الخلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى اللَّه عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً. أمّا بعد: فهذه رسالة مختصرة في ((الخلق الحسن))، بيّنت فيها تعريف الخلق الحسن، وفضائله، وأنواعه، في اثنين وعشرين مبحثاً على النحو الآتي: المبحث الأول: تعريف الخلق الحسن. المبحث الثاني: فضائل الخلق الحسن. المبحث الثالث: طرق اكتساب الخلق الحسن. المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن. المبحث الخامس: الجود والكرم. المبحث السادس: العدل. المبحث السابع: التواضع. المبحث الثامن: الإخلاص. المبحث التاسع: الصدق. المبحث العاشر: القدوة الحسنة. المبحث الحادي عشر: العلم النافع.

المبحث الثاني عشر: الحكمة. المبحث الثالث عشر: السلوك الحكيم. المبحث الرابع عشر: الاستقامة. المبحث الخامس عشر: الخبرات والتجارب. المبحث السادس عشر: السياسة الحكيمة. المبحث السابع عشر: إنزال الناس منازلهم. المبحث الثامن عشر: الحلم والعفو. المبحث التاسع عشر: الأناة والتثبت. المبحث العشرون: الرفق واللين. المبحث الحادي والعشرون: الصبر. المبحث الثاني والعشرون: الرحمة. واللَّه أسأل أن يجعل هذا العمل القليل مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وينفع به من انتهى إليه؛ فإنه خير مسئول، وأكرم مأمولٍ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلاّ باللَّه العلي العظيم، وصلى اللَّه وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في عصر يوم الخميس 4/ 3/ 1431هـ

المبحث الأول: تعريف الخلق الحسن

المبحث الأول: تعريف الخُلُق الحسن الخُلْقُ لغةً: السجيّة، والطبع، والمروءة، والدين (¬1). وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي: نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها، بمنزلة: الخَلْق لصورته الظاهرة، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة (¬2). فالخلق: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجةٍ إلى فكر ورويّة، وجمعه: أخلاق. والأخلاق: علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (¬3)،وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه. القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر ثم يستمر عليه حتى يكون ملكةً وخلقاً (¬4). أما السلوك: فهو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك (¬5). والسلوك: عمل إراديٌّ، كقول: الكذب، والصدق، والبخل، ¬

(¬1) انظر: القاموس المحيط، ص137، والمصباح المنير، 1/ 180. (¬2) انظر: غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 2/ 70. (¬3) انظر: المعجم الوسيط، 1/ 445. (¬4) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د/ محمود حمدي زقزوق، ص39. (¬5) المعجم الوسيط، 1/ 252.

والكرم ونحو ذلك. فاتّضح أن الخلق حالة راسخة في النفس، وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو: السلوك، فالسلوك: هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخصٍ ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دلّ على خلق حسن، وإن كان السلوك سيئاً دلّ على سلوك قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الحسن يعرف بالأعمال الطيبة (¬1). ¬

(¬1) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، ص43.

المبحث الثاني: فضائل الخلق الحسن

المبحث الثاني: فضائل الخلق الحسن أولاً: الخلق الحسن من أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) (¬1). ثانياً: الخلق الحسن من تخلّق به كان من أحبّ الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة: ((إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) (¬2). ثالثاً: الخلق الحسن يجعل المسلم من خيار الناس مطلقاً، ولا يكون كذلك إلا بالتخلّق بهذا الخلق العظيم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)) (¬3). وقد أحسن الشاعر إذ يقول: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا رابعاً: الخلق الحسن من أعظم القربات وأجلّ العطايا والهبات،؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفاحِشَ البذِيء)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الرضاع، باب حق المرأة على زوجها، برقم 1162، وأبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 4682، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 340. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معالي الأخلاق، برقم 2019، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 196. (¬3) البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3559، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2321. (¬4) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم 4799، والترمذي بلفظه، كتاب البر والصلة، باب بيان ما جاء في حسن الخلق، برقم 2587، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 911.

خامسا: الخلق الحسن يدرك المسلم به درجة الصائم القائم،

خامساً: الخلق الحسن يدرك المسلم به درجة الصائم القائم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) (¬1). سادساً: الخلق الحسن خير من الدنيا وما فيها؛ ولهذا قال النبي لعبد اللَّه بن عمرو: ((أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)) (¬2). سابعاً: يحصل بالخلق الحسن: جوامع الخيرات والبركات؛ قال النبي: ((البر حسن الخلق)) (¬3). ثامناً: الخلق الحسن هو وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع المسلمين، فقد أوصى به - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن والياً، وقاضياً، وداعياً إلى اللَّه فقال له: (( .. وخالق الناس بخلق حسن)) (¬4). تاسعاً: الخلق الحسن ذو أهمية بالغة؛ لأن اللَّه - عز وجل - أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظّم شأنه الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -. قال اللَّه - عز وجل -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬5)، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬6)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثت لأتمم ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم 4798، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 911. (¬2) أحمد في المسند بإسناد جيد،2/ 177،وانظر: صحيح الجامع الصغير للألباني،1/ 301،برقم 886. (¬3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، برقم 2553. (¬4) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب معاشرة الناس، برقم 1987، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 191. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬6) سورة القلم، الآية: 4.

عاشرا: الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام

مكارم الأخلاق)) (¬1). وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (( .. فإن خلق نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن)) (¬2). عاشراً: الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة؛ ولهذا من تتبَّع سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين اللَّه أفواجاً بفضل اللَّه تعالى ثم بفضل حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -، فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم. فهذا يُسلم ويقول: ((واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ)) (¬3). وذاك يقول: ((اللَّهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً)) (¬4)، تأثر بعفو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتركه على تحجيره رحمة اللَّه التي وسعت كل شيء، بل قال له: ((لقد تحجَّرت واسعاً)). والآخر يقول: ((فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه)) (¬5). والرابع يقول: ((يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا ¬

(¬1) البيهقي في السنن الكبرى بلفظه، 10/ 192، وأحمد، 2/ 381، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 613، وانظر: الأحاديث الصحيحة للألباني، 1/ 75، برقم 45. (¬2) مسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم 746. (¬3) البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، برقم 4372، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه،، برقم 1764. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6010. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم 537.

