن حجر والسيوطي. والحق يقال: إن هذه القصة غيرُ ثابتة لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل والنظر؛ أما من جهة النقل: فقد طعن فيها كثير من المحققين والمحدثين، قال الإمام البيهقي -وهو من كبار رجال السنة-: هذه القصة غير ثابتة من جهةِ النقلِ، وقال القاضي عياض في كتابه (الشفا): إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، والمولعون بكل غريبٍ، المتلقفون من الصحف كل صحيحٍ وسقيم، ومن حُكِيَت عنهم هذه المقالة من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة وواهية. وإذا ما أردنا أن نتابع أقوال العلماء النقاد؛ فيقول أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعرفه يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسناد متصل، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وأحاديث الكلبي مما لا يجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 20 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (3) - والدخيل في التفسير بالرأي.

الدرس: 20 نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (3) - والدخيل في التفسير بالرأي.

تابع الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (نماذج من الأحاديث الموضوعة في التفسير (3) - والدخيل في التفسير بالرأي) تابع الآثار والأحاديث الموضوعة والضعيفة في أسباب نزول الآيات الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: وكذلك أنكر هذه القصة القاضي أبو بكر بن العربي، وطعن فيها من جهة النقل، ولما سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن هذه القصة، قال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابًا، كما قال الإمام الرازي في تفسيره وفي الألوسي أيضًا نقلًا عن (تفسير البحر) أنه محمد بن إسحاق جامع السيرة، ولكن تبين لنا أن ابن إسحاق جامع السيرة ذكرها في (سيرته)؛ فربما كان ابن خزيمة هو الشخص الآخر. على كل حال ذهب إلى أن هذه القصة موضوعة الأئمة؛ منهم: الإمام أبو منصور الماتريدي في كتاب (حصص الأتقياء) حيث قال: الصواب أن قوله: "تلك الغرانيق العلا" من جملة إيحاء الشياطين إلى أوليائه من الزنادقة؛ حيث إنهم يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين هذا الكلام؛ ليرتابوا في صحة الدين، وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. فهكذا نري أن العلماء قد أنكروها، وقضوا بوضعها، ونحن أذا أوجزنا القول؛ نقول: إن هذه القصة لم يخرجها أحد ممن التزم الصحيح، والتحقيق العلمي يثبت أن حديث الغرانيق مكذوبٌ مختلق وضعه الزنادقة الذين يحاولون إفساد الدين، والطعن في خاتم الأنبياء والمرسلين محمد -عليه الصلاة والسلام- والقصة مصادمة للقرآن فقولهم: إن الشيطان تسلط على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالزيادة هذا كذب؛ لأن الله تعالي يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: 42)، ليس هناك أحدٌ أحق بهذه العبودية من الأنبياء؛ فبطلان القصة من جهه العقل واضح، وقد أجمعت الأمة وقام الدليل على عصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مثل هذا.

ومع ما ذكرنا من قول المحققين في القصة؛ فالإمام ابن حجر حكمت الصنعة والقواعد الاصطلاحية عليه؛ فقال: القصة سندها صحيح، وجعل لها أصلًا هكذا قال في (الفتح) ولكن الحق: إن كان سندها صح في بعض الروايات؛ فالمتن لا محالة يخالف العقل والنقل، فإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما فيها على احتمال ما يقول ابن حجر؛ لأن فيها ما يستنكر، وهو قولهم: إن الشيطان ألقى على لسان النبي تلك الغرانيق العلا؛ فهذا لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يرد على لسانه لفظٌ أو حرف أو يزيد في القرآن شيئًا ليس منه لا عمدًا ولا سهوًا؛ لأن ذلك يخالف العصمة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يرتل القرآن ترتيلًا؛ فهذا الكلام الذي ذهب إليه البعض كلامٌُ غير صحيح والقصة مختلقة، ومردود عليها، ولم يخرجها أحد من أصحاب الصحاح. من هنا نستطيع أن نقول: فما معني الآية إذًا: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} (الحج: 52) فالإجابة: ذكر العلماء الأئمة في تفسيرها وجهين؛ الأول: أن التمني بمعني القراءة، ورد في (صحيح البخاري) تعليقًا إلا أنه جعله مرجوحًا لا راجحًًا، وهو تفسير التمني بالتشهي وبالقراءة؛ إلا أن الإلقاء لا بالمعنى الذي ذكره هؤلاء المبطلون بل بمعني إلقاء الأباطيل والشبه، مما يحتمله الكلام؛ فالشيطان يلقي الأباطيل والشبه، ولا يكون مرادا للمتكلم، ولا يحتمله، ولكن يُدَّعَي أن ذلك يؤدي إليه، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان حينئذ؛ لأنه يثير الشبهات بالوساوس والعراقيل؛ فيكون المعني: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حَدث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أنزل الله فيه هداية لهم قام في وجهه مشاغبون معارضون يتقوَّلُونَ عليه ما لم يَقُلْهُ، ويحرِّفُون الكَلِمَ عن مواضعِهِ، وينشرون ذلك بين الناس، ولا يزال الأنبياء يجاهدونهم ويجاهدون في سيبل الحق حتى ينتصر؛ فينسخُ الله ما يلقي الشيطان

من شبه، ويثبت الحق ويقويه، وقد وضع الله هذه السنة في الخلق؛ ليتميز الخبيثُ من الطيب؛ فيفتتن ضعفاءُ الإيمان الذين في قلوبهم مرض، ثم يمحص الله الحق ويظهره، ويقبله من أراد الله له الهداية، وهم الذين أوتوا العلم؛ فيعلمون أنه الحق من ربهم، وتخبت له قلوبهم. ثانيًا: أن المراد به -بالتمني- تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما كان ويكون، والأمنية من هذا المعني كأن المعني: وما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قومه إلى هدًى جديدًا وشرعًا سابقًا إلا وغاية مقصودِة وجل أمانيه أن يؤمن قومه، وأن يصدقوا بالهداية التي جاء بها، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ذلك في المقام الأعلى؛ فكان شديد الحرص على إيمان قومه، وكان إذا أعرضوا عنه حزن فقال له ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6) {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} (يس: 76) مثل هذه الآيات تبين أن النبي كان يريد هدايتهم، والمعني: وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمني هذه الأمنية السامية، وهي هداية قومه ألقى الشيطان في سبيله العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات، ووسوس في صدور الناس؛ فثاروا في وجهه، وجادلوه بالسلاح حين وبالقول حين آخر، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها ونالوا منه، وهو قليل الأتباع ظنوا أن الحق في جانبهم، وقد يستدرجهم الله جريًا على سنته يجعل الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا؛ فينخدع بذلك الذين في قلوبهم شك ونفاق، ولكن سرعان ما يمحو الله ما ألقاه الشيطان من الشبهات، ويزيل العراقيل، وينشئ من ضعفِ أنصار الآيات قوة ويبدلهم من ذلهم عزة، وتكون في النهاية كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؛ ليعلم الذين أوتوا العلم أن ما جاء به الرسل هو الحق؛ فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط

مستقيم. نعود بعد ذلك إلى الشبهات التي أثارها بعض الزنادقة، وبعض المعادين للإسلام حول قصة السيدة زينب بنت حجش -رضي الله عنها- وقد سبق الكلام فيها، وفي هذه القصة وتفنيد أقوالهم، لكن لا مانع من تكمله الردود في هذا الأمر؛ ليتضح الموقف، ونكون على بينةٍ من هذا الأمر؛ فالآية التي في سورة الأحزاب: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (الأحزاب: 37). روى المبطلون كلامًا كثيرًا سبق ذكره: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ذهب إلى بيتِ زيدٍ في غيبته، فرأى زينب، والريح كشفت عن ستر بيتها فرآها في حسنها؛ فوقع حبها في قلبه؛ من هذا الكلام الخبيث الذي ذكره المبطلون، ونحن نعلم أنه لمَّا حضر زيد أخبرته بكلامِ رسول الله، فذهب زيد وقال: بلغني أنك أتيت منزلي فهلَّا دخلت يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها، هذا كلام أورده بعض المفسرين، قال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} فنزلت الآية. يبقي لنا ما هو الشيء الذي عاتبه ربه فيه وهو قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الرسول -عليه الصلاة والسلام- هو الذي زوجها لزيد بن حارثة مولاه، وكانت معلومة يعرفها رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فلما تزوجها زيد كرهت ذلك، ثم رضيت بما صنعَ رسول الله وأمره فزوجها إياه، ثم أعلم الله رسوله بعد أن تزوجها زيد بأن زينب ستكون من أزواجه؛ فكان يستحي أن يعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك. فلما حدث بين سيدنا زيد وزوجه بعض الأمور، وأشتكي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره الرسول أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشي رسول الله أن

يعيب عليه الناس ويقولوا: تزوج محمد امرأة ابنه، وكان قد تبني زيدًا، وهذا هو السبب الصحيح في هذه الرواية. وابن أبي حاتم والطبري رووا بسندهم قالوا: أعلم الله نبيه أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها، قال له النبي: اتق الله، وأمسك عليك زوجك، قال الله: قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مُبديه؛ فالذي أخفاه النبي -عليه الصلاة والسلام- هو أن الله أخبره بأنها ستكون من زوجاته، وخشي النبي أن العرب يلومون هذا التصرف؛ لأن العرب كانوا من عادتهم التبني، وكانت العرب تلحق الابن المتبنى بالعصبي، وتجري عليه حقوقه في الميراث، وتحرم زوجته على الوالد أو الأب الذي تبناه، وكانت تلك العادة متأصلة في نفوسهم. فلما أخبر الله رسوله بذلك، وأن الله سيزوج رسوله منها؛ خشي النبي لومَ العرب وعتابهم، فيما ألفوها وتعودوه، وأن الإسلام سيقضي على حرمه زوجة الابن المتبنى، وسيقضي بأن زوجه الابن المتبني ليست كزوجة الابن العصبي، وبينت الآيات القرآنية أن ذلك: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (الأحزاب: 38). فواضح في هذه الآيات: أن زواجَ رسول الله من السيدة زينب كان بأمرٍ من الله، وأن الله -عز وجل- أراد يبطل ما تعود عليه العرب من حرمه زوجة المتبني، فلما قضي الله ذلك أتم أمره، وأظهر هذا الأمر، وكان جبريل قد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن زينب ستكون زوجة له، وسيبطل الله بزواجه منها عادة العرب، ولكن النبي وجد غضاضةً على نفسه أن يأمر زيدا بطلاقِهَا، فتشيع المقالة بين الناس أن محمدًا تزوج حليلة ابنه، وبذلك يصير عرضةً للقيل والقال من أعدائه، وهو في دعوته لدين

الله أحوج إلى تأييد المؤيدين، فهذا المقدار من خشية الناس حتى أخفى ما أخبره الله به، وهو نكاحها، وهو ما عاتبه الله عليه. وقد صرح الله في القرآن في كلامه بالسبب الباعث على هذا الزواج فقال: {لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} هذا هو التفسير الذي يتفق مع الحق والواقع، أما المستشرقون والمبشرون وأعداء الإسلام فقد نسجوا من تلك الروايات الباطلة المختلقة الواهية ثوبًا من الكذب والخيال؛ طعنًا في الدين، وطعنًا في رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم. هيا بنا ننتقل إلى بعض الأسباب التي وردت؛ وهي ضعيفة؛ لنستكمل بذلك الموضوعات في أسباب النزول: هناك أيضًا في قوله -جل وعلا-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: 8، 9) أورد غالب المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات عن سيدنا علي وعن الحسن والحسين؛ فقد روي عن ابن عباس: أن الحسن والحسين مرضا؛ فعادهما جدهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر وعمر، وعادهما من عادهما من الصحابة، جاءوا لزيارتهم فقالوا لعلي -رضي الله عنه- لو نذرت على ولديك؛ أي: تقدم نذرًا فنذر عليٌ وفاطمة وفضلة جاريةٌ كانت لهما، نذروا إن برآ -يعني: إن شفاهما الله سبحانه وتعالى- أن يصوموا ثلاثة أيام شكرًا لله، فألبس الله الغلامين ثوب العافية، فاستقرض سيدنا عليًّا ثلاثة آصع؛ أي: قدرًا من الطحين، أو من القمح، استعار ذلك من رجل يهودي شمعون الخيبري، فجاء بها فقامت السيدة فاطمة إلى صاع فطحنته، وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم؛ ليفطرُوا فوقف بالباب سائل؛ السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئًا من الطعام. وفي اليوم الثاني جاء يتيم فأعطوه الأقراص الخمسة كذلك، وفي اليوم الثالث جاء أسيرٌ فعل مثل الأولين، وبات عليٌ وفاطمة من غير طعام، هكذا ورد الكلام،

واشتمل الخبرُ على شعر قيل في هذا الشأن ركيك، ثم هبط جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: خذها يا محمد فأقرأه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (الإنسان: 1) إلى قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}. وقد أخرج هذا الخبر معظم المفسرين ويكادوا لم يسلم تفسير منهم حتى إن الحافظ السيوطي ذكره في (الدر) مع أنه وافق على ضعفه في (اللآلئ). وقد نبه على وضعه الحكيم الترمذي في كتابه (نوادر الأصول) في الأصل الرابع والأربعين، حيث قال: ومن الحديث الذي تنكره قلوب المحقين؛ فذكر هذه القصة، وقال: هذا حديث مذوق، وانظر كذلك (تخريج حديث الكشاف) للحافظ الزيلعي، وانظر (الموضوعات) لابن الجوزي؛ كل هؤلاء ذكروا أنه موضوع. والحافظ ابن الجوزي ذكره، وابن حجر في كتاب (التخريج) حيث تعقب هذا الحديث في (الكشاف) وقال: أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية الكلبي، وقال: إن آثار الوضع لائحةٌ عليه لفظًًا ومعنى؛ فبناء سيدنا عليٌ بالسيدة فاطمة، كان بالمدينة في السنة الثانية مع أن هذه السورة مكية؛ السورة مكية، وسيدنا عليٌ ما تزوج فاطمة إلا في المدينة، ثم أنجب فيما بعد -بعد ذلك بسنوات- فواضح أن هذه القصة فيها كذبً ُواضح، وبطلان صريح. والسورة مكية كما روي عن ابن عباس والجمهور: فليس من المعقول أن يكون هذا هو السبب. ومن العجيب: أن الإمام الألوسي قد حاول إثبات الخبر؛ بالخلاف في مكية السورة ومدنيتها، وبأن ابن الجوزي متساهل في الحكم بالوضع، ومعظم التفاسير ذكرت هذا السبب؛ لأن الحكمَ بوضعِه يخفى إلا على الحافظ الناقد البصير.

