الداء والدواء = الجواب الكافي ط عالم الفوائد

ابن القيم

أثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (17) الداء والدواء تأليف: الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ايوب ابن قيم الجوزية (691 - 751) حققه: محمد أجمل الإصلاحي خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد تمويل: مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحى الخيرية SULAMIAN BIN ABUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحى الخيرية الطبعة الأولى 1429 هـ دَ ار عَالما الفوَائد للٍنّشْر والتَوزيْع مكة المكرمة ص. ب 2928 هالف 5505305 فاكس 5542309 الصف والإخرج دار عالم الفؤائد للِنّشْر والتَوزيع

رَاجَعَ هَذا الجزء سليمان بن عبد الله العميد علي بن محمّد العمران

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله نبيّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فإنّ هذا الكتاب الذي اشتهر بعنوان "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، وطبع مرّات باسم "الداء والدواء"، من أنفع الكتب في تهذيب النفوس، واستثارتها للكفّ عن المعاصي والتوبة النصوح. وقد أُفرِد لمعالجة مرض من أخطر أمراض القلوب، "مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه، وإذا تمكّن واستحكم عزّ على الأطبّاء دواؤه، وأعيا العليلَ داؤه". وهو مرض العشق الذي قال فيه الشاعر: الحبُّ داءٌ عُضالٌ لا دواءَ له ... يَحارُ فيه الأطبّاءُ النَّحاريرُ قدكنتُ أحسَب أنّ العاشقين غَلَوا ... في وصفه فإذا بالقوم تقصيرُ ومؤلّفه رحمه الله من أطبّاء القلوب البارعين الذين لا يرجعون في مداواتهم لأمراض القلوب إلى حكماء اليونان، وإنّما يصدرون عن كتاب الله الحكيم، الذي فيه هدى وموعظة وشفاء لما في الصدور، وسنّةِ رسول الله الذي إنّما بُعِث لتعليم الناسِ الكتابَ والحكمةَ، وإصلاح عقيدتهم وسلوكهم، وتزكية نفوسهم، وهدايتهم لمراشد الأمور، فكانت الجماعة التي تخرّجت على يديه خير أمّة أخرجت للناس، لم يُعرف في التاريخ البشري لها نظير.

وكان أصل الكتاب استفتاء ورد على المؤلف، فسئل عن رجل ابتلي ببلية إن استمرّت به أفسدت دنياه واَخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما تزداد إلاّ توقدًا وشدّةً. ونظر المجيب إلى الحالة المستعصية، وعموم البلوى، فرأى أنّ التفصيل أولى في هذا المقام من الإيجاز، ومقتضى النصح للسائل والشفقة عليه وعلى أمثاله أن يستوعب القول في أسباب المرض وعواقبه الوخيمة، وأن يرشد إلى طرق الوقاية وسبل الخلاص. فكتب فصولًا نفيسة في الدعاء وشروط قبوله والأسباب المانعة من ترتّب أثره، وفي الفرق بين حسن الظنّ بالله والاغترار برحمته، وفي أضرار المعاصي واَثارها في حياة الأفراد والأمم وعقوباتها في الدنيا والآخرة، وحقيقة التعبد لله والإشراك به، والسرّ في كون الشرك لا يغفر من سائر الذنوب، ومضادّة عشق الصور للتوحيد، ومفاسده الأخرى العاجلة والاَجلة، وهكذا أصبح الجواب عن ذلك السؤال كتابًا مفصلًا. ولئن كان المجتمع الذي عاش فيه المؤلف رحمه الله بحاجة إلى هذا الكتاب، على ما فيه من تمسّك بالدين ومحافظة على الأخلاق والآداب = إن مجتمعاتنا إليه لأحوج، إذ صارت تمور بأسباب الفساد، بعد ما نجح الغواة في كثير من البلدان الإِسلامية في استدراج المرأة المسلمة تحت شعارات خادعة إلى نزع الحجاب والاختلاط بالرجال فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا. ثم تفنّن إخوان الشياطين في إيجاد وسائل جديدة لإثارة الغريزة الجنسية وإشاعة الفاحشة في الذين اَمنوا، فقد علموا أنّ الانحلال الخلقي هو أقرب طريق إلى تدمير الأمّة، والله المستعان. وقد صدر الكتاب قديمًا في الهند سنة 1357 هـ، ثم طبع في مصر،

وتوالت بعد ذلك طبعاته. وكان منها طبعة الشيخ محمَّد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله، الذي اعتمد فيها على نسخة خطّية من القرن الثالث عشر. ثم صدرت طبعات أخر، اعتمد في كل منها -زعموا- على نسخة واحدة متأخرة أو غير صالحة للاعتماد عليها. وقد بذل أصحابها جهدًا مشكورًا في تصحيحها وتخريج أحاديثها وحسن إخراجها، غير أنّها جميعًا لم يتبع فيها المنهج العلمي المعروف في تحقيق النصوص. أما هذه الطبعة التي بين أيديكم، فهي صادرة عن أربع نسخ خطيّة من القرن الثامن، وقد كتبت إحداها بعد وفاة المؤلف رحمه الله بتسع عشرة سنة، مع الاستئناس بنسختين من القرن الثاني عشر. وقد عني فيها بتحرير متن الكتاب عناية بالغة، بالإضافة إلى التوثيق والتخريج والفهارس الوافية المتنوعة. وقد أعددت دراسة للكتاب تشتمل على توثيق نسبة الكتاب، وتحقيق عنوانه، وتحليل مباحثه، وتفصيل موارده، ووصف النسخ المعتمدة في هذه الطبعة، والمنهج الذي أَتبع في إعدادها. وبعد، فإني أحمد الله عَزَّ وَجَلَّ على أن وفّق لإخراج هذه النشرة العلمية من الكتاب، وهو المسؤول أن يتقبل هذا العمل، وينفع به، ويبارك فيه. ورضي الله عن مؤلفه الإِمام ابن قيم الجوزية، وأعلى درجاته في جنّات النعيم. وصلى الله وسلّم على عبده ورسوله نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد أجمل أيوب الإصلاحي الرياض 9 جمادى الأولى 1428 هـ

توثيق نسبة الكتاب

توثيق نسبة الكتاب ذكر المترجمون لابن القيم رحمه الله هذا الكتاب ضمن مؤلفاته، وأولهم تلميذه الحافظ ابن رجب رحمه الله (¬1)، ثم شمس الدين الداوودي (¬2)، وحاجي خليفة (¬3)، وابن العماد (¬4)، والشوكاني (¬5)، وغيرهم (¬6). ولمّا كان الكتاب في أصله جوابًا عن استفتاء ورد على المؤلف، نُصّ على اسمه في بداية الكتاب في جميع النسخ الخطّية. وقد وقفت على نسخة منه عليها ختم "الخزانة الحجازيّة" لفؤاد سليم الحجازي (¬7)، كتب بعضهم في صفحة عنوانها: "كتاب الداء والدواء لابن الجوزي"، ولكنه خلط ظاهر بلا شكّ بين مؤلف الكتاب "ابن قيم الجوزية"، و"ابن الجوزي" (¬8). وهو ناشئ هنا من جهل أو غفلة، فإنّ اسم المؤلف مع نعوته وألقابه ثابت في فاتحة هذه النسخة أيضًا مثل غيرها. والدلائل على صحة نسبة الكتاب إلى الإِمام ابن القيم رحمه الله ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة (5/ 175). (¬2) طبقات المفسرين (2/ 93). (¬3) كشف الظنون (728، 1417). (¬4) شذرات الذهب (3/ 170). (¬5) البدر الطالع (2/ 144). (¬6) انظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (244). (¬7) هي محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية (الرياض) برقم 11540. (¬8) وقد أدّى هذا الخلط أحياناً إلى نسبة بعض مؤلفات ابن الجوزي إلى ابن القيم. انظر: ابن قيم الجوزية (27).

بادية في صفحاته: في مباحثه ومواقفه ومنهجه وأسلوبه وغير ذلك. وأشير هنا إلى أظهرها: 1) أحال فيه المؤلف على بعض كتبه مصرّحًا باسمه أو مشيرًا إليه. فأحال في موضعين على كتابه "أيمان القرآن"، وهو المطبوع بعنوان "التبيان في أقسام القرآن". قال في الموضع الأول (ص 83): "ولو تأمّل العبد حقّ التأمّل لكان كلّ ما يبصره وما لا يبصره دليلًا على التوحيد والنبوة والمعاد وأن القرآن كلامه. وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب (أيمان القرآن) عند قوله {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38 - 40]. وذكرنا طرفًا من ذلك عند قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21] .... ". وهذا المبحث موجود في كتاب التبيان (ص 109، 190). وأورد في الموضع الآخر الآيات التي أقسم الله فيها بطوائف الملائكة المنفّذين لأمره في الخليقة، ثم قال: "وقد ذكرنا معنى ذلك وسرّ الإقسام به في كتاب (أيمان القرآن) " (ص 469). وهذا البحث أيضًا موجود في الكتاب المطبوع (ص 83، 89، 258). وذكر في موضع آخر أن الشيخ أبا الحسن الأشعري رحمه الله قد استدلّ في كتبه على المعطّلة بقوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، ثم قال: "قد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب" (ص 330). وقد نقل ابن القيم لفظ الأشعري في كتابه "اجتماع الجيوش الإِسلامية" (ص 295)، ثم في "الصواعق المرسلة" (1244). 2) نقل في عدّة مواضع كلام شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية كما

سيأتي. 3) كلام المؤلف على بعض المسائل في هذا الكتاب تراه بنصّه أو بلفظ قريب منه في مؤلفاته الأخرى. ومن ذلك قوله: "وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع" (ص 31). يعني ترتيب الله سبحانه في كتابه حصول الخيرات والشرور في الدنيا والآخرة على الأعمال، كترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلّة، والمسبّب على السبب. وإذا رجعت إلى كتابه مفتاح دار السعادة (1/ 363) وجدته يقول: "ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسُقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة". ومن ذلك أنه ذكر مسألة في التوبة، وهي أن التائب هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها أو لا يعود، ثم حكى قول شيخ الإِسلام بأن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته، ومنهم من يعود إلى مثل درجته، ومنهم من لا يصل إلى درجته (ص 207). وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مدارج السالكين (1/ 368)، وأفاض القول فيها في طريق الهجرتين (ص 556 - 545)، ونقل قول شيخ الإِسلام في الكتابين. ومن ذلك أيضًا قوله: إنّ ما في قصة يوسف عليه السلام من الفوائد والعبر والحكم يزيد على ألف فائدة (ص 487)، وقال نحوه في شفاء العليل (ص 224). ثم وجوه الابتلاء التي فصّلها هنا ذكر جملةً منها في مدارج السالكين (2/ 156)، وطريق الهجرتين (496)، وروضة المحبين (449). وصرّح في المدارج أنها مما سمعه من شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله.

ومن ذلك كلام المصنّف على حديث "مَن عشِق فكتَمَ وعَفَّ وصَبَر فماتَ، فهو شهيدٌ" (ص 568)، ونجد الكلام بعينه في زاد المعاد (4/ 275)، وروضة المحبين (ص 287). 4) حكى المؤلف عن نفسه أنّه مكث مرّةً بمكّة، تعتريه الأمراض، ولا يجد طبيبًا، فكان يعالج نفسه بسورة الفاتحة (ص 8). وقد حكى مثله في زاد المعاد (4/ 178)، ومدارج السالكين (1/ 57 - 58).

عنوان الكتاب

عنوان الكتاب أول ما طبع هذا الكتاب في الهند سنة 1357 هـ بعنوان "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، ثم طبع في القاهرة طبعتين مختلفتين بالعنوان نفسه، فاشتهر هذا العنوان. ولعل أول طبعة خالفته هي التي أخرجها الشيخ محمَّد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله سنة 1377 هـ في القاهرة بعنوان "الداء والدواء". ولكن في العام نفسه صدرت في القاهرة أيضًا طبعة أخرى عني بها الشيخ محمود عبد الوهاب فايد رحمه الله بالعنوان الأول. وقد ألِفَ الناس هذا العنوان، ولعلّهم أعجبوا به لما فيه من السجع السهل، فوسمت به معظم الطبعات التي صدرت من هذا الكتاب. فهل كلا العنوانين صواب، أو أحدهما أرجح من الآخر؟ لم يسمّ المؤلف كتابه في مقدّمته، بل ليس فيه مقدّمة أصلاً، إذ أخذ المؤلف في الإجابة عن السؤال الذي ورد عليه رأسًا حسب طريقة المفتين؛ ولا أشار إليه في كتبه الأخرى (¬1). ولكنّ أقدم من ذكره من مؤلفاته -وهو تلميذه الحافظ ابن رجب رحمه الله- سماه "الداء والدواء"، وكذا من اعتمد عليه كالداوودي وابن العماد وغيرهما. والشوكاني أيضًا ذكره بهذا العنوان مع أنّه لم يصدر فيما يبدو عن ذيل طبقات الحنابلة. وبين يديّ ثلاث نسخ من الكتاب، كلّها نسخت في حياة الحافظ ابن رجب (736 - 795)، وأقدمها نسخة الإسكوريال المكتوبة سنة ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية (ص 244).

770 هـ، والثانية مؤرخّة في سنة 785 هـ، والثالثة كتبت قبل سنة 791 هـ، وهذه كلها متفقة على عنوان "الداء والدواء". وقد اطلعت على نسخ متأخرة أيضًا بهذا العنوان من القرنين الثاني عشر والثالث عشر (¬1). أما العنوان الآخر "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، فقد ذكره حاجي خليفة المتوفى سنة 1067 هـ، ثم نقل أول الكتاب، وأثنى عليه (¬2). وهذا دليل على أنه وقف على نسخة منه بهذا العنوان. وقد ورد العنوان الأول أيضًا في كتابه (¬3)، ولكنه مأخوذ من ذيل طبقات الحنابلة أو غيره من كتب التراجم، فإن حاجي خليفة لو وقف على نسخة بهذا العنوان لنقل منها بداية الكتاب، وتبيّن له أنّه الكتاب السابق نفسه الذي ذكره بعنوان "الجواب الكافي ... " (¬4). وعندي صورة من نسخة محفوظة في مكتبة جامعة ييل، وقدّر واضع فهرسها أنها من القرن الثامن، وعنوانها: "كتاب الجواب الكافي في سؤال الدواء الشافي" كذا، والظاهر أنه ليس بخط كاتب النسخة، ولكن لا أدري أهذه صورة محرّفة من العنوان المشهور الذي ثبت من قبل في بعض النسخ، أم هي الصيغة البدائية التي تطوّرت بعد تحسينها إلى ¬

_ (¬1) في مكتبة خدابخش (الهند) نسخة من الكتاب يظهر أنها من القرن الثالث عشر، وسمت بالعنوانين كليهما، فلا يعتدّ بها. (¬2) كشف الظنون (ص 608). (¬3) كشف الظنون (ص 278، 1417). (¬4) ومن هنا ذكر صاحب هدية العارفين (2/ 158) العنوانين في ترجمة ابن القيم، وبعض من اعتمد عليه، فعدّهما كتابين. انظر: ابن قيم الجوزية (ص 245).

الصيغة المعروفة (¬1). مهما يكن الأمر، فقد تبين مما سبق أن العنوان الأول -وهو الداء والدواء- أحقّ بالترجيح. يقول الشيخ بكر أبو زيد: "وهما اسمان وضعا لمسمّى واحد، وهو جواب لسؤال ورد عليه، والمناسبة لكل واحد من الاسمين ظاهرة، لكنها بهذا الاسم "الداء والدواء" أظهر، فإنه استهلّ جواب السؤال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل الله له شفاء" وأحاديث نحوه. وقال أيضًا في أثناء الكتاب: "فلنرجع إلى ما كنّا فيه من ذكر دواء الداء" (¬2). وزد على ما ذكره الشيخ النصوص الآتية من الكتاب: - "وهل مع ذلك كله من دواء لهذا الداء العضال ... " (413). - "ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الذي وقع عليه الاستفتاء، والداء الذي طلب له الدواء" (414). - "والكلام في دواء هذا الداء" (415). - "ودواء هذا الداء القتّال" (490). - "ودواء هذا الداء الدويّ" (566). هذه النصوص، وما سبق من أن الحافظ ابن رجب وغيره ممن ترجم ¬

_ (¬1) الجدير بالذكر أن الشوكاني ذكر رسالة للمؤلف بعنوان "الجواب الشافي لمن سأل عن ثمرة الدعاء إذا كان ما قد قُدر واقع". انظر: البدر الطالع (2/ 144). وهو شبيه بعنوان "الجواب الكافي لمن سأل ... ". وانظر ما علّقت على النص في ص (26). (¬2) ابن قيم الجوزية (ص 245).

للمؤلف إنما ذكره بعنوان "الداء والدواء"، وأنه هو الوارد في مخطوطات الكتاب لا سيما القريبة من زمن المؤلف = كل ذلك يرجّح هذا العنوان على غيره. هذا، وفي مكتبة الأوقاف ببغداد نسخة من الكتاب، تاريخ نسخها سنة 1100 هـ، وكان مكتوباً في صفحة عنوانها: "هذا كتاب دواء الداء"، فكتب بعضهم فوقه بخط مختلف: "هذا دواء القلوب"، ثم ضرب شخص آخر على العبارة السابقة، وكتب بجانبها: "دواء القلوب"، وقيّد الكتاب في المكتبة بهذا العنوان في فنّ التصوف، وهكذا سمّاه الأستاذ عبد الله الجبوري في فهرس مكتبة الأوقاف (¬1). والظاهر أن الورقة الأولى التي كان فيها عنوان الكتاب واسم المؤلف قد ضاعت من الأصل، فتتبع بعض من قرأ النسخة عبارات المصنّف التى سُقناها اَنفَا كقوله: "فلنرجع إلى ما كنّا فيه من ذكر (دواء الداء) "، فكتب: "هذا كتاب دواء الداء"، وكان الرجل مصيبَا في استنباطه، غير بعيد عن العنوان الصحيح. ولمّا رأى بعضهم أنّ هذا العنوان يوهم أنّ الكتاب في طبّ الأبدان، نبّه على موضوعه بقوله: "إن هذا دواء القلوب"، وذلك أيضًا واقع في حاقّ الصواب. أما الذي أفسد الأمر فهو ثالثهم الذي توهّم أن "دواء القلوب" في العبارة السابقة هو عنوان الكتاب، فأثبته بجانبها بعد ما ضرب عليها ضربات! أما الأستاذ عبد الله الجبوري الذي فهرس النسخة، وأثبت بدايتها وخاتمتها، ثم نقل عن معجم المطبوعات لسركيس أن الكتاب مطبوع في ¬

_ (¬1) (2/ 369).

القاهرة ة فلا شك أنه اكتشف أن هذا الكتاب هو "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"،؛ لأنّ معجم سركيس لم يرد فيه عنوان "دواء القلوب" البتّة، لا في مصنفات ابن القيم ولا غيره، وإنما ذكر هو "الجواب الكافي ... " مع الإشارة إلى طبعته الصادرة في مصر عام 1954 م، فكان حريًّا بالأستاذ الجبوري أن يصرّح في الفهرس بأنّ هذه النسخة الموسومة بـ "دواء القلوب" هي لكتاب ابن القيم المطبوع بعنوان "الجواب الكافي ... " أو "الداء والدواء"، مشيرًا إلى ما حصل في صفحة عنوانها من تغيير. ولكن فاته ذلك، فالتبس الأمر بعض الالتباس (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: ابن قيم الجوزية (ص 247).

موضوع الكتاب

موضوع الكتاب الكتاب جواب عن استفتاء ورد على المؤلف رحمه الله، ونصّه: "ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في رجل ابتلي ببلية، وعلم أنّها إن استمرّت به أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما تزداد إلاّ توقّدًا وشدّةً؛ فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ ". لم يفصح السائل عن نوع البلية كما ترى، والمؤلف رحمه الله أيضًا قد شرع في الإجابة دون أن يسمّيها، وكتب فصولاً في الدعاء وآثار المعاصي وعقوباتها القدرية والشرعية، وذكر كبائر الذنوب، ومنها الشرك وقتل النفس، ثم بيّن عظم مفسدة الزنى واللواط. فلما وصل إلى هذا الموضع قال: "فإن قيل: وهل مع ذلك كله من دواء لهذا الداء العضال، ورقية لهذا السحر القتّال؟ وما الاحتيال لدفع هذا الخبال؟ ... وهل يملك العاشق قلبه، والعشق قد وصل إلى سويدائه؟ ... ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الذي وقع عليه الاستفتاء، والداء الذي طلب له الدواء" (413 - 414). ثم ردّ على السؤال قائلاً: "قيل: نعم، الجواب من رأس (وما أنزل الله سبحانه من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله) ". ثم تكلّم على علاج هذا الداء من طريقين أحدهما: حسم مادته قبل حصولها، والثاني: قلعها بعد نزولها. وختم الجواب ببيان ما في عشق الصور من المفاسد العاجلة

والاَجلة، وذكر أن الله سبحانه إنما حكى هذا المرض في كتابه عن طائفتين من الناس، وهما قوم لوط والنساء، ثم قال: "وهذا داء أعيا الأطبّاءَ دواؤه، وعزّ عليهم شفاؤه. وهو لعمر الله- الداء العضال، والسمّ القتّال ... " (491). وتبيّن من هذا أنّ الاستفتاء الذي ورد على المؤلف كان عن داء العشق: كيف يمكن مداواته وإنقاذ صاحبه مما ابتلي به من تباريحه؟ ولفظ الاستفتاء يدلّ على أن السؤال عن مرض حاصل لا عن متوقع، فكان للمؤلف أن يقتصر على بيان الطرق المفضية إلى الخلاص منه، كما فعل في الفصل المحكم الذي كتبه في زاد المعاد بعنوان "فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج العشق". استهلّه بقوله: "هذا مرض من أمراض القلب، مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه، وعلاجه، وإذا تمكن واستحكم عزّ على الأطبّاء دواؤه، وأعيا العليلَ داؤه. وإنما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس: عن النساء وعشاق الصبيان المردان، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف، وحكاه عن قوم لوط" (¬1). ثم ذكر ثماني حالات، ووصف لكلّ حالة علاجها. وكأنّ هذا الفصل من كتاب الزاد -من حيث دقته وتحريره- هو الجواب المطلوب عن الاستفتاء الوارد عليه. أما الكتاب الحافل الذي بين أيدينا، فقد سلك فيه المؤلف رحمه الله مسلكًا آخر ارتضاه ودافع عنه، وحكى عن شيخه أنه كان ينتهجه أيضًا، ¬

_ (¬1) زاد المعاد (4/ 265 - 278).

فقال في كتابه مدارج السالكين: "ومن الجود بالعلم أنّ السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابها جوابًا شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة ... ولقد شاهدت من شيخ الإِسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في ذلك أمرًا عجيبًا: كان إذا سئل عن مسألة حكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر، ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته ... " (¬1). وفي موضع آخر جعل ذلك دليلاً على كمال نصح المفتي للسائل وكمال علمه وإرشاده (¬2). ولا شك أن الجواب عن بعض المسائل الفرعية قد يكون محلّ انتقاد إذا خرج عن المألوف في الاستطالة والتشعب وكثرة الاستطراد، مما يضطر المجيب كلّما بعد عن الغرض أن يعود إلى ما بدأ، فيتضجر السائل، ويملّ القارئ، ولكن إذا كان السؤال عن مرض خطير من أمراض القلوب كمرض العشق المخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه كما قال المؤلف، وهو مرض لا يخلو منه زمان ولا مكان، ولكنه قد يبلغ في بعض المجتمعات- لكثرة دواعيه- من الفشوّ في الخاصة بعد العامّة مبلغًا ينذر بسقوط المجتمع في الهاوية = إذا كان السؤال عن مثل هذا المرض الذي يكاد يكون وباءً فتّاكًا فلا ريب أنّ من كمال نصح المفتي وأمانته وعلمه وفقهه أن يكون جوابه مفصّلاً مستوعبًا لجوانب الموضوع. فلا يصحّ له أن يقتضب الكلام أو ¬

_ (¬1) مدارج السالكين (2/ 293 - 294). (¬2) إعلام الموقعين (4/ 158).

يوجزه، بل يجب عليه أن يفضله تفصيلاً، ويبشّر وينذر، ويذكر المنجيات والموبقات، ويبين أسباب المرض وأماراته وعواقبه، ولا يقتصر على الإرشاد إلى سبل الخلاص منه، بل يدلّ على طرق الوقاية من الوقوع فيه أيضًا. ثم يعتني قبل ذلك بتهيئة قلب المبتلى للاستماع إلى كلامه والعمل بما يصف له من أنواع العلاج. وهكذا كان جوابُ ابن القيم رحمه الله، جواب عالم ربّاني ناصح حكيم، جوابًا مبسوطًا مفصّلا، غايةً في بابه.

ترتيب مباحث الكتاب

ترتيب مباحث الكتاب شرع المؤلف رحمه الله في الجواب عن الاستفتاء رأسًا بقوله: "الحمد لله. ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ... ". ومضى يكتب مرتجلاً على سجيّته، متنقلاً من مبحث إلى آخر، حتى أصبحت الفتوى كتابًا كبيرًا. ومع ذلك جاءت مطالب الكتاب مرتّبة متدرّجة متناسقة خلاف ما يظن في مثل هذا التأليف. ويمكننا أن نقسم مباحثه إلى خمسة أقسام: 1) فصول في الدعاء وحسن الظنّ بالله تعالى مع الحذر من الاغترار به (4 - 98). افتتح الكلام بالحديث الذي أوردناه اَنفًا، وذكر أن الله تعالى أخبر عن القرآن أنه شفاء، ثم نبّه على أنّ الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها هي في نفسها نافعة وشافية ولكن تستدعي قبول المحلّ وقوة همة الفاعل وتأثيره. ثم ذكر أسبابًا أخرى لتخلّف الشفاء، وشروط قبول الدعاء، والاَفات التي تحول دون تأثيره. ثم عقد فصلاً مهمًّا للإجابة عن "سؤال مشهور"، وهو أن المطلوب بالدعاء إن كان مقدّرًا فلا بدّ من وقوعه، دعا به العبد أم لم يدع؛ وإلاّ لم يقع سواء سأله العبد أم لم يسأله فما فائدة الدعاء؟ وبيّن أن المقدور قدر وقوعه بأسباب، ومنها الدعاء، ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الأعمال في كتابه سببًا لحصول الخيرات والشرور في الدنيا والآخرة، فالمؤمن يدفع قَدَر العقوبة الأخروية بقَدَر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة. ثم حذر من مغالطة نفس الإنساَن إياه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة،

وبالتسويف بالتوبة تارة، وبالاحتجاج بالقدر تارة. ثم فصّل صور الاغترار، وحكى أقوال المغترّين، وبين الفرق بين حسن الظنّ بالله والاغترار به، مشيرًا إلى خوف الصحابة على أنفسهم من النفاق، وهم من هم في تقوى الله وعبادته. وفي خلال ذلك أورد أحاديث واَثارًا وأقوالاً لردع الجهّال العصاة المغترّين بالله. وهو فصل طويل نفيس. ثم قال: "فلنرجع إلى ما كنّا فيه من ذكر دواء الداء الذي إن استمرّ أفسد دنيا العبد وآخرته". 2) العقوبات القدرية للمعاصي (98 - 258). قرّر أوّلاً أنّ كل شرّ وداء في الدنيا والآخرة سببه الذنوب والمعاصي. وأشار إلى أن المعصية هي التي أخرجت الأبوين من الجنة، كما أخرجت إبليس من ملكوت السماء، وذكر الأمم التي استحقت عذاب الله بسبب معاصيها في عصور مختلفة، وأورد أحاديث واَثارًا في آثار المعاصي وعواقبه. ثم أفاض القول في أضرار المعاصي للعبد في دينه ودنياه وآخرته، واستغرق هذا المبحث أكثر من مائة صفحة. وذكر في آخر فصوله أن المعاصي مدد من الإنسان يعين به عدوّه على نفسه، وجيش يقوّيه به على حربه، وبيّن حِيَل الشيطان ووصيّته لجنوده بغزو قلب الإنسان والدخول عليه من كل مدخل، والقعود له بكل طريق. 3) العقوبات الشرعية للمعاصي (258 - 413). بعد ذكر آثار المعاصي في حياة الأفراد والأمم، تطرّق الكلام إلى

بيان الحدود والتعزيرات، لتكون هذه رادعةً لمن لم يتعظ بتلك. وقسم العقوبات الشرعية إلى ثلاثة أنواع: القتل، والقطع، والجلد؛ والعقوبات القدرية إلى نوعين: نوع على القلب، ونوع على البدن، وأورد طرفًا منها مرةً أخرى، ليستحضرها العبد، ويكفّ عن الذنوب. ثم قسم الذنوب إلى أربعة أقسام: الملكية والشيطانية والسبعية والبهيمية، ثم عقد فصلاً في أن الذنوب كبائر وصغائر، وكشف الغطاء عن القول بأن الذنوب كلها كبائر بالنظر إلى الجرأة على الله. ثم تكلم على مسألة، وهي أنّ تحريم الشرك هل هو مستفاد من الشرع فحسب، أو هو قبيح في الفطر والعقول، وممتنع أن تأتي به شريعة؟ وما السرّ في كون الشرك لا يغفر من بين سائر الذنوب؟ وقد فصّل القول في هذه المسألة ببيان أنواع الشرك وحقيقته وخصائص الإلهية، وكون الشرك أكبر الكبائر عند الله. وتكلم بعد ذلك على مفسدة القتل باختصار، ثم تناول مفسدة الزنى واللواط بالتفصيل، فإن الفتوى كلها دائرة على هذه المفسدة. فذكر أربعة مداخل للمعاصي: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات. ثم شرح مفسدة الزنى وما اختصّ حدّه به من بين الحدود، ثم بيّن عظم مفسدة اللواط وشدة فحشها، وردّ على من جعل عقوبته دون عقوبة الزنى، وانجرّ الكلام إلى وطء الميتة والبهيمة والسحاق، ثم حكم التلوّط مع المملوك. 4) علاج داء العشق (413 - 508). هذا القسم هو أصل الجواب ومقصود السائل. وقد بين المؤلف فيه

أنّ الكلام في دواء هذا الداء من طريقين: أحدهما حسم مادّتة قبل حصولها، والثاني قلعها بعد نزولها. أما الطريق الأول المانع من حصول الداء، فهو أمران: أحدهما غضّ البصر، وذكر المؤلف جملة من فوائده. والأمر الثاني أن يشتغل القلب بما يصدّه عن الوقوع في شَرَك العشق. وهو إما خوف مقلق أو حبّ مزعج. ثم تكلّم على الحبّ، وقال: لا يمكن أن يجتمع في القلب حب المحبوب الأعلى وعشق الصور، بل هما ضدّان لا يتلاقيان. والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، وأوضح أن أصل الشرك بالله هو الإشراك به في المحبة، وذكر مراتب المحبة، وأن العاقل يؤثر أعلى المحبة على أدناها، وأن أصل السعادة محبة الله وحده ومحبة ما يحبّه الله. أما الطريق الثاني وهو قلع مادة العشق بعد نزولها، فبدأ الكلام عليه بأن هذا المرض إنما حكاه الله سبحانه عن طائفتين من الناس، وهما اللوطية والنساء، وفصّل توافر الدواعي القوية إلى الفاحشة في قصة يوسف، وكيف آثر يوسف عليه السلام مرضاة الله وخوفه، وحمله حبُّه لله على أن اختار السجن على ما دعته إليه امرأة العزيز. ثم ذكر أن عشق الصور أقسام، وأنه تارةً يكون كفرًا، كمن اتخذ معشوقه ندًّا يحبّه كما يحبّ الله، بل يُقدّم بعضهم رضا معشوقه على رضا ربّه، قال: "فهذا العشق الكفري الشركي لا يغفر لصاحبه. وهكذا حال أكثر عشّاق الصور إذا تأمّلته". ثم بيّن علاج هذا الدّاء القتّال، وهو أن يعرف الإنسان أنّ ما ابتلي به هو مضادّ للتوحيد، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه

عن دوام الفكرة فيه، ويكثر اللجأ والتضرّع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه. ثم بين مفاسد العشق الدينية والدنيوية، وأشار إلى ثلاثة مقامات للعاشق وما يجب عليه فيها. ثم كشف عما في العشق من صور الظلم والعدوان، وانتهى إلى أنه قد تضمن أنواع الظلم كلها. 5) إيراد الخصم بذكر فوائد العشق، والردّ عليه (508 - 573). هذا القسم تكملة للقسم السابق. أورد فيه على لسان المعترض فوائد العشق ومنافعه، وطائفة من قصص العشاق، وإعانة الصالحين إيَّاهم على بلوغ مآربهم. ثم ردّ عليه بأنّ العشق من حيث هو لا يحمد ولا يذمّ، وإنما يتبين حكمه بذكر متعلّقه. فمنه النافع والضارّ والجائز والحرام. ثم ذكر أنّ أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها حبّ الله سبحانه، وأنّ أعظم لذّات الدنيا هي الموصلة إلى أعظم لذة في الآخرة. ثم عقد فصلاً على أنّ محبّة النسوان لا لوم فيها على المحبّ، بل هي من كماله. فنكاح المعشوقة هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعًا وقدرًا. ثم ذكر أنّ العشق ثلاثة أقسام: أحدها قربة وطاعة، وهو عشق الرجل امرأته وجاريته. والثاني مقت من الله، وهو عشق المردان، وسمّاه "الداء الدويّ"، وذكر علاجه. والثالث عشق مباح لا يُملَك، كمن وُصفت له امرأة جميلة أو رآها فجأة من غير قصد، فأورثه ذلك عشقًا لها، ولم يُحدِث له ذلك العشق معصيةً. وذكر أن الأنفع له مدافعته والاشتغال بما هو أنفع له، ويجب عليه أن يكتم ويعف، ويصبر على بلواه. فيثيبه الله على ذلك، ويعوّضه على صبره لله، وعفّته، وتركه طاعة هواه، وايثار مرضاة الله وما عنده.

وفي آخر هذا القسم -وهو آخر فصول الكتاب- تكلّم على حديث "من عشق فعفّ ... " الذي احتجّ به الخصم.

موارد الكتاب

موارد الكتاب من الكتب التي صدر عنها المؤلف ما صرّح باسمه، ومنها ما سمّى صاحبه، ومنها ما نقل منه دون إشارة، فهي ثلاثة أقسام، والقسم الرابع ما سمعه ورواه عن شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. أولاً: أما القسم الأول، فمن أهمه وأكثره ورودًا: الصحيحان، ومسند أحمد، ثم السنن، والمستدرك، وصحيح ابن حبّان. ويمكن معرفة أماكن ورودها بالرجوع إلى فهرس الكتب المذكورة في المتن. أما الكتب الأخرى التى سمّاها المؤلف، فنذكرها فيما يلي مرتّبةً على حروف المعجم. وقد أثبتنا بعد اسم الكتاب أرقام الصفحات التي ذكر فيها: - اعتلال القلوب للخرائطي (571). - تاريخ بغداد للخطيب (518). - تذكرة الموضوعات لابن طاهر (568). - تفسير سفيان الثوري (553). - حلية الأولياء لأبي نعيم (125). - ذخيرة الحفاظ لابن طاهر (568). - ربيع الأبرار للزمخشري (563). - الزهد للإمام أحمد (14، 30، 200). وزيادات ابنه عبد الله (11، 130، 142، 483، 557). - الزهرة لأبي بكر محمَّد بن داود الظاهري (516).

- السنة لعبد الله ابن الإِمام أحمد (543). - الضعفاء لابن الجوزي (571). - العاقبة لعبد الحق الإشبيلي (505). وقد نقل نصوصًا منها دون تسمية الكتاب في ص (386 - 392). - الكامل لابن عدي (568). - كتب الأشعري (330). - كتاب المجابين في الدعاء لابن أبي الدنيا (23). - مسائل الإِمام أحمد رواية ابن هانئ (169). - مسائل الإِمام أحمد رواية الشالنجي (411). - معجم الطبراني (118). كذا قال دون تحديد، ولعل المقصود: المعجم الكبير، والحديث الذي نقله لم يرد في شيء من المعاجم الثلاثة المطبوعة. - مناقب عمر لابن أبي الدنيا (112). - الموضوعات لابن الجوزي (568). ثانيًا: أسماء المؤلفين الذين لم يذكر المؤلف كتبهم التي صدر عنها، مع الإشارة إليها إن أمكن الوقوف عليها. - الإِمام أحمد (558). النقل من كتابه "العلل ومعرفة الرجال". وفي مواضع كثيرة نقل من كتاب "الزهد" (76، 101، 171، 124، 129، 131). وفي مواضع

أخرى من "المسند" (113، 123، 124، 310). وفي بعض المواضع يغلب الظن أنه نقل عن كتاب الزهد، ولكنّ النصّ المنقول لا يوجد في المطبوعة. - ابن الجوزي (571). يجوز أن يكون النقل هنا من كتابه "العلل المتناهية" أو من "ذم الهوى"، فالنص وارد في الكتابين. - ابن حزم (531). النصّ المنقول في كتابه "طوق الحمامة"، ولكن يبدو أنه نقله بواسطة، كما سيأتي في القسم الثالث. - الخرائطي (512). النقل من "اعتلال القلوب". ونقل منه في ص (514) أيضًا دون ذكره. وبعض الحكايات التي أسندها إلى الخرائطي (531، 563) ليست في المطبوع من كتاب الاعتلال. - الخطيب (569): من "تاريخ بغداد". - صاحب كتاب "منازل الأحباب" شهاب الدين محمود بن سليمان (519). نقل أربعة أبيات له، ولكنها لم ترد في كتابه "منازل الأحباب". - ابن أبي الدنيا (105، 106، 109 - 112، 115 - 122،119) نقل المؤلف من كتاب "العقوبات"، وهي نصوص كثيرة، وجلّها متتابعة، وإن كان قد أسند بعضها إلى مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن

ابن ماجه، لورودها في الكتب المذكورة ومنزلتها في كتب الحديث. - أبو عبد الله الحاكم (569). والنقل من "تاريخ نيسابور"، كما صرّح بذلك في زاد المعاد (4/ 277). - أبوطالب المكي (292): من "قوت القلوب". - الطحاوي (411): من "شرح مشكل الآثار". - أبو عبيد (169): من "غريب الحديث". - أبو الوفاء ابن عقيل (75). - علي بن الجعد (102): من مسنده. - أبو عمر ابن عبد البرّ (109). - محمَّد بن خلف بن المرزبان (569). لعل النقل من كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي. ثالثًا: قد ينقل المؤلف بعض النصوص دون التصريح بمصدره. ومن ذلك: - نقل كلامًا أسنده إلى "بعض العلماء" (455). والمقصود ابن حزم، وقد لخّص المؤلف كلامه الوارد في كتابه "الأخلاق والسير". - يظهر أن مصدر بعض النقول كتاب "الواضح المبين فيمن استشهد من المحبّين" لمغلطاي (510 - 513). وقد نقل المؤلف طائفة من قصص الحبّ (520 - 532)، وهي واردة في "منازل الأحباب" لشهاب

الدين الحلبي، الذي ذكره المؤلف في موضع -كما سبق- وعرّفه بـ "صاحب منازل الأحباب"، فجائز أن يكون قد نقلها من كتاب المنازل، ولكن بعض القرائن تشير إلى أنّ مصدرها أيضًا "الواضح المبين" لمغلطاي. وهكذا نقل المؤلف في موضع (531) عن ابن حزم قولّا ورد في كتابه "طوق الحمامة"، ولكن لفظه في كتاب ابن القيم يدلّ على أنه منقول من كتاب "الواضح المبين". - قد وضع بعضهم "فتوى في العشق"، ونسبها إلى شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، فأثبت الإِمام ابن القيم في كتابه روضة المحبين (233) أنها مكذوبة على شيخ الإِسلام. من هذه الفتوى نقل ابن القيم أقوالًا في فوائد العشق (558 - 511) في الفصل الذي عقده للردّ على المعترض المحتج بمنافع العشق. وهذا لا ضير فيه؛ لأن مثل هذه الأقوال تتناقلها كتب الأدب. ولكنه نقل قبل هذا الفصل (506) كلامًا مفيدًا لصاحب الفتوى نفسه فيما يجب على المبتلى بعشق الصور، فليته أسنده إلى "بعضهم"! رابعًا: نقل المؤلف عن شيخه في عدّة مواضع مصرحًا باسمه (73، 97، 208، 335، 383، 472). وفي موضعين نقل قولًا له بلفظ "ويقول الآخر"، ضمن أقوال العارفين في النعيم الذي يتمتعون به لأنسهم بربّهم، وطمأنينتهم بذكره، وارتياحهم بحبّه، فقال: "ويقول الآخر: إنّ في الدنيا جنّة، من لم يدخلها لم يدخل جنّة الآخرة" (187).

وقد نسب المؤلف هذا القول في مدارج السالكين (1/ 536)، والوابل الصيّب (109) إلى شيخ الإِسلام، وصرّح بأنه سمعه يقول ذلك، والظاهر من السياق أنه من كلام شيخ الإِسلام نفسه، لا من حكايته لكلام بعض المتقدمين. وفي موضع آخر (482 - 487) أورد المؤلف رحمه الله ثلاثة عشر وجهًا من وجوه قوة الداعي إلى الفاحشة في قصة امرأة العزيز، وذكر جملة منها في طريق الهجرتين (496)، وروضة المحبين (449)، ومدارج السالكين (2/ 156)؛ وصرّح في الأخير بأنها مما سمعه من شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. وليس في ذلك ما يستنكر، فشيخ الإِسلام شيخ المؤلف ومرشده، والمؤلف ناشر علوم شيخه وشارحها.

أهمية الكتاب والثناء عليه

أهمية الكتاب والثناء عليه لا يخفى على من أجال النظر في الفقرات السابقة أهمية هذا الكتاب القيم من حيث موضوعه الخطير وما انطوى عليه من مباحث جليلة نافعة. فقد تصدّى فيه المؤلف رحمه الله لعلاج داء دويّ يشقى به المريض، ويحار فيه الطبيب النحرير، ووصف له كلّ السبل المانعة والدافعة مما وفقه الله إليه من خلال تدبّره لكتابه العزيز ومدارسته لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تكلم المؤلف في غضونه على مسائل مهمّة عرضنا لها في بيان ترتيب الكتاب. وهو نفسه ينبّه أحيانًا على أهمية بعض المباحث وشدّة الحاجة إليها، وذلك من كمال نصحه وأمانته وإشفاقه على قارئ كتابه، ليقف عند تلك المباحث ويتأمّلها، ولا يمرّ بها عجلًا. ومن ذلك أنّه لما تكلم على مسألة دفع القدر بالقدر قال: "فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ورعاها حقّ رعايتها" (ص 35). وقال أيضًا: "ومن فقه هذه المسألة وتأمّلها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلًا منه وعجزًا وتفريطًا وإضاعة، فيكون توكله عجزًا وعجزه توكلًا" (ص 34). وهكذا عند ما بيّن أن حسن الظن بالله تعالى لا يجتمع مع الإساءة، ولن يكون محسنُ الظنّ بربّه مقيمًا على معاصيه معطّلًا لحقوقه، التفت إلى القارئ وقال له: "فتأمّل هذا الموضع، وتأمّل شدّة الحاجة إليه" (ص 46). وبعد توضيح الفرق بين حسن الظن بالله والاغترار بعفوه

ورحمته اتجه إليه مرة أخرى وقال: "ولا تستطل هذا الفصل، فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد" (ص 50). وقال في موضع: "فتأمّل هذا، فإنّه يزيل عنك إشكالات كثيرة" (ص 290). وقال في موضع آخر: "هذا موضع يجب الاعتناء به". (ص 451). وفي الكتاب فصول نفيسة في حقيقة الشرك وأنواعه وخصائص الإلهية، وبيان السرّ في كون الشرك أكبر الكبائر وأنّ قبحه مغروس في الفطر والعقول قبل أن تنزل الشرائع بتحريمه. وقد نقل هذه الفصول باختصار وتصرّف تقي الدين المقريزي في كتابه "تجريد التوحيد المفيد" (¬1). وقد ذكر الشيخ أبو السمح عبد الظاهر بن محمَّد في مقدمته لهذا الكتاب أنه أول كتاب هداه الله به وأنقذه من الضلال. ولعله يقصد هذه الفصول التي لخّصها المقريزي في كتابه اللطيف. والشيخ أبو السمح من علماء الأزهر وقد استقدمه الملك عبد العزيز رحمه الله، وأسند إليه الإمامة والخطابة في الحرم المكي الشريف مع إدارة دار الحديث في مكة المكرمة (1345 - 1375 هـ) (¬2). وقال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: "وفي هذا الكتاب من لطائف العلم وحقائقه وبيان محاسبة النفس ومراقبتها مالًا يستغني عنه طالب ¬

_ (¬1) (ص 55 - 72). وقد نبّهني على هذا النقل أخي الشيخ علي العمران محقق الكتاب المذكور جزاه الله خيرَا. (¬2) الأعلام للزركلي (4/ 11)، وقد توفي الشيخ أبو السمح سنة 1370 هـ.

علم" (¬1). وقد سبقت الإشارة إلى أهمية هذا الكتاب لشبابنا في زمننا هذا خاصةً، إذ نُزع الحجاب في معظم المجتمعات الإِسلامية، وانتشر السفور، وعمّ الاختلاط بين الجنسين، وكثرت المغريات، وغزت الفضائيات والشبكة العنكبوتية بألوان جديدة من مظاهر الفسق والفجور، فاشتدّت الحاجة إلى "حراسة الفضيلة" (¬2) وتثبيت الشباب، وتحصين الثغور. ¬

_ (¬1) ابن قيم الجوزية (246). (¬2) "حراسة الفضيلة" كتاب نفيس مشهور للشيخ بكر أبو زيد حفظه الله ورعاه.

طبع الكتاب وتحقيقه

طبع الكتاب وتحقيقه الطبعة الأولى للكتاب صدرت في الهند في مدينة "آره" سنة 1307 هـ (89 - 1890 م) وكانت طبعة حجرية في 202 صفحة، بعنوان "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" (¬1). ثم طبع الكتاب في القاهرة سنة 1322 هـ (1904 م) بمطبعة المتقدم في 176 صفحة. لم أقف على هاتين الطبعتين، ولا على طبعة السلفية التي ذكر أنها صدرت سنة 1346 هـ (¬2). ولكن طبعةً أخرى ظهرت في العام نفسه على نفقة الشيخ أبي السمح عبد الظاهر بن محمَّد، والشيخ محمَّد صالح نصيف رحمهما الله. وقد طبعت في مطبعة أمين عبد الرحمن بشارع محمَّد علي في القاهرة، وهي بين يديّ. عدد صفحاتها 334، وفي أولها كلمة الناشر في صفحتين، ثم ترجمة المؤلف في ثلاث صفحات. وفي آخرها فهرس الموضوعات وجدول التصحيحات في 20 صفحة. وقد رقمت هذه الصفحات الخمس والعشرون بحروف الأبجد. والجدير بالذكر أن هذه الطبعة الصادرة في سنة 1346 هـ (1928 م) هي "الطبعة الثالثة" حسب ما كتب على الغلاف. فمتى صدرت الطبعتان الأولى والثانية؟ لم أر من أشار إليهما. ثم صدرت طبعتان عام 1377 هـ (1958 م): إحداهما في 224 صفحة بتصحيح الشيخ محمود عبد الوهاب فايد (المدرس بالأزهر ¬

_ (¬1) معجم المطبوعات العربية في شبه القارة الهندية الباكستانية (355). (¬2) ابن قيم الجوزية (244).

الشريف) رحمه الله، والتزم طبعها مكتبة ومطبعة محمَّد علي صبيح وأولاده بالقاهرة. والأخرى بعناية الشيخ محمَّد عمرو الدين عبد الحميد رحمه الله، أصدرتها مطبعة المدني بالقاهرة في 359 صفحة بالإضافة إلى مقدمة المصحح في 8 صفحات. وهذه أول نشرة للكتاب صدرت بعنوان "الداء والدواء"، ولها ميزة أخرى، وهي أنّ ناشرها قد صرح بأنه اعتمد في إخراجها على نسخة خطيّة. ومع أنّه لم يذكر مكانها، وصفها بأنها "بالغة الحدّ في الدقّة والضبط"، ثم نشر في أول الكتاب صفحات مصوّرة منها تُبيّن أنها بخط الشيخ عبد الله بن فائز بن منصور أبا الخيل الذي كتبها سنة 1247 هـ (¬1). وقد طبع الكتاب بعد ذلك طبعات يصعب حصرها، وقد وقفت على كثير منها، ولكن التي تستحق الذكر منها لاعتمادها على نسخ خطيّة ثلاث: طبعة دار ابن كثير في دمشق - بيروت سنة 1408 هـ (1988 م) بعناية الشيخ يوسف علي بديوي الذي ذكر أنه اعتمد فيها على نسخة الظاهرية. وعن هذه النسخة أخرج الكتاب الشيخ عامر بن علي ياسين سنة 1417 هـ (1997 م)، ووصفها بأنها "جيدة على العموم، لكن فيها تصحيفات وتحريفات ليست بالقليلة، وفيها أيضًا كثير من المواضع الباهتة التي تتعذّر قراءتها إلا بالتخمين والافتراض" (ص 26). وأشار مرة أخرى إلى كثرة السقط والتحريف فيها (ص 29). وقد صدرت هذه ¬

_ (¬1) توفي الشيخ عبد الله بن فائز سنة 1251 هـ. انظر ترجمته في: علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 370).

الطبعة عن دار ابن خزيمة بالرياض. والنشرة الثالثة هي التي عني بها الشيخ علي بن حسن الحلبي. وقد صدرت طبعتها الأولى سنة 1416 هـ (1996 م) عن دار ابن الجوزي بالدمام. وبين يديّ طبعتها الثامنة التي ظهرت سنة 1425 هـ. وقد ذكر في حاشية مقدمته أنه حقّق الكتاب عن نسخة مخطوطة، ونشر في آخره صورة أول هذه "النسخة المعتمدة" وآخرها. وهي نسخة مكتوبة سنة 1195 هـ، ولكن الغريب أن أول نشرته وآخرها غير مطابق لما جاء في النسخة المذكورة (¬1). وقد حُقّق الكتاب سنة 1425 هـ عن أربع نسخ خطّية في رسالتين جامعيتين، أعدّتهما لنيل شهادة الماجستير باحثتان أشرف عليهما الشيخ عبد الله بن صالح البرّاك. وذلك في قسم الثقافة الإِسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود (الرياض). واعتُمد في هذا التحقيق على أربع نسخ: نسخة الإسكوريال (770 هـ)، ونسخة مركز الملك فيصل (785 هـ)، والنسخة المعتمدة في طبعة دار ابن الجوزي (1195 هـ)، ونسخة الظاهرية المعتمدة في طبعتي دار ابن كثير ودار ابن خزيمة (غير مؤرخة). ¬

_ (¬1) انظر تقويم النشرتين الأخيرتين في رسالة الباحثة فتحية القحطاني، ولا سيّما النشرة الأخيرة التي نقدتها نقدًا مفصّلًا (ص 30 - 39)، وأثبتت أن صاحبها لم يعتمد على المخطوطة التي ذكرها أصلًا!

النسخ المعتمدة في هذه الطبعة

النسخ المعتمدة في هذه الطبعة تحتفظ خزائن الكتب في الشرق والغرب بأكثر من خمس وعشرين نسخة خطية من هذا الكتاب. وقد تيسّر الحصول -بفضل الله سبحانه- على أربع نسخ قديمة كلها من القرن الثامن، ونسخت إحداهما بعد وفاة المؤلف بتسع عشرة سنة. وهذه هي الأصول المعتمدة في هذه الطبعة، وقد أضيفت إليها نسختان من النسخ المتأخرة للاستئناس بهما. وقبل أن آخذ في وصفها أحب أن أشكر لكل من كانت له يد في الحصول عليها، ولا سيّما فضيلة الشيخ عبد الله بن صالح البراك الذي تكرم بتزويدنا صورة من نسخة الإسكوريال، والأستاذ وليد بن أحمد الحسين رئيس تحرير مجلة الحكمة الذي أسعفنا بصورة من نسخة بايزيد العمومي. أما أخي الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي مدير قسم المخطوطات في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية، فلم يأل جهدا -كعهده- في تيسير الاستفادة من مقتنيات القسم. فجزاهم الله جميعًا خير الجزاء. وإليكم الآن وصفها: (1) نسخة الإسكوريال (س): رقمها في مكتبة الإسكوريال: 743. وهي بخط النسخ في 126 ورقة، عدد الأسطر في كل صفحة بين 22 و 23 سطرًا. كتبت هذه النسخة سنة 770 كما في خاتمتها التي نصّها: "تم بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه في خامس عشرين صفر -خُتم بالخير والظفر- لسنة سبعين وسبعمائة. والصلوات التامّات

الكاملات على سيد الأبرار وخير الأخيار محمَّد المصطفى وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا دائمًا كثيرًا". وهذه أقدم النسخ المعروفة لكتاب الداء والدواء. تبدأ النسخة بعد البسملة و "رب يسر وأعن برحمتك" بالعبارة الآتية: "سئل شيخ الإِسلام أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر الشامي تغمده الله برحمته، وأسكنه جنّته، فقال السائل ... ". وهي بداية غريبة، فإنّ المؤلف رحمه الله كنيته أبو عبد الله، وهو محمد بن أبي بكر، وهو شامي أيضا، ولكنّ ما اشتهر به هو أنه "أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية". أما الصورة الواردة في فاتحة هذه النسخة، فكأن المقصود بها إخفاء اسم المؤلف شيئًا ما عن بعض المقلدة أو بعض المناوئين، لكيلا يصدّ بعضهم تعصبه على المؤلف عن قراءة الكتاب أو يحمله على التعدّي عليه. أما صفحة العنوان فتحمل اسم الكتاب وختمين وعددًا من قيود التملّك والقراءة وغيرها. عنوان الكتاب: "كتاب الداء والدواء"، ولكنه لم يكتب في موضعه، بل في النصف الأسفل من الصفحة، ولعله ليس بخط ناسخ الأصل. أما القيود، فأقدمها قيد مطالعة مؤرخة في سنة 778، ونصّه: "نظر فيه داعيًا لمالكه بحسن الخاتمة محمَّد بن محمَّد بن عبد الرحيم القادري المغربي ... ". ومن قيود التملّك: 1 - "قد إنتظمت المجموعة الشريفة هذه في سلك ملك الفقير إلى

الله الغني محمود بن الحسين بن محمود بن علي المكتني بأبي حمد الله القاضي الحنيفي الحنفي، وقت صلاة العصر، بصحّافية شيراز، حجة خمس وستين وثمانمائة، والمحرر مريض، وأمره على السلطان عريض بثلاثمائة مخفية، ومهمّاته مكفيّة، والحمد لله رب العالمين". 2 - "تم دخل في نوبة الفقير إلى الله تعالى محمَّد بن مصطفى بن محمَّد بن عباد الله الرومي الحنفي -عفا عنهم ربهم العافي- في سنة 947" 3 - "الحمد لله، من نعم الله على عبده أحمد بن شعبان الشافعي". وفي أعلى الصفحة وأسفلها عبارتان بخط فارسي دقيق، وهما من تقييد أحد قرّاء النسخة الذي علّق في مواضع منها، كما سيأتي. وفي الصفحة نفسها جاءت العبارة الآتية: "نودي على النيل المبارك في يوم الثلاثاء الواقع في سابع والعشرون (كذا) من شهر صفر المظفر سنة ثمان وأربعين وتسعمائة". لم يذكر الناسخ اسمه، ولا أشار إلى الأصل الذي نقل منه، ولم أجد فيها من علامات البلاغ ما يدلّ على أنه قابل النسخة على أصلها، ولكن فيها تصحيحات قليلة بخطّه (100/ ب، 110/ أ، 116/ ب)، ثم هي قوبلت على نسخة أخرى، وقيدت الفروق في الحاشية مع كتابة حرف الخاء فوقها. ومن أمثلته: - (2/ أ): "فلم يضيفوهم". وضعت علامة فوق الواو، وكتب في الحاشية: "خ فأبوا أن يضيفوهم". - (2/ أ): "وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء". وضعت العلامة

فوق (عن) وكتب: "خ أن القرآن شفاء". - (2/ ب): "أثّرت وأزالت الداء". العلامة فوق (أثرت) وفي الحاشية: "خ أثر في إزالة الداء". - (5/ أ): "أن تكفني شرّ هذا اللص". وفي الحاشية: "خ تكفيني". - (12/ أ): "إلى السماء التي قبلها". وفي الحاشية: "خ تليها". - (28/ ب): "لعن مَن أكمَهَ أعمى عن الطريق". وفي الحاشية: "خ كمَّهَ". وانظر أيضًا: (10/ أ، 12/ ب، 14/ أ، 17/ أ، 18/ أ، 21/ أ، 23/ ب، 25/ أ، 33/ أ، 43/ أ، 44/ أ، 44/ ب، 46/ ب، 47/ أ). وبالخط نفسه توجد تصحيحات، إذ استوقف الكاتب بعض المواضع التي فيها تصحيف أو سقط، فكتب في الحاشية ما رآه صوابا بعد علامة "ظ"، وقد أصاب أحيانًا. ومن أمثلته: - (ق 2/ ب): "تعتريني أدا". كذا جاء في النسخة، فكتب في الحاشية: "ظ أدواء"، يعني: الظاهر أن الصواب: "تعتريني أدواء". وقد صدق، والذي في الأصل تحريف. - (ق 14/ أ): "ثم علينا فقال: أي إخواني". وضع علامة فوق (علينا)، وعلّق في الحاشية: "ظ أقبل أو نحوه". يعني: سقط كلمة "أقبل" أو نحوها قبل "علينا". - (ق 31/ أ): "وجد في خزائن بني أمية حنطة الحبة كقدر نواة الثمرة". هنا كتب في الحاشية: "ظ حبَّة الحنطة". والحق أن ما في

المتن صواب، وكلمة "الحبة" ليست مضافا إليها كما ظنّ الكاتب، وإنما هي مرفوعة على الابتداء. - (ق 59/ ب): "لجالدونا عليه بالسيوف". علّق عليه: "ظ لجادلونا". وهذا خطأ، والصواب كما في المتن. وقد قرأ النسخة بعض العلماء المتأخرين، فعلّق عليها في مواضع كثيرة بخط فارسي دقيق، نبّه فيها أحيانا على بعض مباحث الكتاب كقوله: "تعريف القلب السليم" (60/ أ)، و "بشارة عظيمة" (54/ ب)، و"تنبيه عظيم" (30/ ب). ونقل بعض الأحيان نصوصًا من الكتب، كنقله من كتاب "خالصة الحقائق" (41/ ب) و "واقعات الشيخ أبي الحسن الرفّاء" (92/ أ). ولما نقل المؤلف قول "بعضهم: أنتم تخافون الذنوب وأنا أخاف الكفر" علّق عليه: "وهذا منسوب إلى الثوري رحمه الله" (34/ ب). ولهذا الكاتب تأويلات غريبة للنصوص، فعلّق على ما ورد من أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض: "والحجر على يمين الخارج من البيت، فكأنه يمين بيته" (65/ ب). وذكر المؤلف أن بعض السلف إذا سمع الكلمة الصالحة من الرجل قال: "ما ألقاها على لسانك إلا ملك، وإذا سمع ضدّها قال: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان"، فعلّق على ذلك: "والمراد بالملك: العقل المتصف بصفته، وبالشيطان: الهوى، فتكون استعارة" (53/ أ). وهذا ونحوه -على خطئه- محتمل، إذ علّقه في حاشية النسخة، ولكنّه أساء في موضع إساءة بالغة، إذ محا كلمات من المتن، وكتب

مكانها كلمات أخرى، ولما ضاق المكان أضاف كلمتين فوق السطر بعلامة "صح". قال المؤلف رحمه الله: "وقد نقل الله سبحانه آدم وحوّاء من الجنة بذنب واحد ارتكباه، وخالفا فيه نهيه. ولعن إبليس، وطرده، وأخرجه من ملكوت السماء بذنب ارتكبه". فغيّره هذا القارئ إلى: " ... من الجنة إلى الأرض بذنب واحد بالغفلة عن مخالفة نهيه. ولعن إبليس ... وأخرجه من مشاركة أهل السماء في السعادة بذنب ارتكبه". وذلك بأنه محا الكلمات "ارتكباه، وخالفا فيه"، وكتب مكانها: "بالغفلة عن مخالفة". وهكذا في الجملة الثانية محا كلمة "ملكوت"، وكتب: "مشاركة أهل". ثم زاد في الأولى بعد "من الجنة" فوقها: "إلى الأرض"، وفي الثانية بعد "أهل السماء" فوقها أيضًا: "في السعادة". وهذا التصرّف منه جناية وعدوان. (2) مصوّرة مركز الملك فيصل (ف). رقمها في المركز: 1504 - ف. ولا نعرف أين أصلها. وهي في 393 صفحة، وفي كل صفحة 17 سطرًا. وقد كتبت سنة 785، كما في خاتمتها: "تم الكتاب والحمد لله رب العالمين ... في عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من شهر شوال المبارك عام خمس (كذا) وثمانين وسبعمائة، أحسن الله خاتمته وتقضّيه، ونفع كاتبه وقارئه بما فيه، بمنّه وكرمه". هذا الناسخ أيضًا لم يذكر اسمه، ولا أشار إلى الأصل الذي نقل منه نسخته.

وقد ورد عنوان الكتاب والمؤلف بخط الناسخ في صفحة العنوان على هذا الوجه: "كتاب الداء والدواء، تأليف الشيخ الإِمام العالم شيخ الإِسلام مفتي الفرق شمسُ الدين أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد إمام المدرسة الجوزية رحمه الله ورضي عنه آمين آمين". وبجانب هذه العبارة قيد تملّك نصّه: "من كتب محمَّد عطائي، اشترى محمَّد الحجازي من مخلفات عطائي بحرف (كذا) ". وقد اشترى محمَّد الحجازي هذا نسخةً من شرح الشافية للجاربردي أيضًا من مخلفات عطائي، وهي محفوظة في مكتبة كوبريلي برقم 302، وكتب عليها: "من كتب الفقير محمَّد بن محمَّد الحجازي إمام المسجد الحرام وخطيبه بالشراء من مخلفات محمَّد عطائي في آخر رجب سنة ثمانين وألف" (¬1). يفيد هذا القيد أنّ المشتري من رجال القرن الحادي عشر وأنه كان إمامًا وخطيبًا في المسجد الحرام (¬2). أما محمَّد عطائي، فلعله "محمَّد بن يحيى المتخلّص -على الطريقة التركية- بعطائي، المعروف بنوعي زاده" المتوفى سنة 1044 هـ. وهو مؤرخ تركي، وله معرفة بالأدب العربي وفقه الحنفية (¬3). ¬

_ (¬1) فهرس مخطوطات كوبريلي (2/ 557). (¬2) وهو مما يستدرك على كتاب أئمة المسجد الحرام للأستاذ يوسف الصبحي. (¬3) الأعلام (7/ 141).

بداية هذه النسخة بعد البسملة والحوقلة: "ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتلي ببليّة ... فأجاب الشيخ الإِمام العالم شيخ الإِسلام مفتي الفرق شمس الدين أبو عبد الله ... ". كتبت النسخة بخط نسخي واضح، وكلها بخط الناسخ إلا ورقة واحدة (ص 257 - 258) فإنها بخطّ مغاير متأخّر. ويظهر من الاستدراكات وكلمة "بلغ" في بعض المواضع (ص 179، 211) أنها قوبلت على أصلها. ونجد في النسخة اهتمامًا بالغًا بوضع علامة للدلالة على بداية فقرة جديدة، وقد يكون ذلك من عمل بعض من قرأ النسخة. وقد علّق أحد القرّاء أيضًا على النسخة، فصحّح، واستدرك، ولكنه هو أيضًا تصرّف بعض الأحيان في المتن لإصلاح ما خيّل إليه أنه خطأ. ومن أمثلة ذلك أنه ورد في النسخة (ص 149): "بل اجعلوا نظره تفرّجًا واستحسانًا والشهوة ... " فمحا لام التعريف من كلمة "الشهوة"، ووضع عليها تنوين الفتحة: "شهوةً"، ليصحّ عطفها على ما قبلها. ولو رجع إلى نسخة أخرى من الكتاب لتبيّن له أنّ في نسخته سقطًا، والصواب: " ... استحسانًا (وتلهّيًا. فإنْ استَرَقَ نظرةَ عبرةٍ فأفسِدوها عليه بنظر الغفلة والاستحسان) والشهوة". وقد سقط ما بين القوسين لانتقال نظر الناسخ. ومن ذلك أيضًا أنّه ورد في النسخة (ص 156): "ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب"، فغيّر كلمة "سلطان" إلى "شيطان"، مع ورود مثله في السطر السابق: "وسلطان غضبه ضعيف ... ".

(3) نسخة بايزيد العمومي (ز): هذه النسخة محفوظة في مكتبة بايزيد العمومي برقم 1598، وهي بخط النسخ في 89 ورقة، وفي كل صفحة 25 سطرًا. وهي أيضًا خِلو من اسم الناسخ وتاريخ النسخ، غير أنّ في آخرها قيدَ تملّك مؤرخًا في سنة 791. فهي إذن من نسخ القرن الثامن، وقد كتبت قبل التاريخ المذكور. في صفحة العنوان كتب اسم الكتاب: "كتاب الداء والدواء"، واسم المؤلف، وفيها علّه قيود تملّك ومطالعة. وفي أعلاها عبارة ضرب عليها حتى لا تقرأ، ونحوها في حاشيتها اليمنى. وفي أسفل الصفحة ختم يحمل العبارة الآتية: "وقف هذا الكتاب عمر اَغا المشهور بإنسان زاده". وهذا الختم نفسه تراه في آخر النسخة، وفي أثنائها (ق 48/ أ) أيضًا. أما قيود التملّك والمطالعة فهي: 1 - "من تمليكة الفقير الحقير عثمان مير در خزينة سنة 1166". وبجانبه ختم صغير يقرأ فيه اسمه "عثمان". هذا في أعلى الصفحة، ثم كتب قيد آخر تحت عنوان الكتاب في الحاشية اليسرى نصّها: "مما أنعم الله تعالى صاحب هذا الكتاب اللطيف عبد الله عثمان مير الضعيف در خزينه غفر الله خفي ذنوبه، وستر عيوبه مع المسلمين، وأيقضه (كذا) من نوم الغفلة ... ". 2 - تحت اسم المؤلف:

"من كتب العبد الفقير إلى الله الآمل العفو من ربه، محمَّد بن ... بتاريخ ثالث عشر ذي القعدة الحرام سنة ... ". 3 - وتحته: "من كتب العبد الفقير إلى رحمة ربه القدير محمَّد بن المرحوم حجّار الحجاري الحنبلي غفر الله له آمين". 4 - وعن يمينه: "انتقل إلى ملك كاتبه بالابتياع الشرعي سنة خمسين وتسعمائة. أبو الخير بن إبراهيم الحجازي الحنبلي لطف الله به آمين". كذا قيّد هنا عام الشراء سنة 950، ولكن في آخر النسخة صرّح بشرائه عام 954، وقال: "انتقل إلى ملك كاتبه بالابتياع الشرعي من الشيخ ... الماتاني (¬1) في مستهلّ شهر ربيع الثاني من شهور سنة أربع وخمسين وتسعمائة. أبو الخير الحجازي". 5 - وتحته قيد مطالعة نصّه: "طالع فيه داعيًا لمالكه بالرشد والتوفيق في مسالكه أفقر عباد الله محمَّد بن عناية الله المغربي الحنفي أحد خَدَمة العلم الشريف بالقدس المنيف عفي عنه". وقبل صفحة العنوان أضيفت ورقة أخرى تحمل عنوان الكتاب واسم المؤلف وعبارات منها قيدان للتملك أحدهما: "من كتب مستجي ¬

_ (¬1) لعله الشيخ نجم الدين محمَّد الماتاني المتوفى نحو 965، وقد وصفه في شذرات الذهب (4/ 327) بالإمام العالم الفقيه المحدث الصالحي.

زاده عبد الله ... ". وهو عبد الله بن عثمان بن موسى المدعو بمستجي زاده المتوفى سنة 1148 (¬1). والقيد الثاني صاحبه: "علي بن محمَّد بن بير أحمد الليثي". وفي آخر النسخة ختم وقفية عمر آغا، وتحته قيد مطالعة لا يظهر منه إلا "طالع فيه"، والباقي ممحوّ. وتحته قيد تملّك نصّه: "مالكه من فضل الله محمَّد بن يوسف المصري ثم الشافعي رحم الله من يرحمه". وتحته عن يمينه عبارة ضرب عليها حتى لا يمكن قراءته. وعن يساره قيد آخر أشرنا إليه من قبل لدلالته على أن النسخة قد كتبت في القرن الثامن، ونصّه: "انتقل إلى ملك أحمد بن علي بن يوسف عفا الله عنه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وسبعمائة". وعن يمينه قيد شراء أبي الخير الحجازي للنسخة في 954، وقد نقلناه آنفًا. بداية هذه النسخة بعد البسملة و "حسبي الله ونعم الوكيل اللهم وفق": "سئل الشيخ الإِمام العالم العلامة المتقين الحافظ الناقد شمس الدين أبي عبد الله محمَّد بن الشيخ تقي الدين أبي محمَّد أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية زاده الله من فضله: ما تقول السادة الفقهاء ... ". كذا ورد "أبي عبد الله" في هذه العبارة بالجرّ، ثم كذا وردت فيها ¬

_ (¬1) انظر: فهرس مخطوطات كوبريلي (3/ 138)، وكذا في إيضاح المكنون (1/ 142). وفي هدية العارفين (1/ 483) أنه توفي سنة 1150.

الكنيتان لوالد ابن القيم: "أبي محمَّد أبي بكر". وذلك أن "أبا بكر" هو اسمه، و"أبا محمَّد" كنيته. ومحمد هو ابن القيم نفسه. الجدير بالذكر أن هذه العبارة بنصّها واردة في بداية نسخة الظاهرية. والنسختان متفقتان أيضًا في الأسقاط، وأكبرها في (ق 47/ أ) مقداره نحو سبعة أسطر من النسخة، وقد سقطت لانتقال النظر. وهذه العبارة نفسها ساقطة من نسخة الظاهرية. وذلك دليل على أن إحداهما نسخت من الأخرى أو أنهما منسوختان من أصل واحد. قوبلت النسخة على الأصل، إذ ورد في آخرها: "بلغ مقابلة حسب الطاقة". ويؤيد ذلك تصحيحات في حواشيها، والدوائر المنقوطة في المتن، وكلمة "بلغ" في (ق 41/ أ). وقد تنقلت النسخة في أيدٍ كثرة، كما رأينا في قيود التملك، فمن الطبيعي أن تحمل أوراقها تعليقًا لهذا أو ذاك. وقد زاد بعضهم أحيانًا كلمات بين السطور لإصلاح النص -في زعمه- أو تفسيره. ومن أمثلة ذلك: - (2/ أ): "فهذا دواء نافع مزيل للدعاء". كذا ورد في النسخة، فضبط بعضهم "مزيل" بتشديد الياء، وكتب فوقها: "أي مقو"! ولم يعرف أن "للدعاء" تحريف صوابه: "للداء". - (3/ أ): "وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده". زاد بعد "أسمائه" كلمة "الحسنى". - (4/ ب): "وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال". النص ناقص، وتكملته: "ودخول النار بالأعمال"، وهي ساقطة من هذه النسخة، فزاد

بعد "بالأعمال": "الصالحة". - (4/ ب): "وإنما تنصرون من السماء". زاد بعدها: "بالدعاء". - (5/ ب): "وبالاحتجاج بالأشباه والنظر والاقتداء بالأكابر تارةً". كلمة "والنظر" في هذه العبارة تحريف، والصواب: "والنظراء". فلما أشكلت على بعضهم زاد بعدها: "إليهم". وقد وقع محو وتغيير بعض الأحيان. ومن أمثلة ذلك: - (3/ أ): "رفع رأسه إلى السماء". هنا محا بعضهم حرفي الراء وا لهمز؛، وغيّر "سه" إلي "يديه". - ومن ذلك أن البيت الآتي قد وقع في جميع النسخ على هذا الوجه (¬1): ولقد علمنا أنه قد أخرج الأبوين من ... ملكوتها الأعلى بذنب واحد والبيت من البحر الكامل، وظاهر أن في صدره زيادةًا ختلّ بها الوزن، فلو حذفت "أنه قد" استقام. وكان مقتضى الأمانة أن ينبّه على ذلك في الحاشية ولكنّ أحد القرّاء قد محا الكلمتين من النسخة، وترك مكانهما بياضًا (ق 28/ ب). (4) نسخة جامعة ييل (ل): هذه النسخة محفوظة في مكتبة جامعة ييل بالولايات المتحدة برقم 94. وهي في 221 ورقة، وعدد الأسطر في كل صفحة 15 سطرًا. ¬

_ (¬1) ولا يبعد أن يكون البيت قد ورد هكذا في نسخة المصنف رحمه الله. انظر ما علقته على البيت (578) من الكافية الشافية (1/ 193) للمصنف.

خطها نسخيّ واضح، وليس فيها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، ورجّح مفهرس المكتبة أنها من القرن الثامن. سمّي الكتاب في صفحة العنوان: "كتاب الجواب الكافي في سؤال الدواء الشافي". والظاهر أن الورقة الأولى من الأصل قد فقدت، فأضيفت إليه ورقة، وكتب فيها هذا العنوان استنباطًا من نصّ الكتاب. وقد سبق الكلام عليه في مبحث "عنوان الكتاب". وكتب في أسفل الصفحة: "من كتب حمزة بن توكل الحاجب رحمه الله تعالى". وبجانبه قيد تملّك لم يظهر كاملًا في الصورة. بداية هذه النسخة بعد البسملة و "رب يسّر وأعن": "سئل شيخ الإِسلام شمس الدين ابن قيم الجوزية: ما تقول السادة العلماء ... ". فلا ترى فيها الإكثار من النعوت كالنسخ الأخرى. وفي النسخة تصحيحات قليلة بخط الناسخ تدل على المقابلة، وتصحيحات وتعليقات أخرى لبعض القرّاء. وقد نقل نصّا طويلًا من "الحصين الحصين" في (8/ ب-9/ 1)، كما وضع عناوين لبعض المباحث. (5) نسخة أوقاف بغداد (خا): رقمها في مكتبة الأوقاف ببغداد: 4732. وهي في 158 ورقة، وفي كل صفحة 21 سطرًا. وهي مكتوبة بالخط الفارسي. لم يكتب الناسخ اسمه، ولكنّه نصّ في الخاتمة على أنه "وافق الفراغ منه في أواسط يوم الأربعاء في شهر رمضان المبارك سنة مائة وألف" (1100). وقد قيدت هذه النسخة في فهرس مكتبة الأوقاف بعنوان "دواء

القلوب" أخذَا مما ورد على صفحة العنوان. وقد مضى الكلام مفصّلاَ على ذلك في مبحث عنوان الكتاب. وفي صفحة العنوان عدّة تملّكات. ظهر منها اثنان، يعرف من أحدهما أن الكتاب كان في ملك الحاج إسماعيل حقي سنة 1256 في إزمير. والقيد الثاني يفيد أنه كان من كتب عبد الرحيم بن محمَّد المعروف بمفتي زاده المدرس بمدرسة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه (¬1). في النسخة تصحيحات واستدراكات تدل على مقابلتها بالأصل، وفيها تعليقات وتقييدات أخرى باللغة التركية. بداية النسخة بعد البسملة و "رب يسّر يا كريم": "سئل شيخ الإِسلام شمس الدين ابن قيم الجوزية: ما تقول السادة العلماء". وهي موافقة لبداية نسخة جامعة ييل (ل). وهما تتفقان في مواضع أخرى أيضًا، فلعلهما ترجعان إلى أصل واحد. (6) مصورة مركز الملك فيصل (خب): لا يعرف مصدر هذه النسخة المصورة، وهي محفوظة في مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية برقم 325. ف. وكانت ضمن مجموع يبلغ عدد أوراقه 334 ورقة. النسخة في 143 ورقة بخط النسخ، وفي كل صفحة 28 سطرًا. ¬

_ (¬1) بعض كتب "مفتي زاده" هذا محفوظ في مكتبة كوبريلي. انظر فهرس مخطوطاتها (3/ 21).

منهج التحقيق

لم يكتب الناسخ اسمه، ولا أشار إلى الأصل المنقول منه، غير أنه أثبت تاريخ الفراغ من كتابة النسخة في آخرها. وهو السابع من شهر ذي القعدة سنة 1195 هـ. ولعل الورقة الأولى منها ضاعت، فذهب معها عنوان الكتاب. وقد قوبلت النسخة على الأصل. يدلّ على ذلك بعض التصحيحات وقيد "بلغ مقابلة" في بعض الورقات. هذه النسخة هي التي زعم محقق طبعة دار ابن الجوزي أنه اعتمد عليها.

منهج التحقيق اعتمدت في تحقيق نصّ الكتاب على النسخ الأربع الأولى ذوات الرموز (س، ف، ز، ل)، إذ هي أقدم النسخ التي وقفت عليها، وهي منحدرة من أصول مختلفة. ثم رجعت إلى النسختين المتأخرتين (خا، خب) للتأييد والاستئناس. والجدير بالذكر أن النسخ (ز، ل، خا) استخدمت لأول مرة في هذه النشرة. نسخة الإسكوريال (س) أقرب هذه النسخ إلى زمن المؤلف، إذ كتبت بعد وفاة المؤلف بتسع عشرة سنة، ولكنها لا تفضل كثيرًا على غيرها في الصحة والإتقان. ومن هنا لم أتخذها أصلًا في إثبات النصّ، بل أثبثّ عند اختلاف النسخ ما ظهر لي رجحانه مع التنبيه على ما في سائرها. وكان الاهتمام منصبًّا على القراءة الدقيقة لهذه النسخ مع التنبيه لما قد يكون فيها من سقط وتصحيف وتصرّفات القرّاء. وقد أثبتّ الفروق المهمّة في الحواشي، وأغفلت اختلافها في عبارات تنزيه الله سبحانه وتمجيده، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والترضي عن صحابته. وكذلك الفروق غير المهمة التي تكثر في مثل هذه النسخ، ولا يفيد إثباتها إلا إثقال الحواشي. وقد عنيت بضبط ما يشكل من النصّ، وتفسير الألفاظ والتعبيرات الغريبة، وتوثيق النقول، والربط بين هذا الكتاب والكتب الأخرى للمؤلف. لم أضع عناوين جانبية، ورأيت أن تحبير بعض الكلمات أو الجمل الواردة في النص يغني عن مثل هذه العناوين.

وقد تولّى تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب أخي الشيخ زائد بن أحمد النشيري فجزاه الله خيرًا، وإذا اجتمع في حاشية واحدة تعليقي وتعليق الشيخ زائد ميّزت بينهما بالرمز إليه بحرف الزاي، وإلى نفسي بحرف الصاد، وقد اكتفيت أحيانًا بإثبات الرمز في آخر التعليق الأول. وأخيرًا أعددت فهارس متنوعة تكشف عما يتضمن الكتاب من اللطائف والفوائد، بالإضافة إلى الفهرس المفصّل لمطالب الكتاب. وبعد، فهذه أول نشرة علمية للكتاب أرجو أن يكون نصّها مقاربًا لما صدر عن المؤلف رحمه الله.

نماذج مصورة من النسخ المعتمدة

نماذج مصوّرة من النسخ الخطّية المعتمدة

صفحة العنوان من النسخة (س)

الورقة الأولى من النسخة (س)

خاتمة النسخة (س)

صفحة العنوان من النسخة (ف)

الورقة الأولى/ ب من النسخة (ف)

خاتمة النسخة (ف)

صفحة العنوان من النسخة (ز)

الورقة الأولى/ ب من النسخة (ز)

خاتمة النسخة (ز)

صفحة العنوان من النسخة (ل)

الورقة الأولى/ ب من النسخة (ل)

خاتمة النسخة (ل)

الورقة الأولى/ ب من النسخة (خا)

خاتمة النسخة (خا)

الورقة الأولى/ ب من النسخة (خب)

خاتمة النسخة (خب)

أثاَرُ الإمَام ابنِ قَيم الجوزيَّة وَمالِحَقَهَا مِن أَعمالٍ (17) الداء والدواء تَأليف الإمَامِ أبي عَبْدِ الله محمَّد بْنِ أبي بكر أَيُّوب ابن قَيِّمِ الجَوْزيّةِ (691 - 751) حَقَّقَهُ مُحَمَّد أَجمَل الإصْلاَحي خًرجَ أَحَادِيثهُ زَائِد بن أحمد النّشيري إشُرَاف بكر بن عبد الله أبوُ زيد تَمْويل مُؤَسَّسَةِ سُليمَان بن عبد العزيز الرَّاجِحِيِّ الخَيريَّة دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

أثاَرُ الإمَام ابنِ قَيم الجوزيَّة وَمالِحَقَهَا مِن أَعمالٍ (17) الداء والدواء تَأليف الإمَامِ أبي عَبْدِ الله محمَّد بْنِ أبي بكر أَيُّوب ابن قَيِّمِ الجَوْزيّةِ (691 - 751) حَقَّقَهُ مُحَمَّد أجمل الإصْلاَحي خًرجَ أَحَادِيثهُ زَائِد بن أحمد النّشيري إشُرَاف بكر بن عبد الله أبوُ زيد تَمْويل مُؤَسَّسَةِ سُليمَان بن عبد العزيز الرَّاجِحِيِّ الخَيريَّة دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

نص الاستفتاء

بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (¬1) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين (¬2) - رضي الله عنهم أجمعين (¬3) - في رجل ابتلي ببلية، وعلم أنها إن استمرّت به أفسدت عليه (¬4) دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما تزداد (¬5) إلا توقّدَا وشدة؛ فما الحيلة في دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ فرحم الله من أعان مبتلى (¬6)، "والله في عون العبد ما كان العبد (¬7) في عون أخيه" (¬8)، أفتونا مأجورين (¬9). فأجاب الشيخ الإِمام العالم شيخ الإِسلام مفتي الفِرَق شمس الدين ¬

_ (¬1) س: "ربِّ يسر وأعن برحمتك". ز: "حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم وفق". ل: "ربِّ يسر وأعن". (¬2) هكذا بدأت النسختان ف، خب. وفي غيرهما ذكر اسم المؤلف وألقابه في أول الكلام، فبدأت ز مثلًا على النحو الآتي: "سئل الشيخ الإِمام العالم ... : ما تقول السادة العلماء ... مأجورين. فكتب الشيخ رضي الله عنه: الجواب: الحمد لله، ثبت ... ". (¬3) "أجمعين" ساقط من ز. (¬4) "عليه" من س، ل، خا. (¬5) كذا في ل، خا. ولم ينقط حرف المضارع في س. وفي غيرها: "يزداد". (¬6) س: "المبتلى". (¬7) "العبد " ساقط من ف. (¬8) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (2699). (¬9) كذا في ف، ز. وزاد في س، خب: "رحمكم الله". وفي ل: "رحمكم الله ورضي عنكم". وزاد في خب: "وختم لكم بخير".

لكل داء دواء

أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن أيوب إمام المدرسة الجوزية بدمشق المحروسة رضي الله عنه (¬1): الحمد لله (¬2). ثبت في صحيح البخاري (¬3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء". وفي صحيح مسلم (¬4) من حديث جابر (¬5) بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله". وفي مسند الإِمام أحمد (¬6) من حديث أسامة بن شريك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لم يُنْزِلْ داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمَه مَن علِمَه، وجَهِله مَن ¬

_ (¬1) كذا في ف. وانظر للألقاب الواردة في النسخ الأخرى: وصفها في مقدمة التحقيق. (¬2) زاد في ف: "ربِّ العالمين". (¬3) في كتاب الطب (5678). وفي س: "صحيح مسلم والبخاري". (¬4) في كتاب السلام (2204). (¬5) س: "مسلم عن جابر". (¬6) 4/ 278 (18456). من طريق مصعب بن سلاّم ثنا الأجلح عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك ... فذكره. وقد خولف مصعب. خالفه محمَّد بن فضيل، فرواه عن الأجلح عن زياد عن أسامة باللفظ الثاني الذي ذكره المؤلف. أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 183 (478). ورواه محمَّد بن فضيل عن الشيباني والأجلح عن زياد به بمثله. أخرجه هناد في الزهد (1260). ورواية الجماعة -كما سيأتي- بدون زيادة (علمه من علمه، وجهله من جهله) ورواتها حفاظ متقنون كالثوري وشعبة والأعمش وغيرهم. وأيضًا مصعب بن سلام فيه ضعف. وقد جاءت هذه الزيادة من حديث عبد الله بن مسعود عند أحمد في المسند و (3578) وغيره. وفيه اختلاف في رفعه ووقفه، وفي سماع أبي عبد الرحمن السلمي من ابن مسعود. راجع علل الدارقطني 5/ 334 - 335.

الجهل داء وشفاؤه السؤال

جَهِله". وفي لفظ (¬1): "إن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً إلا داءً واحدًا" قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: "الهرَم". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬2). وهذا يعمّ أدواءَ القلب والروح والبدن، وأدويتَها. وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء: فروى أبو داود في سننه (¬4) من حديث جابر بن عبد الله قال: خرجنا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2038) وأبو داود (2015) وابن ماجه (3436) وأحمد (18454) والطبراني (1/ 179 - 184) وغيرهم، من طرق عن الثوري وشعبة وابن عيينة والأعمش وزائدة وزهير وغيرهم، كلهم عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك. فذكره بعضهم مطولًا، وبعضهم مختصرًا. والحديث صححه سفيان بن عيينة والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والضياء المقدسي والبوصيري وغيرهم. انظر الأحاديث المختارة (4/ 171)، والإلزامات والتتبع للدارقطني (ص 113 - 114). (¬2) كذا في ف، ومتن الترمذي المطبوع مع تحفة الأحوذي (6/ 160). وكذا في نسخة باريس من الجامع رواية الكروخي (ق/ 134)، ومثله في تحفة الأشراف للمزي (1/ 62). وفي النسخ الأخرى: "حديث صحيح". (¬3) العبارة "يعم ... - صلى الله عليه وسلم - " ساقطة من س. (¬4) في كتاب الطهارة (336). وأخرجه الدارقطني (1/ 190) والبغوي في شرح السنة (313) من طريق الزبير بن خُريق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر، فذكره. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (1/ 156): "صححه ابن السكن، وقال ابن أبي داود: تفرد به الزبير بن خريق، وكذا قال الدارقطني، قال: وليس بالقوي" ثم ذكر الاختلاف على رواة الحديث. وانظر تحقيق المسند (3056) وبيان الوهم والإيهام لابن القطان = (2/ 236 - 237).

القرآن كله شفاء

في سفر، فأصاب رجلاًَ منا حجر، فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه (¬1)، فقال (¬2): هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء. فاغتسل، فمات. فلما قدمنا على رسول الله [2/ أ]- صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك فقال: "قتلوه، قتلهم الله! ألاّ سألوا إذ لم يعلموا! فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصِر -أو يعصِب- على جرحه خرقةَ، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده". فأخبر أنّ الجهل داء، وأنّ شفاءه السؤال. وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء (¬3).، فقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا ُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]. وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، و"من" ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض (¬4)، فإن القرآن كله شفاء، كما قال في الآية الأخرى (¬5). فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب، فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع (¬6) في إزالة الداء من القرآن. ¬

_ (¬1) ف: "الصحابة". (¬2) "فقال" ساقط من س. (¬3) ل: "أن القرآن شفاء". وقد أشير إلى هذه النسخة في حاشية س. (¬4) ل: "ها هنا الجنس لا التبعيض". (¬5) يعني الآية السابقة. وفي النسخ المطبوعة: "المتقدمة" مكان "الأخرى". (¬6) س: "أبلغ".

التداوي بالفاتحة

وقد ثبت في الصحيحين (¬1) من حديث أبي سعيد قال: انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) في سَفْرة سافروها حتى نزلوا على حيّ من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يُضَيّفوهم (¬3). فلُدِغَ سيّدُ ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهطَ الذين نزلوا، لعلّه أن يكون عند بعضهم شيء (¬4). فأتوهم، فقالوا: أيها الرهط إن سيّدنا لُدِغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم (¬5)، والله إنّي لأرقي، ولكن والله استضفناكم فلم تُضَيّفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعْلًا. فصالحوهم على قطيع من الغنم. فانطلق يتفُل عليه، ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]. فكأنما نُشِطَ من عِقال، فانطلق يمشي، وما به قَلَبة (¬6). فأوفَوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم: اقتسِموا، فقال الذي رقَى: لا نفعل حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، فنذكر له الذي كان، فننظر بما يأمرنا. فقدِموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له ذلك، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟ " ثم قال: "قد أصَبتُم، اقتسِمُوا واضرِبوا لي معكم سهمًا". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الإجارة، باب ما يعطي في الرقية ... (2276) وغيره، ومسلم في السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (2201). (¬2) ف: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". (¬3) س: "فلم يضيفوهم"، وأشير في الحاشية إلى ما أثبتناه من غيرها. (¬4) ل: "عندهم بعض شيء". (¬5) سقط "نعم" من ز. (¬6) القلبة: الألم والعلّة. انظر النهاية (4/ 98). (¬7) ل: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

أسباب تخلف الشفاء

فقد أثّر هذا الدواءُ في هذا (¬1) الداء، وأزاله حتى كأنْ لم يكن. وهو أسهل دواء وأيسره. ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيرًا عجيبًا في الشفاء. ومكثتُ بمكة مدّةً تعتريني (¬2) أدواء، ولا أجد طبيبًا ولا دواء، فكنتُ أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا [2/ ب] عجيبًا (¬3). فكنت أصف ذلك لمن يشتكي (¬4) ألمًا، وكان (¬5) كثير منهم يبرأ سريعًا (¬6). ولكن ها هنا أمر ينبغي التفطّن له، وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحلّ، وقوة همة الفاعل وتأثيره. فمتى تخلّف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإنّ عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع (¬7) قوي يمنع من اقتضائه أثره. فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول ¬

_ (¬1) "هذا" ساقط من ف. (¬2) ف، ز: "يعتريني". (¬3) "أعالج ... تاثيرًا" تكرر في س. وسقط "لا دواء فكنت ... عجيبًا" من ز، واستدرك بخط مغاير في الحاشية. (¬4) ز: "اشتكى". (¬5) ف: "فكان". (¬6) وانظر كلام المؤلف في تأثير سورة الفاتحة في زاد المعاد (4/ 176 - 178)، وهناك أيضًا حكى عن نفسه أنه كان يتعالج في مكة بسورة الفاتحة. وانظر: مدارج السالكين (1/ 57 - 58). (¬7) ل: "المانع".

أسباب تخلف أثر الدعاء

تام (¬1)، وكان للراقي نفس فعالة وهمة مؤثرة، أثّر في إزالة الداء (¬2). وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره (¬3)، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والظلم، ورَين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو (¬4) واللهو وغلبتها عليها (¬5). كما في صحيح الحاكم (¬6) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أنّ الله لا يقبل دعاءً مِن قلبٍ ¬

_ (¬1) ف: "بالقبول التام". (¬2) س: "أثرت وأزالت الداء"، وأشير في الحاشية إلى ما أثبتنا من غيرها. (¬3) ف: "ولكن يتخلف أثره عنه". (¬4) س: "الشهوة"، ولم يرد فيها ما بعد هذه الكلمة. (¬5) كذا في ف، ز. وفي ل: "الغفلة والسهو والذنوب". (¬6) كذا سمّى المؤلف مستدرك الحاكم بالصحيح، وسيأتي مرارًا، وكذا يسفيه شيخه، نظرًا إلى شرط المصنف لا توثيقًا لتصحيحه. ويدلّ على ذلك قوله في الفروسية (185 - 186): "ولا يعبأ الحفاظ أطباء علل الحديث بتصحيح الحاكم شيئًا, ولا يرفعون به رأسًا البتة، بل لا يدل تصحيحه على حسن الحديث، بل يصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث ... ". وقال شيخ الإِسلام: " ... وروى ذلك الحاكم في صحيحه, لكن هذا ضعيف، وللحاكم مثل هذا، يروي أحاديث موضوعة في صحيحه" (رسالة في قنوت الأشياء - جامع الرسائل 1/ 12).

غافلٍ لاه" (¬1). فهذا دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوله. وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة: قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس، إنّ الله طيّب، لا يقبل إلا طيّبًا. وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ [3/ أ] كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} البقرة: 172] ". ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ يمدّ يده إلى السماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك! ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 670 - 671 (1817) والترمذي (3479) وابن حبان في المجروحين (1/ 368) وابن عدي في الكامل (4/ 62) وغيرهم، من طريق صالح المرّي عن هشام بن حسان عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث مستقيم الإسناد، تفرد به صالح المري، وهو أحد زهاد البصرة، ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "صالح متروك". والحديث ضعفه الترمذي، وعده ابن عدي وابن حبان من منكرات صالح المري. وورد من حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد في المسند 2/ 177 (6655) لكنه من طريق حسن بن موسى عن ابن لهيعة قال ابن المديني: "الحسن بن موسى إنما سمع من ابن لهيعة بأخرة ... ". وحسنه المنذري والهيثمي انظر: الترغيب والترهيب (2/ 491 - 492) ومجمع الزوائد (10/ 148) ومسند الفاروق لابن كثير (2/ 649). (¬2) في كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1015).

فصل: الدعاء من أنفع الأدوية

وذكر عبد الله ابن الإِمام (¬1) أحمد في كتاب الزهد لأبيه (¬2): أصاب بني إسرائيل بلاءً، فخرجوا مخرجًا، فأوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إلى نبيّهم أن أخبرهم: تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليّ أكُفًّا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعدًا. وقال أبو ذر: يكفي من الدعاء مع البِرّ ما يكفي الطعام من الملح (¬3). فصل والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل. وهو سلاح المؤمن، كما روى الحاكم في صحيحه (¬4) من حديث علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء سلاح المؤمن، ¬

_ (¬1) "الإِمام" من س. (¬2) لم أفف عليه في المطبوع، وأخرجه أبو داود في الزهد (13)، وفي سنده ضعف. (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (788)، وابن المبارك في الزهد (319) وغيرهما، من طريق بكر بن عبد الله المزني عن أبي ذر، فذكره. قال أبو حاتم الرازي: "بكر بن عبد الله المزني عن أبي ذر مرسل". المراسيل (25) لابن أبي حاتم (ط دار الكتب العلمية). (¬4) 1/ 669 (1812). وأخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 172) والقضاعي في مسند الشهاب (143) وغيرهما. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، فإن محمَّد بن الحسن هذا هو التل أو هو صدوق في الكوفيين". قلت: محمَّد بن الحسن هو ابن أبي يزيد الهمداني، متروك الحديث. وكذبه ابن معين وأبو داود. وقال بعضهم: ضعيف. انظر: تهذيب الكمال (25/ 76 - 79) راجع السلسلة الضعيفة للألباني (179).

للدعاء مع النبلاء ثلاث مقامات

وعما د الدين، ونور السموات والأرض". وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها: أن يكون أقوى من البلاء، فيدفعه. الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد. ولكن (¬1) قد يخففه، وإن كان ضعيفًا. الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كلّ واحد منهما صاحبه. وقد روى الحاكم في صحيحه (¬2) من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "لا يغني حَذَر من قَدَر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وإن البلاء لينزل، فيلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة". وفيه أيضًا (¬3) من حديث ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عبادَ الله بالدعاء". ¬

_ (¬1) ز: "ولكنه". (¬2) 1/ 669 (1813). وأخرجه الطبراني في الدعاء (33)، والبزار في مسنده (زوائده: 2165) وغيرهما. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "زكريا مجمع على ضعفه". (¬3) 1/ 670 (1815). وأخرجه الترمذي (3548) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وقال الذهبي في التلخيص: "عبد الرحمن واهٍ".

فصل: الإلحاح في الدعاء

وفيه أيضًا (¬1) من حديث ثوبان: "لا يردّ القدرَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد لعمر إلا البِرّ، دانّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه". فصل ومن أنفع الأدوية: [3/ ب] الإلحاح في الدعاء وقد (¬2) روى ابن ماجه في سننه (¬3) من حديث أبي هريرة قال: قال ¬

_ (¬1) 1/ 670 (1814). وأخرجه ابن ماجه (4022) وأحمد 37/ 68 (22386) وابن حبان (872) والبغوي في شرح السنة 13/ 6 (3418) وغيرهم، من طريق الثوري عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قلت: ولم يتعقبه الذهبي. وقد وقع في الحديث اختلاف، وطريق الثوري أشبه بالصواب، لكن في سنده عبد الله بن أبي الجعد، لم يوثقه غير ابن حبان. وورد من حديث سلمان بلفظ "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر". أخرجه الترمذي (2139) وقال: (هذا حديث حسن غريب من حديث سلمان، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن الضريس". قلت: والحديث تفرد به أبو مودود، واسمه فضة -ضعيف الحديث- عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان. انظر: تهذيب الكمال (23/ 267). (¬2) لم يرد "وقد" في س. (¬3) رقم (3827). وأخرجه الترمذي (3373) وأحمد 2/ 442 (9701) والحاكم 1/ 668 (1807) وغيرهم، من طريق أبي المليح عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، فإن أبا صالح الخوزي وأبا المليح الفارسي لم يذكرا بالجرح، وإنما هما في عداد المجهولين لقلة الحديث". قلت: الحديث تفرد به أبو صالح الخوزي، وهو لم يرو عنه غير أبي المليح، وقال فيه ابن معين: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال ابن حجر: لين الحديث. وجعل ابن عدي هذا الحديث من مفاريده. انظر تهذيب الكمال (33/ 418) والكامل في الضعفاء (7/ 294 - 295).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يسأل اللهَ يغضَبْ عليه". وفي صحيح الحاكم (¬1) من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد". وذكر الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحب الملِحّين في الدعاء" (¬2). وفي كتاب الزهد للإمام أحمد (¬3) عن قتادة قال: قال مُوَرِّق: ما وجدت للمؤمن مثلًا إلا رجلًا في البحر على خشبة، فهو يدعو: يارب ¬

_ (¬1) 1/ 671 (1818). وأخرجه ابن حبان (871) والعقيلي في الضعفاء (3/ 188) وابن عدي في الكامل (5/ 13) وغيرهم، من طريق عمر بن محمَّد بن صهبان الأسلمي عن ثابت عن أنس فذكره. صححه الحاكم قال الحافظ في اللسان (6/ 141): "صححه الحاكم فتساهل في ذلك". قلت: الحديث تفرد به عمر بن محمَّد عن ثابت. وعمر هذا قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال أحمد: لم يكن بشيء. وقال العقيلي: "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به". وقد وقع في سند ابن حبان والحاكم وهم. راجع السلسلة الضعيفة للألباني (843) والتعليق على ابن حبان. (¬2) أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 452) والطبراني في الدعاء (25) وابن عدي في الكامل (7/ 164)، من طريق بقية عن يوسف بن السفر عن الأوزاعي به، فذكره. ويوسف هذا متروك، قاله أبو زرعة والنسائي. وقال البخاري: كان يكذب. وقال ابن عدي: "وهذه الأحاديث التي رواها يوسف عن الأوزاعي بواطيل كلها". والصحيح في المتن أنه من قول الأوزاعي. هكذا رواه عيسى بن يونس عن الأوزاعي قال: كان يقال: "أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه". أخرجه العقيلي (4/ 452) وقال: حديث عيسى بن يونس أولى. (¬3) رقم (1765)، ورجاله ثقات.

الآفات المانعة من أثر الدعاء

يارب، لعل الله عَزَّ وَجَلَّ أن ينجيه. فصل ومن الآفات التي تمنع ترتُّبَ أثرِ الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسرَ، ويدَعَ الدعاء. وهو بمنزلة مَن (¬1) بذر بَذرًا، أو غرس غِراسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلمّا استبطأ كمالَه وادراكَه، تركه وأهمله! وفي صحيح البخاري (¬2) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (¬3): "يستجاب لأحدكم ما لم يعجَلْ، يقول: دعوتُ، فلم يُستجَبْ لي". وفي صحيح مسلم (¬4) عنه: "لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعةِ رحيم، ما لم يستعجلْ". قيل: يا رسولَ الله، وما الاستعجال (¬5)؟ قال: "يقول: قد دعوتُ وقَد دعوتُ، فلم أرَ يستجيب (¬6) لي. فيَستحسِرُ عند ذلك ويدَعُ الدعاء". ¬

_ (¬1) "أن يستعجل ... من" ساقط من س. (¬2) ز: "وفي البخاري". والحديث في كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل (6340). (¬3) ف: "أبي هريرة قال: قال رسول الله". (¬4) في كتاب الذكر والدعاء، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل (2735). (¬5) س: "وما لا يستعجل". (¬6) س، ل: "يستجب".

فصل: شروط قبول الدعاء

وفي مسند أحمد (¬1) من حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل" قالوا: يا رسول الله، كيف يستعجل؟ قال: "يقول: قد (¬2) دعوتُ ربّي، فلم يَستجِبْ لي". فصل وإذا جمع الدعاءُ حضورَ القلب وجمعيتَه بكلّيته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير (¬3) من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإِمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم (¬4)؛ وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الربّ، وذلاًّ له، وتضرّعًا ورِقّةً؛ واستقبل [4/ أ] الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنّى بالصلاة على محمَّد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدّم بين يدي ¬

_ (¬1) 3/ 193 (13008، 13198). وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2865) والطبراني في الدعاء (81) وابن عدي في الكامل (6/ 214) وغيرهم، من طريق أبي هلال الراسبي عن قتادة عن أنس به فذكره. قلت: أبو هلال اسمه محمَّد بن سليم. في حفظه مقال، ويخالف أو يتفرد عن قتادة ولهذا قال ابن عدي بعد ما ساق لأبي هلال أحاديث: "وهذه الأحاديث لأبي هلال عن قتادة عن أنس كل ذلك أو عامتها غير محفوظة". وقد روي من وجهين عن أنس، ولا يثبت. انظر مسند البزار (6666) والحلية (6/ 309). (¬2) لم يرد "قد" في "ف" وكذا في المسند (20/ 311). وفيه (20/ 422) كما أثبتنا من النسخ الأخرى. (¬3) س: "الآخر". (¬4) "اليوم" سافط من س.

الأدعية التي هي مظنة الإجابة

حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألحّ عليه (¬1) في المسألة، وتملّقه، ودعاه رغبة ورهبة (¬2)، وتوسّل إليه بأسمائه (¬3) وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة = فإنّ هذا الدعاء لا يكاد يُرَدّ أبدًا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم: فمنها ما في السنن وصحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: "لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب" (¬4). ¬

_ (¬1) ف: "به عليه". (¬2) زاد في س: "وتملقه مكرر". (¬3) في ز: "الحسنى" فوق السطر. (¬4) أخرجه أبو داود (1493، 1494) والترمذي (3475) وابن ماجه (3857) وابن حبان (892) وأحمد 5/ 350 (22965، 22952) من طريق مالك بن مغول عن ابن بريدة عن أبيه، فذكره. وفيه قصة. ورواه عبد الوارث عن حسين بن ذكوان المعلم عن عبد الله بن بريدة عن حنظلة بن علي أن محجن بن الأدرع حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد، وهو يقول: اللهم إني أسألك بالله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم. قال: فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له، ثلاث مرات. أخرجه أحمد 4/ 338 (18974) وابن خزيمة (724) والحاكم 1/ 400 (985) وغيرهم. قال أبو حاتم الرازي بعد ذكر الطريقين: "وحديث عبد الوارث أشبه". قلت: حديث عبد الوارث صححه ابن خزيمة والحاكم. انظر علل ابن أبي حاتم 2/ 197 - 198 (2082).

وفي لفظ: "لقد سألتَ الله باسمه الأعظم" (¬1). وفي السنن وصحيح ابن حبان أيضًا من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا، ورجلٌ يصلي، ثم دعا فقال (¬2): اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيّ يا قيوم. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى" (¬3). وأخرج الحديثين الإِمام أحمد في مسنده (¬4). وفي جامع الترمذي (¬5) من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (1494). وفي ز: "لقد سأل". (¬2) "فقال" لم يرد في ف. (¬3) أخرجه أبو داود (1495) والنسائي (1300) وابن ماجه (3858) والترمذي (3544) وابن حبان (893) وأحمد 3/ 158،120، 265 (12205، 12611، 13798) وغيرهم، من طرق كثيرة عن أنس فذكره، وفيه قصة. وأقوى الطرق عن أنس: طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، وطريق أنس بن سيرين، وطريق حفص بن عمر. والحديث صححه ابن حبان والحاكم والضياء المقدسي. انظر: الأحاديث المختارة (1514، 1552، 1885). (¬4) انظر التعليق السابق. (¬5) برقم (3476). وأخرجه أبو داود (1496) وابن ماجه (3855) وأحمد (6/ 461) والطبراني في الدعاء (113) والبغوي في شرح السنة (5/ 38 - 39) وغيرهم، من طريق عبيد الله بن أبي زياد ثنا شهر بن حوشب عن أسماء، فذكرته. والحديث صححه الترمذي، وتكلم فيه البغوي فقال: "هذا حديث غريب". قلت: عبيد الله وشهر في حفظهما ضعف.

قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] وفاتحة آل عمران: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)} [آل عمران: 1 - 2]. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي مسند أحمد (¬1) وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة، وأنس بن مالك، وربيعة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألِظُّو بـ (يا ذا الجلال والإكرام) " (¬2). يعني: [4/ ب] تعلّقوا بها، والزموها، وداوموا عليها. وفي جامع الترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهمّه (¬4) الأمرُ رفع رأسه (¬5) إلى السماء، [فقال: "سبحان الله ¬

_ (¬1) ف: "الإِمام أحمد". (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في المسند 4/ 177 (17596) والحاكم 1/ 676 (1836) والطبراني في الدعاء (92) وغيرهم، من حديث ربيعة بن عامر. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وأخرجه الحاكم 1/ 676 - 677 (1837) من حديث أبي هريرة. وفيه رشدين بن سعد، ضعيف الحديث. وأخرجه الترمذي (3525) والطبراني في الدعاء (94) وغرِهما من حديث أنس، وقد أعله أبو حاتم الرازي والترمذي بالإرسال. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 170 - 192). وله طريق آخر عن أنس، ولا يصح. فالخلاصة أن الحديث صحيح الإسناد عن ربيعة بن عامر، ولا يثبت عن غيره. (¬3) برقم (3436) وقال: "هذا حديث غريب". قلت: فيه إبراهيم بن الفضل المخزومي. قال البخاري: منكر الحديث. وقال الدارقطني: متروك. (¬4) س: "همّه". (¬5) غيّر بعض قراء النسخة (ز) "رأسه" إلى "يديه".

العظيم"] (¬1)، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حيّ يا قيوم". وفيه أيضًا (¬2) من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم - إذا كَرَبه (¬3) أمرٌ قال: "يا حيّ ياقيوم برحمتك أستغيث". وفي صحيح الحاكم (¬4) من حديث أبي أمامة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنّه (¬5) قال: "اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: البقرة وآل عمران وطه". قال القاسم: فالتمستُها، فإذا هي آية {الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}. وفي جامع الترمذي وصحيح الحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "دعوة ذي النون إذ دعا، وهو في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87] إنّه لم يدعُ (¬6) بها مسلمٌ في شيء قطّ إلا استجاب الله له" (¬7). قال الترمذي: ¬

_ (¬1) ما بين الحاصرتين زيادة من الحديث المذكور. (¬2) برقم (3524) وقال: "وهذا حديث غريب". قلت: تفرد به يزيد الرقاشي عن أنس، ويزيد أقلّ أحواله أنه ضعيف. ورواه إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو: "يا حي يا قيوم". أخرجه الطبراني في الدعاء. وظاهر سنده لا بأس به. (¬3) كان في ف: "حزبه"، فغيّر إلى "كربه". (¬4) 1/ 684 (1861). وأخرجه ابن ماجه (3856) والطبراني في الكبير (8/ 282) وتمام في فوائده (1568 - الروض البسام) وغيرهم، من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة، فذكره. وفي رواية القاسم هذا عن أبي أمامة كلام. انظر تهذيب الكمال (23/ 386 - 387). (¬5) "أنه" لم يرد في س. (¬6) س: "يصدع". (¬7) أخرجه الترمذي (3505) والحاكم 1/ 684، 685 (1862، 1863) وأحمد =

حديث صحيح (¬1). وفي صحيح الحاكم (¬2) أيضًا من حديث سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بشيء، إذا نزل برجل منكم [كرب أو بلاءً من بلايا الدنيا] (¬3) فدعا به يفرج الله عنه؟ دعاء ذي النون". وفي صحيحه أيضًا (¬4) عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (¬5): "هل أدلّكم ¬

_ = 1/ 170 (1462) والطبراني في الدعاء (124) وغيرهم. ذكر الترمذي بعض الاختلاف في إسناده. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ولم يتعقبه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 68: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬1) لم يرد حكم الترمذي هذا في نسخ الجامع المطبوعة ولا في نسخة الكروخي وتحفة الأشراف. (¬2) 1/ 685 (1864)، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (660) من طريق محمد بن مهاجر القرشي عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه عن جده، فذكره. قلت: حديث يونس بن أبي إسحاق عن إبراهيم أصح من حديث محمَّد بن مهاجر عن إبراهيم؛ لأن محمَّد بن مهاجر قال فيه ابن عدي والذهبى: ليس بمعروف. وقال ابن حجر: ليّن. انظر: تهذيب الكمال (26/ 519) والتاريخ الكبير للبخاري (1/ 230) والكامل لابن عدي (6/ 264). (¬3) ما بين الحاصرتين زيادة من المستدرك وعمل اليوم والليلة. وفي خب: "أمر مهمّ"، وكذا في ط. (¬4) 1/ 685 (1865). قلت: فيه عمرو بن بكر السكسكي. قال الذهبي: أحاديثه شبه موضوعة. وقال ابن حجر: متروك. انظر تهذيب الكمال (21/ 551) والتقريب (4993). (¬5) "يقول" لم يرد في ز.

على اسم الله الأعظم؟ دعاءُ يونس". فقال رجل: يا رسول الله، هل (¬1) كانت ليونس خاصةً؟ فقال: "ألا تسمع قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 88] فأيّما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرةً، فمات في مرضه ذلك، أعطي أجرَ شهيد. وإنْ برأ برأ مغفورًا له". وفي الصحيحين (¬2) من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم (¬3)، لا إله إلا الله ربُّ السموات وربُّ الأرض ربُّ العرش الكريم". وفي مسند الإِمام أحمد (¬4) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علّمني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) -إذا نزل بي كرب- أن أقول: "لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانَ الله [5/ أ]، وتبارك اللهُ ربُّ العرش العظيم، والحمد لله ربِّ العالمين". وفي مسنده (¬5) أيضًا من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول ¬

_ (¬1) س: "هي". (¬2) أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء عند الكرب (6346)؛ ومسلم في الذكر والدعاء، باب دعاء الكرب (2730). (¬3) من أول الدعاء إلى هنا ساقط من س. (¬4) 1/ 91، 94 (726،701) وأخرجه ابن حبان (865) والحاكم 1/ 688 - 689 (1873، 1874) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وابن حجر. انظر الفتوحات الربانية لابن علاّن (7/ 4). (¬5) 1/ 391 (3712). وأخرجه ابن حبان في صحيحه (979) والحاكم 1/ 690 (1877) والطبراني في الدعاء (1035) وغيرهم، من طرق عن فضيل بن =

الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أصاب أحدًا قط همّ ولا حزن، فقال: اللهم إنّي عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمُك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك اللهمّ بكلِّ اسمٍ هو لك، سمّيتَ به نفسَك، أو علّمتَه أحدًا مِن خلقِك، أو أنزلتَه في كتابك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاء حزني وذَهاب همّي، إلا أذهب اللهُ عَزَّ وَجَلَّ همَّه وحزنَه، وأبدله مكانه فرحًا". فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلّمها؟ قال: "بلى، ينبغي لمن سمعها (¬1) أن يتعلّمها" (¬2). وقال ابن مسعود: ما كُرِبَ نبيّ من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح (¬3). وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المجابين في الدعاء (¬4) عن الحسن (¬5) قال: كان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار يكنى أبا مِعْلَق، وكان ¬

_ = مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه". وتعقبه الذهبي بقوله: "وأبو سلمة لا يدرى من هو، ولا رواية له في الكتب الستة". قلت: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه ابن مسعود إلا حديثًا أو نحوه لصغر سنه. وأبو سلمة إن كان هو موسى بن عبد الله فهو ثقة، وإلا فهو مجهول. والله أعلم. انظر جامع التحصيل للعلائي (437). والحديث صححه ابن حبان والحاكم والمؤلف وغيرهم وحسّنه ابن حجر في اللسان (9/ 84). (¬1) ز: "يسمعها". (¬2) انظر تفسير هذا الحديث في شفاء العليل (274). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) برقم (23)، ولا يثبت سنده. (¬5) في كتاب المجابين: "عن الحسن عن أنس ... ".

تاجرًا، يتّجر بمال له ولغيره، يضرب به في (¬1) الآفاق، وكان ناسكًا ورِعًا. فخرج مرةً، فلقيه لصّ مقنَّع في السلاح، فقال له: ضَعْ ما معك، فإني قاتلك. قال: ما تريد إلى دمي؟ شأنك بالمال. قال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك. قال (¬2): أمّا إذ (¬3) أبيتَ، فذرني أصلي أربع ركعات. قال صلِّ ما بدا لك. فتوضأ، ثم صلّى (¬4) أربع ركعات. فكان (¬5) من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود (¬6)، يا ذا العرش المجيد، يا فعالُ (¬7) لما يريد، أسألك بعزّك الذي لا يُرام، ومُلكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركانَ عرشك: أن تكفيَني (¬8) شرَّ هذا اللصّ. يا مغيثُ أغِثنْي، يا مغيثُ أغِثْني (¬9) ثلاث مرات. فإذا هو بفارس قد أقبل، بيده حَرْبة، قد وضعها بين أذنَي فرسِه. فلمّا بصُر به اللصُّ أقبل نحوَه، فطعنه، فقتله. ثم أقبل إليه، فقال: قم، فقال: من أنت، بأبي أنت (¬10) وأمّي؟ فقد أغاثني الله بك اليوم. فقال: أنا ملَك من أهل السماء الرابعة، دعوتَ بدعائك الأول، فسمعتُ لأبواب السماء قعقعةً، ثم ¬

_ (¬1) "في "ساقط من ف. (¬2) ف: "فقال". (¬3) س، ل: "إذا". (¬4) ف: "وصلّى". (¬5) س: "وكان". (¬6) س، ل: "يا ودود، يا ودود". (¬7) س، ز: "فعالاَ". (¬8) س: "تكفّني"، وفي الحاشية أشير إلى هذه النسخة. (¬9) كذا في س، ز. وفي ف ورد "يا مغيث أغثني" مرة واحدة، وفي ل ثلاث مرات. (¬10) "أنت" ساقط من ف.

قد يستجاب الدعاء للأحوال المقترنة به، لا لسر في لفظه

دعوتَ بدعائك الثاني، فسمعتُ لأهل السماء ضجّةً. ثم دعوتَ بدعائك الثالث، فقيل لي (¬1): دعاء مكروب. فسألتُ الله [5/ ب] أن يُولّيني قتلَه. قال الحسن (¬2): فمن توضأ، وصلّى أربع ركعات، ودعا بهذا الدعاء، استجيب له، مكروبًا كان (¬3) أو غير مكروب. فصل وكثيرًا ما تجد أدعيةً دعا بها قوم، فأستجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورةُ صاحبه، وإقباله على الله، أو حسنةٌ تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابةَ دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقتَ إجابة ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظانّ أن السرّ في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردًا عن (¬4) تلك الأمور التي قارنَتْه من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعًا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظنّ (¬5) غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ (¬6) في حصول المطلوب، كان غالطًا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا أنّه (¬7) قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب، فيظنّ الجاهل أنّ السرّ للقبر، ولم يعلم أنّ السرّ للاضطرار وصدق اللجأ إلى ¬

_ (¬1) "لي" ساقط من ز. (¬2) كذا في الأصول. وفي كتاب المجابين: "قال أنس". (¬3) "كان" ساقط من س. (¬4) س: من. (¬5) ز: "وظنّ". (¬6) س، ز: "كافيًا". ل: "نافع". (¬7) "أنه" ساقط من ل.

فصل: الدعاء كالسلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط

الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحبّ إلى الله. فصل والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحدّ (¬1) فقط، فمتى (¬2) كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعد قوي (¬3)، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدو. ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة تخلّف التأثير. فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمَّ مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر. فصل وههنا سؤال مشهور، وهو أنّ المدعوّ به إن كان قد قُدِّر لم يكن بدّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدعُ. وإن لم يكن قد قدّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله (¬4). فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة ¬

_ (¬1) "والسلاح ... بحدّه " ساقط من س. (¬2) س: "فإنّ". (¬3) ف: "والساعد قوي". (¬4) وانظر في هذه المسألة: مدارج السالكين (3/ 104)، ومجموع الفتاوى و (8/ 192)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 228). وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع (2/ 144) رسالة للمؤلف في هذه المسألة بعنوان "الجواب الشافي لمن سأل عن ثمرة الدعاء إذا كان ما قد قُدر واقعٌ " (كذا "واقعٌ " بالرفع، و"الشافي" لعلّ صوابه: "النافع" ليتمّ السجع). وقد تفرّد الشوكاني بذكر هذه الرسالة، ولا ندري أهي رسالة مستقلّة، أم استخرج بعضهم هذا الفصل من كتابنا، وسمّاه بذلك الاسم.

فيه! وهؤلاء -مع فرط جهلهم وضلالهم- متناقضون، فإنّ طردَ مذهبهم يُوجِب تعطيلَ جميع الأسباب. فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والريّ قد قُدِّرا لك فلابد (¬1) من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل. وإن [6/ أ] لم يقدّرا لم يقعا، أكلتَ أو لم تأكل. وإن كان الولد قدّر لك فلابد منه، وطئتَ الزوجة والأمة (¬2) أو لي تَطأ. وإن لم يقدّر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوّج والتسرّي. وهلمّ جرّا. فهل يقول هذا عاقل أوآدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته. فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضلُّ سبيلا. وتكايس بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض، يثيب الله عليه الداعي، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما. ولا فرق عند هذا (¬3) الكيّس بين الدعاء وبيّن الإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباطُ الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق. وقالت طائفة أخرى أكيَسُ من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارةً على قضاء الحاجة. فمتى وُفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أنّ حاجته قد قُضيت. وهذا كما إذا رأينا غيمًا ¬

_ (¬1) س: ل "فلا فائدة"، تحريف. (¬2) س: "أو الأمة". (¬3) "هذا" ساقط من س.

أسودَ باردًا في زمن الشتاء، فإنّ ذلك دليل وعلامة على أنّه يمطر. قالوا (¬1): وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب، لا أنّها أسباب له. وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحريق (¬2) مع الإحراق، والإزهاق مع القتل. ليس شيء من ذلك سببًا ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد إلاقتران العادي، لا التأثير السببي (¬3). وخالفوا بذلك الحس، والعقل، والشرع، والفطرة، وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء (¬4)! والصواب أنّ ها هنا قسمًا ثالثًا غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور (¬5) قُدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء. فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه. فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور (¬6)، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قُدر الشبع والريّ بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه (¬7). وكذلك [6/ ب] قُدر دخول الجنة بالأعمال، ¬

_ (¬1) "قالوا" ساقط من س. (¬2) س: "الحرق". (¬3) انظر: طريق الهجرتين (196، 206) وشفاء العليل (188). (¬4) "بل ... العقلاء" ساقط من ز. (¬5) ز: "المقدر". (¬6) س: "المقدر". (¬7) ز: "بالذبح".

الدعاء من أقوى الأسباب

ودخول النار بالأعمال (¬1). وهذا القسم هو الحق، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يوفَّق له. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب. فإذا قُدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال! وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب. ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلمَ الأمةِ بالله ورسوله، وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم. وكان عمر بن الخطاب (¬2) رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان (¬3) أعظم جنديه (¬4)، وكان يقول للصحابة (¬5): لستم تُنصَرون بكثرة، وإنما تُنصَرون من السماء (¬6). وكان يقول: إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدعاء. فإذا أُلهِمتُ الدعاءَ فإنّ الإجابة معه (¬7). وأخذ الشاعر هذا، فنظمه، فقال: ¬

_ (¬1) سقط "ودخول النار بالأعمال" من ز، فكتب بعضهم فوق السطر: "الصالحة". (¬2) "بن الخطاب" من س، ز. (¬3) ل: "فكان". (¬4) ف: "جنده". (¬5) ف: "لأصحابه". (¬6) لم أقف عليه. (¬7) ذكره المصنف في المدارج (3/ 103) والفوائد (97)، وشيخ الإِسلام في الفتاوى (8/ 193) والاقتضاء (2/ 229).

رضا الرب في سؤاله وطاعته

لو لم تُرِدْ نيلَ ما أرجو وأطلُبه ... مِن جودِ كفّك ما عوّدتَني الطلَبا (¬1) فمَن أُلهمَ الدعاءَ فقد أريد به الإجابة، فإنّ الله سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يسأل الله يغضَبْ عليه" (¬2). وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته. وإذا رضي الربّ تبارك وتعالى فكلّ (¬3) خير في رضاه، كما أنّ كل بلاءً ومصيبة في غضبه. وقد ذكر الإِمام أحمد في كتاب الزهد (¬4) أثرًا (¬3): "أنا الله، لا إله إلا أنا، إذا رضيتُ باركتُ، وليس لبركتي منتهى (¬6). وإذا غضبتُ لعنتُ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد". وقد (¬7) دل العقل والنقل والفطر وتجارب الأمم -على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها- على أنّ التقرب إلى ربّ العالمين وطلب مرضاته، والبرّ والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل ¬

_ (¬1) س، ل: "كفيك". وذكره المؤلف في المدارج (3/ 103)، وفيه:"بذل ما أرجو". (¬2) تقدم تخريجه في ص (13). (¬3) س، ز: "وكل"، خطأ. (¬4) برقم (289)، وسنده صحيح إلى وهب بن منبه. (¬3) "أثرَا" ساقط من س. (¬6) س: "عن منتهى"، خطأ. (¬7) ز: "ولقد".

ترتيب الجزاء على الأعمال يزيد في القرآن على ألف موضع

خير. وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شرّ. فما استُجلِبتْ [7/ أ] نِعمُ الله واستُدفِعتْ نِقَمُه بمثل طاعته والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه. وقد رتّب الله سبحانه حصولَ الخيرات في الدنيا والآخرة (¬1) وحصولَ الشرور في الدنيا والآخرة (¬2) في كتابه على الأعمال، ترتيب (¬3) الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبّب على السبب. وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع (¬4). فتارةً يرتب الحكم الخبري الكوني والأمري (¬5) الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166]، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله. {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وهذا كثير جدًّا. ¬

_ (¬1) "وقد رتب ... الآخرة" ساقط من ز. (¬2) كتب في حاشية ز: "مرتب" مع علامة صح. ولعله تقويم للعبارة بعد ما سقط أول الكلام. (¬3) ف: "ترتب". (¬4) وقال المصنف في المفتاح (1/ 363): "ولو كان هذا في القرآن والسنّة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة". (¬5) "الأمري" من ز، ويبدو أنه كذا كان في ف أيضًا ثم طمس. وفي غيرهما: "الأمر".