الحادي عشر: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية

يخشى الفاقة)) (¬1). والخامس يقول: ((واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليَّ)) (¬2). والسادس يقول: بعد عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه: ((جئتكم من عند خير الناس))، ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير (¬3)، وهناك أمثلة كثيرة جداً. الحادي عشر: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية مخلص خاصة؛ لأنه بذلك ينجو ويفوز وينجح في جميع أموره الخاصة والعامة؛ ولهذه الأهمية كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في استفتاحه لصلاة الليل: ((واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت .. )) (¬4)، وكان يقول: ((اللَّهم كما أحسنت خلْقي فحسّن خُلُقي)) (¬5). الثاني عشر: الخلق الحسن يحبّب المسلم إلى الناس جميعاً حتى أعدائه، ويتمكن بذلك من إرضاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وكل من جالسه أو خالطه أحبه، وبهذا يسهل على الداعية إدراك مطالبه السامية بإذن اللَّه تعالى؛ لأن الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - لا ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم 2312. (¬2) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم 2313. (¬3) انظر: فتح الباري، 7/ 428. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. (¬5) البيهقي في الشعب، 6/ 364، وأحمد، 6/ 68، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 113، برقم 74.

الثالث عشر: من لم يتخلق بالخلق الحسن من المسلمين ينفر الناس

يَسعَون الناس بأموالهم ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق (¬1). الثالث عشر: من لم يتخلّق بالخلق الحسن من المسلمين ينفِّر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم، واستصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً. قال - عز وجل - للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (¬2). وقال - عز وجل -: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وقال - عز وجل - ممتناً على عباده: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4). وقال اللَّه تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬5) الآية. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (¬6)، وقال - عز وجل -: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬7). ¬

(¬1) روى ابن أبي شيبة،5/ 212:عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه: ((لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق))، والبزار، 2/ 442، وحسَّنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 3/ 9. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬3) سورة الشعراء، الآية: 215. (¬4) سورة التوبة، الآية: 128. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬6) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬7) سورة الفتح، الآية: 29.

الرابع عشر: إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليما نقيا إلا بالأخذ من المنبع الصافي

وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا *وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا} (¬1). ولا شك أنه يتعين على كل داعية أن يتخذه - صلى الله عليه وسلم - قدوة وإماماً لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬2). الرابع عشر: إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليماً نقياً إلا بالأخذ من المنبع الصافي، والبعد عن الأفكار الهدامة المنحرفة، والتزام المسلمين بالخلق الحسن ودعوة الناس إليه هو من هذا المنبع، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل الدعوة إليه، قال اللَّه - عز وجل -: {يَا أيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬3)؛ ولهذا أمر اللَّه بالعلم قبل العمل، وبالعمل قبل الدعوة إليه، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬4)، وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬5)، فقدَّم العمل قبل الدعوة إلى الحق. الخامس عشر: الخلق الحسن يجعل المسلم مستنير القلب، ويفتح مداركه، فيتبصَّر به مواطن الحق، ويهتدي به إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في دعوة الناس الملائمة للظروف والأحوال، والأشخاص ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيات: 45 - 47. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬3) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬4) سورة محمد، الآية: 19. (¬5) سورة العصر.

السادس عشر: الخلق الحسن من أعظم الأسباب التي تنجي من النار وتورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم

{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (¬1) الآية. السادس عشر: الخلق الحسن من أعظم الأسباب التي تُنجي من النار وتُورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم، وهذا هو غاية كل مسلم بعد رضى اللَّه - عز وجل -؛ ولهذا عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقال له: ((ما تقول في الصلاة)) قال: أتشهّد ثم أسأل اللَّه الجنة وأعوذ به من النار. أما واللَّه! ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حَوْلها نُدَنْدِنُ)) (¬2)، وهذا يدلّ أن جميع الأقوال والدعوات والأعمال؛ إنما هو من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار بعد رضى اللَّه - عز وجل -. السابع عشر: تَكَفَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه، فقال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه)) (¬3). الثامن عشر: الخلق الحسن أكثر ما يدخل به الناس الجنة: فقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى اللَّه وحسن الخلق)) (¬4). التاسع عشر: الخلق الحسن من أسباب النجاة من النار: فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار،-أو بمن تحرم عليه النار؟ - على كُلِّ قريب هيّن سهل)) (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم 792، وأحمد، 3/ 474, وانظر: صحيح ابن ماجه، 2/ 328. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم 4802، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 911، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 273. (¬4) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب حسن الخلق، برقم 2005، وانظر: جامع الأصول، 11/ 694، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 194. (¬5) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا هناد، برقم 2488، وانظر: جامع الأصول، 11/ 698، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 611، برقم 938.

العشرون: صاحب الخلق الحسن خير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -

العشرون: صاحب الخلق الحسن خير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) (¬1). الحادي والعشرون: الخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق، والبرّ، والوفاء بالعهد، والإيثار، والرحمة، والعفّة، والتواضع، والزهد، والكيِّس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، والإخلاص ... وهذا هو الخلق الحسن في الدعوة إلى اللَّه تعالى وما يتفرّع منه. الثاني والعشرون: أما الخلق العظيم الذي مدح الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الدين كله، والخلق الحسن جزء منه كما ذكر ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى في الفتاوى (¬2)، وقال الإمام ابن القيم - رحمه اللَّه تعالى - في مدارج السالكين: ((حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصوّر قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة)) (¬3). ¬

(¬1) رواه الترمذي عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، كتاب المناقب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3895، وابن ماجه عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم 1977، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 513، ورو البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في شعب الإيمان، 6/ 415، بلفظ: ((خيركم خيركم لنسائه وبناته))، والحاكم عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، 4/ 173، بلفظ: ((خيركم خيركم للنساء))، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن عساكر عن علي - رضي الله عنه -، 13/ 312، بلفظ: ((خيركم خيركم لأهله، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم))، وضعف الألباني هذه الزيادة في ضعيف الجامع، ص 243، برقم 2917. (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 10/ 658. (¬3) مدارج السالكين، 2/ 308.