هناك أسباب كثيرة؛ عندنا أيضًا: ما أورده البعض من حديث: "أنا ابن الذبيحين" ذكر الإمام الزمخشري في كشافه وتبعه النسفي في تفسيره وغيرهما عند قوله تعالي: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظر مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102) هذه الآيات ذكروا في الاستدلال على أن الذبيح إسماعيل ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا ابن الذبيحين" يعني: جده الأعلى إسماعيل، وأباه عبد الله بن عبد المطلب، وهذا الحديث لا يثبت عند المحدثين، قال الإمامان الزيلعي، وابن حجر في (تخريج أحاديث الكشاف) لم نجد هذا الحديث بهذا اللفظ، وقال الحافظ العراقي: إنه لم يقف عليه، ولا يعرف بهذا اللفظ. وأما حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- طالبًا العطاء، فقال فيما قال: فعد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه. فهو حديث حسن بل صححه الحاكم، وقد ورد من طرق عدة يقوي بعضه بعضًا. أما حديث: "أنا ابن الذبيحين" فهذا لم يثبت. انظر إلى بعض الأقوال الشيعية ذكر بعض المفسرين كابن جرير والسيوطي في (الدر المنثور) ومفسرو الشيعة في تفاسيرهم عند قوله -جل وعلا-: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) فسره المنذر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والهادي بأنه عليٌ -رضي الله عنه- وجمهور المفسرين سلفًا وخلفًا على أن المنذر والهادي، هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما روي عند تفسير قوله تعالي: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (الحاقة: 12) قالوا: إن المراد بها أُذن عليٍّ، فقد رووا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزلت الآية أخذ بأذن عليٌ،

وقال: "هي أذنك يا عليٌ". وفي رواية: "اللهم اجعلها أٌذن عليٌ" وهذا كلامٌ موضوعٌ، فالحديثان موضوعان، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من الأئمة. هناك أيضًا ما ينشر وما يشتهر من قولهم: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء" ذكر الزمخشري في كشافه وتابعه النسفي في تفسيره قوله تعالي: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) وذكروا روايات: يحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعليٌ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان؛ علم الأديان، وعلم الأبدان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه، فقال: وما هي؟ قال: هي قوله تعالي: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة، فقال: وما هي؟ قال: في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء"، الحمية معروفة وهيالتقليل من الطعام والامتناع منه، والبعض يعتقد أن الحمية هي ما كان من الكي. على كل حال: الحديث الذي أوردوه: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأعْطِي كلَّ بدنٍ ما عودتَهُ"، فقال النصراني: ما ترك كتابكم، ولا نبيكم لجالينوس طبًّا" ويقول شيخنا الشيخ أبو شهبة معلقًا على هذا وناقلًا وناقدًا، يقول: لئن أصاب في الآية بأن الآية فيها طب وحكمة؛ فقد أخطأ في ذكره الحديث؛ يعني: الآية فعلًا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} ما شاء الله فيها الطب، وفيها الحكمة، أما إيرادهم للحديث: فقد أخطئوا؛ فليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو من كلام بعض أطباء العرب؛ هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب.

بعض القراءات الموضوعة.

فنسبة الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كذبٌ واختلاق؛ لأن الرسول لم يقله، نعم هناك من قول النبي ما هو أعظم، وما هو أدق، وأوفى من هذا؛ وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ما ملأ ابنُ أدم وعاءً شرًًّا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلاتُ -أي: لقيمات- يقمن صلبه؛ فإن كان ولا بد؛ فثلث لطعامِهِ، وثلثٌ لشرابه، وثلث لنفسه)) رواه الترمذي، قال: حديث حسن. وقد كان الإمام البيضاوي على حق عندما ذكر القصة التي ذكرها الزمخشري، ولكنه اكتفى بالبيان عن الآية، ولم يذكر الحديث؛ فقد علمتَ أنه ليس من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم. بعض القراءات الموضوعة هناك كتب التفسير (الزمخشري) و (النسفي) أورد بعض القراءات الشاذة التي تنسب إلى الإمام أبي حنيفة، وقد بين ذلك الإمام الخطيب في تاريخه، والإمام الذهبي في (طبقات القراء) وابن الجزري في (الطبقات) والذي وضع هذه القراءات، هو محمد بن جعفر الخزاعي المتوفى سنة سبع وأربعمائة، ونقلها عنه أبو القاسم الهُزلي. قال الذهبي في (الميزان) في ترجمة محمد بن جعفر الخزاعي هذا؛ أنه ألف كتابًا في قراءة الإمام أبي حنيفة، فوضع الدارقطني خطه عليه بأن هذا موضوع، لا أصل له، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) برفع لفظ الجلالة، ونصب لفظ العلماء كأنه قرأ: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ" وطبعًا هذا كلام غير صحيح، وإذا كانت موضوعة؛ فلا حاجة للتكلف بتصحيح معناها، كما فعل الزمخشري في ت فسيره -والله أعلم.

التفسير بالرأي.

التفسير بالرأي ولننتقل إلى التفسير بالرأي حتى ننطلق بعد ذلك إلى بيان أقسام الدخيل في الرأي وأنواعه وألوانه، وقبل أن نبدأ الحديث عن تفاسير الفرق المبتدعة، وما يتفرع على التفسير بالرأي، نَمُرُّ بإيجاز سريع حول التفسير بالرأي. نقول: التفسير بالرأي هل يجوز أو لا يجوز؟ ما هي ضوابط التفسير بالرأي؟ لن نتطرق إلى الأدلة بالتفصيل إلى القائلين بجوازه أو بمنعه، إنما نبذة عن التفسير بالرأي لكي نصل بعد ذلك إلى تفاسير الفرق المبتدعة. ونبدأ بالتفسير بالرأي: اختلف العلماء في التفسير بغير المأثور؛ أي: بالتفسير بالرأي والاجتهاد؛ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز لأحد أن يفسر شيئًا من القرآن، ولو كان عالمًا أديبا متسعًا في معرفة الأدلة والعلوم اللازمة للمفسر، وليس له أن ينتهي إلا إلى ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى صحابته الآخذين عنه ومن أخذ عنهم من التابعين. وأجاز تفسير القرآن بالرأي والاجتهاد الأكثرون من السلف الصالح والعلماء؛ ولكل وجهة، ولكل أدلة، وسنعرف أن التفسير بالرأي إذا اكتملت له أسبابه وشروطه صار مقبولًا ممدوحًا، أما إذا اختلت الشروط ولم يستكمل العلومَ الكاملة التي تؤهل صاحبها للتفسير بالرأي؛ فسوف يصنف هذا من قبيل التفسير بالرأي المذموم، ومن ذلك دخلت أقوال الباطنية، والشيعة، والمعتزلة، والخوارج، وغير هؤلاء من الفرق الذين برأيهم أفسدوا كثيرًا من التفسير حول آيات القرآن الكريم. ولنبدأ باختصارٍ وإيجازٍ: القائلون بعدم جواز التفسير بالرأي والاجتهاد أدلتهم؛ روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)) وحديث آخر: ((اتقوا الحديث عليَّ إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه؛ فليتبوأ مقعده من النار)).

ثالثًا: سئل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عن تفسير حرفٍ من القرآن، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، وأين أذهب وكيف أصنع، إذا قلت في حرف من كتاب الله؛ أي: في كلمة من كتاب الله بغير ما أراد الله، وفي رواية: إذا قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم. وأيضًا أوردوا عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن تفسير آية من آيات القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئًا، بينما لو سئل عن الحلال والحرام تكلم. وروي عن الشعبي أنه قال: ثلاثة لا أقول فيهن حتى أموت؛ القرآن والروح والرؤى -الرؤى هي تفسير الأحلام- وروي مثل هذا أدلةٌ كثيرة. والذين أجازوا التفسير بالرأي والاجتهاد ناقشوا هذه الأدلة؛ قالوا: أما الأحاديث التي وردت في صحتها وثبوتها نظر، وأن المراد من قول من يقول في القرآن: إنني لا أتكلم، واتقوا الحديث وإنكار أبو بكر هذا يحمل على أن المراد من يفسر بمجرد رأيه وهواه، بأن يجعل الرأي أصلًا والقرآن تبعًا لرأيه؛ وذلك بأن يكون المسألة فيها رأي، وإليه ميل بطبعِهِ وهواه، فيتأول على وفق رأيه وهواه؛ فهذا لا شك مردود. وأن المراد بالأحاديث التي ترفض، والتي تحذر من القول في القرآن المراد من يفسر المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- أو الذي يفسر القرآن، ولم يستكمل العلوم اللغوية والشرعية التي تؤهله، فمثل هذا وإن أصاب القول والصواب؛ فقد أخطأ الطريق الصحيح في تفسيره. وما ذكر عن السلف من أنهم كانوا يتحاشون الكلامَ في القرآن فأيضًا هذا ما عارضه ما ورد عن الصديق -رضي الله عنه- فقد سئل عن معني الكلالة، فقال: أقول فيها

برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه؛ الكلالة هي من لا ولد له ولا والد؛ فلما ولي الخلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه وأرضاه- قال: إني لأستحي أن أخالف أبي بكر في رأي رآه. وهذا يدل على أن قوله: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟ إنما أراد به أن يتكلم بما لم يقم عليه دليل، أو بما لا علم له به، أو تخوفًا من أن لا يصيب مراد الله -سبحانه وتعالى. يقول لنا العلامة الحافظ ابن كثير: فهذه الآثار الصحيحة، وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم من الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلَّم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعًا؛ فلا حرج عليه، ولذلك روي عن هؤلاء وغيرهم أقوالٌ في التفسير كثيرة، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه الإنسان عملًا بقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) ولِمَا جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي ورد من طرق: ((من سئل عن علم فكتمه؛ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار)). وأيضًا نقول استلالًا لجواز التفسير بالرأي مع الانضباط بالشروط: روي عن كثير من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تفسير القرآن الكثير والكثير، كالسادة الأخيار؛ عليٌ، وابن مسعود، وابن عباس حبر الأمة الذي لا تجد آية من كتاب الله، إلا وله فيها رأي، وكذا أُبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس، وأبو هريرة، وغيرهم؛ فلولا أنت تفسير القرآن جائز لمن تأهل له؛ لما فعلوه؛ لأنهم كانوا أشد الناس ورعًا وتقوى، ووقوفًا عند حدود الله -سبحانه وتعالى.

ثم تذكر أن تفسير القرآن قد ورد عن كثير من خيار التابعين؛ سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وقتادة، والحسن البصري، وعطاء، ومسروق، والشعبي وغيرهم؛ مما يدل على أن من امتنع منهم من تفسير القرآن إنما كان زيادة احتياط، ومبالغةً في تورعهم. بعد ذلك نقول: التفسير بالرأي والاجتهاد، هل هو يترجح جوازه؟ نقول: نعم، وإذا كانت الأدلة التي استند إليها المانعون لم تنهض أمام البحث والنظر، فقد تبين جوازُ التفسير بالرأي إذا كان مستكملًا للشروط. مما يجب أن ننتبه إليه أن التفسير بالرأي ليس من قبيل الدخيل في التفسير؛ فإن التفسير بالرأي والاجتهاد الذي توفرت لصاحبه أسبابه؛ وهي العلم بالعلوم، والعلم بالأحكام الشرعية، وفروع اللغة العربية هذا جائز، وهذا واضح. وأيضًا لو لم نفسر القرآن بالاجتهاد؛ لفات معني التدبر والتأمل في القرآن، الذي حثنا الله عليه في غير آية، ولفات الكثير مما اشتمل عليه الكتاب الكريم من الأحكام والآداب، وليس من شك في أن الصحيح الثابت المروي في تفسير القرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قليل بالنسبة إلى ما لم يروَ عنه فيه شيء، وكذلك ما روي عن الصحابة والتابعين لم يستوعب كل آيات القرآن الكريم هذا ما فيه من بعض الضعيف الموضوع والإسرائيليات. وبعد ذلك نستطيع أن نقول: لا بد من البدء في تفسير القرآن الكريم بالرأي والاجتهاد، والأدلة في ذلك كثيرة ولو أننا وقفنا عند قول الله -جل وعلا-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وإلي قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) والآيات التي تذم كاتم العلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159).