وتارةً يرتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء، كقوله: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} [الجن: 16]، ونظائره. وتارة يأتي بلام التعليل، كقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29] وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وتارة يأتي بأداة (كَي) التي للتعليل، كقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182،والأنفال: 51] وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] (¬1) و {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] (¬2) وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (¬3) [الأعراف: 146]. ¬

_ (¬1) وانظر أيضًا: النحل: 32، والسجدة: 14، والزخرف: 72، والطور: 19، والمرسلات: 43. (¬2) وانظر أيضًا: الأعراف: 96، والتوبة: 82، 95، ويونس: 8، ويس: 65، وفصلت: 17، والجاثية: 14. (¬3) وردت الآية في جميع النسخ خطأ: "ذلك بأنهم كفروا باَياتنا"، فأثبتوا في ط قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61، آل عمران: 112]

وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرًا أو محذوفًا (¬1)، كقوله: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وقوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف: 172]، وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] أي كراهة أن تقولوا. وتارة يأتي بفاء السببية، كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)} [الشمس: 14] وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)} [الحاقة: 10] وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)} [المؤمنون: 48]، ونظائره. وتارة يأتي بأداة (لمّا) الدالة على الجزاء، كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، ونظائره. وتارة يأتي بإنّ وما [7/ ب] عملت فيه، كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]، وقوله في ضد هؤلاء: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 77]. وتارة يأتي بأداة (لولا) الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها، كقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144]. وتارة يأتي ب (لو) الدالة على الشرط،- كقوله: هو {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66] ¬

_ (¬1) ف، س: "ومحذوفَا".

وبالجملة، فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتُّب (¬1) الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بَل ترتُّب (¬2) أحكام الدنيا (¬3) والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمالَ. ومن فقه (¬4) هذه المسألةَ، وتأملها حقّ التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل (¬5) على القدر جهلًا منه وعجزًا وتفريطًا وإضاعةً، فيكون توكلُه عجزًا، وعجزه توكلًا. بل الفقيهُ كلُّ الفقيه الذي يردّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن الإنسانَ يعيشُ (¬6) إلا بذلك، فإنّ الجوع والعطش والبرد وأنول المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخلقُ كلّهم ساعون (¬7) في دفع هذا القدر بالقدر (¬8). وهكذا (¬9)، من وفّقه الله، وألهمه رُشدَه، يدفع قدَر العقوبة (¬10) ¬

_ (¬1) س: "ترتيب". (¬2) ز: "يرتب". (¬3) السياق في ف: "صريح في ترتب الجزاء بالخير والشرّ في الدنيا ... ". (¬4) ما عداس، خب: "فقه في" وضبطت في ز، ل بضم القاف. وفي ط: "تفقه في". (¬5) ز: "ومن يتكل". (¬6) كذا في النسخ كلها ما عدا ز التي فيها: "العيش". وفي ط: "أن يعيش". وما ورد في النسخ جائز مقبول. (¬7) س: "سارعون". (¬8) وانظر مدارج السالكين (1/ 199)، وطريق الهجرتين (64)، ومجموع الفتاوى (8/ 306، 547). (¬9) س: "هذا"، تحريف. (¬10) زاد بعضهم في ز فوق السطر: "الدنيوية و"، مع علامة صح، وهو خطأ. وفي س: "قدره"، وهو أيضًا خطأ، وقد تحرّفت فيها كلمة "الأخروية" أيضًا.

أمران تتم بهما سعادة المرء وفلاحه

الأخروية بقدَر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا وِزان القدر المخوف في الدنيا وما يضادّه سواء (¬1). فربُّ الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا يناقض بعضها بعضا، ولا يبطل بعضها بعضًا. فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قَدْرها، ورعاها حقّ رعايتها، والله المستعان. لكن يبقى عليه أمران، بهما تتم سعادته وفلاحه: أحدهما؛ أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده (¬2) في العالم، وما جرّبه في نفسه وغيره، وما سمعه من أخبار الأمم قديمًا وحديثًا. ومن أنفع ما في ذلك تدبُّر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه، وفيه أسباب الشرّ والخير (¬3) جميعًا مفصّلةً مبيّنةً. ثم السنّة، فإنها شقيقة القرآن، وهي الوحي الثاني. ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما، وهما يُرِيانِك الخير والشرّ وأسبابهما، حتّى كأنّك تعاين ذلك عيانًا. وبعد ذلك [8/ أ] إذا تأملتَ أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمتَه من القرآن والسنة، ورأيت تفاصيل (¬4) ما أخبر الله به ووعد به (¬5)، وعلمتَ من آياته في الآفاق ما يدلّك على أن ¬

_ (¬1) "سواء" ساقط من ف. (¬2) ز: "شاهده". (¬3) خب: "الخير والشرّ". (¬4) ف، خب: "ورأيته بتفاصيل". وفي ز: "بفاضل". (¬5) "ووعد به" ساقط من س.

فصل: الثاني: الحذر من مغالطة النفس على الأسباب اتكالا على عفو الله ونحوه

القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة. فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله به (¬1) من الأسباب الكلية للخير والشر. فصل والأمر الثاني (¬2): أن يحذر مغالطةَ نفسِه له (¬3) على هذه الأسباب. وهذا من أهم الأمور، فإنّ العبد يعرف أنّ المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه (¬4) وآخرته، ولا بدَّ، ولكن تغالطه نفسه (¬5) بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة، وبالتسويف بالتوبة تارة، وبالاستغفار باللسان تارة، وبفعل المندوبات تارة، وبالعلم تارة، وبالاحتجاج بالقدر تارة، وبالاحتجاج بالأشباه والنظراء والاقتداء (¬6) بالأكابر تارة. وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل، ثم قال: "أستغفر الله" زال أثر الذنب، وراح هذا بهذا! وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما أفعل، ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وقد غفر ذلك أجمعه، كما صحّ عن النبي ¬

_ (¬1) "به" من ف، ز. (¬2) ما عدا س، ل: "الأمر الثاني" دون الواو. (¬3) ز: "به". (¬4) زاد في س قبل "دنياه": "دينه و". (¬5) ل: "يغالطه بنفسه". (¬6) ز: "والنظر". س: "والنظر بالاقتداء". خا: "بالأشباه تارة والنظر أو الاقتداء". وكذا كان في خب، فأصلحه بعضهم: "بالأشباه والنظراء تارة والاقتداء". وكذا في ط. والمثبت من ف، ل.

- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ عنه خطاياه (¬1)، ولو كانت مثلَ زبَدِ البحر" (¬2). وقال لي آخر من أهل مكة: نحن أحدنا إذا فعل ما فعل اغتسل (¬3) وطاف (¬4) بالبيت أسبوعا (¬3)، وقد محيي عنه ذلك. وقال لي آخر: قد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أذنبَ عبدٌ ذنبًا، فقال: أيْ ربِّ أصبتُ ذنبًا فاغفره لي، فغفر له (¬6). ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: أيْ ربِّ أصبتُ ذنبًا، فاغفره لي، فغفره له. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: أيْ ربِّ أصبتُ ذنبًا، فاغفره لي (¬7). فقال الله عز وجل: علِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به. قد غفرتُ لِعبدي، فليصنَعْ ما شاء! " (¬8). ¬

_ (¬1) ل، خا، خب: "حطت خطاياه". (¬2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الدعوات، باب فضل التسبيح (6405) ومسلم في الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (2691). (¬3) ز: "ثم اغتسل". (¬4) س: "فطاف". (¬3) يعني سبع مرَّات أي سبعة أشواط. النهاية (2/ 336). (¬6) ز: "فغفره له". ل: "فغفر الله له ذنبه". (¬7) النص "فغفره له ... " إلى هنا أثبتناه من ل، ونحوه في خا، خب. وقد استدرك في حاشية ف. وكذا وردت هذه العبارة في الحديث ثلاث مرات، وفي رواية في صحيح مسلم أربع مرات. (¬8) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (7557). ومسلم في التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة (2758).

قال: وأنا لا أشكّ أنّ لي ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به. وهذا الضرب من الناس قد تعلّق بنصوص الرَّجاء، واتّكل عليها، وتعلق بها (¬1) بكلتا يديه. وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء. وللجهال [8/ ب] من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب، كقول بعضهم: وكَثِّرْ ما استطعتَ من الخطايا ... إذا كان القدومُ على كريمِ (¬2) وقول الآخر: التنزّه من الذنوب جهل بسعة عفو الله! وقول الآخر (¬3): تركُ الذنوب جراءة على مغفرة الله، واستصغار لها! وقال أبو محمَّد ابن حزم: رأيت بعض هؤلاء يقول في دعائه: اللهم إنّي أعوذ بك من العصمة! ومن هؤلاء المغرورين من يتعلق بمسألة الجبر، وأن العبد لا فعل له البتة ولا اختيار، وإنما هو مجبور على فعل المعاصي. ¬

_ (¬1) ز: "به". (¬2) س، ل: "وأكثر". وقد أنشده المؤلف في عدة الصابرين (50) أيضًا. والبيت لأبي نواس في وفيات الأعيان (2/ 97) وفيه: "تكثَّر". وفي ديوانه (730) مع عجز آخر. تكثّرْ ما استطعتَ من الخطايا ... فإنك قاصدٌ ربًّا غفورا (¬3) ل، خا: "وقال الآخر".

ومن هؤلاء من يغتر بمسألة الإرجاء، وأنّ الإيمان هو مجرد التصديق، والأعمال ليست من الإيمان، وإيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل. ومن هؤلاء من يغتر بمحبة الفقراء والمشايخ والصالحين، وكثرة التردد إلى قبورهم، والتضرّع إليهم، والاستشفاع بهم، والتوسل إلى الله بهم، وسؤاله بحقّهم عليه وحرمتهم عنده. ومنهم من يغتر بآبائه وأسلافه، وأن لهم عند الله مكانة وصلاحًا، فلا يدَعون (¬1) أن يخلّصوه، كما يشاهد في حضرة الملوك، فإنّ الملوك تهَبُ لخواصّهم ذنوبَ أبنائهم وأقاربهم، وإذا وقع أحد منهم في أمر مفظع خلّصه أبوه وجدّه بجاهه ومنزلته. ومنهم من يغتر بأن الله عَزَّ وَجَلَّ غنى عن عذابه، وأنّ عذابه (¬2) لا يزيد في ملكه شيئًا، ورحمته له لا ينقص من ملكه شيئًا، فيقول: أنا مضطرّ إلى رحمته، وهو أغنى الأغنياء (¬3). ولو أن فقيرًا مسكينًا، مضطرًّا (¬4) إلى شربة ماء، عند مَن في داره شط يجري، لَما منعه منها؛ فالله أكرم وأوسع، فالمغفرة لا تنقصه شيئًا، والعقوبة لا تزيد (¬5) في ملكه شيئًا. ¬

_ (¬1) س: "فلا يدعوه". (¬2) "أن" من س. (¬3) ز: "وهو غني عن عذابه"، ولعلها تكررت خطأ مكان "وهو أغنى الأغنياء". (¬4) ف: "مضطر". (¬5) ز: "لا تزيده".

ومنهم من يغترّ بفهم فاسد فهِمَه (¬1) هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة (¬2)، فاتكلوا عليه، كاتكال بعضهم على قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5] قالوا (¬3): وهو لا يرضى أن يكون في النار أحد (¬4) من أمته! وهذا من أقبح الجهل، وأبين الكذب عليه. فإنّه يرضى بما يُرضي (¬5) ربَّه عز وجل، والله تعالى يُرضيه تعذيبُ الظلَمة [9/ أ] والفسَقة والخوَنة والمصرّين على الكبائر. فحاشا رسولَه أن لا يرضى مما يرضى به ربه (¬6) تبارك وتعالى. وكاتكال بعضهم على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}. وهذا أيضًا من أقبح الجهل. فإن الشرك داخل في هذه الآية، فإنّه رأس الذنوب وأساسها، ولا خلاف أنّ هذه الآية في حق التائبين، فإنّه يغفر كل ذنب للتائب (¬7)، أي ذنب كان (¬8). ولو كانت الآية في حق غير التائبين (¬9) لبطلت نصوص الوعيد كلّها، وأحاديث إخراج ¬

_ (¬1) "فهمه" ساقط من ز. (¬2) "والسنة" ساقط من س. (¬3) ف: "قال". (¬4) س: "أحد في النار". (¬5) ز: "يرضى به". (¬6) س: "أن لا يرضى به ربّه"، فأسقط "بما يرضى". (¬7) كذا في ف. وفي ل، ز، خا: "ذنب كل تائب". (¬8) ل، خا: "من أي ذنب كان". (¬9) العبارة "فإنه يغفر ... غير التائبين" ساقطة من س.

قوم من الموحدين (¬1) من النار بالشفاعة. وهذا إنما أُتِيَ صاحبُه من قلّة علمه وفهمه، فإنه سبحانه ههنا عمّم وأطلق فعُلِمَ أنه أراد التائبين. وفي سورة النساء خصّص وقيّد، فقال: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فأخبر سبحانه أنه لا يغفر (¬2) الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه. ولو كان هذا في حقّ التائب لم يفرّق بين الشرك وغيره (¬3). وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)} (¬4) [الانفطار: 6] فيقول: كَرَمُه! وقد يقول بعضهم: إنّه لقّن المغترَّ حجتَه، وهذا جهل قبيح. وإنما غرّه بربّه الغرورُ -وهو الشيطان- ونفسُه الأمّارة بالسوء، وجهلُه، وهواه. وأتى سبحانه بلفظ "الكريم"، وهو السيّد العظيم المطاع (¬5) الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقّه، فوضع هذا المغترُّ الغرورَ في غير موضعه، واغترّ بمن لا ينبغي الاغترار به. وكاغترار بعضهم بقوله تعالى في النار: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل: 15 - 16]، وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]. ولم يدر هذا المغتر أنّ قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)} [الليل: 14] هو لِنارِ ¬

_ (¬1) ز: "قوم موحدين". (¬2) العبارة بعد "لا يغفر" في الآية إلى هنا ساقطة من س. (¬3) "وأخبر ... وغيره" سقطت من ف، فاستدرك بعضهم في الحاشية: "وأخبر أنه يغفر ما دونه" فقط. (¬4) الآية الكريمة في ف إلى قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَكَ} وفي س اكتفى بـ "الذي"! (¬5) س: "والمطاع" ..

مخصوصةٌ من جملة دركات جهنم. ولو كانت جميع جهنم، فهو سبحانه لم يقل: "لا يدخلها"، بل قال: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} ولا يلزم (¬1) من عدم صِلِيها عدمُ دخولها، فإن الصَلِيَّ أخصُّ من الدخول، ونفيُ الأخصّ لا يستلزم نفي الأعم. ثم إنّ هذا المغترّ لو تأمل الآية التي بعدها لعلم أنه غير داخل فيها، فلا يكون مضمونًا له أن يُجَنَّبَها. وأما قوله في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، فقد قال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133]. ولا ينافي إعداد النار للكافرين أن تدخلها الفسّاق والظلَمة، ولا ينافي إعدادَ الجنة للمتقين أن يدخلها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، [9/ ب] ولم يعمل خيرًا قط. وكاتّكال (¬2) بعضهم على صوم يوم عاشوراء، أو يوم عرفة (¬3)، حتّى يقول بعضهم: يوم عاشوراء (¬4) يكفّر ذنوب العام (¬5) كلّها، ويبقى صوم يوم عرفة (¬6) زيادة في الأجر (¬7). ولم يدر هذا المغتر أنّ صوم رمضان ¬

_ (¬1) ف: "فلا يلزم". (¬2) ز: "وكاغترار"، ولعله سهو. (¬3) ف، س: "ويوم عرفة". (¬4) يعني: صومه. وقد زاد بعضهم كلمة "الصوم" فوق السطر في ز، كما كتب في حاشية س: "ظ صوم". (¬5) ف: "الذنوب للعام". س: "الذنوب العام". (¬6) ل: "صيام يوم عرفة". ز: "ويبقى يوم عرفة". (¬7) يشير إلى حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، قال: سئل- صلى الله عليه وسلم - عن =

والصلوات الخمس أعظم وأجلّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينها (¬1) إذا اجتُنِبَتْ الكبائر (¬2). فرمضان [إلى رمضان] (¬3) والجمعة إلى الجمعة لا يقوى على تكفير الصغائر الله مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين (¬4) على تكفير الصغائر. فكيف يكفِّر صومُ يوم تطوعّ كلَّ كبيرة عملها العبد، وهو مصرّ عليها، غير تائب منها؛ هذا محال، على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة (¬5) ويوم عاشوراء مكفرًا لجميع ذنوب العام على عمومه، ويكون من نصوص الوعد (¬6) التي لها شروط وموانع، ويكون إصراره على الكبائر مانعًا من التكفير. فإذا لم يصرّ على الكبائر تساعدَ الصومُ وعدمُ الإصرار وتعاونا على عموم التكفير، كما كان رمضان والصلوات ¬

_ = صوم يوم عرفة، فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية". قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية" الحديث، أخرجه مسلم في الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء ... (1162). (¬1) كذا في س، خا. وفي غيرهما: "مابينهما". ووقع في ز: "ما يكفر"، فزاد بعضهم فوق السطر: "إلا" ليستقيم المعنى. (¬2) كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر" أخرجه مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ... (233). (¬3) ما بين الحاصرتين من خب. (¬4) ز: "مجموع الأمر". (¬5) س: "صوم عرفة". (¬6) ز، خا: "الوعيد"، خطأ.

حسن الظن بالرب إنما يكون مع طاعته

الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدَين متعاونَين على تكفير الصغائر، مع أنه سبحانه قد قال (¬1): {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. فعلم أنّ جعل الشيء سببًا للتكفير لا يمنع (¬2) أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير، ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما، وكلّما قويت أسباب التكفير كان أقوى وأتم وأشمل (¬3). وكاتّكال بعضهم على قوله - صلى الله عليه وسلم - حاكيًا عن ربه: "أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء" (¬4) يعني: ما كان في ظنه، فإنّي فاعله به (¬5). ولا ريب أنّ حسن الظن إنّما يكون مع "الإحسان" فإنّ المحسن حسن الظن بربه أنّه يجازيه (¬6) على إحسانه، ولا يخلف وعده، ويقبل توبته. وأما المسيء المصرّ على الكبائر والظلم والمخالفات، فإنّ وحشة ¬

_ (¬1) ف: "سبحانه قال". (¬2) ف: "لا يمتنع". وفي ز: "ولا يمنع" وكلاهما خطأ. (¬3) "منه مع انفراد ... أتم " سقط من ل لانتقال النظر، كما تحرف "أشمل" فيها إلى "أسهل". (¬4) أخرجه أحمد 3/ 491 (16016) وابن المبارك في "الزهد" (909) وابن حبان (633، 641) والحاكم 4/ 268 (7603) وغيرهم، من طريق حبان أبي النضر الشامي عن واثلة، فذكره، وفيه قصة. والحديث صححه ابن حبان، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الذهبي: "صحيح على شرط مسلم". (¬5) ف: "فانا فاعله به"، وسقط "به" من س. (¬6) ف: "أن يجازيه".

المعاصي والظلم والإجرام تمنعه (¬1) من حسن الظن بربه. وهذا موجود في الشاهد، فإنّ العبد إلآبق المسيء (¬2) الخارج عن طاعة سيده لا يحسن [10/ 1] الظن به (¬3). ولا يجامع وحشةَ الإساءة إحسانُ الظنّ (¬4) أبدًا، فإنّ المسيء مستوحش بقدر إساءته. وأحسنُ الناس ظنًّا بربّه أطوعُهم له، كما قال الحسن البصري: إنّ المؤمن أحسن الظنَّ بربّه، فأحسن العمل. وإنّ الفاجر أساء الظنَّ بربّه، فأساء العمل (¬5). وكيف يكون محسنَ الظن (¬6) بربه من هو شارد عنه، حالّ مرتحل في مساخطه وما يغضبه (¬7)، متعرض (¬8) للعنته، قد هان حقّه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه، وأصرَّ عليه! وكيف يحسن الظن به (¬9) من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه ¬

_ (¬1) ل، ز، خا: "يمنعه". (¬2) ف: "المسيء الآبق". (¬3) "به" ساقط من س. (¬4) "الظنّ" ساقط من س، وفيها: "تجامع". (¬5) أخرجه أحمد في الزهد (1652) من طريق سفيان عن رجل عن الحسن، فذكره. ورواه مخلد بن الحسين عن هشام عن الحسن، فذكره. أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 144) وعليه فالأثر لا بأس به. (¬6) ف: "حسن الظنأ. ز: "يحسن الظن". (¬7) ف، ب: "يبغضه". (¬8) س: "يتعرض"، وأشير في الحاشية إلى ما في غيرها. (¬9) ز: "بربّه".

ووصفَتْه به رُسُله (¬1)، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟. وكيف يحسن الظنّ به من يظن (¬2) أنه لا يتكلّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يرضى، ولا يغضب؟ وقد قال تعالى في حق من شكّ في تعلّق سمعه ببعض الجزئيات، وهو السرّ من القول: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 23]، فهؤلاء لما ظنّوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرًا مما يعملون، كان هذا إساءةً لظنهم برئهم، فأرداهم ذلك الظن. وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووَصَفه بما لا يليق به. فإذا ظنّ هذا أنه يُدخِلُه الجنةَ كان هذا غرورًا وخداعًا من نفسه، وتسويلًا من الشيطان، لا إحسانَ ظن بربّه (¬3). فتأمَّلْ هذا الموضع، وتأمَّلْ شدة الحاجة إليه! وكيف يجتمع في قلب العبد تيقُّنُه بأنّه ملاقٍ الله، وأنّ الله (¬4) يسمع كلامه، ويرى مكانه، ويعلم سرّه وعلانيته، ولا يخفى عليه خافية من أمره، وأنه (¬5) موقوف بين يديه ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيم على مساخطه، مضيّع لأوامره، معطّل لحقوقه. وهو مع هذا محسنٌ الظنَّ (¬6) ¬

_ (¬1) ف: "وصفه به رسوله". (¬2) ف: "به الظن من ظنّ". (¬3) س: "إحسان الظن بربه تعالى". وفي ز: "إحسان ظنه بربه". وفي خا: "إحسان ظنّ به". والمثبت من ف، ل. وكذا في خب. (¬4) س: "وأنه". (¬5) ز: "فإنه"، خطأ. (¬6) كذا ضبط بفتح النون في ف. وفي ز: "يحسن الظن" وكذا في خب.

به؟ وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني؟ وقد قال أبو أمامة بن سهل (¬1) بن حُنَيف: دخلتُ أنا وعروة بن الزبير على عائشة رضي الله عنها فقالت: لو (¬2) رأيتما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض له، وكانت عندي ستة دنانير- أو سبعة- فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[10/ ب] أن أفرّقها. قالت: فشغلني وجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى عافاه الله. ثم سألني عنها فقال: "ما فعلتِ؟ أكنتِ فرّقتِ الستّةَ الدنانيَر (¬3)؟ " فقلت: لا، والله لقد كان شغلني (¬4) وجعُك. قالت: فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: "ما ظنُّ نبيِّ اللهِ لو لقي الله، وهذه عنده؟ " (¬5) وفي لفظ: "ما ظنُّ محمَّد بربّه لو لقي الله، وهذه عنده؟ ". فيالله! ما ظنُّ أصحابِ الكبائر والظَّلَمةِ بالله إذا لقُوه، ومظالم العباد ¬

_ (¬1) وقع في س: "أبو أمامة سهل"، فأسقط كلمة الابن قبل "سهل". وكذا في ط. وهو غلط، فإن أبا أمامة كنية اشتهر بها أسعد بن سهل بن حنيف. وقد ولد قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعامين، وحنّكه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمّاه باسم جده لأمه: أبي أمامة أسعد بن زرارة. انظر الإصابة (1/ 181). (¬2) س: "أو". (¬3) ف. ز: "الستة دنانير". (¬4) ف: "قد شغلني". ز: "لقد شغلني". (¬5) أخرجه أحمد 6/ 104 (24733) وابن حبان (3213) من طريق موسى بن جبير عن أبي أمامة بن سهل. فذكره. قلت: هذا سند ضعيف، فيه موسى بن جبير قال ابن حبان في الثقات: "كان يخطئ ويخالف". وقال ابن القطان: "لا يعرف حاله". ورواه محمَّد بن عمرو وأبو حازم عن أبي سلمة عن عائشة فذكرته باللفظ الآخر الذي ذكره المؤلف. أخرجه أحمد (24222، 24560) وابن حبان (715، 3212) وغيرهما. والحديث سنده صحيح، وقد صححه ابن حبان.

حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه

عندهم؟ فإن كان ينفعهم قولُهم: "حَسَّنَّا ظنونَنا بك (¬1) "، لم يعذَّبْ ظالم ولا فاسق (¬2). فليصنع العبد ما شاء، وليرتكب كلّ ما نهاه الله عنه، وليحسن ظنّه بالله، فإنّ النار لا تمسّه! فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالعبد!. وقد قال إبراهيم لقومه: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86 - 87] أي: فما (¬3) ظنّكم به أن يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيرَه؟ ومن تأمل هذا الموضع (¬4) حقّ التأمل علِمَ أنّ حسنَ الظن بالله هو حسنُ العمل نفسه. فإنّ العبد إنما يحمله على حسن العمل حسنُ ظنّه بربه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبّلها منه. فالذي (¬5) حمله على العمل حسنُ الظن، وكلّما (¬6) حسُن ظنُّه حسُن عملُه، وإلا فحسنُ الظن مع اتباع الهوى عجز، كما في الترمذي والمسند من حديث شدّاد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال (¬7): "الكيّس من دان نفسَه، وعمِل لما بعد الموت. والعاجز من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنّى على ¬

_ (¬1) خا: "بالله". ز: "حسن ... ". (¬2) وقع في ف: "أنك لم تعذب ظالمًا ولا فاسقَا". وهذا مفسد للسياق. وفي ل: "ظنو بانك" وهو تحريف "ظنوننا بك". (¬3) ل، ز: "وما". (¬4) ل: "هذه المواضع". (¬5) ف: "فإن الذي". (¬6) ف، ل: "فلما". خب: "فكلما". (¬7) "أنه قال" انفردت بها ز.

الله" (¬1). وبالجملة، فحسن الظن إنّما يكون مع انعقاد أسباب النجاح. وأما مع انعقاد أسباب الهلاك، فلا يتأتّى إحسان الظن. فإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستندُ حسن الظن سعةَ مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضرّه العفو. قيل: الأمرُ هكذا، واللهُ فوق ذلك، وأجلّ (¬2) وأكرم وأجوَد وأرحم. ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به، فإنه سبحانه موصوف بالحكمة، والعزة، والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة. فلو كان [11/ أ] معوَّلُ حُسنِ الظنّ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه. فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته، وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرّض للعنته، وأوضعَ في محارمه، وانتهك حرماته؟ بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدّل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حسّن الظنّ. فهذا حسن الظن (¬3)، والأول غرور! والله المستعان. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2459) وأحمد 4/ 124 (17123) وابن ماجه (4260) والحاكم 1/ 125 (191) وغيرهم، من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس، فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي بقوله: "لا والله، أبو بكر واهٍ". (¬2) "أجل لا ساقط من ز. (¬3) س، ز، ل: "حسن ظنّ". والمثبت من ف، وكذا في خا، خب.

ولا تستطِلْ هذا الفصل، فإنّ الحاجة إليه شديدة لكل أحد، ففَرْقٌ (¬1) بين حسن الظن بالله وبين الغِرّة (¬2) به. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] (¬3)، فجعل هؤلاء أهل الرَّجاء، لا البطّالين (¬4) والفاسقين. وقال (¬5) تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها. فالعالم (¬6) يضع الرَّجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه. ¬

_ (¬1) س: "وفرق". (¬2) ف: "الغرور". (¬3) في ز خلط بين هذه الآية والآية (72) من الأنفال. وكذا في خب. (¬4) س، ل: "الظالمين". (¬5) ز: "وقد قال". (¬6) ز: "والعالم".

فصل: أحاديث وآثار لردع الجهال العصاة المغترين برحمة الله

فصل وكثير من الجهال اعتمدوا على (¬1) رحمة الله وعفوه وكرمه، وضيّعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يردّ بأسه عن القوم المجرمين. ومن اعتمد على العفو مع الإصرار فهو كالمعاند. وقال معروف (¬2): رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخِذلان والحمق (¬3). وقال بعض العلماء: من قطع عضوًا منك (¬4) في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم، لا تأمَنْ أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا (¬5). وقيل للحسن: نراك طويل البكاء! فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي (¬6). وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوام ¬

_ (¬1) س: "إلي". (¬2) هو الكرخي، الزاهد المشهور المتوفى سنة 200 هـ. (¬3) ورد في طبقات الصوفية للسلمي (89) بلفظ: "وارتجاءُ رحمةِ من لا يُطاع جهلٌ وحمق". (¬4) ف: "منك عضوَا". (¬5) نقل المؤلف نحوه من كلام أبي الوفاء بن عقيل فيما يأتي في ص 75. (¬6) صفة الصفوة (2/ 117). وزاد بعده في ط المدني والسلفية: "وكان يقول: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة. يقول أحدهم: لأني حسن الظن بربي، وكذب! لو أحسن الظن لأحسن العمل". ولم ترد هذه الزيادة في شيء من النسخ التي بين أيدينا.

يخوّفونا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمْنَا خير لك من أن تصحب قومًا يؤمّنونك حتى تلحقك المخاوف (¬1). وقد ثبت في الصحيحين (¬2) من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: "يُجاءُ بالرجل يوم القيامة، فيُلقَى في النار، فتندلق أقتابُ بطنه (¬3)، فيدور في النار كما يدور [11/ ب] الحمار برَحاه، فيُطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا (¬4) عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه". وذكر الإِمام أحمد (¬5) من حديث أبي رافع قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على الزهد (1459) من طريق العلاء بن زياد عن المغيرة بن مخادش عن الحسن فذكره، وفي سنده ضعف. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 149 - 150) من طريق علقمة بن مرثد عن المغيرة بن مخادش عن الحسن فذكره، وسياقه طويل. وفي سنده ضعف. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة (3267) ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله ... (2989). (¬3) أي تخرج أمعاؤه من جوفه. النهاية (2/ 130). (¬4) س: "تامر ... وتنهى". ز: "تامرنا ... وتنهى". (¬5) في مسنده 6/ 392 (27192). وأخرجه النسائي (863،862) وابن خزيمة (2737) والطبراني في الكبير 1/ 323 (962) وغيرهم، من طريق ابن جريج حدثني منبوذ -رجل من آل رافع- عن الفضل بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي راضع، فذكره. قلت: منبوذ لم أقف على توثيقه. ولم يرو عنه غير ابن جريج وابن أبي =

بالبقيع فقال: "أف لك، أف لك! " فظننتُ أنه يريدني. فقال: "لا، ولكن هذا قبر فلان بعثتُه ساعيًا على (¬1) آل فلان، فغَلَّ نَمِر (¬2)، فدُرِّعَ الآن مثلَها من نار". وفي مسنده أيضًا (¬3) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مررتُ ليلةَ أُسرِيَ بي على قوم تُقرَضُ شفاهُهم بمقاريض من نار، ¬

_ = ذئب. وأيضًا الفضل بن عبيد الله لا يعرف له سماع من جده أبي رافع، وأعلى طبقة يروي عنها طبقة كبار التابعين. وله شاهد عند البخاري في تاريخه (6/ 135) والبزار في مسنده (3870) من طريق الدراوردي عن ابن الهاد عن عبادل عن جدته امرأة أبي رافع عن أبي رافع فذكره بمعناه. قلت: سنده حسن لكن وقع فيه اختلاف. انظر الطبراني (974). وله شاهد آخر في الحلية (1/ 184) من طريق كثير بن زيد عن المطلب عن أبي رافع فذكره بنحوه. ولعل هذا يدل على أن للحديث أصلًا. (¬1) ل: "إلي". (¬2) النمرة: بردة مخطّطهَ من صوف، من لباس الأعراب. انظر اللسان (نمر). (¬3) 3/ 120 (12211). وأخرجه ابن المبارك في الزهد (819) ووكيع في الزهد (297) والبغوي في شرح السنة (4159) وغيرهم، من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس، فذكره. قلت: علي بن زيد في حفظه ضعف، لكن هذا مما حفظه عن أنس، فرواه ابن المبارك والمعتمر بن سليمان عن سليمان التيمي عن أنس فذكره بمثله. أخرجه أبو يعلى في مسنده (4069) وأبو نعيم في الحلية (8/ 172) والبيهقي في الشعب (4611). وسنده صحيح. قال أبو نعيم: "مشهور من حديث أنس، رواه عنه عدة، وحديث سليمان عزيز". ورواه المغيرة بن حبيب (ختن مالك بن دينار) عن مالك بن دينار عن أنس، فذكره بمثله. أخرجه ابن حبان في صحيحه (53) وأبو يعلى (4160) والبيهقي في الشعب (4612). قلت: في المغيرة كلام لا يضره.

فقلتُ: من هؤلاء؟ قالوا (¬1): خطباء من أهل الدنيا (¬2)، كانوا يأمرون الناس بالبرّ، وينسون أنفسهم، أفلا يعقلون (¬3)؟ ". وفيه أيضًا (¬4) من حديثه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "لما عُرِجَ بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمِشون وجوههم وصدورهم. فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبريل؟ فقال (¬5): هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم". وفيه أيضًا (¬6) عنه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "يا مقلّب القلوب (¬7) ثبِّتْ قلبي على دينك". فقلنا: يا رسول الله، اَمنّا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إنّ القلوب بين إصبَعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء". ¬

_ (¬1) ز: "فقالوا". (¬2) ف: "خطباء أهل الدنيا". (¬3) "أفلا يعقلون" ساقط من ف. (¬4) المسند 3/ 224 (13340). وأخرجه أبو داود (4878، 4879) والطبراني في الأوسط (8) وابن أبي الدنيا في الصمت (165)، والضياء في المختارة (2286،2285) وغيرهم، من طريق صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس، فذكره. ورجاله ثقات، والحديث صححه الضياء في المختارة. (¬5) ل: "قال". (¬6) المسند 3/ 112 (12107). وأخرجه الترمذي (2140) وأبو يعلى (3687) والحاكم 1/ 707 (1927) والضياء في المختارة (2222، 2224) وغيرهم، من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس فذكره. والحديث صححه الترمذي والحاكم والضياء. (¬7) ل: "مثبت القلوب".

وفيه أيضًا (¬1) عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل: "مالي لم أر (¬2) ميكائيل ضاحكًا قطّ؟ " قال: ما ضحك منذ خُلِقت النار". وفي صحيح مسلم (¬3) عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُؤتَى بأنعَمِ أهل الدنيا من (¬4) أهل النار، فيُصبَغ في النار صَبغةً، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيتَ خيرًا قطّ؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ. ويؤتى بأشدّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صَبغةً، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قطّ؟ هل مرّ بك شدة قطّ؟ فيقول: لا، والله يا ربِّ ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيتُ شدة (¬5) قط". ¬

_ (¬1) المسند 3/ 224 (13343). وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (5/ 9)، من طريق إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية أنه سمع حميد بن عبيد مولى بني المعلى عن ثابت عن أنس، فذكره. وهذا سند لا يصح لأن إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير أهل بلده اضطرب حفظه. وأيضًا حميد بن عبيد فيه جهالة. انظر مجمع الزوائد (10/ 385). وقد روى الحديث ابن وهب عن ابن لهيعة ويحيى بن أيوب كلاهما عن عمارة بن غزية عن حميد، قال: سمعت أنس بن مالك، فذكره بمثله. كذا أخرجه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء (408)، ولا أدري أسقط من المطبوعة (ثابت) أم هكذا وقعت له. وحميد هذا لعله ابن عبيد المتقدم فهو مجهول. والله أعلم بالصواب. (¬2) ف: "لا أرى". (¬3) في صفات المنافقين، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار ... (2807). (¬4) "أهل الدنيا من" ساقط من ل. (¬5) ل: "ما رأيت بؤسَا قط ولا مرّ بي شدّة".

وفي المسند (¬1) من حديث البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم -[12/ أ] في جنازة رجل من الأنصار، انتهينا إلى القبر، ولَمّا يُلْحَدْ، فجلس النبي (¬3) - صلى الله عليه وسلم -، وجلسنا حوله، كأنّ على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثًا. ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان (¬4) في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيضُ الوجوه، كأنّ وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنوطَ من حنوط الجنة (¬5)، حتى يجلسوا منه مد البصر. ثم يجيء (¬6) ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. فتخرجُ تسيل كما تسيل القطرة من في السِّقاء (¬7)، ¬

_ (¬1) 4/ 287 (18534). وأخرجه أبو داود (3212، 4753) وهناد في الزهد (339) والطبري في التهذيب (718، 720، 721) والحاكم 1/ 92 (107) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (20، 21) وغيرهم، من طرق عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب فذكره. ورواه عمرو بن قيس عن المنهال بن عمرو به أخرجه ابن ماجه (1549). ورواه عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء. أخرجه الطبري في التهذيب (مسند عمر- 723). والحديث صححه جماعة منهم أبو عوانة وابن خزيمة وابن منده والحاكم والبيهقي، وحسنه المنذري، وصححه المؤلف. انظر الروح (ص 91). (¬2) ف، ل، خا: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". (¬3) انظر الحاشية السابقة. (¬4) س: "إذا كان العبد المؤمن". (¬5) ف: "وحنوط من الجنة". (¬6) ز: "يخرج". (¬7) ل: "من السقاء".

فيأخذها. فإذا أخذها لم يدَعوها في يده طَرفةَ عين حتى يأخذوها، فيجعلوها (¬1) في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحةِ مسكٍ وُجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرّون بها على ملأ من اَلملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيّب (¬2)؟ فيقولون: فلان (¬3) بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتّى ينتهوا به (¬4) إلى السماء الدنيا (¬5) فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيّعه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهَى به (¬6) إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في علّيين، وأعيدوه إلى الأرض، فإنّي منها خلقتُهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى". قال: "فتعاد روحه، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله عز وجل (¬7). فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإِسلام (¬8). فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له (¬9): وما علمك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فاَمنت به (¬10)، ¬

_ (¬1) ف: "ويجعلوها". (¬2) ف: "الأطيب". (¬3) ف: "روح فلان". (¬4) ف: "التي كان ... دار الدنيا حتى ينتهون به". (¬5) ز: "سماء الدنيا". (¬6) ت، ز: "بها". (¬7) ت: "الله ربي". (¬8) ت: "الإِسلام ديني". (¬9) "له" ساقط من ف. (¬10) ف: "وآمنت".

وصدّقت. فينادي منادٍ من السماء أن (¬1) صدق عبدي، فأفْرشُوه من الجنة، وألبِسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة" (¬2). قال: "فيأتيه من رَوحها وطِيبها، ويُفسَح له في قبره مَدَّ بَصَرِه". قال: "ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشِرْ [12/ ب] بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنتَ تُوعَد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: ربِّ أقِمِ الساعةَ، ربِّ أقِمِ الساعةَ (¬3)، حتّى أرجع إلى أهلي ومالي". قال: "وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سُود الوجوه، معهم المُسوح (¬4)، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي (¬5) إلى سَخَط من الله وغضب". قال: "فتَفَرَّقُ في جسده، فينتزعها كما يُنتزَع السَّفُّودُ (¬6) من الصوف المبتلّ، فيأخذها (¬7). فإذا أخذها (¬8) لم يدَعوها في يده طرفة عين حتى ¬

_ (¬1) "أن" لم ترد في س. (¬2) ز: "إلى السماء". (¬3) تكررت الجملة في س ثلاث مرات. (¬4) جمع مسح، وهوكساء غليظ من الشعر. (¬5) ف: "فيقول: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى ... ". (¬6) السفّود: الحديدة التي يشوى بها اللحم. (¬7) "فياخذها" ساقط من ف. (¬8) "فإذا أخذها" ساقط من س.

يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريحِ جيفةٍ (¬1) وُجدتْ على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرّون بها (¬2) علىَ ملأ من المَلائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان (¬3) بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمَّى (¬4) بها في الدنيا (¬5)، فيُسْتَفْتَح فلا يُفتَح له". ثم قرأ (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. "فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى (¬7). فيُطرَح روحه طرحًا". ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. "فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيُجلِسانه، فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له (¬8): ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي منادٍ من السماء أن كذَبَ عبدي، فأفرِشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حرّها وسَمومها، ويُضيَّق عليه قبرُه، حتّى تختلف فيه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسوءك! هذا يومك الذي ¬

_ (¬1) ف: "كأنتن جيفة". (¬2) "بها" ساقط من ز. (¬3) ف: "روح فلان". (¬4) ز: "كانوا يسمونه". (¬5) زاد هنا بعضهم في حاشية ف: "حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا". وكذا في المسند (30/ 502). (¬6) ف: "تلا". (¬7) "في الأرض السفلى" ساقط من ل. (¬8) "له" ساقط من ف.

كنت تُوعَد. فيقول: ومن أنت (¬1)؟ فوجهك الوجه يجيء (¬2) بالشرّ، فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: [13/ أ] ربِّ لا تُقِمَ الساعة". وفي لفظ لأحمد أيضًا (¬3): "ثم يقيَّضُ له أعمى أصمّ أبكم، في يده مِرْزبه (¬4)، لو ضرب بها جبلا كان ترابًا. فيضربه ضربةً، فيصير ترابًا (¬5). ثم يعيده الله عَزَّ وَجَلَّ كما كان، فيضربه ضربةً أخرى، فيصيح صيحةً (¬6) ¬

_ (¬1) س، ف: "فيقول: من أنت". (¬2) ف: "فوجهك الذي يجيء". (¬3) المسند 4/ 295 - 296 (18614). وأخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 580 - 582 (6737) والطبري في تهذيب الآثار (مسند عمر-722) والحاكم 97/ 1 - 98 (114)، من طريق يونس بن خبّاب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء فذكره. قلت: يونس ضعيف الحديث، ولكنه لم يتفرد بها. فرواه جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء فذكر نحوه. أخرجه أبو داود (4753) والطبري في التهذيب (718) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (21). قلت: وأصحاب الأعمش كأبي معاوية وغيره لم يذكروا تلك اللفظة (ثم يقيض ...). ورواه عمرو بن ثابت عن المنهال عن زاذان عن البراء فذكر نحوه. أخرجه الطيالسي في مسنده (789) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (20). قلت: وعمرو بن ثابت ضعيف، وأخشى أن يكون أخذه عن يونس بن خباب لأنهما رافضيان. قال أبو داود: "عمرو بن ثابت وإسرائيل -يعني الملائي- ويونس بن خباب ليس في حديثهم نكارة إلا أن يونس بن خباب زاد في حديث القبر: وعلي ولي". انظر تهذيب الكمال (21/ 558). (¬4) المرزبة: المطرقة الكبيرة التي تكون للحدّاد، ويقال لها أيضًا: "الإرزبّة". اللسان (رزب). (¬5) "فيضربه ... ترابًا" ساقط من ل. (¬6) ل: "صيحة واحدة".

يسمعها كل شيء إلا الثقلَين". قال البراء: "ثم يفتح له بابٌ إلى النار، ويُمهَد له من فُرُش النار" (¬1). وفي المسند أيضًا (¬2) عنه، قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ بَصُر بجماعة، فقال: علامَ اجتمع هؤلاء؟ قيل: على قبرٍ يحفرونه. ففزع رسول الله (¬3) - صلى الله عليه وسلم -، فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا على ركبتيه، فاستقبلتُه من بين يديه لأنظر ما يصنع. فبكى حتّى بلّ الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، فقال: "أيْ إخواني، لمثل هذا اليوم فأعِدّوا". ¬

_ (¬1) س، ف: "فرش من النار". (¬2) 4/ 294 (18601). وأخرجه ابن ماجه (4195) والبخاري في تاريخه الكبير (1/ 229) وغيرهم، من طريق عبد الله بن واقد عن محمَّد بن مالك عن البراء بن عازب فذكره. قلت: عبد الله بن واقد هو أبو رجاء الخراساني. قال ابن عدي: "ولعبد الله بن واقد هذا غير ما ذكرت، وليس بالكثير. وهو مظلم الحديث، ولم أر للمتقدمين فيه كلامَا فأذكره". قلت: قال أحمد وابن معين وأبو داود في رواية: ثقة. وقال ابن معين- في رواية- وأبو داود وأبو زرعة والنسائي: ليس به بأس. انظر الكامل (4/ 255) وتهذيب الكمال (16/ 255 - 256). وأيضًا محمَّد بن مالك هو أبو المغيرة الجوزجاني مولى البراء بن عازب. قال فيه أبو حاتم الرازي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "لم يسمع من البراء بن عازب شيئًا". وذكره أيضًا في المجروحين (2/ 259) وقال: "يخطئ كثيرًا، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد لسلوكه غير مسلك الثقات في الأخبار". وقال ابن حجر: "صدوق يخطئ كثيرًا". انظر: تهذيب الكمال (26/ 351). (¬3) ف: "ففزع النبي".

وفي المسند (¬1) من حديث بريدة، قال: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا (¬2)، فنادى ثلاث مرات: "يا أيها الناس، تدرون ما مَثلى ومَثلُكم؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: "إنما مثلي ومثلكم مثلُ قومٍ خافوا عدوًّا يأتيهم، فبعثوا رجلًا يتراءى لهم، فأبصر العدو، فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس أُتِيتُم، أيها الناس أُتِيتم؛ ثلاث مرات". وفي صحيح مسلم (¬3) من حديث جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كلُّ ما أسكَرَ (¬4) حرام، وانّ على الله عَزَّ وَجَلَّ عَقْدًا (¬5) لمن شرب (¬6) المسكر أن يسقيَه من طينة الخبال". قيل: وما طينة الخَبال؟ قال: "عرَق أهل النار، أو عصارة أهل النار". ¬

_ (¬1) 5/ 348 (22948). وأخرجه الرامهرمزي في أمثال الحديث (7) وأبو الشيخ الأصبهاني في الأمثال (253) من طريق بشير بن المهاجر الغنوي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه فذكره. قلت: فيه بشير بن المهاجر. قال فيه الإِمام أحمد: "منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هو يجيء بالعجب". ووثقه ابن معين. وقال النسائي: "ليس به بأس". وقال مرة: "ليس بالقوي". وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال ابن عدي: "ولبشير بن مهاجر أحاديث غير ما ذكرت عن ابن بريدة وغيره. وقد روى ما لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه، وإن كان فيه بعض الضعف". انظر: الكامل (2/ 21) وتهذيب الكمال (4/ 177). (¬2) "يومّا" ساقط من س. (¬3) كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر ... (2002). (¬4) في س: "كل مسكر". وفي حاشيتها: "خ ما أسكر". (¬5) س: "عهدًا". وكان في ف: "عقدًا"، فغيرّ إلى "عهدًا". (¬6) س: "يشرب".

وفي المسند (¬1) أيضًا من حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع (¬2) ما لا تسمعون. أطّت السماء، وحُقَّ لها أن تئِطَّ! ما فيها موضعُ أربع أصابعَ إلا وعليه ملَكٌ ساجدٌ. لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكَيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات (¬3) تَجأَرون إلى الله عز وجل". قال أبوذر: والله لوددتُ أنّي شجرة تُعضَد (¬4)! وفي المسند (¬5) أيضًا من حديث حذيفة، قال: كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) 5/ 173 (21516). وأخرجه الترمذي (2312) وابن ماجه (4190) والحاكم 2/ 554 (3883) والبزار في مسنده (3924، 3925) وغيرهم، من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورّق عن أبي ذر، فذكره. قال الترمذي: "حسن غريب". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي ذر إلا من هذا الوجه، ولا نعلم له طريقًا غير هذا الطريق، ولا نعلم روى مجاهد عن مورق عن أبي ذر إلا هذين الحديثين، وأحسب أن هذا الكلام الأخير من قول أبي ذر، أعني: لوددت أني شجرة تعضد". قلت: هذا سند ضعيف، مورق لم يسمع من أبي ذر. قاله أبو زرعة والدارقطني. وأيضًا إبراهيم بن مهاجر فيه ضعف وقد تفرد بالحديث. انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (817) وعلل الدارقطني (6/ 264). (¬2) ف: "وإني اسمع". (¬3) هي الطرقات. النهاية (3/ 29). (¬4) أي تقطع. (¬5) 5/ 407 (23457). وأخرجه تمام في فوائده (الروض البسام- 518) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (112) وابن الجوزي في الموضوعات (2/ 406) من طريق محمَّد بن جابر عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة فذكره. قال ابن=

في جنازة، فلما [13/ ب] انتهينا إلى القبر قعد على شَأْفته، فجعل يردّد بصرَه فيه، ثم قال: "يُضغَط المؤمن فيه ضغطةً تزول منها حمائلُه، ويُملأ على الكافر نارًا". والحمائل: عروق الأنثيين (¬1). وفي المسند (¬2) أيضًا من حديث جابر، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ حين توفي، فلمّا صلّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووُضِعَ في قبره، وسُويِّ عليه، سبّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسبّحنا طويلًا، ثم كبّر، فكبّرنا. فقيل: يا رسول الله، لم سبّحتَ ثمّ كبّرت؟ فقال: "لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبرُه، حتّى فرَّج الله عنه". ¬

_ = الجوزي: "هذا حديث لا يصح. قال يحيى: محمَّد بن جابر ليس بشيء. وقال أحمد: لا يحدث عنه إلا من هو شر منه". وقال ابن رجب الحنبلي: "محمَّد بن جابر هو اليمامي ضعيف. وأبو البختري لم يدرك حذيفة". وضعّفه كذلك الحافظ العراقي وابن حجر والهيثمي. راجع الروض البسام (2/ 125). (¬1) نقله الهروي عن الأزهري في الغريبين (2/ 457). وزاد في النهاية (1/ 442): ويحتمل أن يراد به موضع حمائل السيف، أي عواتقه وصدره وأضلاعه". (¬2) 3/ 360 (14873). وأخرجه الطبراني 6/ 13 (5346) والبخاري في تاريخه (1/ 148) مختصرًا، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (110) وغيرهم من طريق محمَّد بن إسحاق حدثني معاذ بن رفاعة عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح عن جابر فذكره. وقد خولف ابن إسحاق. خالفه ابن الهاد فرواه عن معاذ عن جابر. أخرجه البخاري في تاريخه (1/ 148) معلّقًا. قلت: معاذ بن رفاعة فيه ضعف يسير، فقد قال ابن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ليس به بأس. ومحمد أو محمود بن عبد الرحمن لم يرو عنه غير معاذ بن رفاعة. لكن قال أبو زرعة: "أنصاري مديني ثقة". انظر: الجرح والتعديل (7/ 316) وتهذيب الكمال (28/ 122).

وفي صحيح البخاري (¬1) من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وُضِعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قدّموني، قدّموني؛ وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلَها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كلّ شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصَعِقَ". وفي مسند الإِمام (¬2) أحمد (¬3) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويُزاد في حرّها كذا وكذا. تغلي منها الرؤوس (¬4)، كما تغلي القدور. يعرَقون فيها (¬5) على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يُلجِمُه العرَق". وفيه (¬6) عن ابن عباس (¬7)، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف أنعَمُ، ¬

_ (¬1) في كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء (1314) وغيره. (¬2) لم يرد "الإِمام" في ل. (¬3) 5/ 254 (22186). وأخرجه الطبراني في الكبير 8/ 222 (7779)، من طريق معاوية بن صالح عن القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي عن أبي أمامة فذكره. والقاسم وثقه غير واحد، لكن تكلم في روايته عن أبي أمامة. والحديت ثبت عن المقداد بن الأسود عند مسلم في صحيحه (2864) لكن بدون جملة (ويزاد في حرّها كذا وكذا، فتغلي منها الرؤوس). (¬4) ف: "فتغلي ... ". وفي المطبوع من المسند والطبراني: "يغلي منها الهوام". ولعل الصواب: "الهام" جمع هامة، أي الرؤوس، كما ورد هنا. (¬5) س: "منها". (¬6) "وفيه" ساقط من ف. (¬7) 1/ 326 (3008). وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 77 (29578) والطبراني=

وصاحب القَرْن قد التقم القرْنَ، وحَنى جبهتَه يسمَع متى يؤمر، فينفخ"؟ فقال أصحابه: كيف نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل، على الله توكلنا". وفي المسند أيضًا (¬1) عن ابن عمر يرفعه: "من تعظّم في نفسه، أو اختال في مشيته، لقيَ الله تبارك وتعالى، وهو عليه غضبان". ¬

_ = (12670) وغيرهما من طريق جماعة عن عطية العوفي عن ابن عباس مرفوعًا فذكره. ورواه خالد الخفاف عن عطية العوفي عن زيد بن أرقم فذكره. أخرجه أحمد (19345) والطبراني (5072) وابن عدي في الكامل (3/ 19). ورواه ابن عيينة عن مطرف عن عطية عن أبي سعيد مرفوعًا فذكره. أخرجه أحمد (11039) والترمذي (3243) وغيرهما. ورواه جرير بن عبد الحميد وإسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيمي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد فذكره. أخرجه ابن حبان (823) وأبو يعلى (1084) والحاكم 4/ 603 - 604 (8678) وغيرهم. قال الذهبي: "أبو يحيى واه". قلت: وقد خولف جرير. فرواه الثوري عن الأعمش عن عطية العوفي عن أبي سعيد فذكره. أخرجه أحمد (11696) وأبو نعيم في الحليبة (7/ 130 - 131) والبغوي في شرح السنة (4299) وغيرهم. قلت: هذا الطريق أصح. والحديث معروف عن عطية العوفي. فقد رواه خالد بن طهمان الخفاف (كما في أكثر الروايات) وحجاج بن أرطأة وعمران البارقي وعمار الدهني وعمرو بن قيس ومالك بن مغول، كلهم عن عطية عن أبي سعيد فذكره. قال ابن عدي بعد أن ذكر أوجه الاختلاف: "ورواه جماعة كثيرة عن عطية عن أبي سعيد، وهذا أصحها". انظر: تحقيق المسند (17/ 90)، والكامل لابن عدي (3/ 19). قلت: عطية العوفي ضعيف الحديث. (¬1) 2/ 118 (5995). وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (549) والحاكم 1/ 128 (201) والمزي في تهذيب الكمال (32/ 539، 540) وغيرهم، من طريق يونس بن القاسم الحنفي عن عكرمة بن خالد قال: سمعت ابن عمر، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".

وفي الصحيحين (¬1) عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ المصورين يعذَّبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحْيُوا ما خلقتم". وفيهما أيضًا (¬2) عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) [14/ 1]: "إن أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مقعدُه بالغداة والعشي. إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عَزَّ وَجَلَّ يوم القيامة". وفيهما أيضًا (¬4) عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، جيء بالموت حتى يوقَفَ بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة، خلود فلا موت؛ ويا أهل النار، خلود فلا موت. فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم". وفي المسند (¬5) عنه قال: "من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم، فيها درهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء (2105)، وفي مواضع أخرى. وأخرجه مسلم في اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ... (2108). (¬2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي (1379)، وفي مواضع أخر. وأخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار. ..) 2866). (¬3) "إن المصورين ... " إلى هنا سقط من ز. (¬4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب صفة الجنة والنار (6548)، ومسلم في كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون ... (2850). (¬5) 2/ 98 (5732). وأخرجه عبد بن حميد في المسند (المنتخب- 849) من طريق =

حرام، لم يقبل الله له صلاةً ما دام عليه". ثم أدخل إصبَعيه في أذنيه، ثم قال: صُمَّتا إنْ لم أكن سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقوله. وفيه (¬1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها، فَسُلِبَها. ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبال". قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: "عصارة أهل جهنم". (1) وفيه أيضًا (¬3) عنه (¬4) مرفوعًا: "من شرب الخمر (¬5) شربة لم يقبل الله ¬

_ = هاشم عن ابن عمر، فذكره. وهاشم هذا هو الأوقص- كما جاء مصرحًا به في بعض الطرق- ضعيف جدّا. انظر لسان الميزان (8/ 315) وقد وقع في الحديث اضطراب كثير. قال الخلال: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله (الإِمام أحمد) عن هذا الحديث، فقال: "ليس بشيء، ليس له إسناد". والحديث ضعفه ابن حبان والبيهقي والذهبي وغيرهم. انظر: نصب الراية (2/ 325)، وتحقيق المسند (10/ 25 - 26). (¬1) 2/ 178 (6659). وأخرجه الحاكم 4/ 162 (7233) والبيهقي (8/ 287) من طريق عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قال الذهبي معقبًا عليه: "سمعه ابن وهب عنه، وهو غريب جدًّا". (¬2) ل، ز: "عن رسول الله". وكذا في خا. (¬3) 2/ 176 (6644). وأخرجه ابن ماجه (3377) وابن حبان في صحيحه (5357)، من طريق الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، فذكره مطولًا. وسنده صحيح. والحديث صححه ابن حبان. (¬4) "عنه" ساقط من ف. (¬5) زاد بعضهم في ف قبل الخمر: "مِن".

دله صلاةً أربعين صباحًا. فإن تاب تاب الله عليه". فإن عاد لم يقبل (¬1) له صلاةً أربعين صباحًا. فإن تاب تاب الله عليه (¬2). فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: "فإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من رَدْغة الخبال (¬3) يوم القيامة". وفي المسند (¬4) أيضًا (¬5) من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات مدمنًا للخمر سقاه الله من نهر الغوطة". قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: "نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهلَ النار ريحُ فروجهن". ¬

_ (¬1) ف: "لم تقبل". (¬2) "فإن عاد ... " إلى هنا لم يرد في ل. وكذا في خا. (¬3) الردغة: طين ووحل كثير. وجاء تفسيرها في الحديث أنها "عصارة أهل النار". النهاية (2/ 215). (¬4) 4/ 399 (19569). وأخرجه ابن حبان (5346) والحاكم 4/ 163 (7234) وأبو يعلى (7248) وغيرهم، من طريق الفضيل بن ميسرة عن أبي حريز عن أبي بردة عن أبي موسى، فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قلت: أبو حريز وثقه أبو زرعة، وابن معين في رواية ابن أبي خيثمة. وضعفه ابن معين في رواية والنسائي. وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء. وقال الإِمام أحمد: حديثه منكر. وسئل الإِمام أحمد عنه فذكر أن يحيى -يعني ابن سعيد- كان يحمل عليه، ولا أراه إلا كما قال. قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: قلت لفضل بن ميسرة: أحاديث أبي حريز؟ قال: سمعتها فذهب كتابي فاخذتها بعد من إنسان". وقال ابن عدي: "وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد". انظر الكامل لابن عدي (4/ 158 - 168)، وتهذيب الكمال (14/ 420 - 423). (¬5) "أيضًا" ساقط من ف.

وفيه عنه (¬1) أيضًا (¬2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُعرَض الناسُ يوم القيامة ثلاثَ عرَضات. فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فاَخذ بيمينه وآخذ بشماله (¬3) ". وفي المسند أيضًا (¬4) [14/ ب] من حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) 4/ 414 (19715). وأخرجه ابن ماجه (4277)، من طريق وكيع عن علي بن علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى فذكره. ورواه أبو كريب عن وكيع عن علي بن علي عن الحسن عن أبي هريرة فذكره. أخرجه الترمذي (2425) وقال: "ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، وقد رواه بعضهم عن علي بن علي -وهو الرفاعي- عن الحسن عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". قال الدارقطني في العلل (7/ 251): "يرويه وكيع عن علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا، وغيره يرويه موقوفًا، والموقوف هو الصحيح". قلت: علي بن علي الرفاعي في حفظه لين، قال الإِمام أحمد: "لا بأس به، إلا أنه رفع أحاديث". والحسن لم يسمع من أبي موسى الأشعري قاله ابن المديني. انظر: تهذيب الكمال (21/ 72 - 75) وجامع التحصيل (135). (¬2) ز: "وفيه أيضًا عنه". وقد سقط "عنه" من ف فاستدركه بعضهم في الحاشية. (¬3) ز: اَخذ بيساره. (¬4) 1/ 402 - 453 (3818). وأخرجه الطيالسي في مسنده (400) والطبراني 15/ 261 (10500) وأبو الشيخ في الأمثال (319) وغيرهم، من طريق عمران القطان عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن ابن مسعود فذكره. قلت: الحديث تفرد به عمران عن قتادة، وروايته فيها غرائب. وأيضًا عبد ربه فيه جهالة. ورواه سفيان بن عيينة ومحمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، فذكره. أخرجه الحميدي في مسنده (98) وأبو يعلى (5122). قلت: إبراهيم ضعيف الحديث. ونقموا عليه رفعه أحاديث موقوفة، وهنا من رواية ابن عيينة عنه، وقد أصلح ابن عيينة له كتابه. قال الحافظ ابن حجر: =

قال: "إياكم ومحقَّراتِ الذنوب، فانهنّ يجتمعن علي الرجل حتى يهلكنه". وضرب لهن (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا كمثل قوم نزلوا أرضَ فَلاة، فحضر صنيعُ القوم (¬2)، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعُود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، وأجّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها". وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يضرب الجسر على جهنم، فأكون أول من يُجيز، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلِّمْ سَلِّمْ، وحافتَيه كلاليبُ مثل شوك السَّعدان، تخطَف الناسَ بأعمالهم، فمنهم الموبَق (¬3) بعمله، ومنهم المخردل (¬4) ثم ينجو، حتّى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يُخرِجَ من الناس مَن أراد أن يرحم ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكةَ أن يُخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود. وحرّم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثرَ السجود، فيُخرجونهم، قد امتَحَشُوا (¬5)، فيُصَبّ عليهم من ماء (¬6) ¬

_ = القصة المتقدمة عن ابن عيينة تقتضي أن حديثه عنه صحيح؛ لأنه إنما عيب عليه رفعه أحاديث موقوفة، وابن عيينة ذكر أنه ميّز حديث عبد الله من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: تهذيب التهذيب (1/ 86 - 87). (¬1) ز: "لها". (¬2) يعني طعامهم. انظر: النهاية (3/ 56). (¬3) ز: "الموثق"، وهي رواية أخرى في الحديث عند مسلم. (¬4) من خردل اللحم: قطعه، وقيل: خردل بمعنى صدَع. ورواه بعضهم بالجيم أيضًا. انظر شرح النووي (3/ 26). (¬5) بفتح التاء والحاء، أي احترقوا. انظر شرح النووي (3/ 27). (¬6) ف: "عليهم ماء" دون حرف الجرّ.

يقال له ماء الحياة، فينبتون نباتَ الحِبّةِ (¬1) في حَميل السيل" (¬2). وفي صحيح مسلم (¬3) عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنّ أول الناس (¬4) يُقضى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجلٌ استُشْهِد، فأُتي به، فعرّفه نعمَه، فعرفها، فقال: ما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى قُتِلتُ. قال: كذبتَ، ولكن قاتلتَ ليقال: هو جريء، فقد قيل. ثم أمر به، فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار. ورجلٌ تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتيَ به، فعرّفه نعمَه، فعرَفها. فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلّمته، وقرأت فيك (¬5) القرآن. فقال كذبتَ، ولكنك تعلّمت ليقال: هو عالم (¬6)، وقرأتَ القرآن ليقال (¬7): هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر (¬8) به، فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجلٌ وسّع الله عليه رزقَه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرَفها، فقال: ما عملتَ فيها؟ فقال (¬9): ما [15/ أ] تركتُ من ¬

_ (¬1) بكسر الحاء: بزر البقول والعشب تنبت في البراري وجوانب السيول. النووي (3/ 27). (¬2) أخرجه البخاري في الرقاق، باب الصراط جسر جهنم (6573) ومواضع أخر. ومسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (182). (¬3) كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905). (¬4) ف: "أول مَن". (¬5) "فيك" ساقط من ل. (¬6) كذا في س، وصحيح مسلم. وفي النسخ الأخرى هنا أيضًا: "فقد قيل". (¬7) ز: "وقرأت ليقال". (¬8) ف: "فأمر". (¬9) ف: "قال".

سبيل تحبّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقتُ فيها لك. قال: كذبتَ، ولكنك (¬1) فعلتَ ليقال: هو جواد، فقد قيل (¬2). ثم أمر به، فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار". وفي لفظ: "فهؤلاء أول خلق الله تسعّر بهم النار يوم القيامة" (¬3). وسمعتُ شيخ الإِسلام (¬4) يقول: كما أنّ خير الناس الأنبياء، فشرّ الناس من تشبّه بهم من الكذّابين (¬5)، وادّعى أنه منهم، وليس منهم (¬6). فخير الناس بعدهم العلماء والشهداء والمتصدقون المخلصون، فشرّ الناس (¬7) من تشبّه بهم، يوهم أنه منهم، وليس منهم. وفي صحيح البخاري (¬8) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت عنده لأخيه مظلمة في مال أو عِرْض فَلْيأتِه، فَلْيستحِلَّها منه (¬9) قبل أن يؤخذ، وليس عنده دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أُخِذَ من حسناته، فأُعطِيَها هذ؛ وإلا أُخِذَ من سيئات هذا، فطُرِحَت عليه، ثم ¬

_ (¬1) س: "ولكن". (¬2) ف: "وقد قيل". (¬3) أخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في الرياء والسمعة. تحفة الأحوذي (7/ 46). (¬4) زاد بعضهم في خب: "ابن تيمية"، فدخلت هذه الزيادة في المتن في بعض المطبوعات. (¬5) ف: "الكاذبين". (¬6) "وليس منهم" ساقط من س. وانظر في معنى هذا الكلام: العقيدة الأصفهانية (121). (¬7) ل: "وشر الناس". (¬8) كتاب المظالم، باب من كانت له مظلمة ... (2449). (¬9) "منه" ساقط من ف. وفي س: "منه قبل أن يؤخذ منه".

طُرِح في النار". وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقّه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرَضين" (¬2). وفي الصحيحين (¬3) عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ناركم هذه التي يُوقِد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءًا من نار جهنم" قالوا: والله إن كانت لكافية. قال: "فإنها قد فُضّلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلّهن مثل حرها". وفي المسند (¬4) عن معاذ قال: أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا تشرك بالله شيئًا، وإن قُتِلتَ وحُرِّقتَ. ولا تَعُقَّنَّ والدَيك، وإن أمراك أن تخرُج من أهلك ومالك. ولاتتركَنَّ صلاةً مكتوبةً متعمّدًا، فإنّ من ترك ¬

_ (¬1) ل، ز: "عنه - صلى الله عليه وسلم -". وزاد في ف: "قال". (¬2) بهذا اللفظ أخرجه البخاري من حديث ابن عمر في المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض (2454)، وفي بدء الخلق (3196). أما حديث أبي هريرة، فأخرجه مسلم في المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1611) بلفظ "طوقه الله إلى سبع أرضين". (¬3) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب صفة النار (3265)، ومسلم في كتاب الجنة، باب شدة حر نار جهنم ... (2843). (¬4) 5/ 238 (22075) من طريق صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن معاذ فذكره. قال المنذري: " ... وإسناد أحمد صحيح لو سلم من الانقطاع، فإن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ". راجع تحقيق المسند (36/ 393).

صلاة مكتوبة متعمّدًا فقد برئت منه ذمةُ الله. ولا تشرَبنّ (¬1) خمرًا، فإنه رأس كل فاحشة. وإيّاك والمعصية، فإنّ المعصية تُحِلُّ سخَطَ الله". والأحاديث في هذا الباب أضعافُ أضعافِ ما ذكرنا، فلا ينبغي لمن نصح نفسه أن يتعامى عنها، ويرسل نفسه في المعاصي، ويتعلّق بحبل الرَّجاء وحسن الظن. قال أبو الوفاء بن عقيل: [15/ ب] احذَرْه ولا تغترَّ (¬2)، فإنّه قطع اليد في ثلاثة دراهم (¬3)، وجلد الحدّ في مثل رأس الإبرة من الخمر (¬4)، وقد دخلت امرأة النارَ في هرّة (¬5)، واشتعلت (¬6) الشملة نارًا على من غلّها وقد ¬

_ (¬1) ز: "ولا تشرب". (¬2) س: "احذر ... ". وفي ل: "احذروا ولا تغترّوا" وأشير إلى هذه النسخة في حاشية س أيضًا. (¬3) يشير إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجه البخاري في الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وفي كم يقطع (6795 - 6798). ومسلم في الحدود، باب حد السرقة (1686). (¬4) لعله على سبيل المبالغة، والمقصود قليل الخمر. وقد تقدم في ص 62 حديث "كل ما أسكر حرام". وقد أخرج أصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام". انظر مثلًا سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (3681). (¬5) يشير إلى حديث ابن عمر، الذي أخرجه البخاري في المساقاة، باب فضل سقي الماء (2365) ومسلم في السلام، باب تحريم قتل الهرة (2242). (¬6) ل، ز: "أشعل".

قتِل شهيدًا (¬1). وقال الإِمام أحمد (¬2): حدثنا أبو معاوية (¬3)، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب يرفعه قال: "دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب". قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرِّب له شيئًا. فقالوا لأحدهما: قَرِّب، فقال (¬4): ليس عندي شيء. قالوا له (¬5): قرِّبْ ولو ذبابًا. فقرَّب ذبابًا، فخلَّوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قَرِّب، فقال: ما كنتُ لأقرّب لأحد شيئًا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة". وهذه الكلمة الواحدة يتكلَّم بها العبد يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب (¬6). ¬

_ (¬1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر (4234)، ومسلم في الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول (115) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) في الزهد (84). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 203) من طريق الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سلمان فذكره. قال أبونعيم: "ورواه شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق مثله. ورواه جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرثد عن سلمان نحوه". وسنده صحيح. (¬3) س: "حدثنا معاوية"، خطأ. (¬4) س، ف: "قال". (¬5) "له" من س، ف. (¬6) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان (6477) ومسلم في الزهد، باب التكلم بالكلمة ... (2988) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

اغترار بعضهم على ما أنعم الله عليه في الدنيا

وربما اتكل بعض المغترّين على ما يرى من نعَم الله عليه في الدنيا، وأنه لا يغيَّر به (¬1)، ويظنّ أنّ ذلك (¬2) من محبة الله له، وأنّه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، وهذا من الغرور. قال الإِمام أحمد (¬3): حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رِشدين بن سعد (¬4)، عن حرملة بن عمران (¬5) التجيبي، عن عُقْبة بن مسلم، عن عُقْبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتَ الله عَزَّ وَجَلَّ يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحِبّ، فإنما هو استدراج". ثم تلا قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44] ¬

_ (¬1) ف: "عليه فيما يغتر به". وقد وقع في غيرها جميعًا: "لا يغتر به"، ولعله تصحيف صوابه ما أثبتنا وكذا في ط المدني. وصواب ما جاء في ف: "فما يغيّر به". وفي ط محمود فائد: "وأنه يعتنى به" فحذف "لا" وغيّر "يغيّر". وفي ط أبي السمح: "وأنه يغتر به". (¬2) كذا في س، خب. وفي ز: "ذلك أنه". وفي غيرها: "ويظن ذلك من". (¬3) في المسند 4/ 145 (17311) والزهد (62). وأخرجه الطبري في تفسيره (7/ 195) والدولابي في الكنى والأسماء (1/ 111) والطبراني في الأوسط (9272) وغيرهم من طريق حرملة بن عمران عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر، فذكره. قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن عقبة بن عامر إلا بهذا الإسناد. تفرد به حرملة بن يحيى". ورواه ابن وهب ثنا حرملة وابن لهيعة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر، فذكره. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره 4/ 1290 - 1291 (7288). وهذا يدل على ثبوت هذا الحديث. راجع تحقيق المسند (28/ 547). والحديث حسَّنه العراقي في تخريج الإحياء. (¬4) تحرف "رشدين" في ل إلى "رشد" وفي س إلى "رشيد". (¬5) س: "عثمان"، تحريف.

وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمَه عليك (¬1)، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره؛ فإنما هو استدراج (¬2) يستدرجك به (¬3). وقد قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: 33 - 35] وقد ردّ سبحانه على من يظن هذا [16/ أ] الظن بقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17] أي: ليس كلُّ من نعّمتُه ووسّعتُ عليه رزقَه أكون قد أكرمتُه، ولا كلُّ من ابتليتُه وضيّقت عليه رزقه أكون قد أهنتُه. بل أبتلي هذا بالنعمة، وأكرم هذا بالابتلاء. وفي جامع الترمذي (¬4) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله يعطي الدنيا مَن يُحِبّ ومن ¬

_ (¬1) ز: "تتابع عليك نعمه". (¬2) زاد في ل: "منه". وكذا في خا. (¬3) من قول أبي حازم الأعرج. أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (31) وأبو نعيم في الحلية (3/ 244) وابن عساكر في تاريخ دمشق (22/ 64) وغيرهم (ز). وقد ذكره المؤلف في كتاب الروح (545) أيضًا (ص). (¬4) لم أقف عليه في المطبوع. والحديث أخرجه أحمد 1/ 387 (3672) والبخاري في تاريخه (4/ 313) والشاشي في مسنده (877) مختصرًا، والحاكم 2/ 485 (3671) والبزار في مسنده (2026) وغيرهم، من طريق أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمَّد عن مرة الهمداني عن ابن مسعود، فذكره. قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وقال البزار: " ... والصباح بن محمَّد فليس بمشهور، وإنما ذكرناه على ما فيه من العلة لأنا لم =

فصل: أعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها

لا يُحِبّ، ولا يعطي الإيمان إلا من يُحِب". وقال بعض السلف: رُبَّ مستدرج بنعم الله (¬1) عليه، وهو لا يعلم ورُبَّ مغرور بسَتْر الله عليه، وهو لا يعلم (¬2). ورُبَّ مفتون بثناء الناس عليه (¬3)، وهو لا يعلم. فصل وأعظم الخلق غرورًا من اغترّ بالدنيا وعاجلها، فآثرها (¬4) على الآخرة، ورضي بها من الآخرة (¬5)، حتّى يقولُ بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أنفع من النسيئة! ويقول بعضهم: ذَرّة منقودة، ولا دُرّة موعودة! ويقول آخر منهم: لذاتُ الدنيا متيقَّنة، ولذات الآخرة مشكوك ¬

_ = نحفظ كلامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ... ". قلت: الصباح بن محمَّد ضعيف الحديث. ورواه الثوري ومحمد بن طلبة عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود، فذكره موقوفًا. أخرجه ابن المبارك في الزهد (1134) والطبراني في الكبير (8990) وغيرهما. ورجح الموقوفَ العقيليُّ والدارقطني والذهبي. انظر: الضعفاء (2/ 213) وعلل الدارقطني (5/ 269 - 271) والميزان (3/ 420). (¬1) ف: "بنعمة الله". (¬2) "ورب مغرور ... " إلى هنا ساقط من ل. (¬3) "عليه" ساقط من ف. وقد ضمّن المؤلف هذا الأثر كلامًا له في مدارج السالكين (1/ 172). (ص). أخرجه أحمد في الزهد (1606) عن الحسن البصري بمعناه. وسنده صحيح (ز). (¬4) ف: "وآثرها". (¬5) "ورضي بها من الآخرة" ساقط من س، كما سقط "من الآخرة" من ل.

فيها، ولا أدع اليقين للشك (¬1)! وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله. والبهائم العُجْم أعقل من هؤلاء، فإنّ البهيمة إذا خافت مضرةَ شيء لم تُقْدِم عليه، ولو ضُرِبَتْ، وهؤلاء يُقدِم أحدُهم على عطَبه، وهو بين مصدّق ومكذّب. فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله (¬2) ولقائه والجزاء، فهو من أعظم الناس (¬3) حسرةً؛ لأنه أقدم على علم. وإن لم يؤمن بالله ورسوله (¬4)، فأبْعِدْ له! وقول هذا القائل: "النقد خير من النسيئة"، فجوابه (¬5) أنّه إذا تساوى النقد والنسيئة، فالنقد خير. وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكثر (¬6) وأفضل، فهي خير. فكيف والدنيا كلّها (¬7) من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة! كما في مسند الإِمام أحمد والترمذي (¬8) من حديث المستورِد بن شدّاد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخِلُ أحدُكم إصبَعَه في اليمّ، فلينظُرْ بم ترجع" (¬9)؟. ¬

_ (¬1) ف: "بالشك". (¬2) س: "رسله". (¬3) ز: "فهو أعظم الناس". (¬4) س: "رسله". (¬5) ف: "جوابه". (¬6) ف: "أكبر". (¬7) "كلها" ساقط من ل. (¬8) أخرجه مسلم في صحيحه (2858) وأحمد 4/ 229 (18008). والترمذي (2322) ولفظ مسلم: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم". (¬9) ف، ز: "يرجع".

الإشارة إلى بعض أدلة التوحيد والنبوة والمعاد

فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة من أعظم الغبن وأقبح الجهل. وإذا (¬1) كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة، [16/ ب] فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة؟ فأيُّما أولى بالعاقل: إيثارُ العاجل في هذه المدة اليسيرة وحرمانُ الخير الدائم في الآخرة، أم تركُ شيء حقير صغير (¬2) منقطع عن قرب ليأخذ ما لا قيمة له (¬3)، ولا خطرَ له (¬4)، ولا نهاية لعدده، ولا غاية لأمده. وأما قول الآخر: "لا أترك متيقنًا لمشكوك (¬5) فيه"، فيقال له: إما أن تكون على شكّ من وعد الله ووعيده وصدق رسله، أو تكون على يقين من ذلك. فإن كنت على يقين، فما تركتَ إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب، لأمر متيقَّن لا شك فيه ولا انقطاع له. وإن كنتَ على شك، فراجعْ آيات الربّ تعالى الدالّة على وجوده وقدرته ومشيئته ووحدانيته، وصدق رُسُله فيما أخبروا به عنه (¬6). ¬

_ (¬1) س: "فإذا". ز: "وإن". (¬2) ف، ز: "صغير حقير". (¬3) أي لا يقدر ثمنه من عزته ونفاسته وعظم قدره. (¬4) أي لا عوض عنه ولا نظير له، كما جاء في حديث أسامة بن زيد: "ألا مشمّر للجنة، فإن الجنّة لا خطر لها" رواه ابن ماجه في كتاب الزهد (4332). وقال المصنف في زاد المعاد (273/ 4): "فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلامًا". وقال في المدارج (3/ 285): "الحياة الدائمة الباقية التي لا خطر لها من هذه الحياة الزائلة الفانية التي لا قيمة لها". ولكن جعل "لا قيمة لها" هنا للشيء الحقير. (¬5) ف: "بمشكوك". (¬6) س، ف: "عن الله".

وتجرَّدْ، وقُمْ لله ناظرًا أو مناظرًا، حتى يتبين لك أنّ ما جاءت به الرسل عن الله فهو الحق الذي لا شك فيه، وأنّ خالق هذا العالم وربّ السموات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزّه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه. ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه، وكذّبه، وأنكر ربوبيته وملكه. إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة أن يكون الملِك الحقّ عاجزًا أو جاهلًا، لا يعلم شيئًا، ولا يسمع (¬1)، ولا يبصر، ولا يتكلّم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا يثيب ولا يعاقب، ولا يعزّ من يشاء ولا يذل (¬2) من يشاء، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها، ولا يعتني بأحوال رعيته، بل يتركهم سدًى، ويخلّيهم همَلًا. وهذا يقدح في مُلك آحاد ملوك البشر ولا يليق به، فكيف يجوز نسبة الملِك الحق المبين إليه؟ وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه (¬3) نطفة إلى حين كماله واستوائه (¬4)، تبيّن له أنّ (¬5) من عني به هذه العناية (¬6)، ونَقَله إلى هذه الأحوال، وصرّفه في هذه الأطوار، لا يليق به أن يهمله ويتركه سدًى، لا يأمره ولا ينهاه، ولا يعرّفه حقوقَه عليه، ولا يثيبه ولا يعاقبه. ولو تأمل العبد حقّ التأمل لكان كلّ ما يبصره وما لا يبصره دليلًا له ¬

_ (¬1) ز: "أو لا يسمع". (¬2) س، ز: "ويدل". (¬3) ف: "بدء كونه". ز: "مبدأ حال كونه". (¬4) ز: "كماله واصطفائه". (¬5) ز: "أنه". (¬6) ل: "عني لهذه الغاية".

أسباب تخلف العمل مع التصديق الجازم بالمعاد

على التوحيد والنبوة والمعاد وأن القرآن كلامه. وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في [17/ أ] كتاب "أيمان القرآن" (¬1) عند قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} [الحاقة: 38 - 40]. وذكرنا (¬2) طرفا من ذلك عند قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وأنّ الإنسان دليل لنفسه (¬3) على وجود خالقه، وتوحيده، وصدق رسله، وإثبات صفات كماله (¬4). فقد بان أنّ المضيِّع مغرور على التقديرين: تقدير تصديقه ويقينه، وتقدير تكذيبه وشكّه (¬5). فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار، ويتخلف العمل (¬6)؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدًا إلى بين يدي بعض الملوك (¬7) ليعاقبه أشدَّ عقوبة، أو يكرمه أتمَّ كرامة، ويبيت (¬8) ساهيًا غافلًا، لا يتذكر (¬9) ¬

_ (¬1) وهو المطبوع بعنوان "التبيان في أقسام القرآن ". انظر ص 109. (¬2) ف: "وقد ذكرنا". (¬3) ل: "دليل نفسه"، وكذا في خا. (¬4) التبيان في أقسام القرآن (190). (¬5) ز: "تكذيبه رسله"، تحريف. (¬6) كذا في النسيخ كلها. وفي حاشية س: "تخلّف"، وفوقه: "ظ خ"، يعني أن الظاهر "تخلفُ" كما في نسخة أخرى، ليكون معطوفَا على "التصديق"، ولا شك أن وجه الكلام كما قال صاحب الحاشية. ومقصود المؤلف ظاهر. (¬7) ف: "ملك". (¬8) ل: "يثيب"، تصحيف. (¬9) ل: "يذكر"، وكذا في خا.

موقفه (¬1) بين يدي الملك، ولا يستعدّ له، ولا يأخذ له أهبته (¬2)؟ قيل: هذا- لَعمرُ الله- سؤال صحيح وارد على أكثر هذا الخلق. واجتماعُ هذين الأمرين من أعجب الأشياء. وهذا التخلّف له عدة أسباب: أحدها: ضعف العلم ونقصان اليقين. ومن ظنّ أن العلم لا يتفاوت، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها. وقد سأل إبراهيم الخليل ربَّه أن يُريه إحياءَ الموتى عيانًا، بعد علمه بقدرة الربّ على ذلك، ليزداد طمأنينةً، ويصير المعلوم غيبًا (¬3) شهادةً. وقد روى أحمد في مسنده (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس الخبر كالمعاينة" (¬5). ¬

_ (¬1) س: "وقوفه". (¬2) ف، ز: "أهبة". (¬3) ل، ز: "عينا"، تصحيف. (¬4) 1/ 215، 271 (1842، 2447). وأخرجه ابن حبان (6213) والحاكم 2/ 351 (3250) وأبو الشيخ في الأمثال (5) وغيرهم من طريق هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فذكره. قال يحيى بن حسان: "هشيم لم يسمع حديث أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس: ليس الخبر كالمعاينة، وإنما دلّسه". وقال ابن عدي: "ويقال: إن هذا لم يسمعه هشيم من أبي بشر، إنما سمعه من أبي عوانة عن أبي بشر فدلسه". انظر: الكامل لابن عدي (7/ 136). وأخرجه ابن حبان (6214) والحاكم 2/ 412 (3435) وغيرهما، عن أبي عوانة عن أبي بشر به بمثله. والحديث صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. (¬5) كذا في ف. وفي النسخ الأخرى: "ليس المخبر كالمعاين". (ص) ورد هذا اللفظ من حديث أنس بن مالك عند ابن عدي في الكامل (6/ 291) والخطيب =

فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدمُ استحضاره وغَيبتُه عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها، لاشتغاله بما يضادّه، وانضمّ إلى ذلك تقاضي الطبع، وغلَباتُ الهوى، واستيلاءُ الشهوة، وتسويلُ النفس، وغرورُ الشيطان، واستبطاءُ الوعد، وطولُ الأمل، ورقدةُ الغفلة، وحبُّ العاجلة، ورُخَصُ التأويل، وإلفُ العوائد = فهناك لا يمسك الإيمانَ إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. ولهذا السبب (¬1) يتفاوت الناس في الإيمان حتى ينتهي إلى أدنى أدنى (¬2) مثقال ذرة في القلب (¬3). وجمَاعُ هذه الأسباب يرجع (¬4) إلى ضعف البصيرة والصبر (¬5). ولهذا مَدح الله سبحانه أهل الصبر (¬6) واليقين، [17/ ب] وجعلهم أئمة الدين، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]. ¬

_ = في تاريخ بغداد (3/ 418). وهو حديث منكر، من منكرات محمَّد بن محمَّد بن مرزوق الباهلي. قال ابن عدي: "لم أر لابن مرزوق هذا أنكر من هذين الحديثين -أي هذا، وآخر في الصيام -وهو لين، وأبوه محمَّد بن مرزوق ثقة". وانظر: تهذيب الكمال (16/ 385). (ز). (¬1) س: "وبهذا السبب". (¬2) كلمة "أدنى" وردت في ف مرة واحدة. (¬3) "الناس ... ذرة في" ساقط من ل. وكذا من خا. (¬4) ز: "تر جع". ل: "وجمع ... ترجع". (¬5) ف: "التصبر". وفي س: "البصر"، خطأ. (¬6) ل: "ولهذا سبحانه مدح أهل البصيرة". و"البصيرة" خطأ.

فصل: الفرق بين حسن الظن والغرور

فصل فقد تبين (¬1) الفرق بين حسن الظن والغرور، وأنّ حسن الظن إن حمل على العمل، وحثَّ عليه، وساق إليه، فهو صحيح. وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي، فهو غرور. وحسن الظن هو الرجاء. فمن كان رجاؤه حاديًا (¬2) له على الطاعة، زاجرًا له عن المعصية، فهو رجاء صحيح. ومن كانت بطالته رجاءً، ورجاؤه بطالةً وتفريطًا، فهو المغرور. ولو أن رجلًا له أرض يؤمّل أن يعود عليه من مُغَلِّها ما ينفعه فأهملها، ولم يبذُرها، ولم يحرثها، وأحسن ظنه بأنه يأتي من مغلّها ما يأتي مَن حَرَث (¬3)، وبَذَر، وسقَى، وتعاهَد الأرضَ، لعدَّه الناس من أسفه السفهاء. وكذلك لو حسّن ظنَّه وقوّى رجاءَه (¬4) بأن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلمَ أهل زمانه (¬5) من غير طلبِ للعلم (¬6) وحرص تامّ عليه، وأمثال ذلك. ¬

_ (¬1) ل: "قد تبين". (¬2) س، ز: "جاذبًا"، تصحيف. (¬3) ف: "من غير حرث"، وهو وجه جيّد. والغريب أن ناسخ ل ضبط "من" بفتح الميم، و "حرث" بتنوين الكسرة. (¬4) ضبط في ف، ل: "حسّن" بالشدّة. و"رجاوه " فيهما وفي غيرهما بالواو. ونحوه فيما يأتي. (¬5) س: "أعلم زمانه". (¬6) "للعلم " من ل، وكذا في خا. وفي غيرهما: "العلم".

فصل: لوازم الرجاء

فكذلك (¬1) من حسّن ظنه وقوّى رجاءه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى (¬2) بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وبالله التوفيق. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218]. فتأمَّلْ كيف جعل رجاءَهم إتيانَهم بهذه الطاعات! وقال المغترون (¬3): إنّ المفرِّطين المضيِّعين لحقوق الله (¬4)، المعطِّلين لأوامره، الباغين على عباده، المتجرّئين على محارمه = أولئك يرجون رحمة الله! وسرّ المسألة أنّ الرَّجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه، وقدَره، وثوابه وكرامته؛ فيأتي العبد بها، ثم يحسن (¬5) ظنّه بربه، ويرجوه أن لا يكِلَه إليها، وأن يجعلها موصلةً إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها، ويبطل أثرها. فصل ومما ينبغي أن يعلم أنّ من رجا شيئًا استلزم رجاؤه أمورًا: أحدها: محبة ما يرجوه. الثاني: خوفه من فواته. ¬

_ (¬1) ف، ل: "وكذلك". (¬2) ف، ز: "من غير تقرب إلى الله". (¬3) ف: "المغرورون". (¬4) ل: "حقوق الله". (¬5) ز: "ويحسن".

كل راج خائف

الثالث: [18/ أ] سعيه في تحصيله بحسب الإمكان. وأما رجاءٌ لا يقارنه (¬1) شيء من ذلك، فهو من باب الأماني! والرجاء شيء، والأماني شيء آخر. فكلُّ راجٍ خائفٌ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرَعَ السيرَ مخافةَ الفوات. وفي جامع الترمذي (¬2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ¬

_ (¬1) ز: "لا يقاربه". س: و"لا يقابله". (¬2) برقم (2450). وأخرجه البخاري في تاريخه (2/ 111) وعبد بن حميد (المنتخب- 1460) والقضاعي في مسند الشهاب (406) والحاكم 4/ 343 (7851) وغيرهم، من طريق يزيد بن سنان الرهاوي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة، فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قلت: يزيد بن سنان هذا ضعيف الحفظ يخطئ كثيرًا. انظر: تهذيب الكمال (32/ 156 - 159). وورد من حديث أبي بن كعب عند الحاكم 4/ 343 (7852) من طريق عبد الله بن الوليد العدني عن الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنّة. جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه". وقد خولف عبد الله بن الوليد في لفظه، فرواه وكيع وقبيصة وسعيد بن سلام العطار وعمرو بن محمَّد العنقزي كلهم عن الثوري به بلفظ "جاءت الراجفة ... " ولم يذكروا جملة "من خاف ... الجنّة". أخرجه أحمد (21241) والترمذي (2457) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (14) والبيهقي في الشعب (10095) وغيرهم. تنبيه: وقع عند أبي نعيم (8/ 377) والبيهقي في الشعب (10093) من طريق أحمد بن محمَّد بن عمرو أبي عبد الله الصفار عن ابن أبي الدنيا عن =

- صلى الله عليه وسلم -: "مَن خاف أدلَجَ، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنّة". وهو سبحانه كما جعل الرَّجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال (¬1). فعُلِمَ أنّ الرَّجاء والخوف النافع هو ما اقترن (¬2) به العمل. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57 - 61]. ¬

_ = يحيى بن إسماعيل الواسطي عن وكيع عن الثوري به بمثل لفظ عبد الله بن الوليد العدني بزيادة جملة "من خاف أدلج ... ". ورواه أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل الهاشمي عن ابن أبي الدنيا- في قصر الأمل (116) - عن يحيى بن إسماعيل الواسطي عن وكيع به ولم يذكر جملة "من خاف أدلج ... ". والصحيح عن وكيع: ما رواه الإِمام أحمد بن حنبل وأبو كريب محمَّد بن العلاء وعبد الله بن هاشم العبدي وأبو معشر الحسين بن محمَّد وغيرهم، كلهم عن وكيع عن الثوري به بدون الجملة المذكورة. أخرجه أحمد (21241) والطبري في تفسيره (30/ 32) وتمام في فوائده (الروض البسام- 1364) ووكيع في الزهد (44). قلت: يحيى بن إسحاق الواسطي لم أقف على توثيقه وكان صديقًا للإمام أحمد. وعليه فمتن (من خاف أدلج ...) لا يثبت إسناده. والله أعلم. ولهذا قال أبو نعيم: "غريب تفرد به وكيع عن الثوري بهذا اللفظ". (¬1) لا البطّالين. وزاد في خب، ط: "الصالحة". (¬2) ل، ز: "اقترب"، تصحيف.

وقد روى الترمذي في جامعه (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية فقلت (¬2): أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلّون (¬3) ويتصدّقون، ويخافون أن لا يُتقبَل منهم. أولئك يسارعون في الخيرات". وقد روي من حديث أبي هريرة أيضًا (¬4). ¬

_ (¬1) برقم (3175). وأخرجه ابن ماجه (419) وأحمد 6/ 159 (25263) والطبري (18/ 26) والحاكم 2/ 427 (3486) وغيرهم، من طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة فذكرته. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قلت: هذا الإسناد ضعيف للإرسال، فإن عبد الرحمن بن سعيد لم يلق عائشة رضي الله عنها. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب لقي عائشة؟ قال: لا، هو كوفي، أبوه من أصحاب عبد الله بن مسعود ... " انظر المراسيل (456). ورواه ليث بن أبي سليم واضطرب فيه كثيرًا: فمرة يرويه عن مغيث عن رجل من أهل مكة عن عائشة. ومرة عن عمرة عن عائشة. ومرة عن العوام بن حوشب عن عائشة. ومرة عن رجل عن عائشة. انظر: تفسير الطبري (18/ 34) والوسيط للواحدي (3/ 293) وأبو يعلى (4917). وعليه لا يثبت سنده عن عائشة. (¬2) "فقلت" لم يرد في ف، ل. (¬3) "ويصلون" ساقط من ل. (¬4) أخرجه الطبري (18/ 33) والطبراني في الأوسط (3965) من طريق الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس الملائي عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قالت عائشة: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهم الذين يخطئون ويعملون بالمعاصي؟ فقال: "لا يا عائشة، هم الذين يصلون ويتصدقون وقلوبهم وجلة". قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن قيس إلا الحكم بن بشير". قلت: كلام الطبراني يدل على تفرد الحكم بهذا الحديث، وهو صدوق، =

غاية الإحسان مع غاية الخوف

والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف. ونحن جمعنا بين التقصير- بل التفريط- والأمن! فهذا الصدّيق يقول: "وددتُ أنّي شعرة في جنب عبد مؤمن". ذكره أحمد عنه (¬1). وذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد! (¬2) وكان يبكي كثيرًا، ويقول: ابكوا، فإنْ لم تبكُوا فتباكَوا (¬3). وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عَزَّ وَجَلَّ (¬4). ¬

_ = فيخشى من وهمه. وقد سئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال: " ... وغيره يرويه عن عبد الرحمن مرسلًا عن عائشة، وهو المحفوظ". وهذا حكم على حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن عائشة بأنه غير محفوظ، وترجيح طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد عن عائشة المتقدم عند الترمذي. انظر علل الدارقطني (11/ 193). (¬1) في الزهد (559). وفي سنده ضعف. (¬2) أخرجه أحمد في الزهد (561) من طريق الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه آخذًا بلسانه، فذكره. ورواه الإِمام مالك وهشام بن سعد وابن عجلان وغيرهم عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر دخل على أبي بكر فذكره. أخرجه مالك في الموطأ (2825) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (579) وغيرهما. وسنده صحيح. انظر علل الدارقطني (1/ 159 - 161). ورواه قيس بن أبي حازم عن أبي بكر، وهي رواية معلولة. انظر علل الإِمام أحمد (5319). (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (558). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/ 264) وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (144) وغيرهما. مجاهد لم يدرك أبا بكر الصديق.

وأتي بطائر، فقلّبه، ثم قال: ما صِيدَ مِن صَيدٍ ولا قُطعت من شجرة إلا بما ضيّعَتْ من [18/ ب] التسبيح (¬1). ولما احتضر قال لعائشة: يا بنية، إنّي أصبتُ من مال المسلمين هذه العباءة، وهذا الحِلاب (¬2)، وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب (¬3). وقال: والله لودِدتُ أنّي كنتُ (¬4) هذه الشجرة، تؤكل وتُعضد! (¬5) وقال قتادة: بلغني أنّ أبا بكر قال: ودِدتُ أنّي خَضِرةٌ تأكلني الدوابّ (¬6). وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور (¬7) حتّى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} [الطور: 7]، فبكى (¬8)، واشتدّ بكاؤه، حتى مرض وعادُوه (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في الزهد (566). (¬2) الحِلاب والمِحلَب: الإناء الذي يحلب فيه اللبن. النهاية (1/ 421). (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (567). (¬4) "كنت" ساقط من ل. (¬5) أخرجه أحمد في الزهد (580). (¬6) أخرجه أحمد في الزهد (582). (¬7) س: "سورة فيها الطور". وقد سقط "الطور" من ل. (¬8) ف، ز: "بكى". (¬9) لم أقف عليه. لكن أخرج ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء (100) من طريق الشعبي قال: سمع عمر بن الخطاب رجلاًَ يقرأى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} جعل يبكي حتى اشتد بكاؤه، ثم خرّ يضطرب. فقيل له في ذلك، فقال: "دعوني فإني سمعت قسم حقٍّ من ربي". قلت: والشعبي لم يدرك عمر بن الخطاب. وفي الرواية نكارة، فلم يثبت عن الصحابة السقوط والصعق والغشي عند سماع القرآن، وإنما وقع هذا فيمن بعدهم بقلّة وكثر في المتأخرين. وحال النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة أكمل وافضل. وقد نبه على ذلك شيخ =

وقال لابنه وهو في الموت: ويحك ضَعْ خدّي على الأرض عساه أن يرحمني. ثم قال: ويل أمي (¬1) إن لم يغفر لي (¬2)، ثلاثًا، ثم قضَى (¬3). وكان يمرّ بالآية في وِرده بالليل، فتخنقه (¬4)، فيبقى في البيت أيامًا (¬5) يُعاد، يحسبونه مريضًا (¬6). وكان في وجهه رضي الله عنه خطّان أسودان من البكاء (¬7) وقال له ابن عباس: مصّر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل وفعل، فقال: وددتُ أنّي أنجو، لا أجرَ ولا وِزرَ (¬8). وهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه - كان إذا وقف على القبر يبكي ¬

_ =الإِسلام مرارًا، انظر مثلًا: منهاج السنة (5/ 356)، مجموع الفتاوى (11/ 12 - 13). (¬1) ف: "ويل أبي"، ولعله تحريف. (¬2) ل: "إن لم يرحمني". (¬3) أخرجه أبو داود في الزهد (46) وابن شبة في تاريخ المدينة (3/ 918) من طريق جويرية عن نافع عن ابن عمر فذكر نحوه. وله طريق آخر. انظر علل الدارقطني (2/ 8 - 9). (¬4) ف: "فتخنقه العبرة". وفي س: "تخفيه" بإهمال الحرفين الأولين. (¬5) س: "أيامًا في البيت". (¬6) أخرجه أحمد في الزهد (627) وأبو نعيم في الحلية (1/ 51). وفي سنده ضعف. (¬7) أخرجه أحمد في الزهد (636) وأبو نعيم في الحلية (1/ 51) وغيرهما. (¬8) أخرجه أحمد في الزهد (697) وأبو نعيم في الحلية (1/ 52) وابن شبة في تاريخ المدينة (3/ 915). وسنده صحيح.

حتى يبلّ لحيتَه (¬1). وقال: لو أنني بين الجنّة والنار، لا أدري إلى أيّهما (¬2) يؤمر بي، لاخترتُ أن أكون رمادًا، قبل أن أعلم إلى أيّهما أصير (¬3). وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه. وكان يشتد خوفه من اثنتين (¬4): طول الأمل، واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فيُنْسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق. ألا وإن الدنيا قد ولّت مدبرةً، والآخرةُ مقبلةٌ، ولكل واحدة منهما (¬5) بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ اليوم عمل ولا حسابَ، وغدًا حساب ولا عملَ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2358) وابن ماجه (4267) وأحمد 63/ 1 - 64 (454) والحاكم 4/ 366 - 367 (7942) وأبو نعيم في الحلية (1/ 61). وزادوا جميعًا غير أبي نعيم: "فقيل له: تذكر الجنّة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشرّ منه. قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيت منظرَا قط إلا والقبر أفظع منها". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث هشام بن يوسف". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه". (¬2) ل: "أيتهما". س: "أيتها". وكذا في الموضع التالي. (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (685) وأبو نعيم في الحلية (1/ 60). (¬4) ل، ز: "اثنين". (¬5) "منهما" من ز. وفي ل، ز: "ولكل واحد". (¬6) من قوله: "ارتحلت الدنيا مدبرةَ" إلى آخره أخرجه البخاري تعليقَا بصيغة الجزم في كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله (ص). وأخرجه أحمد في الزهد (692) وأبو داود في الزهد (113) وأبو نعيم في الحلية (1/ 76) وغيرهم. وفيه مهاجر العامري، يحتمل أنه ابن عميرة- ذكره ابن حبان في الثقات =

وهذا أبو الدرداء كان يقول: إنّ أشدّ ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء قد علمتَ، فكيف عملتَ فيما علمتَ؟ (¬1) وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما [19/ أ] أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا (¬2) تستظِلّون فيه، ولخرجتم إلى الصعيد، تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم. ولَوددتُ أنّي شجرة تُعضَد ثم تؤكل (¬3). وكان عبد الله بن عباس أسفلَ عينَيه مثلُ الشَراك البالي من الدموع (¬4). وكان أبو ذرّ يقول: ياليتني كنتُ شجرةً تعضَد، ووددتُ أنّي لم أُخْلَق (¬5). وعُرضت عليه النفقة فقال: عندنا عَنْزٌ (¬6) نحلبُها، وأحمِرَة ننقل عليها، ومحرَّرٌ يخدمنا، وفضل عباءة. وإنّي أخاف الحسابَ ¬

_ = (5/ 428) - أو ابن شماس، وهو ثقة. انظر الجرح والتعديل (8/ 261). (¬1) أخرجه أحمد في الزهد (730) وأبو نعيم في الحلية (1/ 213). (¬2) ل: "مبيتًا". (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (730) وأبو نعيم في الحلية (1/ 213). (¬4) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (783) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (389) وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 35522) وأبو نعيم في الحلية (1/ 329). وسنده حسن. (¬5) أخرجه أحمد في الزهد (787) وفي سنده انقطاع. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 164) نحوه بأطول منه، وسنده صحيح، إن سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى من أبي ذر. (¬6) س: "عنزة".

خوف الصحابة على أنفسهم من النفاق

فيها (¬1). وقرأ تميم الداري ليلةَ سورة الجاثية، فلمّا أتى على هذه الآية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21] جعل يردّدها ويبكي حتى أصبح (¬2). وقال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كبش، فذبحني أهلي، وأكلوا لحمي، وحَسَوا مرَقي (¬3). وهذا باب يطول تتبعه. قال البخاري في صحيحه (¬4): "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. وقال إبراهيم التَّيمي: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون مكذَّبَا (¬5). وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - كلُهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم أحد (¬6) يقول ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في الزهد (786) وأبو نعيم في الحلية (1/ 163). وفيه أبو شعبة البكري، لم أقف عليه. (¬2) أخرجه ابن المبارك في الزهد (31) ووكيع في الزهد (150) وأبو داود في الزهد (394) وغيرهم من طريق مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، قام ليلة حتى أصبح -أو كرب أن يصبح- بآية من القرآن يرددها، يبكي فيركع بها ويسجد. ثم ذكر الآية. وسنده صحيح إلى مسروق. (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (1025) قتادة لم يدرك أبا عبيدة. (¬4) في كتاب الإيمان، باب رقم 36. (¬5) أخرجه البخاري في تاريخه (1/ 335) وأحمد في الزهد (2215) وغيرهما. وسنده صحيح. (¬6) ف: "من أحد".

إنه على إيمان جبريل وميكائيل (¬1). ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنَه إلا منافق" (¬2). وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشُدك الله، هل سمّاني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ يعني في المنافقين فيقول: لا، ولا أزكّي بعدك أحدًا (¬3). فسمعتُ شيخنا رحمه الله (¬4) يقول: ليس مراده أنّي لا أبرّئ غيرك من النفاق، بل المراد: لا أفتح عليّ هذا الباب، فكلّ من سألني: هل سمّاني لك رسول الله- صلى الله عليه وسلم -؟ [19/ ب] فأزكيه. قلت: وقريب من هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله أن يدعو له أن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنّة بغير حساب: "سبقك بها عكاشة" (¬5). ولم يُرِد أنّ عكاشة وحده أحقُّ بذلك ممن عداه من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في تاريخه (5/ 137) وابن أبي خيثمة في تاريخه (651). وسنده حسن. انظر فتح الباري لابن رجب (1/ 179) وتغليق التعليق (2/ 52). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في الإيمان (فتح الباري لابن رجب 1/ 180) والفريابي في المنافقين (87). قال ابن رجب: فهذا مشهور عن الحسن، صحيح عنه. (¬3) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 42) وقال: "رواه البزار ورجاله ثقات". وقال ابن حجر: إسناده صحيح. انظر مختصر زوائد البزار (590) وانظر تفسير الطبري (شاكر: 14/ 443). (¬4) يعني شيخ الإِسلام ابن تيمية. وفي س: "رضي الله عنه". وفي ل، ز: "شيخنا يقول". (¬5) أخرجه البخاري في الرقاق، باب يدخل الجنّة سبعون ألفًا بغير حساب (6542)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنّة بغير حساب ولا عذاب (216) من حديث أبي هريرة.

فصل: العودة إلى ذكر دواء الداء

الصحابة. ولكن لو دعا له (¬1) لقام (¬2) آخر وآخر، وانفتح الباب، وربّما قام من لم يستحق أن يكون منهم. فكان الإمساك أولى، والله أعلم. فصل فلنرجع إلى ما كنّا فيه من ذكر دواء الداء الذي إن استمرّ أفسد دنيا العبد وآخرته. فممّا ينبغي أن يعلم أنّ الذنوب تضرّ ولابدّ، وأنّ ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شرّ وداء (¬3) إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنّة دار اللذة والنعيم (¬4) والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرَدَه ولعَنَه، ومسَخَ ظاهره وباطنه (¬5)، فجُعِلَتْ صورتُه (¬6) أقبح صورة وأشنعها؛ وباطنُه أقبح من صورته وأشنع؟ وبُدّل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظّى، وبالإيمان كفرًا، وبموالاة الولي الحميد أعظمَ ¬

_ (¬1) "له" ساقط من ف. (¬2) س: "لقام إليه". (¬3) "داء" لم يرد في ل، ز. وفي ز: "شرور"، ولعله تحريف ناتج من الخلط بين الكلمتين. (¬4) ز: "النعيم واللذة". (¬5) س: "باطنه وظاهره". (¬6) ف: "فجعل صورته".

عداوةٍ ومشاقّةٍ، وبزجَل التسبيح والتقديس والتهليل زَجَلَ الكفر والشرك (¬1) والكذب والزور والفحشِ، وبلباس الإيمان لباسَ الكفر والفسوق والعصيان. فهان على الله غايةَ الهوان، وسقط من عينه غايةَ السقوط، وحلّ عليه غضبُ الرب تعالى فأهواه، ومقَتَه أكبر المقت فأرداه (¬2). فصار قوّادًا لكل فاسق ومجرم رضي لنفسه بالقيادة، بعد تلك العبادة والسيادة (¬3). فعياذًا بك اللهم من مخالفة (¬4) أمرك [20/ أ] وارتكاب نهيك. وما الذي غرّق أهل الأرض كلّهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلّط الريح العقيم (¬5) على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمّرت ما مرّت (¬6) عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم (¬7) ودوابّهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة. وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحةَ حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ ¬

_ (¬1) ف: "الشرك والكفر". (¬2) "فارداه" ساقط من ف. وفي ز: "فأزواه"، تصحيف. (¬3) ف: "السعادة". (¬4) س: "من المخالفة مخالفة". (¬5) "العقيم" من س. (¬6) س: "ما دمرت"، خطأ. (¬7) ف: "حرثهم وزرعهم".

وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيحَ كلابهم، ثم قَلَبها عليهم (¬1)، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعًا. ثم أتبعهم حجارةً من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمّةٍ غيرهم. ولإخوانهم أمثالُها، وما هي من الظالمين ببعيد! وما الذي أرسل على قوم شعيب سحابَ العذاب كالظُّلل، فلمّا صار فوق رؤوسهم أمطر (¬2) عليهم نارًا تلظّى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نُقلت أرواحُهم إلى جهنّم. فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله (¬3)؟ وما الذي أهلك القرون من (¬4) بعد نوح بأنول العقوبات (¬5)، ودمّرها تدميرًا؟ وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال، وسبوا الذرّية والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال. ثم بعثهم عليهم مرة ثانية، فأهلكوا ما قدروا عليه، ¬

_ (¬1) "عليهم" ساقط من ز. (¬2) س: "صارت ... أمطرت". (¬3) ف: "بقارون وبأهله وماله". (¬4) "من" لم ترد في ف. (¬5) س: "العذاب"، وفي حاشيتها أشير إلى هذه النسخة.

أحاديث وآثار في أنواع العقوبات التي نزلت بالأفراد والأمم في الدنيا بسبب معاصيهم

وتبّروا ما علوا تتبيرًا؟ وما الذي سلّط عليهم أنولَ العقوبات مرة بالقتل (¬1) والسبي (¬2) وخراب البلاد (¬3)، ومرّةً بجور الملوك، ومرّةً بمسخهم قردة وخنازير؟ وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]. قال الإِمام أحمد (¬4): حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، قال: لما فتحت قبرس (¬5) فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض (¬6)، ورأيت (¬7) أبا الدرداء جالسًا [20/ ب] وحده (¬8) يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يومِ أعزّ الله فيه الإِسلامَ وأهلَه؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهونَ الخلقَ على الله عَزَّ وَجَلَّ إذا أضاعوا أمره! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمرَ الله، فصاروا إلى ما ترى! ¬

_ (¬1) س: "الفتك". (¬2) ف: "السنين". (¬3) ز: "وخراب الديار". (¬4) في الزهد (762). وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2660) وابن أبي الدنيا في العقوبات (2) وأبو نعيم في الحلية (1/ 216 - 217) وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 186) مختصرًا، من طريق خالد بن معدان وعبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه فذكره. وسنده صحيح. (¬5) ف: "قبرص". (¬6) ف: "على بعض". (¬7) ما عدا ف: "رأيت" دون واو العطف. (¬8) ف: "وحده جالسًا".

وقال علي بن الجعد (¬1): أنبأنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعتُ أبا البَخْتَري يقول: أخبَرَني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن يَهْلِكَ الناسُ حتى يُعذِروا من أنفسهم". وفي مسند أحمد (¬2) من حديث أم سلمة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في مسنده (132). وأخرجه أبو داود (4347) وأحمد 4/ 260 (18289) وغيرهما. وسنده صحيح. (¬2) 6/ 304 (26596). وأخرجه الطبراني في الكبير 325/ 23 - 326 (747)، من طريق ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سويد عن أم سلمة فذكرته. ليث في حفظه ضعف. ورواه سالم بن طلبة وزبيد عن جامع بن أبي راشد عن أم مبشر عن أم سلمة فذكرته بنحوه. أخرجه الطبراني في الكبير 3/ 377 (891) وأبو نعيم في الحلية (10/ 218). قلت: جامع لم يسمعه من أم مبشر، بينهما رجلان. فرواه الثوري عن جامع بن أبي راشد عن منذر الثوري عن الحسن بن محمَّد بن علي عن مولاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة أو على بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده فذكرت نحوه. أخرجه الحاكم 4/ 568 (8594). ورواه ابن عيينة واختلف عليه فيه. ورواه الإِمام أحمد في المسند 6/ 295 (26527) عن سفيان عن جامع عن منذر عن حسن بن محمَّد عن امرأته عن عائشة نحوه. ورواه يزيد بن هارون عن شريك عن جامع بن منذر عن الحسن بن محمَّد حدثتني امرأة من الأنصار - هي حية اليوم، إن شئت أدخلتك عليها. قلت: لا، حدِّثْني- قالت: دخلت على أم سلمة، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كانه غضبان، فاستترت بكم درعي ... فذكرت مثله. قلت: لعل هذا الطريق أصح الطرق لأن شريكًا ضبط الإسناد فبيّن ما أسقطه سالم بن طلبة وزبيد عن جامع، وبيّن أن أم مبشر هذه امرأة صحابية من الأنصار، وأن حسن بن محمَّد بن علي سمع منها هذا الحديث، وأنه من مسند أم سلمة. وشريك اختلط بعد القضاء، وسماع يزيد بن هارون منه قبل أن يلي =

يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده". فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قًال: "بلى". قالت: فكيف يُصنَع بأولئك؟ قال: "يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان". وفي مراسيل الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفي كنَفه، ما لم يُمالِئْ قرّاؤها أمراءَها، وما لم يُزَكِّ صلحاؤها فجّارَها، وما لم يُهِنْ خيارَها شِرارُها. فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم، ثم سلّط عليهم جبابرتهم، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر" (¬1). وفي المسند (¬2) من حديث ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الرجل لَيُحْرَم الرزقَ بالذنب يصيبه". وفيه أيضًا (¬3) عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن تتداعى ¬

_ = القضاء، وعليه فالإسناد صحيح، والله أعلم. انظر: الكواكب النيّرات (254) وتحقيق المسند (40/ 161 - 162). (¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (821) وابن أبي الدنيا في العقوبات (4) وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن وغوائلها (331) وسنده ضعيف إلى الحسن. (¬2) تقدّم تخريجه في ص (12). (¬3) المسند 5/ 278 (22397). وأخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (5) والطبراني (1452) وأبو نعيم في الحلية (1/ 182)، من طريق المبارك بن فضالة عن مرزوق الشامي عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان فذكره. وسنده لا بأس به لحال المبارك ومرزوق. والمبارك صرح بالتحديث. ورواه صالح بن رستم أبو عبد السلام عن ثوبان فذكره. أخرجه أبو داود (4297) والروياني في مسنده (654) والطبراني في مسند الشاميين (600) وغيرهم. وصالح بن رستم مجهول، وأيضًا لم يسمع من ثوبان، فقد حكم =

عليكم الأمم من كل أفق، كما تَداعَى الأكَلةُ على قَصْعتها". قلنا: يا رسول الله أمِنْ قلّةٍ بنا يومئذ؟ قال: "أنتم يومئذكثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. تُنزَع المهابةُ من قلوب عدوّكم، ويُجعل في قلوبكم الوَهْنُ". قالوا (¬1): وما الوهن؟ قال: "حبّ الحياة، وكراهة الموت". وفي المسند (¬2) من حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمّا عُرِجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمِشون وجوههم وصدورهم. فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ " قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم. وفي جامع الترمذي (¬3) من حديث أبي هريرة [21/ أ] قال: قال رسول ¬

_ = البخاري على روايته عن مكحول بالانقطاع. انظر: التاريخ الكبير (4/ 279) وتهذيب الكمال (13/ 47). ورواه عمرو بن عبيد العَبْشمي عن حذيفة موقوفًا. أخرجه الطيالسي في مسنده (1085) وغيره. قلت: عمرو بن عبيد هذا شامي فيه جهالة، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 179). (¬1) ف: "قالوا يا رسول الله". (¬2) تقدم تخريجه في ص (54). (¬3) برقم (2404). وأخرجه ابن المبارك في الزهد (50) وابن أبي الدنيا في العقوبات (7) وهناد في الزهد (860) والبغوي في شرح السنة 14/ 394 (4199) وغيرهم، من طريق يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة، فذكره. قال البغوي: "هذا الحديث لا يعرف إلا من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله تكلم فيه شعبة". قلت: قال الحاكم: "روى عن أبيه عن أبي هريرة بنسخة أكثرها مناكير ... ". وقال ابن حجر في التقريب: "متروك، وأفحش الحاكم فرماه بالوضع". انظر: تهذيب الكمال (31/ 450 - 453). قلت: وقد جاء نحو هذا الحديث من قول نوف البكالي -وكان يقرأ الكتب- قال: "إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يجتالون الدنيا =

الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج في آخر الزمان قوم يختِلون الدنيا بالدين (¬1)، ويلبسون للناس (¬2) مُسُوكَ الضأن (¬3) من اللين، ألسنتهم أحلى من السكّر (¬4)، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله عز وجل: أبي يغترّون؟ وعليّ يجترئون؟ فبي حلفتُ، لأبعثنّ على أولئك منهم (¬5) فتنةً تدَعُ الحليمَ فيهم (¬6) حيرانًا (¬7) "، وذكر ابن أبي الدنيا (¬8) من حديث جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جدّه ¬

_ = بالدين، ألسنتهم ... ". أخرجه الطبري في التفسير (2/ 313 - 314) وسنده حسن. راجع سنن سعيد بن منصور [التفسير] (3/ 830 - 836). (¬1) أي يطلبون الدنيا بعمل الآخرة. النهاية (2/ 9) وفي ز: "يحيلون"، تصحيف. (¬2) "للناس" ساقط من ف. (¬3) المسوك: الجلود، جمع مَسْك. (¬4) في نسخة الكروخي: "العسل". (¬5) "منهم" ساقط من ز. (¬6) ل: "منهم"، وكذا في تحفة الأحوذي (7/ 72). (¬7) كذا ورد "حيرانًا" بالتنوين في جميع النسخ، وكذا في نسخة الكروخي من الجامع (ق / 155 ب). وقال صاحب تحفة الأحوذي (7/ 72): "كذا في النسخ الحاضرة بالتنوين. وذكر المنذري هذا الحديث في الترغيب نقلاَ عن الترمذي، وفيه: (حيران) بغير التنوين، وكذلك في المشكاة، وهو الظاهر". (¬8) في العقوبات (8). وأخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (1)، من طريق محمَّد بن عبد الملك الدقيقي عن يزيد بن هارون عن عبد الله بن دكين عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب فذكره. قلت: قد اختلف فيه على يزيد بن هارون، فرواه محمَّد بن يحيى الأزدي عن يزيد به مرفوعًا. أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 228) والبيهقي في الشعب (1764). ورواه سعيد بن سليمان سعدويه عن عبد الله بن دكين به مرفوعًا. أخرجه البيهقي في الشعب (1763). ورواه بشر بن الوليد عن عبد الله بن دكين به موقوفًا. أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن وغوائلها (236) وابن عدي (4/ 228) =

قال: قال عليّ: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإِسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. مساجدهم يومئذ عامرة، وهي خراب من الهدى. علماؤهم شرُّ (¬1) من تحت أديم السماء. منهم خرجت الفتنة، وفيهم تعود. وذكر (¬2) من حديث سِماك بن حرب (¬3)، عن عبد الرحمن بن ¬

_ = والبيهقي في الشعب (1764). قلت: لعل الاضطراب في رفعه ووقفه من عبد الله بن دكين الكوفي. فمع توثيق أحمد وابن معين- في رواية- له، ضعفه جماعة، حتى قال أبو حاتم الرازي: "منكر الحديث، ضعيف الحديث، روى عن جعفر بن محمَّد غير حديث منكر". قلت: ويظهر أن هذا الحديث من مناكيره لاضطرابه فيه. ثم هذا الموقوف أيضًا منقطع كما قال البيهقي لأن علي بن الحسين لم يسمع من جده عليّ. وقد روي بعضه من وجه آخر عن علي عند البيهقي في الشعب (1765) إلا أنه لا يثبت، فقد قال البيهقي: "هذا موقوف إسناده إلى شريك مجهول". (¬1) س: "أشرّ". وفي حاشيتها أشير إلى ما أثبتنا من غيرها. (¬2) في العقوبات (9). وأخرجه الطبري في تفسيره (15/ 107) من طريق أبي الأحوص سلام بن سليم عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه فذكره. قلت: لم يذكر في المطبوع من تفسير الطبري قوله (عن أبيه). وقد اختلف على سماك، فرواه بعضهم عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا بنحوه. أخرجه الحاكم 2/ 43 (2261) وقال: "صحيح الإسناد". ورواه بعضهم عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا. أخرجه الطبراني (1/ 178). قلت: عبد الرحمن في سماعه من أبيه ابن مسعود اختلاف. وقد جاء من وجه آخر من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله قال: "ما هلك أهل نبوة قط حتى ظهر فيهم الربا والزنا". أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن وغوائلها (321) والطبراني 10/ 201 - 202 (10329). وسنده صحيح، إن صح سماع أبي عبد الرحمن السلمي من ابن مسعود. انظر جامع التحصيل (347). (¬3) "بن حرب" من ز.

عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: إذا ظهر الزنى والربا (¬1) في قرية أذنَ الله عَزَّ وَجَلَّ بهلاكها. وفي مراسيل الحسن: "إذا أظهر الناس العلم، وضيّعوا العمل، وتحابّوا بالألسن، وتباغضوا (¬2) بالقلوب، وتقاطعوا بالأرحام = لعنهم الله عَزَّ وَجَلَّ عند ذلك، فأصمّهم، وأعمى أبصارهم (¬3). وفي سنن ابن ماجه (¬4) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: كنتُ عاشرَ عشرةِ وهي من المهاجرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين، خمسُ خصال وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: ماظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلاّ ابْتُلُوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولا نقص قومٌ المكيالَ (¬5) والميزانَ إلا ابتلُوا بالسنين وشدة المؤنة وجور ¬

_ (¬1) ز: "الربا والزنا". (¬2) س: "تحاربوا". وفي الحاشية أشير إلى ما أثبتنا. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (10) وهو مرسل ضعيف الإسناد. (¬4) برقم (4019). وأخرجه أبونعيم في الحلية (8/ 333 - 334) من طريق خالد بن يزيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء عن ابن عمر فذكره، وخالد بن يزيد هذا ضعيف جدًا. انظر تهذيب الكمال (8/ 198 - 199). ورواه فروة بن قيس وحفص بن غيلان عن عطاء قال: كنت مع عبد الله بن عمر، فذكره، وفيه قصة. أخرجه الحاكم 4/ 583 (8623) وابن أبي الدنيا في العقوبات (11). وقد صححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي. قلت: حفص بن غيلان الدمشقي وثقه غير واحد، وضعفه بعضهم. وهنا صرّح بذكر سماع عطاء من ابن عمر، وعلي بن المديني ينفيه، فالله أعلم. انظر تهذيب الكمال (7/ 71 - 73) وجامع التحصيل (520). (¬5) ما عدا ف: "من المكيال".

السلطان. وما منع قوم زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، فلولا البهائم لم يُمطَروا. ولا خفر قوم العهد إلا سلّط الله عليهم (¬1) عدوَّهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تعمل أئمّتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسَهم بينهم". وفي المسند والسنن (¬2) من حديث عمرو بن مُرّة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي عبيدة، عن عبد الله (¬3) بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [21/ ب] "إنّ من كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا (¬4)، فإذا كان الغدُ جالَسَه وواكَلَه وشارَبه، كأنه لم يره على خطيئةٍ بالأمس. فلما رأى الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك منهم (¬5) ضرَبَ بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم. ذلك بما عصوا، وكانوا يعتدون. والذي نفس محمَّد بيده، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يد السفيه، ولتأطُرُنّه على الحق أطرًا، أو ليضربَنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننَّكم ¬

_ (¬1) ز: "سلط عليهم". (¬2) أخرجه أبو داود (4337) وابن أبي الدنيا في العقوبات (12) والطبراني (10/ رقم 10267، 10268) من طريق عمرو بن مرة عن سالم الأفطس عن أبي عبيدة عن ابن مسعود فذكره. ورواه جماعة عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود. أخرجه أحمد 1/ 391 (3713) والترمذي (3047) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وابن ماجه (4006) وأبو داود (4336). والحديث في سنده انقطاع. أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا. انظر تحقيق المسند (6/ 251 - 252). (¬3) ف: "عن ابن عبد الله". س، ز: "أبي عبيدة بن عبد الله". والمثبت من ل، خا. (¬4) أي ينهاه نهيًا يقصّر فيه ولا يبالغ. انظر النهاية (3/ 198). (¬5) ف: "منهم ذلك".