المبحث الثالث: طرق اكتساب الخلق الحسن

المبحث الثالث: طرق اكتساب الخلق الحسن الأسباب والوسائل التي يكتسب بها الخلق الحسن كثيرة، ولكن من أبرزها على سبيل المثال ما يأتي: 1 - التدريب العملي، والممارسة التطبيقية للأخلاق الحسنة ولو مع التكلّف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى؛ فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، والاستعفاف بالتعفّف، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن يستعفف يعفّه اللَّه ومن يستغن يُغنه اللَّه، ومن يتصبّر يُصبِّره اللَّه)) (¬1). 2 - الغمس في البيئة الصالحة؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويعيش مع أهلها، فيكتسب ما لديهم من أخلاق، وعادات، وتقاليد، وأنواع سلوك عن طريق المحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة، ولهذا قيل: إن الطبع للطبع يسرق، وأعظم من ذلك توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيانه أن الجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة (¬2). ولاشك أن الرجل على دين خليله، فلينظر كل مسلم من يخالل (¬3)؛ ولهذا قال النبي: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، برقم 1427، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والتصبر، برقم 1053. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، برقم 2628. (¬3) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 1/ 209 - 213. (¬4) مسند أحمد، 14/ 142، برقم 8417، واللفظ له، وأبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، برقم 4835، والترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا محمد بن بشار، برقم 2378. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 633.

المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن

المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن فروع حسن الخلق كثيرة جداً فهو يشمل: العلم، والحلم، والأناة، والحكمة، والجود والكرم، والعفو، والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل، والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر، والوفاء، والإيثار والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل ... وهذا مفهوم واسع لا يتسع له هذا المبحث، وسيأتي بعض هذه الأخلاق في المباحث الآتية.

المبحث الخامس: الجود والكرم

المبحث الخامس: الجود والكرم الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي: 1 - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود. 2 - الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس. 3 - الجود براحته، فيجود بها تعباً في مصلحة غيره. 4 - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، وهو أفضل من المال. 5 - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها. 6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة. 7 - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبّه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم (¬1). 8 - الجود بالصبر، والاحتمال، وكظم الغيظ، وهذا أنفع من الجود بالمال. 9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر. 10 - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه. ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، واللَّه سبحانه ¬

(¬1) روى أبو داود، 4/ 423، برقم 4886 مرسلاً: عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَيْغَمٍ أَوْ ضَمْضَمٍ - شَكَّ ابْنُ عُبَيْدٍ- كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ. وقال الألباني في إرواء الغليل، 8/ 42: ((وإسناده صحيح إلى قتادة)).

قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، واللَّه المستعان (¬1). وكل أنواع الجود والكرم ينبغي للدعاة أن يتحلوا بها في دعوتهم، ومن الصور العظيمة لتطبيق الجود والكرم ما فعله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك: عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاهُ، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة (¬2). وهذا الموقف الحكيم العظيم يدلّ على عظم سخاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغزارة جوده (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يعطي العطاء ابتغاء مرضاة اللَّه - عز وجل - وترغيباً للناس في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولاً للدنيا ثم - بفضل اللَّه تعالى، ثم بفضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلاً حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكّن من قلبه، فيكون أحب إليه من الدنيا وما فيها (¬4). ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 293 - 296 بتصرف. (¬2) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: لا، برقم 2312. (¬3) انظر: أمثلة كثيرة من كرمه وجوده في البخاري مع الفتح، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا عبدان 1/ 30، وكتاب الأدب باب حسن الخلق وما يكره من البخل، 10/ 455، وكتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أن عندي مثل أحُد ذهباً، 11/ 264، 11/ 303، وكتاب الكفالة، باب من تكفل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع، 4/ 474، وكتاب التمني، باب تمني الخير، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان لي مثل أحُد ذهباً، 13/ 217، ومسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، 4/ 1805، 1806، وكتاب الزكاة، باب من سأل بفحش وغلظة، 2/ 730، وباب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، 2/ 687. (¬4) انظر: شرح النووي على مسلم، 15/ 72.

ولهذا شواهد كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر اللَّه دينه والمسلمين، وأعطى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ (¬1). وقال أنس - رضي الله عنه -: ((إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها)) (¬2). وإذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجزل له في العطاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه)) (¬3)؛ ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - ((يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل)) (¬4). ومن مواقفه الحكيمة العظيمة في ذلك ما فعله - صلى الله عليه وسلم - مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين (¬5)، فإنه بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه: ((اجمعوا لها))، فجمعوا لها - من بين عجوةٍ، ودقيقةٍ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا، وكثرة عطائه، برقم 2313. (¬2) مسلم، في الكتاب والباب المشار إليهما آنفاً، 4/ 1806. (¬3) البخاري، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، برقم 1478، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من يخاف على إيمانه، برقم 150. (¬4) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم، برقم 2978. (¬5) المزادتان: مثنى مزادة، والمزادة: الراوية، ولا تكون إلا من جلد. انظر: القاموس المحيط، مادة (زود).

وسويقةٍ - حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين واللَّه ما رزأناك (¬1) من مائك شيئاً، ولكن اللَّه هو الذي أسقانا)). وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى اللَّه ذلك الصرم (¬2) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا (¬3). وفي رواية: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام (¬4). وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران: الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئاً، وهذا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - الّتي تدل على صدق رسالته. الأمر الثاني: كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعاماً كثيراً. ¬

(¬1) ما رزأناك: أي: لم ننقص من مائك شيئاً. انظر: فتح الباري، 1/ 453. (¬2) الصرم: أبيات مجتمعة من الناس. انظر: فتح الباري، 1/ 453. (¬3) البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء، برقم 344، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم 3571، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم 682. (¬4) البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم بكفيه من الماء، برقم 344.

أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سبباً لإسلامهم (¬1). وهذه الأمثلة التي سُقْتُها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما أحوجنا، وما أولى جميع الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - إلى الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، واللَّه المستعان. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 1/ 453.

المبحث السادس: العدل

المبحث السادس: العدل العدل له مجالات كثيرة لا تحصر منها: العدل في الولاية، والعدل في القضاء، والعدل في تطبيق الحدود، والعدل في المعاملات بين الناس، والعدل في الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والعدل مع الأولاد، والعدل بين الزوجات ... وغير ذلك. ومن الأمثلة العظيمة في تطبيق العدل المثال العظيم الآتي: قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ومما يُضرب به المثل في عدله إلى يوم القيامة قصة المخزومية التي سرقت فقطع يدها بعد أن شفع فيها أسامة، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحابِ في ذلك، ولم يقبل الشفاعة في حدٍّ من حدود اللَّه تعالى. فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأُتِيَ بها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود اللَّه)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول اللَّه! فلما كان العشي قام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فاختطب فأثنى على اللَّه بما هو أهله، فقال: ((أما بعد، أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.

قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني فأرفع حاجتها إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). إن العدل خلاف الجور، وقد أمر اللَّه - عز وجل - به في القول والحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬2)، وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (¬3). ولاشك أن هذا الموقف الحكيم وغيره من مواقفه - صلى الله عليه وسلم - مما يوجب على الدعاة تطبيقها أسوة به - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

(¬1) البخاري بنحوه مختصراً في كتاب الحدود، باب إقامة الحد على الشريف والوضيع، برقم 6787، وباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، برقم 6788، ورواه مسلم بلفظه في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، برقم 1688، وانظر: شرح النووي، 11/ 186، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 12/ 95، 96. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬3) سورة النساء، الآية: 58. (¬4) انظر مواقف حكيمة في هذا الشأن في: سنن أبي داود، 2/ 242، والترمذي، 3/ 137، والنسائي، 7/ 64، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح، 3/ 292، 2/ 143، 11/ 312، 12/ 112، ومسلم، 3/ 458، وهذا الحبيب يا محبّ، ص534، 535.

المبحث السابع: التواضع

المبحث السابع: التواضع يقال: تواضع: تذلّل وتخاشع (¬1)، والمراد بالتواضع: إظهار التنزل لمن يراد تعظيمه، وقيل: تعظيم من فوقه لفضله (¬2). والتواضع صفة عظيمة وخلق كريم يجب على الدعاة إلى اللَّه تعالى، وغيرهم، ولهذا مدح اللَّه المتواضعين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬3)، أي يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين ولا متكبّرين، ولا مرحين، فهم علماء، حلماء، وأصحاب وقار وعفّة (¬4). والدعاة إلى اللَّه تعالى إذا تواضعوا رفعهم اللَّه في الدنيا والآخرة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد اللَّه عبداً بعفوٍ إلا عزاً، ومن تواضع للَّه رفعه)) (¬5). وهذا ما يفتح اللَّه به للداعية قلوب الناس؛ فإن اللَّه يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه في قلوب الناس منزلة ويرفعه عندهم ويجلُّ مكانه (¬6)، أمَّا من تكبر على الناس فقد توعده اللَّه بالذلّ والهوان في الدنيا والآخرة؛ لأن اللَّه - عز وجل - ((العزُّ إزاره، والكبرياءُ رداؤه فمن ينازعه ذلك عذّبه)) (¬7). ¬

(¬1) القاموس المحيط، ص997. (¬2) فتح الباري، 11/ 341. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬4) انظر: مدارج السالكين، 2/ 327. (¬5) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، برقم 2588. (¬6) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 142. (¬7) مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكبر، برقم 2620،ولفظه: ((فمن ينازعني عذبته)).

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت ناقة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تُسمّى العضباء وكانت لا تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتدّ ذلك على المسلمين وقالوا: سُبِقَتِ العضباء، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن حقاً على اللَّه أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)) (¬1). ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هو الأسوة الحسنة للدعاة فقد كان متواضعاً في دعوته للناس، فعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فكلّمه فجعل ترعُد فرائصه فقال له: ((هوِّن عَليكَ نفسك فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)) وزاد الحاكم في روايته عن جرير بن عبد اللَّه: (( ... في هذه البطحاء))، ثم تلا جرير: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (¬2). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الرقائق، باب التواضع، برقم 6501. (¬2) الحاكم، 2/ 446، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، 4/ 497، سورة ق، الآية: 45.

المبحث الثامن: الإخلاص

المبحث الثامن: الإخلاص أولاً: تعريف الإخلاص: الإخلاص في اللغة: خَلَصَ يخلص خلوصاً: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصاً: أي نجَّاه، والإخلاص في الطاعة ترك الرياء (¬1). وحقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى اللَّه تعالى وحده. وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض: فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة. وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره. وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه (¬2). وعلى ما تقدم: يتضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرب به إلى اللَّه وحده، لا رياءً ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً، وإنما يرجو ثواب اللَّه ويخشى عقابه ويطمع في رضاه. ولهذا قال القاضي عياض: ((ترك العمل من أجل الناس رياء، ¬

(¬1) المعجم الوسيط، 1/ 249، ومختار الصحاح، ص77. (¬2) مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 91.

ثانيا: أهمية الإخلاص:

والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك اللَّه منهما)) (¬1). والإخلاص في حياة الداعية: أن يقصد بإراداته، وأعماله، وأقواله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه اللَّه تعالى وحده لا شريك له ولا ربَّ سواه. ثانياً: أهمية الإخلاص: لقد خلق اللَّه الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص، قال اللَّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2). وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا للَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬3). وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬4). وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} (¬5). قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا يعلى: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى ¬

(¬1) انظر: المرجع السابق، 2/ 91. (¬2) سورة البينة، الآية: 5. (¬3) سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3. (¬4) سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163. (¬5) سورة الملك، الآية: 2.

يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون للَّه، والصواب أن يكون على السنة (¬1). ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬2). وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (¬3)، فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل للَّه، والإحسان فيه: متابعة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسنته)) (¬4). وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل للَّه، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم)) (¬5). والإخلاص هو روح عمل الداعية، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهد الداعية وعمله هباءً منثوراً. والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة اللَّه ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص له، والخوف منه، والرجاء له، وأعمال الجوارح تبع؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي ¬

(¬1) مدارج السالكين، 2/ 89. (¬2) سورة الكهف، الآية: 110. (¬3) سورة النساء، الآية: 125. (¬4) مدارج السالكين، 2/ 90. (¬5) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب الحث على تبليغ السماع، برقم 2658، وابن ماجه، المقدمة، باب من بلغ علماً، برقم 230، وأحمد، 5/ 183، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، 1/ 78.

ثالثا: النية أساس العمل:

إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهمّ من معرفة أحكام الجوارح. فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً للَّه - عز وجل - لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يدعو إلى اللَّه يريد وجه اللَّه - تعالى - كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} (¬2). والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على الدعاة فيريدوا بدعوتهم وجه اللَّه والدار الآخرة، ويريدوا إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور (¬3). ثالثاًً: النية أساس العمل: النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة (¬4)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... )) (¬5). وقال اللَّه تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 108. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33. (¬3) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 349، و4/ 229. (¬4) انظر: النية وأثرها في الأحكم الشرعية للدكتور صالح بن غانم السدلان، 1/ 151. (¬5) البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنية، برقم 1907.

أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وهذا يدلّ على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى اللَّه وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير والثواب العظيم، ولو لم يعمل وإنما نوى نية صادقة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كُتبَ له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة)) (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه اللَّه مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئاً)) (¬4). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((من سأل اللَّه الشهادة بصدقٍ بلّغه اللَّه منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)) (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 114. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم 2834. (¬3) أبو داود، كتاب التطوع، باب النعاس في الصلاة، برقم 1314، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم، برقم 1784، وانظر: إرواء الغليل للألباني، 2/ 204، وصحيح الجامع، 5/ 160، برقم 5567. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن خرج يريد الصلاة فسبق بها، برقم 564، والنسائي، كتاب الإمامة، حد إدراك الجماعة، برقم 855، والحاكم، 1/ 327، قال ابن حجر في فتح الباري، 6/ 137: ((إسناده قويّ)). (¬5) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب الشهادة في سبيل الله تعالى،، برقم 1909.

وهذا يدل على فضل اللَّه - سبحانه وتعالى - وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه))، قالوا: يا رسول اللَّه كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العُذر)) (¬1). وبالنية الصالحة يضاعف اللَّه الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال: يا رسول اللَّه: أقاتل أو أسلم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلم ثم قاتل))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِل، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأجر كثيراً)) (¬2). وجاء رجل إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فدخل في الإسلام، فكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعلّمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خف بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((عمل قليلاً وأجر كثيراً)) قالها حماد ثلاثاً (¬3). وبالنية الصالحة يبارك اللَّه في الأعمال المباحة فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة)) (¬4)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ((إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت عليها حتى ما تجعلُ في فِي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب الرخصة في القعود من العذر، برقم 2510، واللفظ له، والبخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو، برقم 2684. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب عمل صالح قبل القتال، برقم 2808، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم 1900. (¬3) مسند الإمام أحمد، 4/ 357. (¬4) البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، برقم 55.

رابعا: طرق تحصيل الإخلاص:

امرأتك)) (¬1). وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٍ رزقه اللَّه مالاً وعلماً فهو يتقي به ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم للَّه فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه اللَّه علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه اللَّه مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقاً فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه اللَّه مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء)) (¬2). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((إن اللَّه - عز وجل - كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة ... )) (¬3). رابعاً: طرق تحصيل الإخلاص: قد عُرِفَ أن الرياء محبط للعمل، وسبب لغضب اللَّه ومقته، وأنه من المهلكات، وأشد خطراً على المسلم من المسيح الدجال. ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يزيل الرياء، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، برقم 56. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب مثل الدنيا مثل أربعة نفر، برقم 2325، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب النية، برقم 4228، وأحمد، 4/ 130، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 270. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، برقم 6491، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة تكتب وإذا هم بسيئة لم تكتب، برقم 131.

1 - معرفة أنواع الرياء

ويحصِّل الإخلاص بإذن اللَّه تعالى ما يأتي: 1 - معرفة أنواع الرياء، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدمت هذه الدوافع والأسباب. 2 - معرفة عظمة اللَّه تعالى، بمعرفة: أسمائه، وصفاته، وأفعاله معرفةً صحيحةً مبنية على فهم الكتاب والسنة على مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإن العبد إذا عرف أن اللَّه وحده هو الذي ينفع ويضرّ، ويعزّ ويذلّ، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا عرف ذلك، وعلم بأن اللَّه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له فسيُثمرُ ذلك إخلاصاً وصدقاً مع اللَّه، فلابُدَّ من معرفة أنواع التوحيد كلها معرفة صحيحة سليمة. 3 - معرفة ما أعدَّه اللَّه في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك، وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص. 4 - الخوف من الرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمراً بقي حَذِراً منه فينجو؛ فإن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة. فينبغي للمرء بل يجب عليه إذا هاجت رغبته إلى آفة حُبّ الحمد والمدح أن يُذَكِّرَ نفسه بآفات الرياء، والتعرّض لمقت اللَّه، ومن عرف فقر الناس وضعفهم استراح كما قال بعض السلف: ((جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، واحرص أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان فلا تفرق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها

5 - خوف الصحابة - رضي الله عنهم -، والتابعين من الرياء

أو غفلتهم عنها، واقنع بعلم اللَّه وحده) (¬1). وباللَّه وحده ثم بالخوف من حبوط العمل نجا أهل العلم والإيمان من الرياء وحبوط العمل، فعن محمد بن لبيد - رضي الله عنه - يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه؛ قال: ((الرياء، يقول اللَّه - عز وجل - لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) (¬2). 5 - خوف الصحابة - رضي الله عنهم -، والتابعين من الرياء؛ ولهذا الخطر العظيم خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير، ومن ذلك الأمثلة الآتية: المثال الأول: قال اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬3)، قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول اللَّه: أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر ((أو يا بنت الصديق)) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويصلّي وهو يخاف ألا يُتقبَّل منه)) (¬4). المثال الثاني: قال ابن أبي مُلَيْكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب ¬

(¬1) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، ص15. (¬2) أحمد في المسند، 5/ 428، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 2/ 45. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬4) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي على العمل، برقم 4198، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 2/ 409 ورواه أحمد، 6/ 159، 25، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة المؤمنون، برقم 3174، والحاكم، 2/ 393، وحسنه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 162.

النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل)) (¬1). المثال الثالث: وقال إبراهيم التيميّ: ((ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّباً)) (¬2). المثال الرابع: ويُذكر عن الحسن أنه قال: ((ما خافه إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق)) (¬3). المثال الخامس: وقال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: ((نشدتك باللَّه هل سمّاني لك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - منهم - يعني من المنافقين - قال: لا، ولا أُزكِّي بعدك أحداً)) (¬4). المثال السادس: ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((اللَّهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق)) قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: ((أن ترى البدن خاشعاً والقلب ليس بخاشع)) (¬5). المثال السابع: ويُذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: ((لئن أستيقن ¬

(¬1) البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل الحديث رقم 48.قال ابن حجر في فتح الباري،1/ 110: ((وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه)). (¬2) البخاري معلقاً ومجزوماً به، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل الحديث رقم 48.قال ابن حجر: ((وصله المصنف في تاريخه)).انظر: فتح الباري، 1/ 110. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل الحديث رقم 48.، وقال ابن حجر: ((وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافقين))، وصححه. انظر: الفتح، 1/ 111. (¬4) ابن كثير بنحوه، في البداية والنهاية، 5/ 19، وانظر: صفات المنافقين لابن القيم، ص36. (¬5) ذكره ابن القيم في صفات المنافقين، ص36.