ولا يخفى أن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا أصحاب مدارس عظيمة؛ فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أعظم مدارس التفسير ثلاثة؛ مدرسة ابن عباس بمكة، ومدرسة ابن مسعود بالكوفة، ومدرسة أُُبَي بالمدينة؛ إن كل مدرسة من هذه المدارس كان لها رجالها وتلاميذها، وقد ملئوا ثقافة الأمة بأقوال صحيحة، وتفاسير مرضية. والخلاصة: هل التفسير بالرأي كله مقبول؟ الجواب: إن التفسير بالرأي قسمان؛ الأول: التفسير الممدوح المقبول: وهو التفسير المبني على المعرفة الكافية بالعلوم اللغوية، والقواعد الشرعية والأصولية؛ أصول الدين وأصول الفقه، وعلم الحديث والمصطلح، وألا يعارض نقلًا صحيحًا، ولا عقلًا سليمًا، ولا علمًا يقينًا ثابتًا مستقرًّا، مع بذل غاية الوسع في البحث والاجتهاد، والمبالغة في تحري الحق والصواب. ومن هذا تفاسير كثيرة منها: تفاسير الإمام الرازي، ومنها (البحر للمحيط) لأبي حيان و (تفسير البيضاوي) و (تفسير روح المعاني) للآلوسي و (زاد المسير) لابن الجوزي، تفاسير كثيرة تملأ ثقافتنا الإسلامية. القسم الثاني من التفسير بالرأي: وهو التفسير المذموم المردود: وهو تفسير من غير تأهلٍ له بالعلوم التي لا بد منها للمفسر، أو التفسير بالهوى والاستحسان، أو التفسير المقصود به تأييد المذهب الفاسد والنِّحْلة الخاصة والرأي الباطل، أو تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- وهذا اللون من التفسير كثيرًا ما يشتمل على المرويات الواهية والباطلة، ولا ننطرق تفصيلًا؛ فإننا نعرف تفاسير الشيعة، تفاسير المعتزلة، تفاسير الخوراج، التفسير الإشاري لبعض الصوفية المغالين، ويندرج تحت هذا تفاسير الباطنية، وأقوال البابية، والبهائية، والملاحدة، ونحو ذلك.

أما الآن؛ فإذا قلنا: إن التفسير بالرأي إذا استوفى شروطه، واستكمل العلوم اللازمة جائز؛ فما هو المنهج القويم في تفسير القرآن الكريم؟ نستطيع أن نقول: إن المنهج القويم لمن يفسر كتاب الله تعالي يجب عليه أن يبحث في القرآن عن معنى الآيات؛ فإن لم يجد تفسير القرآن بالقرآن، فليطلبه فيما صح وثبت في السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن لم يجد فليطلبه في أقوال الصحابة، وليتحاشى الضعيف والموضوع والإسرائيليات؛ فإن لم يجد في أقوال الصحابة، فليطلبه في أقوال التابعين. ويلاحظ أن التابعين إذا اتفقوا على شيء كان ذلك أمارة غالبًا على تلقيه عن الصحابة، أما إذا اختلفوا فلنتخير من أقوالهم، ونرجح ما يشهد له الدليل؛ فإن لم نجد في أقوالهم ما يصلح أن يكون تفسيرًا للآية؛ فليجتهد المفسر رأيه، ولا يقصر إذا كان مستكملًا لأدوات الاجتهاد، وعليه أن يراعي القواعد الآتية التي أسوقها باختصارٍ: 1 - أن يتحرى في التفسير مطابقة المُفَسِّر للمُفَسر، وأن يتحرز في ذلك عن نقص لما يحتاج إليه في إيضًاح المعنى، أو زيادة لا يحتاج إليها. 2 - أن يعنى بأسباب النزول؛ فإن أسباب النزول كثيرًا ما تعين على فهم المراد من الآية. 3 - أن يعنى بذكر المناسبات بين الآيات، وقد اختلفت مناهج المفسرين في هل المناسبة أولًا أو سبب النزول؟ فمنهم من يذكر المناسبة؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة عليه، وبعضهم يذكر السبب أولًا؛ لأن السبب مقدم على المسبب، وبه يتضح المعني. والتحقيق: أن التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على سبب النزول كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) فهذا ينبغي تقديم السبب على المناسبة؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف وجه المناسبة على السبب؛ فالأولى تقديم المناسبة.

4 - أن يجرد المفسر نفسه من الميل إلى مذهب بعينه؛ حتى لا يحمله ذلك على تفسير القرآن برأيه ومذهبه؛ فيقع في الزيغ والضلال. 5 - مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي؛ حتى لا يصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بصارف، وليقدم الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية، وكذا الحقيقة العرفية، وليراعي حمل كلام الله على معانٍ جديدة أولى من حمله على التأكيد. 6 - ينبغي مراعاة نظم الكلام وتأليفه والغرض الذي سيق له؛ فإن ذلك يعينه على فهم المعني المراد وإصابة الصواب، قال الإمام الزركشي في (البرهان): ليكن محطُّ نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له. 7 - يجب على المفسر البداءة بما يتعلق بالمفردات، وتحقيق معانيها، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب؛ فيبدأ بالإعراب إن كان خفيًّا، ثم المعاني، ثم البيان، ثم البديع، ثم يبين المعني المراد، ثم ما يستنبط من الآيات من أحكامٍ وآداب، وليراعي القصد فيما يذكر من لغويات أو نحويات أو بلاغيات، فلا يتوسع فيما ليس فيه فائدة. أخيرًا؛ يجب أن يتحاشى عن ذكر الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، ويتجنب الروايات المدسوسة من الإسرائيليات ونحوها حتى لا يقع فيما وقع فيه كثيرٌ من المفسرين السابقين من الموضوعات والإسرائيليات في أسباب النزول، أو في قصص الأنبياء والسابقين، وبدء الخلق والميعاد، ونحو ذلك؛ فيكون تفسيره قد سَلِمَ من هذه الأباطيل التي تضعف جانب التفسير. هذا فيما يتعلق بالشروط والمنهج القويم الذي يجب أن يلتزمه من يفسر القرآن بالرأي والاجتهاد. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

الدرس: 21 أنواع الدخيل في الرأي (1).

الدرس: 21 أنواع الدخيل في الرأي (1).

معنى الدخيل في الرأي.

الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (أنواع الدخيل في الرأي (1)) معنى الدخيل في الرأي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: لقد انتهينا من الدخيل في النقل والموضوعات والإسرائيليات، وبيان قدر كبير مما حوته كتب التفسير من هذا النوع، والآن ننتقل إلى الدخيل في التفسير بالرأي، وهذا يشتمل معنى الدخيل في الرأي - أنواع الدخيل في الرأي - ذِكْر نماذج لكل نوع من أنواع الدخيل في الرأي. أولًا: الدخيل في الرأي: الدخيل في الرأي: هو ما كان من التفسير ناشئًا عن رأي فاسد واجتهاد غير صحيح، وترجع أسبابه إلى إما الجهل بقوانين اللغة العربية وقواعدها، أو الشريعة وأصول الدين، أو التعصب لطائفة من الطوائف المارقة من عقيدة أهل السنة والجماعة، أو الكيد لدين الإسلام بتحريف القرآن عن موضعِهِ، ولم يستطيعوا النيل من الآيات؛ فعمدوا إلى دس أباطيلهم وإفساداتهم في كتب التفسير، فالتحريف تناول التفسير للقرآن، يحرفون الكلم عن مواضعه والباعث لهم على ذلك هو الحقد على الإسلام والكيد لأهله. أما أنواع الدخيل في الرأي فكثيرة: أشهرها الدخيل عن طريق اللغة؛ حيث أورد كثير من المفسرين كلامًا في اللغة والإعراب والآراء والأقوال لم تكن صحيحة. ثانيًا: الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة: الشيعة، الخوارج، المعتزلة، وغيرهم فرق كثيرة، لكنَّ هؤلاء الثلاثة هم أشهر الفرق التي كتبوا في تفسير القرآن كلامًا فاسدًا، وآراء باطلةً، يتعصبون بها لعقائدهم الزائغة، وينتصرون بها لأهوائهم. ثالثًا: الدخيل عن طريق الإلحاد المُتَعَمَّد: من الفرق التي لبثت ثوب الإسلام كذبًا وزورًا: الزنادقة، الباطنية، القاديانية، البابية، والبهائية، هذه أشهر الفرق التي ألحدت في دين الله، تظاهرت بالإسلام، لكنها تضمر في قلوبها الحقدَ الأسودَ الدفين الذي يريدون به هدمَ الإسلام، ونقض قواعده، والنيل من رسول

الإسلام، والتنقيص من شأن علماء الأمة سلفًا وخلفًا، والطعن في القرآن الكريم. رابعًا: الدخيل عن طريق الصوفية، والصوفية فيهم قوم معتدلون يلتزمون شرع الله وهديه، وهؤلاء لا نتكلم عنهم، هؤلاء المنصفون الذين يعتزون بإيمانهم، ويلتزمون أخلاق الإسلام، وشعب الإيمان: التوكل على الله، الصبر، اليقين، المراقبة، الخوف، الرجاء، الزهد، الورع، هذه الصفات العظيمة، لكن خرج من بين الصوفية أناس مغالون؛ يغالون في تصوفهم، فخرجوا وشطحوا، ولهم مواقف كثيرة تخالف منهج الإسلام. خامسًا: الدخيل عن طريق التفسير العلمي: هذا الباب الذي فُتح ليكون باب إعجاز لكتاب الله، ولو أن أصحابه التزموا القواعدَ الصحيحة، والقصد والاعتدال؛ فإن هذا باب إعجاز، أما وأنهم قد تطاولوا، وحمَّلُوا القرآن ما لا يحتمل، وخرجوا به عن قصده وهداياته؛ فهذا الجانب من التفسير العلمي لا بد أن نشير إليه وأنه فيه دخيل، وتحميلٌ لكتاب الله ما ليس يحتمله. والآن نبدأ بالدخيل عن طريق اللغة: والدخيل عن طريق اللغة يتناول أنواع عدة؛ فالمقصود من الدخيل هنا ما حدث لبعض المفسرين من إعرابٍ لبعض كلمات القرآن، أو توجيهها توجيهًا خاطئًا شاذًّا، لا يتمشّى مع القواعد المتعارف عليها؛ مما أدى إلى خطأ في المعنى، واضطراب في الفهم. مثال ذلك: ما جاء في تفسير قوله -تبارك وتعالى-: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف: 16) الآية مسوقة على لسان إبليس، فجوز بعض

المفسرين كون {مَا} استفهامية كأنه قيل: بأي شيء أغويتني، ثم ابتدأ بقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} فهذا الإعراب شاذ؛ لأن قوله {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} هنا ما ليست استفهامية. وسنعرف الآن ماذا يقصد هؤلاء الذين حرفوا الآية بهذا الإعراب الشاذ، جعلوا "ما" استفهامية، كأنه قيل فبما أغويتني؟ كأنه قيل: بأي شيء أغويتني؟ ثم ابتدأ بقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} إعراب شاذ مضطرب مخالف لما عليه قواعد اللغة العربية، وعليه لا يصلح تخريج الآية الكريمة؛ لأن الاستفهام هنا لا معنى له؛ إذ كيف يسأل إبليس ربه -عز وجل- بأي شيءٍ أغواه وأضله، ثم إن ما الاستفهامية إذا وقعت بعد حروف الجر؛ فإن ألفها تحذف، كما هو مقرر في علم القواعد النحوية الصحيحة كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (النبأ: 1) حذفت الألف. وكقوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (النازعات: 43) فأما إثبات الألف في تلك الحالة فهو قليل شاذ كما قال الزمخشري؛ وعلى هذا فإن القول بأن ما في الآية استفهامية قول باطل، والصحيح أنها مصدرية ليست استفهامية، والمعنى: فبسبب إغوائك إياي؛ لأقعدن لهم صراطك المستقيم، أي لأعترضن لهم على طريق الإسلام، كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة والمارين، فهنا ما مصدرية سببية. مثال آخر: نقول: جاء في تفسير قوله -تبارك وتعالى-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص: 68) من الواضح: أن "ما" في قوله {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نافية، أي: نفى اختيار الناس في أمرٍ قد اختاره الله سبحانه، هذا هو المعنى الصحيح لـ"ما"، لكن هناك قوم جعلوها، أي: "ما" موصولة، وبعضهم يجعلها مصدرية، وذلك غاية البطلان، كأنهم يقولون:

وربك يخلق ما يشاء مشيئته، ويختار ما كان لهم الخيرة، جعلوا "ما" في {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} هنا موصولة والبعض جعلها مصدرية؛ مع أن الواضح: أنها نافية؛ لأن المعنى يكون على أنها موصولة، أن الله يختار لهم الأمر الذي كان هو الخيرة، وعلى جعل ما مصدرية، يكون المعنى يختار اختيارهم فيه، وهذا ظاهر البطلان. ومن أمثلة هذا النوع أيضًا: ما أورده المفسرون في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (يوسف: 99) حيث ادعى بعضهم أن {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} موضعها بعد قوله تعالى: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} (يوسف: 98) وهذا ظاهر الضعف والبطلان؛ ولذلك يقول الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن قوله تعالى: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في كلام يعقوب؛ أي: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله، ولا أدري ما أقوله فيه وفي نظائره. ثانيًا: ما يتعلق بمدلول اللفظ: هناك نوع آخر أورده المفسرون، وهو من اللغة الباطلة، وذلك أن تفسير القرآن بغير ما يدل عليه في لغة العرب مما ينتج عنه الخطأ في التأويل، مثال ذلك: ما جاء عن بعض أدعياء العلم في قوله -تبارك وتعالى-: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (الإسراء: 71) فقد ذكروا في تفسير هذه الآية من أن كلمة إمامهم. قالوا: إن إمام جمع "إم"، أو جمع أم، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأسماء أمهاتهم لا بآبائهم سترٌ عليهم، وهذا خطأ؛ لأن جمع أم أمهات، كما قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) وليس على إمام.