كما لعنَهم". وذكر ابن أبي الدنيا (¬1) عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون: إنّي مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستّين ألفًا من شرارهم. قال: يا ربِّ، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنّهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن أبي هِزّان (¬2) قال: بعث الله عز وجل ملَكين إلى قرية أنْ: دمِّراها بمن فيها. فوجدا فيها رجلًا قائمًا يصلي في مسجد (¬3)، فقالا: يا رب إن فيها عبدَك فلانًا يصلّي. فقال الله عز وجل: دمِّراها، ودمِّراه معها (¬4)، فإنه ما تمعّر وجهه فيّ قط. وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد، عن مسعر أنّ ملكًا أُمِرَ أن يخسِفَ قريةً، فقال: يا ربِّ إنَّ فيها فلانًا العابد. فأوحى الله عز وجلّ إليه أنْ: به فابدأ، فإنه لم يتمعّر وجهه فيّ ساعةً قطّ (¬5). ¬

_ (¬1) في العقوبات (13) وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (71)، وعبد الغني المقدسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (43). وفي سنده ضعف إلى إبراهيم بن عمرو، والخبر من أخبار أهل الكتاب. (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (14) وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (69)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (286)، والمقدسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (42). وفي سنده ضعف إلى أبي هزّان. وروي نحوه مرفوعًا من حديث جابر، ولا يصح. انظر مجمع الزوائد (7/ 270). (¬3) كذا في ل، ز والعقوبات. وفي س: "المسجد". وفي ف: "مسجده". (¬4) ما عدا ف: "معهم". وفي العقوبات أيضًا: "معها". (¬5) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (16) وفي الأمر بالمعروف والنهي عن=

وذكر ابن أبي الدنيا (¬1) عن وهب بن منبه قال: لما أصاب داودُ الخطيئةَ قال: ياربّ اغفر لي. قال: قد غفرتُ لك، وألزمتُ عارَها بني إسرائيل. قال: يا ربّ كيف، وأنت الحكم العدل لا تظلم أحدًا، أعمل أنا الخطيئة (¬2)، ويلزَم عارُها غيري؟ فأوحى الله إليه: إنّك لمّا عملتَ الخطيئة (¬3) لم يُعجِّلوا عليك بالإنكار. وذكر ابن أبي الدنيا (¬4) عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ¬

_ = المنكر (70). وسنده حسن إلى مسعر بن كدام. (¬1) في العقوبات (15) وفي الرقة والبكاء (387) وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (72)، والمقدسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (76). (ز). والقصص والأخبار الواردة في خطيئة داود أكثرها من أكاذيب اليهود (ص). (¬2) ل: "أعمل الخطيئة". (¬3) "ويلزم عارها ... الخطيئة" ساقط من ز. (¬4) في العقوبات (17) من طريق محمَّد بن ناصح عن بقية بن الوليد عن يزيد بن عبد الله الجهني حدثني أبو العلاء عن أنس فذكره. وأخرجه نعيم بن حماد في الفتن (420) ومن طريقه الحاكم في المستدرك (4/ 561 - 562) (8575) عن بقية عن يزيد بن عبد الله الجهني عن أبي العالية عن أنس، فذكره بزيادة فيه. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي بقوله: "بل أحسبه موضوعًا على أنس. ونعيم منكر الحديث إلى الغاية، مع أن البخاري روى عنه". قلت: طريق ابن أبي الدنيا أشبه بالصواب؛ لأن نعيمًا متكلم فيه ويخشى من وهمه. والأثر كما قال الذهبي أحسبه موضوعًا على أنس؛ لأن بقية يدلس عن المتروكين والمجهولين، ولم يصرح هنا بالسماع. وأيضًا يزيد بن عبد الله، قال الذهبي: لا يصح خبره، ثم ذكر أثرَا عن ابن عمر. وأبو العلاء هذا يحتمل أن يكون يزيد بن درهم، فقد وثقه الفلاس، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن حبان في الثقات: يخطى كثيرًا. ويحتمل أن يكون موسى أبا العلاء الذي يروي عنه حماد بن سلمة. قال الحسيني: لا أعرفه. ويحتمل أن يكون =

ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أمّ المؤمنين حدّثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنا (¬1)، وشربوا الخمر (¬2)، وضربوا بالمعازف، غار الله عَزَّ وَجَلَّ في سمائه، فقال [22/ أ] للأرض: "تزلزلي بهم". فإن تابوا ونزَعوا، وإلا هَدَمها عليهم. قال: يا أم المؤمنين، أعذابًا لهم؟ قالت: بل موعظةً ورحمةً للمؤمنين، ونكالًا وعذابًا وسخطًا (¬3) على الكافرين. فقال أنس: ما سمعتُ حديثًا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أشدّ فرحًا منّي بهذا الحديث. وذكر ابن أبي الدنيا (¬4) حديثًا مرسلًا أنّ الأرض تزلزلت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده عليها، ثم قال (¬5): "اسكني فإنّه لم يأنِ لكِ بعدُ". ثم التفت إلى أصحابه، فقال: "إنّ ربكم يستعتبكم فأعْتِبوه". ثم تزلزلت بالناس على عهد عمر بن الخطاب، فقال: أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه. والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا! ¬

_ = مجهولًا. انظر: لسان الميزان 8/ 492، 500 (8553، 8576). (¬1) ف: "الربا". (¬2) س، ز: "الخمور". (¬3) ز: "سخطَا وعذابًا". (¬4) في العقوبات (18). وهو حديث مرسل كما قال المؤلف والسيوطي. وروي عن شهر بن حوشب مرسلًا مختصرًا عند ابن أبي شيبة 2/ 222 (8334). قال الحافظ ابن حجر: "هذا مرسل ضعيف". قال ابن عبد البر: "لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره، ولا صحت عنه فيها سنّة، وقد كانت أول ما كانت في عهد عمر ... ". انظر: التلخيص الحبير (2/ 94) وكشف الصلصلة (44) والاستذكار (2/ 418). (¬5) ف: "فقال".

وفي مناقب عمر لابن أبي الدنيا (¬1) أن الأرض زُلزلت (¬2) على عهد عمر، فضرب يده عليها، وقال (¬3): مالكِ؟ مالكِ؟ أمَا إنّها لو كانت القيامة حدَّثت أخبارَها. سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا كان يوم القيامة فليس فيها ذراع ولا شبر إلا وهو ينطق". وذكر الإِمام أحمد (¬4) عن صفية قالت: زلزلت (¬5) المدينة على عهد عمر، فقال: يا أيها الناس ما هذا؟ ما أسرَعَ ما أحدثتم، لئن عادت لا أساكنكم فيها. وقال كعب: إنما تزلْزَل (¬6) الأرض إذا عُمِل فيها بالمعاصي، فتُرْعَد فَرَقًا من الربّ جلّ جلاله أن يطّلع عليها (¬7). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: أمّا بعد، فإنّ هذا الرجف (¬8) شيء يعاتب الله عَزَّ وَجَلَّ به العباد. وقد كتبتُ إلى الأمصار أن ¬

_ (¬1) نقله السيوطي أيضًا في كشف الصلصلة من كتاب مناقب عمر لابن أبي الدنيا (ص). وأخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (19). وسنده ضعيف جدًا. فيه سعد بن طريف الإسكاف، متروك الحديث. (¬2) ف: "تزلزلت". (¬3) ف: "فقال". (¬4) لم أقف عليه عند أحمد. والأثر أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (421) وابن أبي شيبة 2/ 222 (8335) وابن أبي الدنيا في العقوبات (20) والبيهقي في الكبرى (3/ 342) وغيرهم. وسنده صحيح. (¬5) ف: "تزلزلت". (¬6) ف، ز: "تزلزلت". (¬7) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (21). (¬8) ف: "فإن الرجف". ل: "فهذا الرجف".

يخرجوا (¬1) في يوم كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، فمن كان عنده شيء فَلْيتصدّقْ به، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14 - 15] وقولوا كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47] وقولوا كما قال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87] (¬2). وقال الإِمام أحمد (¬3): حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن ¬

_ (¬1) كذا بالياء في ف، س، ل. ولم ينقط في ز، فيجوز أن تقرأ: "أن تخرجوا". (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (23) وسنده صحيح. (¬3) في المسند 2/ 28 (4825). وأخرجه الطبراني في الكبير 13/ 432 (13583). قلت: عطاء لم يسمع من ابن عمر. قال ابن المديني: "رأى أبا سعيد الخدري يطوف بالبيت، ورأى عبد الله بن عمر ولم يسمع منهما ... " جامع التحصيل (520). وأيضًا يخشى من تفرد أبي بكر بن عياش عن الأعمش، فإن له غرائب عنه. ورواه غير واحد عن إسحاق أبي عبد الرحمن عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر فذكره وفيه زيادة. أخرجه أبو داود (3462) والدولابي في الكنى (2/ 65) والطبري في التهذيب (مسند عمر- 181) وأبو نعيم في الحلية (5/ 208 - 209) وقال: "غريب من حديث عطاء عن نافع، تفرد به حيوة عن إسحاق". قلت: تابع حيوة يحيى بن أيوب عند الطبري. قال المؤلف في حاشية تهذيب السنن: "وهذان إسنادان حسنان، يشدّ أحدهما الآخر. فأما رجال الإسناد الأول فأئمة مشاهير، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر. والإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلاًَ محفوظًا عن ابن عمر، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحيوة كذلك. وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة =

¬

_ =والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم". قلت: وللحديث روايات أخرى، فرواه فضالة بن حصين عن أيوب عن نافع به، لكنها رواية منكرة واهية لا يعتبر بها. قال البخاري وأبو حاتم: مضطرب الحديث. وقال ابن عدي بعد أن ذكر له حديثًا "ما عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيب قطّ فردّه" قال: "وهذا لا يرويه عن محمَّد بن عمرو في العطر غير فضالة، وكان عطّارًا، فاتهم بهذا الحديث بهذا الإسناد خاصة لينفق العطر" وقال الساجي: "صدوق فيه ضعف وعنده مناكير". انظر الكامل (6/ 21) ولسان الميزان (6/ 335 - 331). ورواه ليث بن أبي سليم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر فذكره. أخرجه الطبراني 13/ 433 (13585) والطبري في التهذيب (180). قلت: ليث مخلط، وفي حفظه ضعف. وقد اضطرب في هذا الحديث. انظر مسند الروياني (1422) وتهذيب الطبري (181) -والوهم فيه من جرير- والعقوبات لابن أبي الدنيا (317) والحلية لأبي نعيم (3/ 319) وغيرها. ورواه أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن شهر بن حوشب عن ابن عمر فذكر نحوه. أخرجه أحمد (5007). وهذا لا يصح لأن أبا جناب ضعيف الحفظ ويدلس، وهنا لم يصرح بالتحديث. وأيضًا شهر في حفظه كلام، ولا يشبه أن يكون سمع من ابن عمر؛ لأنه شامي وابن عمر مدني. وما روي أنه قال سمعت ابن عمر عند أحمد فوهم، والله أعلم. ورواه غسان بن برذين حدثني راشد أبو محمَّد الحماني قال قال ابن عمر فذكره. أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (24). قلت: في سنده انقطاع. راشد يبعد أن يكون سمع ابن عمر لأنه بصري وابن عمر مدني. وأيضًا جلّ رواية راشد عن التابعين. وذكر البخاري أنه رأى أنس بن مالك. انظر تهذيب الكمال (19/ 16 - 17). والحديث صححه ابن القطان في بيان الوهم (5/ 295 - 296)، وجود شيخ الإِسلام (29/ 35) إسنادي أحمد وأبي داود، وحسنه المؤلف. وقال ابن عبد الهادي: رجال إسناده رجال الصحيح. وقال ابن حجر: "وعندي أن إسناد الحديث [طريق الأعمش] الذي صححه ابن القطان معلول". انظر التلخيص الحبير =

الأعمش، [22/ ب] عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، واتّبعوا أذنابَ البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله- أنزل الله بهم بلاءً، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينَهم". ورواه أبو داود بإسناد حسن. وذكر ابن أبي الدنيا (¬1) من حديث ابن عمر قال: لقد رأيتُنا وما أحدٌ أحقَّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم. ولقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، وتركوا الجهاد، وأخذوا أذنابَ البقر = أنزل الله عليهم من السماء بلاءً، فلا يرفعه عنهم حتّى يراجعوا دينهم". وقال الحسن: إنّ الفتنة والله ما هي إلا عقوبة من الله عَزَّ وَجَلَّ على الناس (¬2). ونظر بعض أنبياء بني إسرائيل إلى ما يصنع بهم بُخْتُ نَصَّر، فقال: بما كسبتْ أيدينا سلّطتَ علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا (¬3). وقال بُخْتُ نَصَّر لدانيال: ما الذي سلّطني على قومك؟ قال: عِظَمُ خطيئتك، وظلمُ قومي أنفسَهم (¬4). ¬

_ = (3/ 21). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 15 - 17) بمجموع طرقه. (¬1) في العقوبات (24) من طريق راشد أبي محمَّد الحماني قال قال ابن عمر، فذكره. وتقدّم الكلام عليه. (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (25) وسنده صحيح. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (28) عن عبد الله بن أبي الهذيل. وذكر فيه أن القائل دانيال النبي. (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (29) عن عبد الله بن أبي الهذيل أيضًا.=

وذكر ابن أبي الدنيا (¬1) من حديث عمّار بن ياسر وحذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ إذا أراد بالعباد نِقمةً أمات الأطفالَ، وأعقم أرحام النساء، فتنزل النقمة، وليس فيهم مرحوم". وذَكَر (¬2) عن مالك بن دينار، قال: قرأتُ في الحكمة: يقول الله عز وجل: أنا الله مالكُ الملوك، قلوبُ الملوك بيدي، فمن (¬3) أطاعني جعلتُهم عليه رحمةً (¬4)، ومن عصاني جعلتُهم عليه نقمة. فلا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك (¬5)، ولكن توبوا إليّ أعطِفْهم عليكم. ومن مراسيل الحسن: إذا أراد الله بقوم خيرًا جعل أمرهم إلى حُلَمائهم (¬6)، وفيئَهم عند سُمَحائهم. وإذا أراد بقوم شرًّا جعل أمرهم إلى ¬

_ (¬1) في العقوبات (26). وأخرجه الديلمي في الفردوس 1/ 245 (951) والشيرازي في الألقاب كما في كنز العمال 3/ 170 (6011)، عن عبد الرحيم ابن عباد المعولي ثنا رجاء بن حريث الباهلي ثنا خازم بن جبلة بن أبي نضرة العبدي عن ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن عمار بن ياسر وحذيفة قا لا، فذكره. قلت: لم أقف على عبد الرحيم ورجاء. وأما خازم بن جبلة فروى عن جماعة وروى عنه جماعة، لكن إن كان هو المذكور في لسان الميزان 3/ 313 (2849) وأنه يروى عن خارجة بن مصعب فقد قال محمَّد بن مخلد الدوري: "لا يكتب حديثه". وعليه فالحديث لا يثبت سنده. (¬2) في العقوبات (30) وفي سنده ضعف. (¬3) س: "ومن". (¬4) ل: "رحمة عليه". وفي الجملة التالية: "نقمة عليه نقمة"! (¬5) "بسبّ": كذا ضبط بالتثقيل في ف، خب. وفي س: "بسبب"، وكذا في العقوبات وحلية الأولياء (428). وفي خا: "لسبب". (¬6) ز: "حكمائهم"، تصحيف.

سفهائهم، وفيئهم عند بخلائهم (¬1). وذكر الإِمام أحمد (¬2) وغيره عن قتادة: قال موسى (¬3): يا ربّ أنت في السماء، ونحن في الأرض، فما علامة غضبك من رضاك؟ قال: إذا استعملتُ عليكم خياركم فهو من علامة (¬4) رضاي عنكم؟ وإذا استعملتُ [23/ أ] عليكم شراركم فهو علامةُ سخطي عليكم. وذكر ابن أبي الدنيا (¬5) عن الفضيل بن عياض قال: أوحى الله إلى بعض الأنبياء: إذا عصاني من يعرفني سلّطتُ عليه من لا يعرفني. وذكر أيضًا (¬6) من حديث ابن عمر يرفعه: "والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراءَ كَذَبةَ، ووزراء فجرةً، وأعوانًا خوَنةً، وعُرَفاء ظلمة، وقُرّاء فَسَقَةَ. سيماهم سيما الرهبان (¬7)، وقلوبهم أنتن من ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (31) وفي الحلم (75). (¬2) في الزهد، وهو من زوائد ابنه عبد الله (1582)، وابن أبي الدنيا في العقوبات (32) وأبو نعيم في الحلية (6/ 290) وابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 145)، وسنده ضعيف. (¬3) ف: "قال: قال موسى عليه السلام". ز: "يونس". (¬4) ف: "فهو علامة". وقد تأخر فيها ذكر الخيار على الأشرار. (¬5) في العقوبات (33). وأخرجه الشجري في أماليه (2/ 256). (¬6) في العقوبات (34). وأخرجه الشجري في أماليه (2/ 264)، من طريق كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر، فذكره. قلت: فيه كوثر بن حكيم. قال الإِمام أحمد: "كوثر أحاديثه بواطيل، ليس بشيء". وقال البخاري: "كوثر عن نافع منكر الحديث". وقال النسائي: "متروك الحديث". وقال ابن عدي: " ... وعامة ما يرويه غير محفوظ". الكامل (6/ 76 - 78). (¬7) ل: "الزهاد".

الجيَف. أهواؤهم مختلفة، فيتيح الله لهم فتنةً غبراءَ مظلمةً، فيتَهاوكون (¬1) فيها. والذي نفس محمَّد (¬2) بيده، لَيُنْقَضَنّ الإِسلام عروةً عروةً، حتى لا يقال: الله الله. لَتأمرُنَّ بالمعروف، ولَتنهوُنَّ عن المنكر، أو لَيسلّطَنّ اللهُ عليكم شِراركم فليَسومُنّكم (¬3) سوء العذاب. ثم يدعو خيارُكم، فلا يستجاب لهم. لتأمرُنّ بالمعروف، ولتنهوُنّ عن المنكر، أو ليبعثنَّ الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقّر كبيركم". وفي معجم الطبراني وغيره (¬4) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما طفَّفَ قوم كيلًا ولا بخسوا ميزانًا إلا منعهم الله عَزَّ وَجَلَّ القَطْر. وما ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت. وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قوم القتلُ -يقتل بعضهم بعضًا- إلا سلط الله عليهم عدؤَهم، ولا ظهر في قوم عملُ قوم لوط إلا ظهر فيهمِ الخسف. وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم تُرفع أعمالُهم، ولم يُسمَع ¬

_ (¬1) "تهوّك": تحيّر، واضطرب، وسقط في هوّة الردى. و "يتهاوكون" أي يتساقطون فيها ويضطربون. ولم أجد "تهاوك" في اللسان والتاج. (¬2) ز: "نفسي". (¬3) ف، ل: "فليسومونكم". وكذا في العقوبات. (¬4) لم أقف عليه في المعاجم الثلاثة. لكن أخرجه الطبراني في الكبير 10/ 45 (10992) من طريق إسحاق بن عبد الله بن كيسان حدثني أبي عن الضحاك بن مزاحم عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس فذكر نحوه. قلت: هذا حديث منكر. قال البخاري في تاريخه (5/ 178) في ترجمة عبد الله بن كيسان: "وله ابن [يسمى] إسحاق، منكر ليس من أهل الحديث". وقال ابن حبان في الثقات في ترجمة عبد الله: "يُتّقى حديثه من رواية ابنه عنه". انظر لسان الميزان (2/ 63).

دعاؤهم". ورواه ابن أبي الدنيا (¬1) من حديث إبراهيم بن الأشعث، عن عبد الرحمن بن زيد (¬2)، عن أبيه، عن سعيد، به. وفي المسند (¬3) وغيره من حديث عروة عن عائشة قالت: دخل عليّ ¬

_ (¬1) في العقوبات (35). وسنده ضعيف جدًا. إبراهيم بن الأشعث لعله خادم الفضيل بن عياض. قال أبو حاتم وقد سئل عن حديث لإبراهيم بن الأشعث: "هذا حديث باطل موضوع. كنا نظن بإبراهيم بن الأشعث الخير، فقد جاء بمثل هذا". قلت: وله غير حديث منكر. ولهذا قال ابن حبان في الثقات (8/ 66): "يُغرِب ويتفرد ويخطئ ويخالف". انظر لسان الميزان (1/ 245). وزيد بن الحواري العمّي البصري ضعيف على أقل الأحوال. انظر تهذيب الكمال (10/ 58 - 60) والتقريب (2131). وابنه عبد الرحمن بن زيد لم أقف عليه. والثابت في هذا ما رواه الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن ابن عباس قال: "ما نقض قوم العهد قط إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا فشت الفاحشة في قوم إلا أخذهم الله بالموت، وما طفف قوم الميزان إلا أخذهم الله بالسنين، وما منع قوم الزكاة إلا منعهم الله القطر من السماء، وما جار قوم في حكم إلا كان البأس بينهم- أظنه قال- والقتل". أخرجه البيهقي في الكبرى (3/ 346 - 347) وفي شعب الإيمان 6/ 484 - 485 (3039). وسنده صحيح. وقد روي مرفوعًا وهو وهم. انظر علل ابن أبي حاتم 2/ 422 - 423 (2773). (¬2) ز: "يزيد"، تحريف. (¬3) 6/ 159 (25255). وأخرجه ابن ماجه (4004) وإسحاق في مسنده (864) وابن أبي الدنيا في العقوبات (36) وابن حبان (290) والبزار (3304، 3305 كما في كشف الأستار) وغيرهم، من طريق عمرو بن عثمان بن هانئ عن عاصم بن عمر بن عثمان عن عروة به، فذكره. والحديث تفرد به عاصم عن عروة. وعاصم مجهول، والراوي عنه عمرو بن عثمان وفيه جهالة أيضًا. وقد إنقلب اسمه في المسند (عثمان بن عمرو)، والحديث ضعّفه العراقي والهيثمي. انظر مجمع الزوائد (7/ 266).

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حفزه النفَس، فعرفتُ في وجهه أن قد حفزه شيء، فما تكلّم حتى توضّأ، وخرج، فلصِقتُ (¬1) بالحجرة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ يقول [23/ ب] لكم: مُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبَكم، وتستنصروني فلا أنصرَكم، وتسألوني فلا أعطيَكم". وقال العمري الزاهد (¬2): إن من غفلتك عن نفسك وإعراضك عن الله أن ترى ما يُسخِط الله، فتتجاوزَه، ولا تأمرَ فيه، ولا تنهى عنه، خوفًا ممن لا يملك (¬3) ضرًّا ولا نفعًا. وقال: من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافةً من المخلوقين نُزِعَتْ منه الطاعة، ولو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخفَّ (¬4) بحقّه (¬5). وذكر الإِمام أحمد في مسنده (¬6) من حديث قيس بن أبي حازم قال: ¬

_ (¬1) ز: "فالتصقت". (¬2) ف: "عمران الزاهد"، خطأ. وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. روى عنه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. كان قوّالًا بالحق، أمّارًا بالمعروف، لا تأخذه في الله لومة لائم. توفي سنة 184 هـ. انظر سير أعلام البلاء (373/ 8). (¬3) س: "يملك لك". (¬4) ز: "لاستخفّوا". (¬5) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (38) وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (14) وأبو نعيم في الحلية (8/ 284) والمقدسي في الأمر بالمعروف (49). وسنده حسن. (¬6) 1/ 2، 7 (1، 16، 29، 35، 35). وأخرجه أبو داود (4338) والترمذي =

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية، وإنكم تضعونها على غير مواضعها (¬1): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه- وفي لفظ: إذا رأوا المنكر، فلم يغيّروه- أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده". وذكر الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُخفيت (¬2) الخطيئة لم تضرَّ إلا صاحبَها، وإذا ظهرت (¬3) فلم تُغيَّرْ ضرّت العامةَ" (¬4). ¬

_ = (2168، 3057) وابن ماجه (4005) وابن حبان (304) وغيرهم. وسنده صحيح، والحديث صححه الترمذي وابن حبان والنووي وغيرهم. وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورفعه صحيح. انظر علل الدارقطني (1/ 249 - 253). (¬1) ف: "في غير مواضعها". (¬2) ل: "خفيت". (¬3) ز: "أظهرت ولم تغير". س: "أعلنت". وفي الحاشية: "أظهرت". (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (40) والطبراني في الأوسط (4770)، من طريق مروان بن سالم الغفاري عن الأوزاعي به، فذكره. قلت: هذا الحديث آفته مروان بن سالم، وهو متروك متهم. قال الساجي: "كذاب يضع الحديث". وظهر مصداق ذلك هنا. فقد رواه ابن المبارك وبشر بن بكر والوليد بن مسلم وعقبة وغيرهم كلهم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال، فذكره. أخرجه ابن المبارك في الزهد (1350) والبيهقي في الشعب (7196) وأبو نعيم في الحلية (5/ 222) وابن عساكر في تاريخه (10/ 490) وغيرهم. وسنده صحيح إلى بلال بن سعد. وثبت عن عمر بن عبد العزيز بنحوه عند مالك في الموطأ (2836) ونعيم في الفتن (421) وغيرهما.

وذكر الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب (¬1) رضي الله عنه: توشك القرى أن تخرب، وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فُجّارُها أبرارَها (¬2)، وساد القبيلةَ منافقُها. وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية عن النبي- صلى الله عليه وسلم -قال: "سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يستخفي المؤمن فيهم (¬3) كما يستخفي المنافق فينا اليوم" (¬4). وذكر ابن أبي الدنيا (¬5) من حديث ابن عباس يرفعه قال: "يأتي زمان ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (44) من طريق ثور عن خالد بن معدان قال: قال عمر بن الخطاب فذكره. وهذا منقطع، خالد بن معدان لم يدرك عمر بن الخطاب. ورواه أصرم بن صالح الأزدي عن عبد الله بن فروخ أن عمر بن الخطاب فذكره. أخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (402). وهذا أيضًا منقطع، عبد الله بن فروخ لم يسمع من عمر بن الخطاب. (¬2) ل: "علا أمراؤها"، تحريف. ف: "أبرارها فجارُها". (¬3) "فيهم" ساقط من س. (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (45) وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (401). والحديث معضل، حسان بن عطية مات بعد 120. وروي من حديث جابر مرفوعًا نحوه، وهو باطل. انظر الكامل لابن عدي (7/ 189). (¬5) في العقوبات (46) وفي الأمر بالمعروف (25، 96) من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن أشرس أبي شيبان عن عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكره. ورواه أسد بن موسى عن أشرس عن عطاء الخراساني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكره. أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (273). قلت: طريق أسد أشبه بالصواب؛ لأن جعفر بن سليمان شكّ فقال: "أحسبه عن ابن عباس". والحديث معضل ضعيف الإسناد، أشرس فيه جهالة.

يذوب فيه قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء". قيل: مِمّ (¬1) ذاك يا رسول الله؟ قال: "مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره (¬2) ". وذكر الإِمام أحمد (¬3) من حديث [24/ أ] جرير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من قوم يُعمَل فيهم بالمعاصي، هم أعزّ وأكثر ممن يعمله، لم يغيروه (¬4)، إلا عمّهم الله بعقاب". وفي صحيح البخاري (¬5) عن أسامة بن زيد قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: أيْ فلان، ما شأنك؟ ألستَ كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر ¬

_ (¬1) س: "بم". (¬2) في حاشية س: "خ المنكرَ لا يقدر على دفعه". (¬3) في المسند 4/ 364 (19230). وأخرجه أبو داود (4339) وابن ماجه (4009) والطيالسي (698) والطبراني 2/ 331 - 332 (2380 - 2385) وابن حبان (300، 302) وغيرهم، من طريق شعبة وإسرائيل ويونس ومعمر وأبي الأحوص، وغيرهم، كلهم عن أبي إسحاق عن عبيد الله بن جرير عن أبيه جرير، فذكره. وخالفهم شريك فرواه عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير فذكره. أخرجه أحمد (19192) والطبراني (2379). ورواية الجماعة أشبه بالصواب. والحديث فيه عبيد الله بن جرير، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حجر: مقبول. انظر تهذيب الكمال (19/ 17) والتقريب (4280). والحديث له شواهد عدّة كحديث أبي بكر المتقدم وغيره. (¬4) س: "ولم يغيّروه". (¬5) تقدم تخريجه في ص (52).

واتيه". وذكر الإِمام أحمد (¬1) عن مالك بن دينار قال: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزلَه الرجالُ والنساءُ، فيعظهم، ويذكّرهم بأيام الله. فرأى بعض بنيه يومًا يغمِز النساء، فقال: مهلًا يا بني، مهلاَ يا بني. فسقط من سريره، فانقطع نُخاعه، وأسقطت امرأته، وقُتل بنوه. فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبِرْ فلانًا الحَبْرَ أني لا أخرج (¬2) من صلبك (¬3) صِدِّيقًا أبدًا. ما كان غضبُك لي إلا أن قلتَ: مهلًا يا بني، مهلًا يا بني! وذكر الإِمام أحمد (¬4) من حديث عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم ومحقراتِ الذنوب، فإنهن يجتمعن علي الرجل حتى يهلكنه". وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلًا كمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيعُ القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود (¬3)، حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها. وفي صحيح البخاري (¬6) عن أنس بن مالك قال: إنكم لتعملون أعمالًا هي أدقّ في أعينكم من الشعر (¬7)،- إنْ كنّا لَنعُدّها على عهد رسول ¬

_ (¬1) في الزهد (524). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 372). (¬2) ز: "أن لا أخرج". (¬3) ف: "من ظهرك". (¬4) سبق تخريجه في ص (70). (¬3) "والرجل يجيء بالعود" ساقط من ل. (¬6) كتاب الرقاق، باب ما يتقى من محقرات الذنوب (6492). (¬7) ز: "الشعرات".

- صلى الله عليه وسلم - من الموبقات. وفي الصحيحين (¬1) من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُذّبت امرأة في هِرّة حبَسَتْها (¬2) حتى ماتت، فدخلت النار. لا هي أطعمتْها، ولا سقَتْها، ولا تركَتْها تأكل من خَشاش الأرض". وفي الحلية لأبي نعيم (¬3) عن حذيفة أنه قيل له: في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أُمروا بشيء تركوه، وإذا نُهوا عن شيء ركبوه، حتى [24/ ب] انسلخوا من دينهم، كما ينسلخ الرجل من قميصه. ومن ها هنا قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أنّ القُبلة بريد الجماع، والغناء بريد الزنا، والنظر بريد العشق، والمرض بريد الموت (¬4). وفي الحلية أيضًا (¬5) عن ابن عباس أنه قال: يا صاحب الذنب لا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في ص 57. (¬2) ف: "سجنتها". (¬3) الحلية (1/ 279)، وسنده صحيح. وأخرجه البيهقي في الشعب (6817) بسند حسن عن حذيفة نحوه. (¬4) في المدارج (2/ 25) نقل المصنف عن السلف: "المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت". وهو من كلام أبي حفص النيسابوري (267 هـ) في طبقات الصوفية (116). والحلية (10/ 244). (¬5) (1/ 324) من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس فذكره. جويبر ضعيف جدًا، والضحاك لم يسمع من ابن عباس.

تأمَنْ سوءَ عاقبته (¬1)، ولَما يتبع الذنبَ أعظمُ من الذنب إذا عملته (¬2): قلّةُ حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب، أعظمُ من الذنب. وضحِكُكَ، وأنت لا تدري ما الله صانع بك، أعظمُ من الذنب (¬3). وفرحُك بالذنب إذا ظفرت به (¬4) أعظمُ من الذنب. وحزنُك على الذنب إذا فاتك أعظمُ من الذنب. وخوفُك من الريح إذا حرّكَتْ سِترَ بابك، وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك، أعظمُ من الذنب. ويحك! هل تدري ما كان ذنب أيوب، فابتلاه الله بالبلاء في جسده وذهاب ماله؟ استغاث به مسكين على ظالم يدرؤه عنه (¬5)، فلم يُغثه (¬6)، ولم يَنْهَ الظالم عن ظلمه، فابتلاه الله. وقال الإِمام أحمد (¬7): حدثنا الوليد قال: سمعتُ الأوزاعي يقول: سمعتُ بلال بن سعد (¬8) يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر ¬

_ (¬1) ل: "لا تأمن عاقبته". (¬2) ل: "علمته". (¬3) "وضحكك ... من الذنب" ساقط من س. (¬4) "به" ساقط من ز. (¬5) "يدرؤه عنه" ساقط من ز. (¬6) س، ز: "فلم يعنه". (¬7) لعله في الزهد ولم أقف عليه، وإنما هو فيه من زوائد عبد الله على الزهد (2276). وأخرجه ابن المبارك في الزهد (71) والعقيلي في الضعفاء (3/ 431) والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 405 - 406) وأبو نعيم في الحلية (5/ 223) وابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 502) والبيهقي في الشعب (6885) وغيرهم. وسنده صحيح. (¬8) في ل: "سعيد"، خطأ. وهو بلال بن سعد بن تميم السكوني أبو عمرو =

مَن عصيتَ (¬1)؟ وقال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك، يعظم عند الله. وبقدر ما يعظم عندك، يصغر عند الله (¬2). وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى إن أول من مات من خلقي إبليس، وذلك أنّه عصاني، وإنّما أعُدّ من عصاني من الأموات (¬3). وفي المسند وجامع الترمذي (¬4) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ المؤمن إذا أذنب نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن (¬5) تاب، ونزع، واستغفر، صُقِلَ قلبه. وإنْ زاد زادت حتى تعلو قلبَه، فذلك الرّانُ الذي ذكر الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. قال الترمذي: هذا حديث صحيح (¬6). وقال حذيفة: إذا أذنب العبد نُكِتَ في قلبه نكتة سوداء حتى يصيرَ ¬

_ = الدمشقي الزاهد الواعظ، وكانت لأبيه صحبة. انظر ترجمته في السير (5/ 90). (¬1) س: "إلى من عصيته". (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة (64) وعنه البيهقي في الشعب (6751) وابن عساكر في تاريخه (48/ 426). (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة (42) عن مسروق بن سفيان. (¬4) أخرجه أحمد في المسند 2/ 297 (7952) والترمذي (3334) وابن ماجه (4244) وابن حبان (930) والحاكم 2/ 562 و (3908) وغيرهم. والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم. (¬5) ف: "فإذا". (¬6) في نسخة الكروخي (ق/ 224 ب): "حسن صحيح". وكذا في المتن المطبوع مع تحفة الأحوذي (9/ 179).

قلبُه كالشاة الرَّبْداء (¬1). وقال الإِمام أحمد (¬2): حدثنا [25/ 1] يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (¬3)، عن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "أمّا بعد يا معشر قريش، فإنكم أهل لهذا الأمر، ما لم تعصُوا الله. فإذا عصيتموه بعث عليكم من يَلحاكم كما يُلحَى هذا القضيبُ"- لِقضيبٍ في يده- ثم لَحَى قضيبَه، فإذا هو أبيضُ يصلِدُ (¬4). وذكر الإِمام أحمد (¬5) عن وهب أنّ (¬6) الربّ عَزَّ وَجَلَّ قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: إنّي إذا أُطِعتُ رَضِيتُ، وإذا رضيتُ (¬7) باركتُ، وليس لبركتي نهاية. وإذا عُصِيتُ غضِبتُ، وإذا غضبتُ لعنتُ، ولعنتي ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الزهد (285) وأبو نعيم في الحلية (1/ 273) والبيهقي في الشعب (6810) وسنده صحيح (ز). والشاة الربداء: المنقطة بحمرة وبياض أو سواد. والربداء من المعزى: السوداء المنقطة بحمرة. انظر اللسان (ربد). (¬2) في المسند 1/ 458 (4380). وأخرجه أبو يعلى 8/ 438 (5024) والشاشي (869). قال الحافظ في الفتح (13/ 116): "رجاله ثقات، إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه: عبد الله بن مسعود، ولم يدركه ... ". (¬3) س: "أحمد بن يعقوب بن أبي صالح ... حدثني عبد الله بن عتبة". وفيه تحريف وسقط. وفي ز: "عبيد الله بن عبيد الله بن عتبة أن". (¬4) في النهاية (3/ 46): "يصلد: أي يبرق ويبصّ"، أي يلمع. وقد ضبط في ز بالبناء للمجهول، وهو خطأ. (¬5) في الزهد (289). (¬6) س: "قال إن". (¬7) "وإذا رضيت" ساقط من س.

تبلغ السابع من الولد. وذكر أيضًا (¬1) عن وكيع، حدثنا زكريا، عن عامر قال: كتبت عائشة إلى معاوية: أما بعد، فإنّ العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامدُه من الناس ذامًا. وذكر أبو نُعَيم (¬2) عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء قال: لِيحذَرْ امرؤ أن تلعنه قلوبُ المؤمنين، من حيث لا يشعر. ثم قال: أتدري ممّ هذا؟ قلتُ: لا. قال: إن العبد يخلو بمعاصي الله (¬3)، فيُلقي الله بغضَه في (¬4) قلوب المؤمنين، من حيث لا يشعر. ¬

_ (¬1) في الزهد (915). ورجاله ثقات. وزكريا يدلس، والشعبي لم يسمع من عائشة كما قال ابن معين. فرواه عبدة وعبيد الله بن معاذ عن زكريا عن عباس بن ذريح عن الشعبي عن عائشة موقوفًا. أخرجه أبو داود في الزهد (337) والخطيب في الكفاية (485). ورواه ابن عيينة عن زكريا عن عباس بن ذريح عن الشعبي به مرفوعًا. أخرجه الحميدي في مسنده (266). والحديث جاء من طرق أخرى مرفوعة وموقوفة، وهو عند أهل الحديث النقاد موقوف على عائشة. ولهذا قال الدارقطني: "رفعه لا يثبت". وقال العقيلي: لا يصح في الباب مسندًا، وهو موقوف من قول عائشة". انظر الضعفاء الكبير 3/ 343 وحاشية الزهد لأبي داود (284 - 285). (¬2) في الحلية (1/ 215) وفي سنده انقطاع. سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي الدرداء. وأخرجه أحمد في الزهد (766) عن ابن عيينة قال: قال أبو الدرداء، فذكره مختصرًا. (¬3) س: "يخلو بالمعاصي"، وأشير في الحاشية إلى ما في غيرها. (¬4) "في" ساقطة من ز.

غلط الناس في تأخر تأثير الذنب

وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه (¬1) عن محمَّد بن سيرين: أنّه لمّا ركبه الدَّينُ اغتمّ لذلك، فقال: إنّي لأعرفُ هذا الغمَّ بذنب أصبتُه منذ أربعين سنة! وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب، وهي أنّهم لا يرون تأثيرَه في الحال، وقد يتأخّر تأثيره فيُنسَى (¬2)، ويظنّ العبد أنه لا يغبِّر (¬3) بعد ذلك، وأنّ الأمر كما قال القائل: إذا لم يغبِّرْ حائطٌ في وقوعه ... فليس له بعد الوقوع غبارُ (¬4) وسبحان الله! ماذا (¬5) أهلكت هذه البليّة (¬6) من الخلق! وكم أزالت من نعمة! وكم جلبت من نقمة! وما أكثر المغترّين بها من العلماء، فضلا عن الجهال! ولم يعلم (¬7) المغترّ أنّ الذنب ينقُض، ولو بعد حين، كما ينقُض السمّ، وكما ينقُض الجرح المندمل على الغِشّ والدَّغَل. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في المطبوع، وهو ناقص. والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 271) وابن عساكر في تاريخه (53/ 226)، وهو ثابت عنه. وانظر ذم الهوى (170). (¬2) "فينسى" ساقط من ز. وفي ف: "فينسى فيظن". (¬3) "لا يغبّر": لا يثير الغبار، يعني لا يرى أثر الذنب بعد ذلك. وفي ف: "لا يغير" بالياء، ولعله تصحيف، فإن عبارة المؤلف ناظرة إلى البيت الآتي. (¬4) س: "بوقوعه". (¬5) س: "فإذا"، تحريف. ف: "ما"، ل: "ما هذا". (¬6) ل، ز: "النكتة"، تصحيف. انظر الصواعق المرسلة (445). (¬7) ز: "ولو يعلم".

وقد ذكر الإِمام أحمد (¬1) عن أبي الدرداء: اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعُدُّوا أنفسَكم في الموتى، واعلموا أنّ قليلًا يُغنيكم خير من كثير يُلهيكم (¬2). واعلموا أنّ البِرَّ [25/ ب] لا يبلى، وأنّ الإثم لا يُنسى. ونظر بعض العُبّاد إلى صبيّ، فتأمل محاسنَه، فأُتيَ في منامه، وقيل له: لَتجِدَنَّ غِبَّها بعد أربعين سنة (¬3). هذا، مع أنّ للذنب نقدًا معجَّلًا لا يتأخر عنه. قال سليمان التَّيمي: إنّ الرجل لَيصيبُ الذنبَ في السرّ، فيصبح وعليه مذلّته (¬4). وقال يحيى بن معاذ الرازي (¬5): عجبتُ من ذي عقل يقول في ¬

_ (¬1) في الزهد (716). وأخرجه وكيع في الزهد (13) وهناد في الزهد (508) وأبو نعيم في الحلية (1/ 211 - 212) وغيرهم. ورجاله ثقات، لكن في سنده انقطاع. وله طرق عن أبي الدرداء. انظر الزهد لأبي داود (240). (¬2) ز: "يطغيكم". (¬3) وهي حكايه أبي عبد الله أحمد بن يحيى الجلاّء من أكابر مشايخ الشام (106 هـ)، وقد ذكر في الحكاية أنّه نسي القرآن. انظر تاريخ دمشق (6/ 84). (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة (195) وأبو نعيم في الحلية (3/ 31) والبيهقي في الشعب (6839) وسنده صحيح (ز). وسليمان بن طرخان التيمي تابعي من خيار أهل البصرة وكان من العبّاد المجتهدين. انظر ترجمته في السير (6/ 195). وقد نسب المصنف هذا القول في روضة المحبين (586) إلى ابنه المعتمر. هذا، وقد وردت بعد هذه العبارة في خب زيادة نصّها: "وقال ذو النون: من خان الله في السرّ هتك ستره في العلانية". ولعلها كانت حاشية لبعض القراء أقحمها ناسخ في المتن. ثم هذا من كلام يحيى بن معاذ الرازي في صفة الصفوة (2/ 256). وقد أثبتت هذه الزيادة في ط المدني وأبي السمح ومحمود فائد وغيرهم ولكن بعد قول يحيى الرازي! (ص). (¬5) من كبار الزهاد، توفي في نيسابور سنة 258. طبقات الصوفية (107) والسير (13/ 15).

فصل: من أضرار المعاصي للعبد في دينه ودنياه وآخرته

دعائه: اللهم لا تُشْمِتْ بي الأعداءَ، ثم هو يُشْمِتُ بنفسه كلَّ عدو له! قيل: وكيف ذلك؟ قال: يعصي الله فيُشْمِتُ به في القيامة كلَّ عدوّ (¬1). فصل وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة والمضرّة (¬2) بالقلب والبدن والدنيا (¬3) والآخرة ما لا يعلمه إلا الله (¬4). فمنها: حرمان العلم، فإنّ العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور. ولمّا جلس الشافعيّ بين يدي مالك وقرأ عليه (¬5) أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقّد ذكائه، وكمال فهمه؛ فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية (¬6). وقال الشافعي (¬7): شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي ... فأرشدَني إلى ترك المعاصي وقال اعلَمْ بأنَّ العلمَ فضلٌ ... وفضلُ الله لا يؤتاه عاصِ (¬8) ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) ف: "والمذمومة والمغرّة". س: "المذمومة المضرة". (¬3) ف: "في الدنيا". (¬4) وقد ذكر المؤلف جملة من آثار المعاصي في طريق الهجرتين (591). (¬5) "عليه" ساقط من س. (¬6) تاريخ مدينة دمشق (51/ 286). وسيأتي مرة أخرى في ص (188). (¬7) س: "وقال الشاعر". (¬8) س: "لا يؤتى لعاص". وانظر ديوان الشافعي (72).

حرمان الرزق

ومنها: حرمان الرزق. وفي المسند: "إنّ العبد لَيُحْرَم الرزقَ بالذنب يصيبه". وقد تقدّم (¬1). وكما أنّ تقوى الله مَجلَبة للرزق، فتركُ التقوى مجلبة للفقر. فما استُجْلِبَ رزقُ الله بمثل ترك المعاصي. ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبيّن الله، لا يوازنها ولا يقارنها (¬2) لذة أصلًا. ولو اجتمعت له لذّاتُ الدنيا بأسرها لم تفِ بتلك الوحشة. وهذا أمر لا يحسّ به إلا من في قلبه حياة. و"ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ" (¬3). فلو لم يترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريَّا بتركها. وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشةً يجدها في نفسه فقال له (¬4): إذا كنتَ قد أوحشتك الذنوبُ ... فدَعْها إذا شئتَ واستأنسِ (¬5) ¬

_ (¬1) في ص (103،13). (¬2) كذا في ل، خا. وفي ف: "لا يوازيها ولا يقاربها". وفي ز: "لا يوازنها ولا يقاربها". والفعل الثاني في س بالباء والنون معًا. (¬3) عجز بيت لأبي الطيب في ديوانه (245) وصدره: من يَهُنْ يسهُلِ الهوانُ عليه (¬4) ف: "قال له". ز: "وقال له". (¬5) أنشده المصنف في المدارج (2/ 406) أيضًا، وسيأتي مرة أخرى في ص (183). وهو يشبه قول القاضي أبي بكر الأرّجاني، وقد يكون رواية مغيّرة منه: أساتَ فاصبحتَ مستوحشا ... فأحسِنْ متى شئتَ واستانِسِ انظر: ديوانه (816)، وخريدة القصر- قسم فارس (3/ 281)، وصدره في =

الوحشة بينه وبين الناس

وليس على القلب أمَرُّ من وحشة الذنب على الذنب، فالله المستعان (¬1). ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبيّن الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنّه يجد وحشةً بينه وبينهم، وكلّما قويت تلك الوحشة بَعُدَ منهم ومن مجالستهم، [26/ أ] وحُرِمَ بركة الانتفاع بهم، وقرُبَ من حزب الشيطان بقدر ما بعُد من حزب الرحمن. وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم، فتقع بينه وبيّن امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبيّن نفسه، فتراه مستوحشًا من نفسه! وقال بعض السلف: إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلُق دابّتي وامرأتي (¬2). ومنها: تعسير أموره عليه. فلا يتوجّه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه، أو متعسّرًا عليه. وهذا كما أنّ من اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، فمن عطّل التقوى جعل له من أمره عسرًا. ويالله العجب! كيف يجد العبد أبوابَ الخير والمصالح مسدودةً عنه، وطرُقَها معسَّرةً عليه، وهو لا يعلم من أين أُتِيَ؟ ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقةً، يحسّ بها كما يحس بظلمة ¬

_ =المنتخل (2/ 557).: أمستوحشٌ أنت ممّا صنعتَ (¬1) ف: "والله المستعان". (¬2) من كلام فضيل بن عياض. ولفظه في الحلية (8/ 109): " ... فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي".

تعسير الأمور

الليل البهيم إذا ادلهمَّ، فتصير ظلمةُ المعصية لقلبه كالظلمة الحسّية لبصره. فإنّ الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلّما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتّى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة، وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده. وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه (¬1) يراه كلّ أحد. قال عبد الله بن عباس (¬2): إنّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإنّ للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغِضةً في قلوب الخلق (¬3). ¬

_ (¬1) ز: "في الوجه". (¬2) قارن بما نقله المصنف عن ابن عباس وأنس في روضة المحبين (586). (¬3) لم أقف عليه. وقد ورد نحوه عن الحسن البصري ومالك بن دينار وإبراهيم بن أدهم وأنس بن مالك مرفوعًا. فأما الحسن، فأخرج قوله ابن أبي الدنيا في التوبة (197،193) والبيهقي في الشعب (6826) وغيرهما بلفظ "إن الرجل ليعمل الحسنة فتكون نورًا في قلبه، وقوة في بدنه. وإن الرجل ليعمل السيئة فتكون ظلمة في قلبه، ووهنًا في بدنه". هذا لفظ ابن أبي الدنيا، وسنده صحيح. وأما مالك بن دينار، فأخرج كلامه أحمد في الزهد (1876) بلفظ "إن لله تبارك وتعالى عقوبات في القلوب والأبدان، وضنكًا في المعيشة، وسخطًا في الرزق، ووهنَا في العبادة". وأما إبراهيم بن أدهم فقال: "إن للذنوب ضعفًا في القوة، وظلمةً في القلب وإن للحسنات قوة في البدن ونورًا في القلب". أخرجه البيهقي في الشعب (6827). وأما حديث أنس بن مالك، فذكره ابن أبي حاتم في العلل (1909) وقال: "هذا حديث منكر، وأبو سفيان مجهول".

وهن القلب والدين

ومنها: أنّ المعاصي توهن القلب والبدن. أما وهنها للقلب، فأمر ظاهر بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته وأما وهنها للبدن، فإنّ المؤمن قوته من قلبه (¬1)، وكلّما قوي قلبه قوي بدنه. وأما الفاجر (¬2)، فإنّه وإن كان قويَّ البدن، فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوجَ ما يكون إلى نفسه. وتأمَّلْ قوة أبدان فارس والروم، كيف خانتهم أحوجَ ما كانوا إليها (¬3)؛ وقهرهم أهلُ الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟ ومنها: حرمان الطاعة. فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنّه (¬4) يصدّ عن طاعة تكون بدَلَه، ويقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه (¬5) طريقُ ثالثةٍ، ثم رابعةٍ، وهلمّ جرًّا. فينقطع عليه (¬6) بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها (¬7) خير له من الدنيا وما عليها. وهذا كرجل أكل أكلةً أوجَبَتْ له مرضة [26/ ب] طويلةً منعته من عدة أكَلات أطيب منها، فالله المستعان (¬8). ¬

_ (¬1) ز: "في قلبه". (¬2) ز: "العاجز"، تحريف. (¬3) ز: "إليهم"، خطأ. (¬4) ز: "أن". (¬5) س، ز: "فتنقطع عليه". وزاد بعده في ف: "بالذنب". (¬6) ز "عنه". (¬7) س، ز: "كل واحد". و "منها" ساقط من ل. (¬8) ف، ز: "والله المستعان".

قصر العمر

ومنها: أن المعاصي تقصّر العمر (¬1)، وتمحق بركته، ولابدّ؛ فإنّ البرّ كما يزيد في العمر، فالفجور (¬2) يقصّر العمر. وقد اختلف (¬3) الناس في هذا الموضع. فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهابُ بركة عمره ومحقُها عليه. وهذا حقّ، وهو بعض تأثير المعاصي. وقالت طائفة: بل تنقصه (¬4) حقيقة، كما ينقص الرزقُ. فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابًا تكثَرّه وتزيده، وللبركة في العمر أسبابًا تكثِّره وتزيده (¬5). قالوا: ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب. والأرزاق (¬6) والآجال، والسعادة والشقاوة، والصحّة والمرض، والغنى والفقر، وإن كانت بقضاء الربّ عز وجل، فهو يقضي ما يشاء بأسباب جَعَلها موجِبةً لمسبَّباتها مقتضيةً لها. وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنّما هو بأنّ ¬

_ (¬1) "العمر" ساقط من س. (¬2) في ز: "وإنّ البرّ ... والفجور" بالواو مكان الفاء، وهو خطأ. (¬3) ف: "وقد تكلم". (¬4) "بل" ساقطة من ف. وفيما عدا ل: "ينقصه". (¬5) "وللبركة ... وتزيده" ساقط من ف. (¬6) ل: "فالأرزاق".

حقيقة الحياة هي حياة القلب، ولهذا (¬1) جعل الله سبحانه الكافر ميتًا غير حيّ، كما قال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21]، فالحياة في الحقيقة حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره. فالبرّ والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها. وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غبَّ إضاعتها يوم يقول: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24]. فلا يخلو إمّا أن يكون له (¬2) مع ذلك تطلّع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية، أو لا. فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك (¬3)، فقد ضاع عليه عمره كلّه، وذهبت حياته باطلًا. وإن كان له تطلع إلى ذلك (¬4) طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسّرت عليه أسباب الخير، بحسب اشتغاله بأضدادها، وذلك نقصان حقيقي من عمره. وسرّ المسألة أنّ عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه (¬5)، والتنعم بحبه وذكره، وإيثار مرضاته. ¬

_ (¬1) ز: "حياة القلوب ولقد". (¬2) "له" ساقط من ل. (¬3) ف: "مع ذلك إلى ذلك". (¬4) "فقد ضاع ... إلى ذلك" ساقط من س. (¬5) س: "بالإقبال ... ". ف: "بإقباله عليه"، وصححه بعضهم في الحاشية.

فصل: المعاصي تولد أمثالها

فصل ومنها: أنّ المعاصي تزرع أمثالَها ويولّد (¬1) بعضها بعضًا حتى يعزّ (¬2) على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إنّ من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها (¬3). فالعبد إذا عمل [27/ أ] حسنة قالت أخرى إلى جانبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها قالت الثانية كذلك، وهلم جرًّا، فتضاعف الربح (¬4)، وتزايدت الحسنات. وكذلك جانب (¬5) السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة. فلو عطّل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحسّ من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتىّ يعاودها، فتسكن نفسه، وتقرّ عينه. ولو عطّل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسُه، وضاق صدره، وأعيَتْ عليه مذاهبُه، حتى يعاودها. حتى إنّ كثيرًا من الفسّاق لَيواقع (¬6) المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا لما ¬

_ (¬1) ل، ز: "تولد". (¬2) ف: "يعسر". (¬3) ذكره المؤلف في طريق الهجرتين (486)، وضمّنه كلامه في المدارج (1/ 184)، والفوائد (35). ونسبه شيخ الإِسلام إلى سعيد بن جبير. مجموع الفتاوى (10/ 11)، وانظر (15/ 246)، ل (18/ 177). (¬4) ف: "الزرع". (¬5) ز: "كانت". (¬6) ف: "وحتى إن ... يواقع".

يجد من الألم بمفارقتها؛ كما صرّح بذلك شيخ القوم الحسن بن هانئ حيث يقول: وكاس شربتُ على لذة ... وأخرى تداويتُ منها بها (¬1) وقال آخر (¬2): فكانت دوائى وهي دائي بعينه ... كما يتداوى شارب الخمر بالخمر (¬3) ولايزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبّها، ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكةَ تؤزُّه إليها (¬4) أزًّا، وتحرّضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها (¬5). ولا يزال يألف المعاصي، ويحبّها، ويؤثرها (¬6)، حتّى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزّه إليها أزًّا. فالأول قوّى جندَ الطاعة بالمدد، فصاروا من أكبر أعوانه. وهذا ¬

_ (¬1) ف: "فكاسٌ"، ص: "وكاسًا". وكذا نسبه المؤلف هنا إلى أبي نواس، ونحوه في زاد المعاد: "قال شيخ الفسوق" (4/ 209). والبيت للأعشى في ديوانه (223). أما بيت أبي نواس الذي في معناه فهو: دَعْ عنك لومي فإن اللوم إغراءُ ... وداوِني بالتي كانت هي الداءُ انظر ديوانه (6). (¬2) ف: "الآخر". (¬3) س، ز: "وكانت". ز: "وهو دائي". والشطر الثاني من بيت مشهور ينسب إلى المجنون (ديوانه: 122) وإلى قيس بن ذريح (شعره: 95)، صدره: تداويتُ من ليلى بليلى عن الهوى ولعل قائل البيت الذي نقله المؤلف ضمّن الشطر الثاني. (¬4) "إليها" ساقط من ز. (¬5) "وتحرضه ... إليها" ساقط من ف. (¬6) "ويؤثرها" ساقط من ف.

فصل: المعاصي تضعف القلب عن إرادته

قوّى جندَ المعصية بالمدد، فكانوا (¬1) أعوانًا عليه. فصل ومنها -وهو من أخوفها على العبد- أنها تُضعِف القلبَ عن إرادته (¬2)، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله. فيأتي من الاستغفار وتوبة الكذّابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مُصِرّ عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنَتْه (¬3). وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك. فصل (¬4) ومنها: أنه ينسلخ (¬5) من القلب استقباحُها، فتصير (¬6) له عادةً، فلا يَستقبح من نفسه رؤيةَ الناس له، ولا كلامَهم فيه. وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتّك وتمام اللذة، [27/ ب] حتّى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملتُ كذا وكذا! ¬

_ (¬1) ل: "وكانوا". (¬2) "فصل ... إرادته " لم يرد في ف. فقوله: "فكانوا أعوانًا عليه" موصول بقوله: "فتقوى إرادة المعصية". (¬3) ف: "أمكنه". (¬4) كلمة "فصل" لم ترد في ز. (¬5) ل: "أن تنسلخ". (¬6) ما عدا ف: "فيصير".

كل معصية ميراث عن أمة من الأمم المعذبة

وهذا الضرب من الناس لا يُعافَون، وتسدّ عليهم طريق التوبة، وتغلق (¬1) عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "كل أمتي معافىً إلا المجاهرين. وإنّ من الإجهار أن يستر الله على العبد، ثم يُصبِح (¬2) يفضَح نفسه، ويقول: يا فلان عملتُ يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيهتك نفسَه، وقد بات يستره ربه" (¬3). ومنها: أنّ كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل. فاللوطية: ميراث عن قوم لوط. وأخذُ الحق بالزائد، ودفعُه بالناقص: ميراث عن قوم شعيب. والعلو في الأرض والفساد: ميراث عن فرعون وقومه (¬4). والتكبّر والتجبر: ميراث عن قوم هود. فالعاصي لابس ثيابَ بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله. وقد روى عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد (¬5) لأبيه عن مالك بن، دينار قال: أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أنْ قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، ولا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي؛ فتكونوا أعدائي، كما هم ¬

_ (¬1) س: "يسدّ ... ". ز: "يسدّ ... ويغلق". (¬2) ز: "فيصبح". (¬3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (6069)؛ ومسلم في الزهد، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (2990). (¬4) ما عدا س: "قوم فرعون". (¬5) لم أقف عليه، والذي فيه برقم 523 من قول عقيل بن مدرك السلمي. وأخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف (73) وأبو نعيم في الحلية (2/ 371) من قول مالك بن دينار.

أعدائي (¬1) وفي مسند أحمد (¬2) من حديث عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبَد اللهُ وحدَه لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظلّ رمحي، وجُعِلَ الذلّة والصغار على من خالف أمري. ومن تشبّه بقوم فهو منهم". ¬

_ (¬1) "كما هم أعدائي" ساقط من س. والأفعال في غيرها مسندة إلى الغائبين: "لا يدخلوا"، "ولا يلبسوا" وهكذا. (¬2) 2/ 50، 92 (511، 667). وأخرجه أبو داود (4031) مقتصرًا على ذكر التشبه فقط، وابن أبي شيبة (19394) وعبد بن حميد (المنتخب-846) والطبراني في مسند الشاميين (216) وغيرهم، من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي المنيب عن ابن عمر، فذكره. وهذا الحديث تفرد به عبد الرحمن بن ثابت، وفي حفظه ضعف وقال الإِمام أحمد: أحاديثه مناكير. تهذيب الكمال (17/ 14 - 18). فهل يحتمل تفرده بهذا الحديث؟ وقد ذكره البخاري في "صحيحه" معلّقًا بصيغة التمريض، في الجهاد، باب ما قيل في الرماح (3/ 1067). وقد روي عن الأوزاعي عن حسان عن أبي المنيب عن ابن عمر فذكره. والصواب فيه: عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس مرسلًا. أخرجه ابن أبي شيبة (19430) وغيره. وقد روي عن جماعة من الصحابة، ولا يثبت منها شيء. والحديث صححه جماعة، منهم شيخ الإِسلام ابن تيمية والذهبي والعراقي وابن حجر وغيرهم. راجع: تحقيق المسند (9/ 123 - 126) وحاشية ذم الكلام للهروي (2/ 392 - 394) والأرواء (5/ 109 - 111) والفروسية المحمدية لابن القيم (80 - 81).

فصل: هوان العبد على ربه

فصل ومنها: أن المعصية سبب لهوانِ العبد على ربه، وسقوطِه من عينه. قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لَعَصَمهم (¬1). وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]. وإنْ عظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا (¬2) من شرّهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه. ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب (¬3) الذنب، حتّى يهون عليه، ويصغر في قلبه. وذلك علامة الهلاك، فإنّ الذنب كلّما صغُر [28/ أ] في عين العبد عظُم عند الله. وقد ذكر البخاري في صحيحه (¬4) عن ابن مسعود (¬5) قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنّه (¬6) في أصل جبل يخاف أن يقع عليه. وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. وقد ورد عن أبي سليمان الداراني قال: "إنما هانوا عليه فتركهم ومعاصيه، ولو كرموا عليه لمنعهم عنها". أخرجه أبونعيم في الحلية (9/ 261) والبيهقي في الشعب (6863) وابن عساكر في تاريخه (34/ 151). (¬2) س: "خوفهم". (¬3) ف: "يركب". (¬4) في كتاب الدعوات، باب التوبة (6308). (¬5) ل: "عبد الله بن مسعود". (¬6) "كانه" ساقط من ف.

فصل: عودة ضرر معصيته على غيره من الناس والدواب

فصل ومنها: أنّ غيره من الناس والدوابّ يعود عليه شؤم ذنوبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم (¬1). قال أبو هريرة: إنّ الحُبارى لَتموتُ في وَكْرها من ظلم الظالم (¬2). وقال مجاهد (¬3): إنّ البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدت السَّنة، وأمسك (¬4) المطر؛ وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم (¬5). ¬

_ (¬1) ف: "الظلم والذنوب". (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 126) والبيهقي في الشعب (7075) من طريق محمَّد بن جابر وعمر بن جابر الحنفيين كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع رجلاًَ يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: بلى والله ... فذكره. محتمل للتحسين، فإن محمَّد بن جابر ضعيف الحفظ، وأخوه عمر لم يوثقه غير ابن حبان. وأيضًا رواه عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير، قال: قال رجل عند أبي هريرة، فذكره. أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (269). ورواه ضمرة بن ربيعة عن الشيباني قال: سمع أبو هريرة رجلاًَ يقول: كل شاة معلقة برجلها، فقال أبو هريرة: كلا والله، وذكره. أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (272) وسنده منقطع. (¬3) "مجاهد" ساقط من س. (¬4) س: "أمسكت". (¬5) ف: "بني آدم". أخرجه ابن وهب في تفسيره من الجامع 13/ 1 - 14 (24) وابن أبي حاتم في تفسيره (1448،1446) من طريق ابن أبي نجيح فذكره. وأخرجه الثوري في تفسيره (53 - 54) وابن أبي حاتم (1447) والطبري (2/ 54 - 55) وابن أبي الدنيا في العقوبات (271) وأبو نعيم في الحلية (3/ 286 - 287) وغيرهم، من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: =

فصل: المعاصي تورث الذل

وقال عكرمة: دوابّ الأرض وهوامّها حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنِعْنا القَطْرَ بذنوب بني آدم (¬1). فلا يكفيه عقابُ ذنبه، حتى يبوء بلعنة (¬2) من لاذنب له. فصل ومنها: أنّ المعصية تورث الذلَّ، ولابدّ؛ فإنّ العزّ كلّ العزّ (¬3) في طاعة الله تعالى. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي: فليطلبها بطاعة الله، فإنّه لا يجدها إلا في طاعته. وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعِزَّني بطاعتك، ولا تُذِلَّني بمعصيتك (¬4). قال الحسن البصري: إنّهم، وإن طقطقتْ بهم البغالُ، وهَملَجَتْ بهم البراذينُ (¬5)، إنّ ذلَّ المعصية لا يفارق قلوبَهم (¬6). أبى اللهُ إلا أن ¬

_ = "العقارب والخنافس والدواب يقولون: حبس عنا المطر بذنوب بني آدم". وهو صحيح عن مجاهد. (¬1) أخرجه الطبري (2/ 55) بسند لا بأس به. (¬2) س، ل: "حتى يلعنه". (¬3) "كل العز" ساقط من ز. (¬4) من دعاء جعفر الصادق. انظر الحلية (3/ 228)، وفيه: "ولا تخزني". وانظر طريق الهجرتين (39/ ب). (¬5) الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة وبخترة. والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب. انظر اللسان (هملج، برذن). (¬6) س: "رقابهم".

فصل: المعاصي تفسد العقل

يُذِلَّ من عصاه (¬1). وقال عبد الله بن المبارك (¬2): رأيتُ الذنوب تميت القلوبَ ... وقد يورث الذلَّ إدمانُها وترك الذنوب حياة القلوب .... وخير لنفسك عصيانُها وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سَوء ورُهبانُها (¬3) فصل ومنها: أنّ المعاصي تفسد العقل. فإِنّ للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل، ولابدَّ؛ وإذا طفِئ نورُه ضعُفَ ونقَصَ. وقال بعض السلف: ما عصى اللهَ أحدٌ حتّى يغيبَ عقله (¬4). وهذا ظاهر، فإنّه لو حضره عقله (¬5) لَحجَزه عن المعصية، وهو في قبضة الربّ تعالى وتحت قهره، وهو (¬6) مطّلع عليه، وفي داره وعلى بساطه، وملائكتُه شهودٌ عليه ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ ¬

_ (¬1) نقله المصنف في إغاثة اللهفان (156، 921)، وروضة المحبين (201). ونقله أبو نعيم في الحلية (2/ 177) بلفظ قريب منه. وانظر العقد (2/ 203). (¬2) ف: "وقال ابن المبارك". (¬3) بهجة المجالس (3/ 334). وانظر زاد المعاد (4/ 203) والمدارج (3/ 264). (¬4) أخرجه ابن حبان في الثقات (7/ 658) بسنده عن أبي العالية قال: "ما عصى الله عبدٌ إلا من جهالة". وجاء هذا المعنى عن مجاهد وغيره. وقال المناوي في فيض القدير (1/ 86): "ولهذا قال حكيم ... " فذكره. (¬5) ل: "حضر عقله". (¬6) ز: "وتحت قدرته هو".

فصل: كثرة الذنوب تؤدي إلى الطبع على القلب

الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه (¬1)، وواعظ النار ينهاه، والذي [28/ ب] يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعافُ أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يُقدِم على الاستهانة بذلك كلَّه والاستخفافِ به ذو عقل سليم؟ فصل ومنها: أنّ الذنوب إذا تكاثرت طُبعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما قال بعض السلف في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] قال: هو الذنب بعد الذنب (¬2). وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب (¬3). وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم (¬4). وأصل هذا أنّ القلب يصدأ من المعصية، فإن (¬5) زادت غلب ¬

_ (¬1) "وواعظ الموت ينهاه" ساقط من س. (¬2) في المدارج (3/ 223): "قال ابن عباس وغيره: هو الذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالرّان عليه" (ص). أخرجه البيهقي في الشعب (6812) عن إبراهيم بن أدهم (ز). (¬3) تفسير الطبري (24/ 201). وذكر المصنف نحوه في شفاء العليل (94) عن مجاهد (ص). أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة (196) قال الحسن: "تدرون ما الإرانة؟ الذنب بعد الذنب حتى يموت القلب". وأخرج في العقوبات (70) عن محمَّد بن واسع: "الذنب على الذنب يميت القلب" (ز). (¬4) نسبه المؤلف في شفاء العليل (94) إلى الفرّاء، وهو في معاني القرآن له (3/ 246). (¬5) ف: "فإذا".

فصل: المعاصي التي لعن الله عليها ورسوله -صلى الله عليه وسلم -

الصدأ (¬1) حتى يصير رانًا (¬2)، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف. فإن حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار (¬3) أعلاه أسفله، فحينئذ يتولاّه عدوّه، ويسوقه حيث أراد (¬4). فصل (¬5) ومنها: أنّ الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإنّه لعن على معاصٍ، وغيرُها أكبرُ منها، فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة. فلعن الواشمة والمستوشمة، والواصلة والموصولة (¬6)، والنامصة والمتنمّصة، والواشرة والمستوشرة. ولعن آكل الربا، وموكِله، وكاتبه، وشاهديه. ولعن المحلِّلَ والمحلَّلَ له. ولعن السارق. ولعن شارب الخمر، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، واَكل ثمنها، وحاملها، والمحمولةَ إليه. ¬

_ (¬1) ل: "زاد عليه الصدأ". (¬2) ف: "رينًا". (¬3) ف: "وصار". (¬4) وانظر: الباب الخامس عشر من شفاء العليل (150 - 183) "في الطبع والختم والقفل ... ". (¬5) كلمة "فصل" ساقطة من ز. (¬6) س: "الموصلة"، تحريف.

ولعن من غير منارَ الأرض، وهي أعلامها وحدودها. ولعن من لعن والديه. ولعن من اتخذ شيئًا فيه الروح (¬1) غرضًا يرميه بالسهام. ولعن المخنّثين من الرجال، والمترجّلات من النساء. ولعن من ذبح لغير الله. ولعن من أحدث حدَثًا أو آوى مُحدِثًا. ولعن المصوّرين. ولعن من عمِلَ عملَ قوم لوط. ولعن من سبّ أباه (¬2) ومن سبّ أمّه. ولعن من كمَّهَ (¬3) أعمى عن الطريق. ولعن من أتى بهيمة. ولعن من وسم دابة في وجهها. ولعن من ضارَّ بمسلم أو مكر به. ولعن زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد [19/ أ] والسُّرُج. ¬

_ (¬1) ز: "روح". (¬2) "من سب أباه و" ساقط من ز. (¬3) في س: "كمه". وفي حاشيتها أشير إلى هذه النسخة، وضبط بتشديد الميم. والمعنى: أضلّ. وفي ز: "كره"، خطأ.

ولعن من أفسد امرأة على زوجها، أو مملوكًا على سيّده. ولعن من أتى امرأةً في دبرها. وأخبر أن من باتت مهاجرةً لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح. ولعن من انتسب إلى غير أبيه. وأخبر أنّ من أشار إلى أخيه بحديدة فإنّ الملائكة تلعنه. ولعن من سبّ أصحابه. وقد لعن اللهُ من أفسد في الأرض، وقطَع رحِمَه (¬1)، وآذاه وآذى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى (¬3). ولعن الذين يرمُون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة (¬4). ولعن من جعل سبيل الكافر أهدى من سبيل المؤمن (¬5). ¬

_ (¬1) قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 22 - 23]. (¬2) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. (¬3) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} [البقرة: 159]. (¬4) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)} [النور: 23]. (¬5) س، ل: "المسلم". قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ =

ولعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرجلَ يلبس لِبسةَ المرأة (¬1)، والمرأةَ تلبس لبسةَ الرجل. ولعن الراشي، والمرتشي، والرائش، وهو الواسطة في الرشوة. ولعن علي أشياء أخر غير هذه (¬2). فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضا فاعله بأن يكون ممن يلعنه الله ورسوله وملائكته، لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه. فصل (¬3) ومنها: حرمان دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ودعوة الملائكة. فإنّ الله سبحانه أمر نبيّه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} (¬4) [غافر: 7 - 9]. ¬

_ = يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 51 - 52]. (¬1) ف: "لبس المرأة"، وكذلك فيما بعد: "لبس الرجل". (¬2) انظر تلك الأحاديث وغيرها في كتاب "مرويّات اللعن في السنة المطهرة" للشيخ باسم بن فيصل الجوابرة. (¬3) "فصل" ساقط من ز. (¬4) انفردت س بزيادة {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9].

فصل: من عقوبات المعاصي التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه

فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين، المتبعين لكتابه وسنة رسوله، الذين لا سبيل لهم (¬1) غيرهما (¬2). فلا يطمع غير هؤلاء (¬3) بإجابة هذه الدعوة إذ لم يتصف بصفات المدعو له بها. والله المستعان (¬4). فصل ومن عقوبات المعاصي: ما رواه البخاري في صحيحه (¬5) من حديث سمرة بن جندب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -[29/ ب] ممّا يُكْثِرُ أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا؟ فيقصّ عليه من شاء الله أن يقُصَّ. وإنّه قال لنا ذات غداة: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنّهما ابتعثاني، وإنّهما قالا لي: انطلِقْ، وإنّي انطلقتُ معهما. وإنّا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخَرُ قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يَهوي بالصخرة لرأسه، فيثلَغُ (¬6) رأسَه، فيتدَهْدَهُ (¬7) الحجرُ ها هنا، فيتبع الحجرَ، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان. ثم يعود عليه، فيفعل به مثلَ ما فعل المرّةَ الأولى" (¬8). قال: "قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ. فانطلقنا، فأتَينا على رجلٍ مستلقٍ لِقفاه، وإذا آخَرُ قائمٌ عليه ¬

_ (¬1) س، ز: "له". وفي حاشية س: "ظ لهم". (¬2) ل: "غيرها". (¬3) "فلا يطمع غير هؤلاء" ساقط من ل. (¬4) ز: "وبالله المستعان". (¬5) في كتاب التعبير، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (7047). (¬6) أي يشدخه ويكسره. (¬7) أي يتدحرج. (¬8) س: "فعل به ... ". ف: "فعل في الأولى".

بكَلُّوب (¬1) من حديد، وإذا هو يأتي أحدَ شِقَّيْ وجهِه، فيُشَرْشِرُ شِدْقَه (¬2) إلى قفًاه، ومِنخرَه إلى قفاه، وعينَه إلى قفاه. ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول. فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل مافعل (¬3) في المرة الأولى". قال: "قلتُ سبحان الله! ما هذان (¬4)؟ فقالا لي: انطلِقْ انطلِقْ. فانطلقنا، فأتينا على مثل التنّور، وإذا (¬5) فيه لغَط وأصوات". قال: "فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عُراة، وإذا هم يأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهبُ ضَوْضَوْا (¬6) ". فقال: "قلتُ ما هؤلاء (¬7)؟ قال: "قالا لي: انطلِقْ انطلق". قال: "فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، فإذا (¬8) في النهر رجلٌ سابحٌ يسبح، وإذا على شط النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك (¬9) الذي قد جمع عنده الحجارةَ (¬10)، فيفغر له فاه، فيُلقِمه حجرًا، فينطلق، فيسبح، ثم ¬

_ (¬1) الكلوب: حديدة معوجّة الرأس. (¬2) الشدق: جانب الفم. وشرشرة الشيء: تقطيعه وتشقيقه. (¬3) ز: "فيفعل به ... ". "مثل مافعل" ساقط من ل. (¬4) ف: "ما هذا". (¬5) ف: "فإذا". (¬6) ضوضى القوم: صاحوا واختلطت أصواتهم. (¬7) ز: "من هؤلاء". (¬8) ز: "وإذا". (¬9) ف: "إلى ذلك". (¬10) "كثيرة ... الحجارة" ساقط من ز.

يرجع إليه. كلّما رجع إليه فغَر له فاه، فألقمه حجرًا (¬1) قلتُ لهما (¬2): ما هذان؟ قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ. فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المَرْآةِ (¬3)، كأكره (¬4) ما أنت راءٍ رجلًا مَرْأىً، وإذا هو عنده نارٌ يحُشها (¬5) ويسعى حولها". قال: "قلتُ لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ. فانطلقنا، فأتينا على روضة مُعْتمّة (¬6) فيها من كلّ نَور الربيع، وإذا بين ظهرانَي الروضة (¬7) رجل طويل لا أكاد أرى رأسه [30/ أ] طولًا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثرِ ولدان رأيتُهم (¬8) قطُّ". قال: "قلتُ: ما هذا؟ وما هؤلاء (¬9)؟ "قال: "قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ. فانطلقنا، فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحةً قطّ (¬10) أعظمَ منها ولا أحسنَ (¬11)! " قال: "قالا لي: ارقَ فيها، فارتقينا فيها إلى مدينة مبنيّة بلَبِنِ ذهب ولبِنِ فضّة". قال: "فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففُتِح لنا، ¬

_ (¬1) "فينطلق فيسبح ... حجرًا" ساقط من ف. (¬2) "لهما" ساقط من ف. (¬3) المرآة والمرأى: المنظر. (¬4) س، ز: "أو كاكره". (¬5) ف: "عند نارِ ... ". ويحشّها: يوقدها. (¬6) من اعتمّ النبت إذا التفّ وطال. وانظر: فتح الباري (12/ 443). (¬7) ف: "ظهر الروضة" ز: "ظهري الربيع الروضة"! (¬8) ز: "ما رأيتهم". (¬9) لم ترد واو العطف في س. وفي ل: "قلت: ما هؤلاء". (¬10) ف: "قط دوحة". (¬11) س: "وأحسن".

فدخلناها، فتلقّانا رجالٌ شطرٌ من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر منهم كاقبح ما أنت راءٍ". قال: "قالا لهم: اذهبوا، فقَعُوا في ذلك النهر". قال: "وإذا نهر معترض يجري كأنّ ماءَه المحضُ (¬1) في البياض. فذهبوا، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، وقد ذهب ذلك السوء عنهم". قال: "قالا لي: هذه جنّة عدن، وهذاك منزلك". قال: "فسمَا بصَري صُعُدًا، فإذا قصرٌ (¬2) مثل الرَّبابة البيضاء" (¬3). قال: "قالا لي: هذاك (¬4) منزلك". قال: "قلت لهما: بارك الله فيكما، فذراني فأدخُلَه. قالا: أمّا الآن فلا، وأنت داخله". قال: "قلت لهما: فإنّي رأيتُ منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ " قال: "قالا (¬5): أمَا إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يثلَغ رأسُه بالحجر، فإنّه الرجل يأخذ القرآنَ، فيرفُضه، وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يُشَرْشَرُ شدقُه إلى قفاه، ومنخرُه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكَذْبةَ تبلغُ الآفاق. وأما الرجال والنساء العُراة الذين هم في مثل بناء التنّور، فإنّهم الزناة والزواني. ¬

_ (¬1) اللبن الخالص بلا رغوة أو شَوب ماء. (¬2) "قصر" ساقط من س. (¬3) الربابة: السحابة. (¬4) ل: "هذا". (¬5) ز: "قالا لي".

فصل: المعاصي تحدث في الأرض أنواعا من الفساد

وأما الرجل الذي أتيتَ (¬1) عليه يسبَح في النهر، ويُلقَم الحجارةَ، فإنه آكل الربا. وأما الرجلُ الكريهُ المَرآةِ الذي عند النار يحُشّها ويسعى حولها، فإنّه مالكٌ خازنُ جهنم (¬2). وأما الرجل الطويل الذي (¬3) في الروضة، فإنّه إبراهيم. وأما الولدان الذين حوله، فكلُّ مولودٍ مات على الفطرة"- وفي رواية البرقاني: "وُلِدَ على الفطرة"- فقال بعض المسلمين؛ يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كانوا شطرٌ منهم حسنٌ، وشطرٌ منهم قبيحٌ، فإنّهم قوم خلطوا عملًا صالحًا [30/ ب] وآخَرَ سيئًا، تجاوز الله عنهم" (¬4). فصل ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تُحدِث في الأرض أنواعًا (¬5) من الفساد في المياه، والهواء، والزروع (¬6)، والثمار، والمساكن. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41]. ¬

_ (¬1) ف: "مررت". (¬2) ز: "خازن النار". (¬3) "الذي" ساقط من ف. (¬4) ز: "سيئا عسى الله أن يتوب عليهم يجاوز عنهم"! (¬5) ز: "أمورًا". (¬6) ل: "الزرع".

قال مجاهد (¬1): إذا ولّى الظالم سعى بالظلم والفساد، فيحبس اللهُ بذلك القَطْرَ، فيهلك الحرث والنسل، والله لا يحبّ الفساد. ثم قرأ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية، ثم قال: أما والله ما هو بحرَكم هذا، ولكن كلُّ قرية على ماءِ جارٍ فهو بحر. وقال عكرمة: ظهر الفساد في البرّ والبحر، أما إنّي لا أقول: بحركم هذا، ولكن كلّ قرية على ماء (¬2). وقال قتادة: أما البرّ فأهل العمود، وأما البحر فأهل القرى والريف (¬3) قلت: وقد (¬4) سمّى الله تعالى الماء العذب (¬5) بحرًا، فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (¬6) [الفرقان: 53]. وليس في العالم بحر حلو واقف، وإنّما هي (¬7) الأنهار الجارية، والبحر ¬

_ (¬1) في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205] انظر تفسير الطبري (3/ 583)، (18/ 510). (ص) وسنده صحيح (ز). (¬2) تفسير الطبري (18/ 510). (ص). وسنده صحيح (ز). (¬3) تفسير الطبري (18/ 511). (ص). وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/ 86 (2284)، وسنده صحيح (ز). (¬4) س: "قلت قد". (¬5) ف: "لنا العذب". وزاد بعضهم في الحاشية: "الماء". ولعلّ "لنا" تحريف "الماء". (¬6) وقع في غير س بعد "فرات": "سائغ شرابه"، لاشتباه بين هذه الآية وبيّن الآية (12) من سورة فاطر. (¬7) ف، ز: "واقفًا". ثم تحرّف "حلو" في ز إلى "خلق"، كما تحرّف "وإنما هي" =

المالح هو الساكن، فسمَّى (¬1) القرى. التي على المياه الجارية باسم تلك المياه. وقال ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] قال: الذنوب (¬2). قلت: أراد أنّ الذنوب (¬3) سبب الفساد الذي ظهر. وإن أراد أنّ الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها، فيكون قوله (¬4) {لِيُذِيقَهُمْ} لام العاقبة والتعليل. وعلى الأول، فالمراد بالفساد النقصُ والشرُّ والآلامُ التي يُحدثها الله في الأرض عند معاصي العباد، فكلّما أحدثوا ذنبًا أحدث لهم عقوبةً، كما قال بعض السلف: كلّما أحدثتم ذنبًا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبةً (¬5). والظاهر- والله أعلم- أنّ "الفسادَ" المرادُ به الذنوبُ وموجَباتها (¬6). ويدل عليه قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}. فهذا حالنا، وإنّما أذاقنا الشيءَ اليسيرَ من أعمالنا، فلو (¬7) أذاقنا كلَّ أعمالنا لما ¬

_ = في ف إلى "دائمًا بين". (¬1) ل: "فتسمى". ز: "فيسمى". (¬2) تفسير الطبري (18/ 511). (ص). وسنده صحيح (ز). (¬3) س: "الذنب". (¬4) في ط: "فيكون اللام في قوله"، وهو وجه الكلام، ولكن النسخ كلها اتفقت على ما أثبتنا. (¬5) أخرجه ابن أبي الدنيا في العقوبات (50) عن مالك بن دينار عن الحجاج، وفيه: "من سلطانكم". (¬6) ف: "وهو حياتها"، تحريف طريف. (¬7) ف: "ولو".

ترك (¬1) على ظهرها من دابة. ومن تأثير معاصي الله في الأرض: ما يحِل بها من الخسف، والزلازل، ومَحْقِ بركتِها (¬2). وقد مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ديار ثمود، فمنعهم من دخول ديارهم، ومن شرب مياههم (¬3)، ومن الاستقاء من آبارهم (¬4)، حتى أمر أن يُعلَف (¬5) العجينُ الذي عُجنَ [31/ أ] بمائهم (¬6) للنواضح (¬7)، لتأثير شؤم المعصية في الماء. وكذلك شؤم تأثير الذنوب في نقص الثمار وما تُرمَى (¬8) به من الآفات. وقد ذكر الإِمام أحمد في مسنده (¬9) في ضمن حديث قال: وُجِدَت في خزائن بني أمية حنطةٌ، الحبةُ بقدر نواة التمر (¬10). وهي في ¬

_ (¬1) ل: "ما ترك". (¬2) ز: "ويمحق بركتها". (¬3) ف: "مائهم". (¬4) ف: "أبيارهم". (¬5) س: "أن لا يعلف"، خطأ. (¬6) س: "بمياههم". (¬7) يعني: الإبل. والحديث أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (3379)؛ ومسلم في الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ... (2981) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬8) س: "ترى". ز: "مما يرمى". (¬9) 2/ 296 (7949). وأخرجه العباس الدوري في تاريخه عن ابن معين 4/ 191 (3897) بمثله إلاّ أن قال: "بطاعة الله" بدل "بالعدل". وسنده صحيح إلى أبي قحذم. (¬10) س: "الثمرة".

صُرّة مكتوبٍ عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل (¬1). وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه بما أحدث العباد من الذنوب. وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن، وكثير من هذه الآفات التي تصيبها (¬2) لم يكونوا يعرفونها، وإنّما (¬3) حدثت من قرب. وأما تأثير الذنوب (¬4) في الصور والخلق، فقد روى الترمذي في جامعه (¬5) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خلق الله آدم، وطولُه في السماء ستّون (¬6) ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقصُ حتّى الآن". ولمّا يطهِّر (¬7) الله سبحانه الأرضَ من الظلَمة والفجرة والخوَنة (¬8)، ¬

_ (¬1) ل: "زمان العدل". ز: "عليها: نبت في زمن العدل". ولفظ المسند: "وجد في زمن زياد أو ابن زياد صرّة فيها ححب أمثال النوى، عليه مكتوب: هذا نبت في زمان كان يُعمل فيه بالعدل". (¬2) ل: "لم تصبها"، خطأ. (¬3) ل: "فإنما". (¬4) "لم يكونوا ... الذنوب" ساقط من ف. (¬5) كذا وقع هنا، وهو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، وإليهما عزاه المؤلف في زاد المعاد (2/ 422)، والمنار المنيف (66) 0 انظر صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته (3326)، وصحيح مسلم، كتاب الجنّة، باب يدخل الجنّة أقوام ... (2841). (¬6) ف: "وكان طوله ... ستين". (¬7) كذا في جميع النسخ. ولمّا الحينية مختصة بالفعل الماضي. وجاء نحوه في نونية المؤلف (442، 1201، 3081). وفي ط: "فإذا أراد الله أن يطهر"، ولعله إصلاح للنصّ. (¬8) س: "الخونة والفجرة".

ويُخرجُ عبدًا من عباده من أهل بيت نبيه (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، فيملأ الأرض قسطا (¬2) كما ملئت جورًا (¬3)، ويقتل المسيحُ اليهودَ والنصارى، ويقيم الدين الذي بعث الله به رسولَه (¬4) - تُخرِجُ الأرضُ (¬5) بركتَها، وتعود كما كانت، حتّى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمّانة، ويستظلون بقِحْفِها (¬6)، ويكون العنقود من العنب وِقْرَ بعير (¬7)، وإنّ اللِّقحة (¬8) الواحدة لَتكفي الفئام (¬9) من الناس (¬10). وهذا لأن الأرض لما طهرت من المعاصي ظهرت (¬11) فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر. ولا ريب أنّ العقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقيت آثارها سارية في الأرض تطلب ما يشاكلها من الذنوب التي هي آثار تلك الجرائم التي عُذَبتْ بها الأمم. فهذه الآثار في الأرض (¬12) من آثار تلك العقوبات، ¬

_ (¬1) ز: "نبيه محمد". (¬2) س: "عدلاَ". (¬3) كما ثبت في الأحاديث الواردة في المهدي عليه السلام. وانظر تفصيل القول فيها في المنار المنيف للمؤلف (148 - 153). (¬4) س: "رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -". ل: "بعث به رسوله". (¬5) ل: "وتخرج الأرض" بالواو، ولعله خطأ فإن "تخرج" هنا جواب لمّا. (¬6) يعني قشرها، تشبيهَا بقحف الرأس، وهو الذي فوق الدماغ. وقيل هو ما انفلق من جمجمته وانفصل. النهاية (4/ 17). (¬7) الوِقر: الحِمل. (¬8) وهي الناقة القريبة العهد بالنّتاج. النهاية (4/ 262). (¬9) ما عدا ف: "تكفي الفئام". والفئام: الجماعة الكثيرة. النهاية (3/ 456). (¬10) كما ثبت في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (2937). (¬11) س: "ظهر". (¬12) "تطلب ... الأرض" ساقط من ز.

فصل: المعاصي تطفئ من القلب نار المغيرة

كما أنّ هذه المعاصي من آثار تلك الجرائم. فتناسبت حكمة الله (¬1) وحكمه الكوني أولًا وآخرًا، وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية، والأخف للأخف. وهكذا يحكم سبحانه بين خلقه في دار البرز ودار الجزاء. وتافلْ مقارنةَ الشيطان [31/ ب] ومحلَّه ودارَه، فإنّه لما قارن (¬2) العبدَ واستولى عليه، نُزِعَت البركةُ من عمره، وعمله، وقوله، ورزقه. ولمّا أثرت طاعتُه في الأرض ما أثّرت نُزِعَت البركةُ من كلّ محلّ ظهرت فيه طاعته. وكذلك مسكنه لما كان الجحيم لم يكن هناك شيء من الرَّوح والرّحمة والبركة. فصل ومن عقوبات الذنوب: أنّها تطفئ من القلب نارَ المغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن. فالغيرة حرارته وناره التي تُخرج ما فيه من الخَبَث والصفات المذمومة، كما يُخرج الكِيرُ خَبَث الذهب والفضة والحديد. وأشرف الناس وأعلاهم همّةً أشدُّهم (¬3) غيرة على نفسه، وخاصته، وعموم الناس. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أغيرَ الخلق على الأمة، والله سبحانه أشدّ غيرةً منه، كما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغيَرُ منه، والله أغيَرُ منّي" (¬4). ¬

_ (¬1) ف: "كلمة الله"، تحريف. (¬2) ز: "قارب". (¬3) س: "أشرفهم"، تحريف. (¬4) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الحدود، باب =

وفي الصحيح أيضًا عنه أنّه قال في خطبة الكسوف: "يا أمَّةَ محمَّد، ما أحدٌ أغيرَ من الله أن يزنيَ عبدُه، أو تزنيَ أمَتُه" (¬1). وفي الصحيح أيضا عنه أنّه (¬2) قال: "لا أحدَ أغيرُ من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين. ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه" (¬3). فجمع في هذا الحديث بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ القبائح وبغضُها (¬4)، ومحبةِ العذرِ الذي يوجب كمال العدل والرحمة والإحسان. وأنّه سبحانه مع شدّة غيرته يحِبّ أن يعتذر إليه عبدُه، ويقبل عذرَ من اعتذر إليه، وأنّه لا يؤاخذ عبيده بارتكاب ما يَغار من ارتكابه حتى يُعذِرَ إليهم. ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه إعذارًا وإنذارًا. وهذا غاية المجد والإحسان، ونهاية الكمال، فإنّ كثيرًا ممن تشتدّ غيرته من المخلوقين تحمله شدّةُ المغيرة على سرعة الإيقاع (¬5) والعقوبة ¬

_ = من رأى مع امرأته رجلاًَ فقتله (6846)؛ ومسلم في كتاب اللعان (1499) وسعد هو سعد بن عبادة رضي الله عنه. (¬1) من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري في الكسوف، باب الصدقة في الكسوف (1044)؛ ومسلم في الكسوف، باب صلاة الكسوف (901). (¬2) "أنه" لم يرد في ف. (¬3) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في التفسير، باب {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (4634)؛ ومسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى (2760). (¬4) ف: "القبائح بغضًا". (¬5) ف: "شدة الإيقاع".

من غير إعذار منه، ومن غير قَبولي لِعذر من اعتذر إليه؛ بل يكون له في نفس الأمر عذرٌ، ولا تَدَعُه شدةُ المغيرة أنَ يقبل عذرَه. وكثير [32/ أ] ممن يقبل المعاذير يحمله على قبولها قلّةُ المغيرة حتى يتوسّع في طرق المعاذير، ويرى (¬1) عذرًا ما ليس بعذر، حتى يعذِر كثير منهم بالقدَر. وكلٌّ منهما غيرُ ممدوح على الإطلاق. وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنّ من الغيرة ما يحبّها الله، ومنها ما يبغضه الله. فالتي يبغضها (¬2) الغيرةُ في غير ريبة" (¬3). وذكر الحديث (¬4). وإنّما الممدوح اقتران المغيرة ¬

_ (¬1) ف: "ويرى في طرق المعاذير". (¬2) ل: "يبغضها الله". (¬3) س: "من غير ريبة". (¬4) أخرجه أحمد 4/ 154 (17398) وعبد الرزاق في الجامع 10/ 409 - 410 (19522) والطبراني 17/ 340 (939) وابن خزيمة (2478) وغيرهم، من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن عبد الله بن زيد الأزرق عن عقبة بن عامر فذكره. ورواه هشام الدستوائي عن يحيى قال: حُدِّثتُ أن أبا سلام قال حدثني عبد الله بن زيد أن عقبة بن عامر قال، فذكره. أخرجه الطبراني 17/ 341 (940). ورواه أبان العطار والأوزاعي وحجاج الصواف وحرب بن شداد كلهم عن يحيى بن أبي كثير عن محمَّد بن إبراهيم التيمي عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه فذكره. أخرجه أحمد (23747، 23748، 23752) والطبرانى 2/ 189 - 190 (1773 - 1777) وابن حبان (295) وغيرهم. ورواه شيبان واختلف عنه، فرواه عبيد الله بن موسى عن شيبان مثل رواية الجماعة. أخرجه الطبراني 2/ 190 (1777). ورواه وكيع عن شيبان عن يحيى فجعله من مسند أبي هريرة. أخرجه ابن ماجه (1996). وطريق الجماعة هو أرجحها مع أن فيه ابن جابر بن عتيك وهو إما =

بالعذر، فيغار في محل المغيرة، ويعذِر في موضع العذر. ومن كان هكذا فهو الممدوح حقًا. ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلَّها كان أحقَّ بالمدح من كلّ أحد، ولا يبلغ أحد أن يمدحَه كما ينبغي له، بل هو كما مدح نفسَه وأثنى على نفسه. فالغيور قد وافق ربّه سبحانه في صفة من صفاته، ومن وافق (¬1) الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه (¬2)، وأدخلَتْه على ربّه، وأدْنَتْه منه، وقرّبتْه من رحمته، وصيّرتْه محبوبًا له. فإنه سبحانه رحيم يحبّ الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحبّ العلماء، قوي يحبّ المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، (¬3) حييّ يحبّ أهل الحياء (¬4)، جميل يحبّ الجمال، وِتْر يحبّ الوتر (¬5). ¬

_ = عبد الرحمن، وهو مجهول؛ أو أبو سفيان كما جزم به ابن حبان وفيه جهالة. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وابن حجر وغيرهم، وفيه نظر. انظر حاشية الأسماء والصفات للبيهقي (467/ 2 - 469). (¬1) "ربه ... وافق" ساقط من ل. (¬2) ز: "بزمامه إليه". ل: "إليه تلك الصفة بزمامه". (¬3) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب الإيمان بالقدر (2664). (¬4) في حديث يعلي بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى حيي ستير، يحبّ الحياء والستر". أخرجه أحمد (4/ 224) وأبو داود (4012) والنسائي (404). وانظر تحقيق المسند (29/ 483 - 484). (¬5) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الدعوات، باب لله مائة اسم غير واحدة (6410)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب في أسماء الله تعالى (2677).

ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلاّ أنها توجب لصاحبها ضدَّ هذه الصفات، وتمنعه من الاتصاف بها لكفى بها عقوبةً. فإنّ الخطرة تنقلب وسوسة، والوسوسة تفسير إرادةً، والإرادة تقوى فتصير عزيمة، ثم تفسير فعلًا، ثم تفسير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة، وحينئذ يتعذر الخروج منها كما يتعذر عليه (¬1) الخروج من صفاته القائمة به (¬2). والمقصود وفي أنه كلّما اشتدّت ملابسته الذنوب (¬3) أخرجت من القلب الغيرةَ على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدًّا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح، لا من نفسه ولا من غيره. وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك. وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يحسِّن الفواحش والظلم لغيره، ويزينه له، ويدعوه إليه، ويحثّه عليه، ويسعى له في تحصيله. ولهذا كان الديّوث أخبث خلق الله، والجنة حرام عليه (¬4). وكذلك محلّل الظلم والبغي لغيره، ومزيّنه له. فانظر [32/ ب] ما الذي حملت عليه قلة المغيرة! وهذا يدلّك على أنّ أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له. فالغيرة تُحمي القلبَ، فتحمَى له الجوارحُ، فتدفع السوء والفواحش. ¬

_ (¬1) "عليه" من ل، ز. (¬2) "به" ساقط من س. (¬3) ما عدا ل: "ملابسة الذنوب". (¬4) كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا يدخلون الجنّة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق بوالديه، والمرأة المترجّلة المتشبهة بالرجال، والديوث ... " أخرجه الإِمام أحمد في المسند (6180) وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي. انظر تحقيق المسند 10/ 322 (ص).

فصل: المعاصي تضعف الحياء وربما تذهبه

وعدمُ الغيرة يميت (¬1) القلبَ، فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة. ومَثلُ الغيرة في القلب كمثلِ (¬2) القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداءُ المحل قابلًا، ولم يجد دافعًا، فتمكّن، فكان الهلاك. ومَثلُها مثل صياصي الجاموس (¬3) التي يدفع (¬4) بها عن نفسه وولده، فإذا كُسِرَت طمع فيه عدوّه. فصل ومن عقوباتها: ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابُه ذهابُ الخير أجمعه. وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحياء خير كله" (¬5). وقال: "إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستَحْي (¬6) فاصنَعْ ما شئتَ! " (¬7). وفيه تفسيران: أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنّه ¬

_ (¬1) ما عدا س: "تميت"، وهو تصحيف، ولا يصحّ هنا أن يرجع الضمير إلى الغيرة. (¬2) س، ف: "مثل". (¬3) يعني: قرونه. (¬4) ف: "الذي يدفع". (¬5) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان ... (37). (¬6) ل: "لم تستح"، وكلاهما وارد. (¬7) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (3483، 3484) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.

يصنع ما شاء (¬1) من القبائح، إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يزَعُه (¬2) من القبائح، فإنّه يواقعها. وهذا تفسير أبي عبيد (¬3). والثاني: أنّ الفعلَ إذا لم تستح (¬4) منه من الله فافعله، وإنما الذي (¬5) ينبغي تركه ما يستحى منه من الله (¬6). وهذا تفسير الإِمام أحمد في رواية ابن هانئ (¬7). فعلى الأول يكون تهديدًا، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وعلى الثاني يكون إذنًا وإباحةً. فإن قيل: فهل من سبيل إلى حمله على المعنيين؟ قلت: لا، ولا على قول من يحمل المشترك على جميع معانيه، لما بين الإباحة والتهديد من المنافاة، ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر. والمقصود أنّ الذنوب تُضْعِف الحياء من العبد حتى ربّما انسلخ منه بالكلية، حتى إنّه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه، بل كثير منهم يخبر عن حاله (¬8) وقبيح (¬9) ما يفعله، والحامل له ¬

_ (¬1) ف، ل: "يشاء". (¬2) أي يكفه. وفي ف: "يزعجه". (¬3) غريب الحديث (2/ 330). (¬4) س، ل: "لم يستحي". (¬5) "الذي" ساقط من ز. (¬6) "فافعله ... من الله" ساقط من ل. (¬7) س:"التفسير للإمام أحمد رواية ... ". ولم أجده في المطبوع من مسائل ابن هانئ. (¬8) "ولا باطلاعهم ... حاله" ساقط من ف. (¬9) ما عدا ف: "قبح".

فصل: المعاصي تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله

على ذلك انسلاخه من الحياء. وإذا وصل العبد إلى هذه الحال (¬1) لم يبق في صلاحه (¬2) مطمع، كما قيل (¬3): وإذا رأى إبليسُ طلعةَ وجهه ... حَيَّا، وقال: فديتُ مَن لايفلحُ (¬4) والحياء مشتقّ من الحياة، والغْيث يسمَّى (¬5) "حيًا" بالقصر لأنّ به حياةَ الأرض [33/ أ] والنبات والدوابّ، وكذلك (¬6) بالحياء حياةُ الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه ميِّتٌ في الدنيا شقئٌ في الآخرة. وبيّن الذنوب وبيّن قلّة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، وكلّ منهما يستدعي الآخر، ويطلبه حثيثًا. ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستحْيِ من معصيته لم يستحيِ من عقوبته (¬7). فصل ومن عقوبات الذنوب: أنّها تُضْعِف في القلب تعظيمَ الربّ جل جلاله، وتُضْعِف وقارَه في قلب العبد، ولابدّ، شاء أم أبى. ولو تمكّن وقارُ الله وعظمتُه في قلب العبد لما تجرّأ على معاصيه. ¬

_ (¬1) س: "الحالة". (¬2) ل: "إصلاحه". (¬3) "كما قيل" انفردت به ف. والبيت للبحتري في ديوانه (1/ 482). (¬4) "لا يفلح" كذا ورد في جميع النسخ، والصواب في الرواية: "لم يفلحِ" لأن رويّ الأبيات مكسور. (¬5) ف: "سمّي". (¬6) زيد في ط هنا "سميت"، وهو خطأ ادى إليه تصحيف "بالحياء" إلى "بالحياة". (¬7) س: "ومن لم يستحي الله تعالى ... ". ل: " ... لم يستحي الله من عقوبته".

وربما اغترّ المغترّ وقال: إنما يحملني على المعاصى حسنُ الرَّجاء وطمعي في عفوه، لا ضعف عظمته في قلبي. وهذا من مغالطة النفس، فإنّ عظمةَ الله وجلالَه في قلب العبد وتعظيمَ حرماته تحول بينه وبيّن الذنوب. فالمتجرّئون (¬1) على معاصيه ما قدروه (¬2) حقّ قدره، وكيف يقدره حقَّ قدره أو يعظِّمه ويكبّره ويرجو وقاره ويُجلّه من يهون عليه أمرُه ونهيُه؟ هذا من أمحل المحال (¬3)، وأبين الباطل! وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحلَّ من قلبه تعظيمُ الله جل جلاله، وتعظيمُ حرماته، ويهونَ عليه حقّه. ومن بعض عقوبة هذا: أن يرفع الله عَزَّ وَجَلَّ مهابتَه من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفّون به، كما هان عليه أمره، واستخفّ به. فعلى قدر محبة العبد لله (¬4) يحبّه الناس. وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس (¬5)، وعلى قدر تعظيمه لله (¬6) وحرماتِه يعظّم الناس (¬7) حرماته. وكيف ينتهك عبدٌ حرماتِ الله، ويطمع أن لا ينتهك الناسُ حرماته؟ أم كيف يهون عليه حقُّ الله، ولا يهوّنه الله على الناس؟ أم كيف يستخفّ ¬

_ (¬1) ف: "والمتجرئون". (¬2) ف: "ما قدروا الله". (¬3) الميم في "المحال" زائدة، فصياغة "أمحل" منه مبنية على التوهم وقد وردت في غير مثل. انظر مجمع الأمثال (3/ 357 - 359). وقد تكرر "أمحل المحال" في كتب المؤلف، انظر مثلًا زاد المعاد (1/ 36، 207، 272)، (2/ 192). (¬4) ف: "الله". (¬5) س، ل: "الخلق". ل، ز: تخافه. (¬6) ف: "تعظيمه الله". (¬7) ف، ز: "تعظم".

فصل: المعاصي تستدعي نسيان الله لعبده

بمعاصي الله، ولا يستخِفا به الخلق؟ وقد أشار سبحانه إلى هذا (¬1) في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابَها بما كسبوا، وغطّى على قلوبهم، وطبع (¬2) عليها بذنوبهم، وأنّه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيّعهم كما [33/ ب] ضيّعوا أمره. ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، فإنهم (¬3) لما هان عليهم السجود له، واستخفّوا به، ولم يفعلوه، أهانهم، فلم يكن لهم من مُكرِمٍ بعد أن أهانهم. ومن ذا يكرِم من أهانه الله، أو يهين من أكرمه الله (¬4)؟ فصل ومن عقوباتها: أنّها تستدعي نسيانَ الله لعبده، وتركَه، وتخليتَه بينه وبيّن نفسه وشيطانه. وهناك الهلاك الذي لا يرجى (¬5) معه نجاة. قال قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 18 - 19]. فأمر (¬6) بتقواه، ونهى أن يتشبّه عباده المؤمنون بمن نسيَه بترك ¬

_ (¬1) "إلى هذا" ساقط من ز. (¬2) ف: "فطبع". (¬3) ز: "فإنه". وفي س: "كأنهم"، تحريف. (¬4) ف: "أكرم الله". (¬5) س: "لا ترجى". (¬6) ف: "فأمر الله".

تقواه، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي أنساه مصالحَها، وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية وكمال لذتها (¬1) وسرورها ونعيمها، فأنساه ذلك كلَّه جزاءً لما نسيه من عظمته وخوفه والقيام بأمره. فترى العاصي مهمِلًا لمصالح نفسه، مضيِّعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا. قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته، وقد فرّط في سعادته الأبدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذّة إنما هي سحابة صيف (¬2) أو خيال طيف! أحلامُ نومٍ أو كظلّ زائل ... إنّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ (¬3) وأعظمُ العقوبات نسيانُ العبد لنفسه، وإهمالُه لها، وإضاعتُه (¬4) حظَّها ونصيبَها من الله، وبيعُها ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن. فضيَّعَ من لا غنى له عنه، ولا عوض له منه، واستبدل به مَن عنه كلُّ الغنى، ومنه كلُّ العِوَض. من كلّ شيء إذاضيّعتَه عوضٌ ... وما من الله إنْ ضيّعتَه عوضُ (¬5) ¬

_ (¬1) ز: "كماله بها"، تحريف. (¬2) ز: "سحابة من صيف". (¬3) أنشده المؤلف في عدة الصابرين (356)، ومفتاح دار السعادة (1/ 462) أيضًا. وهو من أبيات لعمران بن حِطان في خزانة الأدب (5/ 361). وانظر شعر الخوارج (155). (¬4) ز: "إضاعة". (¬5) أنشده المؤلف في زاد المعاد (4/ 192) ومفتاح دار السعادة (3/ 35). وسيأتي مرة أخرى في ص (465). وهو بدون عزو في طبقات الشافعية (8/ 228)، وفيه: "في كل شي ... وليس في الله". وفي س حاشية لبعض القرّاء نصّها: =

فصل: المعاصي تخرج العبد من دائرة الإحسان والمحسنين

فالله سبحانه يعوّض عن كلّ ما سواه (¬1)، ولا يعوّض منه شيء. ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء. ويمنع من كل شيء (¬2)، ولا يمنع منه شيء. ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء (¬3). فكيف يستغني العبد عن طاعةِ مَن هذا شأنُه [34/ أ] طرفةَ عين؟ وكيف ينسى ذكره ويضيّع أمرَه حتى يُنسيَه نفسَه، فيخسرَها، ويظلمَها أعظمَ الظلم؟ فما ظلم العبدُ ربَّه، ولكن ظلم (¬4) نفسَه. وما ظلمه ربه، ولكن هو الذي ظلم نفسَه! فصل ومن عقوباتها: أنّها تُخرِجُ العبدَ من دائرة "الإحسان" وتمنعه ثوابَ المحسنين. فإنّ "الإحسان إذا باشر القلبَ منَعَه من المعاصي (¬5)، فإن من عَبَدَ الله كأنّه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنه يشاهده، وذلك يحول بينه وبيّن إرادة المعصية، فضلًا عن مواقعتها. فإذا خرج من دائرة "الإحسان فاته صحبةُ رُفَقِه (¬6) الخاصة، وعيشُهم الهنيء، ونعيمُهم التام. ¬

_ = "لأبي حنيفة رحمه الله، وهو آخر ما تكلم به عند موته: لكل شيء إذا فارقته عوض ... وليس لله إن فارقته عوض" (¬1) س: "كل شيء سواه". (¬2) "ولايغني ... كل شيء" ساقط من ل. (¬3) "ويجير ... شيء" مقدّم في ف على "ويمنح ... شيء". (¬4) في س: "يظلم" هنا وفي الجملة السابقة. (¬5) س: "عن المعاصي". (¬6) كذا في النسخ كلها دون ضبط. و"الرُّفَق" جمع الرفقة كالرِّفاق. وفي ط: "رفقته" وأخشى أن يكون الصواب: "فاتته رفقة الخاصة" أي صحبتهم، وتكون كلمة "صحبة" مقحمة، كما قال بعد قليل: "فاته رفقة المؤمنين". و"فاته" ساقط من ل.

فإن أراد الله به خيرًا أقرّه في دائرة عموم المؤمنين، فإن عصاه بالمعاصي التي تخرجه من دائرة الإيمان، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبةً ذاتَ شرفٍ يرفع إليه فيها الناسُ (¬1) أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن. فإيّاكم إيّاكم، والتوبةُ معروضهٌ بعد" (¬2) = خرَج (¬3) من دائرة الإيمان، وفاته رفقةُ المؤمنين وحسنُ دفاع الله عنهم (¬4)، فإنّ الله يدفع عن الذين آمنوا، وفاته (¬5) كلُّ خير رتّبه الله في كتابه على الإيمان، وهو نحو مائة خصلة، كلُّ خصلة منها خيرٌ من الدنيا وما فيها: فمنها: الأجر العظيم: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146]. ومنها: الدفع عنهم شرورَ الدنيا والآخرة (¬6). {إِنَّ اللَّهَ يُدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬7) [الحج: 38]. ¬

_ (¬1) ز: "الناس إليه فيها". (¬2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه (2475)، ومسلم في الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ... (57) واللفظ له. (¬3) "خرج" جواب "فإن عصاه بالمعاصي". وفي ف: "فإن خرج"، وهو خطأ. وقارِن بالمطبوعة. (¬4) ف: "عنه". (¬5) ف: "فاته"، وهو جواب "فإن خرج" كما جاء فيها، ولكن إن صحّ هذا بقي "فإن عصاه" دون جواب. (¬6) "شرور الدنيا والآخرة" لم يرد في س. وأخشى أن تكون زيادة من غير المؤلف. (¬7) هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو من السبعة، وقرأ غيرهما: "يدافع". انظر الإقناع (706).

ومنها: استغفار حملة العرش لهم (¬1). {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]. ومنها: موالاة الله لهم، ولا يذلّ من (¬2) والاه الله. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]. ومنها: أمر ملائكتَه بتثبيتهم (¬3). {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. ومنها: أنّ لهم الدرجات (¬4) عند ربهم، والمغفرة، والرزق الكريم (¬5). ومنها: العزة. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ومنها: معية الله لأهل الإيمان. {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. ومنها: [34/ ب] الرفعة في الدنيا والآخرة. {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. ومنها: إعطاؤهم كِفْلَين من رحمته، وإعطاؤهم نورًا يمشون به، ومغفرةُ ذنوبهم (¬6). ¬

_ (¬1) ف: "الملائكة وحملة العرش". و"لهم" ساقطة من س. (¬2) ف: "ولابد" مع ضبط "من" بكسر الميم، وهو تحريف. (¬3) ز: "بتثبيتها". (¬4) ف: "درجات". (¬5) كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 4]. (¬6) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ =

ومنها: الودّ الذي يجعله سبحانه لهم (¬1)، وهو أنّه يحبّهم ويحبّبُهم إلى ملائكته وأنبيائه وعباده الصالحين. ومنها: أمانهم من الخوف يومَ يشتدّ الخوف. {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} (¬2) [الأنعام: 48]. ومنها: أنهم المنعَم عليهم الذين أمرنا أن نسأله أن يهديَنا إلى صراطهم في كلّ يوم وليلة سبعَ عشرةَ مرّةً. ومنها: أنّ القرآن إنّما هو هدىً لهم وشفاء. {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44]. والمقصود أنّ الإيمان سبب جالب لكل خير، وكلُّ خير في الدنيا والآخرة فسببُه الإيمان (¬3)، وكلُّ شرّ في الدنيا والآخرة فسببُه عدمُ الإيمان. فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئًا يخرجه من دائرة الإيمان ويحول بينه وبينه؟ ولكن لا يُخرج من دائرة عموم المسلمين، فإنْ استمرّ على الذنوب وأصرّ عليها خيف عليه أن يرين على قلبه، فيخرجه عن الإِسلام بالكلية. ومن هنا اشتدّ خوفُ السلف، كما قال بعضهم: أنتم تخافون الذنوب، وأنا أخاف الكفر (¬4)! ¬

_ = لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} [الحديد: 28]. (¬1) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]. (¬2) في جميع النسخ: "فمن آمن وعمل صالحًا فلا خوف ... "، وهو سهو. (¬3) "وكل خير ... الإيمان" ساقط من ز. (¬4) ذكر نحوه مكي في قوت القلوب (1/ 462 طبعة الحلبي 1381 هـ) عن =

فصل: المعاصي تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة

فصل ومن عقوباتها: أنها تُضْعِفُ سيرَ القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه، أو توقفه وتقطعه عن السير، فلا تدَعه يخطو إلى الله خطوةً. هذا إن لم تردّه عن وجهته إلى ورائه! فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب. والقلب إنّما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيّره. فإن زالت بالكلّية انقطع عن الله انقطاعًا يبعُد تداركُه، والله المستعان. فالذنب إما أن يميت القلب، أو يُمرضَه مرضًا مخوفًا، أو يضعف (¬1) قوته، ولا بدّ، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي: [35/ أ] الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلَع الدَّين وغلبة الرجال (¬3). وكل اثنين منها قرينان: فالهم والحزن قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقّعه أحدثَ الهمَّ، وإن كان من أمر ماضٍ قد وقع أحدثَ الحزَنَ. ¬

_ = المسيح عليه السلام أنه قال: "يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي وأنا أخاف الكفر"، وذكر عن سهل التستري أنه قال: "المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر". وانظر طريق الهجرتين (93). (¬1) ل: "ويضعف". (¬2) ز: "بها"، خطأ. (¬3) أخرجه البخاري في الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل (6369) وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وانظر صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء (2706).

فصل: المعاصي تزيل النعم وتحل النقم

والعجز والكسل قرينان، فإنّ تخلّفَ العبد عن أسباب الخير والفلاح إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل. والجبن والبخل قرينان، فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل. وضلَع الدين وقهر الرجال قرينان، فإنّ استعلاء الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلَع الدين، وإن كان بباطل فهو قهر الرجال (¬1). والمقصود أنّ الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء (¬2)؛ ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله وتحوُّل عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سَخَطه (¬3). فصل ومن عقوبات الذنوب أنها تُزيل النعم وتُحِلّ النِّقَم. فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلّت به نقمة إلا بذنب؛ كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاءً إلا بذنب، ولا رُفِعَ بلاءً إلا بتوبة (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر شرح الحديث في طريق الهجرتين (86)، ومفتاح دار السعادة (1/ 375)، وبدائع الفوائد (714). (¬2) جاء التعوذ منها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء (6347)؛ ومسلم في الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ... (2707). (¬3) وجاء التعوذ منها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب أكثر أهل الجنّة الفقراء ... (2739). (¬4) كذا نقله المصنف في طريق الهجرتين أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي الله =

وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]. وقال تعالى (¬1): {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]. فأخبر تعالى (¬2) أنه لا يغيّر نعَمه التي أنعم (¬3) بها على أحد حتى يكون هو الذي يغيّر ما بنفسه، فيغيّر طاعةَ الله بمعصيته، وشكرَه بكفره، وأسبابَ رضاه بأسباب سخطه. فإذا غَيَّرَ غُيِّرَ (¬4) عليه جزاءً وفاقًا، وما ربّك بظلاّم للعبيد. فإنْ غيّر المعصيةَ بالطاعة غيّر الله عليه العقوبةَ بالعافية، والذلَّ بالعز. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11]. وفي بعض (¬5) [35/ ب] الآثار الإلهية عن الربّ تبارك وتعالى أنّه قال: وعزّتي وجلالي، لا يكون عبد من عَبِيدي (¬6) على ما أحِبّ، ثم ينتقل عنه ¬

_ = عنه. ولكن شيخ الإِسلام نسبه في مجموع الفتاوى (8/ 163) إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله (ص). وقد ورد من دعاء العباس بن عبد المطلب في الاستسقاء بلفظ "اللهم إنه لم ينزل بلاءً إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة ... " أخرجه ابن عساكر في تاريخه (26/ 359) بسند ضعيف جدًا (ز). (¬1) من أول الآية إلى هنا ساقط من س. (¬2) ف: "الله تعالى". (¬3) ف: "ينعم". (¬4) "غُير" ساقط من ز. (¬5) "بعض" ساقط من ف. (¬6) ز: "عبادي".

إلى ما أكره (¬1)، إلا انتقلتُ له مما يحبّ إلى ما يكره (¬2). ولا يكون عبد من عَبيدي على ما أكره، ثم ينتقل عنه إلى ما أحِبّ، إلا انتقلتُ له مما يكره إلى ما يحبّ (¬3). وقد أحسن (¬4) القائل: إذا كنتَ في نعمة فَارْعَها ... فإنّ المعاصي تُزيل النِّعَمْ (¬5) وحُطْها بطاعةِ ربِّ العبادِ ... فربُّ العبادِ سريعُ النِّقَمْ وإيّاك والظلمَ مهما استطعتَ ... فظلمُ العبادِ شديدُ الوَخَمْ وسافِرْ بقلبك بينَ الورى ... لِتُبصِرَ اَثارَ من قد ظَلَمْ فتلك مساكنُهم بعدَهم ... شهود عليهم ولا تُتَهَمْ وما كان شيء عليهم أضَرَّ ... من الظلم، وهوالذي قد قَصَمْ فكم تركوا مِنْ جِنان ومِنْ ... قُصور وأخرى عليهم أطَمّ (¬6) صلُوا بالجحيم وفات النعيمُ ... وكان الذي نالَهم كالحلُمْ (¬7) ¬

_ (¬1) ف: "أكرهه"، وكذا فيما يأتي. (¬2) ف: "يكرهه". (¬3) لم أقف عليه. (¬4) ف: "وقد قال". (¬5) س: "فإن الذنوب". (¬6) ز: "أجري عليهم أصم". (¬7) البيت الأول أنشده المصنف في طريق الهجرتين (134، 589)، وبدائع الفوائد (712). وقد نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق (54/ 70) بسنده أن عمر بن عبد العزيز كان يتمثل بهذا البيت وتاليه، وروايته فيه: ولا تحقرن صغير الذنوب ... فإنّ الإله شديد النقمْ =

فصل: المعاصي تورث الرعب والخوف في قلب العاصي

فصل ومن عقوباتها: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلاّ خائفًا مرعوبًا. فإنّ الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب. فمن أطاع الله انقلبت المخاوفُ في حقّه أمانًا، ومن عصاه انقلبت مآمِنُه (¬1) مخاوفَ. فلا تجد العاصي إلا وقلبُه كأنّه بين جناحَي طائرٍ، إنْ حرّكت الريحُ الباب قال: جاء الطلب، وإن سمع وقعَ قدَمٍ خاف أن يكون نذيرًا بالعطب. يحسب كل صيحةٍ عليه، وكل مكروه قاصدًا (¬2) إليه. فمن خاف الله آمنه من كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كلّ شيء. بذا قضى اللهُ بين الناس مذ خُلِقوا ... أنّ المخاوفَ والإجرامَ في قَرَنِ فصل (¬3) ومن عقوباتها: أنها تُوقعُ الوحشةَ العظيمةَ في القلب، [36/ أ] فيجد المذنب نفسَه مستوحشًا، قد وقعت الوحشة بينه وبيّن ربه، وبينه وبيّن الخلق، وبينه وبيّن نفسه. وكلّما كثرت الذنوب اشتدّت الوحشة. وأمرُّ ¬

_ = وانظر أيضًا تاريخ دمشق (51/ 103). وهما مع أبيات أخرى في الديوان المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه (138). (¬1) ف: "المآمن". (¬2) ما عدا س: "قاصد". وسقط "وكل" من ف. (¬3) في ط لا يوجد "فصل" هنا.

العيشِ عيشُ المستوحشين الخائفين، وأطيبُ العيش عيشُ المستأنسين. فلو نظر (¬1) العاقل، ووازن بين لذة المعصية وما تُوقِعُه (¬2) من الخوف والوحشة، لَعلِمَ سوءَ حاله وعظيم غَبْنه، إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف. فإن كنتَ قد أوحشتك الذنوبُ ... فدَعْها إذا شئتَ واستأْنسِ (¬3) وسرّ المسألة أنّ الطاعة تُوجب القربَ من الربّ، وكلّما (¬4) اشتدّ القرب قوي الإنس؛ والمعصية توجب البعدَ من الربّ، وكلّما ازداد البعد قويت الوحشة. ولهذا يجد العبد وحشةً بينه وبيّن عدوّه للبعد الذي بينهما، وإن كان ملابسًا له قريبًا منه، ويجد أنسًا وقربًا (¬5) بينه وبيّن من يحبّ، وإن كان بعيدًا عنه. والوحشة سببها الحجاب، وكلّما غلظ الحجاب زادت الوحشة (¬6). فالغفلة توجب الوحشة، وأشدُّ منها وحشةُ المعصية، وأشدُّ منها وحشةُ الشرك والكفر. ولا تجد أحدًا يلابس شيئًا من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابَسَه منه، فتعلو الوحشةُ وجهَه وقلبَه، فيستوحِشُ (¬7)، ويُستوحَشُ منه. ¬

_ (¬1) ز: "فكر". (¬2) ف: "توقع". (¬3) سبق في ص (133). (¬4) ف: "فكلّما". (¬5) ل: "قربًا وأنسًا". (¬6) "والوحشة سببها ... الوحشة" ساقط من ز. (¬7) "فيستوحش" ساقط من س.

فصل: المعاصي تورث القلب مرضا وانحرافا

فصل ومن عقوباتها: أنها تصرِفُ القلبَ عن صحّته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضًا معلولًا، لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه. فإنّ تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وأدواؤها (¬1)، ولا دواء لها إلا تركها. وقد أجمع السائرون إلى الله أنّ القلوب لا تعطَى مُناها حتّى تصل إلى مولاها (¬2)، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها. ولا يصحّ لها (¬3) ذلك إلا بمخالفة هواها، فهواها (¬4) مرضها، وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرضُ قتَلَ أو كاد. وكما أنّ من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنّة مأواه، فكذا يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيمَ أهلها نعيمٌ البتة، بل التفاوت [36/ ب] الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة. وهذا أمر لا يصدّق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا. ولا تحسبْ أنّ قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14]، مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار ¬

_ (¬1) س، ز: "داؤها". ل: "دواها"، وهو تحريف ما أثبتنا من ف. (¬2) "وقد أجمع ... مولاها" ساقط من س. (¬3) "لها" ساقط من س. وفي ل: "لايصلح لها". (¬4) س، ل: "وهواها".

القرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم. وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأيّ عذاب أشدّ من الخوف، والهمّ، والحزن، وضيق الصدر، وإعراضه عن الله والدار الآخرة، وتعلّقه بغير الله، وانقطاعه عن الله، بكلِّ وادٍ منه شعبة؟ وكلّ شيء (¬1) تعلّق به وأحبّه من دون الله فإنّه يسومه سوءَ العذاب. فكلّ من أحبّ شيئًا (¬2) غيرَ الله عُذِّبَ به (¬3) ثلاث مرّات في هذه الدار: فهو يعذَّب به قبل حصوله حتى يحصل. فإذا حصل عُذِّبَ به حالَ حصوله بالخوف من سلبه وفواته، والتنغيص والتنكيد عليه، وأنواع المعارضات. فإذا سُلِبَه اشتدّ عذابُه عليه (¬4). فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار. وأما في البرزخ، فعذابٌ يقارنه ألمُ الفراق الذي لا يرجو (¬5) عودَه، وألمُ فَواتِ ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضدّه، وألمُ الحجاب عن الله، وألمُ الحسرة التي تقطع الأكباد. فالهم والغم والحسرة والحَزن تعمل في نفوسهم نظيرَ ما تعمل الهوامّ والديدان في أبدانهم، بل عملها في النفوس دائم مستمرّ حتى يردّها الله إلى أجسادها، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمرّ. ¬

_ (¬1) ف: "وكل من". (¬2) ف: "فكل شيء" بإسقاط "من أحب"، وهو خطأ. (¬3) "فإنه يسومه ... عذب به" ساقط من ز. (¬4) ف: "عليه عذابه". (¬5) ل: "لا يُرجى".

فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربًا وفرحًا، وأنسًا بربّه، واشتيافا إليه، وارتياحًا بحبّه، وطمأنينةً بذكره، حتى يقول بعضهم في حال نزعه: واطرباه! (¬1) ويقول الآخر: إن كان أهل الجنّة في مثل هذه الحال (¬2)، إنّهم لفي عيش طيب (¬3)! ويقول الآخر: مساكين أهلُ الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها، وما ذاقوا أطيب ما فيها! (¬4) ويقول الآخر (¬5): لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه [37/ أ] ¬

_ (¬1) جاء نحوه عن بلال بن سعد. قال حين حضرته الوفاة: غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه فتقول امرأته: واويلاه! ويقول: وافرحاه! أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (294). (¬2) ف، ل: "هذا الحال". (¬3) ذكره المؤلف في المدارج (1/ 454)، (2/ 67)، (9/ 259) وإغاثة اللهفان (932)، والوابل الصيب (111)، والمفتاح (1/ 184)، والروضة (271)، ورسالته إلى أحد إخوانه (34). ونقل ابن الجوزي نحوه عن أبي سليمان المغربي في صفة الصفوة (2/ 369). (¬4) ذكره المؤلف في المدارج (1/ 454)، وإغاثة اللهفان (932)، والوابل الصيب (115)، والروضة (271)، ورسالته المذكورة (34). ونقله أبو نعيم عن ابن المبارك في الحلية (8/ 177)، وفيه تكملة: "قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: المعرفة بالله عز وجل". وفي المدارج وغيره زيادة (ص). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 358) وابن عساكر في تاريخه (56/ 421، 427) عن مالك بن دينار (ز). (¬5) ف: "آخر". وهو إبراهيم بن أدهم، في الحلية (7/ 429). وانظر المفتاح (1/ 183)، والوابل الصيب (110) وإغاثة اللهفان (932). (ص). وأخرجه =

فصل: المعاصي تعمي القلب وتطمس نوره

لجالَدونا عليه بالسيوف. ويقول الآخر: إنّ في الدنيا جَنّة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الاَخرة (¬1). فيا من باع حظّه الغالي بأبخس الثمن، وغُبِنَ كل الغَبْن في هذا العقد، وهو يرى أنه قد غبن، إذا لم يكن لك خبرةٌ بقيمة السِّلَع فَسَلِ، المقوِّمين! فيا عجبًا من بضاعةٍ معك، الله مشتريها، وثمنُها جنّةُ المأوى، والسفيرُ الذي جرى على يده (¬2) عقدُ التبايع وضمِنَ الثمنَ عن المشتري هو الرسول، وقد بعتَها بغاية الهوان! إذا كان هذا فعلَ عبدٍ بنفسه ... فمَنْ ذاله من بعد ذلك يكرِمُ (¬3) {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]. فصل ومن عقوباتها: أنّها تُعمي بصيرَة القلب (¬4)، وتطمس نوره، وتسدّ طرق العلم (¬5)، وتحجب موادّ الهداية. ¬

_ = ابن عساكر في تاريخه (6/ 303، 366). (ز). (¬1) نسبه المصنف في المدارج (1/ 536). والوابل الصيب (109) إلى شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد سمع ذلك منه. (¬2) ف: "يديه". (¬3) ف: "مكرم". وبعده في ز: "يقول الله تعالى". (¬4) س: "بصر القلب". (¬5) ز: "طريق العلم".

وقد قال مالك للشافعي (¬1) لمّا اجتمع به ورأى تلك المخايل (¬2): إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية (¬3). ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحلّ، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مَهْلكٍ يسقط فيه، وهو لا يبصره (¬4)، كأعمى خرجِ بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب. فيا عزّةَ السلامة، ويا سرعةَ العطب! ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ (¬5) بحسب قوتها وتزايدها. فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ، فامتلأ القبر ظلمةً، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إنّ هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمةً وإنّ الله منوّرها بصلاتي عليهم" (¬6). فإذا كان يومُ المعاد وحشرِ الأجساد علت الوجوهَ علوًّا ظاهرًا يراه كلُّ أحد، حتّى يصير الوجه أسود مثل الحُمَمة. فيالها عقوبةً (¬7) لا توازن لذاتِ الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها! فكيف بقسط العبد المنغَّص المنكَّد المتعَب في زمن إنّما هو ساعة من حُلْم! فالله المستعان. ¬

_ (¬1) س: "رحمة الله عليهما". (¬2) ف: "المحافل"، تحريف. وفيها بعد ذلك: "إني أرى على قلبك نورًا". (¬3) سبق في ص (133). (¬4) س: "لا يبصر". (¬5) ز: "فتغشى الوجوه منها سوادَا". (¬6) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الجنائز، باب الصلاة على القبر (956). (¬7) س: "من عقوبة".

فصل: المعاصي تقمع النفس وتدنسها

فصل ومن عقوباتها: أنّها تصغّر النفس، وتقمَعها، وتدسّيها (¬1)، وتحقّرها، حتى تصير [37/ ب] أصغر شيء وأحقره (¬2)، كما أنّ الطاعة تنمّيها وتزكّيها وتكبّرها. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9 - 10]. والمعنى قد أفلح من كبّرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها. وقده خسر من أخفاها وحقّرها وصغرها بمعصية الله. وأصل التدسية الإخفاء. ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 59]. فالعاصي (¬3) يدسّ نفسه في المعصية، ويخفي مكانها، ويتوارى (¬4) من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق. فالطاعة والبرّ تكبّر النفس، وتعزّها، وتعليها، حتى تفسير أشرف شيء، وأكبره، وأزكاه، وأعلاه؛ ومع ذلك فهي أذلّ شيء وأحقره وأصغره لله تعالى. وبهذا الذلّ حصل لها هذا العزّ والشرف (¬5) والنموّ، فما صغّر النفوسَ مثلُ معصية الله، وما كبّرها وشرّفها ورفعها مثلُ طاعة الله. ¬

_ (¬1) ز: "تدسها". (¬2) ز: "أصغر وأحقر شيء". (¬3) ز: "والعاصبي". (¬4) ف، ز: "يتوارى" دون واو العطف. (¬5) ز: "الشرف والعز".

فصل: العاصي دائما في أسر شيطانه

فصل ومن عقوباتها: أنّ العاصي دائمًا في أسْر شيطانه، وسجن شهواته، وقيود هواه؛ فهو أسير مسجون مقيد. ولا أسيرَ أسوأ حالًا من أسير أسَرَه أعدى عدوّ له، ولا سجنَ أضيقُ من سجن الهوى، ولا قيدَ أصعبُ من قيد الشهوة. فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا تقيّد القلب طرقته الآفاتُ من كل جانب بحسب قيوده. ومثل القلب مثل الطائر، وكلّما علا بعد عن الآفات، وكلّما نزل احتوَشَتْه الآفات (¬1). وفي الحديث: "الشيطان ذئب الإنسان" (¬2). ¬

_ (¬1) احتوشته: أحاطت به. (¬2) أخرجه أحمد 233/ 5 (22029) والطبراني 20/ 164 - 165 (344، 345) والشاشي في مسنده (1387) وأبو نعيم في الحلية (2/ 247) وغيرهم، من طريق قتادة حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية. فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد". وفيه انقطاع، العلاء بن زياد لم يدرك معاذ بن جبل. انظر جامع التحصيل (601). ورواه شهر بن حوشب عن معاذ فذكره. أخرجه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب- 114) وهذا منقطع، شهر لم يدرك معاذًا. وأيضًا فيه أبان بن أبي عياش، متروك الحديث. ورواه عطية عن حزام عن معاذ فذكره موقوفًا. أخرجه البيهقي في الشعب (2600). وجاء من حديث عمر بن الخطاب عند ابن عساكر (67/ 231 - 236) =

وكما أنّ الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعةُ العطب، فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله (¬1)، فذئبُه مفترِسُه، ولابدّ. وإنما يكون عليه حافظ من الله (¬2) بالتقوى، فهي وقاية وجُنّة حصينة بينه وبيّن ذئبه، كما هي وقاية بينه وبيّن عقوبة الدنيا والآخرة. وكلّما كانت الشاة أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب، وكلّما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك. [38/ أ] فأحمى ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي، وإنما يأخذ الذئب القاصي (¬3) من الغنم، وهي أبعدهن من الراعي (¬4). وأصل هذا كلّه أنّ القلب كلّما كان أبعد من الله كانت الآفات إليه (¬5) أسرع، وكلّما قرُب من الله بعدت عنه الآفات. والبعد من الله مراتب بعضها أشدّ من بعض. فالغفلة تبعد العبد (¬6) ¬

_ = وغيره، ولا يصح. ولأصل معناه شواهد. منها عن أبي الدرداء مرفوعًا: "ما من ثلاثة نفر في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" أخرجه أحمد (21715) وابن خزيمة (1486) وابن حبان (2101) وغيرهم. وسنده لا بأس به. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. انظر تحقيق المسند (36/ 42). (¬1) ف: "لم يكن عليه من الله وقاية وجنّة". (¬2) "فذئبه ... من الله " ساقط من ز. (¬3) ف: "القاصية". (¬4) س، ف: "أبعد من الراعي". (¬5) "إليه" ساقط من ز. (¬6) ف: "القلب".

فصل: المعاصي تسقط كرامة العاصي عند الخالق والمخلوق

عن الله، وبعدُ المعصية أعظم (¬1) من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله. فصل ومن عقوباتها: سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه. فإنّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم، وأقربهم منه منزلةً أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد له تكون منزلته عنده. فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه، فأسقطه من قلوب عباده. وإذا لم يبق له جاء عند الخلق وهان عليهِم عاملوه على حسب ذلك، فعاش بينهم أسوأ عيش خاملَ الذكر، ساقط القدر، زريَّ الحال (¬2)، لا حرمة له، فلا فرح (¬3) له ولا سرور. فإنّ خمول الذكر وسقوط القدر والجاه (¬4) معه كلُّ غمّ وهمّ (¬5) وحزن، ولا سرور معه (¬6) ولا فرح. وأين هذا الألم من لذة المعصية، لولا سكر الشهوة؟ ومن أعظم نعم الله على العبد أن يرفع له بين العالمين ذكرَه ويعلي قدرَه. ولهذا خصّ أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} [ص: 45 - 46]. أي خصصناهم ¬

_ (¬1) ز: "أبعد". (¬2) ل: "ردي الحال". (¬3) ف: "ولا فرخ". (¬4) "فإن خمول ... الجاه" ساقط من ف. (¬5) "وهم" ساقط من ز. (¬6) ف: "مع ذلك".

فصل: المعاصي تسلبه أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار

بخصيصة، وهو الذكر الجميل الذي يُذكَرون به في هذه الدار (¬1)، وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84]. وقال سبحانه عنه وعن بنيه: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)} [مريم: 50]. وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]. فأتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم. وكلّ من خالفهم فاته من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم. فصل [38/ ب] ومن عقوباتها: أنّها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذمّ والصَّغار. فتسلبه اسم المؤمن، والبَرّ، والمحسن، والمتقي، والمطيع، والمنيب، والولي، والوَرع، والمصلح، والعابد، والخائف، والأوّاب، والطيّب، والمرضي (¬2)، ونحوها. ¬

_ (¬1) فسّر المؤلف هذه الآية في طريق الهجرتين (102)، فقال: "يخبر فيها سبحانه عما أخلص له أنبياءه ورسله من اختصاصهم بالآخرة، وفيها قولان: أحدهما أن المعنى: نزعنا من قلوبهم حبّ الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل بها. والقول الثاني: إنّا أخلصناهم بافضل ما في الدار الآخرة، واختصصناهم به عن العالمين". وفسر شيخ الإِسلام "ذكرى الدار" بتذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب (مجموع الفتاوى 16/ 193) وهو قول ثالث يدخل في القول الأول كما قال الطبري (التفسير 20/ 119). أما ما ذهب إليه المؤلف هنا فلم يشر إليه الطبري فيما نقله عن السلف. وانظره في المحرر الوجيز (4/ 509)، والكشاف (4/ 99). (¬2) ز: "الرضي"، وفي س: "المرضا".

فصل: المعاصي تورث نقصان العقل

وتكسوه اسم الفاجر، والعاصي، والمخالف، والمسيء، والمفسد، والخبيث، والمسخوط، والزاني، والسارق، والقاتل، والكاذب، والخائن، واللوطي، والغادر، وقاطع الرحم (¬1)، وأمثالها. فهذه أسماء الفسوق و {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] التي توجب (¬2) غضب الديّان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان. وتلك أسماء توجب رضي الرحمن، ودخول الجِنان، وتوجب شرف المسمَّى بها على سائر نوع الإنسان. فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجَباتها لكان في العقل ناهٍ عنها. ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجَباتها لكان في العقل آمِرٌ بها. ولكن لا مانع لما أعطى الله (¬3)، ولا معطي لما منع، ولا مقرّب لمن باعد، ولا مبعّد لمن قرّب {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18] فصل ومن عقوباتها: أنها تؤثّر بالخاصّية في نقصان العقل. فلا تجد عاقلَين أحدهما مطيع لله، والآخر عاص، إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل، وفكره أصحّ، ورأيه أسدّ، والصواب قرينه. ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي العقول والألباب، ¬

_ (¬1) ف، ز: "قاطع الرحم والغادر". (¬2) ف، ز: الذي يوجب" يعني: الفسوق. (¬3) لفظ الجلالة انفردت به س.

كقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197]، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)} [الطلاق: 10]، وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة: 269]. ونظائر ذلك (¬1) كثيرة. وكيف يكون عاقلًا وافرَ العقل من يعصي من هو في قبضته وفي داره، وهو يعلم أنّه يراه ويشاهده، فيعصيه، وهو بعينه غيرُ متوارٍ عنه، ويستعين بنعمه على مساخطه، ويستدعي كلَّ وقت غضبَه عليه، ولعنتَه له، وإبعادَه من قربه، وطردَه عن بابه، وإعراضَه عنه، وخِذلانَه له، والتخليةَ [39/ أ] بينه وبيّن نفسه وعدوّه، وسقوطَه من عينه، وحرمانه روحَ رضاه وحبّه، وقرةَ العين بقربه، والفوزَ بجواره، والنظرَ إلى وجهه في زمرة أوليائه، إلى أضعاف أضعاف ذلك من كرامة (¬2) أهل الطاعة، وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية؟ فأيّ عقل لمن آثر لذةَ ساعةٍ أو يوم أو دهرٍ، ثم تنقضي كأنّها حُلْم لم يكن، على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم، بل هو سعادة الدنيا والآخرة؟ ولولا العقل الذي تقوم به عليه الحجّة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون (¬3) المجانين أحسن حالًا منه وأسلم عاقبةً. فهذا من هذا الوجه. وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي، فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظهَر لمطيعنا نقصانُ عقلِ عاصينا، ولكن الجائحة عامّة، والجنون فنون! ¬

_ (¬1) ف: "نظائره". (¬2) ف: "إكرامه". (¬3) "قد" ساقطة من س.

فصل: المعاصي توجب القطيعة بين العبد وربه

ويا عجبًا لو صحّت العقول لعلمتْ أنّ طريق (¬1) تحصيل اللذة والفرحة والسرور وطيب العيش إنما هو في رضي مَن النّعيمُ كلُّه في رضاه، والألمُ والعذابُ كلُّه في سخطه وغضبه. ففي رضاه قرّة العيون، وسرور النفوس وحياة القلوب، ولذة الأرواح، وطيب الحياة، ولذة العيش، وأطيب النعيم، مما لو وُزِن منه مثقالُ ذرّة بنعيم الدنيا لم يف به، بل إذا حصل للقلب من ذلك أيسر نصيب لم يرضَ بالدنيا وما فيها عوضا منه. ومع هذا (¬2) فهو يتنعم بنصيبه من الدنيا أعظمَ من تنعّم المترَفين فيها، ولا يشوب تنعّمَه بذلك الحظّ اليسير ما يشوب تنعّمَ المترفين من الهموم والغموم والأحزان والمعارضات، بل قد حصل على النعيمين، وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما. وما يحصل له في خلال ذلك (¬3) من الآلام، فالأمر كما قال الله سبحانه: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)} [النساء: 104]. فلا إله إلا الله، ما أنقَصَ عقلَ من باع الدرَّ بالبعر، والمسكَ بالرجيع، ومرافقةَ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم، ولَعَنهم، وأعدّ لهم جهنَّم وساءت مصيرًا! فصل ومن أعظم عقوباتها: [39/ ب] أنها توجب القطيعة بين العبد وبيّن ربه تبارك وتعالى، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، ¬

_ (¬1) "طريق" ساقط من ف. (¬2) "ومع هذا" ساقط من ل. (¬3) ف: "في ذلك".

واتصلت به أسباب الشرّ. فأيّ فلاح وأيّ رجاء وأيّ عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه (¬1) وبيّن وليّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين، ولابدّ له منه (¬2)، ولا عوض له عنه، واتصلت به أسباب الشر، ووصل ما بينه وبيّن أعدى عدوّ له، فتولاّه عدوّه، وتخلّى عنه وليّه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب! قال بعض السلف: رأيتُ العبد مُلقًى بين الله سبحانه وبيّن الشيطان، فإن أعرض الله عنه (¬3) تولاّه الشيطان، وإن تولاّه الله لم يقدر عليه الشيطان (¬4). وقد قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50]. ¬

_ (¬1) ف: "وقطع بينه". (¬2) بعده في س زيادة: "ولا بدل له منه". (¬3) ز: "أعرض عنه الله". (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في الزهد (1353) عن مطرّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، ولفظه: "وجدت هذا الإنسان ملقى بين الله عَزَّ وَجَلَّ وبيّن الشيطان، فإن يعلم الله في قلبه خيرًا يجبذه إليه، وإن لا يعلم فيه خيرًا وكله إلى نفسه، ومن وكله إلى نفسه فقد هلك". وبهذا اللفظ نقله عنه المؤلف في المدارج (3/ 79). (ص) وسنده حسن. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (298)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (2/ 201) وابن عساكر في تاريخه (58/ 308) بنحوه، وسنده صحيح. وأخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان (25) من طريق آخر عن مطرّف بنحوه (ز).

يقول سبحانه لعباده: أنا أكرمتُ (¬1) أباكم، ورفعت قدره، وفضّلته على غيره، فأمرتُ ملائكتي كلّهم أن يسجدوا له تكريمًا (¬2) وتشريفًا، فأطاعوني، وأبى عدوّي وعدوّه، فعصى أمري، وخرج عن طاعتي. فكيف يحسن بكم بعد هذا أن تتخذوه (¬3) وذريته أولياء من دوني، فتطيعونه في معصيتي، وتوالونه في خلاف مرضاتي، وهم (¬4) أعدى عدو لكم؟ فواليتم عدوّي، وقد أمرتكم بمعاداته. ومن وإلى أعداء الملِك كان هو وأعداؤه عنده سواء، فإنّ المحبة والطاعة لا تتمّ إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه. وأمّا أن توالي أعداءَ الملِك ثم تدّعي أنّك موالٍ له، فهذا محال. هذا لو لم يكن (¬5) عدوُّ الملك عدوًّا لكم، فكيف إذا كان عدوًّا لكم (¬6) على الحقيقة، والعداوةُ التي بينكم وبينه أعظمُ من العداوة التي بين الشاة والذئب؟ فكيف يليق بالعاقل أن يوالي عدوَّه وعدوَّ وليّه ومولاه الذي لا مولى له سواه؟ ونبّه [40/ أ] سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]، كما نبّه على قبحها بقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. فتبيّن أنّ عداوته لربّه وعداوته لنا، كلٌّ منهما سببٌ يدعو إلى معاداته، فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال؟ بئس للظالمين بدلا! ¬

_ (¬1) ل: "إنّي كرمت". س: "كرّمت". (¬2) ف: "تكريمَا له". (¬3) ما عدا ف: "تتخذونه". (¬4) كذا في جميع النسخ، يعني إبليس وذريته. (¬5) ف: "إذا لم يكن". (¬6) ز: "عدوَّكم".

فصل: المعاصي تمحق بركة الدين والدنيا

ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوعٌ من العتاب لطيفٌ عجيبٌ، وهو أنّي عاديتُ إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي، فكانت (¬1) معاداتُه لأجلكم، ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقد المصالحة! فصل ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة. وبالجملة، تمحق بركة الدين والدنيا. فلا تجد أقلَّ بركةً في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله. وما مُحِقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وقال تعالي: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} (¬2) [الجن: 16] وإنّ العبد لَيُحرَمُ الرزقَ بالذنب يصيبه (¬3). وفي الحديث: "إنّ روح القدس نفث في رُوعي أنّه (¬4) لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتّقوا الله وأجمِلوا في الطلب، فإنّه لا يُنال ما عند الله إلا بطاعته (¬5) " (¬6). و"إنّ الله جعل الرَّوْحَ والفرحَ في الرضا ¬

_ (¬1) س: "وكانت". (¬2) انفردت س بزيادة "لنفتنهم فيه"، وهي جزء من الآية 17. (¬3) كما ورد في الحديث بهذا اللفظ، وقد سبق تخريجه في ص (103). (¬4) ز: "أن". (¬5) س: "بالطاعة" ز: "بمعصية إلا بطاعته". (¬6) أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث (3/ 283). ومن طريقه البغوي في شرح السنة (14/ رقم 4111). والقضاعي في مسند الشهاب (1151) من طريق زبيد اليامي عمن أخبره عن عبد الله بن مسعود فذكره. وقد وقع فيه اختلاف، =

واليقين، وجعل الهمّ والحزن في الشكّ والسخط" (¬1). وقد تقدم الأثر (¬2) الذي ذكره أحمد في كتاب الزهد: "أنا الله، إذا رضيتُ باركتُ، وليس لبركتي منتهى. وإذا غضبتُ لعنتُ، ولعنتي ¬

_ = والطريق المثبت أصحها. انظر: علل الدارقطني (5/ 273) وشعب الإيمان (9891). وعليه فالحديث ضعيف الإسناد للإبهام في قوله (عمن أخبره). وقد جاء من حديث حذيفة بنحوه من طريق قدامة عن أبيه زائدة بن قدامة عن عاصم عن زز بن حبيش عن حذيفة. أخرجه البزار في مسنده (2914) قال الهيثمي في المجمع (4/ 71): "وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة ولم أجد من ترجمه". قلت: روى عن أبيه، وروى عنه ابنه وجماعة. انظر الثقات لابن حبان (8/ 258) ونوادر الأصول (90 ق/أ). وورد معناه من حديث جابر، رواه الوليد بن مسلم وحجاج بن محمَّد وعبد المجيد بن أبي رواد ومحمد بن بكر، كلهم عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رفعه: "يا أيها الناس إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه، ولا تستبطئوا الرزق، واتقوا الله، وأجملوا في الطلب، وخذوا ما حلّ، وذروا ما حُرم". أخرجه ابن ماجه (2144) والقضاعي في مسنده (1152) وابن الجارود (556) والحاكم 2/ 5 (2135) وغيرهم. ورواه عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن محمَّد بن المنكدر عن جابر فذكره. أخرجه ابن حبان (3239) والحاكم 2/ 4 - 5 (2134). (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في الرضا عن الله بقضائه (94). ومن طريقه البيهقي في الشعب (205) وابن عساكر في تاريخه (33/ 675)، من طريق أبي هارون المديني عن ابن مسعود، فذكره موقوفًا. ورجاله ثقات، لكن فيه انقطاع، أبو هارون لم يدرك ابن مسعود. وقد روي هذا مرفوعًا من حديث ابن مسعود وأبي سعيد الخدري، ولا يصح. راجع شعب الإيمان للبيهقي (203، 204). (¬2) في ص (30).

تدرك (¬1) السابع من الولد". وليست سعةُ الرزق والعمل (¬2) بكثرته، ولا طولُ العمر بكثرة الشهور والأعوم، ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه. وقد تقدّم (¬3) أنّ عمر العبد هو مدة حياته، ولا حياة لمن أعرض عن الله، واشتغل بغيره. بل حياة البهائم خير من حياته، فإنّ حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره، ومحبته، وعبادته (¬4) وحده، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والإنس بقربه. [40/ ب] ومن فقد هذه الحياة فقَدْ (¬5) فَقَد الخيرَ كله، ولو تعوّض عنها بما تعوّض. فما في الدنيا (¬6) بل ليست الدنيا بأجمعها عوضًا عن هذه الحياة! فمن كلّ شيء يفوت العبدَ عِوَضٌ، وإذا فاته الله لم يعوِّض عنه شيء البتة. وكيف يعوَّض الفقيرُ بالذات عن الغني بالذات، والعاجزُ بالذات عن القادر بالذات، والميّتُ عن الحي الذي لا يموت، والمخلوق عن الخالق، ومن لا وجود له ولا شيء له من ذاته البتة عمّن غناه وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته؟ وكيف يعوَّض من لا يملك مثقال ذرة عمّن له مُلْكُ السموات والأرض؟ ¬

_ (¬1) ل: "تبلغ". (¬2) "والعمل" لم يرد في ت. (¬3) في ص (137). (¬4) "وعبادته" لم يرد في س. (¬5) لم يرد "فقد" في ف. (¬6) ف، ل: "تعوض مما في الدنيا".

وإنّما كانت معصيةُ الله سببا لمحق بركة (¬1) الرزق والأجل؛ لأنّ الشيطان موكَّل بها وبأصحابها، فسلطانُه عليهم، وحوالتُه على هذا الديوان، وأهلُه أصحابُه (¬2)؛ وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه (¬3)، فبركته ممحوقة. ولهذا شُرع ذكرُ اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع، لما في مقارنة اسمِ الله من البركة. وذكرُ اسمه يطرد الشيطان، فتحصل البركة، ولا معارض لها. وكلّ شيء لا يكون لله، فبركته منزوعة، فإنّ الربّ هو الذي تبارك (¬4) وحده، والبركة كلّها منه، وكلّ ما نُسِب إليه مبارك. فكلامه (¬5) مبارك، ورسوله مبارك، وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك، وبيته الحرام مبارك (¬6)، وكنانته من أرضه -وهي الشام (¬7) - أرض البركة، وصفها بالبركة في ستّ آيات من كتابه (¬8). فلا ¬

_ (¬1) "بركة" ساقط من ف. (¬2) يعني: وأهل هذا الديوان أصحاب الشيطان. وفي س، ف: "وأهله وأصحابه". (¬3) ز: "يقاربه". (¬4) ما عدا س: "يبارك"، وأثبتنا ما فيها لما يأتي: "فلا متبارك إلا هو وحده". وانظر بدائع الفوائد (682). (¬5) س: "وكلامه". (¬6) "ورسوله ... " إلى هنا ساقط من س. (¬7) ف: "أرض الشام". يشير إلى ما روي: "الشام كنانتي، فمن أرادها بسوء رميته بسهم منها". قال الألباني: "لا أصل له في المرفوع، ولعله من الإسرائيليات ... " انظر السلسلة الضعيفة (1/ 70). (¬8) وكذا قال في بدائع الفوائد (1335): "وصف الشام بالبركة في ست آيات". ولكن قال فيه أيضًا (682): "وما حول المسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة". وهذا هو الصواب. فهي =

متبارك (¬1) إلا هو وحده، ولا مبارك إلا ما نسب إليه، أعني: إلى محبته وألوهيته ورضاه، وإلا فالكون كلّه منسوب إلى ربوبيته وخلقه. وكلّ ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه ولا خير فيه، وكلّ ما كان قريبًا منه (¬2) من ذلك ففيه من البركة على حسب قربه منه. وضد البركة اللعنة. فأرضٌ لعنها الله، أو شخصٌ لعنه (¬3) أو عملٌ لعنه = أبعدُ شيء من الخير والبركة. وكلُّ ما اتصل بذلك، وارتبط به، وكان منه بسبيل، فلا بركة فيه البتة. وقد لعن عدوَّه إبليسَ، [41/ أ] وجعله أبعدَ خلقه منه، فكلُّ ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به. فمن ها هنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق (¬4) والعلم والعمل. فكلُّ وقتٍ (¬5) عصيتَ الله فيه، أو مالٍ عُصِيَ اللهُ به، أو بدنٍ، أو جاهٍ، أو علمٍ، أو عملٍ، فهو على صاحبه، ليس له. فليس عمرُه وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع اللهَ به. ولهذا من الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها، ويكون عمره لا يبلغ عشر سنين أو نحوها؛ كما أنّ منهم من يملك القناطير ¬

_ = أربعة مواضع: الأعراف (137)، والأنبياء (71، 81)، وسبأ (18). فإذا أضفنا إليها آية الإسراء كانت خمسة. (¬1) ل: "مبارك". (¬2) "منه" ساقط من ف. (¬3) ل: "لعنه الله"، وهكذا بعده: "أو عمل لعنه الله". (¬4) ف: "الرزق والعمر". (¬5) ف: "وكل وقت".

المقنطرة من الذهب والفضة، ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها. وهكذا الجاه والعلم. وفي الترمذي (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكرُ الله عَزَّ وَجَلَّ وما والاه، وعالم أو متعلّم". وفي أثر آخر: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما كان لله" (¬2). فهذا هو الذي فيه البركة خاصة. والله المستعان (¬3). ¬

_ (¬1) برقم (2322). وأخرجه ابن ماجه (4112) والعقيلي في الضعفاء (2/ 326) والبيهقي في الشعب (1708) وغيرهم، من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن فرة عن عبد الله بن ضمرة السلولي عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". ورواه يحيى بن اليمان عن ابن ثوبان عن أبيه عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قوله. أخرجه الدارمي (331) وغيره. قال الدارقطني: وهو وهم. وقد اضطرب فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان على أوجه، وعدّ العقيلي هذا الحديث وغيره من منكراته، ثم قال: "ولا يتابعه إلا من هو دونه أو مثله". راجع علل الدارقطني (5/ 89) و (11/ 44 - 45). (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 157) والخليلي في الإرشاد (2/ 711) والرافعي في أخبار قزوين (2/ 274) و (3/ 141) و (4/ 135) وغيرهم، من طريق عبد الله بن الجراح القهستاني عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر مرفوعًا. ورواه يحيى القطان عن الثوري عن محمَّد بن المنكدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. أخرجه أحمد في الزهد (154) وأبو داود في المراسيل (552). وهذا هو الصواب أنه مرسل كما رجّح ذلك أبو حاتم الرازي والدارقطني وابن الجوزي. (¬3) بعده في ز: "وعليه التكلان".

فصل: المعاصي تجعل صاحبها من السفلة

فصل ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيًّأ لأن يكون من العِلْية. فإنّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل علّيين مستقرّ العلية، وأسفل سافلين مستقرّ السفلة. وجعل أهل طاعته الأعلَين في الدنيا والآخرة، وأهل معصيته الأسفلِين في الدنيا والآخرة (¬1)، كما جعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه (¬2)، وجعل العزّة لهؤلاء (¬3)، والذلّة والصغار لهؤلاء. كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر (¬4) عن النبي- صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "جُعل الذلّة والصَّغار على من خالف أمري". فكلّما (¬5) عمل العبد معصيةً نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين. وكلّما عمل طاعة (¬6) ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلَين. وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه، والنزول من وجه، وأيّهما كان أغلب عليه كان من أهله. فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان [41/ ب] بالعكس. ¬

_ (¬1) "وأهل معصيته ... الآخرة" ساقط من ل. (¬2) "عليط ساقط من ف. وفي ز: "عليهم"، خطأ. (¬3) ف: "لهؤلاء العزة". (¬4) في جميع النسخ: "عبد الله بن عمرو"، وقد تقدم على الصواب -كما أثبتنا- في ص (143). (¬5) س: "وكلما". (¬6) ف: "بطاعة".

ولكن يعرض ها هنا للنفوس غلط عظيم، وهو أنّ العبد قد ينزل نزولًا بعيدًا أبعدَ مما (¬1) بين المشرق والمغرب ومما (¬2) بين السماء والأرض، فلا يفي صعودُه ألفَ درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة الواحدة، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب" (¬3). فأيُّ صعود يوازي (¬4) هذه النزلة؟. والنزول أمر لازم للإنسان، ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة، فهذا متى (¬5) استيقظ من غفلته عاد إلى درجته، أو إلى أرفع منها بحسب يقظته. ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة (¬6) على الطاعة. فهذا متى رجع إلى الطاعة (¬7) فقد يعود إلى درجته، وقد لا يصل إليها، وقد يرتفع عنها. فإنه قد يعود أعلى همةً مما كان (¬8)، وقد يكون أضعف همةً، وقد تعود همته كما كانت. ¬

_ (¬1) ز: "أبعدما". (¬2) ف، ز: "وما". (¬3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان (6477)؛ ومسلم في الزهد، باب حفظ اللسان (2988). (¬4) ف، س: "يوازن". (¬5) س: "هذا متى". ز:"فهذا إذا". (¬6) ف: "إلا الاستعانة". (¬7) "فهذا ... الطاعة" ساقط من ف. (¬8) ف: "يعود على همة أقوى مما كان".

ومنهم من يكون نزوله إلى معصية: إما صغيرة أو كبيرة (¬1)، فهذا يحتاج في عوده إلى درجته إلى توبة نصوح دانابة صادقة. واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة (¬2) إلى درجته التي كان فيها، بناءً على أنّ التوبة تمحو أثر الذنب، وتجعل وجوده كعدمه، فكأنّه لم يكن؛ أو لا يعود بناءً على أنّ التوبة تأثيرها في (¬3) إسقاط العقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنّه لا يصل إليها (¬4)؟ قالوا (¬5): وتقرير ذلك أنّه كان مستعدًّا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه لصعود آخر، وارتفاعُه (¬6) بجملة أعماله السالفة بمنزلة كسب الرجل كلّ يوم بجملة ماله الذي يملكه، وكلّما تضاعف المال تضاعف الربح. فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح بجملة أعماله، فإذا (¬7) استأنف العمل استأنف صعودًا من نزول، وكان قبل ذلك صاعدًا من صعود (¬8)، وبينهما بون عظيم. قالوا: ومَثَلُ ذلك رجلان مرتقيان في سلّمين لا نهاية لهما، وهما سواء، فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجةً واحدة، ثم استأنف الصعود، ¬

_ (¬1) ف: "كبيرة أو صغيرة". (¬2) ف: "بالتوبة". ووقع "بعد التوبة" في ز بعد "فيها". (¬3) س: "على". (¬4) قد أفاض المؤلف الكلام في هذه المسألة في طريق الهجرتين (506 - 454) وانظر المدارج (1/ 291 - 294). (¬5) "قالوا" لم يرد في س. (¬6) ما عدا س: "وارتقاء". (¬7) ز: "واستأنف". (¬8) ما عدا س: "من علو".

فإنّ الذي لم ينزل يعلو عليه، ولا بدّ. وحكم شيخ الإِسلام ابن تيمية بين الطائفتين [42/ أ] حكمًا مقبولًا فقال: التحقيق أنّ من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته، ومنهم من يعود إلى مثل درجته (¬1)، ومنهم من لا يصل إلى درجته (¬2). قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها، وما أحدثته المعصيةُ للعبد من الذلّ والخضوع والإنابة، والحذر والخوف من الله، والبكاء من خشيته؛ فقد تقوى هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته، ويصير بعد التوِبة خيرًا منه قبل الخطيئة. فهذا قد تكون الخطيئة في حقّه رحمةً، فإنّها نفتْ عنه داءَ العجب، وخلّصتْه من ثقته (¬3) بنفسه وأعماله، ووضعتْ خدَّ ضراعته وذلّه وانكساره على عتبة باب سيّده ومولاه، وعرّفتْه قدرَه، وأشهدَتْه فقرَه وضرورتَه إلى حفظ سيّده له، وإلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجَتْ من قلبه صولة الطاعة، وكسرتْ أنفَه من (¬4) أن يشمخ بها، أو يتكبّر بها، أو يرى نفسه بها خيرًا من غيره؛ وأوقفته بين يدي ربه موقفَ الخطّائين المذنبين ناكسَ الرأس بين يدي ربّه، مستَحْييًا منه، خائفًا وجلًا، محتقرًا لطاعته، مستعظمًا لمعصيته، قد عرف (¬5) نفسَه بالنقص وَالذمّ، وربَّه منفردًا بالكمال والحمد والوفاء، كما قيل: ¬

_ (¬1) في س: "إلى درجته"، وتأخرت هذه الجملة فيها على تاليتها. (¬2) انظر منهاج السنة (2/ 434). وقد نقل المصنف كلام شيخه في طريق الهجرتين (534) والمدارج (1/ 292) أيضًا. (¬3) س: "ثقة". (¬4) "من" لم ترد في ف، ز. (¬5) س: "وقد عرف".

استأثرَ اللهُ بالوفاء وبالـ ... ـحمد وولّى الملامةَ الرّجُلا (¬1) فأيّ نعمةٍ وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه، ورأى نفسه دونها، ولم يرها أهلًا لها. وأي نقمة أو بليّة وصلت إليه رأى نفسه أهلًا لما هو أكبر (¬2) منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه، إذ لم يعاقبه على قدر جُرمه ولا شطرِه ولا أدنى جزء منه. فإنّ ما يستحقّه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات، فضلًا عن هذا العبد الضعيف العاجز. فإنّ الذنب وإن صغر، فإنّ مقابلةَ العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبير الذي لا شيء أكبر منه، الكريم الذي لا أجلَّ منه ولا أجملَ، المنعِمِ بجميع أصناف النعم دقيقِها وجليلِها = من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها. فإنّ مقابلةَ العظماء والأجلاّء وسادات الناس بمثل ذلك (¬3) يستقبحه كلُّ أحد مؤمن وكافر. وأرذلُ الناس وأسقطُهم مروءةً مَن قابلَهم بالرذائل، فكيف بعظيم السموات والأرض، وملِك السموات والأرض [42/ ب]، وإلهِ أهل السموات والأرض (¬4)؟ ولولا أنّ رحمتَه غلبت غضبَه، ومغفرتَه سبقت عقوبتَه، وألاّ (¬5) ¬

_ (¬1) من قصيدة منسوبة إلى الأعشى في ديوانه (283). والرواية المشهورة: "بالوفاء وبالعدل". وقد أنشده المؤلف في أكثر من موضع. انظر طريق الهجرتين (11) وشفاء العليل (132) والمدارج (1/ 195). (¬2) ل، ز: "أكثر". (¬3) "وأشنعها ... بمثل" ساقط من ف. وفيها: "وذلك". (¬4) "وملك السموات ... " إلى هنا ساقط من ف. (¬5) "وإلاّ" وقعت هنا في غير موقعها، ولا يستقيم المعنى إلا بحذفها. وقد تكرّر استعمال "وإلاّ" على هذا الوجه في كلام المؤلف وشيخه، ولعله كان أسلوبًا دارجَا في زمنهما. انظر مثلًا طريق الهجرتين (44)، وشفاء العليل (119) =

لتدكدكت الأرض بمن قابَلَه بما لا تليق مقابلتُه به. ولولا حلمه ومغفرته (¬1) لزالت (¬2) السموات والأرض من معاصي العباد. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. فتأمّلْ ختمَ هذه الآية باسمين من أسمائه، وهما: الحليم الغفور (¬3)، كيف تجد تحت ذلك أنّه لولا حلمُه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرّت السموات والأرض. وقد أخبر سبحانه عن بعض كفر عباده أنه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} [مريم: 90]. وقد أخرج الله سبحانه الأبوين (¬4) من الجنّة بذنب واحد ارتكباه، وخالفا فيه نهيه (¬5). ولعَن إبليسَ، وطرده، وأخرجه من ملكوت السماء (¬6) بذنب (¬7) ارتكبه، وخالف فيه (¬8) أمرَه. ونحن- معاشرَ الحمقى- كما قيل: ¬

_ = ومجموع الفتاوى (11/ 27). وجامع المسائل (1/ 92، 171). (¬1) ز: "رحمته". (¬2) ت: "لزلزلت". (¬3) ل: "أسمائه الحليم والغفور". (¬4) س: "نقل الله سبحانه آدم وحوّاء". (¬5) ز: "نهيه فيه". وفي س: "واحد بالغفلة عن مخالفة نهيه"، وهو من جناية قارئ محا كتابة النسخة وكتب مكانها: "بالغفلة عن مخالفة". (¬6) ز: "السماوات". وهنا أيضًا كتب قارئ س مكان "ملكوت": "مشاركة أهل". (¬7) ز: "بذنب واحد". (¬8) "نهيه ولعن ... فيه" ساقط من ف.

نصِلُ الذنوبَ إلى الذنوب ونرتجي ... دَرَكَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ (¬1) ولقد علمنا أخرَجَ الأبوَينِ من ... ملكوتها الأعلى بذنب واحد (¬2) والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبل الخطيئة وأرفع درجةً. وقد تُضعِف الخطيئةُ همّتَه، وتُوهن عزمَه، وتُمرض قلبَه، فلا يقوى دواء التوبة على إعادته إلى الصحة الأولى، فلا يعود إلى درجته. وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت، ويعود إلى مثل عمله، فيعود إلى درجته. هذا كلّه (¬3) إذا كان نزوله إلى معصية. فإن (¬4) كان نزوله إلى أمر ¬

_ (¬1) الدرَك: اللّحاق، وهو اسم من الإدراك (المصباح المنير). وقد غيرها بعضهم في ف إلى "درج" لتوهمه أنها مفرد الأدْراك، وهي منازل في النار. والدرك إلى أسفل، والدرج إلى فوق. (النهاية 2/ 114). (¬2) في ف، ل: "ولقد علمنا أنه قد أخرج ... "، وهو مخلّ بالوزن. وكذا كان في ز، فطمس بعضهم: "أنه قد". وفي س تحريف وتغيير، وفي حاشيتها: "ظ ولقد علمنا أخرج"، وهو الصواب. والبيتان لمحمود الورّاق في عيون الأخبار (2/ 374)، والكامل (514)، والعقد (3/ 179) وغيرها. وفيها جميعًا: "تصل وترتجي". وعجز البيت الأول: "درك الجنان بها وفوز العابد". وفي بهجة المجالس (2/ 328): "فوز الجنان وقيل أجر العابد". أما "لدى النعيم الخالد" الذي ورد هنا، فهو جزء من بيت آخر لأبي إسحاق الصابئ في يتيمة الدهر (2/ 259) وقد أنشده المؤلف في طريق الهجرتين (298). أما البيت الثاني فروايته في المصادر كلها: ونسيتَ أنّ الله أخرج آدمًا ... منها إلى الدنيا بذنب واحدٍ انظر ديوانه المجموع (78). (¬3) "كله" ساقط من ز. (¬4) ز: "فإذا".

فصل: المعاصي تجرئ عليه أصناف المخلوقات

يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق، فذاك نزول لا يُرجى لصاحبه صعودٌ إلا بتجديد إسلامه من رأسٍ (¬1). فصل ومن عقوباتها: أنّها تُجرّئ على العبد من لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات. فيجترئ عليه الشياطين بالأذى (¬2)، والإغواء، والوسوسة، والتخويف، والتحزين، وإنسائه ما مصلحتُه في ذكره، ومضرّتُه في نسيانه؛ فتجترئ (¬3) عليه الشياطين حتّى تؤزه إلى معصية الله أزًا. ويجترئ عليه شياطين [43/ أ] الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره. ويجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده (¬4) وجيرانه، حتّى الحيوان البهيم! قال بعض السلف: إنّي لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابّتي (¬5). وكذلك يجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله (¬6). وكذلك تجترئ عليه نفسُه، فتتأسد عليه، وتستصعب عليه (¬7)، فلو أرادها لخير لم تطاوعه، ولم تنقَدْ له. وتسوقه إلى ما فيه هلاكه، شاء أم أبى. ¬

_ (¬1) س: "من الرأس". (¬2) س: "بالإيذاء". (¬3) س: "ويجترئ". ف: "فنجزى". (¬4) "أولاده" ساقط من ف. (¬5) من كلام الفضيل بن عياض، وقد سبق في ص (134). (¬6) س: "عليه الحدود"، وفي حاشيتها: "خ حدود الله تعالى". (¬7) ل: "فتتأسد عليه العبادة" كذا!

فصل: المعاصي تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه

وذلك لأنّ (¬1) الطاعة حصنُ الربّ تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين، فإذا فارق الحصين اجترأ عليه قُطّاعُ الطريق وغيرهم، وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراءُ هذه الآفات والنفوس عليه. وليس له (¬2) شيء يردّ عنه، فإنّ ذكر الله، وطاعتَه، والصدقةَ، وإرشادَ الجاهل، والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر= وقايةٌ تردّ عن العبد، بمنزلة القوة التي تردّ المرض وتقاومه، فإذا سقطت القوة غلب واردُ المرض، فكان (¬3) الهلاك. فلابدّ للعبد من شيء يردّ عنه، فإنّ موجب السيئات والحسنات يتدافع (¬4)، ويكون الحكم للغالب كما تقدّم. وكلّما قوي جانبُ الحسنات كان الردّ أقوى، فإنّ الله يدافع (¬5) عن الذين آمنوا، والإيمان قول وعمل، فبحسب قوة الإيمان يكون الدفعُ. والله المستعان. فصل ومن عقوباتها: أنّها تخون العبدَ أحوجَ ما يكون إلى نفسه. فإن كلّ أحد محتاج (¬6) إلى معرفة (¬7) ما ينفعه وما يضرّه في معاشه ومعاده، وأعلمُ الناس أعرَفهم (¬8) بذلك على التفصيل، وأقواهم وأكْيَسُهم من قوي على ¬

_ (¬1) ف: "وذلك كما أن". (¬2) لم يرد "له" في س. (¬3) س: "وكان". (¬4) ز: "تتدافع". (¬5) ف: "يدفع". (¬6) ف: "يحتاج". (¬7) س: "معرفته". (¬8) ل: "وأعرفهم".

نفسه وإرادته (¬1)، فاستعملها (¬2) فيما ينفعه، وكفّها عما يضرّه. وفي ذلك تفاوتت (¬3) معارفُ الناس وهممُهم ومنازلُهم. فأعرفُهم من كان عارفًا بأسباب السعادة والشقاوة، وأرشَدُهم من آثر هذه على هذه، كما أن أسفَههم من عكسَ الأمَر. والمعاصي تخون العبد أحوجَ ما كان إلى نفسه في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظّ الأشرف العالي الدائم على الحظّ الخسيس الأدنى المنقطع، فتحجبه الذنوبُ عن كمال هذا العلم [43/ ب]، وعن الاشتغال بما هو أولى به وأنفع له في الدارين. فإذا (¬4) وقع في مكروه، واحتاج إلى التخلّص منه، خانه قلبُه ونفسُه وجوارحُه، وكان بمنزلة رجل معه سيفٌ قد غشِيَه الجرَبُ (¬5)، ولزم قِرابَه (¬6) بحيث لا ينجذب مع صاحبه إذا جذبه، فعرض له عدوّ يريد قتلَه، فوضع يده على قائم سيفه، واجتهد ليخرجه، فلم يخرج معه، فدهمه العدوّ، وظفر به. ¬

_ (¬1) ل: "وإرادته لها". (¬2) ز: "واستعملها". (¬3) ف: "تفاوت". (¬4) ف: "وإذا". (¬5) الجرَب: الصدأ يركب السيف. (اللسان. جرب) عن ابن الأعرابي: سيف أجرب، إذا كثف الصدأ عليه حتى يحمرّ، فلا ينقلع عنه إلاَّ بالمسحل. (الأساس- جرب). والمسحل: المبرد. ولعل كلمة الجرب أشكلت، فاستبدلت بها في ط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: "الصدأ"، كما حذفوا "ويجرب" الآتية بعد أسطر. (¬6) قِراب السيف: غمده.

كذلك القلب يصدأ بالذنوب ويجرَب، ويصير مُثخَنًا بالمرض، فإذا احتاج إلى محاربة العدو به (¬1) لم يجد معه (¬2) شيئًا. والعبد إنّما يحارب ويصاول (¬3) ويُقدِم بقلبه، والجوارح تَبَعٌ للقلب، فإذا لم يكن عند ملِكها قوة يدفع بها، فما الظنّ بها! وكذلك النفس، فإنّها تتخنّث بالشهوات والمعاصي، وتضعف، أعني النفس المطمئنة، وإن كانت الأمّارة تقوى وتتأسّد. وكلّما قويت هذه ضعفت تلك، فيبقى الحكم والتصرّف للأمّارة. وربما ماتت نفسه المطمئنّة موتًا لا يرجى معه حياة، فهذا ميّت في الدنيا، ميّت في البرزخ، غير حيّ في الآخرة حياةً ينتفع بها، بل حياتُه حياةٌ يدرك بها الألم فقط. والمقصود أنّ العبد إذا وقع في شدّة أو كربة أو بلية خانه قلبُه ولسانُه وجوارحُه عمّا هو أنفع شيء له (¬4)، فلا ينجذب قلبه للتوكّل على الله، والإنابة إليه، والجمعيّة عليه، والتضرّع والتذلّل والانكسار بين يديه. ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فينحبسَ القلب على اللسان بحيث يؤثّر (¬5) الذكر، ولا ينحبسُ القلب واللسان (¬6) على المذكور، بل إن ذكَرَ أو دعا ذكَرَ بقلب لاهٍ ساهٍ غافل. ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقَدْ له، ولم تطاوعه. ¬

_ (¬1) "به" ساقط من ل. (¬2) ما عدا س: "معه منه". (¬3) س: "يحارب يقاتل" كذا دون واو العطف. (¬4) "له" ساقط من ز. (¬5) زاد بعضهم قبل "يؤثر" في ف: "لا". (¬6) في ل: "القلب على اللسان"، خطأ.

وهذا كلّه أثر الذنوب والمعاصي، كمن له جند (¬1) يدفعون عنه الأعداء، فأهمل جنده، وضيّعهم، وأضعفهم، وقطع أخبارهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعَهم في الدفع عنه بغير قوة! هذا، وثَمَّ أمرٌ أخوَفُ من ذلك وأدهى منه وأمرّ، وهو أن (¬2) يخونه قلبُه ولسانُه عند إلاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، [44/ أ] فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد (¬3) الناسُ كثيرًا من المحتضرين أصابهم ذلك، حتّى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه! آه! لا أستطيع أن أقولها! وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: شاه، رخُّ (¬4)، غلبتك. ثم وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تعبَتْ ... كيفَ الطريقُ إلى حمّام مِنجابِ (¬5) ثم قضى (¬6). ¬

_ (¬1) س: "كمن ليس له جند"، خطأ. (¬2) س: "أنه". (¬3) ز: "شهد". (¬4) الشاه والرُّخّ من قطع الشطرنج. (¬5) س: "أين الطريق"، وفي الحاشية أشير إلى هذه النسخة. و"حمّام منجاب" بالبصرة منسوب إلى منجاب بن راشد الضبيّ. قاله ابن قتيبة في المعارف (614)، وكذا في معجم البلدان (2/ 299). وقال الثعالبي في ثمار القلوب (318) إن الحمام المذكور كان لامرأة اسمها منجاب! (¬6) كتاب المحتضرين (178)، التعازي والمراثي (252). وانظر محاضرات الأدباء =

وقيل لآخر: قلِ: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاننا (¬1) تنتنا، حتى قَضى (¬2). وقيل لآخر ذلك فقال: وما ينفعني ما تقول، ولم أدَعْ معصية إلا ركبتُها، ثم قضى، ولم يقلها. وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عنّي، وما أعرف (¬3) أنّي صلّيتُ لله صلاةً، ولم يقلها (¬4). وقيل لآخر ذلك، فقال: هو كافر بما يقول، وقضى (¬5). وقيل لآخر ذلك، فقال: كلّما أردتُ أن أقولها فلساني (¬6) يُمسِك عنها. وأخبرني من حضر بعض الشحّاذين (¬7) عند موته، فجعل يقول: لله فلس (¬8)، لله فلس، حتّى قضى. ¬

_ = (2/ 502)، ومعجم البلدان. وسيأتي البيت مع قصة في ص (389). (¬1) ز: "تاتنا". (¬2) "حتى قضى" ساقط من ف. (¬3) س: "عني ما أعلم". (¬4) زاد في ز: "وقضى". (¬5) ز: "ولم يقلها وقضى". وهذه الفقرة ساقطة من ل. (¬6) س: "لساني". وفي غيرها: "ولساني"، ولعل الصواب ما أثبت، وكثيرًا ما تلتبس الواو بالفاء في خط المصنف. (¬7) س: "الشحاثين". والشحاث". لغة في الشحاذ. انظر الأساس (شحث). (¬8) س: "ولس"! وجاءت الجملة: "لله فلس" في ف مرة واحدة.

وأخبرني بعض التجّار عن قرابة له أنه احتضر، وهو عنده، فجعلوا يلقّنونه: لا إله إلا الله، وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذه مشترى جيّد، هذه كذا، حتى قضى. وسبحان الله (¬1)! كم شاهد الناس من هذا عبرًا! والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضَرين أعظم وأعظم. وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكّن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله (¬2)، وقد أغفل قلبه عن الله (¬3)، وعطّل لسانَه عن ذكره، وجوارحَه عن طاعته، فكيف الظنّ به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع (¬4)، وجَمْع الشيطانِ له كلَّ قوته وهمّته، وحَشْدِه (¬5) عليه بجميع ما يقدر عليه، َ لينال منه فرصته، فإنّ ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانُه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال (¬6)؟ فمَن تُرى يَسلَمُ على ذلك؟ فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27]. ¬

_ (¬1) ف: "فسبحان الله". (¬2) س: "من المعاصي معاصي الله تعالى". (¬3) "عن الله" لم يرد في ف. (¬4) ل، ز: "النزاع". (¬5) كذا في جميع النسخ. وفي غير طبعة: "وحشد عليه"، وفي بعضها: "وقد جمع الشيطان ... وحشد عليه". ولعل ذلك تصرف من الناشرين لخطئهم في قراءة النص. (¬6) ف: "الحالة".

فكيف يوفَّق [44/ ب] لحسن الخاتمة من أغفل اللهُ سبحانه قلبَه عن ذكره، واتّبَعَ هواه، وكان أمره فُرُطًا؟ فبعيدٌ من قلبٍ بعيدٍ من الله تعالى، غافلٍ عنه، متعبّدِ (¬1) لهواه، أسيرٍ لشهواته (¬2)؛ ولسانٍ (¬3) يابسٍ من ذكره، وجوارحَ (¬4) معطّلةٍ من طاعته مشتغلةٍ بمعصيته = أن توفَّقَ (¬5) للخاتمة بالحسنى. ولقد قطع خوفُ الخاتمة ظهورَ المتقين، وكأنّ المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعًا بالأمان! (¬6) {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)} [القلم: 39]. يا آمنًا معْ قبيحِ الفعل منه أهَلْ ... أتاك توقيعُ أمنٍ أنت تَملكُه (¬7) جمعتَ شيئَينِ أمنًا واتّباعَ هوىً ... هذا وإحداهما في المرء تُهلِكُه (¬8) والمحسنون على دَرْبِ المخاوفِ قد ... ساروا وذلك دربٌ لستَ تَسلكُه فرّطتَ في الزرع وقتَ البَذْر مِن سَفَهٍ ... فكيف عند حصاد الناس تُدركُه هذا وأعجبُ شيء منك زهدُك في ... دار البقاء بعيشٍ سوف تَتركُه (¬9) ¬

_ (¬1) ف: "متبع". (¬2) ف: "لشهوته". (¬3) س: "ولسانه". (¬4) س: "وجوارحه". (¬5) ل، ز: "يوفق". ولم يضبط في س. (¬6) س، ل: "بالأيمان". (¬7) ل: "قبح الفعل". (¬8) ز: "أمن". (¬9) ل: "سوف تدركه". وفي البيت التالي فيها: "سوف تتركه".

فصل: المعاصي تعمي القلب

مَنِ السفيهُ إذا بالله أنت أم الْـ ... مَغبونُ في البيع غَبْنًا سوف يُدركه (¬1) فصل ومن عقوباتها: أنّها تعمي القلب، فإن لم تُعْمِه أضعفَتْ بصيرتَه، ولابدَّ. وقد تقدم بيانُ أنها تضعفه، ولابدّ. فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الهدى، وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره، بحسب ضعف بصيرته وقوته. فإنّ الكمال الإنساني مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثاره عليه. وما تفاوتت منازل الخلق عند الله في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين. وهما اللذان (¬2) أثنى الله سبحانه على أنبيائه بهما (¬3) في قوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} [ص: 45]. فالأيدي: القوى في تنفيذ الحقّ، والأبصار: البصائر في الدين. فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه (¬4). وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام: فهؤلاء أشرف أقسام الخلق وأكرمهم على الله. [45/ أ] القسم الثاني: عكس هؤلاء، لا بصيرة في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق. وهم أكثر هذا الخلق الذين رؤيتُهم قذى العيون، وحمّى ¬

_ (¬1) لعل الأبيات للمؤلف رحمه الله. (¬2) ل؛ "الذين". ز: "وهم الذين"، خطأ. (¬3) ل: "بهم"، خطأ. (¬4) وانظر إعلام الموقعين (1/ 89)،والفروسية (120)، ومجموع الفتاوى (4/ 93).

الأرواح، وسقم القلوب، يضيّقون الديار، ويُغلون الأسعار، ولا يستفاد بصحبتهم إلا العار والشنار! القسم الثالث: من له بصيرة بالحقّ ومعرفة به، لكنّه ضعيفٌ لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة إليه. وهذا حال المؤمن الضعيف، والمؤمنُ القويُّ خير وأحبّ إلى الله منه (¬1). القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميّز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل يحسب كلَّ سوداء تمرةً، وكلَّ بيضاء شحمةً، يحسب الورَمَ شحمَا، والدواءَ النافعَ سُمَّا. وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضعًا (¬2) لها سوى القسم الأول. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24] (¬3). فأخبر سبحانه أنّ بالصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين. وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين، وأقسم بالعصر- الذي هو زمن سعي الخاسرين والرابحين- على أنّ من عداهم فهو من الخاسرين، فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3]. فلم يكتف منهم بمعرفة الحقّ والصبر عليه، حتّى يوصي بعضهم ¬

_ (¬1) كما ورد في الحديث، وقد تقدم تخريجه في ص (166). (¬2) غيرها بعضهم في ف إلى "موضع". (¬3) وقع في النسخ -ما عدا س- في الآية: "وجعلناهم".

بعضًا به، ويرشده إليه، ويحضّه عليه. وإذا كان من عدا هؤلاء خاسرًا، فمعلوم أنّ المعاصي والذنوب تُعمي بصيرةَ القلب فلا يدرك الحقّ كما ينبغي، وتُضعِفُ قوتَه وعزيمتَه فلا يصبر عليه. بل قد تتوارد (¬1) على القلب حتى ينعكس إدراكه، كما ينعكس سيرُه، فيدرك الباطلَ حقَّا، والحقَّ باطلًا، والمعروفَ منكرًا، والمنكرَ معروفًا. فينتكس في سيره، ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة، إلى سفره إلى (¬2) مستقرّ النفوس المُبْطِلَة التي رضيَتْ بالحياة الدنيا، واطمأنَّتْ بها، وغفلت عن الله وآياته، وتركت الاستعداد للقائه. [45/ ب] ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلا هذه العقوبة وحدها لكانت كافيةً داعيةً إلى تركها والبعد منها، والله المستعان. وهذا كما أنّ الطاعة تُنوِّر القلب، وتجلوه (¬3) وتصقُله، وتقوّيه وتثبته، حتّى يصير كالمراَة المجلوّة في جلائها (¬4) وصفائها ويمتلئ (¬5) نورًا؛ فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نوره ما يصيب مُسْتَرِقي السَّمْع (¬6) من الشهب الثواقب. فالشيطان يفرَق من هذا القلب أشدَّ من فرَقِ الذَئب من الأسد، حتى إنّ صاحبه لَيصرَعُ الشيطان، فيخِرّ صريعًا، فيجتمع عليه الشياطين، فيقول بعضهم لبعض: ما شأنه؟ فيقال: أصابه إنسيّ، وبه ¬

_ (¬1) ما عدا ل: "يتوارد". (¬2) "والدار الآخرة ... إلى" ساقط من ل. (¬3) "وتجلوه" ساقط من ل. (¬4) ز: "كالمرآة المصقولة في صلابتها". (¬5) ما عدا ف: "فيمتلئ". (¬6) ف: "مسترق السمع". س: "من مسترقي السمع".

نظرة من الإنس! فيا نظرة من قلبِ حُر منوَّرٍ ... يكاد لها الشيطانُ بالنور يحرَقُ أفيستوي هذا القلبُ، وقلبٌ مظلمة (¬1) أرجاؤه، مختلفةٌ أهواؤه، قد اتخذه الشيطانُ وطنَه، وأعدَّه مسكنَه. إذا تصبّح بطلعته حيّاه، وقال: فديتُ مَن لا يفلح في دنياه ولا في أخراه (¬2)! قرينُك في الدنيا وفي الحشر بعدها ... فأنت قرينٌ لي بكلّ مكانِ فإنْ كنتَ في دار الشقاء فإنّني ... وأنت جميعًا في شقًا وهوان قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 36 - 39]. فأخبر سبحانه أنْ من عشا عن ذكره -وهو كتابه الذي أنزله (¬3) على رسوله- فأعرض عنه، وعميَ عنه، وعشَتْ بصيرتُه عن فهمه وتدبّره ومعرفةِ مراد الله منه = قيّض الله له شيطانًا عقوبةً له بإعراضه عن كتابه. فهو قرينه الذي لا يفارقه في الإقامة ولا في المسير، ومولاه وعشيره الذي هو بئس المولى وبئس العشير. ¬

_ (¬1) س، ل: "مظلم".ْ (¬2) عبارة المؤلف ناظرة إلى قول البحتري، وقد سبق في ص (170): وإذا رأى إبليس طلعة وجهه ... حيّا وقال: فديتُ من لم يفلح (¬3) ل: "أنزل".

رضيعَي لِبانٍ ثديَ أم تقاسما ... بأسحمَ داجٍ عوضُ لا نتفرَّقُ (¬1) ثم أخبر سبحانه أن الشيطان [46/ أ] يصدّ قرينه ووليّه عن سبيله الموصل إليه وإلى جنّته، ويحسب هذا الضالُّ المصدودُ أنّه على طريق هدىً، حتى إذا جاء القرينان يوم القيامة يقول أحدهما للآخر: يا ليت بيني وبينك بعدَ المشرقين، فبئس القرين كنتَ لي في الدنيا! أضللتَني عن الهدى بعد إذ جاءني، وصددتَني عن الحقّ، وأغويتَني حتّى هلكتُ، وبئس القرين أنت لي (¬2) اليوم! ولمّا كان المصابُ إذا شاركه غيرُه في مصيبته حصل بالتأسّي نوعُ تخفيفٍ وتسليةٍ = أخبر سبحانه أنّ هذا غير موجود وغير حاصل في حقّ المشتركين في العذاب، وأنّ القرين لا يجد راحةً ولا أدنى فرح (¬3) بعذاب قرينه معه، وإن كانت المصائب في الدنيا إذا عمَّتْ صارت مَسْلاةً كما قالت الخنساء في أخيها صخر: فلولا كثرةُ الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلتُ نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النفسَ عنه بالتأسّي (¬4) فمنع الله سبحانه هذا القدرَ من الراحة عن أهل النار فقال: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39]. ¬

_ (¬1) للأعشى في ديوانه (275). (¬2) "لي" ساقط من ف. (¬3) س، ف: "فرج". (¬4) ديوان الخنساء (326) وقد زيد في بعض الطبعات بيت ثالث لم يرد في النسخ التي بين أيدينا.

فصل: المعاصي مدد من الإنسان لعدوه على نفسه

فصل ومن عقوباتها: أنّها مددٌ من الإنسان يُمِدّ به عدوَّه عليه، وجيشٌ يقوّيه به (¬1) على حربه. وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسانَ بعدوّ لا يفارقه طرفةَ عين. ينام، ولا ينام عنه (¬2). ويغفل، ولا يغفل عنه. يراه هو وقبيلُه من حيث لا يراه. يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمرًا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله، ويستعين عليه ببني أبيه (¬3) من شياطين الجنّ وغيرهم من شياطين الإنس. قد نصب (¬4) له الحبائل، وبغاه الغوائل، ومدّ حوله الأشراك، ونصب له الفِخاخ والشِّباك، وقال لأعوانه: دونكم عدوَّكم وعدوَّ أبيكم، لا يفوتنّكم، ولا يكنْ حظُّه الجنةَ وحظُّكم النارَ، ونصيبُه الرحمة ونصيبُكم اللعنة! وقد علمتم أنّ ما جرى (¬5) عليّ وعليكم من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله فبسببه ومن أجله. فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا (¬6) في هذه البلية، إذ قد فاتنا شركةُ [46/ ب] صالحيهم في الجنّة. وقد أعلَمَنا سبحانه بذلك كلّه من عدوّنا، وأمَرَنا أن نأخذ له أهبته، ونعدّ له عدّته. ولمّا علم سبحانه أنّ آدم وبنيه قد بُلُوا بهذا العدوّ، وأنّه قد سُلِّط ¬

_ (¬1) "به" ساقط من ز. (¬2) ز: "طرفة عين وصاحب لا ينام عنه". (¬3) ت: "ببني جنسه وبنيه". (¬4) ت: "فقد نصب". (¬5) ت: "وعلمتم ما قد جرى". (¬6) ز: "أن تكونوا شركاء".

عليهم، أمدَّهم بعساكر وجند (¬1) يلقَونه بها، وأمدّ عدوَّهم أيضًا بجند وعساكر (¬2) يلقاهم بها، وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفَس واحد من أنفاسها، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتلون، وأخبر أنّ ذلك وعد مؤكّد عليه في أشرف كتبه، وهي التوراة والإنجيل والقرآن. ثم أخبر أنّه (¬3) لا أوفى بعهده منه سبحانه، ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرَها فلينظر إلى المشتري مَنْ هو؟ وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة، وإلى مَن جرى على يديه هذا العقد. فأيّ فوز أعظم من هذا؟ وأيّ تجارة أربح منه؟ (¬4) ثم أكّد سبحانه معهم هذا الأمر بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 10 - 13]. ولم يسلّط سبحانه هذا العدوّ على عبده المؤمن الذي هو أحبُّ أنواع ¬

_ (¬1) ز: "وجنود". (¬2) ز: "بعساكر وجند". (¬3) ف: "وأخبر أنَّه". وسقطت "أنّه" من ز. (¬4) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111].

المخلوقات إليه إلا لأنّ الجهاد (¬1) أحبُّ شيء إليه، وأهله أرفع الخلق عنده درجاتٍ، وأقربهم إليه وسيلةً. فعقد سبحانه لواء هذا الحرب (¬2) لخلاصة مخلوقاته، وهو القلب الذي هو محلُّ معرفتِه، ومحبّتِه، وعبوديتِه، والإخلاصِ له، والتوكلِ عليه، والإنابةِ إليه. فولاّه أمرَ هذا الحرب، وأيّده بجند من الملائكة لا يفارقونه، معقَبات (¬3) من بين يديه ومن خلفه، يُعقِبُ بعضُهم بعضًا، كلّما ذهب بَدَلٌ جاء بَدَلٌ آخر، يثبّتونه، ويأمرونه بالخير، ويحضّونه عليه، ويعِدُونه بكرامة الله، ويصبّرونه، ويقولون: إنما هو صبر ساعة، وقد استرحتَ [47/ 1] راحة الأبد. ثم أمدّه سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل إليه كتابه، فازداد قوةً إلى قوته، ومددًا إلى مدده (¬4)، وعدّةً إلى عدّته. وأمدّه (¬5) مع ذلك بالعقل وزيرًا له ومدبّرًا، وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحةً له، وبالإيمان مثبّتًا له ومؤيدًا وناصرًا (¬6)، وباليقين كاشفًا له عن حقيقة الأمر. حتّى كأنه يعاين (¬7) ما وعد الله به (¬8) أولياءَه وحزبَه ¬

_ (¬1) ف: "أن الجهاد". (¬2) كذا في النسخ هنا وفيما يأتي، والحرب مؤنثة، وقد تذكّر. انظر: القاموس (حرب). (¬3) ف: "له معقبات". (¬4) انفردت ز هنا بزيادة: "وأعوانَا إلى أعوانه". (¬5) ف: "وأيده". (¬6) ز: "ناصرًا ومؤيدًا". (¬7) أشار في حاشية س إلى أن في نسخة: "معاين". (¬8) لم يرد "به" في س.

على جهاد أعدائه. فالعقل يدبّر أمرَ جيشه، والمعرفة تضع (¬1) له أمورَ الحرب وأسبابها في مواضعها (¬2) اللائقة بها، والإيمان يثبّته ويقوّيه ويصبّره، واليقين يُقْدِم به ويحمل به الحملات الصادقة. ثم أمدّ سبحانه القائمَ بهذا الحرب (¬3) بالقوى الظاهرة والباطنة، فجعل العينَ طليعتَه، والأذنَ صاحبَ خبره، واللسانَ ترجمانَه، واليدين والرجلين أعوانَه، وأقام ملائكتَه وحمَلَةَ عرشه يستغفرون له ويسألون له أن يقِيَه السّيئاتِ ويدخله الجنّات. وتولّى سبحانه الدفع والدفاع عنه بنفسه، وقال: هؤلاء حزبي، وحزب الله هم المفلحون (¬4). وهؤلاء جندي {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 173] وعلّم عبادَه كيفية هذا الحرب والجهاد، فجمعها لهم في أربع كلمات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]. ولا يتم أمر هذا الجهاد (¬5) إلا بهذه الأمور الأربعة فلا يتمّ له (¬6) الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مواقفته (¬7) ومنازلته، فإذا صابر عدوَّه ¬

_ (¬1) ل، ز: "تصنع". (¬2) س، ز: "أسبابها مواضعها". ل: "ومواضعها". (¬3) ز: "الأمر". (¬4) قال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22]. (¬5) ف: "أمر الجهاد". (¬6) لم ترد "له " في س. (¬7) في ل، ز: "موافقته"، وهو تصحيف صوابه ما أثبتنا من خا، خب. يقال: واقفه مواقفة ووِقافًا: وقف معه في حرب أو خصومة. وتواقف الفريقان في القتال. (اللسان - وقف). وفي ف: "مواقعته" ورسمها في س يشبه "مرافقته"، =

احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلاّ يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل. فهذه الثغور منها يدخل (¬1) العدو، فيجوس خلالَ الديار، ويُفسِد ما قدر (¬2) عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور. ولا يُخْلي مكانها، فيصادفَ العدوُّ الثغرَ خاليًا، فيدخل منه. فهؤلاء أصحابُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خيرُ الخلق بعد النبيين والمرسلين، وأعظمهم حمايةً وحراسةً من الشيطان، وقد أخلَوا المكان الذي أمِروا بلزومه يوم أُحد، فدخل منه العدوّ، فكان ما كان. وجماع [47/ ب] هذه الثلاثة (¬3) وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى، ولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر. فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين واصطفاف العسكرين، وكيف تُدال مرةً، ويُدال (¬4) عليك أخرى؟ أقبل ملِكُ الكفر بجنوده وعساكره، فوجد القلبَ في حصنه جالسًا على كرسي مملكته (¬5)، أمرُه نافذٌ في أعوانه، وجندُه قد حفّوا به، ¬

_ = ولم ينقط فيها إلا حرف القاف. وفي ط: "مقاومته"، وكذا في مطبوعة عدة الصابرين (45). (¬1) ف: "يدخل منها". (¬2) ف: "يقدر". (¬3) ز: "البليه"، تصحيف. (¬4) "العسكرين ... يدال" ساقط من س. (¬5) ف: "على كرسيه كرسي مملكته".

طريقة الشيطان في غزو قلب العبد

يقاتلون عنه، ويدافعون عن حوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه. فسأل عن أخصّ الجند به وأقربهم منه منزلةً، فقيل له: هي النفس، فقال لأعوانه: ادخلوا عليها من مرادها وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها، فَعِدُوها به، ومَنُّوها إيّاه، وانقشوا صورةَ المحبوب فيها في يقظتها ومنامها، فإذا اطمأنّتْ إليه وسكنتْ عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جُرُّوها بها إليكم. فإذا خامرتْ على القلب، وصارت معكم عليه، ملكتم ثغرَ العين والأذن واللسان والفم واليد والرجل، فرابطوا على هذه الثغور كلّ المرابطة. فمتى (¬1) دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخَن بالجراحات. ولا تُخلوا هذه الثغور، ولا تمكّنوا سريّة تدخل منها إلى القلب، فتُخرجَكم منها. وإن غُلِبتم فاجتهدوا في إضعاف السريّة ووَهَنِها حتى لا تصل إلى القلب، وإنْ وصلتْ إليه ضعيفةً لا تغني عنه شيئًا. فإذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا ثغرَ العين أن يكون نظرُه اعتبارًا، بل اجعلوا نظره تفرُّجًا واستحسانًا وتلهِّيًا. فإنْ استَرقَ نظرةَ عبرةٍ فأفسِدوها عليه بنظر الغفلة والاستحسان والشهوة (¬2)، فإنّه أقرب إليه، وأعلَق بنفسه، وأخفّ عليه. ودونكم ثغَر العين، فإنّ (¬3) منه تنالون بغيَتكم، فإنّي ما أفسدتُ بني آدم بشيء مثل النظر، فإنّي أبذر به في القلب بَذْرَ الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعِدُه وأمنّيه حتى ¬

_ (¬1) ف: "فإذا". (¬2) "وتلهّيًا ... الاستحسان" سقط من ف لانتقال النظر، فطمس بعض من قرأها الألف والسلام من "الشهوة" وضبطها بتنوين الفتحة لتكون معطوفة على "تلهّيًا". (¬3) ل، ز: "فإنّه".

فصل: إفساد ثغر الأذن

أقوّي عزيمته، وأقوده [48/ أ] بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة. فلا تهملوا أمر هذا الثغر، وأفسِدوه بحسب استطاعتكم، وهوّنوا عليه أمرَه، وقولوا له: ما مقدار نظرةٍ تدعوك إلى تسبيح الخالق، والتأمّل لبديع صنعته وحسن هذه الصورة التي إنّما خُلِقَتْ ليستدلّ بها الناظرُ عليه؟ وما خلق الله لك العينين سدىً، وما خلق (¬1) هذه الصورةَ لِيحجُبها عن النظر! وإن ظفرتم به قليلَ العلم فاسدَ العقل، فقالوا: هذه الصورة مظهر (¬2) من مظاهر الحقّ ومجلىً من مجاليه، فادعوه إلى القول بالاتّحاد، فإنْ لم يقبل فالقول بالحلول العام أو الخاص (¬3). ولا تقنعوا منه بدون ذلك، فإنّه يصير به من إخوان النصارى، فمُروه حينئذ بالعفّة والصيانة والعبادة والزهد في الدنيا، واصطادوا عليه الجهال. فهذا من أقرب خلفائي (¬4) وأكبر جندي، بل أنا من جنده وأعوانه! فصل (¬5) ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه (¬6) ما يُفسِد عليكم الأمرَ، فاجتهدوا ¬

_ (¬1) س: "خلق الله". (¬2) ف: "هذه مظهر". (¬3) الاتحاد: وحدة الوجود، وهو القول بأنّ الحق عين الخلق. والحلول العام: القول بان الله حال بذاته في كل مكان. والحلول الخاصّ كقول النسطورية من النصارى في المسيح بان اللاهوت حل في الناسوت. انظر مجموع الفتاوى (2/ 171 - 172). وشرح النونية لمحمد خليل هراس (1/ 59 - 68). (¬4) ف، ل: "حلفائي". (¬5) كلمة "فصل" ساقطة من ز. (¬6) س: "عليه". ز: "عليكم ما يفسد الأمر".

أن لا تُدخِلوا (¬1) منه إلا الباطلَ (¬2)، فإنّه خفيف على النفس تستحليه وتستملحه، وتخيّروا (¬3) له أعذب الألفاظ وأسحرَها للألباب، وامزجوه بما تهوى النفوس مزجًا. وألقُوا الكلمة، فإنْ رأيتم منه إصغاءً إليها فزُجّوه بأخواتها. وكلّما صادفتم منه استحسان شيء فالْهَجُوا له (¬4) بذكره. وإيّاكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله (¬5) - صلى الله عليه وسلم - أو كلام النصحاء! فإن غُلِبتم على ذلك، ودخل من ذلك شيء (¬6)، فحُولوا بينه وبيّن فهمه وتدبّره، والتفكر فيه (¬7)، والعظة به، إمّا بإدخال ضدّه عليه، وإمّا بتهويل ذلك وتعظيمه، وأنّ هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه، فلا سبيل لها إليه، وهو حمل ثقيل عليها لا تستقِلّ به، ونحو ذلك؛ وإمّا بإرخاصه على النفوس وأنّ الاشتغال ينبغي أن يكون أهمَّ (¬8) بما هو أعلى (¬9) عند الناس، وأعزّ عليهم، وأغرب عندهم، وزبونه القابلون (¬10) له أكثر. وأما الحق (¬11) فهو مهجور، ¬

_ (¬1) ز: "يدخل". (¬2) ف: "بالباطل". (¬3) س: "وتحرّوا". (¬4) "له" ساقط من ف. (¬5) س: "وكلام رسوله". وسقط "كلام الله أو" من ل. (¬6) س: "شيء من ذلك". (¬7) ف: "تفكره والتدبر فيه". ز: "تدبره وتفكره فيه". (¬8) "أهمّ" كذا في جميع النسخ! وقد حذفها الناشرون. (¬9) ز: "أغلى" بالمعجمة. (¬10) س: "القائلون"، خطأ. ووضع بعضهم في ف علامة الهمزة مع وجود نقطة الباء! وفي ز: "زبونهم". وكلمة "الزبون" مفردة، واستعملت هنا للجمع. (¬11) س: "الخلق"، خطأ.

وقابله (¬1) [48/ ب] معرِّضٌ نفسَه للعداوة، والرائج بين الناس أولى بالإيثار، ونحو ذلك. فيُدخِلون الباطلَ عليه (¬2) في كلّ قالب يقبله ويخِفّ عليه، ويُخرجون له الحقَّ في كل قالب يكرهه ويثقل عليه. وإذا شئت أن تعرف ذلك فانظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس، كيف يُخرِجون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول، وتتبّع عثرات الناس، والتعرض من البلاء لما لا يطيق (¬3)، وإلقاء الفتن بين الناس، ونحو ذلك. ويُخرِجون اتّباعَ السنّة، ووصفَ الربّ تعالى بما وصف به نفسَه، ووصفه به رسولُه، في قالب التشبيه والتجسيم والتكييف. ويسمون علوَّ الله على خلقه، واستواءَه على عرشه، ومباينتَه لمخلوقاته "تحيّزًا"، ويسمّون نزولَه إلى سماء الدنيا (¬4) وقوله: "من يسألني فأعطيه" (¬5) تحرُّكًا وانتقالًا، ويسمّون ما وصف به نفسَه من اليد والوجه أعضاءً وجوارح، ويسمّون ما يقوم به من أفعاله "حوادث"، وما يقوم به من صفاته (¬6) "أعراضًا". ثم يتوصلون إلى نفي ما وصف به نفسَه بنفي هذه الأمورًا ويُوهمون الأغمار وضعفاءَ البصائر أنّ إثبات الصفات ¬

_ (¬1) س، ز: "قائله". ل: "صاحبه". (¬2) ف: "عليه الباطل". (¬3) "لما لا يطيق" ساقط من ز. (¬4) س: "السماء الدنيا". (¬5) يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء ... (758). (¬6) ز: "من خيفته"، تحريف.

فصل: إفساد ثغر اللسان، وهو الثغر الأعظم

التي نطق بها كتابُ الله وسنةُ رسوله يستلزم هذه الأمورًا ويُخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه والتعظيم. وأكثرُ الناس ضعفاءُ العقول يقبلون الشيِء بلفظٍ، ويردّونه بعينه بلفظ آخر (¬1)! قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. فسمّاه "زخرفًا" وهو باطل (¬2)؛ لأنّ صاحبه يزخرفه ويزيّنه ما استطاع، ويُلقيه إلى سمع المغرور، فيغترُّ به. والمقصود أنّ الشيطان قد لزم ثغرَ الأذن (¬3)، يُدخِل فيها ما يضرّ العبدَ ولا ينفعه، ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه، وإن دخل بغير اختياره أفسده عليه (¬4). فصل (¬5) ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنّه الثغر الأعظم، [49/ أ] وهو قُبالة الملك (¬6)، فأجْرُوا عليه من الكلام ما يضرّه ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، أو التكلّم بالعلم النافع. ¬

_ (¬1) "ويردونه بعينه بلفظ" سقط من ف لانتقال النظر. (¬2) س: "الباطل". (¬3) س: "الآذان". (¬4) ما عدا ف: "أفسد عليه". (¬5) كلمة "فصل" غير موجودة في ز. (¬6) قبالة الشيء: تجاهه، وما استقبلك منه.

ويكون لكم في هذا الثغر أمران (¬1) عظيمان لا تبالُون بأيّهما ظفرتم: أحديث: التكلم بالباطل، فإنّ المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم. والثاني (¬2): السكوت عن الحقّ، فإنّ الساكت عن الحقّ أخ لكم أخرس، كما أنّ الأولَ أخ لكم ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع إخوانكم لكم. أما سمعتم قول الناصح: المتكلِّمُ بالباطل شيطان ناطق، والساكتُ عن الحقّ شيطان أخرس (¬3). فالرباطَ الرباطَ على هذا الثغر أن يتكلّم بحق، أو يمسك عن باطل (¬4). وزيّنوا له التكلّمَ بالباطل بكلّ طريق. وخوّفوه من التكلم بالحق بكل طريق. واعلموا يابَنيَّ أنّ ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأكُبُّهم منه (¬5) على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذتُه من هذا الثغر! وأوصيكم (¬6) بوصيّة، فاحفظوها: لِينطِقْ أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها ¬

_ (¬1) س، ل: "أثران". (¬2) س: "الثاني" دون واو العطف. (¬3) نحوه في إعلام الموفعين (2/ 177). ونقل القشيري من كلام شيخه أبي علي الدقاق: "من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس". الرسالة (120). (¬4) س: "الباطل". (¬5) لم يرد "منه" في س. وفي ف: "فيه"، ولعله تحريف. (¬6) ز: "أوصيتكم".

الشيطان قاعد لابن آدم في كل طريق

وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها. وكونوا أعوانًا على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا لهم كلّ مرصد (¬1). أما سمعتم قسمي الذي أقسمتُ به لربّهم حيث قلتُ: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف: 16 - 17]. أو ما (¬2) ترَوني قد قعدتُ لابن آدم بطرقه كلّها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدتُ له بطريق غيره (¬3) حتى أصيب (¬4) منه حاجتي أو بعضَها. وقد حذّرهم ذلك رسولهم (¬5)، فقال لهم: "إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه (¬6) كلّها، فقعد له بطريق الإِسلام، فقال: أتُسلِمُ وتذَر دينك ودين آبائك؟ فخالفه، وأسلم. فقعد [49/ ب] له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ فخالفه، وهاجر. فقعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد، فتُقتَلُ، فيُقسَم المال (¬7)، وتُنكح الزوجةُ! " (¬8). ¬

_ (¬1) ف: "في كل مرصد". (¬2) س: "أما". (¬3) ف: "إلا أتيته من طريق آخر". (¬4) س: "أصبتُ"، ولعله تصحيف. (¬5) بعده في س: "اللهم صل على محمَّد رسولك وبارك عليه وسلم وعلى آله وصحبه". وفي ز: "رسوله". (¬6) س: "بأطرقه". (¬7) ز: "ويقسم المال". (¬8) أخرجه النسائي (3134) وأحمد 3/ 483 (15958) وابن حبان (4593) وابن أبي عاصم في الجهاد (13) والبخاري في تاريخه (4/ 187 - 188) وغيرهم، =

فهكذا (¬1) فاقعُدوا لهم بكلّ طرق الخير (¬2). فإذا أراد أحدهم أن يتصدّق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتُخرج المال، فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء؟ أوَ ما سمعتم ما ألقيتُ على لسان رجل سأله آخَرُ (¬3) أن يتصدّق عليه، وقال: هي أموالنا، إنْ أعطيناكموها صرنا مثلكم. واقعدوا له (¬4) بطريق الحجّ، فقالوا: طريقه مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال. وهكذا فاقعدوا له على سائر طرق الخير بالتنفير منها وذكر صعوبتها وآفاتها. ثم اقعدوا على طرق المعاصي، فحسِّنوها في أعيُن بني آدم (¬5)، وزيِّنوها في قلوبهم، واجعلوا أكبر (¬6) أعوانكم على ذلك النساء، فمن ¬

_ = من طريق موسى بن المسيب أخبرني سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه فذكره. وقد وقع فيه اختلاف في تعيين اسم الصحابي. والطريق المثبت هو الصواب. والحديث صححه ابن حبان، وصحح إسناده العراقي، وحسن إسناده ابن حجر. انظر الإصابة (3/ 64) وتحقيق الجهاد لابن أبي عاصم (1/ 150 - 151). (¬1) ز: "فكذا". ف: "وهكذا". (¬2) ما عدا ل: "طريق الخير". (¬3) ف: "سأله سائل". (¬4) ف: "لهم". (¬5) ف: "عين بني آدم". (¬6) ف: "أكثر".

أبوابهن فادخلوا عليهم، فنعم العون (¬1) هنّ لكم! ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين فامنعوها أن تبطش بما يضرّكم أو تمشي فيه. واعلموا أنّ أكبر عَونكم (¬2) على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمّارة. فأعينوها واستعينوا بها، وأمِدّوها (¬3) واستمدّوا منها. وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة، فاجتهدوا في كسْرها وإبطالِ قواها (¬4)، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادّها عنها. فإذا (¬5) انقطعت موادّها، وقويت موادّ النفس الأمّارة، وأطاعت (¬6) لكم أعوانُها، فاستنزِلُوا القلبَ من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولُوا مكانه النفس. فإنّها لا تأمر إلا بما تهوَونه وتحبّونه ولا تجيئكم (¬7) بما تكرهونه البتة، مع أنّها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرَتْ إلى فعله. فإن أحسستم من القلب منازعةً إلى مملكته، وأردتم الأمنَ من ذلك (¬8)، فاعقدوا بينه وبيّن النفس عقدَ النكاح، فزيّنوها، وجمّلوها، ¬

_ (¬1) ز: "القوما" كذا! (¬2) س: "أعوانكم"، وفي حاشيتها أشير إلى هذه النسخة. وفي ز: "أكثر" مكان "أكبر"، تصحيف. (¬3) ف: "أمدِدوها". (¬4) س: "موادّها"، ولعله تحريف. (¬5) ف: "وإن"، وسقط ما بعدها إلى "أطاعت". (¬6) س، ل: "انطاعت". (¬7) ز: "ولا تحتكم"، تصحيف. (¬8) ت: "منازعة إلى تملكه الا من ذلك"، تحريف.

الشهوة والغفلة جندان من جنود الشيطان

وأرُوها إياه في أحسنِ صورةِ عروسٍ توجد، وقولوا له: ذُقْ طعمَ هذا الوصال والتمتعّ بهذه العروس، كما ذقتَ [50/ 1] طعمَ الحرب، وباشرتَ مرارة الطعن والضرب. ثم وازِنْ بين لذة هذه المسالمة (¬1) ومرارة تلك المحاربة، فدع الحربَ تضع أوزارها، فليست بيومٍ وينقضي، وإنّما هو حرب متّصل بالموت، وقواك تضعف عن حِراب دائم (¬2). واستعينوا يا بنيّ بجندين عظيمين لن تُغلَبوا معهما: أحدهما: جند الغفلة، فأغفِلوا قلوبَ بني آدم عن اللهِ والدارِ الآخرة بكلّ طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإنّ القلب إذا غفل عن الله تمكّنتم منه ومن أعوانه (¬3). والثاني: جند الشهوات فزيّنوها في قلوبهم، وحسِّنوها في أعينهم. وصولوا عليهم بهذين العسكرين، فليس لكم في بني آدم أبلغُ منهما. واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة، واقرنوا بين الغافلَين، ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحدٌ خمسةً، فإنّ مع الغافلَين شيطانَين، صاروا أربعةً، وشيطان الذاكر معهم. وإذا رأيتم جماعةً مجتمعين على ما يضرّكم من ذكر الله أو مذاكرة (¬4) أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم، فاستعينوا عليهم ببني ¬

_ (¬1) ف: "المسلة"، تحريف. (¬2) ف، ل: "حرب دائم". (¬3) ف: "إغوائه". (¬4) س، ل: "ومذاكرة".

جنسهم من الإنس البطّالين، فقرّبوهم منهم، وشوّشوا عليهم بهم. وبالجملة فأعِدّوا للأمور أقرانَها، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا عونًا له (¬1) على تحصيلها. وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم، ويصابروكم، ويرابطوا عليكم الثغورَ؛ فاصبروا أنتم، وصابروا، ورابطوا عليهم الثغورَ، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادون (¬2) بني آدم في أعظم من هذين الموطنين! واعلموا أنّ منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب، وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودَعُوا طريق الغضب. ومنهم من يكون سلطان (¬3) الغضب عليه أغلب، فلا تُخْلوا طريقَ الشهوة عليه، ولاتعطّلوا ثغرَها (¬4)، فإنّ من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحرى أن لا يملكها (¬5) عند الشهوة. فزوِّجوا بين غضبه وشهوته، وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة [50/ ب] من باب الغضب، وإلى الغضب من طريق الشهوة. واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين. وإنما أخرجتُ أبوَيهم من الجنّة بالشهوة، وإنما ألقيتُ العداوة بين ¬

_ (¬1) ل: "له عونًا له". س: "لها أعوانًا"، وفي حاشيتها أشير إلى أن في نسخة: "وكونوا أعوانا له". (¬2) ز: "فلا تصطادوا". (¬3) غيرها بعضهم في ف إلى "شيطان". (¬4) ف: "طريق الشهوة قلبه، ولا تعطلوه بغيرها"، وهي محرّفة. (¬5) ف: "لا يملك نفسه".

أولادهم بالغضب. فيه قطعتُ أرحامَهم، وسفكتُ دماءَهم، وبه قتل أحدُ ابنَي آدم أخاه. واعلموا أنّ الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم، والشهوةَ نارٌ تثور من قلبه، وإنما تُطفأ النارُ بالماء والصلاة والذكر والتكبير (¬1)، فإياكم أن تمكِّنوا ابنَ آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة، فإنّ ذلك يطفئ عنهم نارَ الغضب والشهوة. وقد أمرهم نبيُّهم بذلك، فقال: "إنّ الغضبَ جمرةٌ في قلب ابن آدم. أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحسَّ بذلك فليتوضأ" (¬2). وقال لهم: "إنّما تُطفَأ النارُ بالماء" (¬3). ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث عبد الله بن عمرو عند العقيلي في الضعفاء (2/ 296) وابن عدي في الكامل (4/ 151) وابن السنيّ في عمل اليوم والليلة (295 - 298) وغيرهم، من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جلّه فذكره. ولا يثبت منها شيء، كلها واهية. وقد أشار المؤلف وشيخه إلى ضعفه بقولهما "روي ... ". انظر مجموع الفتاوى (24/ 229) والوابل الصيب (359). (¬2) أخرجه الترمذي (2191) وابن ماجه (4000) وأحمد 3/ 19 (11143) والحاكم 4/ 551 (8543) وغيرهم، من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكره مطولًا. قال الحاكم: "هذا حديث تفرد بهذه السياقة علي بن زيد بن جدعان القرشي عن أبي نضرة، والشيخان رضي الله عنهما لم يحتجا بعلي بن زيد". وقال الذهبي معقّبًا: "ابن جدعان صالح الحديث". قلت: ابن جدعان إلى الضعف أقرب، وخاصة إذا تفرد بهذا السياق الطويل. وقد جاء عن الحسن البصري وزيد بن أسلم عن النبي- صلى الله عليه وسلم - مرسلًا أو معضلًا. أخرجه عبد الرزاق 11/ 188 (20288، 20289). (¬3) أخرجه أبو داود (4784) وأحمد (4/ 226) والبخاري في تاريخه (7/ 8) =

وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة، فحُولُوا بينهم وبيّن ذلك، وأنْسُوهم إياه، واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب. وأبلغ أسلحتِكم فيهم وأنكاها: الغفلةُ، واتّباع الهوى. وأعظمُ أسلحتِهم فيكم وأمنعُ حصونهم: ذكرُ الله، ومخالفة الهوى. فإذا رأيتم الرجل مخالفَا لهواه، فاهربوا من ظله (¬1)، ولا تدنُوا منه. والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاحٌ ومددٌ يُمِدُّ بها العبدُ أعداءه، ويعينهم بها على نفسه، فيقاتلونه بسلاحه، ويكون معهم على نفسه. وهذا غاية الجهل، وما يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ ... ما يبلغ الجاهلُ من نفسه (¬2) ومن العجائب أن العبد يسعى بجهده (¬3) في هوان نفسه، وهو يزعم ¬

_ = والطبراني 17/ 167 (443) وابن حبان في المجروحين (2/ 25)، من طريق أبي وائل القاص عن عروة بن محمَّد بن عطية عن أبيه عن جده مرفوعًا: "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضا". وهذا الإسناد ضعيف، محمَّد بن عطية مجهول. والحديث عدّه ابن حبان من منكرات أبي وائل القاصّ فقال: "يروي عن عروة بن محمَّد بن عطية وعبد الرحمن بن يزيد الصنعاني العجائب التي كأنها معمولة. لا يجوز الاحتجاج به". (¬1) ل: "فاهربوا منه". (¬2) ل، ز: "تبلغ الأعداء". والبيت لصالح بن عبد القدوس في التمثيل والمحاضرة (77)، والحماسة البصرية (874). وقد أنشده المؤلف في طريق الهجرتين (134)، والمدارج (1/ 192) وبدائع الفوائد (1188) والمفتاح (3/ 38). (¬3) س: "بنفسه".

فصل: المعاصي تنسي العبد نفسه

أنّه لها مكرم. ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها، وهو يزعم أنه يسعى في حظّها. ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدسِيَتها، وهو يزعم أنّه (¬1) يُعلِيها ويرفعها ويكبّرها! وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رُبّ مهينٍ لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومُذِلٍّ لنفسه وهو يزعم أنه لها مُعِزّ، ومصغّرٍ لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبّر، ومضيّعٍ لنفسه وهو يزعم أنه (¬2) مراع لحقّها. وكفى بالمرء جهلًا أن يكون مع عدوه على نفسه، يبلغ منها بفعلًه (¬3) [51/ أ] ما لا يبلغه عدوُّه (¬4). والله المستعان. فصل ومن عقوباتها: أنها تنسي العبد نفسَه، فإذا نسي نفسَه أهملها وأفسدها وأهلكها. فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسَه (¬5)؟ وإذا نسيَ نفسه، فأيَّ شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسَه؟ قيل: نعم، ينسى نفسَه أعظمَ نسيان. قال تعالى (¬6): {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19]. ¬

_ (¬1) "يسعى في حظها ... أنَّه" ساقط من ف. (¬2) "لها معزّ .. أنه" ساقط من ف. (¬3) ل: "بغفله"، تصحيف. (¬4) لم أقف عليه. وقد وردت الجملة الأولى من قول أبي الدرداء عند البيهقي في الزهد الكبير (344). وفي سنده ضعف. (¬5) "فإذا نسي ... نفسه" ساقط من س. (¬6) ز: "قال الله العظيم".

فلما نسوا ربَّهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم كما قال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] فعاقب سبحانه من نسِيَه عقوبتين: إحداهما: أنه سبحانه نسيه. والثانية: أنّه أنساه نفسَه. ونسيانُه سبحانه للعبد: إهمالُه، وتركُه، وتخلّيه عنه (¬1)، وإضاعتُه؛ فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم! وأما إنساؤه نفسَه فهو: إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به، يُنسيه ذلك (¬2) جميعَه، فلا يُخطِره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همّتَه فيرغبَ فيه، فإنه لا يمرّ بباله حتى يقصدَه ويُؤثِره. وأيضًا فيُنسيه عيوبَ نفسه ونقصَها وآفاتِها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها (¬3). وأيضًا يُنسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامَها، فلا يخطر بقلبه مداواتُها، ولا السعيُ في إزالة عللها وأمراضهَا التي تؤول به إلى الفساد والهلاك. فهو مريض مثخَن بالمرض، ومرضه مُترامٍ به إلى التلف، ولا يشعر بمرضه، ولا يخطر بباله مداواته. وهذا من أعظم العقوبة العامة (¬4) والخاصة. فأيُّ عقوبةٍ أعظمُ من عقوبة مَن أهمل نفسَه، وضيّعها، ونسي ¬

_ (¬1) ف: "تخليته عنه". (¬2) ز: "به نفسه لأن ذلك"، تحريف. (¬3) "إصلاحها" ساقط من ف. (¬4) س: "للعامة".

مصالحها، وداءَها ودواءَها، وأسبابَ سعادتها وفلاحها وصلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم؟ ومن تأمّل هذا الموضع تبيّن له أنّ أكثر هذا الخلق قد نسُوا أنفسَهم حقيقةً، وضيّعوها، وأضاعوا حظّها من الله، وباعوها رخيصةً بثمن بخس بيعَ الغبن. وإنما يظهر لهم هذا (¬1) عند الموت، ويظهر كلّ الظهور يومَ التغابن، يومَ يظهر للعبد أنه غُبنَ في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار، والتجارة التي اتجر فيها (¬2) لمعاده، فإنّ كل أحد يتجر (¬3) في هذه الدنيا [51/ ب] لآخرته (¬4). فالخاسرون الذين يعتقدون أنهم أهل الربح والكسب اشتروا الحياة الدنيا وحظَّهم فيها ولذّاتِهم بالآخرة وحظِّهم فيها، فأذهبوا طيّباتِهم في حياتهم الدنيا، واستمتعوا بها، ورضوا بها، واطمأنّوا إليها. وكان سعيُهم لتحصيلها، فباعوا، واشتروا، واتجروا. وباعوا آجلًا بعاجل، ونسيئةً بنقد، وغائبًا بناجزٍ؛ وقالوا: هذا هو الحزم. ويقول أحدهم: خذْ ما تراه ودع شيئًا سمعتَ به (¬5) وكيف أبيع حاضرًا نقدًا مُشاهَدًا في هذه الدار بغائب نسيئة في دار ¬

_ (¬1) ز: "غدًا". (¬2) ف: "لنفسه في هذه التجارة التي اتجرها". (¬3) ف: "متجر". (¬4) ل: "الآخرة"، وسقط منها: "والتجارة التي ... الدنيا". (¬5) للمتنبي في ديوانه (490) وعجز البيت: في طلعة الشمس ما يغنيك عنْ زُحَلِ

أخرى غير هذه (¬1)؟ وينضمّ إلى ذلك ضعفُ الإيمان، وقوةُ داعي الشهوة، ومحبّةُ العاجلة، والتشبه ببني الجنس. فأكثر الخلق في هذه التجارة الخاسرة التي قال الله سبحانه في أهلها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} [البقرة: 86]. وقال فيهم: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} [البقرة: 16]. فإذا كان يومُ التغابن ظهر لهم الغبنُ في هذه التجارة، فتتقطع (¬2) عليها النفوس حسرات. وأمّا الرابحون، فإنّهم باعوا فانيًا بباقٍ، وخسيسًا بنفيسٍ، وحقيرًا بعظيم، وقالوا: ما مقدار هذه الدنيا مِن أولها إلى آخرها حتّى نبيع حظنا (¬3) من الله والدار الآخرة بها؟ فكيف بما ينال العبدُ منها (¬4) في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغَفْوةِ حُلْمٍ، لا نسبة له إلى دار البقاء البتة؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45]. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 42 - 46]. ¬

_ (¬1) ز: "غيرها". (¬2) كذا في ز. وفي ف: "فتنقطع" ولم ينقط في غيرهما. (¬3) ز: "تبيع حظّا". (¬4) س: "بها".

وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35]. وقال تعالى: ({قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} [المؤمنون: 112 - 114]. وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ [52/أ] زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} [طه: 102 - 104]. فهذا حقيقة هذه الدنيا عند موافاة القيامة (¬1). فلما علموا قلّةَ لبثهم فيها، وأنّ لهم دارًا غيرَ هذه الدار، هي دار الحيَوان ودار البقاء = رأوا من أعظم الغبن بيعَ دار البقاء بدار الفناء، فاتّجروا تجارة الأكياس، ولم يغترّوا بتجارة السفهاء من الناس، فظهر لهم يومَ التغابن ربحُ تجارتهم ومقدارُ ما اشتروه. وكلُّ أحد (¬2) في هذه الدنيا (¬3) بائعٌ مشترٍ متّجرٌ، وكل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فموبِقُها، أو مبتاعُها فمُعتِقُها (¬4). {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ ¬

_ (¬1) ز: "يوم القيامة". (¬2) س: "كل واحد". (¬3) "الدنيا" ساقط من ز. (¬4) في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها". أخرجه مسلم في الطهارة، باب فضل الوضوء (223).

فصل: المعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة

وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111] فهذا أول نقده من ثمن هذه التجارة، فتاجرُوا أيها المفلسون (¬1)! ويا من لا يقدر على هذا الثمن، ها هنا ثمن اَخَر، فإن كنت من أهل هذه التجارة فأعطِ هذا الثمن: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة: 112]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف: 10 - 11]. والمقصود أنّ الذنوب تُنسي العبدَ حظَّه من هذه (¬2) التجارة الرابحة، وتشغله بالتجارة الخاسرة، وكفى بذلك عقوبةً. والله المستعان. فصل ومن عقوباتها: أنها تُزيل النِّعَمَ الحاضرةَ، وتقطع (¬3) النعم الواصلة، فتُزيل الحاصلَ، وتمنع الواصلَ (¬4). فإنّ نعم الله ما حُفِظ موجودُها بمثل طاعته، ولا استُجْلِبَ مفقددُها بمثل طاعته، فمانّ ما عنده لا يُنال إلا ¬

_ (¬1) "فتاجروا" لم يرد في س. وفي ز: "فتاجر بها المفلسون"، تحريف. (¬2) ف: "العبد نفسه في هذه". (¬3) س: "وتمنع". (¬4) ف: "وتقطع الواصل"، وفي حاشيتها أشير إلى هذه النسخة.

فصل: المعاصي تباعد الملك عن العبد وتدني منه الشيطان

بطاعته. وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببًا وآفةً: سببًا يجلبه، وآفة تبطله. فجعل أسبابَ نعمِه الجالبةَ لها طاعتَه، وآفاتِها المانعةَ منها (¬1) معصيتَه. فإذا أراد حفظَ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذَلَه حتى عصاه بها. ومن [52/ ب] العجب علمُ العبدِ بذلك مشاهدةً في نفسه وغيره، وسماعًا لما غاب عنه مِن أخبار مَن أزيلت نِعمُ الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله، كأنّه مستثنىً من هذه الجملة، أو مخصوص من هذا العموم، وكانّ هذا أمر جارٍ على الناس لا عليه (¬2)، وواصلٌ إلى الخلق لا إليه! فأيّ جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلي الكبير. فصل ومن عقوباتها: أنها تباعد عن العبد وليَّه، وأنفعَ الخلقِ له، وأنصحَهم له، ومَن سعادتُه في قربه منه، وهو الملَك الموكّلُ به. وتُدني منه عدوَّه، وأغشَّ الخلق له وأعظمَهم ضررًا له، وهو الشيطان. فإنّ العبد إذا عصى الله تباعد منه الملَك بقدر تلك المعصية، حتّى إنّه يتباعد عنه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة. ¬

_ (¬1) "المانعة منها" ساقط من ف. (¬2) س، ز: "إلاّ عليها" وكذلك فيما بعد: "إلا إليه".

وفي بعض الآثار: "إذا كذب العبدُ تباعد منه الملَك ميلًا مِن نتَنِ ريحه" (¬1). فإذا كان هذا تباعُدَ المَلكِ منه من كذبة واحدة، فماذا يكون مقدارُ بعده منه مما هو أكبر من ذلك وأفحش منه؟ وقال بعض السلف: إذا ركب الذكَرُ الذكَرَ عجّت الأرضُ إلى الله، وهربت الملائكةُ إلى ربّها، وشكتْ إليه عظيمَ ما رأتْ (¬2). وقال بعض السلف: إذا أصبح العبدُ ابتدره الملَك والشيطانُ، فإن (¬3) ذكر الله وكبّره وحمِده وهلّله طرد الملكُ الشيطانَ وتولاّه، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه (¬4)، وتولاّه الشيطان (¬5). ولا يزال الملَك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والغلبة والطاعة ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1972) والطبراني في الصغير (853) وابن أبي الدنيا في الصمت (477) وابن حبان في المجروحين (2/ 137) وابن عدي في الكامل (5/ 283) وغيرهم، من طريق عبد الرحيم بن هارون عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر فذكره مرفوعًا. والحديث منكر لا يثبت لتفرد عبد الرحيم بن هارون به عن عبد العزيز. وعبد الرحيم قال فيه أبو حاتم: "مجهول لا أعرفه". وقال الدارقطني: "متروك الحديث يكذب". وقال ابن عدي: "لم أر للمتقدمين فيه كلامَا. وإنما ذكرته لأحاديث رواها مناكير عن قوم ثقات". (¬2) ز: "عظم ما رأت". ونسب المؤلف أوله في روضة المحبين (505) إلى عباس الدُّوري. ثم نقل نصًّا أطول مما هنا فيه (514) عن "بعض العلماء" (ص). أخرجه الاَجرَي في ذم اللواط (2) عن عباس الدوري قال: "بلغني أن الأرض تعج من ذكر على ذكر". وذكره الذهبي في الكبائر (70) بمعناه (ز). (¬3) س: "فإذا". (¬4) "عنه" ساقط من ز. (¬5) "وتولاّه وإن ... الشيطان" ساقط من س (ص) لم أقف على الأثر (ز).

له. فتتولاّه الملائكة في حياته، وعند موِته، وعند بعثه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 30 - 31]. وإذا تولاّه الملَكُ تولاّه أنصحُ الخلق (¬1) وأنفعُهم وأبرّهم، فثبّته، وعلّمه، وقوّى جَنانَه، وأيّده. قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. ويقول له الملك عند الموت: لا تخف، ولا تحزن، وأبشِر بالذي يسرّك (¬2). ويُثبِّتهُ بالقول الثابت أحوجَ ما يكون إليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المساءلة. فليس أحد أنفعَ للعبد من صحبة الملَك له، وهو [53/ أ] وليّه في يقظته ومنامه، وحياته، وعند موته، وفي قبره، ومؤنسُه (¬3) في وحشته، وصاحبُه في خلوته، ومحدّثُه في سرّه. يحارب عنه عدوَّه، ويدافعه عنه، ويعينه عليه، ويعِدُه بالخير، ويبشّره به، ويحثّه على التصديق بالحقّ، كما جاء في الأثر (¬4) الذي يروى مرفوعًا وموقوفًا: "إنّ لِلملَكِ بقلب ابن آدم لَمَّةً، وللشيطان لَمّةً. فلمّةُ الملَك إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالوعد، ولَمَّةُ الشيطان إيعاد بالشرّ وتكذيب بالحق" (¬5). ¬

_ (¬1) ل: "أنصح الخلق له". (¬2) زاد في ز: "ويثبتك". وانظر ما سبق من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في ص (58). (¬3) ف: "وفي قبره يؤنسه". (¬4) ف، ل: "كما في الأثر". (¬5) أخرجه الترمذي (2988) وابن حبان (997) والطبري (3/ 88) وابن أبي حاتم =

وإذا اشتدّ قربُ الملك من العبد تكلّم على لسانه، وألقى على لسانه القولَ السديدَ. وإذا بعُدَ منه، وقرُبَ منه الشيطان، تكلّم على لسانه، وألقى عليه (¬1) قول الزور والفحش، حتى ترى (¬2) الرجلَ يتكلّم على لسانه الملَكُ، والرجلَ يتكلم على لسانه الشيطانُ. وفي الحديث: "إنّ السكينة تنطق على لسان عمر" (¬3). ¬

_ = في تفسيره (2810) والبزار (2027) وغيرهم، من طريق أبي الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وقد خولف أبو الأحوص في رفعه. فرواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن علية ومسعر وعمرو وجرير كلهم عن عطاء بن مرة عن ابن مسعود موقوفًا. أخرجه أحمد في الزهد (853) والطبري (3/ 88، 89) والطبراني 9/ 101 (8532). ورواه أبو إياس البجلي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود موقوفًا. أخرجه أحمد في الزهد (852) والطبري (3/ 89) وأبو داود في الزهد (174). وسنده صحيح. ورجح أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان الموقوف. انظر علل ابن أبي حاتم (2/ 244 - 245). (¬1) س: "وألقى على لسانه". (¬2) ف، ز: "يُرى". (¬3) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" وعبد الله في زوائد الفضائل (310،470، 601، 623،634، 711) وابن عساكر في تاريخه (44/ 108) وابن الجعد في مسنده (2403) وغيرهم، من طريق الشعبي عن علي فذكره. وفي طرقه اختلاف في سنده ومتنه. وأيضًا رأى الشعبي عليًّا ولم يسمع منه إلا حرفًا وليس هذا مما سمعه. انظر علل الدارقطني (4/ 136). ورواه الوليد بن العيزار عن عمرو بن ميمون عن علي قال: "ما كنا ننكر ونحن متوافرون -أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - أن السكينة تنطق على لسان عمر". أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 246) وأبو نعيم في الحلية (4/ 152) =

وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل، فيقول: ما ألقاها على لسانك إلا الملَكُ (¬1). ويسمع ضدَّها، فيقول: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطانُ. فالملَكُ يُلقي في القلب الحقَّ، ويُلقيه على اللسان. والشيطانُ يُلقي الباطل في القلب، ويُجريه على اللسان. فمن عقوبة المعاصي أنّها تُبعِد من العبد وليَّه الذي سعادتُه في قربِه ومجاورته وموالاتِه، وتُدني منه عدوَّه الذي هلاكُه وشقاوتُه (¬2) وفساده في قربِه وموالاتِه، حتّى إنّ الملَكَ لَينافحُ عن العبد ويرُدّ عنه إذا سفِه عليه السفيهُ وسبّه، كما اختصم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فجعل أحدهما يسبّ الاَخَر وهو ساكت، فتكلّم بكلمة يرد بها على صاحبه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله لمّا رددتُ عليه بعضَ قوله قمتَ. فقال: "كان الملك ينافح عنك، فلمّا رددتَ عليه جاء الشيطانُ، فلم أكن لأجلِسَ" (¬3). ¬

_ =وابن عساكر (44/ 110) وغيرهم. قال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث عمرو والوليد، لم نكتبه إلا من هذا الوجه". قال الهيثمي في المجمع (9/ 67): " ... وإسناده حسن". ورواه عاصم عن زر بن حبيش عن علي مثله. أخرجه معمر في جامعه (11/ 222) وأحمد في فضائل الصحابة (522). وفيه اختلاف. انظر علل الدارقطني (3/ 122 - 124). والأثر ثابت عن علي رضي الله عنه. (¬1) س: "ملك". (¬2) ف: "شقاؤه وهلاكه". (¬3) أخرجه أبو داود (4896) والبخاري في تاريخه (2/ 102) وذكره الدارقطني في العلل (8/ 153) والبيهقي في الشعب (6242)، من طريق الليث بن سعد وعبد الحميد بن جعفر كلاهما عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب أنه قال فذكر نحوه مرسلًا. ورواه محمَّد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيِ هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - =

وإذا دعا العبد المسلم لأخيه بظهر الغيب أمّن الملَكُ على دعائه، وقال: لك بمثله (¬1). وإذا فرغ من قراءة الفاتحة أمّنت الملائكةُ على دعائه (¬2). وإذا أذنب العبد المؤمن الموحد المتبع لسبيله وسنة رسوله استغفر له حملةُ العرش ومن حوله (¬3). وإذا نام على وضوء بات في شِعاره ملَكٌ (¬4). ¬

_ = فذكر نحوه مطولًا. أخرجه أبو داود (4897) وأحمد 2/ 436 (9624) والبيهقي في السنن (15/ 236) وغيرهم. قال البخاري: "والأول أصح" يعني المرسل. وكذا صوبه الدارقطني. والحديث فيه بشير بن المحرر فيه جهالة. (¬1) كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (2732). (¬2) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأذان، باب جهر الإِمام بالتأمين (780)؛ ومسلم في الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين (410). وقد سقط من س "وقال: لك بمثله ... دعائه" لانتقال النظر. (¬3) قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]. (¬4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه (1051) وابن المبارك في المسند (64) وفي الزهد (1244) وابن عدي (2/ 317) والبيهقي في الشعب (2526) وغيرهم، من طريق ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان عن سليمان الأحول عن عطاء عن ابن عمر. هكذا رواه حبان المروزي وأبو عاصم أحمد بن جواس الحنفي كلاهما عن ابن المبارك به، وخالفهما الحسن بن عيسى والحسين المروزي وسويد بن نصر كلهم عن ابن المبارك، فجعلوه من مسند أبي هريرة. ورواه عاصم بن علي عن إسماعيل بن عياش عن العباس بِن عتبة عن عطاء =

فملَكُ المؤمنِ يردّ عنه ويحارب ويدافع، ويعلّمه، ويثبّته، [53/ ب] ويشجّعه. فلا يليق به أن يسيءَ جوارَه، ويبالغَ في أذاه وطردِه عنه وإبعادِه، فإنّه ضيفه وجاره. وإذا كان إكرام الضيف من الآدميين والإحسان إلى الجار من لزوم الإيمان وموجَباته، فما الظنّ (¬1) بإكرام أكرَمِ الأضيافِ وخير الجير ان وأبرّهم؟ وإذا آذى العبدُ الملَكَ بأنواع المعاصي والظلم والفواحش دعا عليه ربّه وقال: لا جزاك الله خيرًا (¬2)، كما يدعو له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان. قال بعض الصحابة: "إنّ معكم من لا يفارقكم، فاستحيُوا منهم وأكرِموهم" (¬3). ولا ألأمَ ممّن لا يستحي من الكريم العظيم القدرِ، ولا ¬

_ = عن ابن عمر فذكر نحوه. أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 363) والطبراني في الأوسط (5587) لكن جعله "عن ابن عباس". قلت: الاضطراب لعله من الحسن بن ذكوان، وعطاء لم يسمع من ابن عمر. وأما الطريق الثاني فلا يصح. قال العقيلي: لا يصح حديثه، ثم ساق له هذا الحديث. وجوّد إسناد ابن عباس المنذري وابن حجر، انظر الترغيب (1/ 231) والفتح (11/ 109). والحديث ضعفه العقيلي بقوله: "وقد روي هذا (يعني حديث ابن عباس) بغير هذا الإسناد، بإسناد لين أيضًا". (¬1) ز: "فما ظن". (¬2) لم أقف عليه. (¬3) لم أقف عليه موقوفًا على الصحابة، وإنما ورد مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر أخرجه الترمذي (2850) من طريق يحيى بن يعلى أبي محياة عن ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: "إياكم والتعزي، فإن معكم من لا =

يُجلّه، ولا يوقّره. وقد نبّه سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} [الانفطار: 10 - 11] أي: استحيُوا هؤلاء (¬1) الحافظين الكرامَ، وأكرِمُوهم، وأجِلُّوهم أن يروا منكم ما تستحيُوا (¬2) أن يراكم عليه مَن هو مثلُكم. والملائكة تتاذّى مما يتأذّى منه بنو آدم (¬3). فإذا كان ابن آدم يتأذّى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظنّ بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان. ¬

_ = يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم". قال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه". ورواه الحسن بن أبي جعفر البصري عن ليث عن محمَّد بن عمرو عن أبيه عن زيد بن ثابت فذكره بنحوه. أخرجه البيهقي في الشعب (7345). قلت: الحسن بن أبي جعفر ضعيف الحديث. والحديث مداره على ليث بن أبي سليم، وفي حفظه كلام. والحديث ضعفه الترمذي والبيهقي وعبد الحق الإشبيلي ووافقه ابن القطان. انظر بيان الوهم والإيهام (1279). وروي نحوه من حديث أبي هريرة، وهو ضعيف جدًا. انظر شعب الإيمان (7344). (¬1) زاد بعضهم "من" في ف: "من هؤلاء". واستحييته، واستحييت منه كلاهما صحيح. (¬2) كذا في جميع النسخ، والوجه: "تستحيون". (¬3) كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. أخرجه مسلم في المساجد، باب نهي من أكل ثومًا ... (564).

فصل: المعاصي تجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته

فصل ومن عقوباتها: أنّها تستجلب موادّ هلاك العبد في دنياه وآخرته. فإنّ الذنوب هي أمراض متى استحَكمَتْ قتلَتْ، ولابدّ. وكما أنّ البدن لا يكون صحيحًا إلا بغذاءٍ يحفظ قوته، واستفرغ يستفرغ الموادّ الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته، وحِميةٍ يمتنع بها من تناول ما يؤذيه ويخشى ضررَه؛ فكذلك القلبُ لا تتمّ حياتُه إلا بغذاءٍ من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفرغ بالتوبة النصوح يستفرغ (¬1) الموادّ الفاسدة والأخلاط الرديئة منه، وحميةٍ تُوجب له حفظ الصحة وتجنّب ما يضادها، وهي عبارة عن ترك استعماَل ما يضادّ الصحة. والتقوى اسم متناول (¬2) لهذه إلاَّمور الثلاثة، فما فات منها فات من التقوى بقدره. وإذا تبين هذا فالذنوب مضادّة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب الموادّ المؤذية، وتُوجب التخليطَ المضادَّ للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح. فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط الرديئة (¬3) وموادّ [54/ أ] المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمي لها، كيف تكون صحته وبقاؤه؟ ولقد أحسن (¬4) القائل: ¬

_ (¬1) ف: "تستفرغ". ز: "يستخرج". (¬2) ل: "مشارك"، تحريف. (¬3) "الرديئة" ساقط من ز. (¬4) ف: "وقد أحسن".

فصل: العقوبات الشرعية على الجرائم

جسمُك بالحِمْية حصّنتَه ... مخافةً من ألم طاري وكان أولى بك أن تحتمي ... من المعاصي خشيةَ النار (¬1) فمن حفظ القوةَ بامتثال الأوامر، واستعمل الحِمْيةَ باجتناب النواهي، واستفرغ التخليطَ بالتوبة النصوح = لم يدَعْ للخير مطلبًا، ولا من الشرّ مهربًا. والله المستعان. فصل فإن لم ترُعْك (¬2) هذه العقوبات، ولم تجد (¬3) لها تأثيرًا في قلبك، فأحضِره (¬4) العقوباتِ الشرعيةَ التي شرعها الله ورسوله على الجرائم، كما قطع اليد في سرقة ثلاثة دراهم، وقطَع اليدَ والرجلَ في قطع الطريق على معصوم المال والنفس. وشقَّ الجلدَ بالسوط على كلمة قذفٍ لمحصَن، أو قطرةِ خمرٍ يُدخِلها جوفَه. وقتَلَ بالحجارة أشنعَ قِتلةٍ في إيلاج الحشفة في فرج حرام، وخفّف هذه العقوبة عمّن لم يتم عليه نعمة الإحصان بمائة جَلدةٍ ونفي سنة عن وطنه وبلده إلى بلاد الغربة. وفرّق بين رأس العبد وبدنه إذاَ وقع على ذاتِ رحمٍ محرّم منه (¬5)، أو ترَكَ الصلاةَ المفروضة، أو تكلم بكلمة كفر. وأمر بقتلِ من وطئ ذكرًا مثله ¬

_ (¬1) لمحمود الورّاق. ورواية البيت الأول في محاضرات الأدباء (2/ 407): عمرُك قد أفنيتَه تحتمي ... فيه من الباردِ والحارِ وانظر ديوانه (87). (¬2) راعه: أفزعه. ويحتمل: "لم يَزَعْك"، من وزعه: كفه وزجره. (¬3) ز: "فإن لم تجد"، فأسقط: "لم ترعك ... ولم". (¬4) ز: "فأحضر". (¬5) "منه" ساقط من ل. وفي ز: "رحم ذات محرم".

وقتلِ المفعول به. وأمر بقتل من أتى بهيمةً وقتل البهيمة معه. وعزم على تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة. وغير ذلك من العقوبات التي رتّبها على الجرائم، وجعلها بحكمته على حسب الدواعي إلى تلك الجرائم (¬1)، وحسب الوازع عنها. فما كان الوازع عنه طبيعيًّا (¬2) وليس في الطباع داعٍ إليه اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير ولم يرتّب عليه حدًّا كأكل الرجيع، وشرب الدم، وأكل الميتة. وما كان في الطباع داعٍ إليه رتّب عليه من العقوبة بقدر مفسدته وبقدر داعي الطبع إليه (¬3). ولهذا لما كان داعي الطباع إلى الزِّنى من أقوى الدواعي كانت عقوبته العظمى أشنعَ القتلات (¬4) وأعظمَها، وعقوبته السهلة أعلى أنواع الجَلْد مع زيادة التغريب. ولما كان اللواط فيه الأمران كان حدّه القتل بكل حال. ولما كان داعي السرقة قويًّا، ومفسدتها كذلك، قطع فيها (¬5) اليد. وتأمّلْ حكمتَه في إفساد العضو الذي باشرَ به الجناية، كما أفسد على [54/ ب] قاطع الطريق يدَه ورجلُه اللتين هما آلة قطعه، ولم يُفسِدْ على القاذف لسانَه الذي جنى به، إذ مفسدة قطعه تزيد على مفسدة الجناية ولا تبلغها، فاكتفى من ذلك بإيلام جميع بدنه بالجلد. ¬

_ (¬1) "وجعلها ... الجرائم" ساقط من ز. (¬2) "طبيعيا" ساقط من س. وفي ز: "طبعيا". (¬3) انظر: مجموع الفتاوى (34/ 198). (¬4) ف: "من أشنع القتلات". (¬5) ف: "فيه".

فصل: العقوبات نوعان: شرعية وقدرية

فإن قيل: فهلاّ أفسد على الزاني فرجه الذي باشر به المعصية؟ قيل (¬1): لوجوه: أحدها: أن مفسدة ذلك تزيد على مفسدة الجناية، إذ فيه قطع النسل وتعريضه للهلاك. الثاني: أنّ الفرج عضو مستور لا يحصل بقطعه مقصود الحدّ من الردع والزجر لأمثاله من الجُناة، بخلاف قطع اليد. الثالث: أنّه إذا قطع يدَه أبقى له يدًا أخرى تُعوِّض عنها، بخلاف الفرج. الرابع: أنّ لذة الزنى عمّت جميع البدن، فكان الأحسن أن تعمّ العقوبة جميع البدن، وذلك أولى من تخصيصها ببَضْعة منه. فعقوبات الشارع جاءت على أتمّ الوجوه، وأوفقِها للعقل، وأقوَمِها بالمصلحة. والمقصود أنّ الذنوب إمّا أن تترتّب (¬2) عليها العقوبات الشرعية أو القدرية (¬3)، أو يجمعهما الله للعبد، وقد يرفعهما (¬4) عفن تاب وأحسن. فصل وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية وقدرية. فإذا أقيمت الشرعيةُ (¬5) ¬

_ (¬1) زيد في بعض الطبعات بعد "قيل": "لا"، وهو مفسد للسياق. (¬2) ف: "ترتب". (¬3) ف، ل: "والقدرية". (¬4) ف، ل: "يجمعها ... يرفعها". (¬5) ز: "فالشرعية إذا أقيمت".

العقوبات الشرعية ثلاثة أنواه

رفَعَتْ العقوباتِ القدريةَ أو خففتها. ولا يكاد الربّ تعالى يجمع على عبده (¬1) بين العقوبتين، إلا إذا لم تفِ إحداهما برفع موجَب الذنب ولم تكفِ في زوال دائه (¬2). وإذا عُطِّلت العقوبات الشرعية استحالت قدريةً، وربما كانت أشدّ من الشرعية، وربما كانت دونها، ولكنّها تعمّ، والشرعية تخصّ، فإنّ الرب تبارك وتعالى لا يعاقِب شرعًا إلا من باشر الجناية أو تسبّب إليها. وأما العقوبة القدرية فإنها تقع عامّةً وخاصّةً، فإنّ المعصية إذا خفيت لم تضرّ إلا صاحبَها، وإذا أُعلِنت ضرّت الخاصة والعامة. وإذا رأى الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. وقد تقدّم أنّ العقوبة الشرعية شرعها الله سبحانه على قدر مفسدة الذنب وتقاضي الطبع له (¬3)، وجعلها سبحانه ثلاثة أنواع: القتل، والقطع، والجلد. [55/ أ] وجعل القتل بإزاء الكفر وما يليه ويقرب منه، وهو الزنا واللواط، فإنّ هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد الإنساب ونوع الإنسان. قال الإِمام أحمد: لا أعلم بعد القتل ذنبًا أعظم من الزنى (¬4)، واحتجّ بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم (¬5)؟ قال: "أن تجعل لله نِدًّا وهو خَلَقَك" قال: قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافةَ أن يطعَمَ معك". قال: قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: "أن تُزانيَ ¬

_ (¬1) ف: "العبد". (¬2) ف، ز: "ذاته". (¬3) ف: "لها". (¬4) نقله المؤلف في روضة المحبين (497) أيضًا. (¬5) "من الزنى ... أعظم" ساقط من س.