6 - الفرار من ذم الله

أن اللَّه تقبَّل لي صلاة واحدة أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إن اللَّه يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ})) (¬1). المثال الثامن: وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ((أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم رجل إلا ودَّ أن أخاه كفاه)) (¬2). 6 - الفرار من ذمّ اللَّه؛ فإن من أسباب الرياء الفرار من ذمّ الناس، ولكن العاقل يعلم أن الفرار من ذمّ اللَّه أولى؛ لأن ذمّه شين، كما قال رجلٌ لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول اللَّه إنَّ مدحي زين وذمّي شين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك اللَّه)) (¬3)، ولا شك أن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بسخط اللَّه سخط اللَّه عليه، وغضب وأسخط الناس عليه، فهل أنت تخشى غضب الناس؟ فاللَّه أحق أن تخشاه إن كنت صادقاً. 7 - معرفة ما يفرُّ منه الشيطان؛ لأن الشيطان منبع الرياء وأصل البلاء، والشيطان يفر من أمور كثيرة، منها الأذانُ، وقراءة القرآن، وسجود التلاوة، والاستعاذة باللَّه منه، والتسمية عند الخروج من البيت والدخول في المسجد مع الذكر المشروع في ذلك، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وجميع الأذكار المشروعة (¬4). ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره، 2/ 41، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، والآية من سورة المائدة، الآية: 27. (¬2) الدارمي في سننه، 1/ 53، وانظر: تخريجه في كتاب الرياء لسليم الهلالي، ص32. (¬3) أحمد في المسند، 3/ 488، 6/ 394، من حديث الأقرع بن حابس - رضي الله عنه -، وإسناده حسن، ورواه الترمذي وحسنه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة الحجرات، برقم 3267. (¬4) انظر التفصيل في ذلك: كتاب مقامع الشيطان في ضوء الكتاب والسنة لسليم الهلالي، وهو مهم جداً، والإخلاص لحسين العوائشة، ص57 - 63.

8 - الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة

8 - الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خالياً من خشية اللَّه، وصلاة النوافل، والدعاء للإخوة في اللَّه بظهر الغيب، واللَّه - عز وجل - يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ، قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن اللَّهَ يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ)) (¬1). 9 - عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم؛ لأن ذلك لا يضر ولا ينفع، بل يجب أن يكون الخوف من ذمّ اللَّه، والفرح بفضل اللَّه، قال اللَّه - عز وجل -: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2)، فيا عبد اللَّه أقبل على حب المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك سَهُل عليك الإخلاص (¬3). ويسهِّلُ الزهد في حب المدح والثناء العلم يقيناً أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمّه ويشين إلا اللَّه وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمِّ من لا يشينك ذمّهُ، وارغب في مدح مَن كلّ الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمن فقد الصبر واليقين كان كمن أراد السفر في البحر بغير مركب (¬4). وانظر إلى من ذمّك فإن يك صادقاً قاصداً النصح لك فاقبل ¬

(¬1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم 2965. (¬2) سورة يونس، الآية: 58. (¬3) الفوائد لابن القيم، ص67. (¬4) انظر: الفوائد لابن القيم، ص268.

10 - تذكر الموت وقصر الأمل

هديته ونصحه فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن كان كاذباً فقد جنى على نفسه وانتفعتَ بقوله؛ لأنه عرَّفك ما لم تكن تعرف، وذكّرك من خطاياك ما نسيت، وإن كان ذلك افتراءً عليك، فإنك إن خلوت من هذا العيب لم تخلُ من غيره، فاذكر نعمة اللَّه عليك إذ لم يطلع هذا المفتري على عيوبك، وهذا الافتراء كفارات لذنوبك إن صبرت واحتسبت، وعليك أن تعلم أن هذا الجاهل جنى على نفسه وتعرض لمقت اللَّه تعالى، فكن خيراً منه: فاعف واصفح، واستغفر له، قال اللَّه - عز وجل -: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). 10 - تذكّر الموت وقصر الأمل، قال اللَّه - عز وجل -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2). قال اللَّه تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3). 11 - الخوف من سوء الخاتمة، فعلى العبد أن يخاف أن تكون أعمال الرياء هي خاتمة عمله ونهاية أجله، فيخسر خسارة فادحة عظيمة؛ لأن الإنسان يبعث يوم القيامة على ما مات عليه، والناس يبعثون على نياتهم، وخير الأعمال خواتمها. 12 - مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى؛ فإن الجليس المخلص لا يعدمك الخير، وتجد منه قدوة لك صالحة، وأما المرائي والمشرك فيحرقك في نار جهنم إن أخذت بعمله. ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 22. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬3) سورة لقمان، الآية: 34.

13 - الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى

13 - الدعاء والالتجاء إلى اللَّه تعالى، وقد علَّمنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال بعض الصحابة: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول اللَّه؟ قال: ((قولوا: اللَّهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لِمَا لا نعلمه)) (¬1). 14 - حبّ العبد ذكر اللَّه له، وتقديم حبّ ذكره له على حب مدح الخلق، قال اللَّه - عز وجل -: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (¬2)، وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (¬3)، واللَّه المستعان (¬4). 15 - عدم الطمع فيما في أيدي الناس؛ فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبّة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضبّ والحوت، فإذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 4/ 403، وإسناده جيد، وغيره، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، 3/ 233، وصحيح الترغيب، 1/ 19. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152. (¬3) البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم 2675، واللفظ للبخاري. (¬4) انظر: ما تقدم في منهاج القاصدين، ص221 - 223، وكتاب الإخلاص لحسين العوائشة، ص41 - 64، والرياء ذمه وأثره السيئ في الأمة لسليم الهلالي، ص61 - 72، والإخلاص والشرك الأصغر، ص13.