والمعنى الصحيح للآية: يوم ندعو كل أناس من بني آدم بمن ائتموا له من نبي، أو مقدم في الدين، أو كتاب دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا، يا أهل كتاب كذا؛ فحملهم كلمة إمام على أنها جمع أمٍّ هذا كلام غير صحيح. ثانيًا: وضع الكلام على غير موضعه: مثال ذلك قوله -تبارك وتعالى- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) أورد بعضهم كلامًا وتفسيرًا لا يليق وغير مراد من الآية؛ فبعض المتصوفة فسروا الآية بأن معناه: "من ذل ذي يشفى عو" انظر إلى تقطيع الآية وفسروا كل كلمة بمعنى، من ذل: أي من الذل، ذي: إشارة إلى النفس، يشفى: من الشفا جواب مَن، عو: أمر من الوعي، وهذا إلحاد في آيات الله. ولا يخفى أن من في الآية استفهامية؛ فالله -جل جلاله- في هذه الآية يذكر {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} استفهام بمعنى النفي، استفهام إنكاري، كأن الله يقول: لا أحد يشفع عند الله في الآخرة إلا بإذنه -سبحانه وتعالى- وإلا لمن ارتضى الله -سبحانه وتعالى- كما فسرت الآيات يفسر بعضها بعضًا فمن هم هنا استفهامية لا شرطية، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ولذا جاء الاستثناء بعده. والمقصود من الآية: بيان كبرياء الله، وعظم شأنه، وأن لا أحد يساويه، أو يدانيه؛ بحيث يستقل أن يدفع ما يريده الله دفعًا على وجه الشفاعة؛ فضلًا عن أن يستقل بدفعه عنادًا، أو مكابرة، أو مناصبة، وهذا تأييس للكفار؛ حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله -تبارك وتعالى- تفاسير (البيضاوي) و (الألوسي) و (الكشاف) وغيرهم. مثال آخر: تفسير الآية بشيء لا يليق مع الذوق السليم، واللغة العربية الفصيحة، مثال ذلك قولهم عند الآية: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (الأحزاب: 27) فإن

قوما فسروا الأرض بمعنى نساء الأعداء، والزمخشري يصف هذا التفسير بأنه من البدع. ومن المعلوم: أن الآيات تتكلم عن غزوة الأحزاب وعن بني قريظة، وما أنعم الله به على المسلمين من توريثهم أرض بني قريظة وأموالهم الذين نقضوا العهد وغدروا في غزوة الأحزاب، فحمل الآية على أن أرضًا لم تطئوها نساء الأعداء، هذا تفسير الآية بشيء إن لا يصح، ولا يليق ذوقًا أبدًا. أمثلة أخرى: تفسير الآية بلغة شاذة أو غريبة: مع أن القرآن الكريم نزل بأفصح اللغات؛ فوجب على المفسر أن يحمله على أفضل وجوه التأويل، ويبتعد عن تفسير الآية بلغةٍ شاذةٍ أو غريبة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّة} (التوبة: 8) فالإل معناها القرابة، وقيل: العهد، وقيل: الحلف، ولكن قومًا فسروا الإل بمعنى الله -سبحانه وتعالى- كيف يصح هذا، وأسماء الله توقيفية؟! أي: لا يصح أن يسمى الله باسم إلا إذا جاء صريحًا في آية كالأسماء المذكورة في خواتيم سورة الحشر أو ورد في حديث صحيح، فكلامهم هذا تفسيرٌ للآية بلغةٍ غريبةٍ شاذة. وخذ مثالًا آخر أيضًا من أمثلة هذا النوع: ما أوردوه في قوله جل وعلا: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} (القصص: 32) فالرهب هنا مقصود منه الخوف، وفي ذلك يقول الإمام القرطبي -رحمه الله-: وهو بمعنى الخوف، والمعنى: إذا هالك أمر يدك وشعاعها، فأدخلها في جيبك وارددها إليك، تعد كما كانت، فهناك قوم فسروا الرهب بمعنى الكُم، وهو تفسير غريب لا يتفق مع مفهوم الآية.

هناك أيضًا أن تفسر الآية تفسرًا يصادم الشرع ويأباه العقل، وذلك كما فسر بعضهم قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) قال: إن الخطاب هنا للرسول، والإنسان يعجب من ذلك، والله تعالى يقول لرسوله: {وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُوْلَى} (الضحى: 4) فهذا تفسيرٌ يصادم هذه الآية، ويأبى العقل قبوله؛ إذ كيف يفضل -صلى الله عليه وسلم- الحياة الفانية على الآخرة الباقية ذات النعيم الدائم والمتاع المقيم. والصحيح: إن هذه الآية، إنما وردت للفاجر أو الكافر، أما البر المؤمن فلا يحيد عن الموت، ولا يهرب منه؛ فضلًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف يحيد النبي عن الموت، وهو الذي خيَّرَهُ الله بين الدنيا وبين ما عنده؛ فاختار ما عند الله كما ثبت في (الصحيحين). أيضًا، هنا نجد نماذج لا يُرَاعَى فيها سياقُ الكلام أثناء التفسير وذلك كقول المفسرين في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 243) فالمعروف أن كلمة ألوف جمع ألف، لكن بعض المفسرين فسروا الألوف بالألفة، وهذا التفسير بعيد من سياق الكلام؛ لأنه لا معنى لذكر الألفة هنا، ولا مناسبة تقتضيها، وإنما التفسير الصحيح لقوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌِ} أي عددهم كثير، فالألوف جمع ألف، وهذا هو المناسب لسياق الكلام. ننتقل من نماذج اللغة إلى ما يتعلق بعلم القراءات: والقراءات أيضًا هي من اللغة، إن البدع التي تتعلق بالقراءات في كتب التفسير صنفان؛

فهناك رد قراءة نزل بها جبريل الأمين -عليه السلام- من عند الله على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهناك استحداث قراءة ليس لها سند صحيح. مثال الأول: ما ذكره المفسرون، فبعضهم رد قراءة حمزة أحد القراء السبعة لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (النساء: 1) فالقراءة بجر الأرحام "تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" قراءة حمزة، والذي جعلهم يردون هذه القراءة مسايرتهم لمذهب البصريين في قاعدة العطف التي تقول: إن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الجار له، نحو: مررت بك وبزيد، وهم يقولون: لا يجوز: مررت بك وزيدٍ، هكذا يشرح ابن عقيل وكتب اللغة، ولكن هذا ليس محل اتفاق بين النحاة؛ فقد أجاز الكوفيون هذا العطف؛ ونظرًا لوروده في النثر والنظم فقد مال إليه العلامة ابن مالك حيث قال: وعود خافض لدى عطف على ... ضمير خفض لازمًا قد جعل وليس عندي لازمًا إذ أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتَا العلامة ابن مالك مالَ إلى الجواز، وهو ما عليه الكوفيون. ويرد الإمام القشيري على هذا الرأي برد يقوم على دعامتين: إحدهما: أن القراءة جاءت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذه القراءة أخذت عن الرسول بطريق التواتر. ثانيًا: إن العربية تؤخذ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالرسول هو عربي، وأفصح من نطق بالضاد، والقرآن كلام رب العالمين يؤخذ منه القواعد، ولا يقعّد عليه. أيضًا من هذه الأمثلة التي ردوا بها قراءة صحيحة، ما ورد في قراءة سيدنا جبريل على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الآية: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ} (الأنعام: 137) لقد

رد الزمخشري قراءة ابن عامر ببناء الفعل لما لم يسمّ فاعله "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهَمْ شُرَكَائِهُمْ" ببناء الفعل لما لا يسم فاعله، ورفع القتل وأضاف لشركائهم، فصار قتلُ أولادَهم شركائِهِم، وبخفض شركائهم، ونصب أولادَهُم، لوقوع القتل عليهم، وحال بينهم وبين المضاف إليه. وفي ذلك يقول: وأما قراءة ابن عامر: "زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهَمْ شُرَكَائِهُمْ" برفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إلى شركائهم، والفصل بينهما بغير الظرف؛ فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر؛ لكان سمجًا مردودًا إلى أن قال: فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن لفظه ونظمه، وجزالته. والذي جعله يقول بهذا: أنه رأى في بعض شركائهم مكتوب بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء؛ لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. ولقد احتج الزمخشري في رد هذه القراءة: بأنها مخالفةٌ للقواعد النحوية التي لا تجيز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير ظرف، كما أرجع خطأ ابن عامر في قراءته هذه إلى رسم المصحف؛ حيث قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شركايهم مكتوبًا بالياء؛ فالسبب إذًا في رد هذه القراءة في رأي الزمخشري: هو رسم المصحف، وأن ابن عامر اعتمد على المصحف، ولم يعتمد على الرواية، وهذا غير صحيح؛ بل إنه منكر مردود؛ وذلك لأن هذه القراءة رويت، وشاعت القراءة بها قبل تدوين المصاحف، وجمع القرآن، ثم حين دونت المصاحف لم يكن النقط عرف، ولا الشكل اخترع؛ فظهرت حركة القراءات قبل النقل، والضبط؛ فكانت قراءتهم للكلمة على حسب ما يروون، وينقلون لا على ما يقرءون في المصاحف. وبهذا نقول: فالعمدة في القراءة الرواية والمشافهة والتلقي، وليس رسم المصحف أو خطه، ونحن لا يمكننا بحال أن نقبل من الزمخشري تخطئته لقراءة ابن عامر، بل

إننا نكر عليه رده لهذه القراءة، وتعلله في ذلك بأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه غير جائز عند النحاة. ونقول: إن ذلك جائز عندهم؛ فإذا كان بعض النحاة قد منعه؛ فإن آخرين قد أجازوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف إذا كان المضاف شبه فعل بأن كان مصدرًا أو اسم فاعل، وكان عاملًا النصب فيما هو فاصل كما هو الحال في الآية التي نحن بصدد تفسيرها. وحتى لو سلمنا: أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية؛ لوجب قبولها أيضًا بعد أن تحقق صحة نقلها، كما قبلت أشياء ثبتت، وإن نافت القياس مع أن صحة نقلها هي المعتمد، وطبعًا صحة القراءة أولى ... إلى آخر الكلام في هذا المثال. الكلام في هذا تكلم فيه أبو حيان وغيره، ونكتفي بهذا في رد كلام (الكشاف) حيث يتبين لنا أن قراءة ابن عامر قراءة صحيحة يجب قبولها، وقد نص أئمة القُرَّاءَ على أن الاعتماد في قبول القراءة، إنما هو في ثباتها، وصحة نقلها، لا على ما عُرِفَ في اللغة أو فشا أو كان مقيسًا فيها، بل الأثبت الأثر، والأصح في النقل والرواية، وهو ثابت عندنا. من ذلك أيضًا: ما استحدثه البعض؛ فاستحداث قراءة ليس لها سند صحيح ما قرئ في قوله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصِبْ" (الشرح: 7) روي عن بعض الرافضة أنه قرأ فانصِب بكسر الصاد، ويقصد بذلك عليًّا للإمامة، ولا شك أن هذه القراءة من الرافضة، وهي مرفوضة لعدم ورودها من طريق صحيح، سواء كانت القراءة التي يتكلم عنها هؤلاء يرفضون قراءة ثابتة، أو يختلقون قراءةً غير صحيحة؛ فهذا كلام لا يقبل، وإنما هو مرفوض.

الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة.

فيأتي إنسان ما ويؤول الآية لصالحه، ويجعل "فانصِب" أمر من النصب الذي هو عداوة علي وكراهيته؛ ولذا يقول الزمخشري: من البدع ما روي عن بعض الراوية أنه قرأ "فانصِب" بكسر الصاد أي: فانصب عليًّا للإمامة، ولو صح هذا لرافضي؛ لصح للناصبي الذي هو بغض علي وعداوته، وهذا كلام لا يقبل. ومن أمثلة هذا النوع أيضًا، وهو استحداث قراءة لا سند لها ما أورده البعض في تفسير قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (الفلق 1، 2) فقد قرأ بعض المعتزلة "مِنْ شَرٍّ مَا خَلَقَ" بتنوين شرٍّ، وجعل ما نافية، ومعنى ذلك: أنهم يستعيذون برب الفلق من شرٍّ لم يخلقه هو، بل خلقه فاعله، وذلك وفقًا لمذهبهم الاعتزالي، وهذا ولا ريب تحريفٌ في كتاب الله العزيز. قال ابن عطية فيما نقله عنه العلامة الألوسي عن هذه القراءة: هي قراءة عمر بن عبيد، وبعض المعتزلة القائلين: بأن الله تعالى لم يخلق الشر، وحملوا "ما" على النفي، وجعلوا الجملة في توضيح الصفة، أي: من شرٍّ ما خلقه الله تعالى ولا أوجده، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل. الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة والكلام عن الفرق المبتدعة يشمل أنواعًا كثيرة؛ فهو إما يشمل فرق الشيعة أو الخوارج أو المعتزلة. فرقة الشيعة: يراد بهم أولئك الذين شايعوا عليًّا وذريته، وأهل بيته، وادعوا أن عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو الأحق بالخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، وأن الخلافة لا تخرج عنه في حياته، ولا عن أبنائه بعد موته.