بحليلة جارك. فأنزل الله سبحانه تصديقَها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] (¬1). والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر من كل نوع أعلاه، ليطابق جوابُه سؤالَ السائل، فإنه سأله عن أعظم الذنب، فأجابه بما تضمّن ذكرَ أعظمِ أنواعها، وما هو أعظم كل نوع. فأعظم أنواع الشرك: أن يجعل العبد لله نِدًّا. وأعظم أنواع القتل: أن يقتل ولدَه خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه. وأعظم أنواع الزنى: أن يزني بحليلة جاره، فإنّ مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحقّ. فالزنى (¬2) بالمرأة التي لها زوج أعظمُ إثمًا وعقوبة من التي لا زوج لها، إذ فيه انتهاكُ حرمة الزوج، وإفسادُ فراشه، وتعليقُ نسبٍ عليه لم يكن منه، وغير ذلك من أنواع أذاه. فهو أعظم إثمًا وجرمًا من الزنى بغير ذات البعل. فإن كان زوجها جارًا له انضاف إلى ذلك (¬3) سوءُ الجوار وأذى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في التفسير. باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} (4477) وغيره؛ ومسلم في الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب (86). (¬2) ز: "والزنى". (¬3) ز: "ذلك إلى".

جاره (¬1) بأعلى أنواع الأذى، وذلك من أعظم البوائق. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يدخل الجنةَ من لا يأمن جارُه بوائقَه" (¬2). ولا بائقةَ أعظمُ من الزنى بامرأته، فالزنى بمائة امرأة لا زوج لها أيسرُ عند الله من الزنى بامرأة الجار. فإن كان الجار أخًا له أو قريبًا من أقاربه انضمّ إلى ذلك قطيعةُ الرحم، فيتضاعف (¬3) الإثم. فإن كان الجار غائبًا في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد تضاعفَ الإثمُ، حتّى إنّ الزاني بامرأة المغازي في سبيل الله يوقَف له يوم القيامة، ويقال (¬4): خُذ من حسناته ما شئتَ. قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "فما ظنّكم؟ " (¬5) أي ما ظنّكم أن (¬6) يترك له من حسنات؟ [55/ ب] قد حُكِّم في أن يأخذ منها ما شاء، على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة، حيثُ لا يترك ¬

_ (¬1) زاد في ف بعد "جاره": "بالزنى". (¬2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار (46). والبوائق جمع بائقة، وهي الغائلة والداهية والفتك. (شرح النووي 2/ 377). (¬3) س: "فيضاعف". ز: "فتضاعف". (¬4) ز: "ويقال له". (¬5) من حديث بريدة رضي الله عنه ونصه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاًَ من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ماشاء، فما ظنكم؟ ". أخرجه مسلم في الإمارة، باب حرمة نساء المجاهدين (1897). (¬6) ل: "أي ظنكم أنه". وفي ز أيضًا: "أنه".

فصل: 2 - القطع في إفساد الأموال

الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقًا يجب له (¬1) عليه. فإن اتفق أن تكون المرأة رحمًا منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها. فإن اتفق أن يكون الزاني محصَنًا كان الإثم أعظم، فإن كان شيخًا كان أعظم إثمًا (¬2)، وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم (¬3). فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام، أو بلد حرام، أو وقت معظّم عند الله كأوقات الصلاة وأوقات الإجابة = تضاعف الإثمُ. وعلى هذا فاعتبِر مفاسدَ الذنوب، وتضاعُفَ درجاتها في الإثم والعقوبة. والله المستعان. فصل وجعل سبحانه القطعَ بإزاء إفساد الأموال الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنّ السارق لا يمكن الاحتراز منه؛ لأنّه يأخذ المال في اختفاء، وينقُب الدُّورَ، ويتسوّر من غير الأبواب، فهو كالسنّور أو الحية (¬4) التي تدخل عليك من حيث لا تعلم. فلم ترتفع مفسدة سرقته إلى القتل، ولا تندفعُ بالجلد، فأحسنُ ما دُفِعَتْ به مفسدتُه إبانة العضو الذي يتسلّط به على الجناية. ¬

_ (¬1) "له" ساقط من ز. (¬2) ز: "كان الإثم أعظم". (¬3) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار ... (107). (¬4) ف: "كالحية أو السنور".

3 - الجلد في إفساد العقود وتمزيق الأعراض بالقذف

وجعل الجَلْدَ بإزاء إفساد العقول (¬1) وتمزيق الأعراض بالقذف. فدارت عقوباته -سبحانه- الشرعية على هذه الأنواع الثلاثة، كما دارت الكفارات على ثلاثة أنواع: العتق وهو أعلاها، والإطعام، والصيام. ثم إنّه سبحانه جعل الذنوبَ ثلاثة أقسام: قسمًا (¬2) فيه الحدّ، فهذا لم يشرع فيه كفارة، اكتفاءَ بالحدّ. وقسمًا لم يرتِّبْ عليه حدًّا، فشرع فيه الكفّارةَ كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام، والظهار، وقتل الخطأ، والحنث في اليمين، وغير ذلك. وقسمًا لم يرتِّبْ عليه حدًّا ولا كفارة، وهو نوعان: أحدهما: ما كان الوازع عنه طبعيًّا كأكل العَذِرة، وشرب البول والدم. والثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتّب عليه الحد كالنظر، والقُبْلة، واللمس، والمحادثة، وسرقة فلس، ونحو ذلك. وشرع الكفّارة [56/ أ] في ثلاثة أنواع: أحدها: ما كان (¬3) مباح الأصل ثم عرض تحريمه، فباشره في الحال التي عرض فيها التحريم، كالوطء في الإحرام والصيام (¬4) وطَرْدُه الوطءُ ¬

_ (¬1) س: "الجلد بإفساد العقول". ل: "بإزاء فساد العقول". (¬2) ف: "قسم". (¬3) س: "ما يكون". (¬4) س: "وفي الصيام".

في الحيض والنفاس، بخلاف الوطء في الدبر، ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض (¬1) لا يصحّ، فإنّه لا يباح (¬2) في وقت دون وقت، فهو بمنزلة التلوّط وشرب المسكر. النوع الثاني: ما عقده لله من نذر، أو بالله من يمين، أو حرّمه الله ثم أراد حِلّه؛ فشرع الله سبحانه حِلَّه بالكفارة، وسماها تحِلّةً. وليست هذه الكفارة ماحيةً لهتك حرمة الاسم (¬3) بالحِنْث كما ظنّه بعض الفقهاء، فإنّ الحنث قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا (¬4)، وقد يكون مباحًاة وإنما الكفارة حِلّ لما عقده. النوع الثالث: ما تكون (¬5) فيه جابرةً لما فات، ككفارة قتل الخطأ (¬6) وإن لم يكن هناك إثم، وكفارة قتل الصيد خطأً، فإنّ ذلك من باب الجوابر. والنوع الأول من باب الزواجر، والنوع الوسط من باب التحلة لما منعه العقد. ولا يجتمع الحدّ والتعزير في معصية، بل إن كان فيها حدّ اكتفيَ به، وإلا اكتفى بالتعزير. ولا يجتمع الحدّ والكفارة في معصية، بل كلّ معصية فيها حدّ (¬7) فلا كفارة فيها، وما فيه كفارة فلا حدّ فيه. ¬

_ (¬1) "في الحيض" ساقط من ز. (¬2) ز: "لايباح له". (¬3) س: "الإثم"، تحريف. (¬4) "وقد يكون مستحبًا" ساقط من ف. (¬5) يعني الكفارة. وفي س، ف، ز: "يكون"، ولم ينقط في ل. (¬6) س: "فات الكفارة"، خطأ. ف: "القتل الخطأ". وبعده في س: "ولم يكن". (¬7) ف: "في معصية، فما فيها حدّ".

فصل: العقوبات القدرية نوعان

وهل يجتمع التعزير والكفارة في المعصية التي لاحد فيها؟ فيه وجهان. وهذا كالوطء في الإحرام والصيام، ووطء الحائض، إذا أوجبنا فيه الكفارة. فقيل: يجب التعزير لما انتُهِك من الحرمة بركوب الجناية. وقيل: لا تعزير في ذلك اكتفاء بالكفارة؛ لأنها (¬1) جابرة وماحية. فصل وأما العقوبات القدرية فهي نوعان: نوع على القلوب والنفوس، ونوع على الأبدان والأموال. والتي على القلوب (¬2) نوعان: أحدهما: اَلام وجودية يُضرَب بها القلبُ. والثاني: قطع الموادّ التي بها حياته وصلاحه عنه. وإذا قطعت (¬3) عنه حصل له أضدادها. وعقوبة القلوب أشد العقوبتين، وهي أصل عقوبة الأبدان. وهذه العقوبة تقوى وتتزايد حتى تسري من القلب إلى البدن، كما يسري ألم البدن إلى القلب. فإذا [56/ ب] فارقت النفسُ البدنَ صار الحكم متعلّقًا بها، فظهرت عقوبة القلب حينئذ، وصارت عيانيّة (¬4) ظاهرةً، وهي المسمّاة بعذاب القبر. ونسبته إلى البرزخ كنسبة عذاب الأبدان إلى هذه الدار. ¬

_ (¬1) ل: "ولأنها". (¬2) ف: "على القلب". (¬3) ل: "فإذا ... ". ف: "وإذا انقطعت". (¬4) ف، ز: "عنايته". ل: "غايبه". وكلاهما تصحيف.

نوع على البدن

فصل والتي على الأبدان أيضًا نوعان: نوعٌ في الدنيا. ونوع في الأخرى. وشدّتها ودوامها بحسب مفاسد ما رُتبت عليه في الشدة والخفّة. فليس في الدنيا والآخرة (¬1) شرّ أصلًا إلا الذنوب وعقوباتها، فالشر (¬2) اسم لذلك كله. وأصله من شرّ النفس وسيئات الأعمال، وهما الأصلان اللذان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ منهما في خطبته بقوله: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" (¬3). وسيئات الأعمال من شرور النفس، فعاد الشرّ كلّه إلى شرّ النفس، فإنّ سيئات الأعمال من فروعه وثمراته. وقد اختلف في معنى قوله: "ومن سيئات أعمالنا"، هل معناه: ¬

_ (¬1) "والآخرة" ساقط من س. (¬2) ز: "والشر". (¬3) أخرجه الترمذي (1105) وأحمد 1/ 393 (3721)، 1/ 432 (4116) وابن ماجه (1892) والنسائي (1164) وأبو داود (2118) وأبو الشيخ في ذكر رواية الأقران (51، 52) وغيرهم، من طريق الأعمش ويونس بن أبي إسحاق وشعبة وإسرائيل كلهم عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا في خطبة الحاجة. ورواه شعبة والثوري وغيرهما عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود. أخرجه أحمد (3720، 4115) وغيره. قال الترمذي بعد ذكر الطريقين: "وكلا الحديثين صحيح؛ لأن إسرائيل جمعهما فقال: عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وثبت هذا أيضًا من حديث ابن عباس في قصة قوم ضماد. أخرجه الطبراني 8/ 354 (8148). وأصله عند مسلم (868).

السيّئ من أعمالنا، فيكون من باب إضافة النوع إلى جنسه ويكون بمعنى "من"؟ وقيل: معناه: من عقوباتها التي تسوء، فيكون التقدير: ومن عقوبات أعمالنا التي تسوؤنا (¬1). ويرجِّح هذا القول أنّ الاستعاذة تكون قد تضمّنت جميع الشرّ، فإنّ شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة، وهي تستلزم العقوبات السيئة فنبّه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال، واكتفى بذكرها منه إذ هي أصله. ثم ذكر غاية الشرّ ومنتهاه، وهو السيئات التي تسوء العبد من عمله من العقوبات والآلام. فتضمنت هذه الاستعاذة أصلَ الشرِّ، وفروعَه، وغايتَه، ومقتضاه (¬2). ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9]. فهذا يتضمن طلبَ وقايتهم (¬3) من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها، فإنّه سبحانه متى وقاهم العملَ السيّئَ وقاهم جزاءه السيّئ، وإن كان قوله (¬4): {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أظهرَ في عقوبات الأعمال المطلوبِ وقايتُها يومئذ. فإن قيل: فقد سألوه سبحانه أن يقيَهم عذاب الجحيم، وهذا هو وقاية [57/ أ] العقوبات السيئة، فدلّ على أنّ المراد بالسيئات التي سألوا وقايتها: الأعمال السيئة، ويكون الذي سأله الملائكة نظيرَ ما استعاذ منه ¬

_ (¬1) ز: "تسوء". (¬2) وانظر بدائع الفوائد (716)، وطريق الهجرتين (200)، وإغاثة اللهفان (151). (¬3) ز: "يتضمن وقايتهم". (¬4) ف: "وإن قوله".

النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يرد على هذا قوله (يومئذ) فإنّ المطلوب وقاية شرور سيئات الأعمال ذلك اليوم، وهي سيئات في أنفسها. قيل: وقاية السيئات نوعان: أحدهما: وقاية فعلها بالتوفيق فلا تصدر منه. والثاني: وقاية جزائها بالمغفرة فلا يعاقب عليها. فقد تضمنت (¬1) الآية سؤال الأمرين، والظرف تقييد للجملة الشرطية لا للجملة الطلبية (¬2). وتأمّل ما تضمّنه هذا الخبر عن الملائكة من مدحهم بالإيمان والعمل الصالح والإحسان إلى المؤمنين بالاستغفار لهم. وقدَّموا بين يدي استغفارهم توسّلَهم إلى الله سبحانه بسعة علمه وسعة رحمته (¬3). فسعةُ علمه تتضمّن علمَه بذنوبهم وأسبابِها، وضعفِهم عن العصمة، واستيلاءِ عدوّهم وأنفسهم وهواهم وطباعهم، وما زين لهم من الدنيا وزينتها؛ وعلمَه بهم إذ أنشأهم من الأرض وإذ هم أجنّة في بطون أمهاتهم، وعلمَه السابق بأنّه (¬4) لابدّ أن يعصوه، وأنّهَ يحبّ العفو والمغفرة، وغير ذلك من سعة علمه الذي لا يحيط به أحد سواه. وسعة رحمته تتضمن أنّه لا يهلك عليه أحد من المؤمنين به (¬5) أهلِ توحيده ومحبته، فإنّه واسع الرحمة، لا يخرج عن دائرة رحمته إلا ¬

_ (¬1) ز: "فتضمنت". س، ل: "تضمنت" دون "فقد". (¬2) ف: "يقيد الجملة الشرطية لا الجملة الطلبية". (¬3) وذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. (¬4) ف: "بانهم". (¬5) "به" لم يرد في ف.

الأشقياء، ولا أشقى ممن لم تسعه رحمته التي (¬1) وسعَتْ كلَّ شيء. ثم سألوه (¬2) أن يغفر للتائبين الذين اتبعوا سبيله -وهو صراطه الموصل إليه الذي هو معرفته ومحبته وطاعته- فتابوا ممّا يكره، واتّبعوا السبيل التي يحبها. ثم سألوه أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم والمؤمنين من أصولهم وفروعهم وأزواجهم جنّاتِ عدن التي وعدهم بها. وهو سبحانه وإن كان لا يخلف الميعاد فإنّه وعدهم بها (¬3) بأسباب من جملتها: دعاء ملائكته لهم بأن يدخلهم إياها برحمته، فدخلوها (¬4) برحمته التي منها أن وفّقهم لأعمالها، وأقام ملائكته يدعون لهم بدخولها. ثم أخبر سبحانه عن ملائكته أنّهم [57/ ب] قالوا عقيب هذه الدعوة: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)} أي مصدر ذلك وسببه وغايته صادر عن كمال قدرتك وكمال علمك. فالعزة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم. وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه ما يشاء (¬5)، ويأمر وينهى، ويثيب ويعاقب. فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر. والمقصود: أنّ عقوبات السيئات تتنوع إلى: عقوباتٍ شرعيةٍ. ¬

_ (¬1) "رحمته التي" ساقط من ز. ومكانها في س: "رحمت". (¬2) قال تعالى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)} [غافر: 7 - 8]. (¬3) "بها" ساقط من س. (¬4) ف: "إياها يدخلونها". ز: "يدخلهم لها فدخلوها". (¬5) س، ف: "شاء".

وعقوباتٍ قدريةٍ. وهي إما في القلب، وإما في البدن، وإما فيهما. وعقوباب في دار البرزخ (¬1) بعد الموت. وعقوباب يوم حشر الأجساد. فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة، ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو (¬2) فيه من العقوبة؛ لأنّه بمنزلة السكران والمخدَّر والنائم الذي لا يشعر بالألم، فإذا استيقظ وصحا أحسّ بالمؤلم. فترتّبُ العقوبات على الذنوب (¬3) كترتّب الإحراق على النار، والكسر على الانكسار (¬4)، والإغراق على الماء، وفساد البدن على السموم، والأمراض على الأسباب الجالبة لها. وقد تقارن المضرة للذنب، وقد تتأخر عنه إمّا يسيرًا وإمّا مدةً (¬5)، كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه. وكثيرًا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام، ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه، ولا يدري أنه يعمل عمله على التدريج شيئًا فشيئًا، كما تعمل السموم والأشياء الضارّة حذو القُذّة بالقذّة. فإنْ تدارك العبدُ بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا (¬6) فهو صائر إلى الهلاك. هذا إذا كان ذنبًا واحدًا لم يتداركه بما يزيل أثره، فكيف بالذنب على الذنب كلّ يوم (¬7) وكلّ ساعة؟ فالله المستعان. ¬

_ (¬1) ف: "وعقوبات دار البرزخ". (¬2) "هو" ساقط من ف. (¬3) "على" ساقط من س. (¬4) كذا في جميع النسخ، ومقتضى السياق: "والانكسار على الكسر". (¬5) س: "أو مدة". ونحوه في ل، ز مع تحريف. (¬6) "وإلا" ساقط من س. (¬7) س: "بالذنب على كل يوم"، فأسقط كلمة "الذنب" الثانية.

فصل: ذكر طرف من عقوبات الذنوب لاستحضارها والكف عنها

فصل فاستحضِر بعض العقوبات التي رتّبها الله سبحانه على الذنوب، وجوِّزْ وصول بعضها إليك، واجعل ذلك (¬1) داعيًا للنفس إلى هجرانها. وأنا أسوق لك منها طرفًا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه. فمنها: الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار، والإقفال على القلوب، وجعل الأكِنّة عليها، والرين عليها والطبع، وتقليب الأفئدة والأبصار، والحيلولة بين المرء وقلبه، وإغفال القلب عن ذكر الربّ، وإنساء [58/ أ] الإنسان نفسه، وترك إرادة الله تطهيرَ القلب، وجعل الصدر ضيّقًا حرجًا كأنما يصعّد في السماء، وصرف القلوب عن الحق، وزيادتها مرضًا على مرضها، وإركاسها ونكسها بحيث تبقى منكوسة؛ كما ذكر الإِمام أحمد (¬2) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: القلوب أربعة: فقلبٌ أجرَدُ فيه سراج يُزهِر، فذلك قلب المؤمن. وقلبٌ أغلَفُ، فذلك قلب الكافر. وقلبٌ منكوس، فذلك ¬

_ (¬1) "ذلك" ساقط من ز. (¬2) لم أقف عليه عند أحمد، ولعله في الزهد له فالمطبوع ناقص. والأثر أخرجه ابن المبارك في الزهد (1439) والطبري (1/ 406) وابن أبي شيبة (30395، 37384) والخطابي في الغريب (1/ 332) وأبو نعيم في الحلية (1/ 276)، من طريق الأعمش وأبان بن تغلب وقيس بن الربيع وعمرو بن قيس الملائي كلهم عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة فذكره موقوفًا. خالفهم ليث بن أبي سليم عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره مطولًا. أخرجه أحمد في المسند 3/ 17 (11129)، وليث مخلّط، والأثر مع وقفه في سنده انقطاع، فأبو البختري: سعيد بن فيروز، لم يدرك حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.

قلب المنافق. وقلبٌ تُمِدُّه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غَلَبَ عليه منهما (¬1). ومنها: التثبيط عن الطاعة والإقعاد عنها. ومنها: جعل القلب أصمّ لا يسمع الحقّ، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه؛ فيصير النسبة بين القلب وبيّن الحقّ الذي لا ينفعه غيره كالنسبة بين أذن الأصمّ والأصوات، وعين الأعمى والألوان، ولسان الأخرس والكلام. وبهذا يعلم (¬2) أنّ الصمَم والبكَم والعَمَى للقلب بالذات والحقيقة، وللجوارح بالعرض والتبعية. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]. وليس المراد نفي العمى الحسّي عن البصر، كيف وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61]، وقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} [عبس: 1 - 2]. وإنّما المراد أنّ العمى التامّ في الحقيقة عمى القلب، حتى إنّ عمى البصر بالنسبة إليه كلا عمى، حتّى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته، كما قال (¬3) - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكنّ الذي يملك نفسه عند الغضب، (¬4). وقوله: "ليس المسكين بالطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، ولكن ¬

_ (¬1) ل، ز: "منها". (¬2) ز: "العلم"، تحريف. (¬3) ف: "قال النبي". (¬4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأدب، باب الحذر من الغضب (6114)؛ ومسلم في البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب ... (2609).

المسكين الذي لا يسأل الناس، ولا يُفطَن له فيتُصدّقَ عليه" (¬1) ونظائره كثيرة. والمقصود أنّ من عقوبات المعاصي جعلَ القلبِ أعمى أصمّ أبكم. ومنها: الخسف بالقلب، كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر. وعلامة الخسف به أن لا يزال جوّالًا حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أنّ القلب الذي رفعه الله وقرّبه إليه لا يزال جوّالًا حول البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق. قال [58/ ب] بعض السلف: إنّ هذه القلوب جوّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحُشّ (¬2). ومنها: مسخ القلب، فيُمسَخ كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته. فمن القلوب ما يمسَخ على خُلُق خنزير (¬3) لشدة شبه صاحبه به (¬4)، ومنها ما ¬

_ (¬1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا. أخرجه البخاري في الزكاة، باب قول الله عَزَّ وَجَلَّ {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ... (1479)؛ ومسلم في الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ... (1039). (¬2) ذكره المؤلف في المفتاح (1/ 466)، وشيخ الإِسلام في مجموع الفتاوى (5/ 524). وهو من كلام أحمد بن خضرويه البلخي من أصحاب حاتم الأصمّ (237 هـ). طبقات الصوفية (104)، صفة الصفوة (2/ 295). والحشّ: موضع قضاء الحاجة. (¬3) ف: "قلب خنزير". (¬4) "شبه" ساقط من ز.

يمسخ على خُلُق (¬1) كلب أو حمار أو حيّة أو عقرب وغير ذلك (¬2). وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنزير (¬3) وأخلاق الحمار، ومنهم من يتطوّس في ثيابه كما يتطوّس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليدًا كالحمار، ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك، ومنهم من يألَف ويُؤلَف كالحمام، ومنهم الحقود كالجمل، ومنهم الذي هو خير كلّه كالغنم، ومنهم أشباه الذئاب، ومنهم أشباه الثعالب التي تروغ كروغانها (¬4). وقد شبّه الله تعالى أهل الجهل (¬5) والغيّ بالحُمُر تارةً (¬6)، وبالكلب تارةً (¬7)، وبالأنعام تارةً (¬8). وتقوى هذه المشابهة باطنًا، حتّى تظهر في ¬

_ (¬1) "خنزير ... خلق" ساقط من س. (¬2) ز: "أو غير ذلك". (¬3) س: "الخنازير". (¬4) انظر العزلة للخطابي (159) وتفسير القرطبي (6/ 270). (¬5) س: "أصحاب هذا الجهل". (¬6) قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5]. (¬7) قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف: 175 - 176]. (¬8) قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ =

الصورة الظاهرة ظهورًا خفيفًا (¬1) يراه المتفرّسون، وتظهر في الأعمال ظهورًا يراه كلّ أحد. ولا يزال يقوى حتى يستتبعَ (¬2) الصورة، فتنقلب له الصورة بإذن الله، وهو المسخ التامّ، فيقلب الله سبحانه (¬3) الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان، كما فعل باليهود وأشباههم، ويفعل بقوم من هذه الأمة: يمسخهم قردة وخنازير (¬4). فسبحان الله، كم من قلب منكوس وصاحبُه لا يشعر! وقلبٍ ممسوخ، وقلب مخسوفٍ به! وكم من مفتون بثناء الناس عليه، ومغرورٍ بستر الله عليه"، ومستدرج بنعَم الله عليه! وكل هذه عقوبات وإهانة، ويظنّ الجاهل أنها (¬5) كرامة. ومنها: مكر الله بالماكر، ومخادعته للمخادع، واستهزاؤه بالمستهزئ، وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق. ومنها: نكسُ القلبِ حتى يرى الباطل حقًا والحق باطلًا، والمعروف ¬

_ =الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]. وانظر سورة الفرقان [43 - 44]. (¬1) ما عدا ل: "خفيًا". (¬2) ز: "تستبشع"، ولعله تصحيف. (¬3) "الصورة ... سبحانه" ساقط من ف. (¬4) كما جاء في حديث أبي عامر -أو أبي مالك- الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونن من أمَّتي أقوامِ يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف. ولينزلن أقوام إلى جنب علمٍ، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيّتهم الله، ويضع العلم. ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة". أخرجه البخاري في الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسمّيه بغير اسمه (5590). (¬5) "أنها" ساقط من لس.

منكرًا والمنكرَ معروفًا، ويُفسد ويرى أنه يُصلح، [59/ أ] ويصدّ عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليها (¬1)، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنّه على الهدى، ويتّبع (¬2) هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه. وكلّ هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلوب. ومنها: حجاب القلب عن الربّ في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14 - 15]. فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبيّن قلوبهم، فيصلوا إليها، فيَروا ما يُصلِحها ويزكّيها، وما يُفسدها ويُشقيها؟ وأن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبيّن ربهم، فتصل القلوب إليه، فتفوز بقربه وكرامته، وتقرَّ به عينًا، وتطيب به نفسًا، بل كانت الذنوب حجابًا بينهم وبيّن قلوبهم، وحجابًا بينهم وبيّن ربّهم وخالقهم. ومنها: المعيشة الضَّنْك في الدنيا وفي البرزخ، والعذاب في الآخرة. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [طه: 124]. وفُسّرت المعيشة الضنك بعذاب القبر (¬3)، ولا ريب أنّه من المعيشة ¬

_ (¬1) ف:"إليه". (¬2) ز: "فيتبع". (¬3) كما جاء من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن مسعود وابن عباس موقوفًا. فأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن حبان (3119) من طريق حماد بن سلمة مرفوعًا. وروي عنه موقوفًا أخرجه الحاكم 1/ 537 (1405). ووافقه على الوقف عبدة ويزيد بن هارون. أخرجه الطبري (16/ 227 - 228)، =

الضنك، والآية تتناول ما هو أعمُّ منه، وإن كانت نكرةً في سياق الإثبات، فإنّ عمومها من حيث المعنى (¬1)، فإنّه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة (¬2) بحسب إعراضه، وإن تنعّم في الدنيا بأصناف النعيم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنّما يواريه عنه سكرُ الشهوات والعشق وحبّ الدنيا والرياسة، إن لم ينضمَّ إلى ذلك سكرُ الخمر! فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر، فإنّه يفيق صاحبه ويصحو، وسكرُ الهوى وحبّ الدنيا لا يصحو (¬3) صاحبه إلا إذا ¬

_ = وفي تهذيب الآثار (مسند عمر- 728) وابن أبي شيبة 3/ 59 (12061) وهنّاد (354). وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه مرفوعًا الحاكم 2/ 413 (3439) والبيهقي في عذاب القبر (58، 59). وروي من طرق أخرى موقوفًا. أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 144 (34837) والطبري (16/ 228) والبيهقي في عذاب القبر (59). والموقوف أصح. ورواه أيضًا ابن أبي هلال عن أبي حازم عن أبي سعيد موقوفًا. أخرجه الطبري (16/ 227). وأما أثر ابن مسعود موقوفًا فأخرجه هناد في الزهد (352) والطبراني (9/ رقم 9143) والطبري (16/ 228) وسنده حسن. وأما أثر ابن عباس فأخرجه البيهقي في عذاب القبر (68) وسنده حسن. وجاء أيضًا عن السدي وأبي صالح ومجاهد وزاذان. انظر الطبري (16/ 228) وعذاب القبر للبيهقي (63، 64). (¬1) وانظر الفوائد (168)، ومدارج السالكين (1/ 422)، (3/ 259). (¬2) "الضنك على الإعراض ... المعيشة" ساقط من ت. (¬3) ز: "لا يفيق".

صار (¬1) في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في دنياه، وفي البرزخ، ويوم معاده. ولا تقرّ العين، ولا يهدأ القلب، ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حقّ، وكلّ معبود سواه باطل. فمن قرّت عينه بالله قرّت به كلُّ عين، ومن لم تقرّ عينه [59/ ب] بالله (¬2) تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمنِ به وعمل صالحًا، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]. فضَمِن لأهل الإيمانِ والعملِ الصالحِ الجزاءَ في الدنيا بالحياة الطيّبة وبالحسنى يوم القيامة، فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدارين. ونظيبر هذا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} [النحل: 30]. ونظيرها قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]. ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإنّ طيبَ النفس وسرورَ القلب وفرحَه ولذّتَه وابتهاجَه وطمأنينتَه وانشراحَه ونورَه وسعتَه وعافيتَه من الشهوات ¬

_ (¬1) س: "إلا صار". (¬2) "قرّت به ... بالله" ساقط من س.

المحرّمة والشبهات الباطلة = هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان يقول بعض من ذاق هذه اللذّة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف (¬1). وقال آخر: إنّه ليمرّ (¬2) بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي عيش طيب (¬3). وقال آخر: إنّ في الدنيا جنّة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة، فمن دخلها دخل تلك الجنّة، ومن لم يدخلها لم يدخل جنّةَ الآخرة (¬4). وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الجنّة بقوله: "إذا مررتم برياض الجنّة فارتَعوا". قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: "حِلَق الذكر" (¬5). ¬

_ (¬1) من كلام إبراهيم بن أدهم، وقد سبق في ص (186). (¬2) لم يرد "إنه" في ص. وفيها وفي ل: "لتمرّ". وفي ز: "يمرّ". (¬3) س: "لفي نعيم وعيش طيب"، وهو من كلام أبي سليمان المغربي، وقد سلف في ص (186). (¬4) تقدم في ص (187) أنّ المؤلف نقل نحوه عن شيخ الإسلام في المدارج والوابل الصيب. (¬5) أخرجه الترمذيِ (3510) وأحمد 3/ 150 (12545) وأبو يعلى 6/ 155 (3432) وابن عدي في الكامل (6/ 136) وابن حبان في المجروحين (2/ 252) وابن عساكر (10/ 386) وغيرهم من طريق محمَّد بن ثابت البناني عن أبيه عن أنس. قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس". قلت: محمَّد بن ثابت ضعيف، وهذا الحديث من منكراته. ولهذا لم يعرف البخاري حديثه هذا وقال: عنده عجائب. وجعل ابن عدي وابن حبان هذا الحديث من منكراته. وروي من طريق آخر عن أنس، وهو ضعيف جدًا. وجاء من حديث ابن عمر وجابر وابن عباس، بألفاظ متقاربة، وكلها =

العيش عيش القلب السليم

وقال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة" (¬1). ولا تظن أنّ (¬2) قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 - 14]، مختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم (¬3) في الدنيا أطيب من برّ القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الربّ تعالى ومحبته، والعمل على موافقته؟ وهل العيش في الحقيقة إلا عيش [60/ أ] القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله بسلامة قلبه فقال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} [الصافات: 83 - 84]. وقال حاكيًا عنه أنه قال (¬4): {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88 - 89]. والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، والغِلّ، والحقد، والحسد، والشحّ، والكبر، وحبّ الدنيا والرياسة. فسلِمَ من كلّ آفة تُبعده من الله (¬5)، وسلِمَ من كلّ شبهة تعارض خبرَه، ومن كلّ شهوة تعارض أمرَه، وسلِمَ من كل إرادة تزاحم مراده، وسلِمَ من كلّ قاطع ¬

_ = لا تصح. انظر السلسلة الضعيفة (3/ 291) والصحيحة (رقم 2562). (¬1) أخرجه البخاري في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر عن عبد الله بن زيد المازني (1195) وأبي هريرة (1196) رضي الله عنهما. ومسلم في الحج، باب ما بين القبر والمنبر ... (1390، 1391). (¬2) "أنّ" من س وحدها. (¬3) ف: "أي نعيم ولذة". (¬4) "أنه قال" ساقط من ز. (¬5) ف: "تبعد من الله".

لا تتم سلامة القلب حتى يسلم من خمسة أشياء

يقطع عن الله. فهذا القلب السليم في جنّة معجّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ (¬1)، وفي الجنّة يوم المعاد. ولا تتمّ له سلامته (¬2) مطلقًا حتى يسلَم من خمسة أشياء: من شركٍ يناقض التوحيد، وبدعةٍ تخالف السنّة، وشهوةٍ تخالف الأمر، وغفلةٍ تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. وهذه الخمسة حُجُب عن الله، وتحتَ كل واحدٍ (¬3) منها أنواع كثيرة تتضمّن أفرادًا لا تنحصر. ولذلك اشتدّت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراطَ المستقيمَ. فليس العبدُ أحوجَ منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء انفعَ له (¬4) منها. فإنّ الصراط المستقيم يتضمّن علومًا وإراداتٍ وأعمالًا وتُروكًا ظاهرةً وباطنةً تجري عليه كلَّ وقت، فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد، وقد لا يعلمها، وقد يكون ما لا يعلمه أكثرَ مما يعلمه. وما يعلمه (¬5) قد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه (¬6)، وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه. وما يقدر عليه قد تريده نفسه، وقد لا تريده (¬7) كسلًا وتهاونًا أو لقيام مانعٍ (¬8) وغير ذلك. وما تريده قد يفعله، وقد لا ¬

_ (¬1) ف، ل: "جنة البرزخ". (¬2) ف: "يتم له سلامة". (¬3) س: "واحدة". (¬4) ف: "إليه". (¬5) "وما يعلمه" ساقط من ل. (¬6) "وقد لا يقدر عليه" ساقط من س. (¬7) "نفسه وقد لا تريده" ساقط من س. (¬8) في س: "موانع"، وفي حاشيتها: "خ مانع".

معنى كون الرب على صراط مستقيم

يفعله. وما يفعله قد يقوم فيه بشروط الإخلاص، وقد لا يقوم. وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة، وقد لا يقوم. وما يقوم فيه (¬1) بالمتابعة قد يثبت عليه، وقد يُصرَف قلبُه عنه. وهذا كله واقعٌ سارٍ في الخلق، فمستقِل ومستكثِر. وليس في [60/ ب] طباع العبد الهدايةُ إلى ذلك، بل متى وُكِلَ إلى طباعه حِيل بينه وبيّن ذلك كله (¬2). وهذا هو الإركاس الذي أركسَ الله به المنافقين بذنوبهم، فأعادهم إلى طباعهم، وما خُلِقَتْ عليه نفوسُهم من الجهل والظلم (¬3). والربُّ تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره، ونهيه وأمره (¬4) فيهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم (¬5) بفضله ورحمته وجعله الهداية حيث تصلح، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم (¬6) بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحلّ، وذلك موجَب صراطه المستقيم الذي هو عليه. ¬

_ (¬1) "بكمال ... فيه" ساقط من ز. (¬2) "كله" ساقط من ل. (¬3) قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)} [النساء: 88]. (¬4) قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]. وقد فصّل المؤلف في تفسير الآية في إعلام الموقعين (1/ 162) وانظر نحوه في الفوائد (23)، وشفاء العليل (87، 201، 275)، والمدارج (1/ 18)، (3/ 456)، وما سيأتي في ص (480). ثم قارن بما ذهب إليه في بدائع الفوائد (208). (¬5) ل: "صراط مستقيم". (¬6) "المستقيم" لم يرد في ل. و "بفضله ورحمته ... المستقيم" ساقط من ز.

فهو على صراطٍ مستقيم (¬1)، ونصب (¬2) لعباده من أمره صراطًا مستقيمًا دعاهم جميعًا إليه حجّةً منه وعدلًا، وهدى من شاء منهم إلى سلوكه نعمةً منه وفضلًا، ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل (¬3) عن صراطه المستقيم (¬4) الذي هو عليه. فإذا كان يوم لقائه (¬5) نصَبَ لخلقه صراطًا مستقيمًا يُوصِلهم إلى جنته، ثم صَرَف عنه من صَرَف عنه في الدنيا، وأقام عليه من أقامه عليه (¬6) في الدنيا، وجعل نورَ المؤمنين به وبرسوله وما جاء به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نورًا ظاهرًا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الجسر (¬7)، وحفِظَ عليهم نورَهم حتى قطعوه (¬8)، كما حفِظ عليهم الإيمانَ به حتى لَقُوه. وأطفأ نورَ المنافقين أحوجَ ما كانوا إليه، كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا. وأقام أعمال العصاة بجنبتي الصراط كلاليبَ وحَسَكًا تخطَفُهم، كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة عليه، وجعل قوة سيرهم وسرعتهم عليه على قدر قوة سيرهم وسرعتهم إليه في الدنيا (¬9). ¬

_ (¬1) ف: "صراطه المستقيم". ل: "صراطه مستقيم". (¬2) "ونصب" ساقط من ز. (¬3) ز: "القصد"، تحريف. (¬4) ف: "الصراط المستقيم". (¬5) ل: "يوم القيامة". (¬6) ف: "أقام عليه". (¬7) ز، ل: "الحشر". (¬8) س: "قطعوا". (¬9) انظر الحديث الذي تقدم في ص (71).

من أعظم عقوبات الذنوب: الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة

ونصب للمؤمنين حوضًا يشربون منه بإزاء شربهم مِن شَرْعه في الدنيا، وحرَمَ من الشُّرب منه (¬1) هناك من حرمه من الشرب من شرعه ودينه ها هنا (¬2). فانظر إلى الآخرة كأنّها رأي عين، وتأمَّلْ حكمة الله سبحانه في الدارين، تعلَمْ حينئذ علمًا يقينًا لاشكّ فيه أنّ الدنيا مزرعةُ الآخرة وعنوانُها وأنموذجُها، وأنّ منازل الناس فيها في السعادة [61/ أ] والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار في الإيمان والعمل الصالح وضدّهما. وبالله التوفيق. فمن أعظم عقوبات الذنوب: الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة. فصل ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها. ونحن نذكر فيها بعون الله وتوفيقه (¬3) فصلاً وجيزًا جامعًا، فنقول: ¬

_ (¬1) "منه" ساقط من س. (¬2) رويت أحاديث الحوض عن جماعة من الصحابة. قال المؤلف في شرح السنن (13/ 56): "وقد روى أحاديث الحوض أربعون من الصحابة، وكثير منها وأكثرها في الصحيح". ومنها أحاديث متفق عليها، ومنها ما انفرد به البخاري أو مسلم. (¬3) ز: " ... وقوته وتوفيقه".

الذنوب أربعة أقسام

أصلها نوعان: ترك مأمورًا وفعل محظور. وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه بهما أبوي الجنّ والإنس. وكلاهما ينقسم باعتبار محلّه إلى ظاهرٍ على الجوارح، وباطن في القلب. وباعتبار متعلَّقه إلى حقّ لله، وحقّ لخلقه (¬1). وإن كان كلُّ حق لخلقه فهو متضمّن لحقّه (¬2)، لكن سمّي حقَّا للخلق لأنّه يجب بمطالبتهم ويسقط بإسقاطهم. ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: مَلَكيّة، وشيطانية، وسبعيه، وبهيمية، ولا تخرج (¬3) عن ذلك. فالذنوب الملَكية: أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية كالعظمة، والكبرياء، والجبروت، والقهر، والعلوّ، واستعباد الخلق، ونحو ذلك. ويدخل في هذا (¬4): الشركُ بالربّ تعالى، وهو نوعان: شركٌ به في أسمائه وصفاته، وجعلُ اَلهةٍ أخرى (¬5) معه. وشركٌ به في معاملته، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العملَ الذي أُشرِكَ فيه مع الله غيرُه. ¬

_ (¬1) ف: "حق الله تعالى وحق خلقه". (¬2) ز: "كل حق فهو متضمن" فأسقط "لخلقه" و "لحقه". (¬3) ل: "لا تخرج" دون واو العطف. (¬4) ز: "في ذلك". (¬5) ف: "أخر".

فصل: 2 - الذنوب الشيطانية

وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب. ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره. فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيتَه وملكَه، وجعل له ندًّا. وهذا (¬1) أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل. فصل وأما الشيطانية، فالتشبّه بالشيطان في الحسد، والبغي، والغشّ والغلّ، والخداع، والمكر، والأمر بمعاصي الله (¬2) وتحسينها، والنهي عن طاعته، وتهجينها، والابتداع في دينه، والدعوة إلى البدع والضلال. وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة، وإنْ كانت مفسدته دونه [61/ ب]. فصل وأما السبعية، فذنوب العدوان، والغضب، وسفك الدماء، والتوثّب على الضعفاء والعاجزين. ويتولّد منها أنواع أذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان. وأما الذنوب البهيمية، فمثل الشَّرَه والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج. ومنها يتولّد الزنى، والسرقة، وأكل أموال اليتامى (¬3)، والبخل والشحّ، والجبن، والهلع، والجزع، وغير ذلك. وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية ¬

_ (¬1) ف: "وهو". (¬2) ز: "بالمعاصي". (¬3) س: "وأكل أموال الناس وأموال اليتامى".

فصل: الذنوب كبائر وصغائر

والملكية. ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرّهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية والشرك في الوحدانية. ومن تأمّل هذا حقَّ التأمّل تبيّن له أنّ الذنوب دِهْلِيزُ (¬1) الشرك، والكفر، ومنازعة الله ربوبيته (¬2). فصل وقد دلّ القرآنُ والسنّةُ وإجماعُ الصحابةِ والتابعينَ بعدهم والأئمّةِ على أنّ من الذنوب كبائرَ وصغائرَ. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وقال تعالى: ({الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] (¬3). وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (¬4): "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ لما بينهنّ، إذا اجتُنِبَت الكبائر" (¬5). وهذه الأعمال المكفّرة لها ثلاث درجات: إحداها (¬6): أن تقصّر عن تكفير الصغائر، لضعفِها وضعفِ ¬

_ (¬1) الذَّهليز بكسر الدّال: ما بين الباب والدار، فارسي معرب. الصحاح (3/ 878). (¬2) ز: "في ربوبيته". (¬3) في ز تقدمت هذه الآية على الآية السابقة. (¬4) "أنه قال" لم يرد في س. (¬5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس ... (233). (¬6) س: "أحدها".

الإخلاص فيها والقيام بحقوقها؛ بمنزلة الدواء الضعيف (¬1) الذي ينقص عن مقاومة الدّاء كميّةً وكيفيةً. الثانية: أن تقاوم الصغائرَ، ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر. الثالثة: أن تقوَى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوةٌ تكفّر بها بعضَ الكبائر. فتأمَّلْ هذا، فإنّه يزيل عنك إشكالات كثيرة. وفي الصحيحين (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (¬3): "ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور". [62/ أ] وفي الصحيحين (¬4) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبعَ الموبقات". قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله (¬5)، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". ¬

_ (¬1) "الضعيف" ساقط من ز. (¬2) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في، الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور (2653)؛ ومسلم في الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (87). (¬3) "أنه قال" انفردت به س. (¬4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الوصايا، باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية، (2766)، ومسلم في الإيمان" باب بيان الكبائر (89). (¬5) ل: "الإشراك بالله". ف: "الإشراك".

الاختلاف في عدد الكبائر

وفي الصحيحين (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه سئل: أيّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تدعو لله ندًّا، وهو خَلَقك". قيل: ثمّ أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافةَ أن يطعَمَ معك". قيل (¬2): ثمّ أيّ؟ قال: "أن تُزانيَ بحليلة جارك". فأنزل الله تعالى تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]. واختلف الناس في الكبائر، هل (¬3) لها عدد يحصرها؟ على قولين. ثم الذين (¬4) قالوا بحصرها اختلفوا في عددها: فقال عبد الله بن مسعود: هي أربع (¬5). وقال عبد الله بن عمر: هي سبع (¬6). وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هي تسعة (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في ص (262). (¬2) س، ز: "قال". (¬3) ز: "فقيل"، تحريف. (¬4) ز: "إن الذين". (¬5) أخرجه الطبري (5/ 40) وسنده صحيح. وله طرق فيها اختلاف. وورد عنه أنه قال: "الكبائر ثلاث،: الياس من روح الله، والقنوط ... ، والأمن ... ". أخرجه الطبري (5/ 41) وفي سنده انقطاع. وقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال: "الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين منها". أخرجه الطبري (37/ 5). (¬6) الذي وجدته عن ابن عمر أنها تسع، كما رواه عنه طيسلة بن مَيّاس. انظر التاريخ الكبير للبخاري (4/ 367) والطبري (5/ 39). (ز). أما القول بانها سبع فقد ورد عن علي بن أبي طالب وعبيد بن عمير الليثي وعطاء. انظر تفسير الطبري (8/ 235 - 238). (ص). (¬7) كذا بتانيث العدد في جميع النسخ. وقد تقدم أن هذا القول ثابت عن ابن عمر.

وقال غيره: هي أحد عشر (¬1). وقال آخر: هي سبعون (¬2). وقال أبو طالب المكي: جمعتُها من أقوال الصحابة، فوجدتها: أربعة في القلب، وهي: الشرك، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. وأربعة في اللسان، وهي: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغَموس، والسحر. وثلاث (¬3) في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا. واثنان في الفرج، وهما: الزنا، واللواطة. واثنان في اليدين، وهما: القتل، والسرقة. وواحد في الرجلين، وهو الفرار من الزحف. وواحد يتعلق بجميع الجسد وهو عقوق الوالدين (¬4). والذين لم يحصروها بعدد، منهم من قال: كلّ ما نهى الله (¬5) عنه في القرآن فهو كبيرة، وما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو صغيرة (¬6). وقالت طائفة: ما اقترن بالنهي عنه وعيدٌ من لعن أو غضب أو عقوبة ¬

_ (¬1) كذا في النسخ ما عدا ف. كان فيها "أحد عشرة" فاصلحها بعضهم: "إحدى عشرة". وقد روي هذا القول عن ابن مسعود (زاد المسير 2/ 66) وعن علي (تفسير ابن كثير 1/ 460). (¬2) روى طاووس وغيره عن ابن عباس أنها إلى السبعين أقرب. وروى عنه سعيد بن جبير أنها إلى السبعمائة أقرب. انظر تفسير الطبري (8/ 245). (¬3) كذا في جميع النسخ بتذكير العدد خلافًا لما سبق. (¬4) انظر قوت القلوب (2/ 288)، وفتح الباري (12/ 183). (¬5) لم يرد لفظ الجلالة في ف. وسقط "كل ما" من ل. (¬6) ل: "فهو كبير ... فهو صغير". وانظر تفسير الطبري (8/ 244).

القول بأن الذنوب كلها كبائر بالنظر على الجراءة على لله

فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء من ذلك فهو صغيرة (¬1). وقيل: كل ما رتب عليه حدّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة. وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة (¬2). وقيل: كلّ ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من [62/ ب] الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة. وقيل: كلّ ما لعن الله أو رسولُه فاعلَه فهو كبيرة. وقيل: هي ما ذُكِرَ (¬3) من أول سورة النساء إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] (¬4). والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر (¬5) قالوا: الذنوب كلها ¬

_ (¬1) روي نحو هذا عن ابن عباس والحسن البصري. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (2/ 444). (¬2) قال ابن حجر: "وممن نصّ على هذا: الإِمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى، ومن الشافعية الماوردي، ولفظه: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود، أو توجه إليها الوعيد". الفتح (10/ 410). وأصله ما ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير اللمم في قوله تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] انظر تفسير الطبري (68/ 22). (¬3) ف، ل: "وقيل: ما ذكر". وهو قول ابن مسعود فيما روى عنه مسروق وعلقمة وإبراهيم. تفسير الطبري (8/ 233)، ونقل عن ابن عباس أيضًا في زاد المسير (66/ 2). (¬4) وانظر حدودًا أخرى في مدارج السالكين للمؤلف (1/ 321 - 327). (¬5) منهم أبو إسحاق الاسفراييني، وأبو بكر ابن الطيب الباقلاني، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، واختاره إمام الحرمين وبيّن أنه لا يخالف ما قاله الجمهور. انظر الفتح (10/ 409)، ومدارج السالكين.

بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره كبائر، فالنظر إلى من عُصيَ أمره وانتهكت محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلّها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة. قالوا: ويوضِّح هذا أنّ الله سبحانه لا تضرّه الذنوب ولا يتأثّر بها، فلا يكون بعضها بالنسبة إليه أكبر من بعض، فلم يبق إلا مجرد معصيته ومخالفته، ولا فرق في ذلك بين ذنب وذنب. قالوا: ويدلّ عليه أن مفسدة الذنوب إنما هي متابعة للجراءة والتوثّب على حقّ الربّ تعالى. ولهذا لو شرب رجلٌ خمرًا أو وطئ فرجًا حرامًا وهو لا يعتقد تحريمه لكان قد جمع بين الجهل وبيّن مفسدة ارتكاب الحرام. ولو فعل ذلك من يعتقد تحريمه لكان آتيًا بإحدى المفسدتين، وهو الذي يستحق العقوبة دون الأول. فدلّ على أن مفسدة الذنب متابعة للجراءة والتوثب. قالوا: ويدلّ على هذا أن المعصية تتضمّن الاستهانةَ بأمر المطاع ونهيه، وانتهاكَ حرمته. وهذا لا فرق فيه بين ذنب وذنب. قالوا: فلا ينظر العبد إلى كبر الذنب وصغره في نفسه، ولكن ينظر إلى قَدْر مَن عصاه وعظمته، وانتهاك حرمته بالمعصية. وهذا لا يفترق فيه الحال بين معصية ومعصية، فإنّ ملِكًا مُطاعًا عظيمًا (¬1) لو أمر أحدَ مملوكيه أن يذهب في مهمّ له إلى بلد بعيد، وأمر اَخرَ أن يذهب في شغلٍ له إلى جانب الدار، فعصَياه وخالفا أمره، لكانا في مقته والسقوط من عينه سواءً. ¬

_ (¬1) ف: "عظيمًا مطاعًا".

فصل: كشف الغطاء عن المسألة

قالوا: ولهذا كانت معصية من ترك الحجَّ من مكة أو ترك (¬1) الجمعةَ وهو جار المسجد أقبحَ عند الله من معصية من تركه من المكان البعيد. والواجب على هذا أكثر من الواجب على هذا. ولو كان مع رجل مائتا درهم فمنع (¬2) زكاتها، ومع آخر مائتا ألف ألف فمنع زكاتها [63/ أ] لاستويا (¬3) في منع ما وجب على كلّ واحد منهما. ولا يبعد استواؤهما في العقوبة إذ كان كلّ منهما مصرًّا على منع زكاة ماله، قليلًا كان المال أو كثيرًا. فصل وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السموات والأرض، لِيُعرفَ، ويوحَّد، ويُعبَدَ، ويكون الدين كلّه له (¬4)، والطاعة كلّها له، والدعوة له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]. وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]. ¬

_ (¬1) ما عدا ف: "وترك". (¬2) ف: "ومنع". (¬3) ز: "لا يستويا"، تحريف. (¬4) ف، ز: "لله".

وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} [المائدة: 97]. فأخبر سبحانه أنّ القصد بالخلق والأمر أن يُعرَفَ بأسمائه وصفاته، ويُعبَد وحده لا يُشرَك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فأخبر أنّه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل (¬1). ومن أعظم القسط: التوحيدُ، بل هو رأسُ العدل وقِوامُه، وإنّ الشرك لظلم عظيم. فالشرك (¬2) أظلَمُ الظلمِ، والتوحيد أعدَلُ العدلِ. فما كان أشدَّ منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتُها في درجاتها بحسب منافاتها له. وما كان أشدّ موافقةً لهذا المقصود (¬3) فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات. فتأمَّلْ هذا الأصلَ حقَّ التأمّل، واعتبِرْ به تفاصيلَه تَعرِفْ به حكمة أحكمِ الحاكمين وأعلمِ العالمين فيما فرضه على عباده، وحرّمه عليهم؛ وتفاوُتَ مراتبِ الطاعات والمعاصي. ولمّا (¬4) كان الشرك بالله منافئا بالذات [63/ ب] لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرّم الله الجنّةَ على كل مشرك، وأباح دمَه ¬

_ (¬1) "الذي قامت به ... العدل" ساقط من ز. (¬2) "لظلم عظيم فالشرك" ساقط من ل. (¬3) "فهو أكبر الكبائر ... المقصود" ساقط من ف. (¬4) "ولما" ساقط من س. وفي ز: "فلما". وفي ل: "فكلما"، وهو خطأ.

هل تحريم الشرك مستفاد من الشرع فحسب أو هو قبيح في الفطر والعقول أيضا

ومالَه وأهلَه (¬1) لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدًا لهم، لما تركوا (¬2) القيام بعبوديته. وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك (¬3) عملًا، أو يقبل فيه شفاعةً، أو يستجيب له في الآخرة دعوةً، أو يُقيل له فيها عثرةً، فإنّ المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نِدًّا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غايةُ الظلم منه؛ وإن كان المشرك لم يظلم ربَّه، وإنما ظلم نفسه (¬4). ووقعت مسألة، وهي (¬5) أنّ المشرك إنّما قصدُه تعظيمُ جناب الربّ تبارك وتعالى، وأنّه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد إلاستهانَةِ بجناب الربوبية، وإنما قَصَدَ تعظيَمه، وقال: إنّما أعبد هذه الوسائطَ لِتُقرِّبني إليه، وتُدخِلَني عليه، فهو المقصود، وهذه وسائل وشفعاء. فلِمَ كان هذا القدر موجبًا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى، ومخلِّدًا في النار، وموجبًا لسفك دمَاء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم؟ وترتّب (¬6) على هذا سؤال آخر، وهو أنّه هل يجوز أن يشرع اللهُ ¬

_ (¬1) لم يرد "أهله" في ل، ز. وسقط "ماله" من ف. (¬2) ف: "ما تركوا". (¬3) ف: "لمشرك". (¬4) وقع في ف: "وإن المشرك لم يظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه"، وهو خلاف المقصود هنا. (¬5) ز: "وهو". ومن هنا إلى آخر الفصل التالي نقله المقريزي بتصرّف في رسالته "تجريد التوحيد المفيد" (59 - 62). (¬6) ز: "ويترتب".

ما السر في كون الشرك لا يغفر من بين جميع الذنوب؟

سبحانه لعباده التقرّبَ إليه بالشفعاء والوسائط (¬1)، فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيحٌ في الفِطَر والعقول، ممتنعٌ (¬2) أن تأتي به شريعة، بل جاءت الشرائع بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كلّ قبيح؟ وما السرّ في كونه لا يُغفَر من بين سائر الذنوب، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. فتأمَّلْ هذا السؤالَ، واجمع قلبك وذهنك على جوابه، ولا تستَهْوِنْه، فإنّه (¬3) به يحصل الفرقُ بين الموحّدين والمشركين (¬4)، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنّة وأهل النار. فنقول، وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمِدّ المعونة والتسديد، فإنّه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلِلْ فلا هادي له، [64/ أ] ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع: الشرك شركان: شرك يتعلّق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته (¬5)، وإن كان صاحبه يعتقد أنّه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (¬6). ¬

_ (¬1) ف: "إليه بالوسائط". (¬2) ف، ز: "يمتنع". ل: "تمتنع". (¬3) ف، ل: "فإنّ". (¬4) ما عدا س: "المشركين والموحدين". (¬5) ف: "معاملته وعبادته". (¬6) "وشرك في عبادته ... أفعاله" ساقط من ل.

الشرك نوعان: الأول: الشرك في الذات والصفات

والشرك الأول نوعان: أحدهما: شرك التعطيل. وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: وما ربّ العالمين؟ (¬1)، وقال لهامان: ابن لي صرحًا، لعلّي أطلع إلى إله موسى، وإنّي لأظنّه من الكاذبين (¬2). والشرك والتعطيل متلازمان. فكل مشرك معطِّل، وكل معطَل مشرك، لكنّ الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقِرًّا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنّه عطّل حقَّ التوحيد (¬3). وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع (¬4) إليها هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام: تعطيل (¬5) المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدّس، بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله (¬6). وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا: شركُ (¬7) طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثمَّ خالق ومخلوق، ولا ها هنا شيئان، بل الحقّ المنزَه هو عين الخلق ¬

_ (¬1) كما في سورة الشعراء (23). (¬2) كما في سورة القصص (38) وغافر (36 - 37). وفي س: "وإني لأظنه كاذبَا". (¬3) ز: "خلق التوحيد"، تحريف. (¬4) ف: "رجع". (¬5) كلمة "تعطيل" ساقطة من ف. (¬6) "وتعطيل الصانع ... أفعاله" ساقط من ف. (¬7) ز: "أشرك"، خطأ.

فصل: 2 - شرك من جعل لله إلها آخر

المشبَّه (¬1). ومنه (¬2): شركُ الملاحدة القائلين بقِدَم العالم وأبديّته، وأنّه لم يكن معدومًا أصلًا بل لم يزل ولا يزال. والحوادثُ بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادَها يسمّونها العقول والنفوس. ومن هذا: شركُ من عطّل أسماء الربّ تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يُثبتوا له اسمًا ولا صفةً، بل جعلوا المخلوق أكملَ منه إذ كمالُ الذات بأسمائها وصفاتها. فصل النوع الثاني: شرك من جعل معه إلهًا اَخرَ، ولم يعطِّل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثةً، فجعلوا المسيح الهًا وأمّه إلهًا. ومن هذا شركُ المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشرّ [64/ ب] إلى الظلمة. ومن هذا: شركُ القدرية القائلين بأنّ الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنّها (¬3) تحدُث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ولهذا كانوا أشباهَ المجوس. ¬

_ (¬1) "الخلق" ساقط من س. وفي ز: "الحق أكبره هو عين المشيئة"، تحريف. وزاد في ل بعد "المنزه" واو العطف، وهو خطأ. وقوله: "الحق المنزّه ... " من كلام ابن عربي في فصوص الحكم (78). (¬2) ف: "ومن"، خطأ. (¬3) ز: "إنما".

فصل: النوع الثاني: الشرك في العبادة

ومن هذا: شركُ الذي حاجّ إبراهيمَ في ربّه {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فهذا جعل نفسه ندًّا لله، يحيي ويميت بزعمه كما يحيي الله ويميت (¬1). فألزمه إبراهيم أنّ طردَ قولك أن تقدِرَ على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها. وليس هذا انتقالًا كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزام (¬2) على طرد الدليل إن كان حقَّا. ومن هذا: شركُ كثيبر ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أربابًا مدبّرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. ومن هذا: شرك عُبّاد الشمس وعُبّاد النار وغيرهم. ومن هؤلاء من يزعم أنّ معبوده هو الإله على الحقيقة. ومنهم من يزعم أنه أكبر الالهة. ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الالهة، وأنّه إذا خصّه بعبادته والتبتّل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتنى به. ومنهم من يزعم أنّ معبوده الأدنى يقرّبه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقانيُّ يقرّبه إلى من هو فوقه، حتى تقرّبه تلك الآلهةُ إلى الله سبحانه؛ فتارة تكثر الوسائط، وتارةً تقِلّ (¬3). فصل وأما الشرك في العبادة، فهو أسهل من هذا الشرك، وأخفُّ أمرا، فإنّه يصدر ممن يعتقد أنّه لا إله إلا الله، وأنّه لا يضرّ وينفع ويعطي ويمنع ¬

_ (¬1) ف: "يحي ويميت". وسقط "فهذا جعل نفسه ... ويميت" من س. (¬2) س، ل:"إلزامًا". (¬3) س: "يكثر ... يقل".

إلا الله، وأنّه لا إله غيره ولا ربّ سواه، ولكن لا يُخلِص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظِّ نفسه تارةً، ولطلب الدنيا تارةً، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارةً. فلِلّه من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظّه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، ولِلخَلْق نصيب. وهذا حال أكثر الناس. وهو الشرك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن حِبّان في صحيحه (¬1): "الشرك في هذه الأمّة [65/ أ] أخفى من دبيب النمل". قالوا: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: "قل: اللهم إنّي أعوذ بك أن ¬

_ (¬1) ليس في المطبوع، ولعل المؤلف وهم فيه. وقد ورد نحو هذا المتن عن أبي موسى وأبي بكر وعائشة وابن عباس، وكلها لا تثبت. وأصحها حديث أبي موسى الأشعري. فقد أخرجه أحمد في المسند 4/ 403 (19606) والبخاري في الكنى (509) وغيرهما من طريق أبي علي الكاهلي قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: "يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل ... - وفيه: قال أبو موسى- خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال. فذكر نحوه. قال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، ووثقه ابن حبان" المجمع (223/ 10). وانظر الترغيب والترهيب (1/ 40). وقد ورد موقوفًا عن ابن مسعود وابن عباس أخرجه ابن حبان في الثقات (5/ 342) من طريق كردوس الثعلبي عن ابن مسعود قال: "الشرك في أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وفي المصلين أخفى من دبيب النمل". وسنده لا بأس به. وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (230) من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: "هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي، ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص ... " وسنده حسن.

أشرِك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". فالرياء كله شرك. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]. أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده. فكما (¬1) تفرّد بالإلهية يجب أن يُفرد (¬2) بالعبودية. فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء، المقيَّد بالسنّة. وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كلَّه صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا (¬3). وهذا الشركُ في العبادة يُبطِل ثوابَ العمل، وقد يعاقَب عليه إذا كان العمل واجبًا، فإنّه يُنزِله منزلةَ من لم يعمله، فيعاقبَ على ترك الأمر. فإنّ الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة (¬4). قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]. فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أُمِرَ به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به (¬5)، فلا يصحّ، ولا يقبل منه. ويقول الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل "عملًا ¬

_ (¬1) س: "وكما". (¬2) س: "يتفرد". (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (615) من طريق الحسن أن عمر كان يقول، فذكره. والحسن لم يسمع عن عمر. وأخرجه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (1018) من طريق آخر. (¬4) س: "خالصًا". (¬5) ز: "شيئًا غير الذي أمر به".

الشرك في العبادة ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر

أشرك معي (¬1) فيه غيري، فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء" (¬2). وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر. والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفورًا (¬3). فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم أن يحبّ مخلوقًا كما يحبّ الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله. وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه (¬4):) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم (¬5) الجحيم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97 - 98]. ومعلوم أنهم ما سوَّوهم به سبحانه في الخلق والرزق والإماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنّما سوّوهم به (¬6) في الحبّ والتأله والخضوع لهم والتذلّل. وهذا غاية الظلم والجهل. فكيف يُسوَّى [65/ ب] الترابُ بربّ الأرباب؟ وكيف يسوّى العَبيد (¬7) بمالك الرِّقاب؟ وكيف يسوّى الفقيرُ بالذات، الضعيفُ بالذات، العاجزُ ¬

_ (¬1) "معي" ساقط من ز. (¬2) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) ل، ز: "مغفور". (¬4) س: "قال الله ... ". ل، ز: "قال فيه سبحانه". (¬5) سقطت الواو من س. وفي ف: "وقد جمعهم". (¬6) "به" ساقط من س. (¬7) ز: "العبد".

فصل: ويتبعه الشرك في الأفعال والأقوال والإرادات

بالذات (¬1)، المحتاجُ بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم = بالغنيّ بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه (¬2) وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التامّ من لوازم ذاته؟ فأيّ ظلم أقبحُ من هذا؟ وأيّ حكم أشدّ جورًا منه حيث عَدَلَِ من لاعَدْلَ له بخلقه؛ كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1]، فعدَل المشركُ مَن خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض. فيا لك من عَدْلٍ تضمّنَ أكبرَ الظلم وأقبحه (¬3)! فصل (¬4) ويتبع هذا الشرك (¬5) الشركُ به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات. فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، و (¬6) تقبيل القبور واستلامها والسجود لها. ¬

_ (¬1) "الضعيف ... بالذات" ساقط من ز. (¬2) ف: "ملكه وقدرته". (¬3) العبارة في ز محرّفة. (¬4) هذا الفصل نقله المقريزي بتصرّف في رسالته "تجريد التوحيد المفيد" (50 - 59). (¬5) ف: "ومن أنواع الشرك". (¬6) ما عدا س: "أو".

وقد لعن النبيُّ (¬1) - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجدَ يُصلى لله فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانًا يعبدها من دون الله! ففي الصحيحين (¬2) عنه أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬3). وفي الصحيح عنه (¬4): "إنّ من شرار الناس مَن تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" (¬5). وفي الصحيح أيضًا عنه: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا (¬6)، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ¬

_ (¬1) ل: "رسول الله". (¬2) ماعدا ل: "ففي الصحيح". (¬3) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (436،435) وغيره؛ ومسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (531). (¬4) ز: "أيضًا عنه". (¬5) أخرجه أحمد 5/ 401 (3844) وابن خزيمة (789) وابن حبان (6847) والبزار في مسنده (1724) وغيرهم، من طريق زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود مرفوعًا. وذكره البخاري في الفتن معلّقًا بصيغة الجزم بالشطر الأول فقط. راجع الفتح (13/ 14). ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". أخرجه مسلم (2949) وغيره. ورواه قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم عن عَبيدة السلماني عن ابن مسعود مرفوعًا بمثله، وزاد في أوله: "إن من البيان سحرًا". أخرجه أحمد 1/ 454 (4342) وغيره. وهي رواية تفرد بها قيس عن الأعمش، وقبس ضعيف. (¬6) "ألا" لم ترد في ف، ل. وقد سقط من ز: "وفي الصحيح أيضًا ... مساجد".

ذلك" (¬1) وفي مسند الإِمام أحمد وصحيح ابن حبان (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله زوّارات (¬3) القبور [66/ أ] والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج". وقال: "اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬4). ¬

_ (¬1) من حديث جندب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (532). (¬2) مسند أحمد 1/ 229 (2030)، وابن حبان (3179). وأخرجه الترمذي (320) وأبو داود (3236) وابن ماجه (1575) والنسائي (2043) والحاكم 1/ 530 (1384) وغيرهم، من طريق محمَّد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره. قال الترمذي: "حديث حسن". وقال الحاكم: "أبو صالح هذا ليس بالسمّان المحتج به، إنما هو باذام. ولم يحتج به الشيخان لكنه حديث متداول فيما بين الأئمة، ووجدت له متابعًا ... " فذكره. قلت: أبو صالح هذا هو باذام مولى أم هانئ، ضعفه أكثر العلماء. راجع تهذيب الكمال (8/ 4). وانظر تفصيل الكلام على الحديث في "جزء زيارة النساء للقبور" للشيخ بكر أبو زيد حفظه الله، ولشطر الحديث الأول شواهد تقويه. (¬3) ف: "عنه أنه لعن زوارات ... ". (¬4) أخرجه البزار (كشف الأستار- 445) وابن عبد البر في التمهيد (5/ 43) من طريق عمر بن صهبان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. قال الهيثمي في المجمع (28/ 2): "رواه البزار وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". قلت: وقد خولف عمر بن صهبان. خالفه الإِمام مالك وغيره فرووه مرسلًا وهو أصح. فرواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. أخرجه في الموطأ (475) وابن سعد (2/ 212). ورواه معمر ومحمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معضلًا. أخرجه عبد الرزاق (1587) وابن أبي شيبة (11818).

وقال: "إنّ من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك الصورة (¬1). أولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬2). فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر، فكيف حال (¬3) من سجد للقبر نفسِه! وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد" (¬4). وقد حمى (¬5) النبي- صلى الله عليه وسلم - جانبَ التوحيد أعظم حماية، حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها (¬6)، لئلاّ يكون ¬

_ (¬1) ف: "الصور". (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة (434) وغيره؛ ومسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (528). (¬3) "حال" ساقط من ف. (¬4) أخرجه أحمد 2/ 246 (7358) والبخاري في تاريخه (3/ 47) وابن سعد (2/ 213) وأبو نعيم في الحلية (7/ 317) وغيرهم من طريق سفيان بن عيينة عن حمزة بن الغيرة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا فذكره. قلت: حمزة قال فيه ابن معين: "ليس به بأس". ولم نجد له متابعًا عن سهيل. وقد عدّه الدارقطني وأبو نعيم من غرائب حمزة. انظر أطراف الغرائب (5/ 347). وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا". انظر علل الدارقطني (2/ 220 - 221). (¬5) "صلى الله عليه وسلم ... حمى" ساقط من ف. (¬6) كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (582) ومسلم في صلاة المسافرين (828).

ذريعةً إلى التشبّه بعُبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسدّ الذريعةَ بأن منع من الصلاة بعد العصر والصبح (¬1) لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس. وأما السجود لغير الله فقال: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله" (¬2). "ولا ينبغي لا في كلام الله ورسوله للذي هو في غاية الامتناع شرعًا (¬3)، كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 92]، وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ¬

_ (¬1) كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره في صحيح البخاري (581،584، 586) وصحيح مسلم (827،826،825). (¬2) "لأحد أن ... لله " ساقط من ل (ص). والحديث أخرجه ابن حبان (4162) وابن أبي الدنيا في العيال (534) من طريق أبي أسامة والنضر بن إسماعيل البجلي كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قصة الجملين. وفيه: "فقال من معه: سجد له (أي للنبي - صلى الله عليه وسلم -) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد. ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لِما عظّم الله عليها من حقّه" هذا لفظ ابن حبان وسنده حسن. والحديث أخرجه مختصرًا: الترمذي (1159) والبيهقي (7/ 291) من طريق النضر بن شميل عن محمَّد بن عمرويه. قال الترمذي: "حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه؛ من حديث محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة". (¬3) لم يرد "شرعًا" في ف، ز. وقال المؤلف في إعلام الموقعين (1/ 43): "وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال "لا ينبغي" في المحظور شرعًا أو قدرًا في المستحيل الممتنع". وانظر بدائع الفوائد (1307).

فصل: ومن الشرك به: الشرك في اللفظ كالحلف بغيره

الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 210 - 211]، وقوله عن الملائكة: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18]. فصل ومن الشرك به سبحانه: الشركُ به في اللفظ، كالحلف بغيره، كما رواه الإِمام أحمد (¬1) وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". صححه الحاكم وابن حبان (¬2). ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئتَ، كما ثبت عن النبي (¬3) - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعَلْتَني (¬4) لله نِدًّا؟ قل: ما شاء الله وحدَه" (¬5). ¬

_ (¬1) س: "رواه أحمد". (¬2) أخرجه أحمد 2/ 125 (6072) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) وابن حبان (2177) والحاكم 4/ 231 (7814) وغيرهم من طرق عن الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة: سمع ابن عمر رجلًا يقول: والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". وكذا رواه سعيد بن مسروق والأعمش عن سعد بن عبيدة به عند أحمد (4904). ورواه شعبة وشيبان وجرير بن عبد الحميد كلهم عن منصور بن المعتمر عن سعد بن عبيدة عن محمَّد الكندي عن ابن عمر مرفوعًا، فذكره، وفيه قصة. أخرجه أحمد (5375، 5593) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (831) وغيرهما. وانظر: السلسلة الصحيحة (2042)، وتحقيق المسند (8/ 504). (¬3) س: "عنه". (¬4) س: "أتجعلني". (¬5) أخرجه أحمد (1839، 1964، 2561، 3247) والبخاري في الأدب المفرد (234) وابن ماجه (2117) والنسائي في عمل اليوم والليلة (988) والبيهقي =

هذا مع أنّ الله قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسبِ الله وحسبِك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا [66/ ب] من الله ومنكَ، وهذا من بركَات الله وبركاتك، واللهُ لي في السماء (¬1)، وأنتَ لي في الأرض، أو يقول: واللهِ وحياةِ فلان، أو يقول: نذرًا لله (¬2) ولفلان، أو أنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلانًا، ونحو ذلك؟ فوازِن بين هذه الألفاظ وبيّن قول القائل (¬3): ما شاء الله وشئت، ثم انظر: أيُّهما أفحَشُ يتبيّن لك أنّ قائلَها أولى بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل تلك الكلمة، وأنّه (¬4) إذا كان قد جعله لله نِدًّا بها (¬5)، فهذا (¬6) قد جعل من لا يداني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأشياء، بل لعله أن يكون من أعدائه، ¬

_ = (217/ 3) وغيرهم، من طرق عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس أن رجلًا قال ... فذكره. قلت: ومدار الحديث على الأجلح وهو مختلف فيه، ولهذا قال البوصيري: "هذا إسناد فيه الأجلح بن عبد الله مختلف فيه. ضعفه أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد. ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان. وباقي رجال الإسناد ثقات ... ". قلت: وله شواهد، انظرها في تحقيق المسند (3/ 339). (¬1) "لي" ساقط من س، ف. وفي س: "السموات". (¬2) ز: "نذر لله". (¬3) ز: "بين القائل". (¬4) ف: "وأنّ القائل". (¬5) سقط "بها" من س، ولفظ الجلالة من ف. وفي ل: "جعل". (¬6) ف: "فهل" تحريف.

فصل: الشرك في الإرادات والنيات بحر لا ساحل له وقل من ينجو منه

نِدًّا لربّ العالمين. فالسجود، والعبادة، والتوكّل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والتحسّب، والتوبة، والنذر، والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعًا وتعبّدًا، والطواف بالبيت، والدعاء- كُلّ ذلك محضُ حقّ الله الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملَكٍ مقرَّب ولا نبيّ مرسَل (¬1). وفي مسند الإِمام أحمد (¬2) أنّ رجلًا أُتِيَ به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذنب ذنبًا، فلمّا وقف بين يديه قال: اللهم إنّي أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمّد. فقال: "عرَفَ الحقَّ لأهله". فصل وأما الشرك في الإرادات والنيّات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلّ من ينجو منه. فمن أراد بعمله غيرَ وجه الله، أو نوى (¬3) شيئًا غيرَ التقرّبِ إليه وطلبِ الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته. ¬

_ (¬1) ف: "أو نبي مرسل". (¬2) 3/ 435 (15587) والطبراني في الكبير 1/ 286 (839، 840) والحاكم 4/ 284 (7654) وغيرهم. من طريق محمد بن مصعب القرقساني عن سلام بن مسكين والمبارك بن فضالة عن الحسن البصري عن الأسود بن سريع مرفوعًا فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي قائلًا: "ابن مصعب ضعيف". قلت: وأيضًا الحسن لم يسمع من الأسود بن سريع فيما نص عليه بعض أئمة النقد كابن المديني ويحيى بن معين وأبي داود والبزار وابن قانع. (¬3) ف: "ونوى".

فصل: الجواب عن السؤال المذكور

والإخلاص أن يخلص لله في أقواله (¬1) وأفعاله وإراداته ونيته. وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عبادَه كلَّهم، ولا يقبل من أحدٍ غيرَها. وهي حقيقة الإِسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]، وهي ملّة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء. فصل (¬2) إذا عرفتَ هذه المقدمة انفتح لك بابُ الجواب عن السؤال المذكور، فنقول ومن الله وحده نستمِدّ (¬3) الصواب: [67/ أ] حقيقة الشرك هو التشبّه بالخالق والتشبيه للمخلوق به. هذا هو "التشبيه" في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف اللهُ بها نفسَه، ووصفه بها رسولُه سبحانه (¬4)، فعكَسَ من نكسَ اللهُ قلبَه، وأعمى عينَ بصيرته، وأركسه بلَبْسه الأمرَ وجعلِ التوحيد تشبيهًا والتشبيه تعظيمًا وطاعةً فالمشرك مشبِّه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرّدَ (¬5) بملك الضرّ والنفع والعطاء والمنع، وذلك ¬

_ (¬1) ف: "أن تخلُصَ لله أقوالُه". (¬2) نقل هذا الفصل والفصل التالي بتصرّف واختصار: المقريزي في رسالته "تجريد التوحيد المفيد" (62 - 72). (¬3) ز: "يستمد"، وكذا في ف مضبوطًا بضم الياء. (¬4) س: "رسوله - صلى الله عليه وسلم -". (¬5) "فإن من خصائص الإلهية" ساقط من ل. وكذا من ف، فأصلح المتن- فيما يظهر- بزيادة الكاف: "كالتفرد".

من خصائص الإلهية

يوجب تعلُّقَ الدعاء (¬1) والخوف والرجاء والتوكل به وحده. فمن علّق ذلك بمخلوق فقد شبّهه بالخالق (¬2)، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرًّا (¬3) ولا نفعًا ولاموتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فضلًا عن غيره، شبيهًا لمن له الأمر كلُّه. فأزِمّةُ الأمور كلّها بيديه (¬4)، ومرجعها إليه (¬5)، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. بل إذا فتح لعبده بابَ رحمة لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه تشبيهُ هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغنيّ بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه، الذي لا نقص (¬6) فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلّها له وحده، والتعظيمُ والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة (¬7) والتوبة والتوكّل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحبّ = كلُّ ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون له وحده، ويُمنَع عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره. فمن جعل شيئًا (¬8) من ذلك لغيره فقد شبّه ذلك الغيرَ بمن لا شبيهَ له، ولا مثل له (¬9)، ولا ندَّ له، وذلك أقبح التشبيه وأبطلُه. ولشدّةِ قبحه ¬

_ (¬1) ف: "تعليق الدعاء". (¬2) س: "بالخلق"، سهو. (¬3) ف: "لا ضرًا". (¬4) ف، ز: "وأزمّة ... ". وفي س: "بيده سبحانه". (¬5) "ومرجعها إليه" ساقط من ف. (¬6) ز: "لا يقضى"، تحريف. (¬7) ز: "الإجابة"، تحريف. (¬8) س: "الشيء". (¬9) زاد بعده في س: "ولا ضدّ له".

وتضمّنِه غايةَ الظلم أخبر سبحانه عبادَه أنّه لا يغفره، مع أنّه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية: العبوديةُ التي قامت على ساقين (¬1) لا قِوَام لها بدونهما: غايةُ الحبّ مع غايةِ الذلّ. هذا تمام العبودية (¬2)، وتفاوتُ منازلِ الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبَّه وذلَّه وخضوعه لغير الله فقد شبّهه به في خالص [67/ ب] حقّه، وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحُه مستقِرّ في كلّ فطرة وعقل، ولكن غيّرت الشياطين فِطَرَ أكثر الخلق وعقولَهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم (¬3) عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رُسُلَه، وأنزل عليهم كتبَه بما يوافق فِطرهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورًا على نور، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]. إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية: السجود، فمن سجد (¬4) لغيره فقد شبّه المخلوقَ به. ومنها: التوكّل، فمن توكّل على غيره فقد شبّهه به. ¬

_ (¬1) س: "الساقين". (¬2) بيّن المؤلف حقيقة العبودية هذه في مواضع كثيرة من كتبه منها: الفوائد (183)، طريق الهجرتين (511، 642)، مدارج السالكين (1/ 92،74)، (3/ 441). (¬3) ف: "اجتاحتهم". (¬4) س: "يسجد".

ومنها: التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به (¬1). ومنها: الحلف باسمه تعظيمًا وإجلالًا له (¬2)، فمن حلف بغيره فقد شبّهه به. هذا في جانب التشبيه. وأمّا في جانب التشبّه به، فمن تعاظمَ وتكبَّر، ودعا الناس إلى إطرائه في المدح، والتعظيم، والخضوع، والرجاء، وتعليق القلب به خوفًا ورجاءً والتجاءً واستعانةً به، فقد تشبّه بالله، ونازعه ربوبيته (¬3) وإلهيّتَه، وهو حقيق بأن يُهينه اللهُ غايةَ الهوان، ويُذِلَّه غاية الذلّ، ويجعله تحت أقدام خلقه. وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا (¬4) منهما عذّبتُه" (¬5). وإذا كان المصوّر الذي يصنع الصورة (¬6) بيده من أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة لتشبّهه (¬7) بالله في مجرّد الصنعة، فما الظنّ بالتشبّه بالله في الربوبية والإلهية؟ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة ¬

_ (¬1) "به" ساقط من س. (¬2) لم يرد "له" في س، ل. (¬3) ل: "في ربوبيته". (¬4) ف، ز: "في واحد". (¬5) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما. أخرجه مسلم في البر والصلة، باب تحريم الكبر (2620). (¬6) "الصورة" ساقط من س. (¬7) ف: "للتشبّه".

المصوّرون، يقال لهم: أحْيُوا ما خلقتم" (¬1). وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا (¬2) كخلقي؟ فَلْيخلقوا ذرّةً! (¬3) فليخلقوا (¬4) شعيرةً" (¬5). فنبّه بالذرّة والشعيرة على ما هو أعظم منهما (¬6) وأكبر. والمقصود أنّ هذا حال من تشبّه به في صنعة صورة (¬7)، فكيف حال من تشبّه به في خواصّ ربوبيته وإلهيته؟ وكذلك من تشبّه به في الاسم (¬8) الذي لا ينبغي إلا لله وحده (¬9)، كملِك الأملاك، وحاكم الحكّام، ونحوه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[68/أ] أنه قال: "إنّ أخنَع الأسماءِ عند الله رجل تسمّى بشاهان شاه: ملِك الملوك (¬10)، ولا ملِك ¬

_ (¬1) الجملة الأولى من حديث ابن مسعود، والأخرى من حديث ابن عمر رضي الله عنهم. أخرجهما البخاري في اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة (5950، 5951) ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان (2109،2108). (¬2) "خلقا" لم يرد في ف. (¬3) "فليخلقوا ذرة" ساقط من س. (¬4) ف: "وليخلقوا". (¬5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (7559)، ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان (2111). (¬6) ماعدا ز: "منها". (¬7) ز: "في صنعته". (¬8) ف: "الاسم الأعظم". (¬9) ل، ز: "له وحده". (¬10) ف: "أي ملك الملوك".

فصل: أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنب عند الله إساءة الظن به

إلا الله" (¬1). وفي لفظ: "أغيَظُ رجل على الله رجلٌ تسمّى بملِك الأملاك" (¬2). فهذا مقت الله وغضبه على من تشبّه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له. فهو سبحانه ملِكُ الملوك وحده (¬3)، وهو حاكم الحكام وحده، فهو الذي يحكم على الحكام كلهم، ويقضي عليهم كلّهم، لا غيره. فصل إذا تبيّن هذا، فههنا أصل عظيم يكشف سرّ المسألة، وهو أنّ أعظمَ الذنوب عند الله إساءةُ الظنّ به (¬4)، فإنّ المسيء به الظنَّ قد ظنّ به خلافَ كماله المقدّس، وظنّ (¬5) به ما يناقض (¬6) أسماءه وصفاته. ولهذا توعّد الله سبحانه الظانّين به ظنّ السوء بما لم يتوعّد به غيرَهم، كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]. وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 23]. ¬

_ (¬1) "ولا ملك إلا الله" لم يرد في س. والحديث أخرجه البخاري في الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله (6205، 6206)، ومسلم في الآداب، باب تحريم التسمّي بملك الأملاك وبملك الملوك (2143) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه فيهما: "تسمّى ملك الأملاك"، وجاء "شاهان شاه" تفسيرًا له من كلام سفيان. والأخنع: الأوضع والأحقر. (¬2) صحيح مسلم، الحديث السابق (2143). (¬3) زاد في س: "لا ملك إلا الله". (¬4) وانظر إغاثة اللهفان (1/ 129). (¬5) ل: "فظن". (¬6) س: "يخالف"، وفي حاشيتها: "خ يناقض".

وقال تعالى حاكيًا (¬1) عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - (¬2) إنّه قال لقومه: {مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 85 - 87]. أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيرَه؟ وماذا ظننتم به حتى (¬3) عبدتم معه غيرَه؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك (¬4) إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنّه بكل شيء عليم، وعلى كلّ شيء قدير، وأنّه غنيّ عن كلّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه، وأنّه قائم بالقسط على خلقه (¬5)، وأنه المتفرّد (¬6) بتدبير خلقه، لا يشرَكه فيه غيرُه (¬7)، والعالم بتفاصيل الأمورًا فلا تخفى (¬8) عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه. وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنّهم محتاجون إلى من يعرّفهم أحوالَ الرعية وحوائجَهم، وإلى من يُعينهم على قضاء ¬

_ (¬1) "حاكيًا" من ف وحدها. (¬2) ل: "عليه السلام"، والمثبت من س. (¬3) "حتى" من ف، ونحوه في إغاثة اللهفان (1/ 129). س: "وما ظننتم حين". ولم يرد "به" في ز أيضًا. وقد سقط من ل: "وقد عبدتم .. ، حين". (¬4) س: "ذلكم". وفي ل: "أخرجكم ذلك". (¬5) "وانه غني ... على خلقه" ساقط من س، كما سقط من ل: "وكل ما سواه". (¬6) ز: "المنفرد". (¬7) ل: "فلا يشركه ... ". ف: "لا يُشرِكُ فيه غيرَه" كذا مضبوطًا. (¬8) ز: "فلا يخفى"،ولم ينقط حرف المضارعة في س، ل.

حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم (¬1) بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورةً لحاجتهم، وعجزهم، وضعفهم، وقصور علمهم. فأما القادرُ على كلّ شيء، الغنيُّ بذاته عن كلّ شيء، العالمُ بكل شيء، الرحمنُ الرحيمُ الذي وسعت رحمتُه كلَّ شيء [68/ب] فإدخالُ الوسائط بينه وبيّن خلقه تنقُصٌ (¬2) بحقّ ربوبيته، وإلهيته، وتوحيده (¬3)؛ وظن به ظنَّ السَّوْء. وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفِطَر، وقُبحُه مستقِرّ في العقول السليمة فوقَ كلّ قبيح. ويوضّح هذا أنّ العابد معظِّم لمعبوده، متألِّه له، خاضع ذليل له. والربّ تعالى وحده هو الذي يستحقّ كمال التعظيم والإجلال والتألّه والخضوع والذلّ. وهذا خالص حقّه، فمن أقبح الظلم أن يُعطَى حقُّه (¬4) لغيره، أو يُشرَك بينه وبينه فيه، ولا سيّما إذا كان الذي جُعِلَ شريكَه في حقّه هو عبده ومملوكه، كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28]. أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكُه شريكَه في رزقه، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد (¬5) به، وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسواي؟ فمن زعم ذلك فما قدَرني حقَّ قدري، ¬

_ (¬1) "يسترحمهم و" ساقط من ز. (¬2) س: "ينقص"، تصحيف. (¬3) ز: "توحّده"، وسقط منها: "وإلهيته". (¬4) "فمن أقبح .. حقّه" ساقط من ل. (¬5) س: "متفرد".

ولا عظّمني حقّ تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد (¬1) به وحدي دون خلقى (¬2). فما قدر اللهَ حقّ قدره مَن عبد معه غيرَه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73 - 74]. فما قدر اللهَ حقَّ قدره من عبد معه مَن لا يقدر على خلق أضعفِ حيوانٍ وأصغره، وإنْ سلبه (¬3) الذبابُ شيئًا مما عليه لم يقدر على استنقاذ منه (¬4). وقال تعالى: ({وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]. فما قدر مَن هذا شأنُه وعظمتُه حقَّ قدره مَن أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه! فما قدر القويَّ العزيزَ حقَّ قدره من أشرك معه الضعيف الذليل! [69/أ] وكذلك ما قدره حقَّ قدره من قال: إنّه لم يرسل إلى خلقه رسولًا ولا أنزل كتابًا، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن ¬

_ (¬1) س: "متفرد". (¬2) وانظر إعلام الموقعين (1/ 158). (¬3) س: "سلب". ز: "يسلبه". (¬4) وانظر إعلام الموقعين (1/ 181).

منه (¬1)، من إهمالِ خلقه، وتضييعهم، وتركِهم سدًى، وخلقِهم باطلًا عبثًا. ولا قدَره حقَّ قدره مَن نفى حقائق (¬2) أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فنفى سمعه وبصره، وإرادته واختياره، وعلوَّه فوق خلقه، وكلامه، وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد (¬3)؛ أو نفى عموم قدرته وتعلّقها بأفعال عباده من طاعاتهم (¬4) ومعاصيهم، فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الربّ؛ فيكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون! تعالى الله (¬5) عن قول أشباه المجوس علوِّا كبيرًا. وكذلك ما قدره حقَّ قدره من قال: إنّه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبدَه على فعله، وهو (¬6) سبحانه الذي جبر العبدَ عليه، وجبرُه على الفعل أعظمُ من إكراه المخلوق للمخلوق. وإذا كان من المستمرّ في الفِطَر والعقول أنّ السيّد لو أكره عبدَه على فعل أو ألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحًا، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يُجبر العبدَ على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقعٌ بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثمّ يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ ¬

_ (¬1) "منه" ساقط من س. (¬2) ف: "من حقائق". (¬3) ز: "يريده". (¬4) ف: "طاعتهم". (¬5) لم يرد لفظ الجلالة في ز. (¬6) ما عدا س: "فعله هو".

تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وقول هؤلاء شرّ من قول أشباه المجوس، والطائفتان ما قدروا الله حقّ قدره. وكذلك ما قدره (¬1) حقَّ قدره من لم يصُنْه عن بئر (¬2) ولا حُشّ ولا مكان يُرغب عن ذكره، بل جعله في كلّ مكان؛ وصانه عن عرشه أن يكون مستويًا عليه، يصعد إليه (¬3) الكلم الطيّب والعمل الصالح (¬4)، وتعرج الملائكة والروح إليه وتنزل من عنده، ويدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (¬5). فصانه عن استوائه على سرير الملك، ثم جعله في كلّ مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه. وما قدره (¬6) حقَّ قدره مَن نفى حقيقة [69/ ب] محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا مَن نفى حقيقةَ حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا مَن نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلًا اختياريًّا يقوم به، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه، فنفى حقيقة مجيئه (¬7) وإتيانه، واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفَوها، وزعموا أنّهم بنفيها قد قدروه حقَّ قدره. ¬

_ (¬1) ز: "قدر الله". وقد سقط من ل: "وكذلك ما قدره حق قدره". (¬2) ف: "نتن". وقال المؤلف في نونيته (315): والقوم ما صانوه عن بئر ولا ... قبر ولا حُشٍّ ولا أعطانِ (¬3) ل: "إليه يصعد". (¬4) زاد في ل: "يرفعه"، كما في سورة فاطر (10). (¬5) انظر سورة المعارج (4)، وسورة السجدة (5). (¬6) ف: "وما قدر الله". (¬7) ما عدا ز: "محبته".

وكذلك لم يقدُره حقَّ قدره من جعل له صاحبةً وولدًا، أو جعله (¬1) يحِلّ في مخلوقاته، أو جعله عينَ (¬2) هذا الوجود. وكذلك لم يقدُره حقّ قدره من قال: إنه رفع أعداءَ رسوله وأهل بيته، وأعلى (¬3) ذكرَهم، وجعل فيهم الملك والخلافة والعِزّ، ووضع أولياء رسولهِ وأهلِ بيته، وأهانهم، وأذلّهم، وضرب عليهم الذلَّة (¬4) أينما ثقفوا. وهذا يتضمن غاية القدح في الربّ، تعالى عن قول الرافضة علوًّا كبيرًا. وهذا القول مشتقّ من قول اليهود والنصارى في ربّ العالمين: إنّه أرسل ملكًا ظالمًا، فادّعى النبوة لنفسه، وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلًا (¬5) يكذب عليه كلّ وقت، ويقول: قال كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذاة وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول: الله أباح لي ذلك! والربّ تعالي يُظهره، ويؤيّده (¬6)، ويعليه، ويُعزّه (¬7)، ويجيب دعواته (¬8)، ويمكّنه ممن يخالفه، ويقيم الأدلّة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به، فيصدّقه بقوله وفعله وتقريره، ويُحدِث أدلّةَ تصديقه شيئًا بعد شيء. ومعلوم أنّ هذا يتضمن ¬

_ (¬1) ف: "وجعله". (¬2) ز: "غير"، تحريف. (¬3) ل: "وأ همل"، تحريف. (¬4) "الذلة" ساقط من ل. (¬5) ل: "زمانًا طويلًا". (¬6) ز: "يؤيده ويظهره". (¬7) ف: "يقره". (¬8) ل: "دعوته".

أعظمَ القدح والطعن في الربّ سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته. تعالى الله عن قول الجاحدين علوًّا كبيرًا. فوازِنْ بين قول هؤلاء وبيّن قول (¬1) إخوانهم من الرافضة تجد القولين: رضيعي لِبانٍ ثديَ أمً تقاسما (¬2) ... بأسحمَ داجٍ عوضُ لا نتفرَّقُ (¬3) وكذلك لم يقدُرْه حق قدره مَن قال: إنّه يجوز أن يعذّب أولياءه [70/ أ] ومن لم يعصِه طرفةَ عين ويدخلهم دار الجحيم، وينعمَ أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وإنّ كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء، وإنّما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك، فمنعناه للخبر، لا لمخالفة حكمته (¬4) وعدله. وقد أنكر سبحانه في كتابه (¬5) على من جوّز عليه ذلك غاية الإنكار (¬6)، وجعل الحكم به من أسوأ الأحكام. وكذلك لم يقدُره حقَّ قدره مَن زعم أنّه لا يحيى الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع (¬7) خلقه ليوم يجازي المحسنَ فيه (¬8) بإحسانه والمسيءَ بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقّه من ظالمه، ويكرم ¬

_ (¬1) ف، ز: "قول هؤلاء وقول". (¬2) ز: "تحالفا". (¬3) ما عدا ف: "لا يتفرق"، تصحيف. وقد تقدم البيت في ص (224). (¬4) ز: "حكمه". ف: "لمخالفة ذلك وحكمته". (¬5) "في كتابه" ساقط من ل، ز. (¬6) ل: "يجوز عليه ... ". وقد سقط من ز "ذلك غاية". (¬7) ل: "ولا يبعث". (¬8) ل: "فيه المحسن".

المتحمّلين للمشاقّ (¬1) في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبيّن (¬2) لخلقه الذي يختلفون فيه، ويُعلِمُ (¬3) الذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين. وكذلك لم يقدُرْه حق قدره من هان عليه أمرُه فعصاه، ونهيُه فارتكبه، وحقُه فضيّعه، وذكرُه فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثرَ عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهمّ عنده من طاعته. فلله الفَضْلةُ من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدَّم في ذلك؛ لأنّه المهمّ عنده. يستخِفّ بنظر الله إليه واطلاعه عليه، وهو في قبضته، وناصيتُه بيده. ويُعظِّم نظرَ المخلوق إليه واطّلاعَه عليه بكلّ قلبه وجوارحه (¬4). ويستحيي من الناس، ولا يستحيي من الله. ويخشى الناس، ولا يخشى الله. ويعامل الخلقَ بأفضلِ ما يقدر عليه، وإن عاملَ اللهَ عاملَه بأهونِ ما عنده وأحقرِه، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجدّ والاجتهاد وبذلِ النصيحة (¬5)، وقد فرغّ له قلبه وجوارحه، وقدّمه عَلى كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حقّ ربّه -إن ساعد القدرُ- قام قيامًا لا يرضى مثلَه مخلوق من مخلوق، وبذل له من ماله ما يستحيي أن يواجه به مخلوق لمثله! فهل قدر اللهَ حقَّ قدره من هذا وصفُه؟ وهل قدره حقَّ قدره مَن شارك بينه وبيّن عدوِّه [70/ ب] في محض ¬

_ (¬1) ل: "المشاق". (¬2) ز: "تبين". (¬3) ل: "وليعلم". (¬4) ز: "بكل جوارحه وقلبه". (¬5) ل: "قد بذل له النصيحة".

حقّه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذلّ والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل له مِن أقرب الخلق إليه شريكًا في ذلك لكان ذلك جراءةً وتوثّبًا على محض حقّه، واسَتهانةً به، وتشريكًا بينه وبيّن غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه، فكيف وإنما شرَّكَ بينه (¬1) وبيّن أبغضِ الخلق إليه، وأهونهم عليه، وأمقتِهم عنده. وهو عدوُّه على الحقيقة، فإنّه ما عُبدَ من دون الله إلا الشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60 - 61] (¬2). ولما عبد المشركون الملائكةَ بزعمهم وقعت عبادتهم للشيطان، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة (¬3). كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40 - 41]. فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته، ويوهمه أنّه ملَك. وكذلك عُبّاد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم، وتقضي لهم الحوائج. ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان، فيسجد لها الكفار، فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها. وكذلك من عبد المسيحَ وأمَّه لم يعبدهما، وإنما عبد الشيطان، فإنه ¬

_ (¬1) ف: "يشرك بينه". وقد سقط "وبيّن غيره ... بينه" من س. (¬2) وردت الآية في ز إلى قوله تعالى {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وسقط ما بعده إلى قول المصنف "فما عبد أحد ... ". (¬3) وانظر إغاثة اللهفان (2/ 979).

يزعم أنه يعبد مَن أمَرَه بعبادته وعبادة أمّه، ورضِيَها لهم، وأمرهم بها. وهذا هو الشيطان الرجيم لعنة الله عليه، لا عبدُ الله ورسولُه. فنزِّلْ (¬1) هذا كله على قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [يس: 60] (¬2). فما عبد أحد من بني آدم (¬3) غيرَ الله كائنًا من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع (¬4) العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له واشراكه مع الله الذي هو غاية رضي الشيطان. ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي من إغوائهم وإضلالهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [71/أ] قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام: 128]. فهذه إشارة لطيفة إلى السرّ الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنّه لا يُغفَر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في العذاب (¬5)، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله. وكيف يظنّ بالمنفرد (¬6) بالربوبية والإلهية والعظمة ¬

_ (¬1) كذا ضبط في س بتشديد الزاي، وفي ف بتشديدها وكسرها، وهو الصواب. (¬2) هنا انتهى السقط الذي وقع في ز. (¬3) "أن لا تعبدوا ... بني آدم" ساقط من س. (¬4) ز: "فليستمتع". (¬5) ل: "النار". (¬6) ف: "بالمتفرد"، ولم ينقط الحرف في س.

فصل: سبب كون الشرك أكبر الكبائر عند الله

والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. فصل فلما كان الشرك أكبرَ شيء منافاةً للأمر الذي خلق الله له الخلق وأمر لأجله بالأمر كان أكبر الكبائر عند الله. وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدّم، فإنّ الله سبحانه خلق الخلق وأنزل الكتب لتكون الطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك. ولذلك حرّم الله الجنّة على أهل الشرك والكبر، فلا يدخلها (¬1) من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر (¬2). فصل ويلي ذلك في كبر المفسدة (¬3): القولُ على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، ووصفُه بضدّ ما وصف به نفسَه ووصَفَه به رسولُه. فهو (¬4) أشدُّ شيءٍ مناقضةً ومنافاةً لكمال (¬5) من له الخلق والأمر، وقدحٌ في نفس الربوبية وخصائص الربّ. ¬

_ (¬1) س: "ولا يدخلها". (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه في الأيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (91). (¬3) ف: "مفسدة". (¬4) ف: "فهذا". (¬5) كذا في ف. وفي ز: "لحكمة". ولم يتضح "لكمال من" في س. وفي ل: "منافاة الخلق"، فأسقط ما بين الكلمتين. وفي خا: "منافاة للخلق".

فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك، وأعظم إثمًا عند الله. فإنّ المشرك المقِرّ بصفات الربّ خير من المعطَل الجاحد لصفات كماله. كما (¬1) أنّ من أقرَّ لملِكٍ (¬2) بالمُلْك، ولم يجحد مُلكه، ولا الصفات التي استحقّ بها الملك، لكن جعل معه شريكًا في بعض الأمور يُقرّبه إليه = خيرٌ ممن جحد (¬3) صفاتِ الملِك وما يكون به مَلِكًا. هذا أمر مستقرّ في سائر الفِطَر والعقول. فأين القدح في صفات الكمال والجحدُ لها، من عبادة واسطةٍ بين المعبود الحق وبيّن العابد (¬4) يتقرَّب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظامًا له وإجلالًا؟ فداء التعطيل هو (¬5) الداء [71/ ب] العضال الذي لا دواء له. ولهذا حكى الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر على موسى ما أخبر به من (¬6) أنّ ربّه فوق السموات، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]. واحتجّ الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتبه على المعطِّلة بهذه الآية، وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب (¬7). والقول على الله بلا علم والشرك متلازمان. ¬

_ (¬1) "كما" ساقط من س. وفي ز: "كما ان اقر". (¬2) ف: "للملك". (¬3) ز: "خير من جحد". (¬4) ف: "العبد". (¬5) ف: "هذا". (¬6) "من": ساقطة من ف. (¬7) ز: "هذا الموضع". وانظر اجتماع الجيوش الإِسلامية (295)، والصواعق المرسلة (1244).

البدع أحب إلى إبليس من المعصية

ولما كانت البدع المضِلّة جهلًا بصفات الله وتكذيبًا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله (¬1) عنادًا وجهلًا (¬2) كانت من أكبر الكبائر -إن (¬3) قصرت عن الكفر- وكانت أحبَّ إلى إبليس من كبار الذنوب، كما قال بعض السلف: البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنّ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها (¬4). وقال إبليس: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله. فلما رأيت ذلك بثثتُ فيهم الأهواءَ، فهم يذنبون، ولا يتوبون؛ لأنّهم يحسبون أنهم يحسنون صُنْعا! (¬5) ومعلوم أنّ المذنب إنما ضرره على نفسه، وأما المبتدع فضرره على النوع. وفتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة. والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدَّهم عنه، والمذنب ¬

_ (¬1) س: "عنه به رسوله". وقد سقط "عنه" من ف. وفي ل: "عن رسوله"، خطأ. (¬2) ف: "أوجهلًا". (¬3) س: "وإن"، ولكن الظاهر أن الواو زيادة من بعض القرّاء. وهو الذي كتب تحت "الكفر": "بالتنزّل". (¬4) من كلام سفيان الثوري. أخرجه ابن الجعد في مسنده (1885) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (238) وأبو نعيم في الحلية (7/ 26) والبيهقي في شعب الإيمان 16/ 482 (9009). وسنده حسن (ز) وانظر مدارج السالكين (1/ 322). (¬5) أخرجه أبو يعلى في مسنده (136) وابن أبي عاصم في السنة (7) والهمذاني العطار في فتيا وجوابها في الاعتقاد (11) وغيرهم. وسنده واهٍ، فيه عبد الغفور: متروك الحديث، وكان يضع الحديث. وعثمان بن مطير أيضًا ضعيف. وبه ضعّف الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 207). (ز) وانظر شفاء العليل (414).

فصل: الظلم والعدوان من أكبر الكبائر

ليس كذلك. والمبتاع قادح في أوصاف الربّ وكماله (¬1)، والمذنب ليس كذلك. والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول، والعاصي ليس كذلك. والمبتدع يقطع على الناس طريقَ الآخرة، والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه. فصل ثم لمّا كان الظلم والعدوان منافيًا للعدل الذي قامت به (¬2) السموات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس به = كان من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظم بحسب مفسدته في نفسه. وكان (¬3) قتلُ الإنسان ولدَه [72/ أ] الطفلَ الصغيرَ الذي لا ذنب له، وقد جبل الله سبحانه القلوبَ على رحمته، وعَطَفَها عليه (¬4)، وخصّ الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة، فقتله خشيةَ أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله = من أقبح الظلم وأشدّة. وكذلك قتلُه أبويه الذين كانا سبب وجوده، وكذلك قتله ذا رحمه. وتتفاوت (¬5) درجات القتل بحسب قبحه، واستحقاقِ مَن قَتلَه السعيَ (¬6) في إبقائه ونصيحته. ولهذا كان أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًّا، أو قتله نبيٌّ. ويليه من قتل إمامًا، أو عالمًا يأمر الناس ¬

_ (¬1) س: "الرب سبحانه وتعالى وتقدس"، وسقط منها: "وكماله". (¬2) س، ز: "به قامت". (¬3) ل، ز: "فكان". (¬4) ف: "عليهم". (¬5) ف: "وتفاوت"، وفي ز: "ويتفاوت القتل". (¬6) ف، ل: "للسعي".

تفاوت درجات القتل

بالقسط، ويدعوهم إلى الله، وينصحهم في دينهم. وقد جعل الله سبحانه جزاءَ قتل النفس المؤمنة عمدًا الخلودَ في النار، وغضب الجبار، ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له (¬1). هذا موجَب قتل المؤمن عمدًا، ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أنّ الإِسلام الواقع بعد القتل طوعًا واختيارًا مانع (¬2) من نفوذ ذلك الجزاء. وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ (¬3) فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد. والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه، رأوا أنّه حقّ لإَدمي لم يستوفه في دار الدنيا، وخرج منها بظلامته، فلابد أن يُستوفَى له في دار العدل. قالوا: وما استوفاه الوارث وإنّما استوفى محض حقّه الذي خيّره الله بين استيفائه والعفو عنه، وما ينفع المقتولَ من استيفاء وارثه، وأيّ استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟ وهذا أصحّ القولين في المسألة أن حقّ المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث. وهما وجهان لأصحاب أحمد والشافعي وغيرهم. ورأت طائفة (¬4) أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث، فإنّ التوبة تهدم ¬

_ (¬1) كما في قوله تعالى في سورة النساء (93): {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}. (¬2) ما عدا س: "مانغا"، وقد أصلح في ف. (¬3) وانظر مدارج السالكين (1/ 398). (¬4) في ل: "رواية ثالثة" مكان "ورأت طائفة"!

ما قبلها، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حدّه. قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر وما هو أعظم إثمًا (¬1) من القتل فكيف تقصر عن هو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفّار الذين قتلوا أولياءه، وجعلهم من خيار عباده، ودعا الذين [72/ ب] حرّقوا أولياءه (¬2) وفتنوهم عن دينهم (¬3) إلى التوبة، وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. فهذه في حق التائب، وهي تتناول الكفر وما دونه. قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب، ويعاقَب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه. قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول، فأقام الشارع وليّه مقامَه، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه، فإنّه يقوم مقام تسليمه للمورث (¬4). والتحقيق في هذه المسألة (¬5) أنّ القتل يتعلق به ثلاث (¬6) حقوق: حقّ لله، وحقّ للمقتول، وحقّ للولي. فإذا سلّم القاتل نفسه طوعًا واختيارًا إلى الولي ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله، وتوبةً نصوحًا، ¬

_ (¬1) "إثمَا" ساقط من ز. (¬2) "وجعلهم ... أولياءه" ساقط من ز. (¬3) "عن دينهم" ساقط من س. (¬4) ز، ل: "للموروث". (¬5) ما عدا س: "في المسألة". (¬6) كذا بتذكير العدد في جميع النسخ.

توبة القاتل

سقط حقُّ الله بالتوبة، وحقُّ الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو (¬1)، وبقي حقّ المقتول يعوّضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يذهب حقّ هذا، ولا تبطل توبة هذا. وأما مسألة المال (¬2) فقد اختلف فيها، فقالت طائفة: إذا أدى ما عليه من المال إلى الوارث فقد برئ من عهدته في الآخرة، كما بريء منها (¬3) في الدنيا. وقالت طائفة: بل المطالبةُ لمن ظلمه بأخذه باقيةٌ عليه يوم القيامة، وهو لم يستدرك ظلامته بأخذ وارثه له، فإنّه منعه من انتفاعه به في طول حياته، ومات ولم ينتفع به. وهذا ظلم لم يستدركه هو، وإنما انتفع غيره باستدراكه. وبنوا على هذا أنه لو انتقل من واحد إلى واحد وتعدّد الورثة كانت المطالبة به للجميع؛ لأنّه حق كان يجب عليه دفعه إلى كل واحد منهم عند كونه هو الوارث. وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد. وفصل شيخنا بين الطائفتين، فقال: إن تمكن الموروث (¬4) من أخذ ماله والمطالبة به فلم يأخذه حتى مات صارت المطالبة به للوارث في الآخرة، كما هي كذلك في الدنيا. وإن لم يتمكن من طلبه [73/ أ] وأخذه بل حال بينه وبينه ظلمًا وعدوانًا فالطلب له في الآخرة. ¬

_ (¬1) ف: "والصلح والعفو". (¬2) وانظر مدارج السالكين (1/ 391). (¬3) ل: "تبرأ منه". (¬4) س: "المورث".

وهذا التفصيل من أحسن ما يقال، فإنّ المال إذا استهلكه الظالم على الموروث، وتعذّر عليه أخذه منه، صار بمنزلة عبده الذي قتله قاتل، ودارِه التي أحرقها غيرُه، وطعامِه وشرابه الذي أكله وشربه غيرُه. ومثل هذا إنما تلف على الموروث (¬1) لا علىَ الوارث، فحقُّ المطالبة لمن تلِفَ على ملكه. بقي (¬2) أن يقال: فإذا كان المال عقارًا أو أرضًا أو أعيانًا (¬3) قائمةً باقيةً بعد الموت، فهي ملك للوارث (¬4)، يجب على الغاصب دفعها إليه كلّ وقت (¬5). فإذا لم يدفع إليه أعيان ماله استحقّ المطالبة بها عند الله، كما يستحق المطالبة (¬6) بها في الدنيا. وهذا سؤال قوي لا مخلص منه إلا بأن يقال: المطالبة لهما (¬7) جميعًا، كما لو غصب مالًا مشتركًا بين جماعة استحقّ كل منهم المطالبة بحقّه منه، وكما لو استولى على وقف مرتّب على بطون، فأبطل حقّ البطون كلّهم منه، كانت المطالبة يوم القيامة لجميعهم، ولم يكن بعضهم أولى بها (¬8) من بعض. والله أعلم. ¬

_ (¬1) س: "المورث". (¬2) ماعدا ف: "فبقي". (¬3) ل، ز: "وأرضًا وأعيانًا". (¬4) ف: "الموروث". (¬5) ز: "في كل وقت". (¬6) كلمة "المطالبة" ساقطة من ف. (¬7) ز: "بهما"، خطأ. (¬8) "بها" ساقط من ف.

فصل: وجه كون قاتل نفس واحدة كقاتل النفس جميعا

فصل ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة (¬1) قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة: 32]. وقد أشكل فهم هذا (¬2) على كثير من الناس، وقالوا: معلوم أنّ إثمَ قاتلِ مائةٍ أعظمُ عند الله من إثم قاتل نفس واحدة. وإنّما أُتوا من ظنّهم أنّ التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة، واللفظُ لم يدلّ على هذا، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذُه بجميع أحكامه. وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 46] وقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35]. وذلك لا يوجب أنّ (¬3) لبثهم في الدنيا إنّما كان هذا المقدار. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صلّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كلَّه" (¬4)، أي مع العشاء، كما جاء في لفظ [73/ ب] آخر (¬5). ¬

_ (¬1) س: "هذا المفسدة". (¬2) س: "وقد أشكل ذلك". (¬3) "أن" ساقطة من ل، ز. (¬4) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه مسلم في المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة (656). (¬5) ساقه أحمد في المسند 1/ 57 (408) بلفظ "من صلى صلاة العشاء والصبح في =

وأصرح من هذا قوله: "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر" (¬1)، وقوله: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فكأنما قرأ ثلث القرآن" (¬2). ومعلوم أنّ ثواب فاعل هذه الأشياء لم يبلغ ثواب المشبَّه به، فيكونَ قدرهما سواءً. ولو كان قدرُ الثواب سواءً لم يكن لمصلي العشاء والفجر جماعةً (¬3) منفعة في قيام الليل غير التعب والنصب. وما أوتي عبدٌ بعد الإيمان أفضلَ من الفهم عن الله ورسوله، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء. فإن قيل: ففي أيّ شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وقاتل الناس جميعًا؟ ¬

_ = جماعة فهو كقيام ليلة". (¬1) ف: "الدهر كله". والحديث أخرجه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164). (¬2) ثبت ذلك في حديث أبي الدرداء عند مسلم (811) بلفظ: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثك القرآن". وعن أبي هريرة عند مسلم أيضًا (812) نحوه. وعن أبي سعيد الخدري عند البخاري (5015) نحوه. وباللفظ الوارد عند المصنف أخرجه أحمد في المسند 5/ 141 (21275) وأبوعبيد في فضائل القرآن (143 - 144) والضياء في المختارة (1239، 1240) عن أبي بن كعب أو عن رجل من الأنصار. وأخرجه الترمذي (2896) عن أبي أيوب وقال: هذا حديث حسن. (¬3) ف: "الفجر والعشاء في جماعة".

قَيل: في وجوه متعددة: أحدها: أنّ كلاًّ (¬1) منهما عاص لله ورسوله، مخالف (¬2) لأمره، متعرّض لعقوبته. وكلّ منهما قد باء بغضب الله (¬3)، ولعنته، واستحقاق الخلود في نار جهنم، وأعدّ له عذابًا عظيمًا، وإن تفاوتت دركات العذاب، فليس إثم من قتل نبيًّا أو إماما عادلًا أو عالمًا يأمر الناس بالقسط كإثم من قتل من لا مزية له (¬4) من آحاد الناس. الثاني: أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس. الثالث: أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام، فإنّ من قتل نفسًا بغير استحقاق، بل لمجرّد الفساد في الأرض أو لأخذ ماله، فإنّه يتجرّأ على قتل كل (¬5) من ظفر به، وأمكنه قتلُه، فهو مُعادٍ للنوع الإنساني. ومنها (¬6): أنّه يسمَّى قاتلًا أو فاسقًا أو ظالمًا أو (¬7) عاصيًا بقتله واحدًا، كما يسمّى كذلك بقتله الناس جميعًا. ومنها: أنّ الله سبحانه جعل المؤمنين (¬8) في توادّهم وتراحمهم ¬

_ (¬1) ف: "كل واحد". (¬2) س: "ومخالف". (¬3) ل: "من الله". (¬4) ف: "قتل شخصًا لا مزية له". وفي ز: "من لا يؤبه له". (¬5) لفظة "كل" ساقطة من ل. (¬6) وقع في س مكان "ومنها": "الرابع وأنهما سواء في الجزاء" كذا! (¬7) في ل، ز واو العطف مكان "أو" في المواضع الثلاثة. (¬8) س: "المسلمين".

وتواصلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو (¬1) تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر (¬2). فإذا أتلف القاتل من هذا الجسد عضوًا، فكأنّما أتلف سائر الجسد، وآلم جميع أعضائه. فمن آذى مؤمنًا واحدًا، فكأنّما آذى جميع المؤمنين. ومن آذى جميع المؤمنين آذى جميع الناس (¬3)، فإنّ الله إنّما يدفع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم، فإيذاء الخفير إيذاء المخفر (¬4). وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتلُ نفسٌ ظلمًا بغير حقّ إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها (¬5)؛ لأنّه أول من سنّ القتل" (¬6). ولم يجئ هذا الوعيد في أوّل زانٍ، ولا أوّل سارق، ولا أول شارب مسكرِ (¬7)؛ وإن كان أولُ المشركين قد يكون أولى بذلك من أول قاتلَ؛ لأنه أول من سنّ الشرك. ولهذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن لُحَيّ يعذَّب أعظمَ العذاب في النار؛ لأنّه أول من غيّر دين إبراهيم (¬8). ¬

_ (¬1) ل: "عضو واحد". (¬2) كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (6011)، ومسلم في البرّ والصلة، باب تراحم المؤمنين (2586). (¬3) ما عدا س: "وفي أذى جميع المؤمنين أذى ... ". (¬4) ف، ل: "الحقير ... المحقر"، تصحيف. (¬5) ف، ز: "من دمه". (¬6) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته (3335)، ومسلم في القسامة، باب بيان إثم من سنّ القتل (1677). (¬7) ز: "شارب خمر". (¬8) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في المناقب، باب =

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]، أي فيقتدي بكم مَن بعدكم، فيكون إثم كفره عليكم. وكذلك حكم من سنّ سنةً سيئة فاتّبعَ عليها. وفي جامع الترمذي (¬1) عن ابن عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم -قال: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخُب دمًا، يقول: يا رب سَلْ هذا: فيمَ قتلني؟ " فذكروا لابن عباس التوبة، فتلا (¬2) ¬

_ = قصة خزاعة (3521)؛ ومسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون ... (2856). (¬1) برقم (3029). وأخرجه النسائي (4005) من طريق ورقاء ومحمد بن ثابت العبدي كلاهما عن عمرو بن دينار عن ابن عباس فذكره. ورواه عمار الدهني وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بنحوه. أخرجه النسائي (3999) وابن ماجه (2621) وأحمد (2683،1941) والطبراني (12597) وغيرهم. قال الحافظ ابن حجر في موافقة الخُبْر الخَبَر (2/ 334): "هذا حديث صحيح". قلت: سالم بن أبي الجعد كثير الإرسال وهل سمع من ابن عباس أم لا؟ وانظر تخريجه في سنن سعيد بن منصور- تفسير (4/ 1319). ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس في أن الآية لم ينسخها شيء، ولم يذكر المتن المرفوع: "يجيء القاتل بالمقتول ... ". أخرجه البخاري (4314، 4485 - 4488)، ومسلم (3023). ورواه أبو معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا قال: يأتي المقتول يوم القيامة آخذَا رأسه بيمينه، وأوداجه تشخب دمًا يقول: يا ربِّ دمي عند فلان فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضي بينهما، ثم نزع بالآية وذكر بقية الحديث. أخرجه الطبري (5/ 220). (¬2) "التوبة فتلا" ساقط من ف.

هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُ} [النساء: 93]، ثم قال: ما نسخت هذه الآية ولا بدّلت، وأنّى له التوبة! قال الترمذي (¬1): هذا حديث حسن. وفيه أيضًا (¬2) عن نافع قال: نظر عبد الله بن عمر يومًا (¬3) إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم عند الله (¬4) حرمةَ منك. قال الترمذي (¬5): هذا حديث حسن. وفي صحيح البخاري (¬6) عن جُندَب (¬7) قال: أول ما يُنتِن من ¬

_ (¬1) "الترمذي" من ف وحدها. وفيها بعد قوله: "حديث حسن": "متفق عليه"! (¬2) برقم (2032) وفي أوله متن مرفوع. وأخرجه ابن حبان 13/ 75 (5763) وأبو الشيخ الأصبهاني في التنبيه والتوبيخ (95) -ولم يذكر الموقوف- والبغوي في شرح السنة 13/ 104 (3526) وغيرهم من طريق الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد ... ". والحديث تفرد به أيضًا أوفى بن دلهم عن نافع، ولم يروه أصحاب نافع مع أن أوفى بصري ونافعًا مدني. وقد ورد عن ابن عمر مرفوعًا. أخرجه ابن ماجه (3932) والطبراني في مسند الشاميين 396/ 2 (1568) ولا يصح. وورد أيضًا من طريق مجاهد وطاوس عن ابن عباس مرفوعًا، أخرجه الطبراني (37/ 11) وغيره. وروي أيضًا عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 434 (27745). (¬3) "يومًا" ساقط من ز. (¬4) "عند الله" لم يرد في ف، ل. (¬5) "الترمذي" من ف وحدها. (¬6) أخرجه البخاري في الأحكام، باب من شاق شقّ الله عليه (7152). (¬7) ف: "سمرة بن جندب". وهو خطأ، فإن الحديث المذكور عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

الإنسان بطنُه. فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيِّبًا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبيّن الجنّة ملءُ كفّ من دمٍ أهراقه فليفعل". وفي صحيحه أيضًا (¬1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا". وذكر البخاري (¬2) أيضًا عن ابن عمر قال: "من (¬3) ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها (¬4): سفكُ الدم الحرام بغير حِلّه". وفي الصحيحين عن أبي هريرة (¬5) يرفعه (¬6): "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". وفيهما أيضًا (¬7) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لاترجعوا [74/ ب] بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض". ¬

_ (¬1) في كتاب الديات، باب قول الله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (6862). (¬2) في كتاب الديات (6863). (¬3) "من" ساقطة من ف. (¬4) ز: "فيها نفسه". (¬5) "عن أبي هريرة" كذا في جميع النسخ. والحديث الوارد في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)؛ ومسلم في الإيمان (64). أما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه ابن ماجه في الفتن (3940). (¬6) "يرفعه" ساقط من ز. (¬7) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وغيره. أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7077 - 7080)؛ ومسلم في كتاب الإيمان (65 - 66).

وفي صحيح البخاري (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحة الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا". هذه (¬2) عقوبة قاتل (¬3) عدو الله إذا كان في عهده وأمانه (¬4)، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟ وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرّةٍ حبسَتْها حتى ماتت جوعًا وعطشًا، فرآها النبي- صلى الله عليه وسلم - في النار، والهرّةُ تخدِشها في وجهها وصدرها (¬5)، فكيف عقوبة من حبس مؤمنًا حتى مات بغير جرم؟ وفي بعض السنن (¬6) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِن قتلِ ¬

_ (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. أخرجه في كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (3166). (¬2) ف: "هذا". (¬3) كلمة "قاتل" ساقطة من ز. (¬4) ل: "أمانته". ف: "في عهدٍ وأمانةٍ". (¬5) سبق تخريج الحديث في ص (75). (¬6) أخرجه النسائي (3990) وابن أبي عاصم في الديات (8) وابن عدي في الكامل (2/ 21) وغيرهم من طريق بشير بن المهاجر عن ابن بُريدة عن أبيه رفعه: "قتل المؤمن أعظم عند الله عَزَّ وَجَلَّ من زوال الدنيا". وفيه بشير بن المهاجر الغنوي، فيه ضعف. وورد عن البراء، أخرجه ابن ماجه (2619) وابن أبي عاصم في الديات (7) وابن عدي في الكامل (3/ 145) وغيرهم من طريق روح بن جناح عن أبي الجهم مولى البراء عن البراء فذكره. فيه روح بن جناح، فيه ضعف. انظر تهذيب الكمال (9/ 234). وورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه الترمذي (1395) والنسائي (3987) وابن أبي عاصم في الديات (5) وغيرهم من طريق محمَّد بن أبي عدي عن شعبة عن يعلي بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو فذكره مرفوعًا. =

فصل: مفسدة الزنى تلي مفسدة القتل في الكبر

مؤمنٍ بغير حقّ". فصل ولما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الإنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقّي ما يُوقع أعظمَ العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمّه، وفي ذلك خراب العالم = كانت تلي مفسدة القتل في الكبر. ولهذا قرنها الله سبحانه بها (¬1) في كتابه، ورسوله بها في سنته (¬2)، كما تقدّم. قال الإِمام أحمد: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئًا أعظم من الزنى (¬3). وقد أكد سبحانه حرمته بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 70]، فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاءَ ذلك الخلودَ في العذاب المضاعف (¬4) مالم يرفع (¬5) العبد موجب ¬

_ = قال البخاري: "الصحيح عن عبد الله بن عمرو موقوف". وهذا الموقوف سنده لا بأس به. فيه عطاء العامري والد يعلى، تابعي لم يرو عنه غير ابنه، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر تهذيب الكمال (20/ 133) وتاريخ خليفة بن خياط (218). (¬1) "بها" ساقط من ز. (¬2) س: "سننه". (¬3) تقدم في ص (261). (¬4) س: "المتضاعف". (¬5) ف: "لم يرفع".