16 - معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده

في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد اللَّه وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه (¬1). 16 - معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب اللَّه، ورفع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحبّ اللَّه للعبد وحبّ أهل السماء والأرض، والصيت الطيّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، واللَّه الموفق سبحانه (¬2). فالداعية الذي يريد نجاح دعوته، والفوز بنجاته ومحبة اللَّه له، عليه أن يعمل جاهداً في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل اللَّه أن يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير. ¬

(¬1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص267 - 268. (¬2) انظر: كتاب الإخلاص للعوائشة، ص64 - 66.

المبحث التاسع: الصدق

المبحث التاسع: الصدق أولاً: مفهوم الصدق وأهميته وفضله: الصدق: مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، وهو ضد الكذب (¬1)، وقيل: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معاً، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقاً تاماً (¬2)، وقيل: الصدق حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه (¬3). ولا يخفى ما للصدق من فضل عظيم، وثواب جزيل، ومقام كريم، ومما يدلّ على فضل الصدق، وسموّ منزلته، وعلوّ مكانه أنه من خصائص أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬4)، فمن اتصف بهذه الصفات العظام وكانت لباسه وحليته فقد فاز. نسأل اللَّه أن يجعلنا منهم. ولقد أمر اللَّه عباده المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ويلازموا الصدق في كل الأحوال فهو سبيل النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ¬

(¬1) المعجم الوسيط، 1/ 511، والقاموس الفقهي لغة واصطلاحاً، ص209. (¬2) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ص478. (¬3) مدارج السالكين، 2/ 268. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 35.

ثانيا: مجالات الصدق:

الصَّادِقِينَ} (¬1). ومما يدل على فضل الصدق والصادقين سوء مصير الكذابين وبوارهم، وأن الكذب من علامات النفاق والعياذ باللَّه - تعالى - وفي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (¬2)، وفي رواية: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ... )) فذكر الكذب (¬3). والصدق طريق البر والجنة على عكس الكذب الذي هو طريق الفجور والنار والعياذ باللَّه، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند اللَّه صدّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كذّاباً)) (¬4). ثانياً: مجالات الصدق: أهم مجالات الصدق ثلاثة: الصدق في القصد بمعنى خلوص النية وصدق العزيمة وثبات الإرادة. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 119. (¬2) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 33، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 59. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم 34، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم 58،. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا}، برقم 6094، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب، وحسن الصدق وفضله، برقم 2607.

1 - الصدق في النية والقصد

والصدق في القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل واللغو واللَّهو المحرم. والصدق في العمل بموافقة القول العمل، وموافقتهما هدي الكتاب والسنة. ومتى بلغ العبد تحقيق الصدق في هذه المجالات كلها على الوجه الأتم الأكمل كان من الصِّدِّيقين، وكانت الحياة حينئذ لا تساوي عنده إلا بقدر ما يتبلغ به المسافر، وكان ما عند اللَّه - سبحانه وتعالى - أحبّ إليه مما في أيدي الناس. وسأتناول فيما يلي كل واحد من هذه المجالات ببعض البسط. 1 - الصدق في النية والقصد: الصدق في القصد يستلزم إخلاص النية للَّه - عز وجل - في الدعوة وفي كل طاعة وقربة، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ولا وجاهة، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه اللَّه والدار الآخرة، يتعلَّم ويعلِّم، ويتوخّى الحق والصدق أينما كان. 2 - الصدق في القول: يستلزم أن لا ينطق الداعي بالباطل أياً كانت صورة هذا الباطل: كذباً، أو شتماً، أو سباباً، أو لعناً، أو فحشاً، أو غيبة، أو نميمة، أو قول الزور .. وبالجملة فهو أبعد الناس عن آفات اللسان. هذا ما يمس حياة الدعاة وسيرتهم الذاتية. أما في مجال الدعوة فالحال كذلك، فلا يدعو إلا على بصيرة، ومعرفة بالحق ودليله، وبعد تبصّر وتفقّه، فالدعوة لا تصحّ إلا على بصيرة ... ولا يعظ الناس إلا بالصادق من القصص والأمثال، ويبتعد

3 - صدق العمل

عن الكذب، والدجل، والأحلام، والرؤى التي لا يُعرف مصدرها ولا صدقها ولا عدالة صاحبها ولا ثبوتها عنه .. فدين اللَّه - عز وجل - مصدره الكتاب والسنة وفهم السلف لهما لا غير، ومتى استبدل الداعي هذين المصدرين بغيرهما - أعني الكتاب والسنة - فقد ضلّ سواء السبيل. وبالجملة فرائد الدعاة الصادقين توخّي الحق والحق هو ما في الكتاب والسنة منهما يستمدون، ومنهما ينهلون، وعلى هداهما يسيرون، وإليهما يدعون، وفي ساحتهما يتحاكمون. نسأل اللَّه أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعلنا من أهل الصدق والرشد إنه سميع مجيب. 3 - وأما صدق العمل: فهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه، وقد تقدم في مبحث العمل بالعلم. ثالثاً: أثر الصدق في حياة المسلم: الصدق له الآثار الحميدة في حياة المسلمين، ونجاح الدعوة، ومن هذه الآثار الآثار الآتية: 1 - لا يخفى أن للصدق أثره البالغ في مسيرة الدعاة، إذ يظهر الصدق في كلام الداعي، وسمته، ولهجته، وحرارة عاطفته، فيؤثر ذلك في المدعوين، ويترك فيهم انطباعاً عميقاً بمصداقية الفكرة التي يدعو إليها ويؤمن بها. ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث الذين يلقونه أول مرة فيقولون: واللَّه ما هذا بوجه كذّاب ولا بكلام كذاب! وإذا كان المسلم مطالباً