وقد ظهرت تلك الفرقة في أواخر عهد عثمان -رضي الله عنه-، فلما كان عهد علي -رضي الله عنه- ظهروا على الساحة بشكل واضح ونما عددهم، واتسع شأنهم، فلما كان العهد الأموي، وكثر الظلم من الأمويين على العلويين، وتحركت شفقة الناس على العلويين كان هذا الظلم سببًا في اتساع المذهب الشيعي. ورغم أن الشيعة انقسموا على أنفسهم إلى عدد من الفرق إلا أنهم جميعًا يكادون يتفقون على مبدأ واحد، وهو كما قال العلامة ابن خلدون: إن الإمامة ليست من مصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويعيَّنُ القائم بها تعينهم بل هي ركن الدين، وقاعدة الإسلام، ولا يجوز للنبي إغفاله، ولا تفويضه إلى الأمة. بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصومًا من الكبائر والصغائر، وأن عليًّا -رضي الله عنه- هو الذي عيَّنَهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعلى رأس فرقة الشيعة فرقتان: الزيدية، والإمامية الاثنى عشرية، والإسماعيلية، وأن كانت في الحقيقة فرقٌ الشيعة كثيرة جدًّا أوصلها بعضهم إلى خمسٍ وعشرين فرقة، لكن على رأس هذه الفرق فرقتان الزيدية والإمامية. أما الزيدية: فهم أتبع زيد بن علي بن الحسين -رضي الله عنهم- الذي تمرد على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك؛ طمعًا في استرداد الخلافة، فخذله أتباعه فَقُتِلَ وصُلِبَ، ثم أحرق جسده، وكانت الزيدية ترى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرَّضَ بالإمامة لعلي -رضي الله عنه. أما الإمامية: فيرون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نص على إمامة علي نصًّا وليس فقط عرض كما يقول الزيدية ويحصرون الإمامة بعد عليٍّ في ولده من فاطمة -رضي الله عنهم أجمعين-، والإمامية انقسموا إلى فرق كثيرة، أبرزها: الإسماعيلية الإثني عشرية والإمامية الإسماعيلية. ما الإمامية الإثنا عشرية: فسموا بذلك نسبة إلى الإمام الثاني عشر محمد المهدي المنتظر، الذين يدَّعُون أنه دخل سردابًا في دار أبيه، ولم يعد بعد، بل هو مختفي، وإنما سيخرج آخر الزمان ليملأ الكون عدلًا وأمنًا بدلًا من الظلم والخوف.

أما الإمامية الإسماعيلية: فينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، الذي ينتمي إلى محمد الباقر إلى الحسين إلى علي -رضي الله عنهم أجمعين. وإلى نماذج من الدخيل في التفسير عن طريق هذه الفرقة بأقسامها: الإمامية الإثنا عشرية: في قوله -تبارك وتعالى-: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} (الانشقاق: 19) قالوا: في هذه الآية إشارة إلى أن هذه الأمة، ستسلك سبيل من كان قبلها من الأمم، في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء، في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (يونس: 15) قالوا: إن الضمير في "بدله" لعلي بن أبي طالب، رغم أن علي لم يسبق له ذكر ولم يكن سياق الكلام في شأن خلافته أو ولايته. ثالثًا: الأمر يصل بهم إلى حدِّ الزيادة في الألفاظ القرآنية، انظر إلى باطلهم وضلالهم، ففي قوله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} (المائدة: 67) زادوا فيها لفظًا "في شأن علي"، قالوا "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في شأن علي" وهي زيادة باطلة موضوعة لم ترد إلا في زعمهم وكذبهم واختلاقِهِم. رابعًا: روى العباس عن الباقر أنه قال: لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام)) زعم أن أنزل الله {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51) وهذا كذب منهم، جاء في (أصول الكافي) -وما أكثر الأكاذيب والأباطيل في تفاسيرهم- في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (النساء: 137) قالوا: إن هذه الآية نزلت

في أبي بكر وعمر وعثمان؛ آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أولًا، ثم كفروا، حيث عُرضت عليهم ولاية علي، ثم آمنوا بالبيعة لعلي، ثم كفروا بعد موت النبي، ثم ازدادوا كفرًا بأخذ البيعة من كل الأمة -لا حول ولا قوة إلا بالله. انظر: كتاب (الوشيعة في نقض عقائد الشيعة) لموسى جاد الله، نقلًا عن أصول تفسيرهم (الكافي)، وما أكثر الأباطيل التي يسوقها الرافضة الشيعة في تفاسير الآيات الكثيرة، يحملون آيات الثناء والإيمان على علي وبنيه، وآيات الكفر والذم والترهيب يحملونها على صفوةِ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ننتقل بعد ذلك إلى نوع آخر من الفرق التي ضلت، والفرق المبتدعة وأقوالهم ألا وهي فرقة الخوارج: وبداية نلقي نظرة مختصرة على هذه الفرقة: نشأت هذه الفرقة بسبب التحكيم الذي كان بين سيدنا علي، وسيدنا معاوية -رضي الله عنهما- بشأن من أحقُّ بالخلافة منهما؛ وذلك أنه قامت عدة حروبٍ بين علي ومعاوية، وكان لكل منهما أنصاره ومشايعوه، وكانت الغلبة فيها دائمًا لعلي -رضي الله عنه- وجندِهِ إلى أن جاءت موقعة صفين؛ فكاد جيش معاوية أن ينهَزِمَ هزيمةً لا قائمةَ له بعدها؛ فلجأ معاوية إلى دهائه، فرفع المصاحف على أسنة الرماح وتظاهروا بها، طالبًا وقف القتال، والتحكيم بين الحزبين، حينئذٍ آثر عليٌّ -رضي الله عنه- بعض مشورةٍ وأخذٍ ورد قبول التحكيم رغبة منه في عدم إراقة الدماء، وحقن دماء الأمة، لعل الله أن يجمع بهذا التحكيم كلمة الأمة ويوحد صفوفها. لكن جماعة من أصحاب علي -رضي الله عنه- رفضوا هذه الفكرة وخرجوا على علي، ولم يقبلوا الرجوع إليه إلا إذا كفَّر نفسه، ونقض الشروط التي بينه وبين معاوية، ولما يئسوا من رجوع علي إليهم خرجوا إلى حروراء قرية قريبة من الكوفة، ووقعت بينهم وبين علي عدة حروب هزمهم فيها كلها دون استئصال شأفتهم، فدبروا له مؤامرةً لقتلِهِ حيث قتله بعد ذلك عبد الرحمن بن ملجم.

وكان لهذه الفرقة وجودٌ قوي أيام الأمويين؛ حيث كانوا يشكلون شوكة قوية في ظهرهِم؛ فحاربهم الأمويون؛ ثم كان عهد العباسيين، فنشبت الحروب بين الفريقين حتى تفرقت كلمة الخوارج، وضعفت قوتهم، وتعددت جماعتهم، فصاروا شيعًا وأحزابًا حتى وصلوا إلى عشرين حزبًا، ورغم أن هذه الأحزاب كانت متباينةً في العقيدة والمبدأ إلا أن الخوارج جميعًا يتفقون على أمرين: الأمر الأول: تكفير علي وعثمان، والحكمين، وأصحاب موقعة الجمل، وكل من رضي، أو شارك في التحكيم. والأمر الثاني: وجوب الخروج على السلطان الجائر، وهناك أمر ثالث يعتقد به معظم أحزاب الخوارج ألا وهو: تكفير مرتكب الكبيرة. ولننتقل إلى نماذج من أقوالهم في التفسير: الخوارج جعلوا عقيدتهم ومبادئهم نُصْبَ أعينهم في المقام الأول، أما التفسير: فيأتي في المرتبة التالية، وهو كالفرع الذي ينتجُ عن المذهب، فجعلوا المذهب أصلًا، مع أن المفروض أن يكون المبدأ والاعتقاد تبعًا للتفسير الصحيح للقرآن، وبناء على هذا الوضع جاءت تفاسيرهم فيها مخالفات كثيرة، من ذلك في قوله -جل وعلا-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97) قالوا: إن تارك الحج كافر؛ لأن الله تعالى جعل تارك الحج كافرًا. ثانيا: في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (آل عمران: 106) الآية قالوا:

الفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم، فوجب أن يكون ممن اسودت وجوههم، ووجب أن يسمى كافرًا؛ لقوله تعالى {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر: 42) قالوا: إن الغاوي الشيطان يكون مشركًا بدليل قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 100) وهكذا يأتي تفاسير الخوارج بكفر مرتكب الكبائر، مع أن النصوص الشرعية تبين أن مرتكب الكبائر ليس بكافر، وأن أمره مفوض إلى مشيئة الله، إن شاء عفا عنه بفضله، وإن شاء عذبه بعدله، وأن هذا العذاب لن يكون على سبيل التخليد، وحديث الشفاعة مشهور وهو في (الصحيحين): ((ادخرت دعوتي شفاعةً لأهل الكبائر من أمتي)). وفي سورة الحجرات أيضًا يصف الله المتقاتلين بالإيمان، ولا يرفعه عنهم فيقول {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات: 9) فجعل الطائفتين من المؤمنين، ولما أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة أنزل الله سورة الممتحنة، وفي صدرها يخاطبه الله -جل وعلا- بصفة الإيمان فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءِ} (الممتحنة: 1) ولما أراد عمر بن الخطاب أن يقتله؛ بحجة أنه منافق دافعَ عن نفسه أمام رسول الله، بأنه فعل ما فعل ليس نفاقًا منه ولا تكذيبًا، إنما أراد أن يكون له عند قريش يدٌ يحمون بها قرابته التي تعيش في مكة، لو أن أصحاب رسول الله أرادوا بهم سوءً حين فتحِ مكة، فصدقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((لعل الله اطَّلَعَ على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) والحديث في (الصحيحين).

فرقة المعتزلة: سبب نشأة فرقة المعتزلة ما اشتهر وعُرِفَ في مجلس الحسن البصري -رحمه الله- الذي كان يمثل سيدَ التابعين في زمانه؛ حيث كان له مجلس زاخر بالعلم وطلاب العلم، وكان من أبرز طلابه واصل بن عطاء، وبينما الحسن كان منشغلًا بدرس العلم إذا برجل يدخل على الحسن، ويخبره عن ظهور جماعتين إحداهما تكفر مرتكب الكبيرة، وهم الخوارج. والأخرى: تتساهل في الكبائر تساهلًا شديدًا حتى قالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة وهم المرجئة، ثم سأله عن رأيه في تلك المسألة وقبل أن يجيب الحسن بادره واصل بن عطاء بالإجابة، فقال: إنه في منزلة بين المنزلتين ليس مؤمنًا على الإطلاق، ولا كافرًا على الإطلاق، ثم اعتزل المجلس بجوار أسطوانة من أسطوانات المسجد "عمود من أعمدة المسجد" فقال الحسن البصري: اعتزلنا واصل؛ فسميت الفرقة بالمعتزلة، التفَّ حولَهُ جماعة، اقتنعوا برأيِهِ؛ فأطلِقَ عليه، وعلى من تبعه اسمَ المعتزلة. ومبادئ المعتزلة تقوم باختصار على الأمور التالية: أولًا: استحالة رؤية الله -عز وجل. ثانيًا: أن الفاسق في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر. ثالثًا: كل ما لم يأمر الله به، أو ينهى عنه من أعمال العباد لم يشأ الله شيئًا منها. رابعًا: قالوا بمبدأ الحسن والقبح العقليين، وأن العقل كافٍ عن إرسال الرسل، وأما الرسل فإنما جاءوا مذكرين، أو منبهين للإنسان من غفلته. خامسًا: قالوا: إن الجن لا تتسلط على الإنس مطلقًا، وإن أقصى شيء يفعلونه هو الوسوسة والإيحاء. سادسًا: عدم العفو على من لم يتب من ذنبِهِ، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والله أعلم.

الدرس: 22 أنواع الدخيل في الرأي (2).

الدرس: 22 أنواع الدخيل في الرأي (2).

تابع الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني والعشرون (أنواع الدخيل في الرأي (2)) تابع الدخيل عن طريق الفرق المبتدعة الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ونثني الآن بذكر نماذج من الدخيل في تفاسيرهم؛ ونظرًا لأن تفاسيرهم فيها كثير من الدخيل، فسنكتفي بأربعة نماذج فقط، مع أن الذي يريد المزيد بإمكانه أن يرجع إلى (تفسير الكشاف) للزمخشري أكبر تفاسيرهم؛ فعلى هامشِهِ نرى العلامة ابن المنير له كتاب (الإنصاف ببيان ما في الكشاف من الاعتزال). النموذج الأول من الدخيل في تفسير المعتزلة عند قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) يقولون: العقل كافٍ عن إرسال الرسل. وأما الرسل فإنما جاءوا منبهين للإنسان من غفلته، والإمام الزمخشري في تفسير هذه الآية يقول: فإن قلتَ: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل، وهم محجوجون بما نصبَهُ الله من الأدلة التي فيها النظر والنظر موصل للمعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرفوا أنهم رسلُ الله إلا بالنظر فيها. قال الإمام الزمخشري: الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر، كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد -يقصد علماء المعتزلة- مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف، وتعليم الشرع ... إلى آخره، وتميمًا لإلزام الحجة؛ لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولًا، فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له. ولا شك أن المعتزلة في هذا المبدأ مخطئون محجوجون بصريح الآية الأخرى، وهي قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء: 15).