ذلك (¬1) بالتوبة والإيمان والعمل الصالح. وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]، فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقرّ فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوان، كما ذكر البخاري في صحيحه (¬2) 751/ 1، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيتُ في الجاهلية قردًا (¬3) زنى بقردة، فاجتمع القرود عليهما، فرجموهما حتى ماتا". ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلًا، فإنّه سبيل هلكةٍ وبوارٍ وافتقار في الدنيا، وسبيلُ عذابٍ وخزيٍ ونكالٍ في الآخرة. ولمّا كان نكاح أزواج الآباء من أقبحه خصّه بمزيد ذمّ، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22]. وعلّق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه، فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 1 - 7]. وهذا يتضمن ثلاثة أمور (¬4): أنّ من لم يحفظ فرجه لم يكن من ¬

_ (¬1) س: "موجبة ذلك". (¬2) أخرجه في مناقب الأنصار، باب القسامة في الجاهلية (3849) ولفظه: "رأيت في الجاهلية قِرْدةَ اجتمع عليها قِرَدة قد زنت، فرجموها، فرجمتُها معهم". وانظر روضة المحبين (499)، وفتح الباري (7/ 160). (¬3) ف. "كان" بدلاًَ من "رأيت في الجاهلية قردَا". (¬4) ف: "ثلاث أمور".

المفلحين، وأنّه من الملومين، ومن العادين. ففاته الفلاح، واستحقّ اسم العدوان، ووقع في اللوم. فمقاساةُ ألم الشهوة ومعاناتُها أيسر من بعض ذلك. ونظير هذا (¬1) أنّه سبحانه ذمّ الإنسان، وأنّه خُلِقَ هلوعًا لا يصبر على سرّاء ولا ضرّاء (¬2)، بل إذا مسّه الخير منَعَ وبخِلَ، وإذا مسّه الشرُّ جزعَ، إلا من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه، فذكر منهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)} [المعارج: 29 - 31]. وأمر تعالى (¬3) نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يُعلِمَهم أنّه مشاهد لأعمالهم (¬4)، مطلع عليها (¬5)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]. ولمّا كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمرَ بغضّه مقدمًا على حفظ الفرج، فإنّ الحوادث مبداها من النظر، كما أنّ معظم النار من مستصغَر الشرر (¬6). فتكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة. ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينَه [75/ ب]: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، ويلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل ¬

_ (¬1) "هذا" ساقط من س. (¬2) ف: "ولا على ضرّاء". (¬3) س: "الله تعالى". (¬4) س، ل: "شاهد أعمالهم". (¬5) ز: "يطلع عليها". (¬6) اقتباس من البيت الآتي بعد قليل.

فصل: أربعة مداخل للمعاصي على العبد

عليه العدوّ، فيجوس خلال الديار، ويتبّر ما عَلا (¬1) تتبيرًا! فصل وأكثر ما تدخل (¬2) المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة، فنذكر في كل واحد منها فصلًا يليق به: فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها (¬3)، وحفظها أصلُ حفظ الفرج. فمن أطلق بصره أورده موارد الهلَكات. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُتْبعِ النظرةَ النظرةَ، فإنّما لك الأولى، وليست لك الآخِرة (¬4) " (¬5). وفي المسند (¬6) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ¬

_ (¬1) ز: "علوا". ف: "ويتبروا ما علوا". (¬2) س، ز: "يدخل". (¬3) س: "رائد الشهوة وقائدها". (¬4) ف: "الأخرى". (¬5) أخرجه أبو داود (2149) والترمذي (2777) وأحمد 5/ 353،352 (22974، 22991) وغيرهم من طريق شريك القاضي عن أبي ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه. ورواه شريك مرةَ فقال: عن أبي ربيعة وأبى إسحاق عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه فذكره. أخرجه أحمد 5/ 357 (23021). قلت: شريك ساء حفظه بعد توليه القضاء، وذِكْره أبا إسحاق وهم منه. وفيه أبو ربيعة الإيادي، واسمه عمر بن ربيعة. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: "منكر الحديث". فالحديث ضعيف الإسناد. وجاء من طريق آخر، ولا يثبت. انظر الصيام من شرح العمدة لابن تيمية (1/ 306). (¬6) كذا في بدائع الفوائد (817) أيضًا. وفي س: "السنن". وفي ف: "الحديث" =

فمن غضّ بصره عن محاسن امرأةٍ لله (¬1) أورث الله قلبه (¬2) حلاوةَ إلى يوم يلقاه". هذا معنى الحديث. وقال: "غُضّوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم" (¬3). ¬

_ = (ص). لم أقف عليه في المسند. والحديث أخرجه الحاكم 4/ 349 (7875) والقضاعي في مسند الشهاب (292) من طريق إسحاق بن عبد الواحد القرشي عن هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة بن زفر عن حذيفة مرفوعًا فذكره. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" فتعقبه الذهبي بقوله: "إسحاق واهٍ، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعّفوه". ورواه عبد الرحمن بن إسحاق مرة فجعله من مسند ابن مسعود، ومرة جعله من مسند ابن عمر، ومرة من مسند علي بن أبي طالب. انظر معجم الطبراني (10/ 10362) ومسند الشهاب (293) وذم الهوى لابن الجوزي (116). والحديث مداره على عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد (8/ 63). (¬1) "لله" لم يرد في س. (¬2) ف: "في قلبه". (¬3) أخرجه أحمد 5/ 323 (22757) وابن حبان (271) والحاكم 4/ 399 (8066) وغيرهم من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن عبادة بن الصامت رفعه: "اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنّة ... ". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". فتعقبه الذهبي بقوله: "فيه إرسال، وشاهده ... " ثم ذكر حديث أنس. قلت: المطلب لم يسمع من عبادة، فقد قال أبو حاتم: "لم يسمع من جابر". وجابر توفي سنة 72 هـ، وعبادة توفي سنة 34 هـ وقيل بعدها. بل قال البخاري والدارمي: لا نعرف للمطلب بن حنطب سماعًا من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحديث أعلّه بالانقطاع المنذري والذهبي والهيثمي. انظر تهذيب الكمال (28/ 84) والترغيب والترهيب (3/ 64) ومجمع الزوائد (4/ 145). وروي من حديث أنس، ولا يثبت.

وقال: "إيّاكم والجلوس على الطرقات". قالوا: يا رسول الله، مجالسُنا ما لنا منها بد. قال: "فإن كنتم لابدّ فاعلين، فأعطوا الطريق حقه لا. قالوا: وما حقّه؟ قال: "غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام" (¬1). والنظر أصل عامّة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإنّ النظرة تولّد خطرةً، ثم تولّد الخطرة فكرةً، ثم تولّد الفكرة شهوةً، ثم تولّد الشهوة إرادةً، ثم تقوى فتصير عزيمةً جازمةً، فيقع الفعل، ولا بدّ، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا (¬2) قيل: الصبر على غضّ البصر (¬3) أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده (¬4). قال (¬5) الشاعر: كلُّ الحوادث مبداها من النظرِ ... ومعظمُ النار من مستصغَر الشررِ كم نظرةٍ بلغت من قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتَرِ (¬6) ¬

_ (¬1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. أخرجه البخاري في المظالم، باب أفنية الدور ... (2465)؛ ومسلم في اللباس والزينة (2121). (¬2) ز: "ومن هذا". (¬3) ف، ز: "غض الطرف". وسقط "أيسر من الصبر" من ل. (¬4) "الصبر على غضّ ... بعده" ساقط من س. ونقل المؤلف في عدة الصابرين (40) خطبة للحجاج جاء فيها: "الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه". وانظر نحوه لزياد مولى ابن عياش في ذم الهوى (61). (¬5) ف: "وقد قال". (¬6) ل: كم نظرة فعلت في قلب صاحبها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر

والعبد مادام ذا طَرْفِ يقلّبه ... في أعين العِين موقوفٌ على الخطرِ (¬1) يسرّ مقلتَه ما ضرَّ مهجتَه ... لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضررِ (¬2) ومن آفات النظر: أنّه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد (¬3) ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه. وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة لك على بعضه (¬4). قال الشاعر: وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائدًا ... لقلبك يومًا أتعبتك المناظرُ رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ (¬5) وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه، ولا تقدر على شيء منه. فإنّ قوله: "لا كلّه أنت قادر عليه" نفيٌ لقدرته على الكلّ، التي لا تنتفي إلا بنفي القدرة عن كلّ واحد. ¬

_ = وكذا في بدائع الفوائد (1212). وفيه (817) وفي روضة المحبين (194): "فتكت في قلب صاحبها فتك السهام". (¬1) ف: "أعين الغِيد"، وكذا في روضة المحبين. وفيه: "والمرء مادام ذا عين يقلبها". (¬2) هذا البيت انفردت به ف. والأبيات الأربعة في روضة المحبين، والبيتان الأخيران منها في المدهش (296). (¬3) ف: "فالعبد يرى". (¬4) ل: "لك عليه"، وأشير في حاشية س إلى هذه النسخة. (¬5) أوردهما المؤلف في بدائع الفوائد (817)، وروضة المحبين (343،194)، وإغاثة اللهفان (104). والبيتان في حماسة أبي تمام دون عزو. انظر شرح المرزوقي (1238).

وكم ممن أرسل لحظاته، فما أقلعت إلا وهو يتشحّط بينهن (¬1) قتيلًا، كما قيل: يا ناظرًا ما أقلعتْ لحظاتُه ... حتّى تشحّط بينهن قتيلُ (¬2) ولي من أبيات (¬3): ملّ السلامةَ فاغتدت لحظاتُه ... وقفًا على طلل يُظَنّ جميلا (¬4) ما زال يمبع إثرَه لحظاتِه ... حتى تشحّط بينهن قتيلا (¬5) ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر (¬6). ولي من قصيدة: ¬

_ (¬1) ف: "بينهم"، خطأ. وانظر روضة المحبين (204). (¬2) "بينهن" ساقط من س. ووقع فيما عدا ز: "قتيلًا" بالنصب. وهو خطأ، فإن البيت من مقطوعة مضمومة الروي لأبي نواس في ديوانه (255). وانظر مصارع العشاق (2/ 11) وقد لهج المؤلف بقوله: "تشحط بينهن قتيل" فضمنه كلامه نثرًا ونظمًا، كما هنا، وفي المدارج (1/ 369)، والروضة (204). وانظر التعليق على البيتين الآتيين. (¬3) "ولي من أبيات" ساقط من ل. (¬4) ف: "يلوح جميلًا". (¬5) أنشد المؤلف في الروضة (206) بيتين آخرين من "قول الناظم" -ولعله يعني نفسه-: نظرُ العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاكَ إلى الفؤاد سبيلا ما زالت اللحظات تغزو قلبه ... حتى تشخط بينهن قتيلا وأورد في الصواعق (980) 25 بيتًا -يرجح أنها من شعره- على الروي نفسه ليس منها البيتان المذكوران هنا، إلاَّ أن البيت الثاني من بيتي الروضة يوجد ضمنها، وقد وضع فيه "الشبهات" مكان "اللحظات". (¬6) "ومن العجب ... الناظر" ساقط من ف.

فصل: 2 - الخطرات

يا راميًا بسهام اللحظ مجتهدًا ... أنتَ القتيلُ بما تَرمي فلا تُصِبِ وباعثَ الطرْفِ يرتاد الشفاءَ له ... احبِس رسولك لا يأتيك بالعطب (¬1) وأعجب من ذلك أنّ النظرة تجرح القلبَ، فيتبعُها جرحًا على جرح، ثم لا يمنعه ألمُ الجراحة من استدعاء تكرارها. وَلي أيضًا في هذا المعنى: مازلتَ تُتبعُ نظرة في نظرةٍ ... في إثر كلِّ مليحةٍ ومليحِ وتظن ذاك دواءَ جرحك وَهْو في التـ ... ـحقيق تجريح على تجريحِ فذبحتَ طرفَك باللِّحاظِ وبالبكا ... فالقلبُ منك ذبيحٌ ايُّ ذبيحِ (¬2) وقد قيل: حبسُ اللحَظاتِ أيسرُ من دوام الحسَرات (¬3). فصل وأما الخطرات فشأنها أصعب، فإنّها مبدأ الخير والشرّ، ومنها تتولّد الإرادات والهمم والعزائم. فمن راعى خطراتِه ملَكَ زمامَ نفسه، وقهر هواه. ومن غلبته خطراتُه فهواه ونفسه له أغلَب، ومن استهان بالخطرات [76/ ب] قادته قسرًا إلى الهلكات. ولا تزال الخطرات تتردّد على القلب حتى تصير مُنى باطلة: ¬

_ (¬1) س: "احبس بريدك". والبيتان في الروضة (195) وفيه: "توقّه إنه يأتيك"، وضمن أبيات في البدائع (818)، وفيه: "توقّه إنّه يرتدّ". (¬2) س: "وذبحت" وفي حاشيتها أشير إلى هذه النسخة. وفيها أيضًا: "ذبيح ابن ذبيح". وفي ل: "مثل ذبيح بن ذبيح" وكلاهما تحريف. (¬3) وسيأتي الكلام على فوائد غضّ البصر في ص (416).

{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39]. وأخسُّ الناس همّة وأوضعهم نفسًا من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة، واستجلبها (¬1) لنفسه، وتحلّى بها، وهي -لعمر الله- رؤوس أموال المفلسين، ومتاجر البطّالين. وهي قوت النفس (¬2) الفارغة التي قد قنعت من الوصل بزَورة الخيال، ومن الحقائق بكواذب الآمال، كما قال الشاعر: مُنىً إنْ تكن حقًّا تكن أحسن المُنَى ... وإلا فقد عِشْنا بها زمنًا رَغْدَا (¬3) وهي أضرُّ شيء على الإنسان، وتتولّد من العجز والكسل، وتولّد التفريط والحسرة والندم. والمتمنّي (¬4) لمّا فاته مباشرةُ الحقيقة بحسّه نحَتَ (¬5) صورتَها في قلبه، وعانقها، وضمّها إليه، فقنع بوصال صورةٍ وهميةٍ خياليّة (¬6) صوّرها فكرُه، وذلك لا يُجدي عليه شيئًا، وإنما مثله مثل الجائع والظمآن يصوّر في وهمه صورةَ الطعام والشراب، وهو يأكل ويشرب. ¬

_ (¬1) ف: "واستحلاها". ل: "واستحلها". (¬2) ف: "قوت النفوس". (¬3) لرجل من بني الحارث. شرح الحماسة للمرزوقي (1413). وهو محرف في س. (¬4) ما عدا ف: "التمني". (¬5) س، ل: "بجسمه تحت". و"تحت" تصحيف. وهي غير منقوطة في ز. (¬6) ل، ز: "خالية"، تحريف.

والسكون إلى ذلك واستحلاؤه (¬1) يدلّ على خساسة النفس ووضاعتها، وإنّما شرف النفس وزكاتها وطهارتها وعلوّها بأن ينفي عنها كلَّ خطرة لا حقيقة لها، ولا يرضى أن يخطرها بباله، ويأنف لنفسه منها. ثمّ الخطراتُ بعدُ أقسامٌ تدور على أربعة أصول: خطرات يستجلِب بها منافعَ دنياه. وخطرات يستدفع بها مضارَّ دنياه. وخطرات يستجلب بها مصالح (¬2) آخرته. وخطرات يستدفع بها مضارّ آخرته. فَلْيحصر (¬3) خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة. فإذا انحصرت له فيها (¬4)، فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغيره. وإذا تزاحمت عليه الخطرات لِتزاحُمِ متعلّقاتها قدّم الأهمَّ الذي يخشى فوته وأخّر الذي [77/ أ] ليس بأهمَّ ولا يخاف (¬5) فوته. بقي قسمان آخران: أحدهما مهمّ لا يفوت. والثاني غير مهمّ، ولكنه يفوت. ففي كلّ منهما ما يدعو إلى تقديمه، فهنا يقع التردد والحيرة. فإن قدّم المهمَّ خشي فواتَ ما دونه، وإن قدّم ما دونه فاته ¬

_ (¬1) ما عدا ف: "استجلابه". (¬2) س: "منافع"، وفي حاشيتها: "خ مصالح". (¬3) ف: "فليخطر". س، ل: "فليحضر". (¬4) س: "انحضرت له منها". (¬5) س: "ولا يخشى"، وفي حاشيتها: "خ لا يخاف".

الاشتغال به عن المهم. وكذلك (¬1) يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما، ولا يحصل (¬2) أحدهما إلا بتفويت الآخر، فهذا موضع استعمال العقل (¬3) والفقه والمعرفة. ومن ها هنا ارتفع من ارتفِع، وأنجح من أنجح، وخاب من خاب. فأكثرُ من ترى ممن يعظِّم عقله ومعرفتَه يُؤثِرِ غيرَ المهمِّ الذي لا يفوت على المهمِّ الذي يفوت. ولا تجد أحدًا يسلَم من ذلك، ولكن مستقِلّ ومستكثِر. والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر، وإليها مرجع (¬4) الخلق والأمر، وهي إيثارُ أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فأتت المصلحة التي هي دونها، والدخولُ في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها، فيفوّت مصلحة لتحصيل (¬5) ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدةً لدفع ما هو أعظم منها. فخطرات العاقل وفكَره لا تتجاوز (¬6) ذلك. وبذلك جاءت الشرائع، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم (¬7) إلا على ذلك. وأعلى الفِكَر وأجلّها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة. فما كان لله ¬

_ (¬1) س، ز: "ولذلك". (¬2) ف: "ولا يتحصّل". (¬3) س، ل: "اشتغال العقل". (¬4) ما عدا ف: "يرجع". (¬5) ما عدا س: "ليحصل". (¬6) ف: "لا تجاوز". ل: "وفكرته لا تتجاوز". ز: "لا يتجاوز". (¬7) ف: "ولا تقوم"، ولعله خطأ.

أنواع: أحدها: الفكرة في آياته المنزلة، وتعقّلها (¬1) وفهم مراده منها. ولذلك أنزلها الله تعالى، لا لمجرّد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: أُنزِل القرآنُ لِيُعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملًا (¬2). الثاني: الفكرة في آياته المشهودة، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته وإحسانه، وبرّه وجوده. وقد حضّ الله سبحانه عباده على التفكر (¬3) في آياته وتدبّرها وتعقّلها، وذمّ الغافل عن ذلك. الثالث: الفكرة في آلائه، وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه. [77/ ب] وِهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفةَ الله، ومحبّتَه، وخوفه، ورجاءَه. ودوامُ الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة (¬4). الرابع: الفكرة (¬5) في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل. وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهي بابٌ لكلّ خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمّارة. ومتى كُسِرَتْ عاشت النفس المطمئنّة، وانتعشت، وصار ¬

_ (¬1) ف، ل: "وتعلقها"، وكذلك فيما يأتي، وهو تحريف. (¬2) من كلام الحسن البصري. مدارج السالكين (1/ 451)، مفتاح دار السعادة (1/ 555)، ربيع الأبرار. (¬3) ف: "على الفكر"، وسقط منها "عباده". (¬4) كذا في جميع النسخ، وفي ط: "صبغة تامة". (¬5) "والمحبة ... الفكرة" ساقط من ل.

الحكم لها، فحيِيَ القلب ودارت كلمته في مملكته، وبثّ أمراءه وجنوده في مصالحه. الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهمّ كلّه عليه. فالعارف ابن وقته (¬1)، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلُّها. فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيّعه لم يستدركه أبدًا. قال الشافعي: رضي الله عنه (¬2): صحبتُ الصوفية، فلم أستفد منهم سوى حرفين: أحدهما قولهم: الوقت سيف، فإنْ قطعته، وألاّ قطعك (¬3). وذكر الكلمة الأخرى (¬4). فوقت الإنسان هو (¬5) عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضّنْك في العذاب الأليم، وهو يمرّ أسرع ¬

_ (¬1) في حاشية س أنّ في نسخة زيادة: "ويومه". وفي ز: "لزم وقته"، ولعله تغيير من ناسخ لم يعجبه هذا التعبير. وانظر في قولهم: "العارف ابن وقته" وتفسيره: مدارج السالكين (3/ 341) وانظر أيضًا: (3/ 128 - 131)، ومفتاح دار السعادة (1/ 305). (¬2) هذا في ل. وفي س: "رحمه الله تعالى ورضي عنه". ولم يرد شيء في ف، ز. (¬3) ف: "فإن لم تقطعه والاّ قطعك". وكذا وقع في المدارج (3/ 49). وفي المدارج (3/ 129) كما هنا. (¬4) وهي كما ذكرها المصنف في المدارج (3/ 129): "ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل". وموقع "والاّ" في هذا التركيب خطأ تكرر في كتب المصنّف، والصواب حذفها. وقد زاد بعض ناشري كتابنا هذه الجملة هنا بعد إصلاحها: "ونفسك إن شغلتها بالحق وإلا شغلتك بالباطل". انظر: ط عبد الظاهر (209) وط فايد (133) وغيرهما. (ص). انظر قول الشافعي في مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 208). (ز). (¬5) لم يرد "هو" في ف.

من مرّ السحاب. فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو (¬1) والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. وإذا كان العبد، وهو في الصلاة، ليس له (¬2) إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله (¬3). وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر، فإمّا وساوس شيطانية (¬4)، وإمّا أماني باطلة وخدع كاذبة (¬5)، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والممسوسين (¬6) والموسوسين. ولسان حال هؤلاء يقول عند إنكشاف الحقائق (¬7): إن كان منزلتي في الحشرعندكمُ ... ما قد لقيتُ فقد ضيّعتُ أيامي (¬8) ¬

_ (¬1) "والسهو" لم يرد في ف، فزاده بعضهم. (¬2) ل: "له من صلاته". (¬3) "وله " ساقط من ف. (¬4) ل: "وساوس من شيطانه". (¬5) ل: "وإما خدع كاذبة". (¬6) ف: "السكارى المحشوشين". وكذا وردت الكلمة في النسخ بالحاء والشين. ولعل الصواب ما أثبتنا. والممسوس: الذي به مسّ، وهو الجنون. قال رؤبة: قد علم العالمُ والقِسّيسُ ... أنّ امرأَ حاربكم ممسوسُ انظر طبقات فحول الشعراء (764). ولو أراد من الحشيش لقال: "الحشاشين". (¬7) ف: "عند إنكشاف الحقائق يقول". (¬8) الرواية: "في الحب" بدلاًَ من "في الحشر"، وهذه إن لم تكن تغييرًا مقصودًا فهي من تحريف النساخ. وفي ف مكانها: "يا قوم". وقد ورد البيت في روضه =

أمنيّةٌ ظفرتْ نفسي بها زمنًا [78/ أ] واليوم أحسَبها أضغاثَ أحلامِ (¬1) واعلم أنّ ورود الخاطر لا يضرّ، وإنّما يضرّ استدعاؤه ومحادثته. فالخاطر كالمارّ على الطريق، فإنْ لم تستدعِه وتركتَه مرّ وانصرف عنك (¬2)، وإن استدعيتَه سَحَرك بحديثه وخَدْعه وغروره. وهو أخفّ شيء على النفس الفارغة الباطلة، وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة. وقد ركّب الله سبحانه في الإنسان نفسًا أمّارةً ونفسًا مطمئنّة، وهما متعاديتان، فكلُّ ما (¬3) خفّ على هذه ثَقُل على هذه، وكلّ ما التذّت به هذه تألّمت به الأخرى. فليس على النفس الأمّارة أشقُّ من العملِ لله، وإيثارِ رضاه على هواها؛ وليس لها أنفعُ منه. وليس على النفس المطمئنّة أشقُّ من العمل لغير الله، وإجابةِ (¬4) داعي الهوى؛ وليس عليها أضرُّ (¬5) منه. والملَك مع هذه عن يَمنةِ القلب، والشيطان مع تلك عن يَسْرةِ القلب. والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلى أن تستوفي أجلَها من الدنيا. والباطل كلّه يتحيّز مع الشيطان والأمّارة، والحقّ كلّه يتحيّز مع الملَك والمطمئنّة. والحروب دُوَل وسِجال، والنصر مع الصبر. ومن ¬

_ = المحبين (404) وفي مطبوعته: "في الحب". (¬1) ف: "ظفرت قلبي"، وهو خطأ. والبيتان لابن الفارض في ديوانه (207) وفيه: "ظفرت روحي" وفي البيت الأول: "ما قد رأيت". (¬2) "عنك" لم يرد في س. (¬3) ز: "وكلما". (¬4) س: "وما اجابه". ف: "وماجابه". (¬5) ف: "شيء أضرّ".

صَبَر، وصابرَ، ورابَطَ، واتّقى الله، فله (¬1) العاقبة في الدنيا والآخرة (¬2). وقد حكم الله حكمًا لا يبدّل أبدًا أنّ العاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين (¬3). فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقَش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب، وغرور، وخدع، وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له؟ فأيّ حكمة وعلم وهدًى ينتقش مع (¬4) هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محلٍّ مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه. فإنْ لم يُفرِّغ القلبَ من الخواطر الرديّة لم يستقرّ فيه الخواطر النافعة، فإنّها لا تستقرّ إلا في محل فارغ، كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا (¬5) [78/ ب] ولهذا كثير من أرباب السلوك بنَوا سلوكهم (¬6) على حفظ الخواطر، وأن لا يمكّنوا خاطرًا يدخل قلوبهم، حتّى تصير القلوب فارغةً قابلةً للكشف وظهور حقائق العُلويّات (¬7) فيها. وهؤلاء حفظوا شيئًا، وغابت عنهم أشياء، فإنّهم أخلَوا القلوب من ¬

_ (¬1) ف: "فإنّ له". (¬2) يشير إلى الآية الكريمة (250) من سورة آل عمران. (¬3) كما جاء في سورة الأعراف (128)، وهود (49)، وطه (132) وغيرها. (¬4) س: "من". (¬5) بيت سائر نسبه المؤلف في روضة المحبين (240) إلى قيس بن الملؤح وهو مجنون ليلى، وينسب إلى غيره. انظر ديوان المجنون (219). (¬6) ز: "يتراسلوا لهم". وفي ل: "الشكوك بنوا شكوكهم". وكلاهما تحريف. (¬7) ف: "المعلومات". وفي حاشية س إشارة إلى هذه النسخة. وهي تحريف.

أن يطرقها خاطر، فبقيت فارغة لا شيء فيها، فصادفها الشيطان خاليةً، فبذر فيها الباطلَ في قوالب أوهمهم (¬1) أنّها أعلى الأشياء وأشرفها، وعوّضهم بها عن الخواطر التي هي مادّة العلم والهدى. وإذا خلا القلب عن هذه الخواطر جاء الشيطان فوجد المحلَّ خاليًا، فشغله بما يناسب حال صاحبه، حيث لم يستطع أن يشغله بالخواطر السفلية، فشغله بإرادة التجريد والفراغ (¬2) من الإرادة التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلا بأن تكون هي المستولية على قلبه. وهي: إرادةُ مراد الله الديني (¬3) الأمري الذي يحبّه ويرضاه، وشَغلُ القلب (¬4) واهتمامه بمعرفته على التفصيل به، والقيام به وتنفيذه في الخلق، والطُرُقِ إلى ذلك، والتوصّلِ إليه بالدخول في اَلخلق (¬5) لتنفيذه. فبَرْطَلَهم (¬6) الشيطانُ عن ذلك بأنْ دعاهم إلى تركه وتعطيله، من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها، وأوهمهم أنّ كمالهم في ذلك التجريد والفراغ. وهيهات (¬7)! إنّما الكمال في امتلاء القلب والسرّ من الخواطر والإرادات والفِكَر في تحصيل مراضي الربّ تعالى من العبد ومن الناس، والفكر في طرُق ذلك والتوصّل إليه. فأكمل الناس أكثرهم خواطر وفِكَرًا صارادات لذلك، كما أنّ أنقصَ الناس أكثرُهم خواطر وفِكَرًا وإراداتٍ لحظوظه وهواه أين ¬

_ (¬1) س: "أوهمها". وفي الحاشية إشارة إلى ما في غيرها. (¬2) من هنا إلى "التجريد والفراغ" الآتي سقط من س لانتقاد النظر. (¬3) "المديني" ساقط من ل. (¬4) ل: "ويشغل القلب". (¬5) "في الخلق" ساقط من ل. (¬6) من برطله: رشاه. انظر أساس البلاغة (برطل). (¬7) وانظر طريق الهجرتين (380).

فصل: 3 - اللفظات

كانت. والله المستعان. وهذا عمر بن الخطاب كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الربّ تعالى، فربّما استعملها في صلاته، فكان يجهِّز (¬1) جيشَه وهو في صلاته (¬2)، فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة. وهذا من باب تداخل العبادات في العبادة الواحدة. وهو باب عزيز شريف لا يعرفه (¬3) إلا صادق الطلب، متضلّع من العلم، عالي الهمة، بحيث يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى (¬4). وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فصل وأما اللفظات، فحفظها بأن لا يُخرِجَ لفظةً ضائعةً، بل لا يتكلّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه. فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؛ فإنْ لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها، فلا يضيّعها بهذه. وإذا أردت أن [79/ أ] تستدلّ على ما في القلب، فاستدِلَّ عليه (¬5) ¬

_ (¬1) س: "وكان تجهيز". (¬2) ف: "عسكره وهو في الصلاة". وقد أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب العمل في الصلاة، باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة (ص 239). (ص). ووصله ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 188 (7951). وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (س/90). (¬3) ف: "لا يدخل منه". (¬4) وانظر زاد المعاد (1/ 250). (¬5) "عليه" ساقط من س.

بحركة اللسان، فإنّه يُطلِعُ ما في القلب (¬1)، شاء صاحبه أم أبى. قال يحيي بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها. فانظر الرجل (¬2) حين يتكلّم، فإن لسانه يغترف (¬3) لك مما في قلبه (¬4): حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك. ويبين لك طعم قلبه اغترافُ لسانه (¬5). أي كما تطعم بلسانك طعمَ ما في القدر من الطعام، فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه (¬6) من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك. وفي حديث أنس المرفوع: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه (¬7) حتى يستقيم لسانه" (¬8). ¬

_ (¬1) ل: "على ما القلب"، فسقط منها "في". (¬2) ف: "فإن الرجل". (¬3) ف: "يغرف". (¬4) ل، ز: "بما في قلبه". (¬5) حلية الأولياء (10/ 67). (¬6) ف: "في القلب". (¬7) "ولا يستقيم قلبه" ساقط من س. (¬8) أخرجه أحمد 3/ 198 (13048) وابن أبي الدنيا في الصمت وآداب اللسان (9) والقضاعي في مسند الشهاب (887) وغيرهم من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس فذكره، وفيه زيادة. وهو حديث منكر، تفرد به علي بن مسعدة عن قتادة، وعلي ضعيف. والحديث ضعفه الهيثمي والعراقي. انظر مجمع الزوائد (1/ 53). وروي من وجه آخر عن أنس ولا يصح. وثبت هذا عن ابن مسعود موقوفًا. أخرجه الطبراني في الكبير (8990) وأبو نعيم في الحلية (4/ 165) وغيرهما عن زبيد عن مرة الطيب عن ابن =

وسئل - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النارَ، فقال: "الفم والفرج" (¬1). قال الترمذي حديث صحيح (¬2). وقد سأل معاذ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن العمل الذي يُدخله الجنّة ويباعده من النار، فأخبره برأسه، وعموده، وذروة سنامه؛ ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك؟ " قال: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسان نفسه (¬3)، ثم قال: "كُفَّ عليك هذا". فقال: وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلّم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذًا وهل يَكُبّ الناسَ في النار (¬4) على وجوههم- أو على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟ " (¬5) قال الترمذي: حديث ¬

_ = مسعود مطولًا. وسنده صحيح. وقد روي مرفوعًا ولا يثبت. انظر علل الدراقطني (5/ 271). (¬1) أخرجه الترمذي (2004) وابن ماجه (4246) والبخاري في الأدب المفرد (294) وابن أبي الدنيا في الصمت (4) وابن حبان (476) والحاكم 4/ 360 (7919) وغيرهم من طريق عبد الله بن إدريس عن أبيه وعمّه عن جده يزيد الأودي عن أبي هريرة فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب". وصححه ابن حبان والحاكم. (¬2) كذا في الأصول وخا. وفي خب وط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: "حسن صحيح". وفي نسخة الجامع المطبوعة مع تحفة الأحوذي: "صحيح غريب". (¬3) س: "بلسانه"، وفي حاشيتها إشارة إلى ما أثبتناه من غيرها. (¬4) "في النار" لم يرد في ف. (¬5) أخرجه الترمذي (2616) وابن ماجه (3973) وأحمد 5/ 231 (22016) وغيرهم من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ فذكره مطولًا. قلت: تعقّب الحافظ ابن رجب الحنبلي تصحيح الترمذي فقال: "وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركه بالسن. وكان معاذ بالشام وأبو وائل بالكوفة ... والثاني أنه قد =

صحيح (¬1). ومن العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرّم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ (¬2) يشار إليه بالدين والزهد والعبادة (¬3)، وهو يتكلّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلّ (¬4) بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب (¬5)! وكم ترى من رجل متورعِّ عن الفواحش والظلم، ولسانه ¬

_ = رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ. خرّجه الإِمام أحمد [5/ 248 (22133) وغيره] مختصرًا. قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه. قلت (أي ابن رجب): ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينًا. وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه. وقد خرجه الإِمام أحمد [5/ 245 (22122)] من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ. وخرجه الإِمام أحمد أيضًا [5/ 233، 237 (22032، 22068)، من رواية عروة بن النزّال وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ. ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ. وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة" جامع العلوم والحكم (2/ 135). وانظر علل الدارقطني (6/ 73 - 79). وقال العقيلي في الضعفاء (3/ 480).- لما ضعف حديث أنس عن معاذ هذا- قال: "وفي هذا الباب عن معاذ وغيره أحاديث ثابتة من غير هذا الوجه". وانظر ابن حبان (214). (¬1) كذا في الأصول وخا. وفي خب وط المدني وغيرها وفي نسخة الجامع المطبوعة مع التحفة: "حسن صحيح". (¬2) ل: "ترى الذي". ز: "يرى الرجل". (¬3) ز: "العبادة والزهد". (¬4) "يزلّ" ساقط من ل. (¬5) يشير إلى حديث أبي هريرة الآتي. وقد سبق أيضًا في ص (206).

يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول! وإذا أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه (¬1) من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله [79/ ب]- صلى الله عليه وسلم -: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: مَن ذا الذي يتألّى عليّ أنّي لا أغفر لفلان؟ قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملَك". فهذا العابد (¬2) الذي قد عَبَدَ اللهَ ما شاء أن يعبده، أحبطت هذه الكلمةُ الواحدة عملَه كلّه! وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك، ثم قال أبو هريرة: "تكلم بكلمةٍ أوبقَتْ دنياه وآخرته" (¬3). وفي الصحيحين (¬4) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ العبد ¬

_ (¬1) كتاب البرّ والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله (2621). (¬2) ذكر العابد في حديث أبي هريرة الآتي، لا في حديث جندب السابق. (¬3) أخرجه أبو داود (4901) وأحمد 2/ 323، 363 (8292، 8749) وابن حبان (5712) وغيرهم من طريق عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة فذكر مطولًا. وفيه عكرمة بن عمار، في حفظه كلام. وقد اختلف عنه الرواة في الجملة الأخيرة. فرواه من قول أبي هريرة: عبد الله بن المبارك في الزهد (900)، وأبو الوليد الطيالسي عند ابن حبان، وأبو عامر العقدي وعبد الصمد عند أحمد، وعلي بن ثابت عند أبي داود. ورواها مرفوعة: موسى بن مسعود عند المزي في تهذيب الكمال (13/ 326) وغسان بن عبيد عند ابن أبي الدنيا في حسن الظن (45). والصواب: الموقوف. (¬4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان (6478) من طريق أبي صالح =

ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها (¬1) درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها (¬2) في جهنم". وعند مسلم (¬3): "إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة، ما يتبيّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين (¬4) المشرق والمغرب". وعند الترمذي (¬5) من حديث بلال بن الحارث المزني (¬6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7): ¬

_ =عن أبي هريرة ولم يخرجه مسلم من هذا الطريق. (¬1) "بها" ساقط من ز. (¬2) ز: "يلقى بها". (¬3) برقم (2988)، وأيضًا عند البخاري (6477) من طريق عيسى بن طلحة عن أبي هريرة. (¬4) ما عدا ف: "يزل بها .. بما بين". (¬5) برقم (2319). وأخرجه ابن ماجه (3969) وأحمد 3/ 469 (15852) والبخاري في تاريخه (2/ 106 - 107) وابن حبان (80، 281، 287) والحاكم 1/ 106 - 107 (136 - 140) وغيرهم من طرق عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جدّه علقمة عن بلال بن الحارث المزني فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح". وصححه ابن حبان. وقد رواه الإِمام مالك وغيره عن محمَّد بن عمرو بن علقمة به، ولم يذكر "عن جده". ورجح البخاري الأول رواية الجماعة فقال: "والأول أصح". وإليه مال الترمذي والدارقطني وابن عبد البر. راجع تحقيق المسند (25/ 181 - 182). (¬6) "المزني" ساقط من ز. (¬7) ل: "الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ... ".

"إنّ أحدكم (¬1) ليَتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ (¬2) أن تبلغ ما بلغتْ، فيكتب الله له (¬3) بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإنّ أحدكم لَيتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له (¬4) بها سخطه إلى يوم يلقاه". فكان (¬5) علقمة يقول (¬6): كم من كلام قد منعنيه (¬7) حديثُ بلال بن الحارث (¬8)! وفي جامع الترمذي أيضًا (¬9) من حديث أنس قال: توفي رجل من ¬

_ (¬1) س: "إن العبد". (¬2) ز: "لا يظن". (¬3) ز: "فيكتب له". (¬4) ز: "فيكتب له". (¬5) س، ل: "وكان". (¬6) ف: "يقول علقمة". وعلقمة هو ابن وقّاص الليثي، راوي الحديث عن بلال المزني. (¬7) لم ترد "قد" في س، ل. (¬8) قول علقمة هذا لم يرد في جامع الترمذي. (¬9) برقم (2316). وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (109) وأبو يعلى (4017) وأبو نعيم في الحلية (5/ 56) وغيرهم من طريق يحيى بن يعلى وعمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش عن أنس فذكره. قال الترمذي: "هذا حديث غريب" وفي نسخة: "حسن غريب" وقال أبو نعيم: "تفرد به عمر عن أبيه حفص". وقال الذهبي في السير (6/ 240): "غريب يعدّ في أفراد عمر بن حفص شيخ البخاري". وفيه أيضًا أن الأعمش رأى أنس بن مالك ولم يسمع منه شيئًا. قلت: وأما طريق يحيى بن يعلى هو الأسلمي فلا يثبت، فإن يحيي هذا قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ليس بالقوي. وبه =

الصحابة، فقال رجل: أبشِرْ بالجنة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَ لا تدري فلعلّه (¬1) تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه". قال: حديث حسن (¬2). وفي لفظ: أنّ غلامًا استشهد يوم أحد، فوُجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمّه التراب عن وجهه، وقالت: هنيئًا لك يا بنيّ، لك الجنّة (¬3). فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وما يدريك، لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضرّه". وفي الصحيحين (¬4) من حديث أبي هريرة يرفعه: "من كان يؤمن بالله [80/ أ] واليوم الآخر فَلْيقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ". وفي لفظ لمسلم (¬5): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإذا شهد أمرًا فليتكلّمْ بخير (¬6) أو لِيسكتْ". ¬

_ = ضعفه الهيثمي في المجمع (10/ 303). وروي من طريق سعيد بن الصلت عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس عند البيهقي في الشعب (10342) ولا يصح. (¬1) ل: " ... تدري أنه". س: "وما يدريك لعله". (¬2) كذا في جميع النسخ التي بين يديّ. وانظر ما سلف في تخريج الحديث. (¬3) ف: "فقالت: يابني هنيئًا لك الجنّة". (¬4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان (6475)؛ ومسلم في الإيمان، باب الحث على إكرام الجار ... (47). (¬5) في كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء (1468). (¬6) ف: "خيرًا".

وذكر الترمذي (¬1) بإسناد صحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه". وعن سفيان بن عبد الله (¬2) الثقفي قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإِسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقِمْ". قلت (¬3): يا رسول الله ما أخوَفُ ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "هذا". والحديث صحيح (¬4). وعن أم حبيبة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم -، عن النبي (¬5) - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلام ابن ¬

_ (¬1) برقم (2317). وأخرجه ابن ماجه (3976) وابن حبان (229) والقضاعي في مسند الشهاب (192) وابن عبد البر في التمهيد (9/ 198، 199) وغيرهم من طريق قرة بن عبد الرحمن المصري عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا. وخالفه الإِمام مالك ومعمر بن راشد ويونس بن يزيد وزياد بن سعد كلهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. أخرجه الترمذي (2318) وعبد الرزاق (11/ 307) وابن أبي عاصم في الزهد (103) والقضاعي (193). قال الترمذي: "هكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث مالك مرسلًا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب". ورجح الإرسال الإِمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري والعقيلي والدارقطني وغيرهم. انظر الصيام من شرح العمدة لابن تيمية (2/ 791). (¬2) ز: "بن عيينة"، خطأ. (¬3) ل: "قال: قلت". (¬4) أخرجه مسلم في الإيمان، باب جامع أوصاف الإِسلام (38) إلى قوله: "ثم استقم". (¬5) س: "عنه". وفي ل، ز: "زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال".

آدم (¬1) عليه لا له، إلا أمرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن المنكر (¬2)، أو ذكرُ الله" (¬3) قال الترمذي: حديث حسن (¬4). وفي حديث آخر: إذا أصبح العبد (¬5) فإنّ الأعضاء كلها تكفِّر اللسانَ (¬6)، تقول: اتّقِ الله فينا (¬7)، وإنّما نحن بك. فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا (¬8). ¬

_ (¬1) ما عدا ز: "كل كلام ابن آدم". (¬2) ما عدا س: "منكر". (¬3) أخرجه الترمذي (2412) وابن ماجه (3974) والبخاري في تاريخه (1/ 261 - 262) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (123) وابن أبي الدنيا في الصمت (14) والنسائي في أماليه (15) والحاكم 1/ 557 (3892) وغيرهم من طريق محمَّد بن يزيد بن خنيس سمعت سعيد بن حسان المخزومي حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة فذكرته. ورواه البخاري في تاريخه (1/ 261) عن محمَّد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان عن أم صالح مرسلًا. وفيه أم صالح مجهولة. والحديث ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمَّد بن يزيد بن خنيس". وقال ابن حجر: "حسن غريب" الأمالي المطلقة (160). (¬4) كذا في جميع النسخ. وفي المتن المطبوع مع تحفة الأحوذي (7/ 79): "حسن غريب". وذكر الشارح أن في بعض النسخ: "حديث غريب". (¬5) س: "أن العبد إذا أصبح". (¬6) كذا في جميع النسخ، والترمذي. ولعل الصواب: "لِلّسان" كما في المسند (18/ 402)، والفائق (3/ 268) من التكفير بمعنى الخضوع. (¬7) "فينا" من س. (¬8) أخرجه الترمذي (2407) وأبو يعلى (2/ رقم 1185) وأبو نعيم في الحلية (4/ 309) وابن عبد البر في التمهيد (21/ 40) وغيرهم من طرق عن حماد بن زيد عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري فذكره مرفوعًا. قلت: كان حماد بن زيد أو أبو الصهباء (فيه جهالة) يضطرب فيه ويشك =

وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسَه في قوله: يوم حارّ، ويوم بارد. ولقد رُئي بعضُ الأكابر من أهل العلم (¬1) في النوم، فسئل عن حاله، فقال: أنا موقوف على كلمة قلتُها. قلتُ: ما أحوج الناسَ إلى غيث! فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي. وقال بعض الصحابة لخادمه (¬2) يومًا: هاتِ (¬3) السفرة نعبَثْ بها. ثم قال: أستغفر الله، ما أتكلّم بكلمة إلا وأنا أخطِمُها وأزُفُها، إلا هذه الكلمة خرجت منّي بغير خطام ولا زمام (¬4). أو كما قال. ¬

_ = فيقول: "لا أعلمه إلا رفعه" أو "أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". هكذا رواه عن حماد بن زيد: عفان بن مسلم وبشر بن السري وعمران بن موسى ومسدد والطيالسي: عند أحمد في المسند (11908) والمروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (1012) وابن أبي الدنيا في الصمت (12) وابن السنّي (1) والطيالسي في مسنده (2323). وربما رواه حماد بن زيد موقوفًا. رواه عنه عبد الرحمن بن مهدي وحماد بن أسامة وإسحاق بن أبي إسرائيل وأبو كامل الجحدري، عند الترمذي (2407) وأحمد في الزهد (1084) وابن عبد البر في التمهيد (20/ 41). قال الترمذي عندما ساق الموقوف: "وهذا أصح من حديث محمَّد بن موسى (يعني المرفوع). هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد. وقد رواه غير واحد عن حماد بن زيد ولم يرفعوه". (¬1) هو الجنيد. انظر التدوين في أخبار قزوين (1/ 264). (¬2) س، ف: "لجارية". (¬3) ما عدا ل: "هاتي". (¬4) أخرجه أحمد 4/ 123 (17114) وابن المبارك في الزهد (843) وابن أبي الدنيا في الصمت (438) وأبو نعيم في الحلية (6/ 77 - 78) وغيرهم من طريق =

وأيسرُ (¬1) حركات الجوارح حركةُ اللسان، وهي أضرُّها على العبد. واختلف السلف والخلف هل يُكتَبُ جميع ما يلفظ به العبد، أو الخير والشرّ فقط (¬2)؟ على قولين، أظهرهما الأول (¬3). وقال بعض السلف (¬4): كلّ كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه. وكان الصدّيق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني المواردَ (¬5). والكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرتَ أسيره. واللهُ عند لسان ¬

_ =ابن المبارك وروح وعيسى بن يونس كلهم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: بلغني أن شدّاد بن أوس كان في سفر فقال لغلامه فذكر نحوه. وزاد روح حديثًا مرفوعًا: "إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ... ". ورواه سويد بن عبد العزيز عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم عن شداد فذكره. أخرجه ابن حبان في صحيحه (935) وأبو نعيم في الحلية (1/ 266). قلت: وسويد ضعيف، ورواية الجماعة أرجح لكنه منقطع، حسان بن عطية لم يسمع من شداد. وللحديث المرفوع طريق آخر. انظر تحقيق المسند (28/ 356). (¬1) ف: "أشرّ"، تصحيف. (¬2) "فقط" ساقط من س. (¬3) انظر تفسير الطبري (21/ 424)، والمحرر الوجيز (5/ 160)، ومجموع الفتاوى (7/ 49). وانظر مدارج السالكين (1/ 114). (¬4) ف: "وقال السلف". وسمّاه في المدارج (1/ 115): "الحديث المشهور" (ص). لم أقف عليه (ز). (¬5) تقدّم تخريجه ص (91).

فصل: 4 - الخطوات

كلّ قائل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]. وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن [80/ ب] خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت. وقد يكون كلّ منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها. فالساكت عن الحقّ شيطان أخرس عاصٍ لله مُراءٍ مداهنٌ إذا لم يخف على نفسه (¬1)، والمتكلّم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط -وهم أهل الصراط المستقيم- كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة. فلا يرى أحدهم أنّه يتكلّم بكلمة تذهب عليه ضائعةً بلا منفعة، فضلًا عن (¬2) أن تضرّه في آخرته. وإنّ العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلَّها؛ ويأتي بسيئات أمثال الجبال (¬3)، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به. فصل وأما الخطوات:، فحفظها (¬4) بأن لا يثقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإن لم يكن في خُطاه مزيدُ ثواب، فالقعود عنها خير له. ويمكنه أن ¬

_ (¬1) "عاص لله مراء ... نفسه" ساقط من ل. (¬2) "عن" من ف. (¬3) ل: "مثل الجبال". (¬4) ل: "فيحفظها".

فصل: عظم مفسدة الزنى

يستخرج من كلّ مباح يخطو إليه قربةً ينويها لله، فتقع (¬1) خطاه قربةً. ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرجل، وعثرة اللسان جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم، كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله (¬2): {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]. فصل وهذا كلّه ذكرناه مقدّمهً (¬3) بين يدي تحريم الفواحش ووجوب حفظ الفرج. وقد قال النبي (¬4) - صلى الله عليه وسلم -: "أكثرُ ما يُدخِل الناسَ النارَ: الفم والفرج" (¬5). وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (¬6). ¬

_ (¬1) ل: "فيقطعها". (¬2) "قوله" لم يرد في ف، وفيها: "الخطرات واللحظات". وقد سقط من ل: "والخطرات". (¬3) "مقدمة" ساقط من ف. (¬4) ز: "رسول الله". س: "قال - صلى الله عليه وسلم -". (¬5) تقدم تخريجه (365). (¬6) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (6878)؛ ومسلم في =

وهذا الحديث في اقتران الزنى بالكفر وقتلِ النفس نظيرُ الآية التي في الفرقان (¬1)، ونظيرُ حديث ابن مسعود (¬2). [81/ أ] وبدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بالأكثر وقوعًا، ثم بالذي يليه. فالزنى أكثر وقوعًا من قتل النفس، وقتل النفس أكثر وقوعًا من الردّة. وأيضًا فإنّه انتقال من الأكبر إلى ما هو أكبر (¬3) منه. ومفسدة الزنا مناقِضة لصلاح العالم، فإنّ المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها (¬4) وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس. وإن حملتْ من الزنى، فإنْ قتلتْ ولدها جمعت بين الزنى والقتل، وإن حمّلته الزوجَ أدخلَتْ (¬5) على أهله وأهلها أجنبيًّا ليس منهم فورِثَهم وليس منهم، ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم، وليس منهم؛ إلى غير ذلك من مفاسد زناها. وأما زنى الرجل فإنّه يوجب اختلاط الإنساب أيضًا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضَها للتلف والفساد. وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين، وإن عمرت القبور (¬6) في البرزخ، والنار في الآخرة. فكم (¬7) في الزنى من استحلال ¬

_ = القسامة، باب ما يباح به دم المسلم (1676). (¬1) وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]. (¬2) وقد سبق مع الآية المذكورة في ص (291). (¬3) ز: "من الأكثر إلى ما هو أكثر"، تصحيف. (¬4) ف: "زوجها وأهلها". (¬5) ف: "أدخلته". (¬6) س: "التّنّور" بتشديد التاء والنون. وفي ل أيضًا دون التشديد. (¬7) س، "وكم".

محرّمات (¬1)، وفوات حقوق، ووقوع مظالم! ومن خاصيته (¬2): أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سوادَ الوجه وثوبَ المقت بين الناس. ومن خاصيته أيضًا: أنّه يشتّت القلب، ويُمرِضه إن لم يُمِتْه. ويجلب الهمّ والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملَك، ويقرّب منه الشيطان (¬3). فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته (¬4). ولهذا شُرع (¬5) فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها. ولو بلغ العبدَ أنّ امرأته أو حرمته قُتِلتْ كان أسهل عليه من أن يبلغه أنّها زنت. وقال سعد بن عبادة: لو رأيتُ رجلًا مع امرأتي لضربتُه بالسيف غيرَ مُصْفَح (¬6). فبلغ ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ واللهِ لأنا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ منّي. ومن أجْلِ غيرة الله حرّم (¬7) الفواحشَ ماظهر منها وما بطن". متفق عليه (¬8). ¬

_ (¬1) ف: "لمحرمات". (¬2) ز: "خاصته" هنا وفيما يأتي. (¬3) ف: "ويقربه من الشيطان". (¬4) "من الملك ... مفسدته" ساقط من ز. وفي س: "مفاسده". (¬5) ف: "شرع الله". (¬6) من أصفحه بالسيف، إذا ضربه بعُرْضه دون حدّه. النهاية (3/ 34). (¬7) س: "حرم الله". (¬8) تقدم تخريجه ص (163).

وفي الصحيحين أيضًا (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يغار، وإنّ المؤمن يغار (¬2)، وغيرةُ الله أن يأتي العبدُ ما حرَّم عليه" (¬3). وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحدَ أغيَرُ [81/ ب] من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحب إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسلَ مبشِّرين ومنذرين. ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه" (¬4). وفي الصحيحين في خطبته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف أنّه قال: "يا أمّة محمَّد، والله إنه لا أحدَ أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمَّد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا". ثمّ رفع يديه، وقال: "اللهم هل بلّغت؟ " (¬5). وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيبَ صلاة الكسوف سرّ بديع لمن تأمّله. وظهورُ الزنى من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنّه قال: لأحدّثنّكم حديثًا لا ¬

_ (¬1) "أيضًا" لم يرد في س. (¬2) ز: "والمؤمن يغار". (¬3) "وفي الصحيحين ... حرم عليه" ساقط من ف. والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في النكاح، باب الغيرة (5223)، ومسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2761). (¬4) تقدم تخريجه (164). (¬5) تقدم تخريجه (164).

خص حد الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص

يحدّثكموه أحد بعدي سمعتُه من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أشراط الساعة أن يُرفع العلمُ، ويظهر الجهل، ويُشرَب الخمرُ، ويَظهر الزنا، ويقلّ الرجال، وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأةً القيّم الواحد" (¬2). وقد جرت سنّة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنى يغضب الله سبحانه، ويشتدّ غضبه، فلا بدّ (¬3) أن يؤثّر غضبه في الأرض عقوبة. قال عبد الله بن مسعود: ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذِن الله بإهلاكها (¬4). ورأى بعض أحبار بني إسرائيل ابنًا له يغامز امرأةً، فقال: مهلًا يابنيّ، فصُرِع الأب عن سريره، فانقطع نُخاعه، وأسقطت امرأته. وقيل له: هكذا غضبتَ لي؟ لا يكون في جنسك حَبْر (¬5) أبدًا (¬6). وخصّ سبحانه حدَّ الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص: أحدها: القتل فيه أشنعَ القتلات، وحيث خفّفه فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه (¬7) سنة. ¬

_ (¬1) ف: "من رسول الله". (¬2) أخرجه البخاري في العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل (80 - 81)؛ ومسلم في العلم، باب رفع العلم ... (2671). (¬3) ف: "ولا بدّ". (¬4) ف، ل: "بهلاكها". س: "في هلاكها"، وفي الحاشية إشارة إلى ما أثبتنا. وقد تقدم تخريج الأثر في ص (107). (¬5) ل: "خيرًا". (¬6) تقدم تخريجه في (124). (¬7) س: "من وطنه".

الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفةٌ في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحدّ عليهم. فإنّه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه [82/ أ] العقوبة، فهو أرحم منكم (¬1)، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنَعْكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة (¬2) من إقامة أمره. وهذا وإن كان عامًّا في سائر الحدود، ولكن ذُكِرَ في حدّ الزنى خاصّةً، لشدّة الحاجة إلى ذكره. فإنّ الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك، فنُهُوا أن تأخذهم هذه الرأفة، وتحملهم على تعطيل حدّ الله. وسبب هذه الرحمة أنّ هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأرذال (¬3)، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق، والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من الناس يعدّ مساعدته طاعةً وقربةً، وإن كانت الصورة المعشوقة محرّمة عليه. ولا يُستنكَر (¬4) هذا الأمر، فهو مستقِرّ عند ما شاء الله من أشباه الأنعام. ولقد حكي لنا من ذلك شيء كثير، أكثرُه عن ناقصي العقول (¬5) كالخدّام والنساء. ¬

_ (¬1) ف: "أرحم بكم منكم بهم". (¬2) "رحمته من أمره ... الرأفة" ساقط من ز. (¬3) ف، ل: "الأراذل". (¬4) س، ف: "لا تستكثر". وفي ل: "لا يستلزم"، تحريف. (¬5) س، ز: "ناقص العقول".

وأيضًا فإنّ هذا ذنبٌ غالبُ ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما ينفّر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له، فتُصوِّر ذلك لنفسها، فيقوم بها رحمةٌ تمنع إقامة الحدّ. وهذا كلّه من ضعف الإيمان. وكمالُ الإيمان أن يقوم به قوة يقيم بها (¬1) أمرَ الله، ورحمة يرحم بها المحدود، فيكون موافقًا لربّه تعالى في (¬2) أمره ورحمته. الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون خلوةً حيث لا يراهما أحد. وذلك أبلغ في مصلحة الحدّ وحكمة الزجر (¬3). وحدّ الزاني المحصن مشتقّ من عقوبة الله سبحانه لقوم لوط بالقذف بالحجارة. وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش، وفي كلّ منهما فساد يناقض (¬4) حكمة الله في خلقه وأمره. فإنّ في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر (¬5) والتعداد. ولأنْ يُقتل المفعولُ به خير له من أن يُؤتى، [82/ ب] فإنّه يَفسد فسادًا لا يرجى له بعده صلاح أبدًا. ويذهب خيره كلّه، وتمُصّ الأرض ماويّة الحياء (¬6) من وجهه، فلا يستحي بعد ¬

_ (¬1) ف: "ضعف الإيمان أن يقوم قوة يقوم بها"، سقط وتحريف. (¬2) "في" ساقطة من ز. (¬3) س: "وحكمته الموجود"! (¬4) ف: "مناقض". (¬5) ف: "المفاسد تفويت الحصين"، تحريف. (¬6) ف: "ماوية وجهه". وكذا وردت "ماوية" في جميع النسخ. وقد ضرب بعضهم في ف على "وية" وكتب فوقها الهمزة، لتقرأ: "ماء وجهه" وكذا فعل بعضهم في خب. و"الماوية" كالمائية نسبة إلى الماء.

مسألة: هل يدخل الجنة مفعول به؟

ذلك لا من الله ولا من خلقه، وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السمّ في البدن (¬1). وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنّةَ مفعول به؟ على قولين سمعتُ شيخ الإِسلام يحكيهما. والذين قالوا: لا يدخل الجنّة، احتجّوا بأمور: منها: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنّة ولد زنية" (¬2). فإذا كان هذا حال ولد الزنى، مع أنه لا ذنب له في ذلك، ولكنّه مظنّة كل شرّ وخبث، وهو جدير أن لا يجيء منه خير أبدًا؛ لأنّه مخلوق من نطفة خبيثة، وإذا كان الجسد الذي تربّى على الحرام، النارُ أولى به، فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام؟ ¬

_ (¬1) الطرق الحكمية (138). (¬2) أخرجه أحمد 3/ 202 (6892) وابن حبان (8/ رقم 3383) والنسائي في الكبرى (4916) والطحاوي في شرح المشكل (914) من طريق الثوري وشيبان وجرير عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابان عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا. ورواه شعبة عن منصور عن سالم عن نبيط بن شريط عن جابان عن عبد الله بن عمرو. أخرجه أحمد (6882) والنسائي في الكبرى (4914) وابن حبان (3384) وغيرهم. قال النسائي: "لا نعلم أحدًا تابع شعبة على نبيط بن شريط". تحفة الأشراف (283/ 6). قال البخاري في تاريخه الكبير (2/ 257) بعد أن ذكر طريق شعبة: "ولم يصح، ولا يعرف لجابان سماع من عبد الله بن عمرو، ولا لسالم من جابان، ولا من نبيط". وقال ابن خزيمة: جابان مجهول. ورواه شعبة من طريق آخر عن ابن عمرو موقوفًا. أخرجه النسائي (4917). ورواه مجاهد، وقد اختلف عليه كثيرًا. انظر تفصيل ذلك عند النسائي في الكبرى وعند أبي نعيم في الحلية (3/ 307 - 309) وتحقيق المسند (11/ 473 - 493،474 - 495).

قالوا: والمفعول به شرّ من ولد الزنى، وأخزى (¬1)، وأخبث، وأوقح (¬2). وهو جدير أن لا يوفَّق لخير، وأن يحال بينه وبينه، وكلّما عمل خيرًا قُيِّض ما يفسده عقوبةً له. وقلّ أن ترى من كان كذلك في صغره إلا وهو (¬3) في كبره شرّ (¬4) مما كان. ولا يوفّق لعلم نافع، ولا عمل صالح، ولا توبة نصوح. والتحقيق في المسألة أن يقال: إن (¬5) تاب المبتلى بهذا البلاء، وأناب، ورُزق توبة نصوحًا وعملًا صالحًا، وكان في كبره خيرًا منه في صغره، وبذَل سيئآته بحسنات، وغسل عارَ ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات، وغضّ بصره، وحفظ فرجه من المحرمات، وصدَق الله في معاملته = فهذا مغفور له، وهو من أهل الجنّة. فإنّ الله يغفر الذنوب جميعًا، وإذا كانت التوبة تمحو كلّ ذنب حتى الشرك بالله، وقتل أنبيائه وأوليائه، والسحر، والكفر، وغير ذلك، فلا تقصُر عن محو هذا الذنب (¬6). وقد استقرّت حكمة الله به (¬7) عدلًا وفضلًا أنّ التائب من الذنب كمن ¬

_ (¬1) زاد بعدها في ف: "وأقبح". (¬2) في ل: "أوسخ"، وأشير في حاشية س إلى هذه النسخة. ولم يرد "أوسخ" أو "أوقح" في ف. (¬3) س: "إلا هو". (¬4) "أشرّ". (¬5) س: "وإن". ف: "المسألة إن". (¬6) وانظر: مجموع الفتاوى (15/ 408). (¬7) "به" لم ترد في ل، ز.

لا ذنب له (¬1)، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس (¬2) والزنى أنّه يبدّل سيئاتِه حسناب (¬3). وهذا حكم عامّ لكلّ تائب من كلّ ذنب (¬4). وقد قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]، فلا يخرج (¬5) من هذا العموم ذنب واحد. ولكن هذا في حقّ التائبين خاصة. وأمّا مفعول به كان في كبره شرًّا مما كان في صغره، لم يوفَّق لتوبة نصوح ولا لعمل صالح، ولا استدرك ما فات، ولا أحيا ما أمات، ولا بدّل السيئات بالحسنات = فهذا بعيد أن يوفَّق عند الممات لخاتمةٍ يدخل بها الجنّة عقوبة له على عمله. فإنّ الله سبحانه يعاقب على السيئة بسيئة أخرى، فتتضاعف (¬6) عقوبة السيئاَت بعضها ببعض (¬7)، كما يثيب على ¬

_ (¬1) هذه المقولة وردت في أحاديث عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ولا يثبت منها شيء. وهي ثابتة عن التابعي الجليل عامر الشعبي، أخرجه وكيع في الزهد (278).انظر تفصيل ذلك في تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة (57 - 63). (¬2) ز: "قتل أنبيائه"، خطأ. (¬3) وذلك في قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70]. (¬4) "من كل ذنب" لم يرد في س. (¬5) ف: "ولا يخرج". (¬6) ل، ز: "وتتضاعف". (¬7) "بعضها ببعض" لم يرد في ل.

كثير من المحتضرين يحال بينه وبين حسن الخاتمة عقوبة على معاصيه

الحسنة بحسنة أخرى (¬1). وإذا نظرت إلى كثير من المحتضَرين وجدتهم يحال بينهم وبيّن حسن الخاتمة (¬2)، عقوبةً لهم على أعمالهم السيئة. قال الحافظ أبو محمَّد عبد الحقّ بن عبد الرحمن الإشبيلي رحمه الله (¬3): "واعلم أنّ لسوء الخاتمة- أعاذنا الله منها- أسبابًا (¬4)، ولها طرق وأبواب، أعظمها: الإكباب على الدنيا، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل. وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة، ونوعِ من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملكَ قلبَه، وسبق عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه (¬5)، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة. فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبيّن له المراد، ولا علم ما أراد، وإن كرّر عليه الداعي وأعاد! ". قال: "ويروى أنّ بعض رجال الناصر (¬6) نزل به الموت، فجعل ابنه يقول: قل: لا إله إلا الله، فقال: الناصر مولاي! فأعاد (¬7) عليه القول، فأعاد مثل ذلك. ثم أصابته غشية، فلمّا أفاق قال: الناصر مولاي. وكان ¬

_ (¬1) "فتتضاعف ... بحسنة أخرى" ساقط من ل. (¬2) س: "بينهم وبيّن الجماعة"! (¬3) في كتاب العاقبة (178 - 180). (¬4) ما عدا س: "أسباب". (¬5) ف، ل: "محنة" وكذا في حاشية س. (¬6) بعده في س كلمة تشبه "بين". (¬7) س: "وأعاد".

هذا دأبه، كلمّا قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: الناصر مولاي (¬1). ثم قال لابنه: يا فلان، الناصر إنّما يعرفك بسيفك، والقتل، القتل (¬2). ثم مات". قال عبد الحق: "وقيل لآخر ممن أعرفه: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا (¬3) فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا". وقال: "وفيما أذن لي [83/ ب] أبو طاهر السِّلَفي أن أحدّث به (¬4) عنه أنّ رجلًا نزل به الموت، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول بالفارسية: دَهْ، يازدَه. تفسيره: عشرة بإحدى عشرة (¬5). وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمّام مِنجاب؟ (¬6) قال: "وهذا الكلام له قصة. وذلك أن رجلًا كان واقفًا بإزاء داره، وكان بابُها يُشبه بابَ هذا الحمّام، فمرّت به جارية لها منظر، فقالت: ¬

_ (¬1) "وكان هذا دأبه ... مولاي" ساقط من ف. (¬2) س: "والقتل والقتل". وفي العاقبة: "فالقتل ثم القتل". (¬3) ف: "افعلوا"، والكلمة ساقطة من ل. (¬4) "به" لم يرد في س. (¬5) ما عدا ف: "بإحدى عشر". وكذا في جميع النسخ مع باء الجرّ. وفي العاقبة: "عشرة، أحد عشر" دون الباء، وهو الصواب. وقال عبد الحق بعد ذكر الحكاية: "كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان فغلب عليه الحساب والميزان". (¬6) انظر ما سبق في ص (216).

أين الطريق إلى حمام مِنجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب. فدخلت الدار، ودخل وراءها. فلمّا رأت نفسَها في داره، وعلمت أنّه قد خدعها، أظهرت له (¬1) البشر والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا، وتقرَّ به عيوننا (¬2). فقال لها: الساعة آتيكِ بكلّ ما تريدين وتشتهين. وخرج، وتركها في الدار، ولم يغلقها. فأخذ ما يصلح، ورجع، فوجدها قد خرجت، وذهبت، ولم تخنه في شيء. فهام الرجل، وأكثر الذكرَ لها، وجعل يمشي (¬3) في الطرق والأزقّة ويقول (¬4): يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تعبت ... كيف الطريق إلى حمّام مِنجاب فبينا هو يومًا يقول ذلك، وإذا بجاريةٍ أجابته من طاق (¬5): قَرْنانُ هلاّ جعلتَ إذ ظفرتَ بها ... حِرزًا على الدار أوقفلًا على الباب (¬6) فازداد هيمانه، واشتدّ هيجانه، ولم يزل على ذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا". قال: "ويروى أن رجلًا (¬7) علِق شخصًا، فاشتدّ كلفه به، وتمكن ¬

_ (¬1) "له " ساقطة من ف. (¬2) ف: "أعيننا". وفي ز: "تُصلح معنا ما نطيّب ... ونقرّ ... ". (¬3) ف: "فجعل يمرّ". (¬4) ف: "وهو يقول". (¬5) ف: "طاق تقول". (¬6) في س: "جعلت سريعًا إذ"، فإن صحت هذه الزيادة، فقولها: "قرنان" لا يكون جزءًا من البيت. والقَرنان: الديوث. (¬7) س: "شخصًا"، وفي حاشيتها: "خ رجلاًَ". وهذا الرجل أحمد بن كليب =

حبّه من قلبه، حتّى وقع لما به (¬1)، ولزم الفراش بسببه. وتمنّع ذلك الشخص عليه، واشتدّ نفاره عنه. فلم تزل الوسائط يمشون بينهما، حتّى وعده أن يعوده. فأُخبِرَ بذلك البائسُ، ففرح، واشتدّ سروره، وانجلى غمّه، وجعل ينتظره للميعاد الذي ضربه (¬2) له. فبينا هو كذلك، إذ جاءه الساعي بينهما، فقال: إنّه وصل معي إلى بعض الطريق، ورجع، فرغبت إليه، وكلّمته، فقال: إنّه ذكرني، وبرّح بي، ولا أدخل مداخل الريب، ولا أعرّض نفسي لمواقِع التهم. فعاودتُه، فأبى، وانصرف. فلمّا (¬3) سمع البائسُ [84/ أ] أُسْقِط في يده، وعاد إلى أشدّ مما كان به (¬4)، وبدت عليه علائم الموت. فجعل يقول في تلك الحال: أسلَمُ، يا راحةَ العليلِ ... ويا شِفا المدنِف النحيلِ ¬

_ = النحوي الشاعر صاحب أبي الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي الجماعة. والقصة أوردها الحميدي في جذوة المقتبس (143) من رواية ابن حزم. وانظر مصارع العشاق (1/ 297)، ومعجم الأدباء (1/ 422). (¬1) كذا في جميع النسخ. وقولهم: "هو لما به" أو "أنا لما بي" تعبير عن حالة مبرّحة من شدّة المرض أو الكرب وهو شائع في كلام المتقدمين. ومن ذلك قول مصقلة بن هبيرة لما سئل عن معاوية رضي الله عنه: "زعمتم أنّه لما به، والله لقد غمزني غمزةَ كاد يحطمني ... " (زهر الآداب 1/ 50). وفي روضة المحبين (484): "وقيل لبثينة: هذا جميل لما به. فهل عندك من حيلة تنفسين بها وجده". ومنه قول ابن زيدون (ديوانه: 50): الله يعلم أنّي ... أصبحتُ فيكِ لما بي وقد أشكلت العبارة على ناشري الكتاب، فغيروها إلى: "ألمّا به". (¬2) س: "ضرب". (¬3) س: داكلما"، تحريف. (¬4) ز: "عليه".

رضاك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليلِ (¬1) فقلت له: يا فلان (¬2)، اتّق الله. قال: قد كان. فقمتُ عنه، فما جاوزتُ باب داره، حتى سمعتُ ضجّةَ الموت (¬3). فعيافًا بالله من سوء العاقبة، وشؤم الخاتمة" (¬4). "ولقد بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تِبْنةً من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنّما أبكي من خوف الخاتمة (¬5) " (¬6). وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبيّن الخاتمة بالحسنى. وقد ذكر الإِمام أحمد (¬7) عن أبي الدرداء أنّه لما احتُضِر جعل يُغمى ¬

_ (¬1) ف: "حبّك أشهى". (¬2) ز: "له فلان". (¬3) ز: "صيحة الموت". (¬4) العاقبة (180). (¬5) ل: "أبكي خوف الخاتمة". (¬6) العاقبة (175). (¬7) في الزهد، وليس في المطبوعة. ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 17) والبيهقي في الشعب (15184) وغيرهما قال الإِمام أحمد: ثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء فذكره. وأخرجه أبو داود في الزهد (212) من طريق الوليد بن مسلم به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (32) وابن أبي شيبة (34596) وابن أبي الدنيا في المحتضرين (126) وابن عساكر في تاريخه (47/ 197، 198) وغيرهم من طريق ابن المبارك عن ابن جابر به بمثله. وهو ثابت صحيح.

عليه، ثم يفيق ويقرأ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: 110]. فمِن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبيّن الخاتمة بالحسنى. قال (¬1): "واعلم أنّ سوء الخاتمة- أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد. وإنّما تكون لمن له فساد في العقيدة (¬2)، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم. فربّما غلب ذلك عليه، حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوِيّة، ويُصطلَم (¬3) قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة. والعياذ بالله". قال: "ويروى أنّه كان بمصر رجل يلزم مسجدًا للأذان والصلاة (¬4)، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقي يومًا المنارةَ على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطّلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها، ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك؟ وما تريد؟ قال: أريدكِ. قالت: لماذا؟ قال: قد سَبَيتِ لُبِّي، وأخذتِ بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة (¬5) أبدًا. قال: أتزوجك. قالت: أنت مسلم، وأنا {84/ ب} نصرانية، وأبي لا يزوجني منك. قال لها: أتنصّر. قالت: إن فعلت أفعل. فتنصّر الرجل ¬

_ (¬1) يعني عبد الحق الإشبيلي. انظر كتاب العاقبة (181). (¬2) ف: "العقائد". ز: "العقد". (¬3) من اصطلمه الموت أو العدوّ: استأصله. (¬4) س: "يلازم المسجد ... ". ف: "يأوي مسجدًا للصلاة والأذان". (¬5) س: "زنية".

فصل: عظم مفسدة اللواط وشدة فحشها

ليتزوجها، وأقام معهم في الدار فلمّا كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار (¬1)، فسقط منه، فمات. فلم يظفر بها (¬2)، وفاته دينه! (¬3) ". فصل ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات. وقد اختلف الناس: هل هو أغلظ عقوبةً من الزنى، أو الزنى أغلظ عقوبةً منه، أو عقوبتهما سواء؟ على ثلاثة أقوال (¬4): فذهب أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد، و [عبيد الله بن] عبد الله بن معمر (¬5)، والزهري، وربيعة بن أبي ¬

_ (¬1) ف: "إلى السطح في الدار". (¬2) "فمات" ساقط من س. وفي ف: "ولم يظفر بها". (¬3) العاقبة (181). وقول المؤلف: "ولقد بكى سفيان الثوري ... " إلى آخر الفصل قد تقدّم في بعض الطبعات- ومنها ط المدني- على قصة ابن كليب. (¬4) وانظر روضة المحبين (504) وذم الهوى (202 - 205)، والمحلى (11/ 380 - 386). والمغني (12/ 348 - 350). (¬5) ف: "عبد الله بن عمر". وفي س: "عبد الله بن عمر ومعمر". وفي ل، ز، خب: "عبد الله بن معمر". وهو تحريف صوابه ما أثبتنا. وكذا في المغني (349/ 12)، ونحوه في مساوئ الأخلاق للخرائطي (459) وذم اللواط للآجري (35) من طريق حماد عن قتادة عن خلاس عن عبيد الله بن معمر. وأخرجه ابن أبي شيبة (28339) وابن أبي الدنيا في الملاهي (158) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبيد الله بن عبد الله بن معمر. وكذا في ذم =

عبد الرحمن (¬1)، ومالك، د سحاق بن راهويه، والإمام أحمد (¬2) في أصحّ الروايتين عنه (¬3)، والشافعي في أحد قوليه- إلى أنّ عقوبته أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل على كلّ حال محصنًا كان أو غير محصن. وذهب عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب (¬4)، وإبراهيم النخعي (¬5)، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي في ¬

_ = الهوى (204) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن جابر بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن معمر. وعبيد الله بن معمر بن عثمان رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. وعبيد الله بن عبد الله بن معمر ابن أخي الأول. وقد يقع الخلط بينهما. انظر الإصابة (5/ 55). (¬1) ف: "ربيعة بن عبد الرحمن"، خطأ. (¬2) س: "أحمد بن حنبل". (¬3) وهي رواية إسحاق الكوسج عنه انظر: مسائله (7/ 3471). وانظر: ذم الهوى (255). (¬4) في ذم الهوى (204) أنه قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن (ص). ومثله في المساوي للخرائطي (454) وذم اللواط للآجري (50). وأخرج عبد الرزاق (13489) عنه أنه قال فيه: "مثل حد الزاني، إن كان محصنًا رجم " - كما نقل المصنف هنا- وفي سنده: الأسلمي، متروك. وابن جريج، مدلس. (ز). (¬5) كذا في ذم الهوى (204). وفيه (205) قول آخر له مثل القول الأول. قال: "لو كان أحد ينبغي أن يرجم مرتين لكان ينبغي للوطي أن يرجم مرتين" (ص). قوله الأول أخرجه عبد الرزاق (13487) وابن أبي شيبة (28333، 28335) والطحاوي في شرح المشكل (9/ 448، 449) والآجري (38) من طريق حماد بن أبي سليمان وأبي معشر عن النخعي قال: "حد اللوطي حد الزاني". والقول الثاني رواه حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي. =

ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، وأبو يوسف ومحمد = إلى أنّ عقوبته وعقوبة الزاني (¬1) سواء. وذهب الحكم (¬2) وأبو حنيفة إلى أنّ عقوبته دون عقوبة الزاني، وهي التعزير. قالوا: لأنّه معصية من المعاصي لم يقدّر الله ولا رسوله فيه حدًّا مقدّرًا، فكان فيه التعزير، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير. قالوا: ولأنّه وطء في محلٍّ لا يشتهيه الطباع (¬3)، بل ركّبها الله تعالى على النفرة منه حتى الحيوان البهيم، فلم يكن فيه حدّ، كوطء الحمار وغيره. قالوا: ولأنه لا يسمّى زانيًا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، فلا يدخل في النصوص الدالّة على حدّ الزانيين. ¬

_ = أخرجه ابن أبي شيبة (28336) والآجري (37،36). قلت: اللفظ الأول أصح، فقد رواه سفيان الثوري وغيره عن حماد بن أبي سليمان. وله قول ثالث وبه قال الحكم بن عتيبة من كبار أصحابه رواه الثوري عن منصور عن النخعي قال: "يضرب دون الحدّ". أخرجه ابن أبي شيبة (28338) وابن حزم في المحلى (11/ 382) وغيرهما، وسنده صحيح. قلت: هذا أصح من حديث حماد بن أبي سليمان وأبي معشر، والله أعلم (ز). (¬1) س: "الزنا". (¬2) هو الحكم بن عُتيبة، عالم أهل الكوفة، من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، مات سنة 132 هـ. سير أعلام البلاء (208/ 5). (¬3) ل: "لا تشتهيه الطبائع".

قالوا: ولأنّا رأينا قواعد الشريعة (¬1) أنّ المعصية إذا كان الوازع عنها طبعيًّا اكتفي بذلك الوازع من الحدّ، وإذا كان في الطباع تقاضيها جعل فيها [85/ أ] الحدّ بحسب (¬2) اقتضاء الطباع لها. ولهذا جعل الحدّ في الزنى والسرقة وشرب المسكر دون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير. قالوا: وطردُ هذا أنّه لا حدّ في وطء البهيمة ولا الميتة. وقد جبل الله سبحانه الطباعَ على النفرة من وطء الرجلِ مثلَه أشدَّ نفرة، كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من يطؤه، بخلاف الزنى فإنّ الداعي فيه من الجانبين. قالوا: ولأنّ أحد النوعين إذا استمتع بشكله لم يجب عليه الحدّ، كما لو تساحقت المرأتان واستمتعت كلّ واحدة منهما بالأخرى. قال أصحاب القول الأول- وهم جمهور الأمة، وحكاه غير واحد إجماعًا للصحابة-: ليس في المعاصي مفسدة أعظم (¬3) من هذه المفسدة، وهي تلي مفسدة الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل، كما سنبيّنه إن شاء الله. قالوا: ولم يبتلِ الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدًا من العالمين، وعاقبهم عقوبةً لم يعاقب بها أمةً غيرهم، وجمع عليهم من ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ إلاّ خا التي فيها: "قالوا: وقواعد الشريعة". وفي ط فايد وعبد الظاهر: "من قواعد". وفي بعض الطبعات المتأخرة: "في قواعد". وقد تقدم تفصيل هذه القاعدة في ص (259). (¬2) ز: "بحيث". (¬3) س: "أشدّ". وأشير في حاشيتها إلى هذه النسخة. وفي ف، ز: "أعظم مفسدة".

أنواع العقوبات من الإهلاك (¬1) وقلب ديارهم عليهم، والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماءة فنكّلَ بهم نكالاَ لم ينكّله بأمّة سواهم. وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض تميد من جوانبها (¬2) إذا عُمِلت عليها، وتهرب الملائكة إلى أقطار السموات والأرض إذا شاهدوها، خشيةَ نزول العذاب على أهلها، فيصيبهم معهم؛ وتعجّ الأرض إلى ربّها تبارك وتعالى، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها. وقتل المفعول به (¬3) خير له من وطئه، فإنّه إذا وطئه الرجل قتله قتلاَ (¬4) لا ترجى الحياة معه؛ بخلاف قتله فإنّه مظلوم شهيد، وربما ينتفع به في آخرته. قالوا: والدليل على هذا أن الله سبحانه جعل حدّ القاتل إلى خِيَرة الوليّ، إن شاء قتل، وإن شاء عفا؛ وحتّم قتل اللوطي حدًّا، كما أجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودلّت عليه سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها، بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين. وقد ثبت عن خالد بن الوليد أنّه وجد في بعض ضواحي العرب رجلًا [85/ أ] يُنكَح كما تُنكَح المرأة، فكتب إلى أبي بكر الصديق، ¬

_ (¬1) ف: "عليهم أنلا العقوبات بين الإهلاك". (¬2) ف: "جوانبهم". (¬3) "به " لم يرد في ف. (¬4) س: "قتلة"، وفي حاشيتها: "خ قتلا". (¬5) "ودلّت ... " إلى هنا ساقط من س.

فاستشار أبو بكر الصحابة رضي الله عنهم، فكان (¬1) علي بن أبي طالب أشدّهم قولًا فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمّةٌ من الأمم واحدة (¬2)، وقد علمتم ما فعل الله بها. أرى أن يُحرَّق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد فحرّقه (¬3). وقال عبد الله بن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية، فيرمى اللوطي منه مُنْكَبًّا (¬4)، ثم يتبع بالحجارة (¬5). وأخذ عبد الله بن عباس هذا الحدّ من عقوبة الله للّوطية قوم لوط. وابن عباس هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ي: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به". رواه أهل السنن (¬6)، وصحّحه ¬

_ (¬1) س: "وكان". (¬2) س: "واحدة من الأمم". (¬3) أخرجه الخرائطي في المساوي (451) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (145) والآجري في ذم اللواط (29) والبيهقي في السنن (8/ 232) وابن حزم في المحلى (11/ 381) وغيرهم من طريق محمَّد بن المنكدر وموسى بن عقبة وصفوان بن سُليم أن خالد بن الوليد ... فذكره. قال البيهقي: هذا مرسل. وقال ابن حزم: فهذه كلها منقطعة ليس منهم أحد أدرك أبا بكر. (¬4) ز: "منكسَا". (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (28328) والعباس الدوري في تاريخه (4/ 329) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (135) والآجري في ذم اللواط (35) والبيهقي (8/ 232) وغيرهم من طريق أبي نضرة قال: سئل ابن عباس: ما حد اللوطي؟ فذكره. وسنده صحيح. (¬6) أخرجه أبو داود (4462) والترمذي (1456) وابن ماجه (2561) وأحمد 1/ 300 (2732) وابن عدي (5/ 116) وابن الجارود (820) والحاكم 4/ 395 (8047) وغيرهم من طريق الدراوردي وسليمان بن بلال عن عمرو بن =

ابن حبان وغيره، واحتجّ الإِمام أحمد بهذا الحديث. وإسناده على شرط البخاري. قالوا: وثبت عنه أنه (¬1) قال: "لعن الله مَن عمِلَ عملَ قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط" (¬2). ولم تجئ عنه لعنة الزاني في (¬3) حديث واحد، وقد لعن جماعة من أهل الكبائر فلم يتجاوز بهم في اللعنة مرة واحدة، وكرّر لعن اللوطية فأكّده ثلاث مرات. ¬

_ =أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره مرفوعًا. قال الترمذي: "وإنما نعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الوجه "- وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وله شاهد". وسئل البخاري عن الحديث فقال: "عمرو بن أبي عمرو صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع عن عكرمة". واستنكر هذا الحديث على عمرو هذا: يحيى بن معين والنسائي وابن عدي. وقال الإِمام الشافعي: "إن صحّ قلتُ به". انظر التلخيص الحبير (4/ 91 - 92). وله طرق عن عكرمة، ولا يثبت منها شيء. وروي عن أبي هريرة وجابر ولا يثبت. (¬1) "أنه" ساقط من ف. (¬2) أخرجه أحمد 1/ 309، 317 (816، 2915،2913) والنسائي في الكبرى (7337) وأبو يعلى (4/ 2539) وابن حبان (4417) والحاكم 4/ 396 (8052) وغيرهم من طريق زهير بن محمَّد وسليمان بن بلال وعبد الرحمن بن أبي الزناد كلهم عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا مطولًا. قال النسائي: "عمرو ليس بالقوي". وانظر الحديث السابق. (¬3) س: "من".

وأطبق أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -على قتله، لم يختلف (¬1) فيه منهم رجلان. وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله (¬2)، فظنّ بعض الناس أنّ ذلك اختلاف منهم في قتله، فحسماها مسألة نزل بين الصحابة وهي بينهم مسألة إجماع (¬3)، لا مسألة نزل. قالوا: ومن تأمّل قوله سبحانه: ({وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]، وقوله في اللواط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80] تبيّن له تفاوتُ ما بينهما. فإنّه (¬4) سبحانه نكّر الفاحشة في الزنى، أي هو (¬5) فاحشة من الفواحش، وعرّفها في اللواط، وذلك يفيد أنّه جامع لمعاني اسم الفاحشة، كما تقول: زيد الرجل (¬6)، ونعم الرجل زيد. أي: أتأتون الخصلة التي استقرّ فحشُها عند كلّ أحد (¬7)؟ فهي لظهور فحشها (¬8) وكماله غنيّة عن ذكرها، بحيث [86/ أ] لا ينصرف الاسم إلى غيرها. وهذا نظير قول فرعون لموسى (¬9): {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] أي: الفعلةَ الشنعاءَ الظاهرة المعلومةَ لكلّ أحد. ¬

_ (¬1) س: "اختلفوا". (¬2) "وإنما ... قتله" ساقط من س. (¬3) س: "بينهم إجماع". (¬4) ف: "وأنّه". (¬5) لم ترد "أي" في ف، ل. وفي ل: "هي". (¬6) في ز: "زيدًا لرجل" كذا مضبوطًا، وهو خطأ. (¬7) "عند" ساقطة من س. (¬8) في س، ل زيادة: "عند كل أحد". (¬9) "لموسى" ساقط من ف. وقد استدركه بعضهم في الحاشية.

ثم أكّد سبحانه بيانَ فحشها (¬1) بانّها (¬2) لم يعملها أحد من العالمين قبلهم، فقال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} (¬3) [الأعراف: 80]. ثم زاد في التأكيد بأن صرّح بما تشمئزّ منه القلوب، وتنبو عنه الأسماع، وتنفر منه أشدَّ النّفرة (¬4) الطباعُ، وهو إتيان الرجل رجلًا مثلَه، ينكحه كما ينكح الأنثى، فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [الأعراف: 81]. ثم نبّه على استغنائهم عن ذلك، وأنّ الحامل لهم عليه ليس إلا مجرد الشهوة، لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى (¬5)، من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع، وحصول المودة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصولِ النسل الذي هو (¬6) حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات، وتحصينِ المرأة وقضاء وطرها، وحصولِ علاقة المصاهرة التي هي أخت النسب (¬7)، وقيامِ الرجال على النساء، وخروجِ أحبّ الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والأولياء والصالحين (¬8)، ومكاثرةِ النبي- صلى الله عليه وسلم - الأنبياءَ بأمّته، إلى غير ذلك من مصالح النكاح. والمفسدةُ التي في اللواط تقاوم ذلك كلَّه، وتُرْبي ¬

_ (¬1) ل، ز: "شأن فحشها".وقد سقطت الكلمة من ف، فاستدركها بعضهم في حاشيتها وكتب: "شأن". (¬2) ف: "بأنه". (¬3) "قبلهم ... " إلى هنا ساقط من س، ز. (¬4) ف: "ينبو ... وينفر ... كل النفرة". (¬5) "إلى" ساقطة من س. (¬6) "هو" لم ترد في س. (¬7) ز: "أحبّ النسب"، تصحيف. (¬8) ما عدا ف: "المؤمنين" مكان "الصالحين". وفي س: "كالأولياء" فلم يرد فيها: "كالأنبياء".

عليه (¬1) بما لا يمكن حصرُ فسادِه، ولا يَعلم تفصيلَه إلا الله. ثم أكّد قبحَ ذلك بأنّ اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر عليها الرجال، وقلبوا الطبيعة التي ركّبها الله في المذكور، وهي شهوة النساء دون شهوة المذكور. فقلبوا الأمر، وعكسوا الفطرة والطبيعة، فأتوا الرجال شهوةَ من دون النساء (¬2). ولهذا قلَب الله سبحانه عليهم ديارَهم، فجعل عاليها سافلها. وكذلك قُلِبوا هم ونُكسُوا (¬3) في العذاب على رؤوسهم (¬4). ثم أكّد سبحانه قبح ذلك بأنْ حكم عليهم بالإسراف، وهو مجاوزة الحدّ، فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 81]. فتأمّلْ هل جاء ذلك أو قريبًا منه في الزنى؟ وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74] ". ثم أكد عليهم الذمّ بوصفين في غاية القبح، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا [86/ب] قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)}. وسمّاهم "مفسدين" في قول نبيّهم: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)} [العنكبوت: 30]. وسمّاهم "ظالمين" في قول الملائكة لإبراهيم: / {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)} [العنكبوت: 31]. ¬

_ (¬1) أي تزيد عليه. وفي ف: "عليها". والكلمة ساقطة من ل. (¬2) "دون شهوة ... النساء" ساقط من س. (¬3) س: "قلبوا ونكسوا". (¬4) "ثم كد قبح ذلك ... رؤوسهم" ساقط من ز.

فتأمّلْ من عوقب بمثل هذه العقوبات، ومن ذمّه الله (¬1) بمثل هذه المذمّات! ولمّا جادل فيهم خليلُه إبراهيمُ الملائكةَ، وقد أخبروه بإهلاكهم، قيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} [هود: 76]. وتأمَّلْ خبثَ اللوطية وفرط تمرّدهم على الله، حيث (¬2) جاؤوا نبيهم لوطًا لمّا سمعوا بأنّه قد طَرَقَه أضيافٌ هم من أحسن البشر صورًا، فأقبل اللوطية إليه (¬3) يهرولون. فلما رآهم قال لهم: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]، ففدى أضيافه ببناته، يزوّجهم بهنّ، خوفًا على نفسه وأضيافه من العار الشديد، فقال: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78]، فردّوا عليه، ولكن ردَّ جبّارٍ عنيدٍ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)} [هود: 79]. فنفث نبيُّ الله نفثةَ مصدور، وخرجَتْ من قلب مكروب عميد (¬4)، فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]. فنفّس له رُسُل الله، وكشفوا له عن حقيقة الحال، وأعلموه أنّهم ليسوا (¬5) ممّن يُوصَل إليهم ولا إليه بسببهم، فلا تخف منهم، ولا تعبأ بهم، وهوِّنْ عليك، فقالوا: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81]، وبشّروه بما جاؤوا به من الوعد له، ولقومه من الوعيد المصيب، فقالوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ¬

_ (¬1) زاد في س: "عليه"، وهو خطأ. (¬2) ز: "حين". (¬3) لم يرد "إليه" في س. (¬4) العميد: الشديد الحزن. (¬5) ل: "أنه ليس".

إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} (¬1) [هود: 81]. فاستبطأ نبي الله موعدَ هلاكهم (¬2)، وقال: أريد أعجل [87/ أ] من هذا، فقالت الملائكة: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}. فوالله ما كان بين هلاك أعداء الله ونجاة نبيّه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر، وإذا بديارهم قد اقتُلِعت من أصولها، ورُفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير. فبرز المرسوم الذي لا يُردّ من عند الربّ الجليل إلى عبده ورسوله جبريل بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل، فقال عزّ من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]. فجعلهم آية للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالًا وسلَفًا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين، وجعل ديارهم بطريق السالكين. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} [الحجر: 75 - 77]. أخذهم على غِرّة وهم نائمون، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فانقلبت (¬3) تلك اللذات آلامًا فأصبحوا بها يعذَّبون: ¬

_ (¬1) وردت الآية في جميع النسخ والطبعات التي بين يدي بتكملتها الآتية فيما بعد، ولعله سهو من النسّاخ، فإن إثباتها هنا مخالف للسياق. (¬2) ل: "أمر موعد هلاكهم". (¬3) ز: "تقلبت".

مآربُ كانت في الحياة لأهلها ... عِذابًا فصارت في الممات عَذابا (¬1) ذهبت اللذّات، وأعقبت الحسرات. وانقضت الشهوة، وأورثت الشقوة. تمتّعوا قليلًا، وعُذِّبوا طويلًا. رتَعوا مرتعًا وخيمًا، فأعقبهم عذابًا أليمًا. أسكرتهم خمرة تلك الشهوة، فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذَّبين. وأرقدتهم تلك الغفلة، فما استيقظوا إلا وهم في منازل الهالكين. فندموا واللهِ أشدَّ الندامة حين لا ينفع الندم. وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم. فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم، وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويقال لهم، وهم على وجوههم يسحبون: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)} [الزمر: 24]، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور: 16]. ولقد قرّب الله سبحانه مسافة العذاب بين هذه الأمة وبيّن إخوانهم في [87/ ب] العمل، فقال مخوِّفًا لهم أن يقع الوعيد: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 83]. فيا ناكحي الذُكرانِ يهنيكم البشرى ... فيومَ معادِ الناس إنّ لكم أجرا كلوا واشربوا وازنُوا ولوطوا وأبشِروا ... فإنكمُ زَفًّا إلى الجنّة الحمرا (¬2) ¬

_ (¬1) ف: "في المعاد" مكان "في الممات". وسيأتي مرة أخرى في ص (548). وقد أنشده المؤلف في طريق الهجرتين (119)، وروضة المحبين (632)، والفوائد (46) وفيها: "كانت في الشباب ... فصارت في المشيب". (¬2) زفَّا: أي تزفون. وفي ف: "فإنّ لكم"، ولعله مغيّر.

فصل: في الرد على من جعل عقوبته دون عقوبة الزنى

فإخوانكمِ قد مهّدوا الدارَ قبلكم ... وقالوا: إلينا عجِّلوا لكم (¬1) البشرى وها نحن أسلاف لكم في انتظاركم ... سيجمعنا الجبَّارُ في ناره الكبرى (¬2) ولا تحسَبوا أنّ الذين نكحتمُ ... يغيبون عنكم بل ترونهمُ جَهْرا ويلعن كلّ منكمُ لخليله ... ويشقَى به المحزونُ في الكرّة الأخرى يعذَّب كلٌّ منهمُ بشريكه ... كما اشتركا في لذّةٍ تُوجِب الوِزْرا فصل في الأجوبة عما احتجّ به من جعل عقوبة هذه الفاحشة دون عقوبة الزنى أما قولهم: إنّها معصية لم يجعل الله فيها حدًّا معيّنًا، فجوابه من وجوه: أحدها: أنّ المبلِّغ عن الله جعل حدَّ صاحبها القتلَ حتفًا، وما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنّما شرعه عن الله. فإنْ أردتم أنّ حدّها غير معلوم بالشرع فهو باطل، وإن أردتم أنّه غير ثابت بنصّ الكتاب لم يلزم من ذلك انتفاء حكمه لثبوته بالسنّة. الثاني: أنّ هذا ينتقض عليكم بالرجم، فإنّه إنما ثبت بالسنّة. فإن قلتم: بل ثبت بقرآن نُسِخَ لفظه وبقي حكمه، قلنا: فينتقض عليكم بحدّ شارب الخمر. الثالث: أن نفي دليل معيّن لا يستلزم نفيَ مطلق الدليل ولا نفيَ ¬

_ (¬1) ت: "فقالوا". (¬2) ل، ز: "أسلافًا". ف: "سيجمعنا الرحمن".

المدلول، فكيف وقد قدّمنا أنّ الدليل الذي نفيتموه غير منتفٍ؟ وأمّا قولكم: إنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، بل ركّب الله الطباع على النفرة منه، فهو كوطء الميتة والبهيمة، فجوابه من وجوه: أحدها: أنّه قياس فاسد إلاعتبار، مردود بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة، كما تقدّم بيانه. الثاني: أنّ قياس وطء الأمرد الجميل الذي فتنتُه تُربي على كلّ فتنة (¬1)، [88/أ] على وطء أتانٍ أو امرأة ميتة، من أفسدِ القياس. وهل تغزّل أحد قطّ بأتان أو بقرة أو ميتة، أو سبى ذلك عقلَ عاشق، أو أسَرَ قلبه، أو استولى على فكره ونفسه؟ فليس في القياس أفسد من هذا. الثالث: أنّ هذا منتقض بوطء الأمّ والبنت والأخت، فإنّ النفرة الطبيعية عنه حاصلة، مع أنّ الحدّ فيه من أغلظ الحدود في أحد القولين، وهو القتل بكل حال محصنا كان أو غير محصن. وهذا إحدى الروايتين (¬2) عن الإِمام أحمد، وهو قول إسحاق بن راهويه وجماعة من أهل الحديث. وقد روى أبو داود (¬3) من حديث البراء بن عازب قال: لقيتُ عمّي ¬

_ (¬1) س: "من كل فتنة"، خطأ. (¬2) ف: "وهو ... ". س: "أحد الروايتين". (¬3) برقم 4457. وأخرجه النسائي (3332) وابن الجارود (681) والدارمي (2285) وغيرهم من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه فذكره. ورواه السدّي وأشعث بن سوار -وقد اختلف عليه- والربيع بن الركين وغيرهم عن عدي عن البراء عن خاله فذكره، بإسقاط (يزيد بن البراء). أخرجه =

ومعه الراية، فقلت: إلى أين تريد (¬1)؟ قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضربَ عنقه، وآخذَ ماله. قال الترمذي: هذا حديث حسن (¬2). قال الجوزجاني: عمّ البراء اسمه الحارث بن عمرو (¬3). وفي سنن ابن ماجه (¬4) من حديث ابن عباس (¬5) قال: قال رسول الله ¬

_ = أحمد (18557، 18578)، 18610) والترمذي (1362) وقال: "حسن غريب"، وابن ماجه (2607) وغيرهم. ورجح أبو حاتم حديث زيد بن أبي أنيسة لزيادته (يزيد بن البراء). انظر العلل لابن أبي حاتم (1207، 1277) وعلل الدارقطني (6/ 20 - 22). والحديث سنده جيد. (¬1) ف: "فقلت: أين تريد". (¬2) في المتن المطبوع مع تحفة الأحوذي: "حسن غريب"، ومثله في نسخة الكروخي (ق/ 98 ب). (¬3) ويقال: إنه خاله. وفي بعض طرق الحديث: "لقيت خالي". وانظر الإصابة (1/ 588). (¬4) برقم (2568). وأخرجه الترمذي (1462) وأحمد في المسند 1/ 300 (2727) والطبري في التهذيب (مسند ابن عباس- 871) والطبراني (11/ رقم 11580) وابن عدي في الكامل (5/ 286) وابن حبان في المجروحين (1/ 110) من طريق إبراهيم بن إسماعيل (ابن أبي حبيبة) عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس مختصرًا ومطولًا. قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن إسماعيل يضعّف في هذا الحديث". وقال أبو حاتم الرازي: "هذا حديث منكر، لم يروه غير ابن أبي حبيبة". العلل (1367). (¬5) ف: "ابن ماجه عن ابن عباس". وفي ط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: "وفي سنن أبي داود وابن ماجه ... " وهو مخالف لجميع النسخ التي بين يديّ، =

- صلى الله عليه وسلم -: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه". ورُفِع إلى الحجاج رجلٌ اغتصب أخته على نفسها، فقال: احبسوه، واسألوا (¬1) مَن ها هنا من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -. فسألوا عبد الله بن مطرِّف، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (¬2): "من تخطّى حُرمَ المؤمنين فخُطُوا وسطه بالسيف" (¬3). ¬

_ = وخطا أيضًا، فإن الحديث المذكور لم يرد في سنن أبي داود. (¬1) ف، ز: "وسَلوا". (¬2) "يقول" ساقط من س، ف. (¬3) أخرجه ابن أبي عاصم (5/ رقم 2817) والبغوي في معجم الصحابة (4/ رقم 1712) وابن قانع في معجم الصحابة (562) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ رقم 1712) والخرائطي في اعتلال القلوب (111) وفي مساوئ الأخلاق (575) والعقيلي في الضعفاء (2/ 201 - 202) وابن عدي في الكامل (3/ 175) وغيرهم من طريق رفدة بن قضاعة عن صالح بن راشد القرشي قال: أُتي الحجاج برجل فذكره. قلت: هذا حديث لا يثبت، لضعف رفدة ولخطئه في الحديث. وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأنه خطأ وغلط. وقال البخاري: لم يصح حديثه (أي حديث صالح بن راشد) وقال مرة: ولم يصح إسناده. وقال ابن منده: غريب. وقال ابن السكن: في إسناده نظر. ويرى أبو زرعة أن الصحيح أنه من فتوى عبد الله بن مطرّف بن الشخِّير. هكذا رواها عنه قتادة وداود بن أبي هند. قلت: هذه الفتوى أخرجها الطبري في التهذيب (مسند ابن عباس 887 - 889) والخرائطي في اعتلال القلوب (112) من طريق قتادة، وابن أبي شيبة (4/ 131 - الإصابة) والطبري في التهذيب (891) من طريق حميد عن بكر بن عبد الله فذكره. وسند الفتوى صحيح. راجع: علل ابن أبي حاتم (1369) والجرح والتعديل (5/ 152 - 153، 182) والتاريخ الكبير للبخاري (4/ 279)، (5/ 34) والإصابة 4/ 131 (4951).

وفيه دليل على القتل بالتوسيط. وهذا دليل مستقِلّ في المسألة، وهو أنّ من لا يباح (¬1) وطؤه بحال فحدُّ وطئه القتل. دليله: من وقع على أمّه وابنته. وكذلك يقال في وطء ذوات المحارم ووطء مَن لا يباح له وطؤه بحال، فكان (¬2) حدّه القتل، كاللوطي. والتحقيق أن يستدلّ على المسألتين بالنصّ. والقياس يشهد لصحة كلّ منهما. وقد (¬3) اتفق المسلمون على أنّ من زنى بذات محرم فعليه الحدّ، وإنّما اختلفوا في صفة الحدّ: هل هو القتل بكل حال، أو حدّه حدّ الزاني؟ على قولين: فذهب الشافعي ومالك وأحمد في إحدى روايتيه (¬4) أنّ [88/ ب] حدّه حد الزاني. وذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث إلى أنّ حدّه القتل بكل حال. وكذلك اتفقوا كلّهم على أنّه لو أصابها باسم النكاح عالمًا- أنه يُحَدّ، إلا أبا حنيفة وحده (¬5)، فإنّه رأى ذلك شبهةً مسقِطةً للحدّ. ومنازعوه يقولون: إذا أصابها باسم النكاح فقد زاد الجريمة غِلَظًا وشدّة، ¬

_ (¬1) س: "لا يباح له". وسقطت "من" من ف. (¬2) س، ز:"وكان". (¬3) لم يرد "وقد" في ف. (¬4) س: "إحدى الروايتين". وفي الحاشية: "روايتيه". (¬5) "وحده" لم يرد في ف، ل.

حكم وطء الميتة

فإنّه ارتكب محذورين عظيمين: محذور العقد، ومحذور الوطء، فكيف تُخفَّف عنه العقوبة بضمّ محذور العقد إلى محذور الزنا؟ وأما وطء الميتة، ففيه قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد وغيره. أحدهما: يجب به الحدّ، وهو قول الأوزاعي، فإنّ فعله أعظم جرمًا وأكثر ذنبًا لأنه انضمّ إلى فاحشته هتكُ حرمةِ الميتة. فصل وأما (¬1) وطء البهيمة، فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّه يؤدَّب (¬2)، ولا حدّ عليه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقول إسحاق. والقول الثاني (¬3): أنّ حكمه حكم الزاني؛ يجلَد إن كان بكرًا، ويرجم إن كان محصنًا. وهذا قول الحسن. والقول الثالث: أنّ حكمه حكم اللوطي. نصّ عليه أحمد، فيخرّج على الروايتين في حدّه: هل هو القتل حتفا، أو هو كالزاني؟ والذين قالوا: حدّه القتل، احتجّوا بما رواه أبو داود (¬4) من حديث ¬

_ (¬1) س: "فأما". (¬2) ف: "أن يؤب". (¬3) ز: "والثاني". (¬4) برقم (4464) وأخرجه الترمذي (1455) والطبري في التهذيب (مسند ابن عباس- 875) والحاكم 4/ 396 (8049) والبيهقي (8/ 233) من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. وهو حديث منكر، تكلم فيه الأئمة كالإمام أحمد والبخاري وأبي داود =

ابن عباس عن النبي- صلى الله عليه وسلم -. "من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها معه". قالوا: ولأنّه وطء لا يباح بحال، فكان فيه القتل كحدّ اللوطي. ومن لم يرَ عليه حدًّا قالوا: لم يصحّ فيه الحديث، ولو صحّ لقلنا به، ولم يحِلّ لنا مخالفته. قال إسماعيل بن سعيد الشالَنجي: سألتُ أحمد عن الذي يأتي البهيمة، فوقف عندها، ولم يُثبِت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك (¬1). وقال الطحاوي: الحديث ضعيف. وأيضًا فراويه (¬2) ابن عباس، وقد أفتى بأنّه لا حدّ عليه (¬3). قال أبو داود: وهذا ¬

_ = والترمذي وغيرهم. وسبب نكارته- كما ذكر أكثر أهل العلم- أن فتوى ابن عباس أن من أتى بهيمة فلا حدّ عليه. وسيأتي تخريجه. ورواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. أخرجه الطبري في التهذيب 1/ 550 (23) والبيهقي (8/ 233) والحاكم 4/ 396 (8050). قلت: وفيه. عباد بن منصور مدلس، فلعله أسقط إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي وهو متروك. قال ابن حبان في المجروحين (2/ 166) في ترجمة عباد بن منصور: "كل ما روى عن عكرمة سمعه من إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين، فدلّسها عن عكرمة". وانظر علل ابن أبي حاتم (1345). (¬1) المغني (12/ 352). (¬2) س، ز: " فرواية"، تحريف. (¬3) "عليه" ساقط من س. (ص). وأخرج قوله أبو داود (4465) والترمذي في السنن (1455) والعلل الكبير (428)، والطبري في التهذيب (867 - 869) والطحاوي في شرح المشكل (9/ 445 - 441) والحاكم 396/ 4 (8051) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (457) والبيهقي (8/ 234) من طريق شعبة والثوري وأبي الأحوص وشريك وأبي بكر بن عياش وأبي عوانة وإسرائيل كلهم عن عاصم بن بهدلة عن أبي رزين عن ابن عباس قال: "من أتى بهيمة فلا حدّ =

فصل: حكم السحاق

يُضعف الحديث. ولا ريب أنّ الزاجر الطبعي عن إتيان البهيمة أقوى من الزاجر الطبعي (¬1) عن التلوّط، وليس الأمران في طباع [89/ أ] الناس سواء، فإلحاق أحدهما بالآخر من أفسد القياس، كما تقدم. فصل وأما قياسكم وطءَ الرجل لمثله على تدالُك المرأتين، فمن أفسَدِ القياس، إذ لا إيلاج هناك، وإنما نظيره مباشرة الرجل الرجل من غير إيلاج، على أنه قد جاء في بعض الآثار المرفوعة: "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (¬2)، ولكن لا يجب الحدّ بذلك لعدم الإيلاج، وإن أُطلِق ¬

_ = عليه". ورواه أبو حنيفة عن عاصم بن عمر عن أبي رزين عن ابن عباس فذكر مثله. أخرجه النسائي في الكبرى (7341) والطحاوي في شرح المشكل (9/ 440) وقال: "هذا غير صحيح، وعاصم بن عمر ضعيف في الحديث". الصواب رواية الجماعة. وعاصم هو ابن بهدلة كما جاء مصرّحًا به في رواية الثوري وأبي الأحوص وأبي عوانة. والأثر حسن الإسناد. وبهذا الأثر أعلّه البخاري والترمذي وأبو داود والطحاوي. (¬1) "عن إتيان ... الطبعي" ساقط من ف. (¬2) أخرجه الآجري في ذم اللواط (17) مختصرًا والبيهقي في الكبرى (8/ 233) من طريق محمَّد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى مرفوعًا فذكره. وأوله: "إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان ... ". قال البيهقي: "ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد". قال ابن التركماني معفبَا على البيهقي: "قلت: هو معروف يقال له المقدسي القشيري، روى عن ... ذكره ابن أبي حاتم في كتابه [الجرح 7/ 325] وقال: ذكره البخاري. وسألت أبي عنه فقال: متروك الحديث، كان يكذب ويفتعل =

حكم التلوط بالمملوك

عليهما اسم الزنى العامّ، كزنى العين واليد والرجل والفم. إذا ثبت هذا فأجمع المسلمون على أنّ حكم التلوط مع المملوك كحكمه مع غيره. ومن ظنّ أنّ تلوط الإنسان بمملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} [المعارج: 30] وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يُستتاب، كما يستتاب المرتد. فإنْ تاب وإلا ضُربت عنقه. وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره في الإثم والحكم. فصل فإن قيل: وهل (¬1) مع ذلك كله من دواءٍ لهذا الداء العُضال، ورقيةٍ لهذا السحر القتّال؟ وما الاحتيال لدفع هذا الخبال؟ ¬

_ =الحديث". وله طريق آخر ذكره البخاري في تاريخه (2/ 81) وابن أبي حاتم في مقدمة الجرح (1/ 342). وأخرجه الآجري في ذم اللواط (16) والطبراني في الأوسط 153/ 3 (4157) والخطيب في تالي تلخيص المتشابه (268) من طريق أبي داود الطيالسي عن بشر بن الفضل عن أبيه عن خالد الحذاء عن أنس بن سيرين عن أبي يحيى عن أبي موسى مرفوعًا: "لا تباشر المرأة المرأة إلا وهما زانيتان ... ". قال الطبراني: "لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو داود. وأبو يحيى الذي روى عنه أنس بن سيرين في هذا الحديث هو معبد بن سيرين". قلت: وقع عند الآجري: "عن أبي يحيى المعرقب". واسمه مصدع. وثقه العجلي، ولم يعرفه ابن معين وتكلم فيه ابن حبان في المجروحين (3/ 39). وقال ابن حجر: مقبول. تهذيب الكمال (28/ 15). والحديث لا يصح. فيه بشر بن الفضل بن الوليد العيزار. قال الأزدي: مجهول. (¬1) س، ل: "فهل".

وهل من طريقِ قاصدِ إلى التوفيق؟ وهل يمكِن السكرانَ بخمرة الهوى أن يفيق؟ وهل يملك العاشق قلبَه، والعشق قد وصل إلى سويدائه؟ وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه (¬1) من سوء دائه؟ إن لامه لائم التذّ بملامه ذكرًا (¬2) لمحبوبه، وإن عذله عاذل أغراه عَذلُه (¬3)، وسار به في طريق مطلوبه. ينادي عليه شاهدُ حاله، بل لسانُ قالِه (¬4): وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ وأهنتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا ... ما من يهون عليكِ ممن يُكرَمُ أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحِبّهم ... إذ كان حظّي منكِ حظّي منهمُ أجد الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حيَّا لذكركِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ (¬5) ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الأول الذي وقع عليه الاستفتاء، والداء الذي طُلِب له الدواء. قيل: نعم، الجواب من رأسِ "وما أنزل الله سبحانه من داءٍ إلا ¬

_ (¬1) ف: "من برئه". (¬2) ف: "ذاكرًا". (¬3) "أغراه عذله" ساقط من س. (¬4) ف: "شاهد حاله بلسان قاله". (¬5) الأبيات لأبي الشيص الخزاعي في ديوانه (151). وقد أوردها المصنف في روضة المحبّين (452)، وانتقدها في طريق الهجرتين (659).

الأول: الطريق المانع من حصوله وهو أمران

أنزل [89/ ب] له دواءً. علمه من علمه، وجهله من جهله" (¬1). والكلام في دواء هذا الداء من طريقين: أحدهما: حَسْم مادّته قبل حصولها. والثاني: قلعها بعد نزولها. وكلاهما يسير على من يسّره الله عليه، ومتعذّر على من لم يُعِنْه، فإنّ أزِمّة الأمور بيديه. فامّا الطريق المانع من حصول هذا الداء، فأمران: أحدهما: غضّ البصر (¬2)، كما تقدّم، فإنّ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. ومَن أطلق لحظاتِه دامت حسراتُه. وفي غضّ البصر عدّة منافع، وهو بعض أجزاء هذا الدواء النافع (¬3). أحدها: أنّه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، فليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربّه تبارك وتعالى. وما سَعِدَ من سَعِدَ في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره (¬4)، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره. الثانية: أنه يمتنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعلّ فيه هلاكه ¬

_ (¬1) تقدّم في أول الكتاب. (¬2) والثاني سيأتي في الفصل القادم. (¬3) "وهو بعض ... النافع" انفردت بها نسخة ف. وانظر في فوائد غض البصر: روضة المحبين (194 - 252)، وإغاثة اللهفان (103 - 106). وانظر ما سبق في آفات النظر في ص (348). (¬4) ز: "أوامر ربه".

إلى قلبه. الثالثة: أنّه يورث القلب أنسًا بالله وجمعية على الله، فإنّ إطلاق البصر يفرّق القلب، ويشتّته، ويُبعده من الله. وليس على العبد شيء أضرّ من إطلاق البصر، فإنّه يوقع الوحشة بين العبد وبيّن ربه. الرابعة: أنه يقوّي القلب ويفرحه، كما أنّ إطلاق البصر يضعفه ويحزنه. الخامسة: أنه يُكسب القلب نورًا، كما أنّ إطلاقه يكسبه (¬1) ظلمة. ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمم بغضّ البصر فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ} [النور: 30]. ثم قال (¬2) إثر ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه. وإذا استنار القلب أقبلت (¬3) وفود الخيرات إليه من كلّ ناحية، كما أنّه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشرّ عليه من كل مكان. فما شئتَ من بدع وضلالة، واتّباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة! فإنّ ذلك إنّما [90/ أ] يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فُقِد (¬4) ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي ¬

_ (¬1) ف: "يلبسه". (¬2) "قال" ساقط من ف. (¬3) ف: "أقبل". (¬4) س: "نفد"، وفي حاشيتها: "خ فقد".

يجوس في حنادس الظلمات. السادسة: أنّه يُورثه فراسةً صادقةً يميّز بها بين المحِقّ والمبطل (¬1) والصادق والكاذب. وكان شجاع الكرماني (¬2) يقول: من عمر ظاهرَه باتباع السنة، وباطنَه بدوام المراقبة؛ وغضّ بصرَه عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشهوات، واغتذى بالحلال = لم تخطئ فراسته. وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة (¬3). والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئًا (¬4) عوّضه الله خيرًا منه، فإذا غضّ بصره عن محارم الله عوّضه الله (¬5) بأن يُطلِق نورَ بصيرته عوضًا عن حبسِه (¬6) بصرَه لله، ويفتحَ عليه (¬7) باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنّما تُنال ¬

_ (¬1) س: "الحق والباطل". ل: "الحق والصادق" فسقط منها: "الباطل". (¬2) كذا في جميع النسخ وروضة المحبين (200). وفي إغاثة اللهفان (105): "أبو شجاع" وفي المدارج (2/ 484) والروح (535): "شاه الكرماني"، وهذا الأخير هو الصواب. فهو أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني. كان من أولاد الملوك وعلماء الصوفية. مات قبل الثلاثمائة. طبقات الصوفية (192). (¬3) انظر حلية الأولياء (10/ 253)، والرسالة القشيرية و (428). وقد نقل المؤلف قول شاه في كتبه المذكورة في التعليق السابق أيضًا. وفي ف: "شيخنا" بدلًا من "شجاع هذا"، وهو غريب. (¬4) ل: "شيئًا لله". (¬5) "خيرًا منه ... عوضه الله" ساقط من س. (¬6) س: "من حبسه". (¬7) س: "وفتح الله عليه".

ببصيرة القلب (¬1). وضدّ هذا ما وصف الله به اللوطية من العمَه الذي هو ضدّ البصيرة، فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعَمَه الذي هو فساد البصيرة. فالتعلّق بالصور يوجب فساد العقل (¬2)، وعَمَه البصيرة، وسُكْر القلب (¬3)، كما قال القائل: سُكْرانِ سُكرُ هوى وسُكرُ مُدامةٍ ... ومتى إفاقةُ مَن به سُكرانِ (¬4)؟ وقال الآخر (¬5): قالوا جُنِنتَ بمن تهوى فقلتُ لهم ... العشقُ أعظم ممّا بالمجانينِ العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه ... وإنّما يُصرَع المجنونُ في الحين (¬6) ¬

_ (¬1) ف: "لا تنال إلا ببصيرة القلب". (¬2) "والعمه الذي هو فساد ... العقل" ساقط من س. (¬3) ز: "سكرة القلب". (¬4) من أبيات للخليع الشامي، في يتيمة الدهر (1/ 271)، وفيه: "أنى يفيق فتَى به سكران". وقد أنشده المؤلف في التبيان (273)، وروضة المحبين (203)، والمدارج (3/ 308). (¬5) س: "آخر". (¬6) أنشدهما المؤلف في روضة المحبين (130، 292)، ونقلهما في إغاثة اللهفان (873) من اعتلال القلوب للخرائطي. وقد نسبهما في الروضة (242) إلى قيس، وهو مجنون ليلى، كما في الأغاني (2/ 32)، ومصارع العشاق (1/ 126، 2/ 181). وانظر ديوانه (218). والرواية: "قالت جننت على رأسي فقلت لها الحب ... " وفي البيت الثاني: "الحب ليس يفيق ... " وكذا في الاعتلال (377)، إلا أن فيه "العشق" مكان "الحب".

السابعة: أنّه يورث القلب ثباتًا وشجاعةً وقوةً، فيجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، كما في الأثر: الذي يخالف هواه يفرَق الشيطان (¬1) من ظلّه (¬2). وضدّ هذا (¬3) تجد في (¬4) المتّبع لهواه من ذلّ النفس ووضاعتها ومهانتها وخِسّتها وحقارتها ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه، كما قال الحسن: إنّهم وإن طقطقت بهم البغال (¬5)، وهَمْلَجَتْ بهم البراذين، إنّ ذُلّ المعصية في رقابهم. أبى الله إلا أن يُذِلّ من عصاه (¬6). وقد جعل الله سبحانه العزّ قرين طاعته، والذلّ قرين معصيته، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. والإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن. وقال تعالى [90/ ب]: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. أي: من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكرِه من الكلم الطيب والعمل الصالح. ¬

_ (¬1) ز: "السلطان"، تحريف. (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 60) عن وهب بن منبه قال: "من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظله". وأخرجه أيضًا (2/ 365) عن مالك بن دينار قال: "من غلب شهوة الحياة الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله". (¬3) ف: "وضده". (¬4) "تجد في" ساقط من ل. (¬5) ف: "النعال"، تصحيف. (¬6) تقدم تخريجه في ص (146).

وفي دعاء القنوت: "إنّه لا يذِلّ من واليتَ، ولا يعِزّ من عاديتَ" (¬1). ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العزّ بحسب طاعته. ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذلّ بحسب معصيته. الثامنة: أنه يسدّ على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنّه يدخل مع النظرة، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثّل له حسنَ (¬2) صورة المنظور إليه، ويزيّنها، ويجعلها صنمًا يعكف عليه القلب. ثم (¬3) يَعِدُه، ويمنّيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه (¬4) حطب المعاصي التي لم يكن يتوصّل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهيب (¬5). فمن ذلك اللهيب (¬6) تلك الأنفاسُ التي يجد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1425، 1426) وابن ماجه (1178) والترمذي (464) وأحمد 1/ 199، 250 (1718، 1721) وابن خزيمة (1095) وابن الجارود (272) والبيهقي (2/ 209) وغيرهم من طريق أبي إسحاق السبيعي ويونس بن أبي إسحاق والعلاء بن صالح عن بُرَيد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي فذكره. وخالفهم شعبة فرواه عن بريد بن أبي مريم به مثله ولم يذكر "في الوتر". أخرجه أحمد 1/ 250 (1723) وابن خزيمة (1096) وابن حبان (722) وغيرهم. والحديث صحيح إلا أن ابن خزيمة طعن في لفظة "في الوتر" أو "في قنوت الوتر"، فليراجع كلامه في صحيحه (1096). (¬2) "حسن" من س. (¬3) "ثم" ساقطة من ل. (¬4) ف: "عليها". (¬5) ل: "اللهب". (¬6) ف، ل: "اللهب".

فيها وهج النار، وتلك الزفَراتُ والحُرُقاتُ. فإنّ القلب قد أحاطت به النيران من كلّ جانب، فهو (¬1) في وسطها كالشاة في وسط التنّور. ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات للصور المحرّمة (¬2) أن جُعِل لهم في البرزخ تنّور (¬3) من نار، وأودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم، كما أراه الله تعالى لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - في المنام في الحديث المتفق على صحته (¬4). التاسعة: أنّه يُفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاقُ البصر يشتّته عن ذلك، ويحول بينه وبينه، فينفرط (¬5) عليه أموره، ويقع في اتّباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه. قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه. العاشرة: أنّ بين العين والقلب منفذًا وطريقًا يوجب انفعال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده. فإذا (¬6) فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب. وكذلك في جانب الصلاح (¬7)، فإذا خربت العين وفسدت [91/ 1] خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي ¬

_ (¬1) س: "فهي"، خطأ. ز: "فهو". (¬2) ف: "والصور المحرمة". (¬3) ف: "تنورًا". (¬4) تقدم في ص (154). (¬5) ف، ل: "فيفرط". ز: "فيتفرّط". (¬6) ف: "وإذا". (¬7) ف: "صلاح العين".

فصل: 2 - اشتغال القلب بما يصده عن ذلك

هي محلّ (¬1) النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والإنس به والسرور بقربه فيه، وإنّما يسكن فيه أضداد ذلك. فهذه إشارة إلى بعض فوائد غضّ البصر تُطْلِعك على ما وراءها. فصل الثاني (¬2): اشتغال القلب بما يصدّه عن ذلك، ويحول بينه وبيّن الوقوع فيه. وهو (¬3) إمّا خوفٌ مقلِق، أو حبٌّ مزعِج. فمتى خلا القلب من خوف ما فواتُه أضرُّ عليه من حصول هذا المحبوب، أو خوفِ ما حصولُه أضرُّ عليه من ذوات هذا المحبوب (¬4)، أو محبةِ ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب وفواتُه أضرّ عليه من ذوات هذا المحبوب = لم يجد بدًّا من عشق الصور. وشرح هذا أنّ النفس لا تترك محبوبًا إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروهٍ حصولُه أضرّ عليها من ذوات هذا المحبوب. وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين إن فُقِدا أو أحدهما لم ينتفع بنفسه: أحدهما: بصيرة صحيحة يفرّق بها بين درجات المحبوب والمكروه، فيؤثر أعلى المحبوبَين على أدناهما، ويحتمل أدنى ¬

_ (¬1) ز: "محمل". (¬2) يعني: الأمر الثاني المانع من حصول داء العشق. (¬3) "وهو" ساقط من ف. (¬4) ف، ز: "ذوات المحبوب". وقد سقط من ل: "أو خوف ما حصوله ... المحبوب".

المكروهَين ليخلص من أعلاهما. وهذا خاصّة العقل، ولا يعدّ عاقلًا من كان بضدّ ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالًا منه. الثاني: قوة عزم وصبر يتمكن بها من هذا الفعل والترك. فكثيرًا ما يعرف (¬1) الرجل قدر التفاوت، ولكن يأبى له ضعفُ نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الأنفع، من جشعه وحرصه ووضاعة نفسه وخسّة همته. ومثل هذا لا ينتفع بنفسه، ولا ينتفع به غيره. وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلا من أهل الصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} (¬2) [السجدة: 24]. وهذا هو الذي ينتفع بعلمه (¬3)، وينتفع به (¬4) الناس. وضدّه لا ينتفع بعلمه، ولا ينتفع (¬5) به غيره. ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه، ولا ينتفع به غيره (¬6). فالأول يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره. والثاني قد طفئ نوره فهو يمشي في الظلمات ومن تبعه في ظلمته [91/ ب]. والثالث يمشي في نوره وحده. ¬

_ (¬1) س: "يعلم". (¬2) من س. وفي النسخ الأخرى: "وجعلناهم أئمة ... "، وهو سهو والتباس بالآية الكريمة 73 من سورة الأنبياء. (¬3) وقع في ف هنا وفيما يأتي: "بعمله". (¬4) ل: "وينفع به". (¬5) ل، ز: "ولا ينفع به". (¬6) "ومن الناس ... غيره " ساقط من ل.