الآية الثانية: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة: 275) في ضوء مبدئِهِم الذي يقولون فيه: بأن الجن لا تتسلط على الإنس مطلق ً ا، وأن أقصى شيء يفعلونَهُ هو الوسوسة. يقول الزمخشري: لا يقومون إذا بعثوا من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي: المصروع، وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والمس: الجنون، ورجل ممسوس وهو أيضًا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله. وإنكار ذلك التسلط من المعتزلة مصادم للنصوص الشرعية الصحيحة، من ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا استجنح الليل فكفوا صبيان عن الشفا؛ إن الشياطين تنتشروا حينئذ؛ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم)) الحديث في البخاري. ثالثًا: في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء: 93) في ضوء مبدأ المعتزلة عدم العفو على من لم يتب من ذنبه. يقول الزمخشري في هذه الآية: والعجب من قوم -يقصد أهل السنة- يقرءون هذه الآية، ويرون ما فيها، ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة وقول ابن عباس: يمنع التوبة، ثم لا تدعهم أطماعهم الفارغة، واتباع هواهم، وما تخيل إليه منامهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) هذا التفسير من المعتزلة تفسير دخيل معارض لصريح القرآن الذي يقول في غير آية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48). النموذج الرابع: في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة 22: 23) الزمخشري يفسر قوله: {نَاظِرَةٌ} أي: متوقعة؛ فيفسر الرؤية بمعنى التوقع والرجاء. والمعنى:

الدخيل عن طريق الإلحاد.

أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. يفسر الزمخشري الرؤية لله -عز وجل- بمعنى التوقع، وحتى لا تتصادم الآية مع مبدأ المعتزلة في نفي رؤية الله -سبحانه وتعالى- قالوا هذا؛ مع أن الآية صريحة وواضحة في إثبات رؤية اللهِ للمؤمنينَ في الآخرة. ولذلك يعلق عليه العلامة ابن المنير بقوله: ما أقصر لسانه، أي: لسان الزمخشري عند هذه الآية، فكم له يدندن ويطبل في حجر الرؤية، ويشقق القباء، ويكثر ويتعمق؛ فلما فغرت هذه الآية فاه صنع في مصادمتها بالاستدلال. هذه نماذج من تفاسير المعتزلة وما أكثرها في تفسير العلامة الزمخشري. ومن أراد المزيد فعليه الرجوع إلى هذا التفسير الذي كشف عوارَهُ الإمام ابن المنير في كتابه (الإنصاف فيما جاء من الاعتزال في تفسير الكشاف). الدخيل عن طريق الإلحاد هذا الإلحاد المتعمد في التفسير، ورد عن فِرَقٍ دخلت الإسلام بقصد القضاء عليه، لا حبًّا في الإسلام من هذه الفرق الباطنية. والباطنية اسم يطلق على جماعات متعددة من غلاة الشيعة، كالإسماعيلية، والقرامطة، والخرمية، والرافضة، وإنما أطلق عليهم جميعًا هذا الاسم؛ لاشتراكهم جميعًا في مبدأ التأويل الباطني، وللنصوص الشرعية، وهذه الدعوة ظهرت أولًا في زمن المأمون، وانتشرت في زمان المعتصم، ولها فروع، وتكاثرت هذه الفرقة، ثم نتج عنها فِرَق قاديانية والبابية، والبهائية.

وإذا أردنا أن نبين نشأةَ هذه الفرقة باختصارٍ شديدٍ، نقول: يذكر أصحاب التواريخ: أن دعوة الباطنية بعدما ظهرت أيام المأمون والمعتصم انتشرت، والذين أسسوا هذه الدعوة جماعة منهم: ميمون بن ديصان، المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن الصادق، اجتمعوا كلهم مع ميمون القداح في سجن والي العراق فأسسوا مذاهب الباطنية، ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن، ولما رحل ميمون بن القداح إلى ناحية المغرب، انتسب في هذه الناحية إلى عقيل بن أبي طالب وزعم أنه من نسله، فلما دخل في دعوته قومٌ من الروافض وغلاتهم، والحلولية ادعى منهم من ادعى أنه من أبناء إسماعيل بن جعفر الصادق. وظهرت في دعوته إلى الباطنية حمدان قرمط، بذلك لُقِّبَ لقرمطة في خطه، أو في خطوه، وإليه تنسب القرامطة. ظهر بعده في الدعوة أبو سعيد الجنابي، وكان من مستجيبي حمدان تغلَّبَ على ناحية البحرين، ثم ظهرت هذه الفتنة بالمغرب على يد سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح وظهرت الفتنة أيضًا بأرض فارس على يد مأمون أخي حمدان قرمط وظهرت بأرض الديلم، وانتشرت هذه الدعوة، ولم تلبس هذه الفرقة حتى انتشرت في كثير من البلاد. ومن أراد معرفة الخط البياني لها علوًّا وانحطاطًا، وظهورًا وانكماشًا؛ فعليه بكُتُب الفرق ككتاب (الفَرْقُ بين الفِرَق) وكتاب (فضائح الباطنية) وكتاب (تلبيس إبليس) و (مشكاة الأنوار) وغيرها. لا بد أن نعرف أن هذه الفرقة -فرقة الباطنية- لها صلة وجذور تنتمي إلى المجوس، من يمعن النظر في مبادئها؛ يدرك أن هناك اتصالًا قويًّا بين هذه الفرقة وبين المجوسية؛ فإن دعاة الباطنية أولوا أصول الدين، وأحكام الشريعة تأويلًا

يؤدي في النهاية إلى تفضيل المجوسية، ودفع الشريعة، ونفيها أو جعل الشريعتين المجوسية وشريعة الإسلام في كفتي الميزان متساويتين ... إلى آخره. الإمام البغدادي يوضح لنا هذه الحقيقة فيقول: إن الذين وضعوا أساس الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى أسلافهم، ولم يجسروا على إظهار ذلك؛ خوفًا من سيوف المسلمين، وتراهم تأولوا آيات القرآن، وسنن النبي -عليه الصلاة والسلام- على وفق أُسُسِهِم. يقول البغدادي: ثم إن الباطنية لما تأولت أصول الدين على الشرك احتالت أيضًا لتأويل أحكام الشريعة على وجوهٍ تؤدِّي إلى رفع الشريعة كليةً، والذي يدل على أن هذا مرادهم بتأويل الشريعة أنهم أباحوا لأتباعهم نكاح البنات، والأخوات، وأباحوا شرب الخمر وأباحوا جميع اللذات، ولم يقف أمرهم عند هذا، بل خلطوا كلامهم بمعتقدات الفلاسفة الخارجين عن دين الإسلام. وأيضًا يقول الإمام الشهرستاني: ثم إن الباطنية القديمة خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهج، فقالوا في الباري -تبارك وتعالى-: لا نقول هو موجود ولا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز. وكان لهم هدف معين من أجله كانوا يعملون، من كلامهم كان البعض يقول: أوصيك بتشكيكِ الناسِ في القرآنِ والتوراةِ والزبور والإنجيل، وكانوا يدعون إلى إبطال الشرائع، وذكر عنهم: أنهم أبطلوا القول بالمعاد، والقول بالعقاب والثواب، وقالوا: إن الجنة هي نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغالُ أصحابِ الشرائع بالصلاة والصيام، والحج والجهاد. وقالوا: إن أهلَ الشرائع يعبدون إلهًا لا يعرفونه، ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم، كلام فاسد كثير؛ لو أردنا أن ننظر نظرة عابرة إلى بعض نماذج من

كلامهم الباطل، نراهم أوَّلُوا الوضوء بأنه الإمام، والصلاة عبارة عن الناطق، والهجَّع وهو الرسول النائب عن الإمام، وقالوا: إن الغسل هو تجديد العهد، وقالوا: الزكاة عبارة عن تزكية النفس، والمراد بالكعبة النبي، والمراد بالباب علي، والمراد بالصفا هو النبي، والمروة علي، والجنة راحة الأبدان، والنار مشقة الأبدان، وهكذا كلام لهم باطل. ولهم في تأويل الآيات كلام غاية في العجب: في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1) قالوا هما أبو بكر وعمر، وفي قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} (الزمر: 65) أي: بين أبي بكر وعمر {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قالوا: المراد هي عائشة. فقالوا: أئمة الكفر قالوا: طلحة، والزبير وأصحابهم، في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (الرحمن: 19) قالوا: علي وفاطمة، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 22) الحسن والحسين، كلام كثير يناقض شرعنا ويبطل شريعتنا ويخرجون به عن الشريعة إلى أباطيلهم الفاسدة. وقالوا: إن الزنا إفشاء سرهم {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99) هو التأويل الذي يقولونه، ولهم كلام في هذا، والحقيقة العلماء ردوا على أباطيلهم. ونرى ابن الجوزي في مناقشة هادئة يقول: هذه التأويلات الرمزية للباطنية كلام باطل، فيقول: إن قلتم عن إمامٍ معصوم مثلًا؛ فما الذي دعاكم إلى قبوله، أو

قبول قوله بلا معجزة، وترك قول محمد -صلى الله عليه وسلم- مع المعجزات؟ ثم ما يؤمنكم أن يكون ما سمع من الإمام المعصوم له باطن غير ظاهر؟ يقولون: إن هذا أسرار وكذا، وإذا قيل: هذه البواطن والتأويلات هل يجب إخفائها أم إظهارها؟ إن قالوا: يجب إظهارها، نقول: لم كتمها محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وإن قالوا: يجب إخفاؤها، قلنا: ما وجب على الرسول إخفاؤه كيف يحل لكم أنتم إفشاؤه؟! والحقيقة: أنهم عطلوا ظواهر الشرع بما ادعوه من تفاسيرهم، وأبطلوا أصول الدين بكلامهم الباطل هذه وذاك. من الفرق المتعمدة الإلحاد في التفسير أيضًا: القاديانية: وفرقة القاديانية هذه الجماعة ظهرت على يد مرزا غلام أحمد، الذي ولد عام 1252هـ سنة 1839م في آخر عهد حكومة سيخ من أسرة نزحت قديمًا من سمرقند، واستوطنت قرية قاديان، وهذه الأسرة تنتمي إلى الترك إلى سلالة مغولية، منهم سلالة تيمورلنك القاديانية ... إلى آخره. القاديانية من مبادئهم: يدعي صاحبها أن الله سماه نبي. من مبادئهم: تكفير من لا يؤمنُ بمبادئهم. من مبادئهم: مساواة الوحي القادياني بالقرآن الكريم، وليس عندهم لا وحي ولا شيء، إنما هي أوهام وخرافات. من مبادئهم: اعتقاد القادياني في الله والأنبياء والصحابة، اعتقادًا يصل إلى قمة الكفر.

من مبادئهم: النهي عن الصلاة خلف المسلمين أحياءً، ولا يُصَلَّى على المسلمين أمواتًا. من مبادئهم: نسخ فريضة الجهاد. كلام واضح في الإلحاد ضد الإسلام. وإذا أردنا أن نأخذ بعض نماذج من تحريفاتهم فهذه هي الآية قول الله -جل وعلا-: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} (الصف: 6) يقولون: إن الآية تبشر بمجيئي، وأن المراد من أحمد هو أنا، أي: غلام أحمد مؤسس هذه الجماعة. وفي قوله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (الصف: 13) يقولون: إن المراد بها القاديانيون، وليس الصحابة المعروفون، في قوله تعالى: {وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) في وصف نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- يقولون: ليس المراد أنه آخر النبيين، إنما هو زينة النبيين، واستدلوا على ذلك بقراءات أخر، كلام لا حجة معه، ولا شك أن هذا التفسير مخالف لما جاءت به الأحاديث النبوية الصريحة: بأن نبينا خاتم الأنبياء جميعًا، سواء قُرئت الآية "خَاتَم" أو "خَاتِم" بالقراءتين. ومن الأحاديث: ما أخرجه الإمام أحمد قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الرسالة قد انقطعت؛ فلا رسول بعدي ولا نبي)) حديث حسن صحيح، وحديث البخاري ومسلم المتفق عليه: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجلٍ بنا بيتًا، فأحسنه، وأجمله إلا موضعَ لبنة من زاويةٍ، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هَلَّا وُضِعَت هذِهِ اللبنة؟ قال: فأنا اللبنَةُ، وأنا خَاتَمُ النبيين)) حديث متفق عليه.

الفرق المنحرفة الأخرى البابية والبهائية: وأيضًا إطلالة سريعة على هذه الفرق، فنجد أن البابية نسبة إلى المؤسس الأول للجماعة الذي كان يلقب بالباب، والبهائية نسبة للمؤسس الثاني؛ حيث كان يلقب ببهاء الله، وهذه النحلة قامت على يد ميرزا علي محمد، الملقب بالباب الذي نشأ في شيراز بجنوب إيران، وأخذ شيئًا من مبادئ العلوم ثم اشتغل بالتجارة، ولما بلغ من العمر الخامسة والعشرين ادعى إنه المهدي المنتظر، وكان إعلانُه بهذه الدعوة سنة 1260 هـ فأخذها بالتسليم طائفة من الجهلة، وأرسل بعض هؤلاء الجهال إلى نواحٍ مختلفة من إيران للإعلام بظهوره، ونشر مزاعمه، وأكاذيبه، والبابية والبهائية، وكلام كثير كله من الأباطيل. لننتقل إلى نماذج من تفاسيرهم: يقول ميرزا علي المسمى بالباب المؤسس لهذه الفرقة يقول في تفسير قوله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: 4) المراد من يوسف هو الحسين بن علي، والمراد بالشمس فاطمة، وبالقمر محمد، وبالنجوم أئمة الحق؛ فهم الذين يبكون على يوسف سجدًا. ونظام البهاء له كلام في الوصية والميراث جاء عنه ما نصه: قرر بهاء الله أن يكون لكل شخص حق في التصرف في أملاكه في حال حياته، بأي طريقة يختارها، وأوجب على كل شخص وصيته يعين فيها كيف يكون تقسيم ميراثه بعد وفاته؛ فإذا توفي شخص بدون وصية، يقسم ما تركه على نسب معينة على سبعة أصناف من الوارث، وهم الأولاد والزوجة أو الزوج والأب والأم والأخوة

والأخوات والمعلمين، هذا كلام عندهم في تعليماتهم التي تخالف تعاليم الإسلام في كثير. رأي الأزهر حول هذه الفرقة؟ وقد أصدر الأزهر الشريف عدة فتاوى بكفر هذه النحلة البابية والبهائية؛ لاعتناقها المبادئ الضالة التي تنافي أبسطَ قواعد الإسلام؛ فهم ينكرون الجنة والنار ويقولون: إن قصة آدم ليست حقيقة، وإنما هي وهمية، وينكرون في الميراث أشياء صريحة في القرآن الكريم، وكان آخر ما صدر عن الأوساط الدينية في مصر بشأن هذه النحلة هذا التقرير الذي قدمه أمين مجمع البحوث الإسلامية لنيابةِ أمن الدولة العليا بعد القبض على جماعةٍ من هذه الفرقة البابية والبهائية المنحرفة. جاء في البيان والتقرير: إن جميع الفتاوى التي صدرت من الأزهر من الشيخ الخضر حسين أفتت بتكفير هذه الطائفة، وخروجها عن الدين الإسلامي؛ لما يأتي: أولًا: للقول بأن محمد رسول الله ليس خاتم الأنبياء، وهذا يخالف صريح القرآن والسنة وما علم من الدين بالضرورة. ثانيًا: عندهم إنكار ما جاء بالقرآن، بل القول بإلغائه، وهذا كفر صريح. ثالثًا: البهائية مذهب يحاول صياغةَ الدين من جديد؛ بالخلط بين اليهودية والمسيحية والإسلام؛ لإيهام السذج بأنه الدين الذي يجمع بين جميع الديانات، وهذا مخالف للإسلام ولليهودية والمسيحية. وعندما ظهرت هذه الدعوة في إيران حاربها العلماء وأعدموا زعيمها بعد محاكمته، وظهور كفره.

الدخيل عن طريق التفسير الصوفي.

خامسًا: اعتبارهم لمدينة حيفا قبلة لهم بدلًا من الكعبة، وهذا كفر وضلال مبين؛ عداوة ظاهرة للقرآن والسنة، وما أجمعت عليه الأمة. في ختام الكلمة عن هذه الفرقة يلاحظ: أن الباطنية والبهائية يتلاقيان، ويتشابهان في تأويل النصوص بالباطل مع المجوس ومع اليهود؛ ليفسدوا على المسلمين دينهم، فالبهائية امتداد للباطنية وبما اشتركوا فيهِ من المبادئ الهدامة والمعتقدات الفاسدة، وقد ادعى ميرزا علي الملقب بالباب: أنه رسول الله، ووضع كتابًا، وزعم أن ما فيه شريعة منزلة من السماء، وسماه (البيان) وزعم أن شريعته ناسخة للشريعة الإسلامية، وأبطل فرائض الإسلام وحرفها، بهذا يتفق ويتشابه مع ما في الباطنية. وعندهم أيضًا من يدعي حلول الإله في بعض الأشخاص فالقرامطة قالوا بإلهية محمد بن إسماعيل بن جعفر، وادعوا الحلول، ودعواهم تظهر في مقالاتهم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الباطنية دائمًا مع كل عدوٍّ للمسلمين. والصلة بينهم وثيقة بينهم وبين الصهيونية؛ فقد رأت الصهيونية في البهائية الوسيلة العظمى لتشويه عقيدة الإسلام، بل إن الصهيونية أوَّلَت نصوص التوراة بما يتفق مع هوى البهائية؛ ليشتركوا في عداوتهم للإسلام. هذا القدر يكفي عن هذه الفرقة. الدخيل عن طريق التفسير الصوفي ولننتقل إلى ما تناقلته الصوفية أيضًا. هناك الدخيل عن طريق التفسير الصوفي: وخلاصة القول في التفسير الصوفي: إن هذه المعاني الباطنية الباطلة القائمة على دعوى الإلهامات، والمكاشفات لا يمكن لنا بحالٍ من الأحوال أن نقبلها مهما قيل عنها، إلا إذا توفر فيها شرطان أساسيان: موافقة أقوالهم لقوانين الشريعة، وثانيًا: أن تتفق مع قواعد اللغة العربية الصحيحة، وهذا ما قاله الأئمة.

وإلى نماذج عابرة سريعة من شطحات الصوفية في التفسير، ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في تفسيره في فاتحة البقرة قال: {الم} (البقرة: 1) الألف ألف الوحدانية، واللام لام اللطف، والميم ميم الملك. والمعنى: من وجدني على الحقيقة بإسقاط العلائق والأغراض تلطفت له؛ فأخرجته من رق العبودية إلى الملأ الأعلى، وهو الاتصال بمالك الملك دون الاشتغال بشيء من الملك، وقيل: {الم} الألف أي: أفرد سرك، واللام لَيِّنْ جوارحك لعبادتي، والميم أقم معي بمحوِ رسومك وصفاتك؛ أزينك بصفات الأنس بي والمشاهدة إياي والقرب مني. نموذج آخر للصوفية: جاء في تفسير بن عربي لقوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (المزمل 8: 9). يقول محيي الدين بن عربي صاحب كتاب (تفسير القرآن العظيم) وكله حلول وإلحاد، وكفر صريح، يقول في معنى الآية: واذكر ربك الذي هو أنت، أي: اعرف نفسك، واذكرها ولا تنسها، فينسك الله، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، أي: الذي ظهر عليك نوره، فطلع من أفق وجودِكَ بإيجادك، والمغرب الذي اختفى بوجودِك، وغرب نوره فيك، واحتجب بك سبحان الله!!. نلاحظ أن تفسيره قائم على أساس نظريته في عقيدته القائمة على وحدة الوجود، وكل هذا إلحاد بلا خلاف. تفاسير الصوفية جاءت على مبدأ أيضًا: لكل آية ظهر وبطن، والعلماء تحدثوا في ذلك تحدث الإمام الغزالي في إحيائه والألوسي في تفسيره عن ذلك، واشترط الأخذ بالمعنى الظاهر أولًا، على أن من العلماء من غلبت عليهم ناحيةُ التفسير الباطني، كما فعل سهل التستري، ومنهم من وجه همته كلها للتفسير الباطني، ولم يتعرض للمعاني الظاهرة، كما

الدخيل عن طريق التفسير العلمي.

فعل أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه، ومحيي الدين بن عربي في كتابه التفسير وفي (فصوص الحكم) وفي (الفتوحات المكية) إلى غير ذلك من الدخيل الذي ذكر عن الصوفية وما أكثره، وهو واضح البطلان؛ لأنه لم يتفق لا مع نص شرعي، ولا مع قواعد اللغة. الدخيل عن طريق التفسير العلمي ننتقل بعد ذلك إلى النوع الأخير من الدخيل في التفسير العلمي: والدخيل عن طريق التفسير العلمي كثر وانتشر في الآونة الأخيرة، فما معنى التفسير العلمي؟ وما المبادئ والحقائق التي ينبغي مراعاتها عند التفسير العلمي؟ وما هي آراء العلماء حول التفسير العلمي؟ ثم نختم بنماذج من التفسير العلمي الدخيل الباطل، الذي يتعارض مع تفسير القرآن الكريم. أولًا: التفسير العلمي: هو الذي يبين الآيات القرآنية الواردة في شأن الآفاق والأنفس، وانطلقوا من قوله -تبارك وتعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53) انطلق لفيفٌ من العلماء حول المكتشفات العلمية في الآفاق والأنفس؛ فحملوا كثيرًا من الآيات، وفسّروها بمكتشفات العلم الحديث، أولًا: هناك حقائق وقواعد لا بد من مراعاتها عند التفسير العلمي. أولًا: العلم الذي يدعو إليه الإسلام هو العلم الذي يهدي الإنسان إلى هدايته، وحسن مآله وحسن حاله في في الدنيا والآخرة. ثانيًا: إن القرآن الكريم أفاض في الحديث عن الكون، ولفت أنظار العلماء إلى آيات القدرة، وآيات الإبداع في هذا الكون التي توصّل إلى توحيدِ اللهِ، توحيد ربوبية وألوهية وأسماء وصفات. ثالثًا: إن إعجاز القرآن لا يتوقف بحال من الأحوال على موافقة الاكتشافات العلمية الحديثة لبعض آيات القرآن؛ فإعجاز القرآن ثابت بوجوه لا حصر لها من قبل أن

تتبين هذه الاكتشافات العلمية، وإن كنا نرى أن إذا تم اكتشاف حقيقة علمية يقينية ثابتة أشارت إليها الآيات، هذا نوع من الإعجاز، ربما يتلاءم مع العصور التي تكتشفه، وبما أن القرآن هو معجزةُ الله الخالدة الباقية إلى قيام الساعة؛ فإنه قد حوى أنواعًا من الإعجاز تناسب كل العصور وكل البلاد إلى قيام الساعة. رابعًا: يستحيل أن توجد حقيقةٌ علميةٌ ثابتةٌ يقينيةٌ تتناقض مع القرآن الكريم؛ لأن خالق الكون هو الله، ومنزل القرآن هو الله فمحال أن يتناقض هذا مع ذاك. خامسًا: القرآن غني عن العلوم الحديثة للتدليل على صحته، بينما العلوم الحديثة هي التي تحتاج للتدليل على صحتها؛ وبالتالي ليس من العدل أن نحاكم ما يأتي في الاكتشافات العلمية- نحاكم قول الله إلى أقوال الناس. سادسًا: الحقيقة العلمية شيء، والتعسف في تفسير القرآن بها وحمله عليها شيء آخر، فليس ضروريًّا أن نحملَ كُلَّ حقيقة علمية، ونتكلف أن نحمل النص عليها، ونؤوله بها، أو نلوي عنق الآيات، والعبارات لَيًّا؛ لنقول: إن القرآن قد سبق العلم الحديث. سابعًا: يجب علينا أن ننظرَ إلى القرآن على أن كل ما فيه حقائق، فَمَا وافقه من الاكتشافات الحديثة على وجه القطع واليقين قبلناه، وإلا فإن النظريات تخضع للتجربة والتمحيص، وقد تصدق اليوم وتنتفي غدًا؛ فالقرآن هو كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثامنًا: يجب مراعاة معاني المفردات على النحو الذي كان مستعملًا في أثناء نزولِ القرآنِ، والحظر مما طرأ عليها من تطور بعد القرون الأولى. تاسعًا: لا يجوز لَنَا أن نعدل عن حقيقة اللفظ القرآني، وإن اتجه إلى معنى مجازيٍّ إلا إذا كان هناك قرائن، وعلامات توجب ذلك.

عاشرًا: يجب مراعاة الأساليب البلاغية في القرآن ودلالاتها. حادي عشر: عدم قصر اللفظ على معنى واحد وردُّ بقية المعاني الصحيحة الأخرى من غير مرجح. أخيرًا: يجب الجمع بين كل آيات القرآن التي تتحدث في الموضوع الواحد، ولا نستطيع الجزم بأن ما يقال عنه حقيقة علمية ستظل إلى الأبد هكذا، فكثير مما يكتشفه العلماء، ويقولون: إنه حقائق علمية، وتبقى فترةً طويلةً- يأتي ما ينقُضَها، ويزلزل أركانها فيما بعد. وعليه فينبغي أن نعلم أن الحقائق البشرية غير قاطعة أما الحقائق الإلهية القرآنية فهي قاطعة ونهائية. قبل أن ننتقل إلى نماذج من الدخيل في التفسير العلمي نعرّج على آراء العلماء في التفسير العلمي، فماذا قال العلماء، أو ما رأي أكثرهم؟ نقول: لقد اختلف العلماء في التفسير العلمي منذ القرون الأولى، ويرجع في تاريخ المسلمين إلى العصر العباسي، ومن أبرز وأنشط من روّج لهذا الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله-، ثم نمى هذا الاتجاه على مر الأيام بالفخر الرازي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وابن أبي الفضل المرسي، وجلال الدين السيوطي، ولكن هذا الاتجاه لقي معارضةً قويةً من آخرين. وعلى هذا، فإننا نقول: إن هذِهِ النزعةَ التفسيرية، كما وجدنَا لها أنصارًا ومؤيدين؛ فقد وجدنا لها أيضًا منكرينَ ومعارضين؛ فمن أبرز الزعماء لكل فريق؟ أبو حامد الغزالي، كان من أبرز الذين أيدوا هذا بصورةٍ لم يُسْبَق إليها، وفي كتابيه (إحياء علوم الدين) و (جواهر القرآن) ذكر الكثير؛ خصص في (الإحياء) الباب الرابع من أبواب آداب تلاوة