فصل: لا يمكن أن يجتمع في القلب حب المحبوب الأعلى وعشق الصور أبدا

فصل إذا عرفت هذه المقدمة، فلا يمكن أن يجتمع في القلب (¬1) حبّ المحبوب الأعلى وعشق الصور أبدًا، بل هما ضدّان لا يتلاقيان، بل لابدّ أن يُخرج أحدهما صاحبه. فمن كانت قوة حبه كلّها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها، صَرَفه ذلك عن محبة ما سواه. وإن أحبّه (¬2) لم يحبَّه إلا لأجله ولكونه وسيلةً له إلى محبته، أو قاطعًا له عمّا يضادّ محبته وينقضها (¬3). والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، وأن لا يشرك (¬4) بينه وبيّن غيره في محبته. وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يُشرِكَ محِبُّه غيرَه (¬5) في محبته، ويمقته لذلك (¬6)، ويُبعده، ولا يُحظيه بقربه، ويعدّه كاذبًا في دعوى محبته، مع أنّه ليس أهلًا لصرف قوة المحبة إليه، فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده، وكلّ محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال؟ ولهذا لا يغفر الله سبحانه أن يشرَك به في هذه المحبة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فمحبة الصور تفوّت محبةَ (¬7) ما هو أنفع للعبد منها، بل (¬8) تفوّت ¬

_ (¬1) ف: "للقلب". (¬2) س: "فإذا". (¬3) ف، ل: "ينقصها". (¬4) ف: "ولا يشرك". (¬5) س، ف: "محبة غيره". تصحيف. (¬6) س: "كذلك"، تحريف. (¬7) كلمة "محبة" ساقطة من ز. (¬8) "تفوت ... بل" ساقط من ل.

محبة ما ليس له صلاح ولا نعيم ولا حياة نافعة إلا بمحبته (¬1) وحده. فليختر إحدى المحبَّتَين، فإنهما لا تجتمعان في القلب ولا ترتفعان منه. بل من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه بمحبة غيره، فيعذّبه بها في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. فإمّا أن يعذّبه بمحبة الأوثان، أو بمحبة الصُّلبان، أو بمحبة النيران، أو محبة المُرْدان، أو محبة النسوان، أو محبة الأثمان (¬2)، أو محبة العُشراء والخلاّن (¬3)، أو محبة (¬4) ما دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان، فالإنسان عبد محبوبه كائنًا ما كان! كما قيل: أنت القتيل بكلّ من أحببتَه ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي (¬5) فمن لم يكن إلهُه (¬6) مالكَه ومولاه، كان إلهه هواه. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية: 23] ¬

_ (¬1) ز: "لمحبته". (¬2) "أو محبة الأثمان" ساقط من س. وفي ف: "أو بمحبة الإنسان". (¬3) ف: "العشران أو محبة الخلآن". وتحت "العشران" فيها حاشية لم يظهر في التصوير منها إلا: "جمع عشير". (¬4) اضطربت النسخ في إثبات "محبة " أو "بمحبة"، وقد جاءت ثماني مرات. وقد اتبعنا نسخة س. أما غيرها، فقد وردت في ف بالباء في المواضع الستة الأولى، وفي ل، ز في الموضع الأول فقط. (¬5) لابن الفارض في ديوانه (151)، وقد أنشده المؤلف في تهذيب السنن (6/ 181)، وبدائع الفوائد (672)، وروضة. المحبين (162،568) أيضًا. (¬6) ف: "الله".

فصل: خاصية التعبد ومراتب الحب

فصل وخاصية التعبّد (¬1): الحبّ مع الخضوع والذلّ للمحبوب، فمن أحبّ شيئًا وخضع له فقد تعبد قلبه له. بل التعبّد آخر مراتب الحبّ، ويقال له التتيّم أيضًا (¬2). فإنّ أول مراتبه: العلاقة، وسميت "علاقة " لتعلّق القلب (¬3) بالمحبوب. قال (¬4): وعُلِّقتُ ليلى وَهْيَ ذات تمائم ... ولم يبدُ للأتراب من ثديها حَجْمُ (¬5) وقال آخر (¬6): أعلاقةً أمَّ الوُلَيِّدِ بعد ما ... أفنانُ رأسكَ كالثَّغام المُخْلِسِ (¬7) ثم بعدها الصبابة، وسمّيت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب. ¬

_ (¬1) ز: "وخاصة التعبد". س: "وخاصية تعبد". (¬2) عقد المؤلف في مدارج السالكين (3/ 27) فصلًا في مراتب المحبة، وذكر عشر مراتب، أولها العلاقة، وآخرها الخُلّة. وانظر في أسماء الحب واشتقاقها روضة المحبين (95). (¬3) من ش، وكذا في بدائع الفوائد (529)، وروضة المحبين (152)، ومدارج السالكين (3/ 27) وفي النسخ الأخرى: "لتعلق المحب". (¬4) ف: "قال بعضهم". (¬5) لمجنون ليلى في الأغاني (2/ 13) وغيره. انظر ديوانه (186). (¬6) ف، ل: "الآخر". وفي ز ورد البيت الآتي بعد السابق دون فاصل. (¬7) أنشده المصنف في البدائع (256، 529)، والروضة (102)، والمدارج (27/ 3). وهو للمرّار بن سعيد الفقعسي. انظر خزانة الأدب (11/ 232). وفي ف: "بعيد ما". الثغام: نبات أبيض الثمر والزهر، يشبّه به الشيب. المخلِس: الذي بعضه هائج وبعضه أخضر. شبّه به شعره الشميط، وهو الذي اختلط بياضه بالسواد.

قال (¬1): تشكّى المحبّون الصبابةَ ليتني ... تحملتُ مايلقَون من بينهم وحدي (¬2) فكانت لقلبي لذةُ الحبّ كلها ... فلم يلقَها قبلي محبٌّ ولا بعدي (¬3) ثم الغرام، وهو لزوم الحبّ للقلب لزومًا لا ينفكّ عنه. ومنه سمّي الغريم غريفا لملازمته صاحبَه (¬4). ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65]. وقد أولع (¬5) المتأخرون باستعمال هذا اللفظ في الحبّ، وقلّ أن تجده في أشعار العرب. ثم العشق، وهو إفراط المحبة. ولهذا لا يوسف به الربّ تعالى، ولا يطلق في حقّه (¬6). ثم الشوق، وهو سفر القلب إلى المحبوب أحثّ السفر (¬7). وقد جاء إطلاقه في حقّ الرب تعالى (¬8)، كما في مسند الإِمام أحمد (¬9) من ¬

_ (¬1) ف: "وقال بعضهم". (¬2) س: "يشكو". ل: "يشتكي"، وكلاهما تحريف. (¬3) أنشدهما المصنف في روضة المحبين (279،271) لشاعر الحماسة. انظر حماسة أبي تمام (2/ 35) والبيتان لمجنون ليلى في ديوانه (92). (¬4) ف: "لملازمة صاحبه". وهو ساقط من ل. (¬5) ف: "وقد ولع". (¬6) وانظر روضة المحبين (110). (¬7) انظر روضة المحبين (112)، وطريق الهجرتين (713) والمدارج (3/ 53). (¬8) زاد بعض من قرأ نسخة س: "مجازًا" في حوض ياء "تعالى"، وهو تصرف قبيح منه. (¬9) 4/ 264 (18325). وأخرجه النسائي (1306) والطبراني في الدعاء (625) وغيرهم من طريق إسحاق الأزرق وغيره عن شريك القاضي عن أبي هاشم عن =

حديث عمار بن ياسر أنه (¬1) صلّى صلاةً فأوجز فيها، فقيل له في ذلك، فقال: أمَا (¬2) إنّي دعوتُ فيها بدعَواتٍ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهنّ: "اللهم إنّي أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحْيني إذا كانت الحياة خيرًا لي (¬3)، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي. اللهم وَأسالك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحقّ في الغضب والرضا (¬4)، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرةَ عين لا تنقطع، وأسألك بردَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم (¬5)، وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مُضِرّة ولا فتنة مضِلّة. اللهم زينا بزينة الإيمان" واجعلنا هداةً مهتدين". [92/ ب] وفي أثر آخر: "طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشدّ شوقًا" (¬6). ¬

_ = أبي مجلز قال: صلى بنا عمّار، فذكره. ورواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهما عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عمار فذكره. أخرجه النسائي (1305) وابن حبان (1971) والبيهقي في الأسماء والصفات (244) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما. (¬1) ف: "في أنه". (¬2) لم ترد "أما" في ف. وسقط قبلها "قال" من ز. (¬3) "إذا ... لي" ساقط من س. (¬4) س: "في الحق والرضا". (¬5) "الكريم" ساقط من ف. (¬6) أورده المؤلف في طريق الهجرتين (715)، وروضة المحبين (113) وقال فيه: "جاء في أثر إسرائيلي". وقد أخرجه صاحب الفردوس (8067) عن أبي الدرداء، وانظر: إحياء العلوم (4/ 324)، وحلية الأولياء (10/ 96) (ص). =

وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من أحبَّ لقاءَ الله أحبّ الله لقاءَه" (¬1). وقال بعض أهل البصائر (¬2) في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]: لمّا علم الله سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه، وأنّ قلوبهم لا تهدأ دون لقائه، ضرب لهم أجلًا وموعدًا للّقاء تسكن نفوسهم به. وأطيب العيش وألذّه على الإطلاق عيش المحبّين المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها. وهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. ليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار (¬3)، والأبرار والفجار، من طيب المأكل والملبس والمشرب والمنكح؛ بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافًا مضاعفةً. وقد ضمن الله سبحانه لكلّ من عمل صالحًا أن يحييه حياة طيبة، ¬

_ = وأخرجه عبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء (16) عن أحمد بن مخلد الخراساني قال: قال الله عز وجل: ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني إليهم لأشد شوقَا. وما تشوق المشتاقون إلا بفضل شوقي إليهم ... " (ز). (¬1) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الرقاق، باب من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه (6507)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب من أحبّ لقاء الله ... (2683). (¬2) هو أبو عثمان الحيري النيسابوري (298 هـ). انظر الرسالة القشيرية (332). وقد نقل المؤلف قوله في روضة المحبين (113، 581) أيضًا. (¬3) "والكفار" ساقط من ف.

تفسير حديث: ما تقرب إلي عبدي

فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده. وأيّ حياة أطيب من حياة مَن اجتمعت همومه كلّها، وصارت همًّا واحدًا في مرضاة الله، ولَمَّ شعثَ قلبه بالإقبال على الله (¬1)، واجتمعت إراداته وأفكاره التي كانت منقسمةً -بَكل وادٍ منها شعبة- على الله. فصار ذكرُ محبوبه الأعلى، وحبّه، والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه = هو المستولي عليه (¬2). وعليه تدور همومه وإراداته وقصوده (¬3)، بل خطرات قلبه. فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله. وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر. وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن. وبه يحيا، وبه يموت، وبه يبعث؛ كما في صحيح البخاري عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يروي عن ربّه تبارك وتعالى أنّه قال: "ما تقرّب (¬4) إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتّى أحبّه. فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به [93/ أ]، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها (¬5). فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. ¬

_ (¬1) س: "لم يشغب قلبه ... ". ل، خا: "لم يتشغب قلبه ... ". وفي ف: "لم يشغب قلبه بالإقبال على سوى الله تعالى"، وهذا صحيح في المعنى، ولكن رجحنا ما جاء في ز. ويؤيده قول المؤلف في المدارج (3/ 96): "ولا يلمّ شعث القلوب شيء غير الاقبال على الله"، وفيه (3/ 164): "ففي القلب شعثٌ لا يلمّه إلا الإقبال على الله". وانظر ما ياتي في كتابنا هذا (496). وفي ط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: "ولم يتشعب قلبه، بل أفبل على الله"، والظاهر أنه تصلاّف من الناشرين. (¬2) "عليه" ساقط من س. (¬3) "وقصوده" ساقط من ف. (¬4) ف: "وما تقرب". (¬5) ل: "عليها".

ولئن (¬1) سألني لأعطينّه (¬2)، ولئن استعاذني (¬3) لأعيذَنّه. وما تردّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مساءتَه، ولا بدّ له منه" (¬4). فتضمّن هذا الحديث الشريف الإلهي -الذي حرامٌ على غليظِ الطبع كثيفِ القلب فهمُ معناه والمرادِ به- حصرَ أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه، والتقرّب إليه (¬5) بالنوافل. وأخبر سبحانه أنّ أداء فرائضه أحبّ ما تقرّب به إليه (¬6) المتقرّبون، ¬

_ (¬1) ف، ز: "فلئن". (¬2) "فبي يسمع ... عطينه" ساقط من ل. (¬3) س، ز: "استعاذ بي". (¬4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502)، ما عدا قوله: "فبي يسمع ... وبي يمشي". وبهذه الزيادة نقله المؤلف من رواية البخاري في روضة المحبين (554) والمدارج (2/ 413)، وكذا شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 511) وغيره. قال الألباني: "لم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرجين، وقد ذكرها الحافظ في أثناء شرحه للحديث نقلاَ عن الطوفي ولم يعزها لأحد". سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 191). وانظر في شرح الحديث: مجموع الفتاوى (18/ 129). (ص). هذه الرواية ذكرها الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ق 56/ أ، 70/ أ، 190/ أ) بدون سند، فقال: يحقق ذلك حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن جبريل عن ربه جلّ وعزّ قال: "إذا أحببت عبدي كنت سمعه وبصره ولسانه، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يعقل" (ز). (¬5) "إليه" ساقط من ف. (¬6) "به" ساقط من س. وفي ل: "أحبّ إليه مما تقرب به".

ثم بعدها النوافل؛ وأنّ المحبّ لا يزال يُكثر من النوافل حتى يصير محبوبًا لله. فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبةُ الله له محبةً أخرى منه لله، فوق المحبة الأولى (¬1)، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبقَ فيه سعة لغير محبوبه البتّة. فصار ذكر محبوبه وحبّه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه، استيلاءَ المحبوب على محبّه (¬2) الصادقِ في محبته التي (¬3) قد اجتمعت قوى حبّه كلّها له (¬4). ولا ريب أنّ هذا المحبّ إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به. فهو في قلبه (¬5)، ومعه، وأنيسه، وصاحبه. فالباء هاهنا باء المصاحبة (¬6)، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حاليّة لا علمية محضة. وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق (¬7) التي لم يُخلَق لها ولم يُفطَر عليها، كما قال بعض المحبّين: خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيبُ؟ (¬8) ¬

_ (¬1) ف: "محبة الله محبة أخرى هي فوق ... ". (¬2) ف: "حبه". (¬3) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: "الذي". (¬4) "له" ساقط من س. (¬5) "في" ساقطة من س. (¬6) وانظر عدة الصابرين (78 - 79). (¬7) ف: "محبته المخلوق". (¬8) لأبي الحكم ابن غَلِندو الإشبيلي الطبيب. انظر معجم الأدباء (1194). وقد =

وقال اَخر (¬1): ومن عجبِ أنّي أحِنّ إليهم ... وأسأل عنهم مَن لقيتُ وهم معي (¬2) وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلُعي (¬3) وهذا ألطف من قول الآخر: إن قلتُ غبتَ فقلبي لا يصدّقني ... إذ أنت فيه مكان السرَّ لم تغِبِ أو قلتُ ما غبتَ قال الطرف ذا كَذِبٌ ... فقد تحيّرتُ بين الصدق والكذبِ (¬4) فليس شيء أدنى إلى المحبّ من محبوبه، وربما تمكنت منه المحبة حتى يصير أدنى إليه من نفسه، بحيث ينسى نفسه [93/ ب] ولا ينساه (¬5)، كما قال (¬6): ¬

_ = أنشده المصنف في روضة المحبين (155)، وطريق الهجرتين (46)، ومع بيت آخر في مفتاح دار السعادة (1/ 439). وانظر الجواب الصحيح (3/ 336، 368)، ومنهاج السنة (5/ 377). (¬1) ف، ز: "الآخر". (¬2) ز: "ومن عجبي". (¬3) البيتان للقاضي الفاضل في ديوانه (492). وقد أنشده المؤلف في هداية الحيارى (153)، والروضة (100، 385)، والمفتاح (1/ 439)، وشيخه في الرد على البكري (349)، والجواب الصحيح (3/ 336، 368) والمنهاج (5/ 377). (¬4) أنشدهما المصنف في هداية الحيارى (154). (¬5) ف: "بحيث إنه ينسى نفسه ولا ينسى محبوبه". (¬6) س: "قال آخر".

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تمثَلُ لي ليلى بكلّ سبيلِ (¬1) وقال آخر (¬2): يراد من القلب نسيانُكم ... وتأبى الطباعُ على الناقل (¬3) وخصّ في الحديث (¬4) السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، فإنّ هذه الآلات آلات الإدراك، وآلات الفعل، والسمعُ والبصرُ يُوردان على القلب الإرادةَ والكراهةَ، ويجلبان إليه الحبّ والبغض، فيستعمل اليد والرجل. فإذا كان سمعُ العبد بالله وبصرُه بالله كان محفوظًا في آلات إدراكه، وكان (¬5) محفوظًا في حبّه وبغضه، فحُفِظَ في بطشه ومشيه. وتأمَّلْ كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان. فإنّه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة، وكذلك البصرُ قد يقع بغير الاختيار فجأةً (¬6)، وكذلك حركة اليد والرجل التي لابدّ للعبد منها؛ فكيف بحركة اللسان التي لا تقع (¬7) إلا بقصد واختيار، وقد يستغني العبد عنها إلا حيث أُمِر بها؟ وأيضًا فانفعال اللسان عن القلب أتمّ من انفعال سائر الجوارح، فإنّه ترجمانه ورسوله (¬8). ¬

_ (¬1) لكثيّر في ديوانه (252). (¬2) ف: "الآخر". (¬3) للمتنبي في ديوانه (395). (¬4) س: "هذا الحديث". (¬5) "سمع العبد ... وكان" ساقط من ف. (¬6) "فجأة" ساقط من ف. (¬7) س: "الذي لا يقع". (¬8) "ورسوله" ساقط من س.

وتأمَّلْ كيف حقّق تعالى كونَ العبد به عند سمعه وبصره وبطشه ومشيه، بقوله: "كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" تحقيقًا لكونه مع عبده، وكون عبده به، في إدراكاته بسمعه وبصره، وحركاته بيده ورجله؟ وتأمل كيف قال: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش"، ولم يقل: فلي يسمع، ولي يبصر، ولي يبطش؟ (¬1). وربما يظنّ الظانّ أنّ اللام أولى بهذا الموضع، إذ هي أدلّ على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخصّ من وقوعها به. وهذا من الوهم والغلط، إذ ليست الباء ها هنا لمجرّد الاستعانة، فإنّ حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنّما هي بمعونة الله لهم، وإنّما الباء ها هنا للمصاحبة، أي: إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، وأنا صاحبه ومعه (¬2)، كقوله في الحديث (¬3) الآخر: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" (¬4). ¬

_ (¬1) "ولم يقل ... يبطش" ساقط من ل. (¬2) وانظر روضة المحبين (555). (¬3) "الحديث" ساقط من س. (¬4) أخرجه البخاري تعليقًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وفعل النبي- صلى الله عليه وسلم - حيث ينزل عليه الوحي. (ص). أخرجه ابن المبارك في الزهد (956) وأحمد 2/ 540 (10975، 10976) والبخاري في خلق أفعال العباد (436) وابن حبان في صحيحه (815) والطبراني في مسند الشاميين (1417) والبيهقي في الشعب (507،506) وابن عساكر (70/ 50 - 51) من طريق ربيعة بن يزيد الدمشقي وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعي -في الرواية =

وهذه هي (¬1) المعية الخاصّة [94/ أ] المذكورة في قوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "ما ظنّك باثنين الله ثالثهما" (¬2)، وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46] وقوله: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 62]، وقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] (¬3). فهذه الباء مفيدة لمعنى هذه المعية (¬4) دون اللام. ولا يتأتّى للعبد الإخلاص والصبر والتوكّل ونزوله في منازل العبودية إلا بهذه الباء وهذه المعية. فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاقّ، وانقلبت المخاوف في حقّه أمانًا. فبالله يهون كلّ صعب، ويسهل كلّ عسير، ويقرب كلّ بعيد. ¬

_ = الراجحة عنه -ومحمد بن مهاجر كلهم عن إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة ابنة الحَسْحاس المزنية أنها قالت: حدثنا أبو هريرة ونحن في بيت هذه- يعني أم الدرداء- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وهذا سند صحيح، وكريمة تابعية وثقها ابن حبان. (¬1) "هي" ساقط من ز. (¬2) من حديث أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، باب مناقب المهاجرين (3653)؛ ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر (2381). (¬3) وأنظر مجموع الفتاوى (11/ 249). (¬4) ف، ز: "مفيدة لهذه المعية".

وبالله تزول الهموم والغموم (¬1) والأحزان. فلا همّ مع الله، ولا غمّ (¬2)، ولا حزن، إلّا حيث يفوته (¬3) معنى هذه الباء، فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارقَ الماءَ، يَثِب ويتقلّب (¬4) حتى يعود إليه. ولما حصلت (¬5) هذه الموافقة من العبد لربّه في محابّه حصلت موافقة الربّ لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال: "ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنّه" أي: كما وافقني في مرادي بأمتثال أوامري والتقرّب إليّ بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعله به (¬6)، ويستعيذني أن يناله. وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين، حتّى اقتضى تردّدَ الربّ سبحانه؛ في إماتة عبده، لأنّه يكره الموت، والربّ تعالى يكره ما يكرهه عبدُه ويكره مساءتَه؛ فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته. ولكن مصلحته في إماتته، فإنّه ما أماته إلا لِيُحييه، ولا أمرضه (¬7) إلا ليُصِحّه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنّة في صلب أبيه إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، ولم يقل لأبيه: اخرج منها، إلا هو يريد أن يعيده إليها (¬8). ¬

_ (¬1) "الغموم" ساقط من س. (¬2) "ولا غمّ" ساقط من ف. (¬3) ت: "يفوت العبد". (¬4) ف: "ينفلت"، تصحيف. (¬5) "حتى يعود ... " إلى هنا ساقط من ز. (¬6) ف: "سالني". و"به" ساقط من س. (¬7) ل: "وما أمرضه". (¬8) وانظر جواب شيخ الإسلام عن سؤال عن التردد المذكور في الحديث في =

فصل: في التتيم وهو تعبد المحب لمحبوبه

فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كلّ منبِتِ شعرةٍ من العبد محبّة تامّة لله لكان بعضَ ما يستحقّه على عبده: نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأولِ كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزلِ (¬1) فصل ثم التتيُّم، وهو اَخر مراتب الحبّ، وهو تعبّد المحبّ لمحبوبه. يقال: تيّمه الحبّ إذا عبّده. ومنه تَيْم الله، أي عَبْد الله. وحقيقة التعبد: الذلّ والخضوع للمحبوب. ومنه قولهم: "طريق معبّد" أي مذلّل قد ذلّلته الأقدام. فالعبد هو الذي ذلله الحبّ والخضوع لمحبوبه. ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته هي العبودية، فلا منزل له أشرف منها. وقد ذكر الله سبحانه أكرمَ الخلق عليه وأحبَّهم إليه -وهو رسوله محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - بالعبودية في أشرف مقاماته، وهي: مقام الدعوة إليه، ومقام التحدّي بالنبوة، ومقام الإسراء (¬2)، فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن: 19] وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}. ¬

_ = مجموع الفتاوى (18/ 129 - 131). وانظر أيضا (10/ 58 - 59). (¬1) لأبي تمام في ديوانه بشرح التبريزي (4/ 253). (¬2) انظر طريق الهجرتين (18)، ومدارج السالكين (3/ 29)، وشفاء العليل (243)، وروضة المحبين (143) ومفتاح دار السعادة (1/ 110).

أصل الشرك بالله: الإشراك به في المحبة

وفي حديث الشفاعة: "اذهبوا إلى محمّدٍ، عبدٍ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر" (¬1). فنال مقام الشفاعة بكمال عبوديته وكمال مغفرة الله له. والله (¬2) سبحانه خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، التي هي أكمل أنول المحبة، مع أكمل أنواع الخضوع والذلّ. وهذا هو حقيقة الإسلام وملّة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفِه نفسه. قال (¬3) تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 130 - 133]. ولهذا كان أعظم الذنوب عند الله الشرك، [95/ أ]، والله لا يغفر أن يُشرَك به. وأصل (¬4) الشرك بالله الإشراك به في المحبة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا ¬

_ (¬1) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، (7415) وغيره؛ ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها (193). (¬2) ف: "فإنه" مكان "والله ". (¬3) ف: "فقال". (¬4) كلمة "أصل" ساقطة من ل.

أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أنّ من الناس من يشرك به، فيتخذ من دونه ندّا يحبّه كحبّ الله، وأخبر أنّ الذين آمنوا أشدّ حبًّا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم. وقيل: بل المعنى أنّهم أشدّ حبًّا لله من أصحاب الأنداد لله، فإنّهم وإنْ أحبّوا الله، لكن لمّا أشركوا (¬1) بينه وبيّن أندادهم في المحبة ضعفت محبتهم لله (¬2). والموحدون لله لمّا خلصت (¬3) محبتهم له كانت أشدّ من محبة أولئك. والعدل بربّ العالمين والتسوية بينه وبيّن الأنداد هو في هذه المحبة، كما تقدّم. ولما كان مراد الله من خلقه هو خلوص هذه المحبة له أنكر على من اتخذ من دونه وليًّا أو شفيعًا (¬4) غايةَ الإنكار، وجمِع ذلك تارةً، وأفرد أحدهما عن الآخر بالإنكار تارةً، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} (¬5) [السجدة: 4]، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} [الأنعام: 51]. وقال في الإفراد: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا ¬

_ (¬1) ما عدا س: "شركوا". (¬2) "لله" ساقط من ز. (¬3) ز: "والموحدون لما حصلت"، سقط وتحريف. (¬4) ز: "وليا وشفيعًا". (¬5) هذه الآية ساقطة من ز. وجاءت مكانها الآية الثالثة من سورة يونس. وقد وردت كلتاهما في ف. ولاشك أن إيراد الآية المذكورة من سورة يونس في هذا السياق خطا من بعض النساخ، فإئها من مواضع الإفراد لا الجمع.

محبة الله من لوازم العبودية

لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} [الزمر: 43]، وقال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)} [الجاثية: 10]. فإذا والى (¬1) العبد ربَّه وحده أقام له الشفعاء، وعقد الموالاة (¬2) بينه وبيّن عباده المؤمنين، فصاروا أولياءه في الله، بخلاف من اتخذ مخلوقًا وليًّا من دون الله. فهذا لون وذاك لون، كما أنّ الشفاعة الشركية الباطلة لون، والشفاعة الحقّ الثابتة التي إنّما تُنال بالتوحيد لون. وهذا موضع فرقان بين أهل التوحيد وأهل الإشراك. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والمقصود أنّ حقيقة العبودية لا تحصل مع الإشراك بالله في المحبة، بخلاف المحبة لله، فإنّها من لوازم العبودية [95/ ب] وموجَباتها، فإنّ محبة الرسول -بل تقديمه في الحبّ (¬3) على الأنفس (¬4) والآباء والأبناء- لا يتمّ الإيمان إلا بها، إذ محبته من محبة الله. وكذلك كلّ حبّ في الله ولله، كما في الصحيحين عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان"- وفي لفظ في الصحيح: "لايجد حلاوة الإيمان إلا من كان فيه ثلاث خصال-: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرءَ لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه ¬

_ (¬1) ف: "فإن ولى". (¬2) ل: "وعقد له الموالاة". (¬3) "في الحب" ساقط من س. وفي ل: "في المحبة". (¬4) ف: "النفس".

الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار" (¬1). وفي الحديث الذي في السنن: "من أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" (¬2). وفي حديث اَخر: "ما تحابّ رجلان في الله إلا كان أفضلُهما أشدَّهما حبًّا لصاحبه" (¬3). ¬

_ (¬1) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الإيمان، باب حلاوة الإيمان (16)، باللفظ الأول، وفي الأدب، باب الحب في الله (6041) باللفظ الثاني؛ ومسلم في الإيمان، باب خصال من اتصف بمن وجد حلاوة الإيمان (43). (¬2) أخرجه أبو داود (4681) والطبراني (8/ رقم 7737) والبغوي في شرح السنة (13/ رقم 3469) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1618) وغيرهم من طريق يحيى بن الحارث الذماري عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة فذكره مرفوعًا. ورواه عبد الرحمن بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة موقوفًا. أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 145 (34719) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1714). قلت: عبد الرحمن بن يزيد جاء مصرحًا عند اللالكائي بأنه "ابن جابر"، وهو ثقة. والصواب أنه عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وهو ضعيف كما أشار إلى ذلك البخاري وغيره. وروي من طرق أخرى عن يحيى الذماري، ولا تثبت. وورد من حديث معاذ الجهني عند الترمذي (2521) وقال: "حسن"، وأحمد (3/ 438) وفي سنده ضعف. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (544) والطيالسي في مسنده (2166) وابن حبان في صحيحه (566) والبزار في مسنده (13/ رقم 6869) والحاكم 4/ 189 (7321) وغيرهم من طريق مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس مرفوعًا فذكره. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وقال الذهبي: هذا حديث حسن =

فصل: في أنواع المحبة

فإنّ هذه المحبة من لوازم محبة الله وموجَباتها وكلّما كانت أقوى كان أصلها كذلك. فصل وههنا أربعة أنواع من المحبّة يجب التفريق بينها، وإنّما ضلّ من ضلّ بعدم التمييز بينها: أحدها: محبة الله. ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه والفوز بثوابه (¬1)، فإنّ المشركين وعبّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبّون الله. الثاني: محبة ما يحبّه الله (¬2). وهذه هي التي تُدخله في الإسلام، وتُخرجه من الكفر، وأحبُّ الناس إلى الله أقوَمُهم بهذه المحبة وأشدّهم ¬

_ = الإسناد. وتابعه عبد الله بن الزبير الحميدي عن ثابت به ولا يثبت. قلت: رفعه خطا، والصواب أنه من قول مطرف بن عبد الله الشخير. وإليه ذهب الخطيب فرواه حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف قال: "كنا نتحدث أنه ما تحابّ رجلان في الله ... " ذكره الخطيب في تاريخه (9/ 440). ورواه سليمان بن الغيرة عن غيلان بن جرير سمعت مطرفًا يقول: "ما تحاب قوم في الله عز وجل إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبها) فذكرت ذلك للحسن، فقال: صدق. أخرجه أحمد في الزهد (1326) وابن عساكر (194/ 57). قال الدارقطني: "رواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلًا وهو الصواب" العلل (4/ 36 ق/أ). وقد ورد هذا اللفظ عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير وأبي فزارة. أخرجه أحمد في الزهد (2242) وهناد في الزهد (485). (¬1) ف: "بنعيمه". (¬2) ف، ل: "يحب الله".

فصل: في الخلة، وهي تتضمن كمال المحبة ونهايتها

فيها. الثالث: الحبّ لله وفيه. وهي من لوازم محبة ما يحبّ، ولا يستقيم محبة ما يحب إلا بالحبّ فيه وله. الرابع (¬1): المحبة مع الله. وهي المحبة الشركية، وكلّ من أحبّ شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه ندًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين. وبقي قسم خامس: ليس مما نحن فيه، وهو المحبة الطبعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه، كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة (¬2) والولد. فتلك لا تُذَمّ إلا إذا ألهَتْ عن ذكر الله وشغلتْ عن محبته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9] وقال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ [96/أ] وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. فصل ثم الخلّة، وهي تتضمّن (¬3) كمال المحبة ونهايتَها، بحيث لا يبقى في قلب المحبّ سعة لغير محبوبه، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجهٍ ما (¬4). وهذا المنصب خَلَصَ (¬5) لخليلين صلوات الله وسلامه ¬

_ (¬1) ف: "والرابع". (¬2) ل: "ومحبة الزوجة". (¬3) س: "وهو يتضمن". (¬4) "ما" ساقطة من ل. (¬5) ف: "خاص".

عليهما: إبراهيم ومحمد، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا" (¬1). وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله" (¬2). وفي حديث اَخر: "إني أبرأ إلى كلّ خليل من خُلّته" (¬3). ولما سأل إبراهيمُ الولدَ، فأُعطِيَه، وتعلّق حبه بقلبه، فأخذ منه شعبة؛ غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمره بذبحه (¬4). وكان الأمر في المنام، ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاءً وامتحانًا. ولم يكن المقصود ذبح الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه، ليخلص القلب للربّ. فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدّم محبة الله على محبة ولده؛ حصل المقصود، فرُفع الذبح. وفُدي بذبح عظيم، فإنّ الربّ تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله (¬5) رأسًا، بل لابدّ أن يبقى بعضه أو بدَلُه، كما أبقى شرعية الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة، وكما أبقى الخمسَ صلواتٍ بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها ¬

_ (¬1) من حديث جندب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور ... (532). (¬2) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2383). (¬3) أخرجه مسلم في الموضع السابق من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (2383/ 7) ولفظه: "ألا إنّي أبرأ إلى كل خِلّ من خِلّه". (¬4) ف: "بذبح ولده". (¬5) ف: "وأبطله".

فصل: المحبة ليست أكمل من الخلة

وقال: " لا يبدَّل (¬1) القولُ لديَّ، هي خمس، وهي خمسون في الأجر" (¬2). فصل وأما ما يظنّه بعض الغالطين أنّ المحبة أكمل من الخلّة، وأنّ إبراهيم خليل الله (¬3)، ومحمد حبيب الله، فمن جهله. فإنّ المحبة عامة، والخلّة خاصة، والخلّة نهاية المحبة. وقد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنّ الله اتخذه خليلًا، ونفى أن يكون له خليل غير ربّه، مع إخباره (¬4) بمحبته (¬5) لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم (¬6). وأيضًا فإنّ الله (¬7) سبحانه يحبّ التوابين، ويحب المتطهرين، ويحبّ الصابرين، [96/ ب] ويحبّ المحسنين، ويحبّ المتقين (¬8)، ويحب المقسطين. وخُلّته خاصة بالخليلين. والشابّ التائب حبيب الله (¬9). ¬

_ (¬1) ف: "مايبدل". (¬2) "هي خمس و" ساقط من ف. وهو جزء من حديث الإسراء، أخرجه البخاري في أول كتاب الصلاة (349)، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء (163) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬3) "خليل الله" ساقط من ف. (¬4) س: "اختياره"، تصحيف. (¬5) ف، ز: "بحبّه". (¬6) كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أخرجه البخاري (3662)، ومسلم (2384) كلاهما في فضائل الصحابة. (¬7) ف، ز: "وأيضًا فالله". (¬8) "ويحب المتقين" ساقط من ف. (¬9) كذا وقعت هذه الجملة هنا في جميع النسخ، وقد وضعت في ط المدني =

فصل: العاقل يؤئر أعلى المحبوبين وأيسر المكروهين

وإنما هذا (¬1) من قلة العلم والفهم عن الله ورسوله. فصل وقد تقدّم (¬2) أنّ العبد لا يترك ما يحبّه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه (¬3)، لكن يترك أضعفَهما محبةً لأقواهما محبةً؛ كما أنه يفعل ما يكرهه لحصول ما محبتُه أقوى عنده من كراهة ما يفعله، أو لخلاصه من مكروهٍ كراهتُه عنده أقوى من كراهة ما يفعله (¬4). وتقدّم أنّ خاصية العقل (¬5) إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، وأيسر المكروهين على أقواهما. وتقدّم (¬6) أنّ هذا كمال قوة الحب والبغض. ولا يتمّ له هذا إلا بأمرين: قوة الإدراك، وشجاعة القلب. فإنّ التخلّف (¬7) عن ذلك والعمل بخلافه يكون إما لضعف الإدراك بحيث إنّه ¬

_ = وغيرها قبل الجملة السابقة، وهو أقرب. وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بسند ضعيف. وبلفظ "إن الله يحب الشاب التائب". قاله العراقي في تخريج الإحياء (4/ 5). (ص). (¬1) ف: "هذه". (¬2) ف، ز: "قد تقدم" دون الواو. (¬3) "إلا ... يهواه" ساقط من ل. (¬4) "أو لخلاصه ... يفعله" ساقط من س، ل. (¬5) ف: "خاصّة العقل". وفي ز: "خاصة الغفلة إيثارًا المحبوبين"، تحريف وسقط. (¬6) س: "وقد تقدم". (¬7) ف: "المتخلف".

الحب والإرادة أصل كل فعل ومبدؤه

لم يدرك مراتب المحبوب والمكروه على ما هي (¬1) عليه، وإمّا لضعفٍ في النفس وعجزٍ في القلب لا يطاوعه لإيثار الأصلح له، مع (¬2) علمه بأنّه الأصلح. فإذا صحّ إدراكه، وقويت نفسه، وتشجّع (¬3) القلب على إيثار المحبوب الأعلى والمكروه الأدنى، فقد وُفّق لأسباب السعادة. فمن الناس من يكون سلطان شهوته أقوى من سلطان عقله وإيمانه، فيقهر الغالبُ الضعيفَ (¬4). ومنهم من يكون سلطان إيمانه وعقله أقوى (¬5) من سلطان شهوته. وإذا كان كثير من المرضى يحميه الطبيب عما يضرّه، فتأبى عليه نفسه وشهوته إلا تناولَه، ويقدّم شهوته على عقله، وتسميه الأطباء "عديم المروءة"؛ فهكذا أكثر مرضى القلوب يؤثرون ما يزيد مرضَهم لقوة شهوتهم له (¬6). فأصل الشرّ من ضعف الإدراك، وضعف النفس ودناءتها. وأصل الخير من كمال الإدراك، وقوة النفس وشرفها وشجاعتها. فالحبّ والإرادة أصل كلّ فعل ومبدؤه، والبغض والكراهة أصل كلّ ترك (¬7) ومبدؤه. وهاتان القوتان في القلب أصل سعادة العبد وشقاوته. ¬

_ (¬1) س: "ما كان". (¬2) ما عدا ز: "لرفع" وهو تحريف "له مع". (¬3) س: "وشجع". (¬4) ف، ز: "للضعيف". (¬5) "من سلطان عقله ... " ساقط من ل. (¬6) "له" ساقط من ف. (¬7) س: "أصل ترك". وفي ز: "كل شيء" بدلاَ من "كل فعل"، و"كل ترك".

فصل: أعقل الناس من آثر اللذة الآجلة الدائمة على العاجلة الزائلة

ووجود الفعل الاختياري لا يكون إلا بوجود سببه من الحب والإرادة. وأما عدم الفعل فتارةً يكون لعدم مقتضيه وسببه، وتارةً يكون لوجود البغض والكراهة المانع منه. وهذا متعلَّق الأمر والنهي، وهو الذي (¬1) يسمّى الكفّ، وهو متعلّق الثواب والعقاب. وبهذا (¬2) يزول الاشتباه في مسألة الترك، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والتحقيق أنّه قسمان: فالترك المضاف إلى عدم السبب المقتضي عدميّ، والمضاف إلى السبب المانع من الفعل وجودي (¬3). فصل وكل واحد من الفعل والترك الاختياريين إنّما يُؤثره الحيّ لما فيه من حصول المنفعة التي يلتذّ بحصولها، أو زوال الألم (¬4) الذي يحصل له الشفاء بزواله (¬5). ولهذا يقال: شفى صدره، وشفى قلبه. قال: هي الشفاءُ لدائي لو ظفرتُ بها ... وليس منها شفاء ُالداءِ مبذولُ (¬6) وهذا مطفوب يُؤثِره العاقل، بل الحيوان البهيم؛ ولكن يغلط فيه أكثر الناس غلطًا قبيحًا، فيقصد حصول اللذة بما يُعقِب عليه (¬7) أعظمَ ¬

_ (¬1) "الذي" ساقط من ل. (¬2) في س: "بهذا" دون الواو. (¬3) انظر: إغاثة اللهفان (824). (¬4) ل، ز: "وزوال الألم". (¬5) "بزواله ... قال هي" ساقط من ل. (¬6) البيت لهشام بن عقبة، أخي ذي الرمة، وهو من شواهد سيبويه (1/ 71، 177). وانظر مصارع العشاق (2/ 190). (¬7) ف: "على نفسه".

الألم، فيؤلم نفسه من حيث يظنّ أنه يحصّل لذتها، ويشفي (¬1) قلبه بما يُعقب عليه غاية المرض. وهذا شأن من قصَرَ نظره على العاجل، ولم يلاحظ العواقب. وخاصَّةُ العقل: النظر في العواقب (¬2)، فأعقَلُ الناسِ من آثر لذته وراحته الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة، وأسفهُ الخلقِ من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص (¬3) فيها ولا نقص (¬4) بوجهٍ ما، بلذّة منغَّصة مشوبة بالآلام والمخاوف، وهي سريعة الزوال (¬5) وشيكة الانقضاء. قال بعض العلماء (¬6): فكّرتُ فيما يسعى فيه العقلاء، فرأيتُ سعيهم كلّه في مطلوب واحد، وإن اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعهم إنّما يسعون في دفع الهمّ والغمّ عن نفوسهم. فهذا بالأكل والشرب (¬7)، وهذا بالتجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة، وهذا باللهو واللعب. فقلتُ: هذا المطلوب مطلوب العقلاء، ولكن الطرق كلّها غير [97/ ب] موصلة إليه، بل لعل أكثرها إنّما يوصل إلى ضدّه. ولم أر في جميع هذه الطرق طريقًا موصلة ¬

_ (¬1) ل، ز: "يشقي"، تصحيف. (¬2) "وخاصة ... العواقب" ساقط من ل. (¬3) ف: "تنغص". (¬4) "نقص" ساقط من ل. (¬5) "الزوال" ساقط من ز. (¬6) هو ابن حزم، وقد لخص المؤلف كلامه. انظر: الأخلاق والسير (13 - 16). (¬7) "والشرب" ساقط من ف.

فصل: المحبوب قسمان: محبوب لنفسه ومحبوب لغيره

إلا (¬1) الإقبال على الله ومعاملته وحده، وإيثار مرضاته على كلّ شيء. فإنّ سالك هذه الطريق إن فاته حظه من الدنيا فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه، وإن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء. وإن ظفر بحظه من الدنيا ناله على أهنأ الوجوه. فليس للعبد أنفع من هذه الطريق ولا أوصل منها إلى لذته وبهجته وسعادته. وبالله التوفيق. فصل والمحبوب قسمان: محبوب لنفسه، ومحبوب لغيره. والمحبوب لغيره لابدّ أن ينتهي إلى المحبوب لنفسه، دفعًا للتسلسل المحال. وكلّ ما سوى المحبوب الحق فهو محبوب لغيره، وليس شيء يُحَبّ لنفسه إلا الله وحده، وكلّ ما سواه مما يُحَبّ وإنّما محبته تبع لمحبة الربّ تعالى (¬2)، كمحبة ملائكته وأنبيائه وأوليائه، فإنّها تبع لمحبته سبحانه، وهي من لوازم محبته، فإنّ محبة المحبوب توجب محبةَ (¬3) ما يحبّه. وهذا موضع يجب الاعتناء به، فإنّه محلّ فرقان بين المحبة النافعة لغيره، والتي (¬4) لا تنفع، بل قد تضرّ. فاعلم أنّه لا يُحَبّ لذاته إلا مَن كماله من لِوازم ذاته، وإلهيتُه وربوبيته وغناه من لوازم ذاته. وما سواه وإنّما يبغض ويكرَه لمنافاته ¬

_ (¬1) رسمها في ل، ز: "إلى"، وكذا كان في ف، فاصلحه بعض القراء. (¬2) ز: "محبته من محبة الربّ تعالى". (¬3) "محبة" ساقط من ف. (¬4) ف: "والمحبة التي".

ميزان عادل لموالاة الرب ومعاداته

محابَّه ومضادّته لها، وبغضه وكراهته بحسب قوة هذه المنافاة وضعفها، فما كان أشد منافا (¬1) لمحابّه كان أشدّ كراهةً من الأعيان والأوصاف والأفعال والإرادات وغيرها. فهذا (¬2) ميزان عادل يوزن به موافقة الربّ ومخالفته، وموالاته ومعاداته. فإذا رأينا شخصًا يحب ما يكرهه (¬3) الربّ تعالى، ويكره ما يحبّه، علمنا أنّ فيه من معاداته بحسب ذلك. وإذا رأينا الشخص يحبّ ما يحبه (¬4) الربّ، ويكره ما يكرهه، وكلّما كان الشيء أحبّ إلى الربّ كان أحبّ إليه وآثر عنده، وكلما كان أبغض إلى الربّ كان أبغض إليه وأبعد منه = علمنا أنّ فيه من موالاة الربّ بحسب ذلك. فتمسَّكْ بهذا [98/أ] الأصل غاية التمسّك في نفسك وفي غيرك. فالولاية عبارة عن موافقة الولي (¬5) الحميد في محابّه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ولا تمزُّق ولا رياضة. والمحبوب لغيره قسمان أيضًا: أحدهما: ما يلتذّ المحِبّ بإدراكه وحصوله. والثاني: ما يتألّم به (¬6)، ولكن يحتمله (¬7) لإفضائه إلى محبوبه، ¬

_ (¬1) "وضعفها ... منافاة" ساقط من ل. (¬2) ل: "وهذا". (¬3) ز: "يكره". (¬4) "علمنا أن فيه ... يحبه" ساقط من س. (¬5) ل: "المولى"، وأشير إلى هذه النسخة في حاشية س. (¬6) "وحصوله ... به" ساقط من ل. (¬7) "يحتمله" ساقط من ف.

كشرب الدواء الكريه. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]، فأخبر سبحانه أنّ القتال مكروه لهم، مع أنّه خير لهم لإفضائه إلى أعظم محبوب (¬1) وأنفعه. والنفوس تحبّ الراحة والدعة (¬2) والرفاهية، وذلك شرّ لها لإفضائه إلى فوات هذا المحبوب. فالعاقل لا ينظر إلى لذة المحبوب العاجل فيؤثرها، وألم المكروه العاجل فيرغب عنه، فإنّ ذلك قد يكون شرّا له؛ بل قد يجلب عليه غاية الألم، ويفوّته أعظمَ اللذّة. بل (¬3) عقلاء الدنيا يتحمّلون المشاقّ المكروهة لما يُعقِبهم (¬4) من اللذة بعدها، وإن كانت منقطعة. فالأمور أربعة: مكروه يُوصِل إلى مكروه. ومكروه يوصل إلى محبوب. ومحبوب يوصل إلى محبوب. ومحبوب يوصل إلى مكروه (¬5) ¬

_ (¬1) س: "المحبوب". (¬2) ز: "الفُرْغة"، تحريف. (¬3) في ف واو العطف مكان "بل". (¬4) يعني: تحمل المشاقّ. وفي ف: "تعقبهم"، يعني: المشاقّ. (¬5) ف، ز: "ومكروه يوصل إلى محبوب"، وهو خطأ، فقد سبق هذا القسم. وقد =

فالمحبوب الموصل إلى المحبوب قد اجتمع فيه داعي الفعل من وجهين، والمكروه الموصل إلى مكروه قد اجتمع فيه (¬1) داعي الترك من وجهين. بقي القسمان الآخران يتجاذبهما الداعيان، وهما معترك الابتلاء والامتحان. فالنفس تؤثر أقربهما جوارًا منهما، وهو العاجل. والعقل والإيمان يؤثران (¬2) أنفعهما وأبقاهمًا. والقلب بين الداعيين، وهو إلى هذا مرةً، وإلى هذا مرةً. وها هنا محلّ الابتلاء شرعًا وقدرًا. فداعي العقل والإيمان ينادي (¬3) كل وقت: حيَّ على الفلاح، عند الصباح يحمد القومُ السُّرى (¬4)، وفي الممات يحمد العبد ُ التُّقَى. فإن اشتدّ ظلام ليل المحبة، وتحكّم سلطان الشهوة والإرادة يقول (¬5): يا نفس اصبري، فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... [98/ ب] ويذهب هذا كلُّه ويزولُ (¬6) ¬

_ = سقط القسمان الأخيران من ل. (¬1) "داعي الفعل ... فيه" ساقط من ف، ل. (¬2) ما عدا س: "يؤثر" بالإفراد، وهو جيد أيضَا. (¬3) "اوها هنا ... الإيمان" ساقط من س. وفيها: "وإلى هذا ينادي". (¬4) من الأمثال السائرة، يضرب للرجل يحتمل المشقّة رجاء الراحة. مجمع الأمثال (2/ 318). (¬5) جواب إنْ، وكذا جاء مضارعًا مرفوعًا في جميع النسخ. (¬6) أنشده المؤلف في البدائع (672)، ومدارج السالكين (3/ 229)، وروضة المحبين (80). وللبهاء زهير بيت يشبهه، وصدره (ديوانه: 210): وما هي إلا غَيبة ثم نلتقي

فصل: أصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله وأصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله

فصل وإذا كان الحبّ أصل كل عمل من حق وباطل، فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله، كما أنّ أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله. وكلّ إرادة تمنع كمال الحبّ لله ورسوله وتزاحم هذه المحبة، أو شبهةِ تمنع كمال التصديق؛ فهي معارِضة لأصل الإيمان أو مُضْعِفة له. فإنْ قويت حتى عارضت أصلَ الحبّ والتصديق كانت كفرًا وشركًا أكبرَ، وإنْ لم تعارضه قدحتْ في كماله، وأثّرت فيه ضعفا وفتورًا في العزيمة والطلب. وهي تحجب الواصل، وتقطع الطالب، وتنكس الراغب. فلا تصحّ الموالاة إلا بالمعاداة، كما قال تعالى عن إمام (¬1) الحنفاء المحبين أنه قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: 75 - 77]. فلم تصحّ لخليل الله الموالاة (¬2) والخّلة إلا بتحقيق هذه المعاداة فإنّه لا وَلاءَ إلاّ ببراء (¬3)، أو، (¬4) لا وَلاءَ لله إلاّ بالبراءة (¬5) من كل معبود سواه. قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4]. ¬

_ (¬1) "عن إمام" ساقط من ل. (¬2) ما عدا س: "فلم يصحّ ... هذه الموالاة". (¬3) س: "ببراءة". (¬4) ما بين الحاصرتين من خب. (¬5) ف، ز: "بالبراء". وقد ضرب في ز على "إلا ببراء ... لله" لتكون العبارة: "فإنه لا ولاء لله إلا بالبراءة ... ".

وقال تعالى (¬1): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} [الزخرف: 26، 27]. أي جعل هذه الموالاة لله والبراءة (¬2) من كل معبود سواه كلمةً باقيةً في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض. وهي كلمة (¬3) لا إله إلا الله، وهي التي ورّثها إمامُ الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة. وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات. وعليها أُسِّست الملّة، ونُصِبت القبلة، وجُرّدت سيوف الجهاد، وهي محض حقّ الله على جميع العباد. وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذريّة في هذه الدار، والمنجيةُ من عذاب القبر وعذاب النار. وهي المنشور الذي لا يدخل أحد (¬4) الجنةَ إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق (¬5) بسببه. وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام. وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد. وبها انفصلت دار الكفر من دار الإيمان، وتميّزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان. وهي العمود الحامل للفرض والسنّة، "ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنّة" (¬6). ¬

_ (¬1) "وقال تعالى" لم يرد في ف. (¬2) ف: "البراء". (¬3) "كلمة" لم ترد في ف. (¬4) "أحد" ساقط من ز. (¬5) س: "إلّا من تعلق". (¬6) هذا لفظ حديث أخرجه أبو داود (3116) وأحمد 5/ 233 (22034) والبزار في مسنده (2626) والحاكم 1/ 503 (1299) وغيرهم من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل فذكره مرفوعًا. قال الحاكم: "هذا =

روح كلمة لا إله إلا الله

وروح هذه الكلمة وسرّها: إفراد الربّ -جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جدّه، ولا إله غيره- بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء، وتوابع ذلك من التوكل (¬1) والإنابة والرغبة والرهبة. فلا يُحَبَّ سواه، وكلّ ما يُحَبّ غيره وإنّما يحَبّ تبعًا لمحبته وكونِه وسيلةً إلى زيادة محبته. ولا يُخاف سواه ولا يُرجى سواه، ولا يُتوكَّل إلا عليه، ولا يُرغَب إلا إليه، ولا يُرهَب إلا منه، ولا يُحلَف إلا باسمه، ولا ينذَر إلا له، ولا يتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمرُه، ولا يتحسّب إلا به، ولا يستغاث (¬2) في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ (¬3) إلا إليه، ولا يُسجَد إلا له، ولا يُذبَح إلا له وباسمه. ويجتمع ذلك كلّه في حرف واحد، وهو أن لا يَعُبدَ إلا إيّاه بجميع أنواع العبادة، فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة (¬4). ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام ¬

_ = حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ... ". قلت: فيه صالح بن أبي عريب. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان: لا يعرف له حال. وقال ابن حجر: مقبول. تهذيب الكمال (13/ 73). وأخرج مسلم (26) عن عثمان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنّة". (¬1) س: "والتوكل". (¬2) ل: "ولا يستعان". (¬3) ف: "يلجأ". ز: "ملتجأ". (¬4) كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم ... (128)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنّة قطعا (32).

بها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} [المعارج: 33]، فيكون قائمًا بشهادته في ظاهره وباطنه، في قلبه وقالبه. فإنّ من الناس من تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمةً إذا نبهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعةً، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب. وهي في القلب بمنزلة الروح في البدن، فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن. وفي الحديث الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[99/ ب]: "إنّي لأعلم كلمةً لا يقولها عبد ٌ عند الموت إلا وجدتْ روحُه لها رَوحًا" (¬1). فحياة الروح بحياة هذه الكلمة (¬2) فيها، كما أنّ حياة البدن بوجود الروح فيه. وكما أنّ من مات على هذه الكلمة فهو في الجنّة يتقلَّب فيها، فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروِحه تتقلّب في جنة المأوى، وعيشه أطيب عيش. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. فالجنة مأواه يوم اللقاء، وجنّةُ المعرفة والمحبة والإنسِ بالله ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3795) والنسائي في عمل اليوم والليلة (1101) وابن حبان (205). من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن يحيى بن طلحة عن أمه سعدى المرية زوج طلحة بن عبيد الله قالت: مرّ عمر بن الخطاب بطلحة فذكره مطولًا. وسنده صحيح. ورواه مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله سمعت عمر بن الخطاب يقول لطلحة بن عبيد الله فذكره. أخرجه أحمد 1/ 28 (187) وأبو يعلى (645) وغيرهما. وفيه مجالد لين الحفظ، فلعله وهم فيه. والحديث صححه ابن حبان والمؤلف وغيرهما. (¬2) س: "الروح بهذه الكلمة".

والشوقِ إلى لقائه والفرح (¬1) والرضى به وعنه مأوى روحه في هذه الدار. فمن كانت هذه الجنّة مأَواه ها هنا، كانت جنة الخلد مأواه يوم المعاد. ومن حُرِم هذه الجنّة، فهو لتلك أشدّ حرمانًا. والأبرار في النعيم، وإن اشتدّ بهم العيش، وضاقت عليهم الدنيا. والفجار في جحيم، وإن اتسعت عليهم الدنيا. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وطيب الحياة جنة الدنيا. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. فأيّ نعيمٍ أطيبُ من شرح الصدر؟ وأيّ عذابٍ أمرُّ من ضيق الصدر؟ وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 64]. فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشًا، وأنعمهم بالًا، وأشرحهم صدرًا، وأسرّهم قلبًا. وهذه جنة عاجلة قبل الجنّة الآجلة. قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: "حِلَق الذكر" (¬2). ¬

_ (¬1) ل، ز: "الفرح به". (¬2) تقدّم تخريجه في ص (281).

ومن هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة" (¬1). ومن هذا قوله، وقد سألوه عن وصاله في الصوم، فقال: "إنّي لستُ كهيئتكم، إنّي أظَلُّ عند ربّي يطعمني ويسقيني" (¬2). فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ ما يحصل له من الغذاء عند ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسّي، وأنّ ما يحصل له من ذلك أمر يختصّ (¬3) به، لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عن الطعام والشراب فله عنه عوض يقوم مقامه، وينوب منابه، ويغني عنه، كما قيل (¬4): لها أحاديث من ذكراك تَشغلها ... عن الشراب وتُلهيها عن الزادِ لها بوجهك نور تستضيء به ... ومن حديثك في أعقابها حادِ (¬5) إذاشكَتْ من كَلال السيرِ أُوعِدُها ... رَوْحَ اللقاء فتحيا عند ميعادِ (¬6) ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه في ص (282). (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري في الصوم، باب الوصال ... (1964)؛ ومسلم في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم (1105). (¬3) ف، ل: "مختص". وفي ز: "عوض يقوم" مكان "من ذلك أمر"، وهو خطأ. (¬4) أوردها المؤلف في زاد المعاد (2/ 33)، ومفتاح دار السعادة (1/ 185)، وروضة المحبين (165). وهي لإدريس بن أبي حفصة من قصيدة له في إسحاق بن إبراهيم المصعبي. انظر: الأنوار للشمشاطي (1/ 400) وقد ورد فيه وفي المدهش (455)، وديوان المعاني (1/ 63)، والحماسة البصرية (484) البيتان الأولان مع بيت ثالث غير المذكور هنا. (¬5) وفي المدهش: "من نوالك". وفي المصادر الأخرى: "من رجائك". (¬6) في المفتاح والزاد: "روح القدوم".

فصل: لا شيء أنفع للعبد من إقباله على الله

فصل (¬1) وكلّما كان وجود الشيء أنفعَ للعبد وهو إليه أحوج، كان تألّمه بفقده أشدّ. وكلّما كان عدمه أنفع له (¬2) كان تألّمه بوجوده أشدّ (¬3). ولا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره (¬4)، وتنعّمه بحبه، وإيثاره لمرضاته؛ بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور (¬5) ولا بهجة إلا بذلك. فعدمه آلَمُ شيء له، وأشدّه عذابًا عليه. وإنما يغيّب الروحَ عن شهود هذا الألم والعذاب اشتغالُها بغيره، واستغراقها في ذلك الغير، فتغيب به (¬6) عن شهود ما هي فيه من ألم الفوت بفراق أحبِّ شيء إليها وأنفعه لها. وهذا بمنزلة السكران، المستغرقِ في سكره، الذي احترقت (¬7) داره وأمواله وأهله وأولاده، وهو لاستغراقه في السكر لا يشعر بألم ذلك (¬8) الفوت وحسرته، حتى إذا صحا وكُشِف عنه غطاءُ السكر، وانتبه من رقدة الخمر (¬9)، فهو أعلم بحاله حينئذ. ¬

_ (¬1) كلمة "فصل" ساقطة من النسخ المطبوعة. (¬2) "له" ساقط من ل. (¬3) ف: "أنفع وأشد"، وهو غلط. (¬4) "بذكره" ساقط من ز. (¬5) "ولا سرور" ساقط من ز. وزاد في ف بعد "نعيم" و"سرور": "له". (¬6) "عن شهود هذا ... به" ساقط من ف. (¬7) س: "أحرق". (¬8) "ذلك" ساقط من ف. (¬9) س: "رقدته"، وفي الحاشية: "خ رقدة الخمر".

وهكذا الحال سواءٌ عند كشف الغطاء، ومعاينة طلائع الآخرة، والإشراف على مفارقة الدنيا، والانتقال منها إلى الله؛ بل الألم والحسرة والعذاب هناك أشدّ بأضعاف مضاعفة. فإنّ المصاب في الدنيا يرجو جبر مصيبته بالعوض، ويعلم أنّه قد أصيب بشيء زائل لا بقاء له؛ فكيف بمن مصيبته بما لا عوضَ عنه، ولا بدلَ منه (¬1)، ولا نسبة بينه وبيّن الدنيا جميعها؟ فلو قضى الله سبحانه بالموت من هذه الحسرة [100/ أ] والألم لكان العبد جديرًا به، وإنّ الموت لَيعود أعظمَ أمنيته وأكبرَ حسراته. هذا (¬2) لو كان الألم على مجرّد الفوات (¬3)، فكيف وهناك من العذاب على الروح والبدن بأمور أخرى وجودية ما لا يُقدَر قدرُه؟ فتبارك من حمّل هذا الخلق الضعيف هذين الألمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي! فأعرض الآن على نفسك أعظمَ محبوب لك في الدنيا بحيث لا تطيب لك الحياة إلا معه، فأصبحتَ وقد أُخِذ منك، وحيل بينك وبينه، أحوجَ ما كنتَ إليه، كيف يكون حالك؟ هذا، ومنه كلّ عوض، فكيف بمن لا عوض عنه؟ من كلّ شيء إذا ضيّعتَه عوض ... وما من الله إنْ ضيّعتَه عوضُ (¬4) وفي أثر إلهي: "ابنَ آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعَبْ، وتكفّلت برزقك فلا تتعَبْ، ابنَ آدم اطلبْني تجدْني، فإن وجدتَني وجدتَ كلّ شيء، وإن ¬

_ (¬1) ف: "لابدّ منه". (¬2) ف: "وهذا". (¬3) س: "مجرد غاية الفوات". (¬4) تقدم في ص (173).

فصل: أصل السعادة ورأسها محبة الله ومحبة ما أحب

فُتُّك فاتك كلُّ شيء. وأنا أحب إليك من كلّ شيء" (¬1). فصل ولما كانت المحبة جنسًا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف، كان أغلب ما يُذكَر (¬2) فيها في حقّ الله تعالى ما يختصّ به ويليق به من أنواعها، ولا يصلح إلا له وحده، مثل العبادة والإنابة ونحوهما (¬3)؛ فإنّ العبادة لا تصلح إلا له وحده، وكذلك الإنابة (¬4). وقد تذكر المحبة باسمها المطلق، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وأعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبّة مع الله، التي يسوّي المحبّ فيها بين محبته لله ومحبته للندّ (¬5) الذي اتخذه من دونه. وأعظم أنواعها المحمودة: محبة الله وحده، ومحبة ما أحبّ. وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها، التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها. والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها، التي لا يبقي في العذاب إلا أهلها. فأهل المحبة الذين أحبّوا الله، وعبدوه وحده لا شريك له، ¬

_ (¬1) وهو أثر إسرائيلي كما نصّ على ذلك شيخ الإِسلام في الفتاوى (8/ 52). وذكره المصنف في طريق الهجرتين (526،95) ومدارج السالكين (2/ 349، 452)، (3/ 411،324،291). (¬2) ف: "نذكره". (¬3) ز: "ونحوها". (¬4) انظر: إغاثة اللهفان (840). (¬5) س: "محبة الله ومحبة الند".

لايدخلون النار، ومن دخلها منهم بذنوبه فإنّه [101/ أ] لا يبقى (¬1) فيها منهم أحد. ومدار القرآن (¬2) على الأمر بتلك المحبة ولوازمها، والنهي عن المحبة الأخرى (¬3) ولوازمها، وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين، وذكر قصص النوعين، وتفصيل أعمال النوعين وأوليائهم ومعبودِ كليهما وأخباره عن فعله بالنوعين، وعن حال النوعين (¬4) في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. فالقرآن في شأن النوعين. وأصل دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم إنّما هو (¬5) عبادة الله وحده لا شريك له، المتضمّنة لكمال حبّه، وكمال الخضوع والذلّ له، والإجلال والتعظيم، ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى. وقد ثبت في الصحيحين (¬6) من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". وفي صحيح البخاري (¬7) أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ¬

_ (¬1) ف: "دخلها بذنوبه لا يبقى". (¬2) انظر: إغاثة اللهفان (840). (¬3) ف: "تلك المحبة الأخرى". (¬4) "وأوليائهم ... النوعين" ساقط من ف، ل. (¬5) ف: "هي". (¬6) أخرجه البخاري في الإيمان، باب حب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الإيمان (15)؛ ومسلم في الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... (44). (¬7) في الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (6632). من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه.

يا رسول الله، واللهِ (¬1) لأنتَ أحبُّ إليّ من كلّ شيء إلا من نفسي. فقال: "لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك". فقال: والذي (¬2) بعثك بالحق لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي. قال: "الآن يا عمر". فإذا كان هذا شأنَ محبّة عبده ورسوله، ووجوب تقديمها على محبّة نفس الإنسان وولده ووالده والناس أجمعين، فما الظنّ بمحبة مُرسِله سبحانه وتعالى ووجوبِ تقديمها على محبة ما سواه؟ ومحبة الربّ تعالى تختصّ عن محبة غيره في قدرها وصفتها وإفرادِه سبحانه بها. فإنّ الواجب له من ذلك أن يكون أحبَّ إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهُه الحقّ ومعبودُه أحبَّ إليه من ذلك كلّه. والشيء قد يُحَبّ من وجه دون وجه (¬3)، وقد يُحَبّ لغيره. وليس شيء يُحَبّ لذاته من كلّ وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والتألّه (¬4) هو المحبة، والطاعة، والخضوع (¬5). ¬

_ (¬1) لم يرد "والله". في ف. وفي ل: "والله يا رسول الله لأنت". (¬2) س: "قال: فوالذي". ز: "فقال: فوالذي". (¬3) "دون وجه" ساقط من ل. (¬4) ل، ز: "والثالثة"، تصحيف طريف. (¬5) انظر: إغاثة اللهفان (845).

فصل: كل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة

فصل وكلّ حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة، فهي علّتها الفاعليّة [101/ ب] والغائية (¬1). وذلك لأنّ الحركات ثلاثة أنواع: حركة اختيارية إرادية، وحركة طبيعية، وحركة قسرية. والحركة الطبيعية (¬2) أصلها السكون، وإنّما يتحرّك الجسم إذا خرج عن مستقرّه ومركزه الطبيعي (¬3)، فهو يتحرك للعود إليه. وخروجه عن مركزه ومستقره إنما هو بتحريك القاسر المحرِّك له. فله حركة قسرية بمحرِّكه (¬4) وقاسره، وحركة طبيعية بذاته يطلب بها العود إلى مركزه. وكلا حركتيه (¬5) تابعة للقاسر المحرِّك، فهو أصل الحركتين. والحركة الاختيارية الإرادية هي (¬6) أصل الحركتين الأخريين، وهي متابعة للإرادة والمحبة، فصارت الحركات الثلاث تابعةً للمحبة والإرادة. ¬

_ (¬1) انظر: روضة المحبين (146)، "الباب الرابع في أنّ العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها، وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات االملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحبّ". وانظر: إغاثة اللهفان (824، 827، 837). (¬2) ز: "فالحركة الطبيعية". (¬3) ف: "الطبعي". (¬4) س: "بتحريك محركه". وفي ف: "محركةٌ وقاسرةٌ"، خطأ. وكذا في ل دون ضبط. (¬5) الوجه: "كلتا حركتيه" ولكن كذا في جميع النسخ، وله نظائر في كتب المؤلف. (¬6) "أصل الحركتين ... هي" ساقط من ل.

من تمام الإيمان للملائكة

والدليل (¬1) على انحصار الحركات في هذه الثلاث أنّ المتحرك إن كان له شعور بالحركة فهي الإرادية، وإن لم يكن له شعور بها، فإما أن تكون على وفق طبعه أو لا. فالأولى هي الطبيعية (¬2)، والثانية القسرية. إذا ثبت هذا، فما في السموات والأرض وما بينهما من حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنبات وحركات الأجنّة في بطون أمهاتها، وإنّما هي بواسطة الملائكة المدبّرات أمرًا والمقسمَات أمرًا، كما دلّ على ذلك نصوص القرآن والسنة في غير موضع. والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة، فإن الله وكّل بالرحم ملائكة، وبالقَطْر ملائكة، وبالنبات (¬3) ملائكة، وبالرياح، وبالأفلاك، وبالشمس والقمر والنجوم. ووكّل بكل عبد أربعة من الملائكة: كاتبَين على يمينه (¬4) وشماله، وحافظَين من بين يديه ومن خلفه. ووكّل ملائكةً بقبض روحه وتجهيزها إلى مستقرّها من الجنّة أو النار (¬5)، وملائكةً بمسألته وامتحانه في قبره وعذابه هناك أو نعيمه (¬6)، وملائكةً تسوقه إلى المحشر إذا قام من قبره، ¬

_ (¬1) انظر: الصفدية (175). (¬2) ف: "المطبعية". (¬3) س، ف: "والنبات". (¬4) ف: "ملائكة ... عن يمينه". (¬5) ما عدا س: "والنار". (¬6) ف، ل: "ونعيمه". وقد سقط "هناك" من ف.

وملائكة بتعذيبه في النار أو نعيمه (¬1) في الجنّة. ووكّل بالجبال ملائكة، وبالسحاب ملائكةً تسوقه حيث أُمِرَتْ به، وبالقَطْر ملائكة تُنزله بأمر الله بقدر معلوم كما شاء الله، ووكّل ملائكةً بغرس الجنّة [102/ أ] وعمل آلتها (¬2) وفرشها وبنائها (¬3) والقيام عليها، وملائكةً بالنار كذلك. فأعظم جند الله الملائكة. ولفظ "الملَك" يُشعِر بأنّه رسول منفّذ لأمر غيره وليس (¬4) لهم من الأمر شيء، بل الأمر كلّه لله. وهم يدبّرون الأمر، ويقسّمونه بأمر الله وإذنه. قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم: 26]. وأقسم سبحانه بطوائف الملائكة المنفّذين لأمره في الخليقة، كما قال: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} [الصافات: 1 - 3] وقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 1 - 5]. ¬

_ (¬1) ل: "بنعيمه". ف: "ونعيمه". (¬2) ف: "وعمارتها"، والظاهر أنّه مغيّر. (¬3) ز: "وثيابها"، ولعله تصحيف. (¬4) ف، ز: "فليس".

فصل: لا صلاح للموجودات إلا يكون حركاته ومحبتها لفاطرها وحده

وقد ذكرنا معنى ذلك وسرّ الإقسام به في كتاب "أيمان القرآن" (¬1). وإذا (¬2) عُرف ذلك فجميع تلك المحبّات والحركات والإرادات والأفعال هي عبادةٌ منهم لربّ الأرض والسماوات، وجميع الحركات الطبيعية (¬3) والقسرية تابعةٌ لها. فلولا الحبّ ما دارت الأفلاك، ولا تحركت الكواكب النيّرات (¬4)، ولا هبّت الرياح المسخَرات، ولا مرّت السُّحُب الحاملات، ولا تحرّكت الأجنّة في بطون الأمهات، ولا انصاع عن الحَبّ أنواع النبات، ولا اضطرَبت أمواج البحار الزاخرات، ولا تحركت (¬5) المدبّرات والمقسّمات، ولا سبّحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات، وما فيها (¬6) من أنواع المخلوقات. فسبحان من (¬7) تسبّحه السماوات السبع والأرض ومن فيهنّ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44]. فصل إذا عُرف (¬8) ذلك فكل حي له إرادة ومحبة وعمل بحسبه، وكل متحرّك فاصل حركته (¬9): المحبة والإرادة. ولا صلاح للموجودات إلا ¬

_ (¬1) وهو المطبوع بعنوان "التبيان في أقسام القرآن"، انظر ص (83، 89. 258). (¬2) ف: "وإذ". (¬3) ف: "المطبعية". (¬4) "النيرات" ساقط من س. (¬5) "الأجنّة ... تحركت" ساقط من س. (¬6) ف، ز: "فيهما". (¬7) "من" ساقط من س. (¬8) س: "عرفت". ل: "وإذا عرف". (¬9) س: "حركاته".

بأن تكون حركاتها (¬1) ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده، كما لا وجود لها إلا بإبداعه (¬2) وحده. ولهذا قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ولم يقل سبحانه: لَما وُجدتا ولكانتا معدومتين، ولا قال (¬3): لَعُدِمتا، إذ هو سبحانه قادر على أن يُبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة، إلا بأن يكون الله وحده هو (¬4) معبودَهما ومعبودَ ما حَولاه وسكن فيهما. فلو كان للعالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإنّ كلّ إله كان يطلب مغالبةَ الآخر، والعلوَّ عليه، وتفرّدَه دونه بالإلهية؛ إذ الشرك نقص ينافي كمال الإلهية، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلهًا ناقصًا. فإن قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده، والمقهور ليس بإله. وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجزُ كلّ منهما ونقصُه، ولم يكن تامَّ الإلهية، فيجب أن يكون فوقهما إله قاهر لهما، حاكم عليهما، وإلا ذهب كلّ منهما بما خلق، وطلب كل منهما العلوّ على الآخر. وفي ذلك فساد أمر (¬5) السماوات والأرض ومن فيهما (¬6)، كما هو المعهود من فساد البلد إذا كان فيه ملِكان متكافئان (¬7)، وفساد الزوجة إذا كان لها ¬

_ (¬1) س: "حركته"، ولعله مغيّر. (¬2) ف: "بدعائه"، تحريف. (¬3) "قال" لم يرد في ف. (¬4) ل: "وهو". ز: "وحده ومعبودهما". (¬5) ز: "فساد أهل". (¬6) ل: "فيهنّ". (¬7) ما بعده إلى "فحلان" لم يرد في س.

بعلان، والشَّوْل (¬1) إذا كان فيه (¬2) فحلان. وأصل فساد العالم إنّما هو من اختلاف الملوك والخلفاء. ولهذا لم يطمع أعداء الإِسلام فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدّد ملوك المسلمين واختلافهم وانفراد كل (¬3) منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلوّ على بعض. فصلاح السماوات والأرض (¬4) واستقامتهما وانتظام أمر المخلوقات على أتمّ نظام من أظهر الأدلّة على أنه لا إله إلا الله (¬5) وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وأنّ كل معبود من لدن عرشه (¬6) إلى قرار أرضه باطل إلا وجهَه الأعلى. قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 91، 92] (¬7). وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا ¬

_ (¬1) الشَّوْلُ: النُّوق التي خفّ لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، الواحدة شائلة. واما الشائل بلا هاء فهي الناقة التي تشول بذنَبها لِلقِّاح ولا لبن لها أصلاًَ، والجمع شُوَّلٌ. انظر: الصحاح (شول). (¬2) كذا ورد في النسخ وطبعات الكتاب، وكلمة "الشَّوْل" مؤنثة وكذا "الشُّوَّل". (¬3) ل: "كل واحد". (¬4) "والأرض" ساقط من ز. (¬5) ف: "إلا هو". (¬6) ف: "من عرشه". (¬7) وانظر الصواعق المرسلة (463).

آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ [103/أ] رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 22، 23]. وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42]. فقيل: المعنى: لابتغَوا السبيلَ إليه بالمغالبة والقهر، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. ويدل عليه قوله في الآية الأخرى: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [المؤمنون: 91]. قال شيخنا (¬1): والصحيح أنّ المعنى: لابتغوا إليه سبيلًا بالتقرّب إليه وطاعته، فكيف تعبدونهم من دونه، وهم لو كانوا آلهةً كما تقولون لكانوا عبيدًا له؟ قال: ويدلّ على هذا وجوه: منها: قوله تعالي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57]. أي هؤلاء الذين تعبد ونهم من دوني هم (¬2) عبادي، كما أنتم عبادي (¬3)، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، فلماذا تعبدونهم دوني؟ (¬4) الثاني: أنّه سبحانه لم يقل: لابتغوا عليه سبيلًا، بل قال: لابتغوا ¬

_ (¬1) يعني شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. وانظر: مجموع الفتاوى (16/ 577)، ودرء التعارض (9/ 350)، ورسالة في قنوت الأشياء (23). (¬2) "هم" من ف، ز. (¬3) "كما أنتم عبادي" ساقط من س. (¬4) ف، ل: "من دوني". وانظر: الصواعق (463).

إليه سبيلًا. وهذا اللفظ إنّما يستعمل في التقرب، كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. وأما في المغالبة وإنّما يستعمل بعَلَى كقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]. الثالث: أنهم لم يقولوا: إنّ آلهتهم تغالبه وتطلب العلوّ عليه، وهو سبحانه قد قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42]، وهم إنما كانوا يقولون: إنّ آلهتهم تبتغي التقرّبَ إليه، وتُقرِّبهم زلفى إليه، فقال: لو كان الأمر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدًا له، فلماذا تعبدون عبيدَه مِن دونه؟ فصل والمحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام، سواء كانت محمودة أو مذمومة، نافعة أو ضارّة، من الذوق، والوجد (¬1)، والحلاوة، والشوق، والإنس، والاتصال بالمحبوب والقرب منه، والانفصال عنه والبعد منه، والصدّ والهجران، والفرح والسرور، والبكاء والحزن، وغير ذلك من أحكامها ولوازمها. والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته، وهذه المحبة هي عنوان سعادته [103/ ب] والضارّة هي التي تجلب لصاحبها ما يضرّه في دنياه وآخرته، وهي عنوان شقاوته (¬2). ومعلوم أنّ الحيّ العاقل لا يختار محبةَ ما يضرّه ويُشقيه، وإنّما يصدر ذلك عن جهلٍ وظلمٍ، فإنّ النفس قد تهوى ما يضرّها ولا ينفعها ¬

_ (¬1) ف: "الوجد والذوق". (¬2) "والضارّة ... شقاوته" ساقط من ف. وانظر إغاثة اللهفان (846).

- وذلك ظلم من الإنسان (¬1) لنفسه- إما بأن تكون (¬2) جاهلةً بحال محبوبها بأن تهوى الشيء وتحبّه غيرَ عالمة بما في محبته من المضرّة، وهذا حال من أَتبع هواه بغير علم؛ وإما عالمةً بما في محبته من المضرّة، لكن تُوثر هواها على علمها؛ وقد تتركّب (¬3) محبتها من أمرين: اعتقاد فاسد، وهوى مذموم. وهذا حال من أَتبع الظنّ وما تهوى الأنفس. فلا تقع المحبة الفاسدة إلا من جهل واعتقاد فاسد، أو هوى غالب، أو ما تركّب من ذلك، وأعان بعضه بعضًا، فتتفق شبهةٌ يشتبه (¬4) بها الحقّ بالباطل تزيّن (¬5) له أمرَ المحبوب، وشهوةٌ تدعوه إلى حصوله. فيتساعد جيش الشبهة والشهوة على جيش العقل والإيمان، والغلبة لأقواهما. وإذا عرف هذا، فتوابع كلّ نوع من أنواع المحبة (¬6) له حكم متبوعه (¬7). فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد، توابعُها كلُّها نافعة له، حكمها حكم متبوعها. فإن بكى نفعه، وإن حزن نفعه، وإن فرح نفعه، وإن انقبض نفعه (¬8)، وإن انبسط نفعه. فهو يتقلب ¬

_ (¬1) ف: "من ظلم الإنسان". (¬2) ل: "إما تكون". (¬3) ف: "تركب". (¬4) ف: "شبهة شبهية". ز: "شبهة شبهة". وقبلها في ف، ل: "فيتفق"، وفي ز: "فينفق"، تصحيف. (¬5) ف: "يزين"، تصحيف. (¬6) "من أنواع" ساقط من ل. (¬7) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. ووجه الكلام: "فتوابع كلّ نوع ... لها حكم متبوعها". (¬8) "وإن انقبض نفعه" ساقط من ل.

في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوّة. والمحبة الضارّة المذمومة، توابعُها وآثارها كلّها ضارّة لصاحبها، مُبعِدة له من ربّه، كيفما تقلّب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة وبعد. وهذا شأن كلّ فعل تولّد عن طاعة ومعصية. فكل ما تولّد عن الطاعة فهو زيادة (¬1) لصاحبه وقربة (¬2)، وكل ما تولّد عن المعصية فهو خسران لصاحبه وبعد. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 120، 121]. فأخبر سبحانه في الآية الأولى (¬3) أنّ المتولّد عن طاعتهم وأفعالهم (¬4) يُكتَب لهم به عمل صالح. وأخبر في الثانية (¬5) أنّ أعمالهم الصالحة التي باشروها تكتَب لهم أنفسُها. والفرق بينهما أنّ الأول ليس من فعلهم، وإنّما تولد عنه فكُتِب لهم به عمل صالح (¬6). والثاني نفس أفعالهم فكُتبت (¬7) لهم. ¬

_ (¬1) ف: "في زيادة"، خطأ. (¬2) ف: "قرب". (¬3) ف: "في الأولى". (¬4) ز: "وانفصالهم". (¬5) س: "في الآية الثانية". (¬6) "وأخبر في الثانية ... صالح" ساقط من ف. (¬7) ف: "فتكتب".

فصل: المحبة والإرادة أصل كل دين

فليتأمَّلْ قتيلُ المحبة هذا الفصل حقَّ التأمل ليعلم ما له وما عليه: سيعلم يومَ العرض أيَّ بضاعةٍ ... أضاعَ وعند الوزن ما كان حَضلا (¬1) فصل وكما أنّ المحبة (¬2) والإرادة أصل كل فعل كما تقدّم، فهي أصل كلّ دين سواء كان حقَّا أو باطلًا. فإنّ الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة، والمحبّةُ والإرادةُ أصل ذلك كلّه. والدين هو الطاعة والعادة (¬3) والخلُق. فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلُقًا وعادةً. ولهذا فسر الخلق بالدين في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. قال الإِمام أحمد: عن ابن عيينة، قال ابن عباس: لعلى دين عظيم (¬4). وسئلت عائشة عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان خلقَه القرآنُ (¬5). والدين فيه معنى الإذلال والقهر، وفيه معنى الذلّ والخضوع ¬

_ (¬1) أنشد المؤلف في إغاثة اللهفان (428 - 429) مقطوعة بائية في أحد عشر بيتًا لعلها له، ومنها هذا البيت، إلا أن فيه هناك: "وعند الوزن ما خفّ أورَبَا". (¬2) س: "وكمال المحبة"، تحريف. (¬3) ما عدا ز: "العبادة"، تصحيف. (¬4) أخرجه الطبري (29/ 18) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فذكره، وسنده حسن. ورواه عطاء عن ابن عباس، ذكره الواحدي في الوسيط (4/ 334). (¬5) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل (746).

والطاعة. فلذلك يكون من الأعلى إلى الأسفل، كما يقال: دِنتُه فدانَ، أي قهرته فذلّ. قال الشاعر: هو دانَ الرِّبابَ إذ كرهوا الـ .... ـدِّينَ فأضْحَوا بعزّة وصِيالِ (¬1) ويكون من الأدنى للأعلى، كما يقال: دِنْتُ اللهَ، ودِنْتُ لِلَّهِ، وفلان لا يدين اللهَ دينًا، ولا يدين الله بدينٍ. فدان اللهَ أي: أطاع الله وأحبّه وخافه. ودان لله أي: خشع له وخضَع وذلّ وانقاد. والدين (¬2) الباطن لا بد فيه من الحبّ والخضوع كالعبادة سواءً، بخلاف الدين الظاهر (¬3) فإنه لا يستلزم الحبّ، وإن كان فيه انقياد وذلّ في الظاهر. وسمّى الله سبحانه يومَ القيامة "يومَ الدين" لأنّه اليوم الذي يدين فيه الناسَ بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا [104/ ب] فشرٌّ (¬4). وذلك يتضمّن جزاءهم وحسابهم، فلذلك فسِّر بيوم الجزاء ويوم الحساب. وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا} (¬5) [الواقعة: 86، 87]، أي: هلاّ تردّون الروح إلى مكانها، إن كنتم غير مربوبين ولا مقهورين (¬6) ولا مجزييّن. ¬

_ (¬1) للأعشى في ديوانه (61). وفيه بعد "الدين": "دراكًا بغزوةِ وصيال". (¬2) ف: "فالدين". (¬3) ف: "بخلاف الظاهر". (¬4) ل: "فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا". وقد سقط "فشرّ" من س. (¬5) كمل الآية (87) في ف. (¬6) ف: "غير مدينين مقهورين".

وهذه الآية تحتاج إلى تفسير (¬1). فإنّها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب، ولا بدّ أن يكون الدليل مستلزمًا لمدلوله، بحيث ينتقل الذهن منه إلى المدلول، لما بينهما من التلازم، فكلّ ملزومٍ دليل على لازمه، ولا يجب العكس. ووجه الاستدلال أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربّهم، وأنكروا (¬2) قدرته وربوبيته وحكمته. فإمّا أن يُقرّوا بأنّ لهم ربًّا قاهرًا لهم، متصرّفًا فيهم كما يشاء، يميتهم إذا شاء، ويحييهم إذا شاء، ويأمرهم وينهاهم، ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم؛ وامّا أن لا يُقرّوا بربٍّ هذا شأنُه. فإنْ أقرّوا به آمنوا بالبعث والنشور والدين الأموي والجزائي. وإن أنكروه وكفروا به فقد زعموا أنّهم غير مربوبين ولا محكومٍ عليهم، ولا لهم ربٌّ يتصرّف فيهم كما أراد، فهلاّ يقدرون على دفع الموت عنهم إذا جاءهم، وعلى ردّ الروح إلى مستقرّها إذا بلغت الحلقوم؟ وهذا خطاب للحاضرين (¬3) عند المحتضَر، وهم يعاينون موته. أي: فهلاّ تردّون روحه إلى مكانها إن كان لكم قدرة وتصرّف، ولستم مربوبين ولا مقهورين لقاهر قادر يُمضي عليكم أحكامه، وينفّذ فيكم أوامره؟ وهذا غاية التعجيز لهم إذ تبيّن عجزُهم عن ردّ نفس واحدة من مكان ¬

_ (¬1) س: "وفي فهم هذه الآية"، وكلمة "الآية" ساقطة من ل. وفي ف: "تفسيرها". وانظر التبيان في أقسام القرآن (150). (¬2) "البعث ... وأنكروا" ساقط من ل. (¬3) ف: "الحاضرين".

الدين دينان: شرعي أمري، وحسابي جزائي، وكلاهما لله وحده

إلى مكان، ولو اجتمع على ذلك الثقلان! فيالها من آية دالّة على ربوبيته سبحانه، ووحدانيته، وتصرّفه في عباده، ونفوذ أحكامه فيهم وجرَيانها عليهم! والدين دينان: دين شرعي أمري، ودين حسابي جزائي. وكلاهما لله وحده، فالدين كله لله أمرًا أو جزاءً. والمحبة أصل كل واحد من الدينين. فإنّ ما شرعه سبحانه وأمر به يحبّه ويرضاه، وما نهى عنه فإنّه يكرهه ويبغضه لمنافاته [105/ أ] يحبّه ويرضاه، فهو يحب ضدّه. فعاد دينه الأموي كلّه (¬1) إلى محبته ورضاه. ودين العبد لله (¬2) به إنّما ُيقبل إذا كان عن محبة ورضى (¬3)، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمّد رسولًا" (¬4). فهذا الدين قائم بالمحبّة، وبسببها شُرِع، ولأجلها شُرِعَ (¬5)، وعليها أُسِّس. وكذلك دينه الجزائي، فإنّه يتضمن مجازاةَ المحسن بإحسانه والمسيءِ بإساءته، وكلّ من الأمرين محبوب للربّ، فإنّهما عدله وفضله، وكلاهما من صفات كماله. وهو سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته، ويحبّ مَن يحبّها. ¬

_ (¬1) "كله" ساقط من ف. (¬2) "لله" لم يرد في ل. (¬3) س: "محبته ورضاه". (¬4) من حديث العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (34). (¬5) "ولأجلها شرع" ساقط من س.

تفسير: (إن ربى على صرط مستقيم) [هود/ 56]

وكلّ واحد من الدينين فهو صراطه المستقيم الذي هو عليه سبحانه، فهو على صراط مستقيم في أمره ونهيه وثوابه وعقابه، كما قال تعالى إخبارَا عن نبيّه هود أنّه قال لقومه: {أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54 - 56]. ولمّا علم نبيّ الله أنّ ربّه على صراط مستقيم في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره، ومنعه وعطائه، وعافيته وبلائه، وتوفيقه وخذلانه، لا يخرج (¬1) في ذلك عن موجب كماله المقدّس الذي تقتضيه أسماؤه وصفاته من العدل، والحكمة، والرحمة والإحسان والفضل، ووضع الثواب في موضعه، والعقوبة في موضعها اللائق بها، ووضع التوفيق والخذلان والعطاء والمنع والهداية والإضلال كلِّ ذلك في أماكنه ومحالّه اللائقة به، بحيث يستحق على ذلك كمالَ الحمد والثناء = أوجب له ذلك العلمُ والعرفانُ أنْ (¬2) نادى على رؤوس الملأ من قومه بجَنان ثابت وقلب غير خائف بل متجرّد لله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3). ثم (¬4) أخبر عن عموم قدرته وقهره لكلّ ما سواه، وذلّ كلّ شيء لعظمته، فقال: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} فكيف أخاف ما ناصيتُه ¬

_ (¬1) ز: "لا مخرج"، تصحيف. (¬2) ف: "إذ". (¬3) "ولمّا علم نبى الله ... " إلى هنا ساقط من ل. (¬4) "ثم" ساقطة من س.

بيد غيره، وهو في قبضته وتحت قهره وسلطانه (¬1) دونه، وهل هذا إلا من (¬2) أجهل الجهل وأقبح الظلم! ثم أخبر أنه سبحانه (¬3) على صراط مستقيم، في كلّ [105/ ب] ما (¬4) يقضيه ويقدّره، فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه، فلا أخاف ما دونه فإنّ ناصيته بيده، ولا أخاف جوره ولا ظلمه فإنّه على صراط مستقيم. فهو سبحانه ماضِ في عبده حكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه، له الملك وله الحمد. لا يخرج تصرّفُه في عباده عن العدل والفضل (¬5): إن أعطى وأكرَم وهدَى ووفَّق، فبفضله ورحمته. وإن منَع وأهانَ (¬6) وأضلّ وخذَلَ وأشقى، فبعدله وحكمته. وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا (¬7). وفي الحديث الصحيح: "ما أصاب عبد ًا قطّ (¬8) همّ ولا حَزَنٌ، فقال: اللهمّ إنّي عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمُك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سمّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم (¬9) ربيع قلبي، ونور صدري، ¬

_ (¬1) س: "وهو في قهره وقبضته وتحت قهر سلطانه دونه". (¬2) ز: "ومثل هذا الأمر" ولعله تحريف. (¬3) س، ل: "ثم إنه سبحانه أخبر أنه". (¬4) ف: "فيما". (¬5) "والفضل" ساقط من س. (¬6) "وأهان" ساقط من ف. (¬7) "وهذا" ساقط من ل. وفي س: "وفي هذا". (¬8) "قط" ساقط من ف. (¬9) "العظيم" من ل.

فصل: الطريق الثاني في علاج العشق، وهو طريق الخلاص منه

وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي = إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا (¬1) " (¬2). وهذا يتناول حكم الربّ الكوني والأمري وقضاءَه الذي يكون باختيار العبد وغير اختياره، فكلا الحكمين (¬3) ماضٍ في عبده، وكلا القضائين عدلٌ فيه. فهذا الحديث مشتقّ من هذه الآية، بينهما أقرب نسب (¬4). فصل ونختم (¬5) الجواب بفصل يتعلّق بعشق الصور، وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنّه يفسد القلب بالذات. وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد نفس التوحيد (¬6) كما تقدّم، وكما سنقرّره أيضًا إن شاء الله. والله سبحانه إنّما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس، وهما اللوطية والنساء. فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودَتْه وكادَتْه به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفّته وتقواه، مع أنّ الذي ابتلي به أمرٌ لا يصبر عليه إلا من صبّره الله عليه. فإنّ موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة، ¬

_ (¬1) س: "فرجا". (¬2) تقدم تخريجه في ص (23/ 22). (¬3) س، ل: "وكلا الحكمين". (¬4) وانظر: زاد المعاد (4/ 256)، والفوائد (21). (¬5) س: "ويختم". (¬6) ف: "ثغر التوحيد".

وذلك من وجوه (¬1): أحدها: ما ركّبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء (¬2) والجائع إلى الطعام، حتى إنّ كثيرًا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء. وهذا لا يُذَمّ إذا صادف حِلًّا بل يحمد، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد (¬3) من حديث ¬

_ (¬1) ف: "لوجوه". وكذا في ل، ولكن تحتها: "من". وقد ذكر المصنف جملة من الوجوه المذكورة هنا في مدارج السالكين (156/ 2)، وطريق الهجرتين (496)، وروضة المحبين (449). وصرّح في المدارج أنها مما سمعه من شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. وانظر مجموع الفتاوى (15/ 138). (¬2) ف: "الماء البارد". (¬3) ليس في المطبوع. وقد أحال عليه المناوي في الفتح السماوي (1/ 377) فقال: "وقد رواه عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد عن أبيه من طريق يوسف بن عطية عن ثابت موصولًا أيضًا". وقبله الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف (1/ 196) من طريق أبي معمر. وأخرجه ابن حبان في المجروحين (3/ 135) من طريق قتيبة بن سعيد كلاهما عن يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جل وعلا جعل قرة عيني في الصلاة. وحبّب إليّ الطيب كما حبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء. والجائع يشبع والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من الصلاة. وكان إذا دخل البيت يكون في الصلاة أو في مهنة أهله" لفظ ابن حبان. والحديث لا يصح، وعلته يوسف بن عطية هذا، فإنه متروك الحديث. تنبيه على جملة (أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن): تعقب السيوطيُّ الزركشي في إيراده هذه الجملة، بأنه مرّ على الزهد لأحمد مرارًا فلم يجدها. والذي فيه: " ... قرة عيني في الصلاة، وحبب إليّ النساء والطيب، والجائع يشبع، والظمان يروى، وأنا لا أشبع من النساء". فلعله أراد هذا الطريق. انظر فيض القدير (3/ 37).

يوسف بن عطية الصفَّار، عن ثابت (¬1) عن أنس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم -ِ: "حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن". الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابًّا، وشهوة الشباب وحدّته أقوى. الثالث: أنه كان عَزَبًا ليس له زوجة ولا سُرِّيّة تكسر شدّة الشهوة (¬2). الرابع: أنه كان في بلاد غُربةٍ يتأتّى للغريب فيها من قضاء الوطر مالًا يتأتّى له في وطنه بين أهله ومعارفه. الخامس: أنّ المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث إنّ كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها (¬3). السادس: أنها غير ممتنعة ولا آبية، فإنّ (¬4) كثيرًا من الناس يزيل رغبتَه في المرأة إباؤها وامتناعها، يجد في نفسه من ذلّ الخضوع والسؤال لها. وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحبًّا، كما قال الشاعر: وزادني كلَفًا في الحبّ أنْ مَنَعتْ ... أحبُّ شي؟ إلى الإنسان ما مُنِعا (¬5) ¬

_ (¬1) ف: "ثابت البناني". (¬2) ف، ل: "سورة الشهوة". ز: "ثورة الشهوة". (¬3) ل: "موافقتها". (¬4) "فإن" ساقط من ل. (¬5) البيت للأحوص في شعره المجموع (195). وقد أورده المؤلف في روضة المحبين (185) أيضًا.

فطباع الناس مختلفة في ذلك، فمنهم من يتضاعف حبّه عند بذل المرأة ورغبتها، ويضمحلّ عند إبائها وامتناعها. وأخبرني بعض القضاة أنّ إرادته وشهوته تضمحلّ (¬1) عند امتناع امرأته أو سُرّيته (¬2) وإبائها بحيث لا يعاودها. ومنهم من يتضاعف حبّه وإرادته بالمنع، وتشتدّ شهوته (¬3) كلّما مُنِع، ويحصل له من اللذّة بالظفر نظيرُ ما يحصل (¬4) من لذة بالظفر بالصيد (¬5) بعد امتناعه ونفاره، واللذة بإدراك المسألة بعد استعصائها (¬6) وشدّة الحرص على إدراكها. السابع: أنّها طلبت وأرادت وراودت (¬7) وبذلت الجهد، فكفتْه مؤنة الطلب وذلَّ الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه. الثامن: [106/ ب] أنّه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث (¬8) يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة. التاسع: أنّه لا يخشى أن تنُمّ عليه هي ولا أحد من جهتها، فإنّها هي (¬9) الطالبة والراغبة، وقد غلَّقت الأبواب، وغيَّبت الرقباء. ¬

_ (¬1) "عند إبائها ... تضمحل" ساقط من ف. (¬2) س: "وسرّيته". (¬3) ز: "ويشتد شوقه". ل: "فيشتدّ شوقه". (¬4) "له ... يحصل" ساقط من ل. (¬5) ما عدا ف: "الضدّ"، ولعله تصحيف. (¬6) س: "استصعابها"، وأشير إلى هذه النسخة في حاشية ف. (¬7) "وراودت" ساقط من ل. (¬8) ف: "بحيث إنه". (¬9) "التاسع ... هي" ساقط من ف. وكلمة "الراغبة" الآتية أيضًا سقطت منها.

العاشر: أنّه كان في الظاهر مملوكًا لها في الدار بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكَر عليه، فكان (¬1) الإنس سابقًا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي؛ كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب (¬2): ما حملكِ على الزنى؟ قالت: "قُربُ الوِساد، وطول السواد" (¬3). تعني قرب وساد الرجل من وسادي (¬4)، وطول السِّواد بيننا. الحادي عشر: أنّها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إيّاهنّ، وشكت حالها إليهنّ، لتستعين بهنّ عليه؛ فاستعان هو بالله عليهن، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [يوسف: 33]. الثاني عشر: أنها تواعدته (¬5) بالسجن والصَّغار. وهذا نوع إكراه، إذ هو (¬6) تهديد ممن يغلب (¬7) على الظنّ وقوعُ ما هدَّد به، فيجتمع (¬8) داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار. ¬

_ (¬1) ف، ل: "وكان". (¬2) هي هند بنت الخُسّ الإيادية، امرأة جاهلية ذات دهاء وفصاحة ولسن. انظر: غريب أبي عبيد (1/ 166) والبيان للجاحظ (1/ 312، 324). (¬3) السواد: المسارّة والمناجاة. (¬4) ل: "وسادة الرجل من وسادتي". (¬5) كذا في جميع النسخ. وكذا ورد "تواعده" بمعنى توعّده في طريق الهجرتين (635) في مسودة المصنف وغيرها. وفي النسخ المطبوعة: "توعّدته"، ولعله من تصرّف الناشرين. (¬6) س: "وهو". (¬7) ف، ل: "من يغلب". وفي ز: "من تغلب"، وكذلك ضبط فيها: "هُدِّد" بالبناء للمجهول. (¬8) ف: "فتجتمع به".

فصل: من أقسام العشق

الثالث عشر: أنّ الزوج لم يظهر منه من الغيرة والنخوة ما يفرّق به بينهما، ويبعد كلاًّ منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما قابلهما به أن قال ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}. وللمرأة: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 29] وشدة الغيرة في الرجل من أقوى الموانع، وهذا لم يظهر منه غيرة. ومع هذه الدواعي كلّها، فآثر مرضاةَ الله وخوفَه، وحمله حبُّه لله على أن اختار السجن (¬1) على الزنى، فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي} [يوسف: 33]، وعلم أنّه لا يطيق صرفَ ذلك عن نفسه، وأنّ ربّه تعالى إنْ لم يعصمْه ويصرِفْه (¬2) عنه صبأ إليهنّ بطبعه، وكان من الجاهلين. وهذا من كمال معرفته بربّه وبنفسه. وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكَم ما يزيد على ألف فائدة (¬3)، لعلّنا إن وفّق (¬4) الله [107/ أ] أن نفردها في مصنّف مستقلّ (¬5). فصل والطائفة الثانية الذين حكى (¬6) عنهم العشق هم (¬7) اللوطية، كما قال تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) ¬

_ (¬1) ف: "وحمله خشية الله على اختيار السجن". (¬2) يعني: كيدهن. وفي ف: "ويصرف". (¬3) وقال نحوه في شفاء العليل (224). (¬4) ل: "وفقنا". (¬5) لم نجد إشارة إليه في موضع آخر، ولا ندري أتمكن من تأليفه أم لا. (¬6) ل: "حكى الله". (¬7) في س: "في" مكان "هم"، تحريف.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 67 - 72]، فهذه عشقت. فحكاه (¬1) سبحانه عن طائفتين عشِقَ كلٌّ منهما ما حُرِّم عليه من الصور، ولم يبال بما (¬2) في عشقه من الضرر. وهذا داء أعيا الأطبّاءَ دواؤه، وعزّ عليهم شفاؤه. وهو -لَعمرُ الله- الداء العضال، والسم القتّال، الذي ما عَلِقَ بقلب إلا وعزّ على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره. وهو أقسام. فإنّه تارةً يكون كفرًا، كمن اتخذ معشوقَه نِدًّا يحبّه كما يحبّ الله، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يُغفر لصاحبه، فإنّه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يُشرَك به؛ وإنما يُغفَر بالتوبة الماحية. وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدِّم العاشقُ رضا معشوقه على رضا ربّه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه وحظّه وحقُّ ربّه وطاعته قدّم حقَّ معشوقه (¬3) على حقِّ ربه، وآثر رضاه على رضاه (¬4)، وبذل لمعشوقه أنفَسَ ما يقدِر عليه، وبذل لربّه -إن بذل- أردأ ما عنده، ¬

_ (¬1) س: "فحكى الله". ل: "فحكاه الله". (¬2) "بما" ساقط من س. (¬3) "وحطه ... معشوقه" ساقط من س. (¬4) ف: "رضا ربه".

واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرّب إليه، وجعل لربه -إن أطاعه- الفضلة التي تفضُل عن معشوقه من ساعاته (¬1). فتأمَّلْ حالَ أكثر عشّاق الصور (¬2)، هل (¬3) تجدها مطابقةً لذلك؟ ثم ضَعْ حالَهم في كِفة، وتوحيدَهم وإيمانَهم في كِفّة، وزِنْ وزنًا يُرضي الله ورسوله، ويطابق العدل. وربما صرّح العاشق منهم بأنّ وصلَ معشوقه أحبُّ إليه من توحيد ربه، كما قال العاشق الخبيث (¬4): يترشّفْن من فمي رَشَفاتٍ ... هنّ أحلى فيه من التوحيد (¬5) وكما صرّح الخبيث (¬6) الآخر بأنّ وصلَ معشوقه أشهى إليه من رحمة ربّه، -فعياذًا بك اللهم من هذا الخِذلان (¬7) - فقال: [107/ ب] وصلُك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالقِ الجليلِ (¬8) ولا ريب أنّ هذا العشق من أعظم الشرك. ¬

_ (¬1) ف: "ساعته". (¬2) س: "العشاق للصور". (¬3) لم ترد "هل" في ف، ل. (¬4) ل: "الحبيب"، تصحيف. (¬5) من قصيدة للمتنبي قالها في صباه. ديوانه (35). (¬6) ل: "الحبيب"، تصحيف. (¬7) س: "فعياذَا بالله من هذه الحال ومن هذا الخذلان". وأشير في الحاشية إلى ما أثبتناه من غيرها. (¬8) سبق البيت مع قصته (395).

فصل: مفاسد العشق الدنيوية والدينية

وكثير من العشاق يصرّح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة، بل قد ملك معشوقُه عليه قلبَه كلَّه (¬1)، فصار عبدًا محضًا من كلّ وجه لمعشوقه! فقد رضي هذا من عبودية الخالق جلّ جلاله بعبودية (¬2) مخلوق مثله، فإنّ العبودية هي كمال الحبّ والخضوع، وهذا قد استفرغ قوة حبه وخضوعه وذلّه لمعشوقه، فقد أعطاه حقيقة العبودية. ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة، فإنّ تلك ذنب كبير، لفاعله حكم أمثاله؛ ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك. وكان بعض الشيوخ من العارفين (¬3) يقول: لأن أُبتلىَ بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إلى من أن أبتلى فيها بعشق يتعبّد لها قلبي ويشغله عن الله. فصل ودواء هذا الداء القتال: أن يعرف ما (¬4) ابتُلي به من الداء المضادّ ¬

_ (¬1) لم ترد "عليه في س. ولم ترد "كله" في ف، ل. (¬2) زاد في ف بعدها: "غيره". (¬3) ز: "الشيوخ العارفين". (¬4) في طبعة عبد الظاهر: "أن ما"، وزيادة "أن" هذه خطأ جعل الكلام ناقصًا، وأدّى إلى زيادة أخرى في بعض الطبعات، وسياقها في طبعة المدني: " [أن] ما ابتلي به من [هذا] الداء المضاد للتوحيد [إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن الله، فعليه أن يعرف توحيد ربه وسننه وآياته] أولًا". وقد وضع الناشر "إنما هو ... أولًا] بين قوسين، وقال في تعليقه: "هذه الزيادة ساقطة من المخطوطة ونرى أنه لابدّ منها". وهي مع التعليق نفسه في طبعة السلفية (231) ثم جاءت طبعات معاصرة أثبتت الزيادة وحذفت القوسين!

للتوحيد أولًا، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه، ويكثر اللجأ والتضرّع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يراجع بقلبه إليه. وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله. وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (¬1) [يوسف: 24]. فأخبر سبحانه أنّه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه (¬2). فإنّ القلب إذا خلَص (¬3) وأخلص عملَه لله لم يتمكّن منه عشق الصور، فإنّه إنّما يتمكن من قلب فارغ، كما قال (¬4): فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا (¬5) وليعلم العاقل أنّ العقل والشرع يوجبان (¬6) تحصيل المصالح ¬

_ (¬1) "المخلصين" بكسر اللام قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. انظر: الإقناع (671). واستدلال المؤلف بالآية مبنيّ على هذه القراءة. (¬2) ونحوه في زاد المعاد (4/ 268)، وإغاثة اللهفان (133، 854، 868)، ومفتاح دار السعادة (1/ 277). (¬3) ل: "خلص لله". (¬4) ل: "كما قيل". (¬5) ف، ز: "قلبًا فارغًا". وصدره كما في حاشية س، ف: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى وقد سبق في ص (361). (¬6) ز: "قد يوجبان".

وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها. فإذا (¬1) عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحةً ومفسدة (¬2) وجب عليه أمران: أمر علمى، وأمر عملي. فالعلميّ طلبُ معرفة الراجح من طرفَي المصلحة والمفسدة، فإذا [108/ أ]، تبيّن له الرجحان وجب عليه إيثار (¬3) الأصلح له. ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية، بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدَّر فيه من المصلحة، وذلك من وجوه: أحدها: الاشتغال بحبّ المخلوق وذكره عن حبّ الربّ تعالى وذكره. فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه، ويكون السلطان والغلبة له. الثاني: عذاب قلبه بمعشوقه. فإنّ من أحبّ شيئًا غير الله عُذّب به، ولابدّ: فما في الأرض أشقى من محبّ ... وإن وَجَد الهوى حلوَ المذاقِ تراه باكيًا في كل حين ... مخافةَ فُرْقةٍ أو لاشتياقِ (¬4) فيبكي إن نأوا شوقًا إليهم ... ويبكي إن دنَوا حذرَ الفراقِ فتسخَن عينُه عند الفراق ... وتسخَن عينُه عند التلاقي (¬5) ¬

_ (¬1) س: "وإذا". (¬2) "مصلحة و" ساقط من ز. (¬3) س، ل: "إتيان". (¬4) هذا البيت ساقط من ف. (¬5) الأبيات لنصيب في ديوانه المجموع (111). وهي في الحماسة (2/ 93) دون =

والعشق، وإن استعذبه العاشق، فهو من أعظم عذاب القلب. الثالث: أنّ العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه، يسومه الهوانَ (¬1)، ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه، فقلبُه كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يسومُها ... حياضَ الردى والطفل يلهو ويلعب (¬2) فعيشُ العاشق عيشُ الأسير الموثَق، وعيشُ الخليِّ عيشُ المسيَّب المطلَق. فالعاشق كما قيل (¬3): طليقٌ برأي العينِ وهو أسيرُ ... عليلٌ على قطب الهلاك يدورُ (¬4) ومَيْتٌ يُرىَ في صورة الحيِّ غاديًا ... وليس له حتى النشور نشورُ ¬

_ = عزو. وأوردها المؤلف في إغاثة اللهفان (92، 823) أيضًا. (¬1) ف: "سوء الهوان". (¬2) تمثل به المؤلف في روضة المحبين (202)، وإغاثة اللهفان (823) أيضًا. وقد نسب البيت إلى ابن الزيّات في معجم الشعراء للمرزباني (366)، والفتح بن خاقان في الزهرة (85). وهو في اعتلال القلوب (312) من إنشاد ابن الزيات. ورواية العجز فيها جميعًا: "ورود حياض الموت والطفل يلعب". وانظر ديوان مجنون ليلى (38). وقد ورد بعده في طبعة المدني والنشرات التابعة لها زيادةٌ خلت عنها النسخ الخطية، وهي: "كما قال بعض هؤلاء: ملكتَ فؤادي بالقطيعة والجفا ... وأنت خلىّ البال تلهو وتلعب" (¬3) "فالعاشق كما قيل" انفردت بها ف. وقد تمثل المؤلف بصدر البيت الأول في روضة المحبين (201). (¬4) ف: "تراه العين".

أخو غمَراتٍ ضاع فيهن قلبُه ... فليس له حتى الممات حضورُ الرابع: أنّه (¬1) يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه. فليس شيءٌ أضيعَ (¬2) لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور. أمّا مصالح الدين فإنّها منوطة بلَمّ شَعَثِ القلب وإقبالهِ على الله، وعشقُ الصور أعظم شيءٍ تشعيثًا وتشتيتًا [108/ ب] له (¬3). وأمّا مصالح الدنيا فهي متابعة في الحقيقة لمصالح الدين، فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه، فمصالح دنياه أضيَعُ وأضيَعُ. الخامس: أنّ (¬4) آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشّاق الصور من النار في يابس الحطب. وسبب ذلك أنّ القلب كلّما قَرُبَ من العشق وقويَ اتصالُه به (¬5) بَعُدَ من الله، فأبعد القلوب من الله قلوب عشّاق الصور. وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية، فإنّ الشيطان يتولاّه. ومن تولاّه عدوُّه (¬6) واستولى عليه لم يألُه وبالًا، ولم يدَعْ أذىً يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله. فما الظنّ بقلب تمكّن منه عدؤُه وأحرَصُ الخلقِ على غيّه (¬7) وفسادِه، وبعُد منه وليُّه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقربه وولايته؟ ¬

_ (¬1) ما عدا ف: "أن". (¬2) يعني: أشدّ إضاعةَ. صاغ اسم التفضيل على أفعل من المزيد. (¬3) "له" ساقط من ف. (¬4) "أن" لم ترد في ف. (¬5) "به" ساقط من س. (¬6) "عدوّه" لم يرد في س. وسقط "واستولى عليه" من ل. (¬7) ما عدا ف: "عيبه".

السادس: أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهنَ، وأحدث الوسواسَ. وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها. وأخبار العشاق (¬1) في ذلك موجودة في مواضعها، بل بعضيها مشاهَد بالعيان. وأشرف ما في الإنسان عقله، وبه يتميّز عن سائر الحيوانات؛ فإذا عدم عقله التحق بالحيوان البهيم، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله. وهل أذهب عقلَ مجنون ليلى وأضرابِه إلا العشق؟ وربما زاد جنونه على جنون غيره، كما قيل: قالوا جُنِنتَ بمن تهوى فقلتُ لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه ... وإنّما يُصرَع المجنونُ في الحين (¬2) السابع: أنّه ربما أفسد الحواسّ أو بعضها (¬3) إمّا فسادًا معنويًا أو صُوريًّا (¬4). أمّا الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب، فإنّ القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان، فيرى القبيح حسنًا منه ومن معشوقه، كما في المسند (¬5) مرفوعًا: "حبّك للشيء يُعمي [109/أ]، ويُصِمّ". فهو يُعمي ¬

_ (¬1) ف: "العاشق". (¬2) تقدم البيتان في ص (418). (¬3) ز: "نقصها"، تصحيف. (¬4) س: "ضروريًا"، تحريف. (¬5) 5/ 194 (21694)، 6/ 455 (27548). وأخرجه أبو داود (5130) والبخاري في تاريخه (2/ 107) والبزار في مسنده (4125) والطبراني في مسند الشاميين (1454) والقضاعي في مسند الشهاب (219) وغيرهم من طريق أبي بكر بن =

عينَ القلب عن رؤية مساوي المحبوب وعيوبه، فلا ترى العين ذلك، ويُصِمّ أذنَه عن الإصغاء إلى العذل فيه، فلا تسمع الأذن ذلك. والرغبات تستر العيوب، فالراغب في الشيء لا يرى عيوبه حتى إذا زالت رغبته فيه أبصر عيوبه. فشدّةُ الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على (¬1) ما هو به، كما قيل: هوِيتك إذ عيني عليها غشاوةٌ ... فلما انجلتْ قطّعتُ نفسي ألومُها (¬2) والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه. ولا يرى عيوبه (¬3) إلا من دخل فيه ثم خرج منه. ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإِسلام بعد الكفر خيرًا من الذين ولدوا في الإِسلام. قال عمر بن الخطاب: إنّما تُنقَض عُرى الإِسلام عروةً عروةً إذا وُلِد في الإِسلام من لم يعرف الجاهلية (¬4). ¬

_ = عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمَّد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء فذكره مرفوعًا، وأحياًَنا موقوفًا. ورواه حميد بن مسلم وحريز بن عثمان كلاهما عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء قوله موقوفًا. أخرجه البخاري (2/ 107) وابن عساكر في تاريخه (10/ 523) وغيرهما. وسند الموقوف صحيح. ورجح الوقف السخاوي والسيوطي. (¬1) س: "إلّا"، تحريف. (¬2) للحارث بن خالد المخزومي في مجموع شعره (101). والرواية: "صحبتك" يعني عبد َ الملك. وكذا أورده المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 467). (¬3) "والخارج منه ... عيوبه لما ساقط من ز. (¬4) ذكره المصنف في مدارج السالكين (1/ 343)، ومفتاح دار السعادة (2/ 288). وفي النسخ: "ينقض" (ص). لم أقف عليه (ز).

وأما إفساده للحواسّ ظاهرًا (¬1)، فإنّه يُمرِض البدن ويُنهِكه، وربما أدّى إلى تلفه، كما هو معروف في أخبار من قتلهم العشق. وقد رُفع إلى ابن عباس -وهو بعرفة- شابٌّ قد إنتحل (¬2) حتى عاد عظما بلا لحم (¬3) فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق. فجعل ابن عباس يستعيذ بالله (¬4) من العشق عامّةَ يومه (¬5). الثامن: أنّ العشق -كما تقدّم- هو الإفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق حتى لا يخلو (¬6) من تخيّله وذكره والفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه. فعند ذلك تشتغل النفس عن استخدام القوى الحيوانية والنفسانية، فتتعطل تلك القوى، فيحدث بتعطّلها (¬7) ¬

_ (¬1) س: "فظاهر"، خطأ. (¬2) لم يرد "انتحل" في كتب اللغة بمعنى نحَل الجسم نحولًا: رَقّ وهزل. والظاهر أنه استعمال عامّي. (¬3) كذا في ف. وفي غيرها: "لحمًا على عظم". وفي حاشية س: "جلدَا" وفوقه علامة "ص". وفي ز: "صار" مكان "عاد". (¬4) "بالله" لم يرد في س. (¬5) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (322) وابن الجوزي في ذم الهوى (373) وابن عساكر في تاريخه (1/ 237 - 22)، (1799/ 2) من طريق محمَّد بن عيسى بن بكار عن فليح بن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن صالح عن عمه سليمان بن علي عن عكرمة قال: "إنّا لمع ابن عباس عشية عرفة ... " نحوه. وسنده ضعيف، محمَّد بن عيسى بن بكار لم أقف عليه. وفليح ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 11) وقال: يعتبر حديثه من غير رواية شاذان عنه. (ز). وانظر مصارع العشاق (2/ 217). (ص). (¬6) س: "حتى يخلو"، خطأ. (¬7) س، ل: "بتعطيلها". وقد سقط من ل: "تلك القوى فيحدث".

من الآفات على البدن والروح ما يعِزّ دواؤه أو يتعذّر (¬1)، فتتغيّر أفعاله وصفاته ومقاصده، ويختل جميع ذلك، فيعجز البشر عن صلاحه، كما قيل (¬2): الحبُّ أوّلَ ما يكون لجاجةٌ ... تأتي به وتسوقه الأقدارُ (¬3) حتى إذا خاض الفتى لُججَ الهوى ... جاءت أمور لا تُطاق كِبارُ [109/ ب] والعشق مبادئه سهلة حلوة، وأوسطه همّ وشغلُ قلبِ وسقم، وآخره عطَب وقتل، إن لم يتداركه (¬4) عناية من الله، كما قيل: وعِشْ خاليَا فالحبُّ أولُه عَنا ... وأوسطه سقم، وآخره قتلُ (¬5) وقال آخر: تولَّعَ بالعشق حتّى عشِقْ ... فلمّا استقلّ به لم يُطِقْ رأى لُجّةَ ظنّها موجةَ ... فلما تمكّن منها غرِقْ (¬6) ¬

_ (¬1) ف، ل: "ويتعذّر". وفي س: "لو يتعذّر"، وصوابه ما أثبتنا من ز. (¬2) للعباس بن الأحنف كما في الأغاني (5/ 193)، وانظر: ديوانه (139). وقد نسبا إلى المجنون (ديوانه 96) وجميل (ديوانه 84) أيضًا. (¬3) س، ف، ز: "لحاجة"، وقد ضبط في ف، ز بالجرّ، وكتبت في ف علامة الإهمال. والمثبت من ل، وهي الرواية المشهورة. (¬4) ف: "تتداركه". س: "يدركه". (¬5) لابن الفارض في ديوانه (134) وروايته: "فالحب راحته عنا، وأوله سقم". (¬6) ذكرهما المؤلف في روضة المحبين (252) وشفاء العليل (138، 153) أيضًا. وهما من أربعة أبيات نقلها ابن الجوزي بسنده في ذمّ الهوى (586) من إنشاد ابن نحرير البغدادي.

فصل: ثلاثة مقامات للعاشق وما يجب عليه فيها

والذنب له، فهوِ الجاني على نفسه، وقد قعد تحت المثل السائر: "يداكَ أَوْكَتا، وفُوكَ نفخ" (¬1). فصل والعاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء، ومقام توسط، ومقام انتهاء. فأما مقام ابتدائه، فالواجب عليه فيه (¬2) مدافعته بكلّ ما يقدر عليه، إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذِّرًا قدرًا أو شرعًا. فإن عجز عن ذلك، وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه -وهذا مقام التوسط والانتهاء- فعليه كتمان ذلك، وأن لا يُفشيه (¬3) إلى الخلق، ولا يشبّبَ بمحبوبه ويهتكه بين الناس، فيجمع بين الشرك والظلم. فإنّ الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم، وربما كان أعظم ضررًا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله. فإنّه يعرّض المعشوق بتهتّكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه (¬4)، وانقسامهم إلى مصدِّق ومكذِّب، وأكثر الناس يصدّق في هذا الباب بأدنى شبهة. وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو فلانة كذّبه واحد، وصدّقه تسعمائة وتسعة وتسعون! وخبر العاشق المتهتّك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقيني، ¬

_ (¬1) انظر مجمع الأمثال للميداني (3/ 519). (¬2) لم يرد "فيه" في س. (¬3) ف: "ولا يفشيه". (¬4) "فيه" ساقط من ف.

بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه (¬1) كذبًا وافتراءً على غيره جزموا بصدقه جزمًا لا يحتمل النقيض (¬2)، بل لو جمعهما مكان واحد اتفاقًا جزموا أنّ ذلك عن وعد واتفاق بينهما. وجزمُهم في هذا الباب على الظنون والتخيّل والشُّبَه (¬3) والأوهام والأخبار الكاذبة، كجزمهم بالحسّيّات المشاهَدة. وبذلك وقع أهل الإفك في الطيِّبة المطيّبة حبيبةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المبرَّأةِ من فوق سبع سماوات، بشبهة مجيء صفوان بن المعطَّل بها وحده خلف العسكرة حتى هلك من هلك. ولولا أنْ تولّى الله سبحانه (¬4) براءتَها والذبَّ عنها وتكذيبَ قاذفها، وألاّ كان أمرًا آخر (¬5). والمقصود أنّ في إظهار المبتلَى عشقَ (¬6) من لا يحِلّ له الاتصالُ به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه. ¬

_ (¬1) ف: "به نفسُه". (¬2) ز: "النقض". (¬3) ز: "التخييل والشبهة". (¬4) ز: "أن الله سبحانه تولى". (¬5) ف، ز: "أمر" بالرفع. وكذا وقع "وإلاّ" هنا في جميع النسخ، وهو استعمال عامّي تكرّر في كتب المؤلف. انظر طريق الهجرتين (44). والوجه حذفها. وفي ط المدني وغيرها: "قاذفها لكان"، ولعله إصلاح من الناشرين. وقصة الإفك أخرجها البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا (2661)؛ ومسلم في التوبة، باب في حديث الإفك (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬6) ف: "بعشق"، خطأ.

تضمن العشق كل أنواع الظلم والعدوان

فإن استعان عليه بمن يستميله إليه، إما برغبة أو رهبة (¬1)، تعدّى الظلم وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديّوثًا ظالمًا (¬2). وإذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم - قد لعن الرائش (¬3) -وهو الواسطة بين الراشي والمرتشي في إيصال الرشوة- فما الظنّ بالديوث الواسطة (¬4) بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرّمة؟ فيتساعد العاشق والديّوث على ظلم المعشوق وظلم غيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس أو مال أو عرض. فإنّه كثيرًا ما يتوقف المطلوب فيه على قتل نفسٍ تكون حياتها مانعةً من غرضه. فكم من قتيل طُلّ دمه بهذا السبب من زوج وسيّد وقريب! وكم خُبّبت (¬5) امرأة على بعلها، وجارية وعبد على سيّدهما! وقد لعن ¬

_ (¬1) ف، ل: "برهبة". (¬2) س: "ظلمَا"، خطأ. (¬3) أخرجه أحمد في المسند 5/ 279 (22399) وغيره من طريق ليث بن أبي سليم عن أبي الخطاب عن أبي زرعة عن ثوبان قال: "لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي والرائش". والحديث مداره على ليث وهو ضعيف الحفظ وقد اضطرب فيه كثيرًا. وأيضًا أبو الخطاب مجهول، وأبو زرعة لم يسمع من ثوبان. ولفظة "الرائش" لم يروها إلا ليث. انظر طرقه في تحقيق المسند (37/ 86). والحديث ضعفه الحاكم والمنذري والهيثمي. قلت: وورد عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي". أخرجه الترمذي (1327) وابن الجارود (586) وابن حبان (5077) والحاكم 4/ 115 (7066) وغيرهم. والحديث صححه الترمذي وابن الجارود وابن حبان والحاكم وغيرهم. (¬4) ف ز: "الذي" مكان "الواسطة". (¬5) ف: "خُبّب". وختبت، أي خدعت وأفسدت، كما في الحديث الذي أشار إليه المؤلف: "من خبّب عبدًا على أهله فليس منا، ومن أفسد امرأة على زوجها =

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك، وتبرّأ منه (¬1)، وهو من أكبر الكبائر. وإذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم - قد نهى أن يخطُب الرجل على خطبة أخيه، أو يستام على سَوم أخيه (¬2)، فكيف بمن يسعى في التفريق بينه وبيّن امرأته وأمَتِه حتى يتصل بهما؟ وعشّاق الصور ومساعدوهم من الدِّيَثة (¬3) لا يرون ذلك ذنبًا (¬4). فإنْ طلب العاشقُ وصلَ معشوقه ومشاركةَ الزوج والسيّد، ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعلّه لا يقصُر عن إثم الفاحشة إن لم يربُ (¬5) عليها. ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة. فإنّ التوبة وإن أسقطَتْ حقَّ الله فحقُّ العبد باقٍ، له المطالبةُ به يومَ القيامة. فإنّ ظلمَ الوالد بإفساد فلذة كبده (¬6) ومن هو أعزُّ عليه من نفسه، [110/ ب] وظلمَ الزوج ¬

_ = فليس منا". (¬1) ورد ذلك عند أحمد 5/ 352 (22980) وابن حبان (4363) والحاكم 4/ 331 (7816) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وورد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 397) وصححه ابن حبان والحاكم. (¬2) ز: "سومه". والحديث أخرجه البخاري في البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه (2140) وفي الشروط (2727)؛ ومسلم في النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) كذا ضبط بكسر أوله في س. والظاهر أنَّه أراد جمع الديّوث، ولكن لا يجمع فيعول على فِعَلة. وفي ط المدني: "الدَّيايثة"، وأخشى أن يكون إصلاحًا من الناشر. وضبط في حاشية ط عبد الظاهر بفَتح الدال والياء، يعني جمع دائث، والدائث ليس بالديّوث، وإنما هو فريسته. (¬4) ف: "دَيثًا"، ولعله تصحيف. (¬5) س، ل: "يربوا". (¬6) ل: "ولده كبده" وفي ف: "ولده كبيرة"، كلاهما تحريف.

بإفساد حبيبته (¬1) والجنايةِ على فراشه أعظمُ من ظلمه بأخذ ماله كلّه (¬2). ولهذا يؤذيه ذلك أعظمَ مما يؤذيه أخذُ ماله، ولا يعدل ذلك عنده إلا سفكُ دمه. فيا له من ظلمٍ أعظمَ إثمًا مِن فعلِ الفاحشة! فإن كان ذلك حقَّا لغازٍ في سبيل الله وُقِف له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: "خذ من حسناته ما شئت"، كما أخبر بذلك النبي- صلى الله عليه وسلم -. ثم قال النبي (¬3) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فما ظنّكم" (¬4)؛ أي فما تظنّون يُبقي له من حسناته؟ فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جارًا أو ذا رحم تعدّد الظلمُ وصار ظلمًا مؤكدًا بقطيعة الرحم وأذى الجار. و"لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحم لا (¬5) ولا "من لا يأمن جارُه بوائقَه" (¬6). فإن استعان العاشق على وقال معشوقه بشياطين الجنّ (¬7) -إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك (¬8) - ضمَّ إلى الشرك والظلم كفرَ السحر. فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيًا بالكفر غيرَ كاره لحصول مقصده به (¬9)، وهذا ليس ببعيد من الكفر. ¬

_ (¬1) ف: "وظلمه بإفساد حبيبه". (¬2) "كلّه" ساقط من س. (¬3) ز: "رسول الله". وفي ل في الموضعين: "رسول الله". (¬4) تقدم تخريج الحديث في ص (263). (¬5) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأدب، باب إثم القاطع (5984)؛ ومسلم في البر والصلة، باب صلة الرحم ... (2556). (¬6) تقدّم تخريجه (263). (¬7) كلمة "الجن" ساقطة من ف. (¬8) ما عدا س: "ونحو ذلك". (¬9) "به" ساقط من ف، ل. وفي ف: "مقصوده".

والمقصود أنّ التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان. وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدّي ضررُه، فأمرٌ لا يخفى. فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق، فللمعشوق أغراض أخر يريد من العاشق إعانته عليها، فلا يجد من إعانته بلًّا، فيبقى (¬1) كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان. فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من يتصل به من أهله وأقاربه وسيّده وزوجه، والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقّفًا على ظلمه. فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون (¬2) فيها ظلم الناس، فيحصل العدوان والظلم للناس، بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم، كما جرت العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وبغي وعدوان (¬3)، حتى ربما يسعى له [111/ أ] في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله، وفي تحصيل مال من غير حِلّه، وفي استطالته على غيره. فإذا اختصم معشوقه وغيرُه أو تشاكيا لم يكن إلا في جانب المعشوق ظالمًا كان أو مظلومًا. هذا إلى ما ينضمّ إلى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيّل على أخذ أموالهم، والتوصّل بها إلى المعشوق (¬4) بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين (¬5) كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك. وربما أدّى ذلك إلى قتل النفس ¬

_ (¬1) س: "فبقي". (¬2) لم يرد "يكون" في س. (¬3) س: "عدوان وبغي". (¬4) س: "معشوقه". (¬5) ف: "سرقةَ أو غضبًا أو جناية أو يمينًا".

التي حرّمها الله ليأخذ ماله، يتوصل (¬1) به إلى معشوقه. فكلّ (¬2) هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور. وربما حمل على الكفر الصريح. وقد تنصّر جماعة ممن نشأ في الإِسلام بسبب العشق، كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر امرأة جميلة على سطح، ففُتِن بها، فنزل ودخل عليها، وسألها نفسَها، فقالت: هي نصرانية، فإن دخلتَ في ديني تزوّجتُ بك، ففعل. فرقي ذلك اليوم (¬3) على درجة عندهم، فسقط منها (¬4)، فمات. ذكر هذا عبد الحقّ في كتاب "العاقبة" له (¬5). وإذا أراد النصارى أن ينصّروا الأسير أرَوه امرأة جميلة، وأمروها أن تُطْمِعه في نفسها، حتّى إذا تمكن حبّها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها. فهنالك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27]. وفي العشق من ظلمِ كل واحد من العاشق والمعشوق (¬6) لصاحبه بمعاونته له على الفاحشة، وظلمِه لنفسه (¬7). فكلّ منهما ظالم لنفسه ¬

_ (¬1) ف: "ليتوصل". (¬2) ل: "وكل". (¬3) س: "في ذلك اليوم". وفي ف: "الرجل" مكان "اليوم". (¬4) لم يرد "منها" في س. (¬5) ص (179). وقد تقدمت القصة مفضلة (394). (¬6) ف: "المعشوق والعاشق". (¬7) زاد الشيخ محمَّد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله بعده بين القوسين: "ما فيه"؛ لأنه ظنّ الجملة ناقصةَ. ثم جاءت النشرات التابعة لنشرته، وحذفت القوسين!

وصاحبه، وظلمهما متعدٍّ إلى الغير كما تقدّم. وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك. فقد تضمّن العشق أنواع الظلم كلَّها. والمعشوق إذا لم يتّق الله، فإنه يعرّض العاشق للتلف -وذلك ظلم منه- بأن يُطمعه في نفسه، ويتزيّن له، ويستميله بكلّ طريق، حتى يستخرج منه ماله ونفعه، ولا يمكنه من نفسه لئلا يزول غرضه بقضاء وطره منه، فهو (¬1) يسومه سوء العذاب. والعاشق ربما قتل معشوقَه ليشفي نفسه منه، ولا سيّما إذا جاد بالوصال لغيره. فكم للعشق من قتيل من الجانبين! وكم قد أزال [111/ ب] من نعمةٍ، وأفقر من غنًى، وأسقط من مرتبة، وشتّت من شمل! وكم أفسد من أهل للرجل وولد! فإنّ المرأة إذا رأت بعلها عاشقًا لغيرها اتخذت هي معشوقًا لنفسها، فيصير الرجل متردّدًا بين خراب بيته بالطلاق وبيّن القيادة. فمن الناس من يؤثر هذا، ومنهم من يؤثر هذا (¬2). فعلى العاقل (¬3) أن لا يُحكِم على نفسه عشقَ الصور، لئلا يؤديه ذلك إلى هذه المفاسد أو أكثرها أو بعضها. فمن فعل ذلك فهو المفرِّط بنفسه المغرِّر بها، فإذا هلكتْ فهو الذي أهلكها. فلولا (¬4) تكرارُه النظرَ إلى وجه معشوقه وطمعُه في وصاله لم يتمكّن عشقه من قلبه. فإنّ أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولّد عن نظر أو سماع. ¬

_ (¬1) "منه" ساقط من ز. وفي ف: "وهو". (¬2) "هذا" ساقط من س. (¬3) من هنا قارِن بما جاء في فتوى في العشق (180 - 181)، والسطور الأولى منقولة منها بحروفها. (¬4) ف: "ولولا".

فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك؛ لم يحدث له العشق. فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره (¬1) ولم يشتغل قلبه به (¬2)؛ لم يحدث له ذلك. فإن أطال مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق، وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله: إما خوف ديني كدخول النار، وغضب الجبار، واحتقاب الأوزار؛ وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر، لم يحدث له العشق. فإن فاته هذا الخوف، فقارنه خوف دنيوي، كخوف تَلافِ (¬3) نفسه وماله، وذَهاب جاهه وسقوطِ مرتبته عند الناسِ، وسقوطِه من عين من يعزّ عليه؛ وغلب هذا الخوف لداعي العشق = دَفعَه. وكذلك إذا خاف من ذوات محبوب هو أحبّ إليه وأنفع له من ذلك المعشوق، وقدّم محبتَه على محبة المعشًوق؛ اندفع عنه العشق. ¬

_ (¬1) ف: "فصرفه فكره". (¬2) ز: "ولم يشغل ... ". و"به" ساقط من ل. (¬3) مصدر تلِف، والمذكور في كتب اللغة: التلَف. وقد ورد في كلام الشعراء والكتاب المتأخرين، ومن ذلك قول ابن زيلاق الموصلي الكاتب الشاعر (660 هـ) من قصيدة: تجمعتْ فيك للورى فِتنٌ ... على تَلافِ النفوس تتّفقُ انظر: فوات الوفيات (4/ 388). وقد جمع أبو العلاء بين المصدرين في قوله من لزومية (2/ 105): تلافَ أمرَك من قبل التَلافِ به ... فغايةُ الناس في دنياهم التلَفُ وفي النسخ المطبوعة: "إتلاف"، ولعله تغيير من بعض الناسخين أو الناشرين.

اعتراض على المصنف بذكر فوائد العشق

فإن انتفى ذلك كلُّه، أو غلبت محبة المعشوق لذلك؛ انجذب إليه القلب بكليّته، ومالت إليه النفس كل الميل. فإن قيل (¬1): قد ذكرتم آفاتِ العشق ومضارَّه ومفاسدَه، فهلاّ ذكرتم منافعَه وفوائده التي من جملتها: رقة الطبع، وترويح النفس، وخفّتها، وزوال ثقلها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من الشجاعة والكرم والمروءة ورقّة الحاشية ولطف الجانب. وقد (¬2) قيل ليحيى بن معاذ الرازي: إنّ ابنك عشق فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيّره إلى طبع الآدمي (¬3)! وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام (¬4). وقال غيره: العشق لا يصلح إلا لذي مروءة ظاهرة وخليقة طاهرة، أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل، أو لذي أدب بارع وحسب ناصع (¬5). وقال آخر: العشق يشجّع جَنان الجبان، ويصفّي ذهن الغبيّ، ويسخّي كفّ البخيل، ويُذِلّ عزّةَ الملوك، ويسكِّن نوافر الأخلاق (¬6). وهو أنيس من لا أنيس له، وجليس من لا جليس له (¬7). ¬

_ (¬1) من هنا إلى ص (532) فصل طويل في فوائد العشق التي ذكرها المؤلف على لسان المعترض، ثم ردّ عليه. (¬2) لم يرد "وقد" في ف. (¬3) فتوى في العشق (178). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق. (¬6) ف: "الأعلاق"، تحريف. (¬7) فتوى في العشق (179)، المصون (46)، بهجة المجالس (1/ 823)، روضة =

وقال آخر: العشق يزيل الأثقال، ويلطّف الروح، ويصفّي كدر القلب، ويوجب الارتياح لأفعال الكرام (¬1) كما قال (¬2): سيهلك في الدنيا شفيقٌ عليكمُ ... إذا غاله من حادث الحبّ غائلُه (¬3) كريم يُميت السرَّ حتّى كأنه ... إذا استفهموه عن حديثك جاهلُه يودّ بأن يُمسي سقيمًا لعلّها ... إذا سمعتْ عنه بشكوى تُراسِلُه ويهتزّ للمعروف في طلب العُلى ... لِتُحمَد يومًا عند ليلى شمائلُه فالعشق يحمل على مكارم الأخلاق. وقال بعض الحكماء (¬4): العشق يروّض النفس، ويهذب الأخلاق. إظهاره (¬5) طَبْعي، وإضماره تكلُّفي (¬6). وقال آخر: من لم تبتهج (¬7) نفسه بالصوت الشجيّ والوجه البهيّ، فهو فاسد المزاج، محتاج إلى علاج (¬8). وأنشدوا في ذلك: ¬

_ = المحبين (281). (¬1) ف: "لأفعال البر". (¬2) ديوان كثير عزّة (247 - 248). (¬3) س، ل: "جانب الحب". ف: "جاذب الحب". ز: "في جاذب ... "، ولعل كليهما تصحيف. ورواية الديوان: "حادث الدهر". (¬4) ف: "وقال الحكماء". (¬5) ز: "واظهاره". (¬6) فتوى في العشق (179). (¬7) ف: "يهيّج". (¬8) نسب في المرجع السابق إلى جالينوس.

إذا أنت لم تعشَقْ ولم تدرِ ما الهوى ... فأنت وعَير في الفلاة سواءُ (¬1) وقال آخر: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرًا من جانب الصخر جلمدا (¬2) وقال آخر: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فقُمْ واعتلِفْ تِبْنًا فأنتَ حمارُ (¬3) وقال آخر: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فمالك في طيب الحياة نصيبُ وقال بعض العشاق أولو العفة والصيانة: عِفُّوا تشرُفوا واعشقوا تظرُفوا (¬4). وقيل لبعض العشاق: ما كنت تصنع لو ظفرتَ (¬5) بمن تهوى؟ فقال: كنتُ (¬6) أمتعّ طرفي بوجهه، وأروّح قلبي بذكره وحديثه، وأستر منه ما لا يحبّ كشفَه، ولا أصير بقبح الفعل إلى ما ينقض عهده. ثم ¬

_ (¬1) المرجع السابق (179)، ذمّ الهوى (306)، الواضح المبين (65). ونقله المؤلف في روضة المحبين (284) أيضًا. (¬2) للأحوص في العقد (6/ 61)، وانظر ديوانه (121)، وروضة المحبين (284). وكذا "جانب الصخر" في جميع النسخ، والرواية: "يابس الصخر". (¬3) هذا البيت ساقط من س، ل. وانظر روضة المحبين (284). (¬4) نقله المؤلف في روضة المحبين (281) من قول عبد الله بن طاهر أمير خراسان لولده. وانظر: الواضح المبين (62). (¬5) ف: "إذا ظفرت". (¬6) "كنت" ساقط من س.

أنشد [112/ ب]: أخلو به فأعِفّ عنه تكرُّمًا ... خوفَ الديانة لستُ من عشّاقِه (¬1) كالماء في يد صائم يلتذّه ظمًا فيصبرعن لذيذ مذاقه (¬2) وقال إسحاق بن إبراهيم (¬3): أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم رقيقة خفيفة، نزهتهم المؤانسة، وكلامهم يُحيي مَواتَ القلوب، ويزيد في العقول؛ ولولا العشق والهوى لبطل نعيم الدنيا. وقال آخر: العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان. إن تركتَه ضرّك، وإن أكثرتَ منه قَتَلك (¬4). وفي ذلك قيل: خليلَيّ إنّ الحبَّ فيه لذاذةٌ ... وفيه شقاء دائم وكروبُ على ذاك ما عيشٌ يطيب بغيره ... ولا عيشَ إلا بالحبيب يطيبُ ولا خيرَ في الدنيا بغير صَبابة ... ولافي نعيم ليس فيه حبيبُ (¬5) ¬

_ (¬1) "تكرمَا" ساقط من ز. وفي ت مكانه: "من الخنا". وفي فتوى في العشق (183): "كانني"، وهو أجود. (¬2) انظر القول مع الشعر في فتوى في العشق (183). (¬3) هو إسحاق بن إبراهيم الموصلي الأديب النديم المغنّي المشهور المتوفى سنة 235 هـ، لا الإِمام إسحاق بن راهويه كما في بعض طبعات الكتاب. انظر منازل الأحباب (185). (¬4) البصائر والذخائر (2/ 168)، ومنازل الأحباب (185). (¬5) منازل الأحباب (185)، وروضة المحبين (281). ونقل المؤلف البيت الثالث في الروضة (284) وهو في الواضح المبين (64). وفي ز: "بغير صيانة"، تصحيف.

من قصص العشاق

وذكر الخرائطي (¬1) عن أبي غسّان قال: مرّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول: وهوِيتُه من قبلِ قطعِ تمائمي ... متمايسًا مثل القضيب الناعمِ فسألها: أحرّة (¬2) أنتِ أم مملوكة؟ قالت: بل مملوكة. فقال: مَن هواك (¬3)؟ فتلكّأت، فأقسم عليها (¬4)، فقالت: وأنا التي لعِبَ الهوى بفؤادها ... قُتِلَتْ بحبّ محمد ِبن القاسمِ فاشتراها من مولاها، وبعث بها إلى محمَّد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب (¬5)، وقال: هؤلاء فِتَن الرجال. وكم -والله- قد مات بهن كريم، وعطِبَ بهن سليم! وجاءت عثمان بن عفان جاريةٌ تستدعي على رجل من الأنصار، فقال لها عثمان: ما قصّتك؟ فقالت: كلِفتُ يا أمير المؤمنين بابن أخيه، فما أنفكُّ أراعيه. فقال له عثمان: إما أن تهبها لابن أخيك، أو أعطيك ¬

_ (¬1) في اعتلال القلوب (231) من طريق علي بن الأعرابي ثنا أبو غسان النهدي قال: "مرّ أبو بكر ... ". ولا يثبت، فإن بين النهدي - واسمه مالك بن إسماعيل- وبيّن أبي بكر مفاوز! فالنهدي توفي سنة 219 وأبو بكر توفي سنة 13 (ز). وانظر روضة المحبين (520) والتعليق الآتي. (¬2) ف: "امرأة". (¬3) س: "من هو". (¬4) "عليها" ساقط من ف. (¬5) وهذا دليل آخر على فساد هذا الخبر. فليس من أولاد جعفر بن أبي طالب من (6) يسمّى قاسمًا. وإنما أولاده عبد الله، ومحمد، وعون. انظر نسب قريش (80) وجمهرة أنساب العرب (68).

ثمنها من مالي. فقال: أُشهِدك يا أمير المؤمنين أنّها له (¬1). ونحن (¬2) لا ننكر فساد العشق الذي متعلَّقُه فعلُ الفاحشة بالمعشوق، وإنما الكلام في العشق العفيف من الرجل الظريف الذي يأبى له دينه وعفته ومروءته أن يُفسِد ما بينه وبيّن الله، وما بينه وبيّن معشوقه بالحرام. وهذا كعشق السلف الكرام والأئمة الأعلام. فهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة (¬3) عشِقَ حتى اشتهر أمره، ولم يُنكَر عليه، وعُدّ ظالمًا مَن لامه. ومن شعره (¬4): كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْمُ .... ولامك أقوام ولَومُهمُ ظُلْمُ فنمَّ عليك الكاشحون وقبلَهم .... عليك الهوى قد نمّ لو ينفع الكَتْمُ (¬5) فأصبحتَ كالنَّهْدي إذ مات حسرة ... على إثر هندٍ أو كمَنْ شفّه سُقْمُ (¬6) تجنّبتَ إتيانَ الحبيب تأثُّمًا ... ألا إنّ هِجرانَ الحبيبِ هو الإثمُ فذُقْ هَجْرَها قد كنتَ تزعم أنه ... رَشادٌ ألا يا ربّما كذَب الزَّعْمُ وهذا عمر بن عبد العزيز، عشقُه لجارية فاطمة بنت عبد الملك بن ¬

_ (¬1) الواضح المبين (31) عن امتزاج النفوس للتميمي. وانظر: روضة المحبين (521). (¬2) "ونحن" ساقط من ز. ولا يزال الكلام مستمرًا على لسان المعترض. (¬3) توفي سنة 98 هـ. انظر ترجمته في سير أعلام البلاء (4/ 475). (¬4) الأبيات في الأمالي (2/ 20)، ومصارع العشاق (1/ 321) وغيرهما. (¬5) الرواية: "لو نفع النمُّ". (¬6) ما عدا ل: "الهندي"، تحريف. والمقصود عبد الله بن عجلان النهديّ، وهند زوجه. انظر ترجمة عبد الله في الأغاني (22/ 245).

مروان امرأتِه مشهور (¬1). وكانت جارية بارعة الجمال، وكان معجبًا بها، وكان يطلبها من امرأته ويحرص على أن تهبَها له، فتأبى. ولم تزل الجارية في نفس عمر، فلما استخلف أمرت فاطمةُ بالجارية، فأُصلِحت، وكانت مثلًا في حسنها وجمالها، ثم دخلتْ على عمر، وقالت: يا أمير المؤمنين إنّك كنت معجبًا بجاريتي فلانة، وسألتَنيها فأبيت عليك، والآن فقد طابت (¬2) نفسي لك بها. فلما قالت له ذلك (¬3) استبان الفرح في وجهه، وقال: عجَّلي بها عليّ. فلما أدخلَتْها عليه ازداد بها عجبًا، وقال لها: ألقي ثيابك، ففعلَتْ. ثم قال لها على رسلكِ، أخبريني لمن كنتِ؟ ومن أين صرت لفاطمة؟ فقالت: أغرم الحَجّاج عاملًا له بالكوفة مالًا، وكنت في رقيق ذلك العامل (¬4) فأخذني، وبعث بي إلى عبد الملك، فوهبني لفاطمة. قال: وما فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك. قال: وهل ترك ولدا؟ قالت: نعم. قال: فما حالهم؟ قالت: سيئة. فقال: شُدِّي عليك ثيابك، واذهبي إلى مكانك. ثم كتب إلى عامله على العراق أن ابعَثْ إلى فلان بن فلان على البريد. فلما قدم قال له (¬5): ارفع إليّ جميعَ ما غرّمه الحجّاج لأبيك. فلم يرفع إليه (¬6) شيئًا إلا ¬

_ (¬1) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (61 - 62). (ز). وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الهيثم بن عديّ. والهيثم كذاب متروك الحديث. وانظر منازل الأحباب (65). (ص). (¬2) ف: "قد طابت". (¬3) "فلما ... ذلك" ساقط من س. (¬4) بعده في ف: "قالت". (¬5) "له" ساقط من ز. (¬6) "إليه" ساقط من ف.

دفعه إليه (¬1). ثم أمر بالجارية فدُفِعت إليه. ثم قال له: إياك وإياها، فلعل أباك كان ألمَّ بها. فقال (¬2) الغلام: هي لك يا أمير المؤمنين. قال: لا حاجة لي بها. قال: فابتَعْها منّي. قال لستُ إذا ممن نهى النفسَ عن الهوى. فلما عزم الفتى على الانصراف بها قالت: أين وجدُك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: على حاله، ولقد زاد! ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رحمه الله. وهذا أبو بكر محمَّد (¬3) بن داود الظاهري، العلَم (¬4) المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قول في الفقه، وهو من أكابر العلماء، وعشقه مشهور (¬5). قال نِفطَويه: دخلتُ عليه في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف تجدك؟ فقال (¬6): حبُّ من تعلم أورثني ما ترى. فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، والآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى. وأما اللذة المحظورة فمنعني منها ما حدثني أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن أبي يحيي القتّات، عن مجاهد، عن ابن عباس يرفعه: "من عشِق وكتَم وعفّ وصبر غفر الله له، ¬

_ (¬1) س: "ردّه عليه". (¬2) ف: "قال". (¬3) ف، ل: "بن محمَّد"، خطأ. وسقط "بن داود" من ل. (¬4) س: "العالم". ز: "المعلم"، تحريف. (¬5) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (5/ 256)، وسير أعلام البلاء (13/ 109). (¬6) ف: "قال".

وأدخله الجنّة" (¬1). ثم أنشد: انظر إلى السَحر يجري في لواحظه ... وانظر إلى دَعَجٍ في طرفه الساجي (¬2) وانظر إلى شعَرات فوق عارضه ... كأنهنَّ نِمالٌ دبَّ في عاجِ ثم أنشد: مالهم أنكروا سوادًا بخَدَّيِْ ... ـهِ ولا ينكرون وردَ الغصون إن يكن عيبُ خدِّه بدَدَ الشَّعـ ... ـرِ فعيبُ العيون شَعْرُ الجفونِ (¬3) فقلت له: نفيتَ القياس في الفقه، وأثبتَّه في الشعر. فقال: غلبة الوجد وملكة النفس دعَوَا إليه. ثم مات من ليلته (¬4). وبسبب معشوقه صنّف كتاب "الزهرة". ومن كلامه فيه (¬5): من يئس ممن (¬6) يهواه ولم يمُتْ (¬7) من وقته سلاه [141/ أ] وذلك أنً أول روعات اليأس (¬8) تأتي القلب، وهو غير مستعدّ لها، فأما الثانية فتأتي القلب، وقد وطّأته لها الروعة الأولى (¬9). ¬

_ (¬1) انظر كلام المصنف على هذا الحديث في آخر الفصل. (¬2) س: "من لواحظه". (¬3) ورد الشطر الأول في ف هكذا: "إن يكن عيبه عيب الشعر". (¬4) ف: "في ليلته". وانظر: تاريخ بغداد (5/ 262). (¬5) وأوله عنوان الباب الثامن والأربعين منه. انظر ص (452). (¬6) ز: "تأسّى بمن". وفي س: "باس بمن". (¬7) في الزهرة: "لم يلتفت"، ولعل صوابه: "لم يُفتلَتْ". (¬8) ز: "التأسي"، تحريف. (¬9) "الأولى" ساقط من س. وفي الزهرة: "الأولة".

والتقى هو وأبو العباس بن سُرَيج (¬1) في مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير (¬2) فتناظرا في مسألة من الإيلاء، فقال له ابن سريج: أنت بأن تقول: "من دامت لحظاته كثرت حسراته" (¬3) أحذق منك بالكلام على الفقه! فقال: لئن كان ذلك فإني أقول: أنره في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرَّما وأحمل من ثِقْل الهوى ما لوَ انّه ... يُصَبّ على الصخر الأصمّ تهدّما وينطق طرفي عن مترجَم خاطري ... فلولا اختلاسي ردَّه لتكلّما (¬4) رأيتُ الهوى دعوى من الناس كلِّهم ... فلستُ أرى ودًّا صحيحًا مسلّما فقال له (¬5) أبو العباس بن سُرَيج: بمَ تفخر عليّ؟ ولو شئتُ قلتُ: ومُطاعِمٍ كالشَّهد في نغماته ... قد بتُّ أمنعه لذيذَ سِناته ¬

_ (¬1) س، ل: "شريح"، تصحيف. وهو أحمد بن عمر بن سريج القاضي البغدادي، شيخ الشافعية في وقته. توفي سنة 356 هـ. انظر ترجمته في طبقات السبكي (3/ 25)، وسير أعلام البلاء (14/ 201). (¬2) أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح البغدادي، من بلغاء زمانه. وزر غير مرة للمقتدر والقاهر. توفي سنة 334 هـ. انظر ترجمته في معجم الأدباء (1823)، وسير أعلام البلاء (15/ 298). (¬3) وهو عنوان الباب الأول من كتاب "الزهرة" (ص 45)، وفيه: "من كثرت لحظاته دامت حسراته". وهو الصواب، وكذا في زهر الآداب (728). (¬4) في النسخ: "ودّه"، والتصحيح من تاريخ بغداد وغيره. (¬5) "له" ساقط من ف.

ضنًّا به وبحسنه وحديثه ... وأنزّه اللحظاتِ في وجَناته (¬1) حتى إذا ما الصبح لاح عَمودُه ... ولّى بخاتَم ربه وبَراته فقال أبو بكر: يحفظ عليه الوزير ما أقرَّ به حتى يقيم شاهدَين على أنّه ولّى بخاتم ربه وبراءته. فقال ابن سريج: يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك: أنزِّه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تَنال محرَّما فضحك الوزير فقال: لقد جمعتما لطفًا وظرفًا. ذكر ذلك أبو بكر الخطيب في تاريخه (¬2). وجاءته يومًا فتيا مضمونها: يا ابنَ داود يا فقيهَ العراقِ ... أفتِنا في قواتل الأحداقِ (¬3) هل عليها بما أتت من جناح ... أم حلالٌ لها دمُ العُشّاقِ فكتب الجواب قحما البيتين بخطه: عندي جواب مسائل العشّاقِ ... فأسمعه من قرِحِ الحشا مشتاقِ ¬

_ (¬1) ما عدا ف: "صبًّا". (¬2) (5: 262) ولكن سياق القصة فيه مغاير لما ذكره المصنف هنا. فالمناظرة في رواية الخطيب وقعت في مجلس القاضي أبي عمر محمَّد بن يوسف، والمسألة من مسائل الظهار، مع خلافات أخرى. وسياقها هنا يوافق ما ورد في المصون (126)، وزهر الآداب (728)، ووفيات الأعيان (4/ 260)، ومنازل الأحباب (76). (¬3) ل: "فواتك الأحداق".

لما سألتَ عن الهوى هيّجتَني ... وأرقتَ دمعًا لم يكن بمُراقِ إن كان معشوقٌ يعذِّب عاشقًا ... كان المعذَّبُ أنعمَ العشّاقِ (¬1) قال صاحب كتاب "منازل الأحباب" (¬2) شهاب الدين محمود بن سلمان بن فهد صاحب الإنشاء (¬3): وقلتُ في جواب البيتين على وزنهما (¬4) مجيبًا للسائل: قل لمن جاء سائلًا عن لحاظٍ ... هنّ يلعبن في دم العشّاق ما على السيف في الورى من جُناحٍ ... إن ثنى الحدَّ عن دمٍ مُهراقِ وسيوفُ اللِّحاظ أولى بأن تُصـ ... ـفحَ عمّا جنَتْ على العشّاق ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد (5/ 257)، ومنه في مصارع العشّاق (2/ 213،119). وقد نقلها الخطيب بسنده عن الطبراني عن بعض أصحابه قال: "كتب بعض أهل الأدب إلى أبي بكر ... ". ونقل ابن خلكان (4/ 261) عن ابن أبي الدنيا أنه كان حاضرَا في مجلس أبي بكر، إذ جاءه المستفتي، وذكر أنه ابن الرومي الشاعر المشهور، أما جواب ابن داود فذكره بهذا اللفظ: كيف يفتيكم قتيلٌ صريعٌ ... بسهام الفراق والاشتياقِ وقتيل التلاقِ أحسن حالًا ... عند داود من قتيل الفراقِ وهذان البيتان على وزن بيتي السؤال، خلافًا لرواية الخطيب. (¬2) عنوانه الكامل: "منازل الأحباب ومنازه الألباب"، وهو مطبوع. (¬3) ولد في حلب سنة 644 هـ، وتوفي بدمشق سنة 725. قال ابن رجب: بقي في ديوان الإنشاء نحوًا من خمسين سنة بدمشق ومصر. وولي كتابة السرّ بدمشق نحوَا من ثمان سنين قبل وفاته. الذيل على طبقات الحنابلة 4/ 459، وأعيان العصر 5/ 372. (¬4) وهذا يدلّ على أن شهاب الدين وقف على رواية الخطيب فقط، فلحظ أنّ جواب أبي بكر لم يكن على وزن شعر السائل.

إنما كلُّ من قَتلنَ شهيدٌ (¬1) ... ولهذا يفنى ضَنىً وهو باقِ (¬2) ونظير ذلك فتوى وردت على الشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكَلْوَذاني شيخ الحنابلة في وقته (¬3): قل للإمام أبي الخطّاب مسألةً ... جاءت إليك وما خَلقٌ سِواكَ لها ماذا على رجل رامَ الصلاةَ فمُذْ ... لاحتْ لخاطرِه ذاتُ الجمال لها (¬4) فأجابه تحت سؤاله: قل للأديب الذي وافى بمسألة ... سرّتْ فؤاديَ لمّا أنْ أصختُ لَها إن الذي فَتَنتْه عن عبادته ... خريدةٌ ذاتُ حسني فانثنى وَلَها (¬5) إن تاب ثم قضى عنه عبادتَه ... فرحمةُ الله تغشَى من عصَى ولَها (¬6) وقال عبد الله بن معمر القيسي (¬7): حججتُ سنة، ثم دخلتُ مسجد المدينة لزيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فبينا أنا جالس ذات ليلة (¬8) بين القبر ¬

_ (¬1) في النسخ الخطيّة: "شهيدَا" بالنصب، والصواب ما أثبتنا. (¬2) لم ترد في منازل الأحباب، وكانت أولى به. (¬3) ولد في بغداد سنة 432 هـ وتوفي فيها سنة 510 هـ. ترجمته في الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 270). (¬4) من اللهو. (¬5) الوَلَه: ذهاب العقل، والتحسّر من شدة الوجد. الصحاح (وله). (¬6) من اللهو. والقصة نقلها ابن رجب في الذيل (1/ 276) عن ابن السمعاني. (¬7) القصة في المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي (126 - 134)، ومنازل الأحباب (187 - 193)، ومنه في الواضح المبين (255 - 259). وفي المستجاد: "عبد الله بن المعتمر ... " ولم أجد له ترجمة. (¬8) ما عدا ل: "جالس ليلة".

والمنبر إذ سمعت أنينًا، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول: أَشْجاكَ نَوحُ حمائم السِّدْرِ ... فأهَجْنَ منك بلابلَ الصَّدْرِ أم عزّ نومَك ذكرُ غانيةٍ ... أهدَتْ إليك وساوسَ الفكْرِ (¬1) يا ليلةً طالت على دَنِفٍ ... يشكو السُّهادَ وقلّةَ الصبرِ أسلمتِ مَن يهوَى لحرِّ جوىً ... متوقِّدٍ كتوقُّدِ الجَمْرِ (¬2) فالبدرُ يشهد أنّني كلِفٌ ... مُغْرىً بحبِّ شبيهةِ البدرِ [115/ أ] ما كنت أحسبني أهيم بها ... حتّى بُليتُ وكنتُ لا أدري ثم انقطع الصوت، فلم أدر من أين جاء، وإذا به قد أعاد البكاء والأنين، ثم أنشد: أشجاك من ريَا خيالٌ زائرُ ... والليلُ مسوَدُّ الذوائبِ عاكِرُ (¬3) واعتاد مهجتك الهوى برَسِيسِه ... واهتاجَ مقلتك الخيالُ الزائرُ (¬4) ناديتُ ريَّا والظلامُ كأنّه ... يمٌّ تلاطَمَ فيه موجٌ زاخرُ والبدرُ يسري في السماء كانّه ... ملِكٌ ترجَّلَ والنجومُ عساكِرُ وترى به الجوزاءَ ترقصُ في الدُّجى ... رقصَ الحبيبِ علاه سُكْرٌ ظاهرُ (¬5) ¬

_ (¬1) ف: "ذكر غائبة"، تصحيف. (¬2) ما عدا ف: "تهوى"، تصحيف. وفي ل: "متوقدًا". (¬3) ف: "من فيءٍ"، ولعله تحريف. (¬4) كذا في النسخ والواضح المبين. وفي منازل الأحباب: "الخيال الباكر". (¬5) ف: "ضيا الجوزاء يرقص".

يا ليلُ طُلْتَ على محِبٍّ ما له ... إلا الصباحَ مُساعِدٌ ومُؤازِرُ فأجابني مُتْ حتفَ أنفِكَ واعلمَنْ ... أنّ الهوى لَهُوَ الهَوانُ الحاضِرُ قال: وكنتُ ذهبتُ عند ابتدائه بالأبيات (¬1)، فلم ينتهِ إلا وأنا عنده. فرأيتُ شابّا مقتبلًا (¬2) شبابُه، قد خرق الدمعُ في خدّه خَرْقَين، فسلّمتُ عليه، فقال: اجلس، من أنت؟ فقلت: عبد الله بن معمر القيسي. قال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، كنتُ جالسًا في الروضة، فما راعني إلا صوتك. فبنفسي أفديك، فما الذي تجد؟ فقال: أنا عتبة بن الحُباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري (¬3)، غدوتُ يومًا إلى مسجد الأحزاب، فصلّيت فيه، ثم اعتزلتُ غيرَ بعيد، فإذا (¬4) بنسوة قد أقبلن يتهادَين مثل القطا، وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة، فوقَفتْ عليّ وقالت: يا عتبةُ ما تقول في وصلِ مَن يطلب وصلك؛ ثم تركَتْني وذهبَتْ، فلم أسمع لها خبرًا، ولا قفوتُ لها أثرًا، وأنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان. ثم صرخ وأكبّ مغشيًّا عليه، ثم أفاق كأنما (¬5) صُبغت وجنتاه بوَرْس، ثم أنشأ يقول (¬6): ¬

_ (¬1) "بالأبيات" من ل. (¬2) ف: "مقبلاَ". (¬3) في المستجاد: "عيينة بن الحباب ... ". الحباب من المنذر صحابي معروف. وهو صاحب الرأي يوم بدر. وابنه خَشْرم من أهل الحديبية. انظر جمهرة أنساب العرب (359). والإصابة (2/ 285). أما عتبة أو عيينة بن الحباب فلم أجد له ذكرًا. (¬4) ز: "وإذا". (¬5) ز: "فكأنما". (¬6) لم يرد "يقول" في س، ف. وفي ل: "ثم أنشد".

أراكم بقلبي من بلادِ بعيدةِ ... فيا هَلْ تَرَوني بالفؤاد على بُعدِ فؤادي وطَرفي يأسفان عليكمُ ... وعندكمُ روحي وذكركمُ عندي ولستُ ألدُّ العيشَ حتّى أراكم ... ولو كنتُ في الفردوس في جنّةِ الخلدِ فقلت: يا ابن أخي تُبْ إلى ربّك، واستغفِرْ من ذنبك (¬1)، فبين يديك هولُ المُطَّلَع (¬2). فقال: ما أنا بسالٍ حتى يؤوب القارظان (¬3)! ولم أزل معه إلى أن طلع الصبح (¬4)، فقلت: قم بنا إلى مسجد الأحزاب، فلعل الله أن يكشف كربتك. قال: أرجو ذاك إن شاء الله ببركة طَلْعتك. فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب، فسمعته يقول: يا لَلرِّجالِ لِيوم الأربعاء أما ... ينفكّ يُحدِث لي بعد النُّهَى طرَبا ما إن يزال غزالٌ منه يُقلِقني ... يأتي إلى مسجد الأحزاب مُنْتقِبا (¬5) يُخبّر الناسَ أنّ الأجرَ همّتُه ... وما أتى طالبًا للأجر محتسِبا لوكان يبغي ثوابًا ما أتى صَلِفًا ... مضمَّخًا بفتيت المسك مختضِبا (¬6) ¬

_ (¬1) ف: "لذنبك". (¬2) يعني الموقف يوم القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت. قال عمر رضي الله عنه: "لو أن لي ما في الأرض جميعًا لافتديتُ به من هول المطلع". انظر النهاية (3/ 132). (¬3) من أمثالهم في التأبيد. انظر تفسيره في فصل المقال (473)، وجمهرة الأمثال (1/ 123). (¬4) ل: "حتى طلع الفجر". س: "أن حتى طلع الصبح". (¬5) في المستجاد، ومنازل الأحباب، والواضح المبين: "يظلمني". (¬6) الصلَف: الغلوّ في الظرف مع تكبّر. اللسان (صلف). وفي المستجاد، ومنازل (7) الأحباب، والواضح المبين: "أتى ظهرًا".

ثم جلسنا حتى صلينا الظهر. فإذا بالنسوة قد أقبلن، وليست الجارية فيهن، فوقفن عليه، وقلن له: يا عتبةُ ما ظنّكَ بطالبةِ وصلك وكاسفةِ بالك (¬1)؟ قال: وما بالها؟ قلن: أخذها أبوها، وارتحل بها إلى أرض السماوة. فسألتُهن عن الجارية، فقلن: هي ريّا ابنة الغِطريف السُّلَمي. فرفع عتبة رأسه إليهن، وقال: خليلَيَّ ريّا قد أجدَّ بكورُها ... وسارت إلى أرض السماوة عِيرُها (¬2) خليلَيَّ إني قد عَشِيتُ من البكا ... فهل عند غيري مقلةٌ أستعيرُها (¬3) فقلت له: إنّي قد وردتُ بمال جزيل أريد به أهلَ السَّتْر (¬4)، ووالله لأبذلنّّه أمامك حتى تبلغَ رضاك وفوق الرضا! فقم بنا إلى مسجد الأنصار. فقمنا وسِرْنا حتى أشرفنا على ملأ منهم، فسلّمتُ، فأحسنوا الردّ. فقلتُ: أيها الملأ ما تقولون في عتبة وأبيه؟ قالوا: من سادات العرب. فقلت: إنّه قد رُميَ بداية من الهوى، وما أريد منكم إلا المساعدة إلى السماوة. فقالوا: سمعًا وطاعة. فركبنا، وركب القوم معنا، حتى أشرفنا على منازل بني سُلَيم. فاُعْلِم الغطريفُ بنا، فخرج مبادرًا، فاستقبلنا، وقال: حُييّتم بالإكرام. فقلنا: وأنتَ فحيّاك الله، إنّا لك أضياف. فقال: نزلتم أكرَم منزل. فنادى: يا معشر العبيد أنزِلوا القومَ. ففُرشت الأنطاع والنَّمارق (¬5)، ¬

_ (¬1) في النسخ كلها: "كاشفة بالك" بالشين المعجمة، تصحيف. (¬2) ف: "أخذن بكورها" تحريف. (¬3) في المستجاد بيت آخر بينهما. (¬4) ز: "السير"، تصحيف. (¬5) النطَع: بساط من أديم. والنُُّمُرُقة: الوسادة.

وذُبحت الذبائح. فقلنا: لسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا. فقال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر. فقال: إنّ التي تخطبونها أمرُها إلى نفسها، وأنا أدخلُ أُخبِرها (¬1). ثم دخل مغضَبًا على ابنته، فقالت: يا أبت ما لي أرى الغضب في وجهك؟ فقال: قد ورد الأنصار يخطبونكِ (¬2) منّي. قالت: سادة (¬3) كرام، استغفر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلمن الخِطبة منهم؟ قال: لعتبة بن الحباب. قالت: والله لقد سمعتُ عن عتبة هذا أنّه يفي بما وعد، ويدرك إذا قَصَد. فقال: أقسمتُ لا زوّجتُك (¬4) به أبدًا، ولقد نمى إلي بعض حديثك معه. فقالت: ما كان ذلك (¬5)، ولكن إذ أقسمتَ فإنّ (¬6) الأنصار لا يُرَدّون (¬7) ردًّا قبيحًا، فاحسِنْ لهم الردَّ. فقال: بأيّ شيء؟ قالت: أغلِظْ لهم المهر (¬8)، فإنهم يرجعون ولا يجيبون. فقال: ما أحسن ما قلتِ! ثمّ خرج مبادرًا فقال: إنّ فتاة الحيّ قد أجابت، ولكنّي (¬9) أريد لها ¬

_ (¬1) ف: "أخطبها". (¬2) ف: "يخطبون". (¬3) س: "سادات". (¬4) س، ف: "لا أزوجك". (¬5) س: "كذلك". (¬6) "إذ أقسمت فإنّ" ساقط من س. (¬7) ف: "لا ترد". (¬8) "المهر" ساقط من س. (¬9) ف: "ولكن".

مهرَ مثلِها (¬1)، فمن القائم به؟ فقال عبد الله بن معمّر: أنا، فقُلْ ما شئتَ! فقال: ألف مثقال من الذهب، ومائة ثوب من الأبراد، وخمسة أكرِشةِ عنبر (¬2). فقال عبد الله: لك ذلك، فهل أجبتَ؟ قال: نعم، قال عبد الله: فأنفذتُ نفرًا من الأنصار إلى المدينة، فأتوا بجميع ما طلب. ثم صنعت الوليمة وأقمنا على ذلك أيامًا. ثم قال: خذوا فتاتكم، وانصرِفوا مصاحَبين. ثم حملها في هودج، وجهّزها بثلاثين راحلةً من المتاع والتحَف، فودّعناه، وسرنا، حتّى إذا بقي بيننا وبيّن المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة، أحسبها من سليم، فحمل عليها عتبة بن الحباب، فقتل منهم رجالًا، وجدّل آخرين. ثم رجع وبه طعنة تفور دمًا، فسقط إلى الأرض. [116/ ب] وأتتنا نجدة (¬3)، فطردت عنّا الخيل. وقد قضى عتبة نحبه، فقلنا: وا عتبتاه! فسمعتنا (¬4) الجارية، فألقت نفسَها عن البعير، وجعلت (¬5) تصيح بحرقة وأنشدت: تصبّرتُ لا أنّي صبرتُ وإنما ... أعلِّل نفسي أنّها بك لاحقَه فلو أنصفَتْ روحي لكانت إلى الرَّدى ... أمامكَ من دون البريّة سابقَه ¬

_ (¬1) ف، ل: "مهرًا مثلها". (¬2) ف: "من العنبر". والأكرشة: جمع كرِش، وهو وعاء الطيب والثوب. اللسان (كرش). وفي المستجاد زيادة خمسة آلاف درهم من ضرب هجر، وعشرين ثوبَا من الوشي المطيّر، وعقد من الجوهر، وعشرين نافجة من المسك الأذفر! (¬3) س: "وانثنى بخدّه"، تصحيف. (¬4) ف: "فسمعت". (¬5) "وجعلت" ساقط من ف.

فما أحدٌ بعدي وبعدكَ منصِفٌ ... خليلًا ولا نفسٌ لنفسٍ موافقَه ثم شهقت، وقفت نحبها. فاحتفرنا لهما قبرًا واحدًا، ودفنّاهما فيه. ثم رجعتُ، فأقمتُ (¬1) سبعَ سنين. ثم ذهبتُ إلى الحجاز، ووردتُ المدينة، فقلت: واللهِ لآتينّ قبرَ عتبة أزوره. فأتيت القبر، فإذا عليه شجرةٌ عليها عصائب حمر وصفر. فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ قالوا: شجرة العروسين! ولو لم يكن في العشق من الرخصة المخالفة للتشديد إلا الحديث الوارد بالحسَن من الأسانيد، وهو حديث سُوَيد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتّات، عن مجاهد، عن ابن عباس يرفعه: "من عشِقَ وعفَّ وكتَم فمات، فهو شهيد" (¬2). ورواه سويد أيضًا عن ابن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا. ورواه الخطيب، عن الأزهري، عن المعافى بن زكريا، عن قُطبة بن الفضل (¬3)، عن أحمد بن مسروق عنه. ¬

_ (¬1) ف: "ثم رحت إلى المدينة وأقمت"، وهو غلط. والمقصود أنّه رجع إلى بلده. (¬2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 195) وابن الجوزي في ذم الهوى (101). وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (5/ 364) و (6/ 48) و (11/ 295) و (13/ 85) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1286، 1287) وفي ذم الهوى (256 - 258) من طريق جماعةِ عن سويد بن سعيد به. وسيأتي كلام المؤلف عليه في آخر الكتاب. (¬3) ف: "قطبة عن الفضل"، خطأ.

ورواه الزبير بن بكّار، عن عبد العزيز الماجشون (¬1)، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس. وهذا سيّد الأولين والآخرين ورسول ربّ العالمين نظر إلى زينب بنت جحش فقال: "سبحانَ مقلّب القلوب" (¬2). وكانت تحت زيد بن حارثة مولاه، فلما همَّ بطلاَقها قالَ له: "اتّق الله وأمسِكْ عليك زوجكَ". فلمّا طلّقها زوّجها الله سبحانه من رسوله من (¬3) فوق سبع سماوات، فكان هو وليّها ووليّ تزويجها من رسوله. وعقد [171/ أ]، عقد نكاحها ¬

_ (¬1) س، ف: "ابن الماجشون". (¬2) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 101 - 102) والحاكم في المستدرك 4/ 25 (6775) من طريق محمَّد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمَّد بن يحيى بن حبان قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت زيد يطلبه ... فذكره مطولًا. وفيه: "سبحان الله العظيم مصرف القلوب". الواقدي متروك الحديث. ورواه سليم مولى الشعبي عن الشعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره وفيه: "سبحان الله مقلب القلوب". أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 316). قلت: سليم ضعيف، والحديث مرسل. (ز). وقال المؤلف في زاد المعاد (4/ 266): "وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق قدره أنه ابتلي به في شأن زينب بنث جحش وأنه رآها فقال: "سبحان مقلب القلوب"، وأخذت بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثة: أمسكها ... فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق وصنف بعضهم كتابًا في العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل، وتحميله كلام الله ما لا يحتمله، ونسبته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما برأه الله منه، فإن زينب ... ". وانظر ما سيأتي من كلام المصنف على قصة زينب في ص (556) (ص). (¬3) لم ترد "من" في ز.

فوق عرشه، وأنزل على رسوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. وهذا داود نبيّ الله لمّا كان تحته تسع وتسعون امرأة، ثم أحبّ تلك المرأة، فتزوّجها، وكمّل بها المائة! (¬1) وقال الزهري: أول حبّ (¬2) كان في الإِسلام حبّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشةَ (¬3)، وكان مسروق يسمّيها "حبيبة رسول ربِّ العالمين" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج القصة بطولها الطبري في تفسيره (23/ 150 - 151) وغيره من طريق يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، فذكر قصة ذلك مطولًا. وهو حديث باطل لا يثبت ِوجاء نحو هذه القصة في تفسير الطبري أيضًا (146/ 23 - 151) عن السدّي والحسن البصري ووهب بن منبه ومجاهد وعطاء الخراساني وعن ابن عباس ولا يصح عنه. (¬2) من "ثم أحبّ تلك ... " إلى هنا ساقط من س. (¬3) ز: "لعائشقه (ص). أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 44) من طريق الوليد بن محمَّد الموقري عن الزهري فذكره. ورواه الوليد أيضًا عن الزهري عن أنس. أخرجه الدارقطني في الأفراد (2/ 220 - 221 - أطراف الغرائب). قلت: الحديث باطل موضوع، والوليد متروك الحديث. قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (126): "رواه الدارقطني عن أنس مرفوعًا، وفي إسناده كذابان". ورواه محمَّد بن الزبير الحراني عن الزهري فذكره. أخرجه الخطيب في تاريخه (4/ 34). فيه محمَّد بن الزبير. قال ابن عدي: منكر الحديث عن الزهري الكامل (6/ 238). (¬4) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 66) والإمام أحمد في العلل 2/ 411 (2845) وأبو نعيم في الحلية (2/ 44) وابن عبد البر في التمهيد (13/ 35) وغيرهم من طريق الأعمش وحبيب بن أبي ثابت عن مسلم أبي الضحى عن =

وقال أبو قيس مولى عبد الله بن عمرو: أرسلني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة أسألها: أكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم فقالت: لا. فقال: إنّ عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلها وهو صائم. فقالت أم سلمة: إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى عائشة لا يتمالك عنها (¬1). وذكر سعد (¬2) بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: كان إبراهيم خليل الله - صلى الله عليه وسلم -يزور هاجَرَ في كلّ يوم من الشام على البُراق من ¬

_ = مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة قال: "حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة حبيب الله المبرأة فلم أكذبها". وسنده صحيح. (¬1) أخرجه النسائي في الكبرى (3572) وأحمد 6/ 296 (26533) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3030) والطحاوي في شرح المعاني (2/ 93) والطبراني في الكبير (23/ رقم 389) وغيرهم من طريق موسى بن عُلَي بن رباح عن أبيه عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن أم سلمة. قال ابن عبد البر في التمهيد (5/ 125): "هذا حديث متصل، لكنه ليس يجيء إلا بهذا الإسناد، وليس بالقوي. وهو منكر على أصل ما ذكرنا عن أم سلمة. وقد رواه عن موسى بن عُلَي: عبد الرحمن بن مهدي و ... ، وما انفرد به موسى بن عُلي فليس بحجة، والأحاديث المذكورة عن أم سلمة معارضة له، وهي أحسن مجيئًا وأظهر تواترًا، وأثبت نقلًا منه". قلت: لموسى بن عُلي حديث آخر غريب شاذ نظير هذا تكلم فيه الأثرم وابن عبد البر. انظر الناسخ والمنسوخ للأثرم (185) والصيام من شرح العمدة لابن تيمية (2/ 569). (ز). ومن أحاديث أم سلمة المعارضة له: ما رواه مسلم في كتاب الصيام (1108) عن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سل هذه" (لأم سلمة) فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك. (ص). (¬2) ف: "سعيد"، تحريف.

شغفه بها وقلة صبره عنها (¬1). وذكر الخرائطي (¬2) أنّ عبد الله بن عمر اشترى جارية رومية، فكان يحبّها حبًا شديدًا، فوقعت ذات يوم عن بغلة له، فجعل يمسح التراب عن وجهها، ويفدّيها (¬3). وكانت تكثر أن تقول له: يا بَطْرون، أنت قالون. تعني (¬4): يا مولاي أنت جيّد. ثم إنها هربت منه، فوجد عليها وجدًا شديدًا، وقال: قد كنت أحسَبني قالونَ فانصرفَتْ ... فاليوم أعلم أنّي غيرُ قالونِ قال أبو محمَّد بن حزم: وقد أحبّ من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كثير (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (311) مطولًا. وفيه الواقدي، متروك الحديث. (ز) وانظر روضة المحبين (275). (¬2) وكذا قال في روضة المحبين (278) أيضًا. وكذا عن الخرائطي في الواضح المبين (29)، ولم أجده في المطبوع من اعتلال القلوب (ص). أخرجه ابن عساكر في تاريخه (31/ 178) من طريق شيخ من أهل المدينة عن مالك قال، فذكره. وسنده لا يصح لجهالة هذا الشيخ، ولأجل الانقطاع بين مالك وابن عمر (ز). (¬3) س، ل: "ويقبّلها". (¬4) س، ل، ز: "يعني". ولم ترد الكلمة في ف. (¬5) كذا ورد قول ابن حزم في الواضح المبين (30) وروضة المحبين (278). والذي في طوق الحمامة (5): "من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين". وقد ذكر ابن حزم بعده عبد الرحمن بن معاوية، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم من حكام الأندلس وبعض كبار رجالهم. وفي ف: "وقد أحب الخلفاء الراشدون والأئمة المهديّون كثيرًا"!

الرد على المعترض

وقال رجل لعمر بن الخطاب: يا امير الؤمنين رأيتُ امرأةً, فعشقتُها. فقال: ذاك مالا تملك (¬1). فالجواب- وبالله التوفيق- أنّ الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز (¬2) والنافع والضارّ. ولا يُسجَل (¬3) عليه بالذمّ والإنكار ولا بالمدح [117/ ب] والقبول من حيث الجملة (¬4). وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلَّقه، وإلا فالعشق من حيث هو لا يُحمَد ولا يُذَمّ. ونحن نذكر النافع من الحبّ والضارّ والجائز والحرام. اعلم أنّ أنفع المحبة على الإطلاق وأوجَبها وأعلاها وأجلّها محبةُ مَن جُبلت القلوب على محبته، وفطرت الخليقة على تألّهه. وبها قامت الأرضَ والسماوات، وعليها فُطِرت المخلوقات. وهي سرّ شهادة أن لا إله إلا الله، فإنّ "الإله" هو الذي تألَهه القلوبُ بالمحبة والإجلال والتعظيم والذلّ والخضوع، وتعبدُه. والعبادة لا تصحّ إلا له وحده، و"العبادة" هي كمال الحبّ مع كمال الخضوع والذلّ. والشركُ في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله. والله تعالى حيث لذاته من جميع الوجوه، وما سواه وإنّما يُحَبّ تبعَا لمحبته. ¬

_ (¬1) الواضح المبين (30). (¬2) ف: "الواقع الجائز". (¬3) س، ل: "لا يستعجل". والمثبت من ز. وكذا في ف، ولكن يظهر أنه غُيّر. وأسجل الحكم: أرسله. والمقصود أنه لا يحكم عليه مطلقًا بالمدح أو الذمّ. قال المصنف في الصواعق المرسلة (791): "وأسجل عليهم بالكفر والنفاق". (¬4) انظر: روضة المحبين (310).

وقد دلّ على وجوب محبته سبحانه جميعُ (¬1) كتبه المنزلة، ودعوةُ جميع رسله، وفطرتُه التي فَطَر عبادَه عليها، وما ركَّب فيهم من العقول، وما أسبَغَ عليهم من النعَم- فإنّ القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعَمَ عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كلُّ (¬2) "الإحسان منه، وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه (¬3) وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]؟ - وما تعرّف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، وما دلّت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله (¬4) وعظمته. والمحبة لها داعيان: الجمال والإجمال (¬5)، والربّ تعالى له الكمال المطلق من ذلك، فإنّه جميل يحبّ الجمال (¬6)، بل الجمال كلّه له، والإجمال (¬7) كلّه منه. فلا يستحقّ أن يُحَبَّ لذاته من كل وجه سواه. قال تعالي: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ¬

_ (¬1) "فإنما يحبُ ... جميع" ساقط من ل. (¬2) س: "كان"، تحريف. (¬3) ف: "فمن الله". (¬4) كذا في س. وفي ف، ل: "من كماله وبهائه وجلاله" وفي ز: "من جماله وبهائه وجلاله". (¬5) انظر مدارج السالكين (3/ 288). وأراد بالإجمال: "الإحسان والأنعام. وفي ف: "والإجلال" تحريف. (¬6) العبارة "والربّ تعالى ... الجمال" ساقطة من ف. (¬7) ف: "الإجلال"، تحريف.

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 54 - 56]. والولاية أصلها الحبّ، فلا موالاة إلا بحبّ. كما أنّ العداوة أصلها البغض. واللهُ وليّ الذين آمنوا، وهم أولياؤه، فهم يوالونه بمحبتهم له، وهو يواليهم بمحبته لهم. فالله (¬1) يوالي عبدَه بحسب محبته له. ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياءَ، بخلاف من وإلى أولياءه، فإنّه لم يتخذهم من دونه، بل موالاته (¬2) لهم من تمام موالاته. وقد أنكر على من سوّى بينه وبيّن غيره في المحبة، وأخبر أن من فعل ذلك فقد اتخذ من دونه أندادًا يحبّهم (¬3) كحبّ الله، والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله. وأخبر عمّن سوّى بينه وبيّن الأنداد في الحبّ أنّهم يقولون في النار لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97، 98]. وبهذا التوحيد في الحبّ أرسل الله سبحانه جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وأطبقت عليه دعوةُ الرسل من أولهم إلى آخرهم، ولأجله خلق السماوات والأرض والجنة والنار، فجعل الجنّة لأهله، والنار للمشركين به فيه (¬4). ¬

_ (¬1) ز: "وإنه". (¬2) ف: "فإنهم لم يتخذوهم من دونه بل موالاتهم". (¬3) س، ف: "يحبونهم". (¬4) "فيه" ساقط من ف.

وقد أقسم النبي- صلى الله عليه وسلم -أنّه "لا يؤمن عبد ٌ حتى يكونَ هو أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬1) فكيف بمحبة الربّ جلّ جلاله؟ وقال لعمر بن الخطاب: "لا حتّى أكون أحبَّ إليك من نفسك" (¬2). أي لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية. وإذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم - أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها، أفليس الربّ- جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جدّه، ولا إله غيره- أولى بمحبّيه (¬3) وعباده من أنفسهم؟ وكلُّ ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته، مما يحبّ العبد أو يكره. فعطاؤه ومنعه (¬4)، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله، وإماتته وإحياؤه، ولطفه وبرّه، ورحمته [118/ ب] وإحسانه، وستره وعفوه، وحلمه وصبره على عبده، وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته، وتفريج كربته -من غير حاجة منه إليه، بل (¬5) مع غناه التامّ عنه من جميع الوجوه (¬6) - كلُّ ذلك (¬7) داع للقلوب إلى تألّهه ومحبته. بل تمكينُه عبدَه من معصيته، وإعانتُه عليه وسَترُه حتى يقضي وطره ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه (464). (¬2) تقدم تخريجه (464). (¬3) ل، س: "بمحبته"، تصحيف. (¬4) ف: "عطاؤه ومنعه". وقد سقط "ومنعه" من ز. (¬5) "بل" ساقطة من ز، و"مع" ساقطة من س. (¬6) ف: "كل الوجوه". (¬7) ل: "وكل ذلك" خطأ، وقد سقط منها "داعٍ".

أنفع المحبة وأوجبها وأعلاها محبة الخالق سبحانه

منها، وكلاءته وحراسته له وهو يقضي وطره من معصيته، بعينه، ويستعين عليها بنعمه = من أقوى الدواعي إلى محبته. فلو أنّ مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبَه عن محبته، فكيف لا يحبّ العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس، مع إساءته؟ فخيره إليه نازل، وشرّه إليه صاعد، يتحبّب إليه بنعمه وهو غنيّ عنه، والعبد يتبغّض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه (¬1)! فلا إحسانُه وبرّه وإنعامه عليه يصدّه عن معصيته، ولا معصيةُ العبد ولؤمُه يقطع إحسانَ ربّه عنه! فألأمُ اللؤم تخلّفُ القلوب عن محبة مَن هذا شأنه، وتعلقُها بمحبة سواه! وأيضًا فكلّ من تحبّه من الخلق ويحبّك إنّما يريدك لنفسه وغرضه منك، والله سبحانه وتعالى يريدك لك، كما في الأثر الإلهي: "عبدي، كلٌّ يريدك لنفسه، وأنا أريدك لك" (¬2) فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له (¬3) بهذه المنزلة، وهو مُعرِض عنه، مشغول بحبّ غيره، قد استغرق (¬4) قلبَه محبةُ سواه؟ وأيضًا فكلّ من تُعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يُعاملك، ¬

_ (¬1) مأخوذ من "أثر إلهي" قال وهب بن منبه إنه قرأه في بعض الكتب. انظر حلية الأولياء (4/ 31). ونقله المؤلف في غير موضع. انظر: زاد المعاد (2/ 409)، ومدارج السالكين (1/ 464). (¬2) ذكره المصنف أيضًا في مدارج السالكين (3/ 407). (¬3) ف: "له ربه". (¬4) س، ل: "وقد استغرق".

ولا بدّ له (¬1) من نوع من أنواع الربح. والربّ تعالى إنّما يعاملك لتربحَ أنت عليه أعظمَ الربح وأعلاه. فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة، وهي أسرع شيء محوًا. وأيضًا فهو سبحانه خلقك لنفسه، وخلق كلَّ شيء لك في الدنيا والآخرة. فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟ وأيضًا فمطالبك بل مطالب الخلق كلهم جميعًا لديه، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمّله. يشكر القليل من العمل وينمّيه [119/ أ]، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه (¬2). {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. لا يشغله سمع عن سمع، ولا يغلّطه كثرة المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملِحّين، بل يحبّ الملحّين في الدعاء. ويُحِبّ أن يُسألَ، ويغضب (¬3) إذا لم يُسال. يستحي من عبده حيث (¬4) لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه. دعاه بنعمه وإحسانه (¬5) وأياديه إلى كرامته ورضوانه، فأبى. فأرسل رسله في طلبه، وبعث إليه معهم عهدَه. ثم نزل سبحانه إليه بنفسه، وقال: "من يسألني ¬

_ (¬1) "له" ساقط من س. (¬2) بعده في س، ف: "ويسأله". (¬3) ف: "فيغضب". (¬4) ف: "من حيث". والعبارة "يستحي ... حيث لا" ساقطة من س. (¬5) س: "دعاه بإحسانه".

فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟ " (¬1). أدعوكَ للوصل تأبَى ... أبعَثْ رسولي في الطلَبْ (¬2) أنزِلْ إليكَ بنفسي ... ألقاكَ في النُّوّامْ! (¬3) وكيف لا تحبّ القلوبُ من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيّئات إلا هو، ولا يجيب الدعَوات إلا هو، ولا يُقيل (¬4) العثَرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكرُبات ويُغيث اللهفات ويُنيل الطلَبات سواه؟ فهو "أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقّ من شُكِر، وأحقّ من عُبد، وأحقّ من حُمِد، وأنصَر من ابتُغِي، وأرأف من ملَك، وأجود من سئلَ، وأوسع من أعطى، وأرحم من استُرْحِم، وأكرم من قُصِد" (¬5)، وأعزّ من التُجئ إليه، وأكفى من تُوُكِّل عليه (¬6). أرحَمُ بعبده من الوالدة بولدها (¬7)، وَأشدّ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (233). (¬2) ل: "يطلبك". (¬3) لم يرد هذا الشعر في س. وذهب على الناشرين أنه نظم، فاثبتوه نثرًا! (¬4) ف: "ومن يقيل". وفي ل، ز: "ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات". (¬5) هذا لفظ حديث أخرجه الطبراني في الكبير وفي الدعاء عن أبي أمامة الباهلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أصبح قال: .... وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 117): رواه الطبراني وفيه فضالة بن عبيد مجمع على ضعفه. وقد ذكره ابن القيم مضمّنَا في الوابل الصيب (153) أيضًا. (¬6) س، ف: "توكل العبد عليه". ل: "توكل عليه العبد". (¬7) كما جاء في حديث عمر رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الولد ... (5999)؛ ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى =

فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا يئس من الحياة ثم وجدها (¬1). وهو الملِك لا شريك له، والفرد فلا ندّ (¬2) له. كلّ شيء هالك إلا وجهه. لن يُطاع إلا بإذنه، ولن يُعصى إلا بعلمه. يُطاع فيَشْكرُ، وبتوفيقه ونعمته أطِيعَ. ويُعصَى فيغفر ويعفو (¬3)، وحقُه أضِيعَ. فهو أقرب شهيد وأجلّ حفيظ. وأوفى وفيّ بالعهد، وأعدل قائم بالقسط. حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار" ونسخ الآجال. فالقلوب له مفضية، والسرّ عنده علانية. والغيب لديه (¬4) مكشوف، وكلّ أحد إليه ملهوف (¬5). عنَتِ الوجوه لنور وجهه، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه، ودلّت الفِطَر والأدلّة كلّها على امتناع مثله وشبهه. أشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات. "لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. يحفظ القسط، ويرفعه. [119/ ب] يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور، لو كشفه لأحرقتْ سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه ¬

_ = (2754). (¬1) يشير إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الدعوات، باب التوبة (6358)، ومسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة (2744). (¬2) س، ل: "لاندّ". (¬3) س: "فيعفو ويغفر". وسقط "ويعفو" من ز. (¬4) ز: "عنده". (¬5) بعض هذه الألفاظ وارد في حديث أبي أمامة السابق.

فصل: كمال اللذة ونعيم القلب تابع لكمال المحبوب وكمال محبته

بصره من خلقه" (¬1). ما اعتاض باذلُ حبّه لسواه ... مِن عوضٍ ولو ملَكَ الوجودَ بأسرِهِ فصل وهاهنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به، وهو أنّ كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين: أحدهما: كمال المحبوب في نفسه وجماله وأنّه أولى بإيثار الحبّ (¬2) من كلّ ما سواه. والأمر الثاني: كمال محبته، واستفرغ الوسع في حبّه، وإيثار قربهِ والوصولِ إليه على كلّ شيء. وكلّ عاقل يعلم أنّ اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته. فكلّما كانت المحبة أقوى (¬3) كانت لذة المحبّ (¬4) أكمل. فلذة من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال، ومن اشتدّ جوعه بأكل الطعام الشهيّ ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته. وإذا (¬5) عُرف هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه، بل هو مقصود كلّ حيّ، وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها، فهي ¬

_ (¬1) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام ... (179). (¬2) ل، حاشية س: "المحبة". (¬3) "أقوى" ساقط من ز. (¬4) ف: "الحب". (¬5) س: "فإذا".

تُذَمّ (¬1) إذا أعقبَتْ ألمًا أعظمَ منها، أو منعتْ لذةً خيرًا وأجلّ منها. فكيف إذا أعقبت أعظمَ الحسرات، وفوّتت أعظم اللذّات والمسرّات؟ وتُحمَد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرّة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجهٍ ما (¬2)، وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها (¬3). قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]، وقال السحرة لفرعون لمّا آمنوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} (¬4) [طه: 72، 73]. والله سبحانه خلق الخلق ليُنيلَهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد، وأما الدنيا فمنقطعة، ولذّاتها لا تصفو أبدًا ولا تدوم، بخلاف الآخرة فإنّ لذّاتها دائمة، ونعيمها خالص من كل كدر وأم، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين مع الخلود أبدًا. ولا تعلم نفس ما أخفى الله لعباده فيها (¬5) من قرة أعين، بل فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب [120/ أ] بشر. وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} (¬6) [غافر: 38، 39] فأخبرهم أنّ الدنيا متاع ¬

_ (¬1) ف: "ندمٌ"، تصحيف. (¬2) ل: "وتنكد بوجه". (¬3) "ولا نكد ... فيها" ساقط من س. (¬4) في النسخ: "اقض" دون الفاء. (¬5) ف: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم". (¬6) في النسخ: "اتبعوني، بإثبات الياء، وقد أثبتها أبو عمرو وقالون في الوصل، =

أعظم نعيم الآخرة ولذتها: النظر إلى وجه القلب وسماع كلامه والقرب منه

يُسْتَمْتعَ (¬1) بها إلى غيرها، وأنّ الآخرة هي المستقَرّ. وإذا عُرِف أنّ لذّات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذّات الآخرة (¬2)، ولذلك خُلقت الدنيا ولذّاتها، فكلّ لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلتْ إليها لم يُذَمَّ تناولُها، بل يُحمَد بحسب إيصالها إلى لذّة الآخرة. إذا عُرِف هذا، فأعظمُ نعيم الآخرة ولذّاتها: النظرُ إلى وجه الربّ جلّ جلاله، وسماعُ كلامه منه، والقربُ منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية: "فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه" (¬3). وفي حديث آخر: "إنّه إذا تجلّى لهم ورأوه نسُوا ما هم فيه من النعيم" (¬4). وفي النسائي ومسند الإِمام أحمد من حديث عمّار بن ياسر عن ¬

_ =وابن كثير في الحالين. الإقناع (755). (¬1) س، ل: "يتمتع". (¬2) ف: "لذة الآخرة". (¬3) ف: "إلى وجهه الكريم". وهو من حديث صهيب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الإيمان" باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (181). (¬4) أخرجه ابن ماجه (184) والعقيلي في الضعفاء (2/ 274 - 275) وابن أبي الدنيا في صفة الجنّة (98) وغيرهم بنحوه. فيه الفضل بن عيسى الرقاشي متروك الحديث. والحديث تكلم فيه العقيلي وابن عدي وابن الجوزي وابن كثير والبوصيري. وجاء عن الحسن البصري بمثله عند الآجري في الشريعة (572). وفي سنده عمر بن مدرك القاص. قال يحيى بن معين: كذاب. انظر الجرح (6/ 136) ولسان الميزان (6/ رقم 5690).

أعظم لذات الدنيا هي الموصلة إلى أعظم لذة في الآخرة

النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: "وأسألك لذّةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك" (¬1). وفي كتاب السنّة لعبد الله ابن الإِمام أحمد (¬2) مرفوعًا: "كأنّ الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن. إذا سمعوه (¬3) من الرحمن، فكأنّهم (¬4) لم يسمعوه قبل ذلك". وإذا عُرِف هذا، فأعظمُ الأسباب التي تُحصِّل هذه اللذّةَ هو أعظمُ لذّات الدنيا على الإطلاق، وهو لذّةُ معرفته سبحانه ولذّةُ محبته، فإن ذلك هو جنّة الدنيا ونعيمها العالي؛ ونسبةُ لذّاتها الفانية إليه كتَفْلةٍ في بحرِ، فإنّ الروح والقلب والبدن إنّما خلق لذلك. فأطيبُ ما في الدنيا معرفتُه ومحبّتُه، وأنشد ما (¬5) في الجنّة رؤيتُه ومشاهدتُه. فمحبّتُه ومعرفتُه قرّة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها. بل لذّاتُ الدنيا القاطعةُ عن ذلك تنقلب آلامًا وعذابًا، ويبقى صاحبها في ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (428 - 429). (¬2) لم أجده في المطبوع. والحديث أخرجه الرافعي في التدوين (2/ 403) من طريق إسماعيل بن رافع عن محمَّد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كأن الناس لم يسمعوا القرآن حين يسمعونه من الرحمن يتلوه عليهم يوم القيامة". ورواه بعضهم من قول محمَّد بن كعب القرظي قال: "كان الناس لم يسمعوا القرآن قبل يوم القيامة حين يتلوه الله عليهم". أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني (الدر المنثور 3/ 13). والمرفوع لا يصح؛ لأن فيه إسماعيل بن رافع المدني ضعيف. (¬3) ز: "سمعوا". (¬4) ف: "كانهم". (¬5) س: "والدنيا"، تحريف. ولمّا أشكلت الكلمة على بعض من قرأ النسخة ضرب عليها ثلاث مرَّات!

المعيشة الضَّنْك، فليست الحياة الطيبة إلا بالله. وكان بعض المحبّين تمرّ به أوقات، فيقول: إن كان أهل الجنّة في مثل هذا، إنّهم لفي عيش طيّب! (¬1) وكان غيره [120/ ب] يقول: لو علم الملوكُ ما نحن فيه لَجالَدونا عليه بالسيوف (¬2). وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحبّ (¬3) يقول في حاله: وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خيرَ فيمن لا يحِبّ ويعشقُ (¬4) ويقول الآخر (¬5): أفِّ لِلدّنيا متى ما لم يكن (¬6) ... صاحبُ الدنيا محِبًّاْ أو حبيبا (¬7) ¬

_ (¬1) سبق في ص (186). (¬2) سبق أيضًا في ص (186). (¬3) ف: "كان المحبة ... عذاب القلب والمحب". وفي ل: "على قول المحب". (¬4) البيت للعباس بن الأحنف في ديوانه (222). وقد عزاه المؤلف إليه في روضة المحبين (282). وانظر منازل الأحباب (50) ومدارج السالكين (3/ 212). (¬5) بل صاحب البيت السابق نفسه، كما في منازل الأحباب (50). وانظر ديوان العباس (58). (¬6) ز: "إذا ما لم يكن". وكذا في المنازل والديوان. وفي ل: "متى لم يكن"، خطأ. (¬7) كذا ورد البيت في س، ومنازل الأحباب. وهي رواية مغيّرة، فإن الأبيات التي منها هذا البيت من الضرب الثالث من الرمل، وعجزه في الديوان (58) هكذا: صاحبُ الدنيا حبيبًا أو محبّ والذي في النسخة س والمنازل من الضرب الأول. وفي خا: "محبًّا أو حبيبْ"، وفي النسخ الأخرى: "محمد أو حبيبْ"، وهما من الضرب الثاني!

ويقول الآخر: ولا خيرَ في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنتَ وحيدٌ مفرَدٌ غيرُ عاشقِ (¬1) ويقول الآخر: اسكُنْ إلى سكَنِ تلَذُ بحبّه ... ذهب الزمانُ وأنتَ منفردُ (¬2) ويقول الآخر: تشكّى المحبّون الصبابةَ ليتني ... تحمّلتُ ما يلقَون مِن بينهم وحدي فكانت لقلبي لذّةُ الحبّ كلّها ... فلم يلقَها قبلي محِبٌّ ولا بعدي (¬3) فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب ¬

_ (¬1) منازل الأحباب (51). وانظر: روضة المحبين (283)، ومدارج السالكين (3/ 312). (¬2) البيت لبشار بن برد من قصيدة في ديوانه (ابن عاشور: 3/ 62، إحسان عباس: 269) مطلعها: دع ذكرَ عبدةَ إنه فَنَدُ ... وتعزَّ ترقدُ مثلَ ما رقدوا ورواية صدر البيت فيه: فاسكُنْ إلى سكَنٍ تُسرُُّ به ويروى: "تلذّ به". انظر: ديوانه (العلوي 66، الحاشية). فالأبيات من الضرب الرابع من الكامل. والذي ورد هنا من الضرب الثاني. وفي روضة المحبين (284): " ... وأنت خالِ مفردُ" وفي مدارج السالكين (3/ 212): "وأنت منفرد به" من الضرب الأول. ولا أدري أذلك كله من تصرف ذاكرة المؤلف أم فيه نصيب للناسخين والناشرين أيضًا؟ (¬3) سبق البيتان في ص (427).

لذات الدنيا ثلاثة أنواع

لذّة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذنِ إذا فقدت سمعها، والأنفِ إذا فقد شمّه، واللسانِ إذا فقد نطقَه؟ بل فسادُ القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظمُ من فساد البدن (¬1) إذا خلا من الروح. وهذا أمر لا يصدّق به إلا من فيه حياة، و"ما لجرع بيِّت إيلامُ" (¬2)! والمقصود أنّ أعظم لذّات الدنيا هو السبب الموصل إلى أعظم لذّة في الآخرة. ولذّات الدنيا ثلاثة أنواع: فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة. ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتمّ ثواب. ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجهَ الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه، وشفاء غيظه بقهر (¬3) عدو الله وعدوّه، فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله، ومحبته له (¬4)، وشوقه إلى لقائه، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟ النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة، وتُعقِب آلامًا أعظمَ منها، كلذّة الذين اتخذوا من دون الله أوثانًا مودةَ بينهم في الحياة الدنيا، يحبّونهم كحبّ الله، ويستمتعون بعضهم ببعض، كما يقولون في الآخرة إذا لقُوا ربهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ [121/أ] لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ¬

_ (¬1) "إذا خلا ... البدن" ساقط من س. (¬2) للمتنبى، وقد سبق في ص (133). (¬3) ف: "بموت". (¬4) "له" ساقط من ز. وكذلك "بالله" من ل.

الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام:128 - 129]، ولذّةِ أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلوّ بغير الحق. وهذه اللذّات في الحقيقة إنّما هي استدراج من الله لهم، ليذيقهم بها أعظم الآلام، ويحرمهم بها أكملَ اللذّات، بمنزلة من قدّم لغيره طعامًا لذيذًا مسمومًا يستدرجه به (¬1) إلى هلاكه. قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182، 183]. قال بعض السلف في تفسيرها: كلّما أحدثوا ذنبًا أحدثنا لهم نعمةً (¬2). {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44، 45]. وقال تعالى في أصحاب (¬3) هذه اللذّات: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56]. وقال في حقّهم: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]. وهذه اللذّات تنقلب آخرًا آلامًا من أعظم الآلام، كما قيل: ¬

_ (¬1) "به" ساقط من ز. (¬2) جاء عن الضحاك قال: "كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة". ذكره الواحدي في الوسيط (2/ 431) والبغوي في تفسيره (3/ 308). وجاء عن عبد الله بن داود الخريبي أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (116)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 7) والبيهقي في الأسماء والصفات (1024)، وسنده صحيح. وجاء عن يحيى بن المثنى عن أبي الشيخ (الدر المنثور 3/ 272). (¬3) ل: "لأصحاب".

3 - اللذة المباحة

مآربُ كانت في الحياة لأهلها ... عِذابًا فصارت في المعاد عَذابا (¬1) النوع الثالث: لذة لا تعقِبُ لذةً في دار القرار ولا ألمًا، ولا تمنع أصل لذة دار القرار، وإن منعَتْ كمالَها (¬2). وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة. فهذه زمانها يسير، ليس لتمتُّعُ النفس بها قدر، ولابدّ أن تشغل (¬3) عمّا هو خير وأنفع منها (¬4). وهذا القسم هو الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "كلّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسه، وملاعبتَه امرأته؛ فإنهنّ من الحقّ" (¬5). فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حقّ، وما لم يعن عليها فهو باطل (¬6). فصل فهذا الحبّ لا يُنكَر ولا يُذَمّ، بل هو أحمد أنواع الحب (¬7). . وكذلك ¬

_ (¬1) س: "فصارت في الممات " وقد سبق البيت في ص (404). (¬2) ز: "لذة كمالها". (¬3) س: "تشتغل". (¬4) "منها" ساقط من ف. (¬5) أخرجه أبو داود (2513) والترمذي (1637) والنسائي (3580) وابن ماجه (2811) وأحمد في المسند (4/ 144) والحاكم في المستدرك (2467). من حديث عقبة بن عامر الجهني. قال الترمذي: "هذا حديث حسن". وفي نسخة: "لهذا حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: صحيح الإسناد. (¬6) أشار شيخ الإِسلام إلى هذا المعنى مرارًا في الفتاوى وغيرها. (¬7) ف: "المحبة".

فصل: محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما نعني المحبة الخاصّة، وهي التي تشغل قلب المحبّ (¬1) وفكره وذكره لمحبوبه، [121/ ب] وإلا فكلّ مسلم في قلبه محبةٌ لله (¬2) ورسوله، لا يدخل في الإِسلام إلا بها. والناس متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوتَا لا يحصيه إلا الله، فبين محبة الخليلين ومحبة غيرهما ما بينهما. فهذه المحبة التي تلطّف الروح (¬3)، وتخفّف أثقال التكاليف، وتسخّي البخيل، وتشجّع الجبان، وتصفّي الذهن، وتروّض النفس، وتطيّب الحياة على الحقيقة، لا محبة الصور المحرّمة. وإذا بُليت السرائر يوم اللقاء كانت سريرةُ صاحبها من خير (¬4) سرائر العباد، كما قيل: سيبقى لكم في مضمَر القلبِ والحشا ... سريرةُ حُبٍّ يومَ تُبلَى السرائرُ (¬5) وهذه المحبة التي تنوِّر الوجه، وتشرح الصدر، وتحيي القلب. وكذلك محبة كلام الله، فإنّه من علامة محبّة الله. وإذا أردت أن تعلم (¬6) ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر إلى محبة القرآن (¬7) من ¬

_ (¬1) ز: "قلبه". (¬2) س، ف: "محبة الله". (¬3) "الروح" من ف. (¬4) ل: "خير" دون "من". (¬5) ف: "سرائر حبّ". والبيت للأحوص الأنصاري. انظر: شعره المجموع (145). وقد تمثل المؤلف به في روضة المحبين (405) والتبيان (66). (¬6) ف: "أن تعرف"، وهو ساقط من س. (¬7) ما عدا ز: "فانظر محبة القرآن".

قلبك، والتذاذكِ بسماعه أعظمَ من التذاذ أصحاب (¬1) الملاهي والغناء المطرب (¬2) بسماعهم، فإنه من المعلوم أنّ من أحبّ محبوبًا كان كلامه وحديثه أحبَّ شيءٍ إليه، كما قيل: إنْ كنتَ تزعُم حُبّي ... فلِمْ هجرتَ كتابي أمَا تأمّلتَ ما فيـ ... ـهِ مِن لذيذِ خطابي (¬3) وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرتْ قلوبنا لما شبعَتْ (¬4) من كلام الله (¬5). وكيف يشبع المحِبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه! وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا لعبد الله بن مسعود: "اقرأ عليّ"، فقال: أقرأ عليك، وعليك أنزِل؟ فقال: "إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري". فاستفتح، وقرأ سورة النساء، حتّى إذا بلغ قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41] قال: "حسبك". فرفع رأسه، فإذا عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرِفان من البكاء" (¬6). ¬

_ (¬1) "أصحاب" ساقط من ز. (¬2) ف: "الغناء والطرب". (¬3) البيتان في روضة المحبين (312). (¬4) س، ف: "ما شبعت". (¬5) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على الزهد (678) وفي زوائده على فضائل الصحابة (775) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 272، 300)، من طريق سفيان بن عيينة قال: قال عثمان بن عفان فذكره. وسنده ضعيف للانقطاع. (¬6) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب البكاء عند قراءة القرآن (5055)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضل استماع القرآن (805).

وكان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى يقولون: يا أبا موسى ذكّرنا ربَّنا، فيقرأ وهم يستمعون (¬1). فلمحبّي القرآن من الوجد والذوق واللذة [122/ أ] والحلاوة والسرور أضعافُ ما لمحبي السماع الشيطاني. فإذا رأيت الرجل: ذوقَه وجدَه وطربَه ونشوتَه (¬2) في سماع الأبيات دون سماع الآيات، وفي سماع الألحان دون سماع القرآن، وهو كما قيل: تُقرا عليكَ الختمَه (¬3) ... وأنتَ جامِدْ كالحجَرْ وبيتٌ من الشعرِ يُنْشَدْ (¬4) ... تَميلُ كالنشْوانْ (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (79) والدارمي في سننه (3539،3536) وابن حبان في صحيحه (7196) وأبو نعيم في الحلية (1/ 258) والبيهقي في الكبرى (10/ 231) وغيرهم من طرق عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوت قال: وكان عمر بن الخطاب، فذكره. وسنده ضعيف للانقطاع، فأبو سلمة لم يدرك عمر بن الخطاب. انظر جامع التحصيل (378). ورواه جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب، فذكره. ورواه أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي قال: قال عمر لأبي موسى، فذكره. أخرجهما ابن سعد في الطبقات (4/ 109). قلت: حبيب يروي عن نافع وعروة وعطاء، فهو لم يدرك عمر. وأبو نضرة سمع من صغار الصحابة كابن عباس وأبي سعيد الخدري فلعله تلقّاه منهم. وهذا يدل على أن لهذا الأثر أصلاًَ، والله أعلم. (¬2) ف: "شوقه". ل: "تشوقه"، وكلاهما تصحيف. (¬3) س:"يقرأ". (¬4) في س، ل: "بيت" دون الواو قبلها. وفي ف: "وبيت شعر". وفي خب: "بيت الشعر". (¬5) ف: "فتميل". ل: "كالسكران".

فصل: محبة النسوان

فهذا من أقوى الأدلّة عدى فراغ قلبه من محبة الله وكلامه، وتعلّقه بمحبة سماع الشيطان؛ والمغرور يعتقد أنّه على شيء! ففي محبة الله وكلامه ورسوله أضعاف أضعاف ما ذكر (¬1) السائل من فوائد العشق ومنافعه، بل لا حبَّ على الحقيقة أنفع منه؛ وكل حب سوى ذلك باطل، إنْ لم يُعِنْ عليه ويشوِّق المحبَّ (¬2) إليه. فصل وأما محبّة النِّسْوان فلا لوم على المحِبّ فيها، بل هي من كماله (¬3). وقد امتن الله سبحانه بها (¬4) على عباده فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21]. فجعل المرأة سكنًا للرجل يسكن قلبه إليها، وجعل بينهما خالص الحبّ، وهو المودة المقترنة بالرحمة. وقد قال تعالى عقيب ذكره ما أحلّ لنا من النساء وما حرّم منهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 26 - 28]. ذكر سفيان الثوري في تفسيره عن ابن طاووس عن أبيه: ¬

_ (¬1) ف: "طلب". (¬2) ف: "يسوق" بالمهملة. وفي ز: "يسوق المحبة". (¬3) ف: "هي كماله". (¬4) ف: "امتن ... " بإسقاط "وقد". و"بها" ساقط من س.

قال (¬1): إذا نظر إلى النساء لم يصبر (¬2). وفي الصحيح من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّهّ رأى امرأةً، فأتى زينب، فقضى حاجته منها، وقال: "إنّ المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأتِ أهلَه، فإنّ ذلك يرُدّ ما في نفسه" (¬3). ففي هذا الحديث عدة فوائد: منها: الإرشاد إلى التسلّي عن المطلوب بجنسه، كما يقوم الطعام (¬4) مقام الطعام [122/ ب]، والثوب مقام الثوب. ومنها: الأمر بمداواة الإعجاب بالمرأة المورِثِ لشهوتها بأنفع الأدوية، وهو قضاء وطره من أهله، وذلك ينقض شهوته لها. وهذا كما أرشد المتحابَّين إلى النكاح، كما في سنن ابن ماجه (¬5) ¬

_ (¬1) ف: "كان". س، ل: "قال: كان". (¬2) لم أجده في المطبوع. والذي فيه (93): "سفيان عن معمر عن طاوس في قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} قال: من أمر النساء". كذا في تفسيره. والصواب: "سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن طاووس". هكذا أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ رقم 553) والطبري (5/ 30) وغيرهما. فلعل أبا حذيفة راوي تفسير الثوري وهم فيه أو سقط من الناسخ. والذي ذكره المؤلف عن الثوري أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (117) وابن الجوزي في ذم الهوى (164)، وسنده صحيح. (¬3) أخرجه مسلم في النكاح، باب ندب من رأى امرأة ... (1403). (¬4) ف: "كما تقدّم، كقيام الطعام". (¬5) برقم (1847). وأخرجه ابن أبي حاتم في العلل (2252) والعقيلي في الضعفاء (4/ 134) والطبراني (11/ رقم 11009) وتمام في فوائده (الروض =

نكاح المعشوقة هو دواؤها شرعا وقدرا

مرفوعًا: "لم يُرَ للمتحابين مثلُ النكاح". فنكاح المعشوقة هو دواء العشق الذي جعله الله (¬1) دواءه شرعًا وقدرًا. وبه تداوى داود - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرتكب نبي الله مرَّمًا، وإنّما تزوّج المرأةَ، وضمَّها إلى نسائه لمحبته لها، وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلؤ مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا (¬2). وأما قصة زينب بنت جحش، فزيد كان قد عزم على طلاقها ولم توافقه، وكان يستشير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في فراقها (¬3)، وهو يأمره بإمساكها، فعلم ¬

_ = البسام: 732 - 734) وغرِهم من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس فذكره. ورواه سفيان بن عيينة وعبد الملك بن جريج ومعمر بن راشد كلهم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. أخرجه العقيلي (4/ 134) وعبد الرزاق (6/ 151، 168) وغيرهما. قال العقيلي: "هذا أولى". ورواه عبد الصمد بن حسان ومؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس مرفوعا. أخرجه الخليلي في الإرشاد (2/ 653) و (3/ 947) وابن جميع في معجمه (244). قال الخليلي: "هذا جؤده عبد الصمد والمؤمل بن إسماعيل عن سفيان. ورواه غيرهما عن سفيان عن طاووس مرسلًا. ورواه محمَّد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم مجوّدًا". قلت: كلامه هذا يدل على أن من رفعه عن الثوري أخطأ فيه، ولهذا عدّ الخليلي هذا الحديث مما تفرد به عبد الصمد عن الثوري. راجع: الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام (2/ 367 - 368) للدوسري. (¬1) سقط لفظ الجلالة من ز. (¬2) بل القصة نفسها باطلة من أكاذيب اليهود، ولم يسلَم نبي من أنبيائهم من القبائح التي افتروها عليهم. وانظر ما سبق في ص (529). (¬3) ل: "بفراقها".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه مفارقها ولا بدّ، فأخفى في نفسه أن يتزوجها إذا فارقها زيد، وخشي مقالة الناس أنّ رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم - تزوج زوجة ابنه، فإنّه كان قد تبنّى زيدًا قبل النبوة، والربُّ تعالى يريد أن يشرع شرعًا عامًّا (¬2) فيه مصالح عباده. فلما طلّقها زيد، وانقضت عدّتها منه (¬3)، أرسله إليها يخطبها لنفسه. فجاء زيد، واستدبر الباب بظهره، وعظُمتْ في صدره لمّا ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فناداها من وراء الباب: يا زينب إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبكِ. فقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامرَ ربّي، وقامت إلى محرابها، فصلّتْ. فتولّى الله عَزَّ وَجَلَّ نكاحها من رسولِه (¬4) بنفسه، وعقد النكاح له فوق عرشه، وجاء الوحي بذلك: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوقته، فدخل عليها (¬5). فكانت (¬6) تفخر على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك (¬7)، وتقول: أنتن زوّجكنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سماوات (¬8)! فهذه قصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زينب (¬9). ¬

_ (¬1) ف: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم -. (¬2) "عامًّا" ساقط من س. (¬3) "منه" ساقط من ز. (¬4) س، ل: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬5) أخرجه مسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش (1428) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬6) ف: "وكانت". (¬7) "بذلك " لم يرد في ز. (¬8) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7420، 7421) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬9) انظر ما نقلنا في ص (528) من كلام المؤلف في زاد المعاد (4/ 266).

[123/ أ] ولا ريب أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد حُبِّب إليه النساء (¬1)، كما في الصحيح من حديث أنس عنه - صلى الله عليه وسلم -: "حُبِّب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة" (¬2). هذا لفظ الحديث، لا ما يرويه بعضهم (¬3):"حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاث ... ". ¬

_ (¬1) لم ترد "كان" في ل. ولم ترد "قد" في ف. ثم سقطت كلمة "النساء" من ز. (¬2) أخرجه النسائي (3939، 3940) وأحمد 3/ 128 (12315) والعقيلي (2/ 160) والحاكم 2/ 174 (2676) وابن أبي عاصم في الزهد (235) وغيرهم من طريق سلام أبي المنذر وجعفر بن سليمان الضبعي وسلام بن أبي الصهباء كلهم عن ثابت عن أنس فذكره. قلت: سلام في حفظه لين. وقال العقيلي: "لا يتابع على حديث"، وذكر هذا الحديث ضمن مناكيره. وأما رواية جعفر بن سليمان فالراوي عنه ضعيف. وجعفر في حفظه مقال، وخاصة في روايته عن ثابت البناني. وأما رواية سلام بن أبي الصهباء، فسلام ضعيف. والحديث جعله ابن عدي ضمن مناكيره. لكن خالفهم حماد بن زيد قال الدارقطني: "وخالفهم حماد بن زيد فرواه عن ثابت مرسلًا". وكذلك رواه محمَّد بن ثابت مرسلًا. انظر تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف للزيلعي (1/ 196). ورواه سليمان بن طرخان وليث بن أبي سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/ رقم 7939). والحديث صححه الحاكم والضياء في المختارة والذهبي والمؤلف والعراقي وابن حجر. (¬3) كالزمخشري في الكشاف، والغزالي في الإحياء، والقاضي عياض في مشارق الأنوار وغيرهم. انظر لسان الميزان (1/ 139) و (9/ 58) وكشف الخفا (1/ 406). وتكلم في هذا اللفظ جماعة منهم: شيخ الإِسلام والمؤلف والزيلعي وابن حجر والعراقي والسخاوي والمناوي والزركشي وغيرهم. راجع فيض القدير (3/ 375).

زاد الإِمام أحمد في كتاب الزهد (¬1) في هذا الحديث: "أصبر عن الطعام والشراب، ولا أصبر عنهنّ". وقد حسده أعداء الله اليهود على ذلك، فقالوا: ما همّه إلا النكاح، فردّ الله سبحانه عن رسوله، ونافح عنه، فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54] (¬2). وهذا خليل الله إبراهيم إمام الحنفاء كان عنده سارة أجمل نساء العالمين، وأحبّ هاجَر، وتسرّى بها. وهذا داود كان عنده تسعة وتسعون امرأةً، فأحبّ تلك المرأة، وتزوّج بها، فكمّل المائة (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم الكلام على هذه الزيادة في ص (483). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ رقم 5470) والطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. وسنده ضعيف جدّا. وجاء عن سعيد بن جبير والسدّي والضحاك وعطية نحو ذلك (ز). وهو بعيد من السياق، والصواب "أن معنى الفضل في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمدًا وشرّف بها العرب إذ آتاها رجلًا منهم دون غيرهم ... " كما قال ابن جرير (8/ 479). وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 486) ولم يشر إلى قول آخر البتة: "يعني بذلك حسدهم النبي- صلى الله عليه وسلم - على مارزقه الله من النبوة العظيمة. ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل". ثم ما الذي يحمل اليهود على حسد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. أكان ذلك محرّمًا عليهم أو على أنبيائهم؟ (ص). (¬3) قصة باطلة، كما سبق (529، 554).

وهذا سليمان ابنه كان يطوف في الليلة على تسعين امرأةً (¬1). وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه، فقال: "عائشة (¬2). وقال عن خديجة (¬3): "إني رُزِقت حبَّها" (¬4). فمحبة النساء من كمال الإنسان. قال ابن عباس: خير هذه الأمة أكثرها نساءً (¬5). وقد ذكر الإِمام أحمد (¬6) أن عبد الله بن عمر وقع في سهمه يوم ¬

_ (¬1) ف: "سبعين امرأة". والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في النكاح، باب قول الرجل: لأطوفين الليلة على نسائي (5242) وفيه: "بمائة امرأة". وفي أحاديث الأنبياء (3424): "على سبعين"، وفيه: "قال شعيب وابن أبي الزناد: "تسعين" وهو أصح". وأخرجه مسلم في الأيمان باب الاستثناء (1654)، وفي إحدى رواياته: "كان لسليمان ستون امرأة". ولفظ الحديث: "قال: لأطوفين عليهن الليلة ... " وبينه وبيّن قول المصنف: "كان يطوف" فرق واضح. (¬2) سبق تخريجه (446). (¬3) ف: "في خديجة". (¬4) من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه مسلم في "فضائل الصحابة" باب فضائل خديجة رضي الله عنها (2435). (¬5) أخرجه البخاري في النكاح، باب كثرة النساء (5069) عن سعيد بن جبير عنه. قال الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير: النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". الفتح (9/ 114). (¬6) في العلل ومعرفة الرجال (2/ 260). وذكره الدوري في تاريخه (4/ رقم 4981) وأخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (151) كلهم من طريق هشيم بن بشير عن علي بن زيد بن جدعان عن أيوب بن عبد الله اللخمي عن ابن عمر فذكره. قال الإِمام أحمد ويحيى بن معين: "لم يسمعه هشيم من علي بن زيد". ورواه جماعة عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به بمثله. أخرجه ابن أبي =

شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء والراحمين للعاشقين

جلولاء جاريةٌ كأنّ عنقها إبريق فضّة. قال عبد الله: فما صبرتُ أنْ قبّلتُها، والناس ينظرون. وبهذا احتجّ الإِمام أحمد على جواز الاستمتاع من المسبيّة قبل الاستبراء بغير الوطء، بخلاف الأمة المشتراة. والفرق بينهما أنّه لا يتوهَّم انفساخ الملك في المسبيّة، بخلاف المشتراة فقد ينفسخ فيها (¬1) الملك، فيكون مستمتِعًا بأمةِ غيره (¬2). وقد شفع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعاشق أن تواصله معشوقته (¬3) بأن تتزّوج به، فأبت. وذلك في قصة مغيث وبريرة، فإنّه رآه يمشي خلفها بعد فراقها، ودموعه تجري [123/ ب] على خدّيه، فقال لها: "لو راجعتيه"! (¬4) فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: "لا، إنّما أشفع". فقالت (¬5): لا حاجة لي به. فقال لعمّه: "يا عبّاس ألا تعجَب من حبِّ مغيثٍ بريرةَ، ¬

_ = شيبة (3/ رقم 16650) والبخاري في تاريخه (1/ 419) والحربي في غريب الحديث (3/ 1112) وابن المنذر في الأوسط (التلخيص الحبير: 3/ 4) والمحلى (10/ 320). قلت: في هذا السند ضعف. فعلي بن زيد في حفظه ضعف. وأيوب اللخمي تابعي سمع ابن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه غيره. (¬1) ز: "بها". وقد سقط منها: "والفرق ... ينفسخ". (¬2) وهي إحدى الروايتين عن أحمد. والظاهر عنه تحريم مباشرتها فيما دون الفرج لشهوة. قاله صاحب المغني (11/ 277). (¬3) ز: "يواصله معشوقه". وكذا في س مع تأنيث الفعل. (¬4) كذا في جميع النسخ وفي رواية ابن ماجه (2075). وهي لغة ضعيفة. وفي أصول صحيح البخاري: "راجعتِه". انظر الفتح (9/ 409). (¬5) ف: "قالت".

ومن بغضها له؟ " (¬1) ولم ينكر عليه حبّها، وإنْ كانت قد بانَتْ منه، فإنّ هذا ما لا يملكه (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوّي بين نسائه في القَسْم، ويقول: "اللهمّ هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلُمْني فيما لا أملك" (¬3). يعني الحبّ. وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، يعني: في الحبّ والجماع. ¬

_ (¬1) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في الطلاق، باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة (5283). (¬2) ز: "لايملك". (¬3) أخرجه أبو داود (2134) والترمذي (1140) والنسائي (3943) وابن ماجه (1971) وأحمد 6/ 144 (25111) وابن حبان (4205) والحاكم 2/ 204 (2761) وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد -رضيع عائشة- عن عائشة فذكرته. ورواه حماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي -في الرواية الصحيحة عنه- كلهم عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 315، 314) وابن سعد في الطبقات (2/ 231) وابن أبي شيبة في المصنف (4/ رقم 17534). قال الترمذي: "هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم. وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة". قلت: والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وتكلم فيه البخاري وأبو زرعة والنسائي والترمذي والدارقطني ورأوا أنه مرسل. انظر: علل ابن أبي حاتم (1279) والعلل الكبير للترمذي (286) والتلخيص الحبير (3/ 159) ونصب الراية (3/ 214).

ولم يزل الخلفاء الراشدون والرحماء من الناس يشفعون في العشّاق إلى معشوقهم الجائز وصلُهن، كما تقدّم من فعل أبي بكر وعثمان. وكذلك عليّ أُتيَ بغلام من العرب وُجدَ في دار قوم بالليل، فقال له: ما قصّتك؟ قال: لستُ بسارقِ، ولكنّي أَصدُقك: تعلّقتُ في دار الرِّياحيِّ خَودةً ... يذِلّ لها من حسن منظرها البدرُ (¬1) لها في بنات الروم حسن ومنظرٌ ... إذا افتخرتْ بالحسن جانبَها الفخرُ (¬2) فلما طرقتُ الدار من حَرِّ مُهْجةٍ ... أتيتُ وفيها من توقّدها الجمرُ (¬3) تبادَرَ أهلُ الدار لي ثم صيَّحوا ... هو اللصُّ محتومًا له القتلُ والأسرُ (¬4) فلما سمع علي رضي الله عنه شعره رَقَّ له، وقال للمهلَّب بن رِياح (¬5): اسمح له بها، فقال: يا أمير المؤمنين سَلْه مَن هو؟ فقال: ¬

_ (¬1) ف: "الرباحي" بالباء. وفي ز بالنون. وأهمل النقط في س، خب. ولعل الصواب ما أثبت من ل واعتلال القلوب ومنازل الأحباب. (¬2) س، خا: "الفجر". وفي ز: "الهجر" تحريف. وما قبلها في ل: "حافيها". وفي غيرها: "حافتها". وفي منازل الأحباب: "كان لها". وفي روضة المحبين، والواضح المبين: "صدّقها". والأقرب إلى رسم النسخ ما أثبتنا من اعتلال القلوب. فإن صحّ كان المعنى من قولهم: جانبه الشيء مجانبةً: صار إلى جنبه، والكلمة من الأضداد. انظر اللسان (جنب 1/ 275). وفي ف: "فالحسن". (¬3) ف، ز: "أبيت". (¬4) "لي": كذا في ف، وروضة المحبين، والواضح المبين. وفي غيرها: "بي". وفي ف: "ثم أصبحوا"، تحريف. (¬5) في اعتلال القلوب، ومنازل الأحباب زيادة: "اليربوعي". وفي النسخ "رباح" =

النهّاس بن عُيينة (¬1). فقال: خذها، فهي لك (¬2). واشترى معاوية جاريةً، فاعجب بها إعجابًا شديدًا، فسمعها يومًا تنشد أبياتًا منها: وفارقتُه كالغصن يهتزُّ في الثرى ... طريرًا وسيمًا بعد ما طرَّ شاربُه فسألها، فأخبرته أنّها تحِبّ سيّدَها، فردّها إليه، وفي قلبه منها (¬3). ¬

_ = بالموحدة ولعله تصحيف. ورياح بن يربوع بطن من تميم. ولم أجد ترجمة للمهلّب هذا. (¬1) في الاعتلال والمنازل وروضة المحبين زيادة: "العِجْلي". وكذا وقع "عُيينة" في النسخ والمصادر التي وردت فيها القصة. وأراه مصحفًا، والصواب: "عُتيبة". ولعل أباه عتيبة بن النهّاس العجلي. وكان من وجوه قومه، وله إدراك ومشاهد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وأخوه عتّاب بن النهاس كان شريفًا. والمغيرة بن عتيبة بن النهّاس كان قاضي الكوفة. انظر الإصابة (5/ 121). فهذا النهّاس-إن صحت القصة- سمي باسم جدّه. (¬2) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (232 - 233) من طريق أبي مخنف قال: رفع إلى علي بن أبي طالب ... فذكره. وسنده تالف. فيه أبو مخنف لوط بن يحيى، وكان شيعيَّا محترقًا. قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال الذهبي: أخباري تالف لا يوثق به. انظر الجرح والتعديل (7/ 182) ولسان الميزان (6/ 435 - 431). (ز). وانظر القصة في منازل الأحباب (265) والواضح المبين (31) وروضة المحبين (521). (ص). (¬3) نقل المؤلف هذه القصة في روضة المحبين (522) من كتاب امتزاج النفوس للحكيم محمد بن أحمد التميمي. وكذا نقلها منه صاحب الواضح المبين (31). وفي الروضة والواضح المبين: "فسألها، فقالت: هو ابن عمّي، فردّها إليه، وفي نفسه منها". وهنا وقف النصّ في الروضة. وتكملته في الواضح المبين: " ... المقيم المقعد".

وذكر الزمخشري في ربيعه (¬1) أنَّ زبيدة (¬2) قرأت في طريق مكة على حائط: أمَا في عباد الله أو في إمائه ... كريمٌ يُجلّي الهمَّ عن ذاهبِ العقلِ له مقلةٌ أما الماَقي قريحةٌ ... وأما الحشا فالنارُ منه على رِجْلِ فنذرت أن تحتال لقائلهما إن عرفَتْه حتّى تجمع بينه وبيّن من يحبّه. فبينا هي بالمزدلفة إذ سمعتْ من ينشد البيتين، فطلبته، فزعم أنّه قالهما في ابنة عمّ له، نذر أهلها أن لا يزوّجوها منه. فوجّهتْ إلى الحيّ، ومازالت تبذل لهم المال حتّى زوّجوها منه؛ وإذا المرأة أعشق له منه لها. فكانت تعدّه من أعظم حسناتها، وتقول: ما أنا بشيء أسرَّ منّي من جمعي بين ذلك الفتى والفتاة. قال الخرائطي (¬3): وكان لسليمان بن عبد الملك غلام وجارية يتحابّان، فكتب الغلام لها يومًا: ولقد رأيتكِ في المنام كأنّما ... عاطيتنِي من ريق فيكِ الباردِ وكأنّ كفّكِ في يدي وكأنّنا ... بتنا جميعًا في فراشٍ واحدِ فطفقتُ يومي متراقدًا ... لأراكِ في نومي ولستُ براقدِ (¬4) ¬

_ (¬1) ربيع الأبرار (3/ 121). ومنه نقلها في روضة المحبين (530) أيضًا. (¬2) بنت جعفر، زوج هارون الرشيد. (¬3) وكذا نقلها المؤلف عن الخرائطي في روضة المحبين (531) أيضًا، ولم أجدها في اعتلال القلوب. وهي في ربيع الأبرار (3/ 122) والواضح المبين (34). (¬4) "طفقت لا هنا بمعنى لزمتُ. انظر: المحكم لابن سيده (6/ 176).

فأجابته الجارية؟ خيرًا رأيتَ وكل ما أبصرتَه ... ستناله منّي برغم الحاسدِ إنّي لأرجو أن تكون معانقي ... فتبيتَ فوق ثديٍ ناهدِ وأراك بين خَلاخلي ودَمالجي ... وأراك فوق ترائبي ومجاسدي (¬1) فبلغ ذلك سليمانَ، فانكحها الغلامَ، وأحسن حالهما (¬2)، على فرط غيرته. وقال جامع بن مُرخية (¬3): سألتُ سعيدَ بن المسيب مفتيَ الْـ ... ـمدينةِ هل في حبّ دهماءَ من وِزْرِ (¬4) فقال سعيدُ بن المسيّب إنّما ... تلام على ما تستطيع من الأمرِ (¬5) ¬

_ (¬1) الدمالج: جمع دُمْلُج، وهو ما يحيط بالعضد من الحلى. والمجاسد: جمع مِجسَد، وهو الثوب الذي يلي الجسد. (¬2) س: "حسّن حالهما". وفي الواضح المبين: "أحسن جهازهما"، وهو أجود. (¬3) ف، ز: "مرحبة" مضبوطًا في ف بفتح الحاء مع علامة الإهمال. وفي س: "مزجية". والصواب ما أثبتنا من الواضح المبين (36). وهو جامع بن مرخية الكلابي من شعراء الحجاز في العصر الأموي. ذكره صاحب الأغاني (9/ 143) في ترجمة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وسمّاه الغندجاني في فرحة الأديب (103) "جامع بن عمرو بن مرخية"، وأنشد ابن السكيت له بيتا في إصلاح المنطق (290). وانظر اللسان (مهل، برم). (¬4) ف: "في الحب دهمًا"! و"دهماء" صاحبة الشاعر. ذكرها في أبيات أخرى أيضًا (فرحة الأديب: 103). وفي الأغاني: "ظمياء". (¬5) أثبتَ النسّاخ والناشرون البيتين كالنثر!

العشق ثلاثة أقسام

فقال سعيد: والله ما سألني أحد عن هذا، ولو سألني ما كنت (¬1) أجيب إلا به (¬2). فعشق النساء (¬3) ثلاثة أقسام: عشق هو قربة وطاعة، وهو عشق الرجل امرأته وجاريته. وهذا العشق نافع فإنّه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح، وأكفُّ للبصر والقلب عن التطلّع (¬4) إلى غير أهله. ولهذا يُحْمَد هذا العاشق عند الله وعند الناس. وعشق هو مقتٌ من الله، وبعدٌ من رحمته، وهو أضرّ شيء على العبد في دينه ودنياه؛ وهو عشق المردان. فما ابتلي [124/ ب] به (¬5) إلا من سقط من عين الله، وطرده عن بابه (¬6)، وأبعد قلبَه عنه. وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله، كما قال بعض السلف: إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبّة المردان. ¬

_ (¬1) ف، ز: "لما كنت". (¬2) روى صاحب الأغاني عن الزبير بن بكار أن قول جامع لما بلغ سعيدًا قال: "كذَب والله ما سألني ولا أفتيته بما قال". ونقل القصة صاحب الظرف والظرفاء (160) عن ثعلب، وفيه: "ابن مرجانة الشاعر". وهو تحريف. وانظر الرد على مثل هذه الفتاوى المزعومة في روضة المحبين (247،227). (¬3) في حاشية س: "ظ فالعشق ثلاثة"، لأن القسم الثاني ليس من عشق النساء. وقد يكون الصواب في المتن: "فعشق الناس". (¬4) س: "إلى التطلع"، غلط. (¬5) ز: "به أحد". (¬6) ف، ل: "طُرِد". وفي ف: "من بابه".

وهذه المحبة هي (¬1) التي جلبت على قوم لوط ما جلبت، فما اتوا إلا من هذا العشق (¬2) قال تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]. ودواء هذا الداء الدويّ: الاستعانة (¬3) بمقلّب القلوب، وصدق اللجأ إليه، والاشتغال بذكره، والتعوّض بحبّه وقربه، والتفكّر في الألم الذي يُعقِبه هذا العشقُ، واللذّةِ التي تفوته به؛ فيترتّب عليه فواتُ أعظم محبوب، وحصولُ أعظم مكروه. فإن أقدمت نفسُه على هذا وآثرتْه، فليكبّر عليها تكبيرَه على الجنازة، ولْيعلَمْ أنّ البلاء قد أحاط به! والقسم الثالث من العشق: عشق مباح لا يُملَك، كعشق من وُصفت له امرأة جميلة، أو رآها فجأة من غير قصد، فأورثه ذلك عشقًا لها، ولم يُحدِث له ذلك العشق معصيةً؛ فهذا لا يُملَك ولا يعاقَب عليه. والأنفع له مدافعته، والاشتغال بما هو أنفع له. والواجب على هذا أن يكتم، ويعفّ، ويصبر على بلواه. فيثيبه الله على ذلك، ويعوّضه على صبره لله، وعفّته، وتركِه طاعة هواه، وإيثارِ مرضاة الله وما عنده. ¬

_ (¬1) لم ترد "هي" في ف، ل. (¬2) ل: "إلا من هذا الباب الضيق". (¬3) ف، ز: "الاستغاثة".

فصل: العشاق ثلاثة أقسام

فصل والعشاق ثلاثة أقسام (¬1): منهم من يعشق الجمال المطلق. ومنهم من يعشق الجمال المقيّد، سواء طمع بوصاله أو لم يطمع. ومنهم من لا يعشق إلا من يطمع في الوصول إليه. وبيّن هذه الأنواع تفاوت في القوة والضعف. فعاشق الجمال المطلق قلبه (¬2) يهيم في كلّ واد، وله في كلّ صورة جميلة مراد! يومًا بُحزْوَى ويومًا بالعُذَيب ويَو ... مًا بالعقيق ويومًا بالخُلَيصاءِ وتارةً تنتحي نجدًا وآونةً ... شِعْبَ العقيق وطورًا قصرَ تيماءِ (¬3) فهذا عشقه واسع، ولكنّه غير ثابت كثير التنقّل (¬4). يهيم بهذا ثم يعشق غيرَه ... ويسلاهُمُ من وقته حين يُصبحُ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: روضة المحبين (187). (¬2) "المطلق" ساقط من س. و"قلبه" ساقط من ف. (¬3) ف: "ينتجي" تصحيف. والبيتان من قصيدة صاحبيّة لأبي محمَّد الخازن. انظر: اليتيمة (3/ 191)، وفيه: "بحزوى ويومًا بالعقيق، وبالعذيب يومًا". (¬4) "كثير التنقل" ساقط من ل، وفيها: "وقال آخر". (¬5) "ثم يعشق يخرج" ساقط من س. والبيت من أبيات لسمنون بن حمزة أوردها المؤلف في طريق الهجرتين (32) دون نسبة. وعزاها صاحب الزهرة (62) إلى "بعض أهل هذا العصر". وسمنون توفي بعد الجنيد (297 هـ) فهو معاصر لأبي بكر المتوفى 296 هـ أو 297 هـ. وقد أوردها السلمي في طبقات الصوفية (198) لسمنون، ونقلها عنه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 236). وانظر صفة =

فصل: الكلام على حديث "من عشق فعف

وعاشق الجمال المقيّد أثبتُ على معشوقه، وأدوَمُ محبةً له. ومحبته أقوى من [125/ أ] محبة الأول لاجتماعها في واحد، وتقسُّم الأولى، ولكن يضعفها عدم الطمع في الوصال. وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله أعقَلُ العشّاف وأعرَفهم، وحبّه أقوى لأنّ الطمع يُمِدّه ويُقوّيه. فصل وأمّا حديث "من عشِقَ فعفَّ (¬1) "، فهذا يرويه سُوَيد بن سعيد، فقد أنكره حفّاظ الإِسلام عليه (¬2). قال ابن عدي في كامله (¬3): هذا الحديث أحد ما أُنكِر على سويد. وكذا ذكره البيهقي، وابن طاهر في الذخيرة (¬4)، والتذكرة (¬5). وأبو الفرج بن الجوزي، وعدّه في الموضوعات (¬6). ¬

_ = الصفوة (1/ 485). (¬1) مكان "فعف" بياض في س. وفي ف: "فعفّ وكتم". (¬2) سبق تخريجه (528 - 529)، وانظر: زاد المعاد (4/ 275 - 278) وروضة المحبين (287 - 289). (¬3) ليس في المطبوع فلعله مما سقط منه، وما أكثره!. وإنما فيه بعد أن ساق له أحاديث (3/ 428 - 429) ليس هذا منها: "ولسويد مما أنكرت عليه غير ما ذكرت، وهو إلى الضعف أقرب". (¬4) لم أجده في المطبوع. (¬5) تذكرة الموضوعات (91). (¬6) وكذا قال المؤلف في الزاد (4/ 277) والروضة (289). قال الكناني في تنزيه الشريعة (364): "ذكر غير واحد من المصنفين أن هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات وأعله بسويد بن سعيد. وتعقّبوه بان سويدًا من رجال مسلم وبأنه =

وأنكره أبو عبد الله الحاكم (¬1) -على تساهله- وقال: أنا أتعجّب منه (¬2). قلت: والصواب في الحديث أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما موقوفًا عليه، فغلِط سويد في رفعه (¬3). قال محمَّد بن خلف بن المرزبان (¬4): حدّثنا أبو بكر الأزرق، عن سويد به، فعاتبته على ذلك، فأسقط ذكرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكان (¬5) بعد ذلك يسأل (¬6) عنه، فلا يرفعه (¬7). ولا يشبه هذا كلام النبوة. وأمّا رواية الخطيب (¬8) له عن الأزهري: حدّثنا المعافى بن زكريا، ¬

_ = تابعه المنجنيقي. ومن طريقه أخرجه الدارقطني. ولم يذكر السيوطي الحديث في ْكتبه. فلعل نسخ الموضوعات تختلف، والله أعلم". هذا، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (771). (¬1) في تاريخ نيسابور، كما في زاد المعاد (4/ 277). (¬2) ف: "أعجب منه". (¬3) وقال المؤلف في الزاد (4/ 277): "وفي صحته موقوفًا على ابن عباس نظر". وذلك من أجل سويد بن سعيد الذي رماه الناس بالعظائم، وأنكره يحيي بن معين، وقال: هو ساقط كذاب، لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه ... إلى آخر ما ذكره المؤلف. (¬4) ذم الهوى (329). (¬5) ل: "وكان". (¬6) ف: "إذا سئل". (¬7) ز: "ولا يرفع". وانظر المقاصد الحسنة (491 - 493). (¬8) في تاريخ بغداد (12/ 475) وابن الجوزي في ذم الهوى (258). فيه أحمد بن محمَّد بن مسروق. قال الدارقطني: "ليس بالقوي، يأتي بالمعضلات". قلت: رواه جماعة -كما تقدم- بالطريق الشهور. ولهذا قال الخطيب: "رواه غير =

حدثنا قُطبة بن الفضل، حدثنا أحمد بن محمَّد بن مسروق، حدثنا سويد، حدثنا ابن مسهر (¬1)، عن هشام بن عروة (¬2)، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًاة فمن أبيَنِ الخطأ. ولا يحتمل (¬3) هشام عن أبيه عن عائشة (¬4) مثلَ هذا عند من شمّ أدنى رائحة من الحديث (¬5). ونحن نُشهد الله أنّ عائشة ما حدّثت بهذا عن رسول الله (¬6) - صلى الله عليه وسلم - قطّ، ولا حدّث به عنها عروة، ولا حدّث به عنه هشام قطّ. وأمّا حديث ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًاة [125/ ب] فكذِبٌ على ابن الماجشون، فإنّه لم يحدث (¬7) بهذا ولا حدّث به عنه الزبير بن بكّار، وإنما هذا من تركيب بعض الوضّاعين. ويا سبحان الله! كيف يحتمل هذا الإسناد مثل هذا المتن؟ فقبّح الله ¬

_ =واحد عن سويد عن علي عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس، وهو المحفوظ". ومما يدل على عدم ثبوته أيضًا أنه كان يضطرب فيه، فمرة على وجه الصواب كما عند ابن الجوزي في الذم (256)، ومرة عن عائشة. (¬1) ف: "أبو مسهر"، خطأ. وفي س تحرّف كل "ثنا" في هذا السند إلى "بن". فوقع فيه: "سويد بن مسهر". ولعل الأصل كان "سويد ثنا ابن مسهر" كما في ز، ل: فلما تحزف "ثنا" إلى "بن" تكررت كلمة "بن" فحذفت إحداهما. (¬2) ز: "عن عروة" خطأ. (¬3) س: "ولا يحمل". ف: "ولا يتحمل". (¬4) "مرفوعًا ... عائشة" ساقط من ل. (¬5) وانظر: زاد المعاد (4/ 277) وروضة المحبين (289). (¬6) ف: "عن النبي". (¬7) ز: "ما حدّث".

الوضّاعين! وقد ذكره أبو الفرج (¬1) من حديث محمَّد بن جعفر بن سهل، حدثنا يعقوب بن عيسى من ولد عبد الرحمن (¬2) بن عوف، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد مرفوعًا. وهذا غلط قبيح، فإنّ محمَّد بن جعفر هذا هو الخرائطيّ، ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة، فمحال أن يدرك شيخُه يعقوبُ ابنَ أبي نَجيح، لا سيّما وقد رواه في كتاب الاعتلال (¬3) عن يعقوبَ هذا، عن الزبير، عن عبد الملك، عن عبد العزيز، عن ابن أبي نجيح. والخرائطي هذا (¬4) مشهور بالضعف في الرواية، ذكره أبو الفرج (¬5) في كتاب الضعفاء (¬6). وكلام حفاظ الإِسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم ¬

_ (¬1) في العلل المتناهية (1288) وذم الهوى (326). (¬2) "عبد الرحمن" تكرر في ل. (¬3) اعتلال القلوب (79). (¬4) "هذا" ساقط من ف. (¬5) بعده في س: "ابن الجوزي". (¬6) لم يذكره ابن الجوزي في كتاب الضعفاء (3/ 46 - 47) وإنما ذكر رجلين آخرين أحدهما محمَّد بن جعفر المدائني، والآخر محمَّد بن جعفر بن عبد الله بن جعفر، فلعل المؤلف رحمه الله قد وهِمَ. وقد نبّه على ذلك الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 589 - 590) كما تعقّب المؤلف في تضعيفه للخرائطي وقال: "أما الخرائطي فلا أعرف أحدًا من المتقدمين رماه بشيء من الضعف ... وقال فيه ابن ماكولا: كان من الأعيان الثقات ... ".

يرجع في هذا الشأن. وما صحّحه، بل ولا حسّنه أحد يُعوَّل في علم الحديث عليه، ويُرجَع في التصحيح (¬1) إليه؛ ولا مَن عادتُه التساهل والتسامح، فإنّه لم يُطنِّف (¬2) نفسَه له. ويكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف، ويروي منها الغثّ والسمين والمنخنقة والموقودة قد أنكره، وحكم ببطلانه (¬3). نعم، ابن عبّاس غير مستنكَر ذلك عنه. وقد ذكر أبو محمَّد ابن حزم عنه أنَّه سئل عن الميت عشقًا، فقال: قتيل الهوى، لا عقل ولا قود! (¬4) ورُفِع إليه بعرفات شابّ قد صار (¬5) كالفرخ، فقال: ما شأنه؟ قالوا: العشق. فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق (¬6). فهذا نفَس من قال: من عشِق وعفَّ وكتَم ومات، فهو شهيد. ومما يوضح ذلك أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم - عدّ الشهداء في الصحَيح، فذكر المقتول في الجهاد، والمبطون، والحرِق، والنفَساء يقتلها ولدها، والغرِق، وصاحب ذات الجنب (¬7)، ولم يعُدّ منهم العاشق يقتله العشق. ¬

_ (¬1) ف، ل: "الصحيح"، تحريف. (¬2) ل: "يطيف"، تصحيف. طنّفه بالأمر: اتهمه به. وطنّف للأمر: قارفه. وطنّف نفسه إلى الشيء: أدناها إلى الطمع فيه. ولعل المقصود أن المتساهل أيضًا لم يدفع نفسه إلى تصحيح الحديث. (¬3) وذكره في تذكرة الموضوعات (91) كما سبق. (¬4) طوق الحمامة (6). وقد سقط من س "لا عقل". (¬5) ز: "صار" دون "قد". (¬6) سبق تخريجه (498). (¬7) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت (555) من حديث جابر بن عتيك. قال النووي: "وهذا الحديث الذي =

وحسب قتيل العشق أن يصحّ (¬1) له هذا الأثر عن ابن عباس (¬2) على أنّه لا يدخل تحته حتّى يصبر لله، ويعفّ لله، ويكتم لله. وهذا لا يكون إلا مع قدرته على معشوقه، وإيثار محبة الله وخوفه ورضاه. وهذا من أحقّ من دخل تحت قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41] وتحت قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. فنسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يجعلنا ممن آثر حبّه على هواه، وابتغى بذلك [126/ أ] قربه ورضاه (¬3). ¬

_ = رواه مالك صحيح بلا خلاف، وإن كان البخاري ومسلم لم يخرجاه". شرح النووي (13/ 66). (¬1) س: "صح". (¬2) ولكن المؤلف رحمه الله قال نفسه -كما تقدم- في زاد المعاد (4/ 277): "وفي صحته موقوفًا على ابن عباس نظر". (¬3) بعده في س: "آمين آخر الكتاب ... ". وفي ف: "تم الكتاب والحمد لله ربِّ العالمين ... " وفي ز: "تم الكتاب بحمد الله وحسبنا الله ونعم الوكيل". وفي ل: "بمنّه وكرمه إنه جواد كريم" ثم بعد بياض كتب: "تم الكتاب ... ". وكذا في خا.

§1/1