القرآن في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقلٍ. وذهب إلى القول: بأن القرآن فيه إشارة إلى مجامع العلوم التي لا نهاية لها، حتى قال: لكل آية ستون ألف فهم، وما بقي في فهمها أكثر. وقال آخرون: القرآن يحوي سبع وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ كل كلمة فيها علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف؛ لأن كل كلمة لها ظاهر وباطن، وحد ومطلع، وأما في كتابه (جواهر القرآن) المتأخر عن (الإحياء) فجعل فيه الفصل الرابع والخامس عن كل العلوم الدينية والدنيوية، كالطب، والنجوم، والهيئة، والتشريح، والطلسمات وغير ذلك، وقال: تفكر في القرآن والتمس غرائبه؛ ليتصادف فيه مجامع علم الأولين، والآخرين. غير الإمام الغزالي نرى الإمام الرازي؛ فرفع الراية عالية، ولم يترك آية تتحدث عن السموات والأرض، والبحار والأنهار، والجبال، وكل آيات الآفاق والأنفس إلا أعمل فيها عقلَهُ وفسرها بما وصل إليه العلم في عصرِه، وجاء الإمام الزركشي في (البرهان) والسيوطي في (الإتقان) وتأثروا بالغزالي، ونقلوا عباراته: أن القرآن يحتوي على سبعة وسبعين ألف علم، والكلمة لها ظاهر وباطن، وحد ومطلع ... إلى آخره؛ ثم نقل الإمام السيوطي عن أبي الفضل المرسي، وعن القاضي أبي بكر ابن العربي كثيرًا من ذلك. وجاء بعد هذا العصرِ العصرُ الحديث باكتشافات، ومعرفة أسرار الكون، ووجدوا أسرارًا تحدثوا عنها من هؤلاء الإمام القاسمي في تفسيره والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ محمد متولي الشعراوي تحدثوا عن كثيرٍ من الاكتشافات العلمية، وربطوا بينها وبين آياتِ القرآنِ الكريمِ، وبين ما اكتشفَهُ العلم، وبين الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

الشيخ محمد عبد الله دراز له كتاب (مدخل إلى القرآن الكريم) ذكر وجوهَ إعجازٍ كثيرة أيد بها الآيات، والشيخ شعراوي له كتاب (معجزة القرآن) وخاصة تكلم عن الإعجاز العلمي، وذكر أن عطاء القرآنِ متجددٌ، وفيه من الإعجاز ما يشبِعُ كُلَّ الأجيال عبر القرون، وأن آيات الإعجاز على مدى الزمان متجددة مع الهدايات القرآنية الدائمة إلى قيام الدين، وأيضًا نرى هناك الشيخ طنطاوي جوهري وله تفسيره المعروف في هذا الشأن تفسير للقرآن كامل. وجاء كذلك دكتور محمد الغمراوي، وله: (الإسلام في عصر العلم) والأستاذ حنفي أحمد له (التفسير العلمي للآيات الكونية) والدكتور عبد العزيز إسماعيل له: (الإسلام والطب الحديث) والدكتور عبد الرازق نوفل له: (الإعجاز العددي) ولهم كلامٌ كثير في هذا المعنى. ويقولون: إن آيات الفرائض آيات الفقه والعبادات معدودة؛ فإذا كانت سبعمائة آية عن الكون، فيها عجائب الدنيا في القرآن، أما تستحق أن تكون لها دراسات عظيمة لإعجاز القرآن ... إلى آخره. أما في المقابل؛ فنجدُ نجد هناك جبهةً معارضةً، هناك المعارضون لهذا الاتجاه، وأكثرهم ممن تخصص في العلوم الشرعية أو الأدبية على رأسهم: الإمام الشاطبي، والشيخ محمود شلتوت، والأستاذ عباس العقاد، والدكتور محمد حسين الذهبي، والأستاذ أمين الخولي في بعض كتبه. ونرى الإمام الشاطبي في (الموافقات) والشيخ شلتوت في تفسيره للقرآن، وعباس العقاد في كتابه (الفلسفة القرآنية) تحدث عن العلم والقرآن، وأكثروا بعناوين ذكروها: إنكار التفسير العلمي، وذكروا: أن القرآن كتاب هداية، وليس بنظريات الهندسة، أو الطب، أو النجوم، ونحن نقرأ القرآن يدعو إلى العلم،

وهو العلم الذي يهدي البشر إلى الله -تبارك وتعالى-، والأصل في قولهم: أن القرآن عقيدة وشريعة وهداية، إلا أن الله نشر فيه إشاراتٍ علمية تتضح للناس في كل زمان ومكان؛ لقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} إلى آخره. ولنعد إلى نماذج عابرة على وجه السرعة فيما دخل التفسير من الدخيل في التفسير العلمي: جاء في قوله تعالى {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: 53) قال دكتور صلاح الدين خطاب: يقذفُونَ بالغيب هي: المسرة التليفون، والهاتف، والتلغراف، والتليفزيون، والراديو، يعني: يريد أن يقول: إن القرآن تنبَّأَ بوجود هذه الاختراعات الحديثة؛ مع أن التفسير الصحيح للآية، كما قال قتادة والصحابة والتابعون: أن الكفار يرجمون بالظن؛ لا بعث، ولا جنة، ولا نار، والقرآن يرد عليهم هذه الأكاذيب. مثال آخر: هو قوله -تبارك وتعالى-: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} (الأنعام: 65). يقول صاحب كتاب (الجانب العلمي في القرآن) الدكتور صلاح الدين خطاب: إن العذاب الذي وضعته الآية من فوقكم ينطبق على القنابل النازلة من الطائرات، ومن فوق الرءوس، ومن الأعالي، وأما العذاب من تحت الأرجل؛ فإشارة إلى الألغام والغواصات التي تنصب في الأرض، أو في البحر، فيمر عليها من مراد إهلاكه فتنفجر تحت رجله أو سيارته فتسبب له الهلاك. ونحن نتساءل من أتى بهذه الأمور؟ وهل قدرة البشر تساوي قدرة الله -سبحانه وتعالى- ألم يقرأ قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَت} (الحج 1: 2) الآيات ... إلى آخره.

وأيضًا يقولون في مثال ثالث في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يونس: 24). يقول: هذا إشارة إلى صنع القنابل الذرية التي تخرِّبُ العالم. وعجبًا لهذا الكلام!! فالقرآن الكريم أعم، وأعظم، وأكبر من تفسيراتهم المحدودة في مثل هذا القول. وننتقل إلى نماذج أخرى نختتم بها ما دخل كتب التفسير من الدخيل من التفسير العلمي: فهناك أيضًا الحقائق العلمية التي بهرت كثيرًا من الناس؛ فنسبوا إليها هذه الخرافات نسبوها إلى الآيات، بعض العلماء بُهِرَ بالاكتشافات العلمية، فراحوا يتكلمون ويربطون بينها وبين آيات القرآن الكريم، حتى نسبوا خرافاتٍ علمية إلى الإسلام، وشككوا بذلك في عصمة النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو ما ينطق عن الهوى، بحجة العلم والمعرفة، ولو أن المرويات صحت أسانيدها ربما كان للمتمسكين بها بعض العذر، أما وهي ضعيفة السند، فلا قدر لها. والشيخ أبو شهبة صاحب كتاب (الإسرائيليات والموضوعات في التفسير) يقول: وأحب أن أقول: إن معظم هذا الذي يروى في الأمور الكونية تخالف مخالفة ظاهرة المقررات والحقائق العلمية التي أصبحت في حكم البدهيات والمسلمات، ككروية الأرض ودورانها، وحدوث الخسوف والكسوف، ونحو ذلك، وهذا كلام قالوه يتناقض مع الحقائق. ذكروا لكسوف الشمس، وخسوف القمر أشياء كثيرة منها ما هو صحيح، ومنها ما ليس كذلك، لكن نسبة ذلك إلى كتب التفسير والقرآن هذا كلام يحتاج إلى مراجعة، وهناك لا يزال البعض في عصرنا ينكر كروية الأرض ودورانها، وأسباب حدوث هذه الظواهر، ويتكلمون عن الخسوف، والكسوف، والرعد

والبرق والصواعق، وقانون الجاذبية ونحو ذلك مما لا يقبل عقلًا، لهم أيضًا كلام في عمر الدنيا، ذكروا في عمر الدنيا أنه سبعة آلاف سنة؛ وأن النبي محمد بعث في آخر السادسة، وحكم ابن الجوزي على كلامهم هذا بأنه كلام موضوع، لا يُقبل. تحدثوا عن خلق الشمس والقمر، ورووا كلامًا في خلق الشمس والقمر، والخسوف والكسوف لا يتسع المقام لذكره تفصيلًا. وابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهم، وابن الجوزي حكموا على ما يروى من كلامهم في هذا بأنها أحاديث باطلة. وأيضًا هناك أحاديث في أن الله وكل بالشمس تسعة أملاك ويرمونها بالثلج كل يوم، ولولا ذلك ما أتت الشمس على شيء إلا أحرقته كلام وأحاديث ضعيفة، لم تصح. أوردوا أيضًا كلامًا عن كسوف الشمس وخسوف القمر، وأن أنوارهما موكلٌ بها أملاك، كلام لا يصح ولا يقبل، فرووا أن سئل ابن عباس عن المد والجذر؟ فقال: إن ملكًا موكلًا بناموس البحر؛ فإذا وضع رجله فاضت البحار، وإذا رفعها غاضت البحار، ينسبون المد والجذر إلى هذه الأحاديث الموضوعة التي لا تصح. والحق: أن الإمام الذهبي حكم ببطلان هذه الأخبار، وأنها أحاديث غير صحيحة، بل قال شيخنا الشيخ أبو شهبة: إنما هناك من وضع الزنادقة أحاديث، وأكاذيب نسبوها إلى الرسول، تتعلق بالكونيات والفلكيات، وأسباب الكائنات، وكل ذلك من الأباطيل التي ذكروها.

ما يتعلق بالرعد والبرق: أيضًا معظم كتب التفاسير، ذكرت أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب، وأن الصوت المسموع هو صوت زجره للسحاب، أو صوت تسبيحه، وأن البرق أثر من المخراق الذي يزجر به السحاب، أو لهب ينبعث منه، وأن الله في قوله: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِه} (الرعد: 13) يقولون: إن الفلاسفة ذكروا الرعد والبرق، وأنه هذا صوت الملك، أو صوت كذا أو ضحك أو كذا، هذا كلام ساقوه، وذكره أكثر المفسرين في تفسير ظاهرة الرعد، والبرق، وكلام لا يتوافق مع الحق. ومن العلماء من قال: إن تسبيح الرعد بلسان الحال لا بلسان المقال؛ حيث شبّه دلالة الرعد على قدرة الله وعظمته، وتنزيه الله عن الشريك والعجز بالتسبيح والتنزيه، واستعار لفظ يسبح كلام ذكره المفسرون. والعلامة الألوسي قال: والذي اختاره أكثر المحدثين أن الإسناد حقيقي، الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب: "واليهود لما سألوا رسول الله، أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، بيده مخراق من نار، يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله تعالى، قالوا: فما ذلك الصوت الذي نسمعه؟ قال: صوته" وهذا الحديث إن صح يمكن حمله على التمثيل، ولا يطمئن إليه القلب، كما يقول الشيخ أبو شهبة: ولا يكاد يصدق عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، بل جعله من الإسرائيليات. على كل حال، من الحق أن نقول أن بعض المفسرين كانت لهم محاولات على ما كان من العلم من الظواهر في عصرهم، كتفسير الرعد والبرق، تكلم ابن عطية وغير ابن عطية، والألوسي وغيرهم، والحقيقة في هذه الظواهر الكونية: ما ينبغي أن يحمل القرآن إلا على الحق.

نختم بما كان يقوله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند سماع الرعد والبرق: عن ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: ((اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وقال: إذا سمعتم الرعد فسبحوا، ولا تكبروا، وكان يقول إذا سمع الرعد: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) يقول الشيخ أبو شهبة: فهذا هو اللائق برسول الله وبعصمته. أما ما نقل أن الرعد ملك، أو صوته زجره للسحاب، وأن البرق أثر صوته- فلم يعتمد هو هذا الكلام، ولنا كلام في الرياح والكهرباء الجوية، وحدوث الرعد، والبرق، والصواعق، ذُكِرَ في كتب كثيرة لا يتسع المقام لذكر ذلك تفصيلًا. ونختم بكلمات موجزة: هكذا نرى كثيرًا من أعداء الإسلام، يحرصون على أن يظهروا دين الإسلام بمظهر الدين الباطل الذي يشتمل على الخرافات والأباطيل، وذلك من خلال تفسير القرآن؛ لأنهم لم يصلوا إلى النص القرآني، بعد أن عجزوا أن يلحقوا بالقرآن ذاته شيء من الأباطيل لجئوا إلى التفسير، فدسوا سمومهم حول القرآن في تفسيره؛ مما يخالفُ حقائق العلم، وسنن الله في الكون، أو ما يصادم العقل والمنطق، ومؤلفو هذا الكلام هم أناس أرادوا عداوة الإسلام، أوردوا في عمر الدنيا من الإسرائيليات أن عمرها سبعة ألاف سنة، وهذا يتناقض؛ لأن معرفة قيام الساعة مفوض إلى علم الله وحده {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} (الأعراف: 187).

وذكروا في ظواهر الرعد والبرق، والخسوف والكسوف، وقاف ونون، والكلام الذي مر ذكره تفصيلًا، وقد حمل كبر هذا الإثم القساوسة والمستشرقون؛ حيث وجدوا في هذه الأباطيل ما يشفي حقدهم على الإسلام والمسلمين. وهجموا على السنة، وفي سبيل إرضاء صليبيتهم الموروثة يصححون الأحاديث الموضوعة، ويحكمون بوضع كثير من الأحاديث الصحيحة، وربما يتبعهم بعضُ علماء المسلمين المثقفين؛ فينقلون كلامهم عن حسن ظن، أو عدم علم، ويتوهمون إذا نقل الكلام هذا عن علماء الإسلام أنه حق؛ فيقع كثير من المقلدين في خطر هذا الذي ينقل عن المستشرقين، وعن أعداء الإسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أعلم.

§1/1