2 - للصدق أثره الحميد في التآلف والتآزر والتوادد

بالصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد؛ فإن الدعاة إلى اللَّه تعالى من باب أولى وأوجب. 2 - للصدق أثره الحميد في التآلف والتآزر والتوادد وتقارب القلوب، على عكس الكذب الذي يغرس الضغينة ويرفع الثقة، ويورث الريبة بفعل التلوّن والتغيّر وعدم الثبات الذي يتصف به الكاذب، ومن هذا المنطلق كان من لوازم الصدق ترك كل آفات اللسان: كالهمز، واللمز، والقيل، والقال، وكثرة السؤال .. ومتى تآلفت القلوب وتصافت واجتمعت على محبة اللَّه سرت الدعوة في المجتمع سريان الماء في الزرع، فأمدته بالحياة والنماء والبقاء، ونما في المجتمع - كذلك - الإيمان، واستوثقت عراه وارتفعت أعلامه. 3 - الصدق يزرع في النفوس الثقة والطُّمأْنينة والراحة والأنس، فيركن الناس إلى الدعاة الصادقين، ويثقون فيهم وبهم ويأمنونهم، وتقوية هذه الوشائج بين الدعاة والمدعوين من أهم أسباب نجاح الدعوة، ولا يتحقق ذلك إلا بالصدق .. على عكس الكذب الذي يزرع في النفوس بذور الريبة والشك والحذر، فليس أمر أهل الكذب من الوضوح والثبات بالمكان الذي يألفه الناس ويحبذونه. ومتى وثق الناس في الداعي لصدقه فتحوا له القلوب فاستمعوا إليه إذا تحدّث وقبلوا إرشاده وتوجيهه إذا وجّه وأرشد وبيّن وحدّث، وتوجهوا إليه يسألون ويستفتون .. وحصل التواصل بينه وبينهم وهي نعمة لا تُقدَّر بثمن ولم تحصل إلا بفضل اللَّه، ثم بفضل الصدق، ونقاء الصفحة، وخلو السيرة من مساوئ الأعمال والأخلاق (¬1). ¬

(¬1) انظر: أصول الدعوة وطرقها للدكتور عبد الرب بن نوّاب، 2/ 128.

المبحث العاشر: القدوة الحسنة

المبحث العاشر: القدوة الحسنة أولاً: تعريف القدوة الحسنة: الأُسوةُ: والإِسوةُ كالقِدوة، والقدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً؛ ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬1)، فوصفها بالحسنة (¬2)، ويقال: فلان قُدوةٌ إذا كان يُقتدى به (¬3). والأسوة أو القدوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة: فالأُسوة الحسنة الأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي أسوة سيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (¬4). والمقصود من الأُسوة أو القدوة أن يكون الداعية المسلم قدوةً صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قولُهُ فِعلَهُ، ولا فعله قوله. ثانياً: أهمية القدوة الحسنة: لا شك أن الداعية إلى اللَّه تعالى بحاجة شديدة جداً إلى تطبيق ما يقول ويدعو إليه حتى يقتدي به الناس؛ ولهذا بيّن ابن القيم رحمه اللَّه تعالى هذه المسألة، وشدّد في عدم التزامها حيث ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص576، مادة (أسا). (¬3) المعجم الوسيط، 2/ 721، ومختار الصحاح، ص220. (¬4) سورة الزخرف، الآية:22،وانظر: تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي، 6/ 208.

1 - المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير

قال: ((علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقاً، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء، وفي الحقيقة قطّاع طرق)) (¬1). ويمكن إجمال أهمية القدوة العملية في الأمور الآتية: 1 - إن المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلّع إلى مراتب الكمال ويأخذ يحاول، ويعمل مثله حتى يحتل درجة الكمال والاستقامة. 2 - إن القدوة الحسنة المتحلِّية بالفضائل تُعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل والأعمال الصالحة من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال (¬2). 3 - إن الأتباع والمدعوّين الذين يربّيهم ويدعوهم الداعية ينظرون إليه نظرة دقيقة دون أن يعلم هو أنه تحت رقابة مجهرية، فرُبّ عمل يقوم به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر؛ لأنهم يعدُّونه قدوة لهم (¬3)، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع أو محرم فيظن أنه على حق، ولا شك أن الأمر خطير، والنجاة من ذلك أن يعمل الدعاة بالعلم، وليتقوا اللَّه تعالى. ¬

(¬1) الفوائد، ص112. (¬2) انظر: الأخلاق الإسلامية للميداني، 1/ 214، و215. (¬3) انظر: المصفّى من صفات الدعاة لعبد الحميد البلالي، 1/ 21.

4 - مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت

4 - إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به، ومما يدل على ذلك أن البخاري بوّب باباً قال فيه: ((باب الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -))، ثم ساق الحديث: ((اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب)) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني اتخذت خاتماً من ذهب)) فنبذه وقال: ((إني لن ألبسه أبداً))، فنبذ الناس خواتيمهم (¬1). قال ابن بطّال: ((فدلّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول)) (¬2). ولهذا أمثلة كثيرة؛ فإنه خلع خاتمه فخلعوا خواتيمهم في هذه القصة، ونزع نعله في الصلاة حينما أخبره جبريل أن فيهما أذىً فنزعوا، ولَمّا أمرهم عام الحديبية بالتحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فتابعوه مسرعين (¬3)، فدلّ ذلك كله على أهمية القدوة وعظيم مكانتها. 5 - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حذّر الدعاة من المخالفة لِمَا يقولون، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف حال الدعاة الذين يأمرون الناس وينهونهم وينسون أنفسهم، قال: ((أتيت ليلة أُسري بي على قومٍ تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلَّما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباءُ أمتكَ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون ¬

(¬1) البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 7298. (¬2) فتح الباري، 13/ 275. (¬3) انظر فتح الباري، 13/ 275.

6 - إن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم كانوا قدوة حسنة لأقوامهم

كتاب اللَّه ولا يعملون به)) (¬1). ولا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه، بل يتعدّى إلى كل من يدعوهم. وإن مما يذكر في هذا الشأن، أن انحراف الداعية وخروجه عن النهج الصحيح هو في الوقت نفسه سببٌ في انحراف كل من تأثر به أو سمع منه، وما ذلك إلا بسبب أن سلوك الداعية وتصرفاته كلها مرصودة من قبل الناس، وجميع أفعاله وأقواله موضوعة تحت المجهر. فليحتطِ الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله .. وليرِ اللَّه تعالى من نفسه خيراً. 6 - إن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم كانوا قُِدوةً حسنةً لأقوامهم، وهذا يدل على عِظَم وأهمية القدوة الحسنة؛ ولهذا قال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬2). 7 - إن الناس كما ينظرون إلى الداعية في أعماله وتصرفاته ينظرون إلى أسرته وأهل بيته، وإلى مدى تطبيقهم لِمَا يقول، وهذا يفيد ويبيّن أن الداعية كما يجب عليه أن يكون قدوة في نفسه يجب عليه أن يُقوِّم أهل بيته وأسرته، ويلزمهم بما يأمر به الناس، ويدعوهم إليه؛ ولهذه الأهمية ¬

(¬1) البيهقي في شعب الإيمان عن أنس - رضي الله عنه -، 2/ 283، وأحمد، 32/ 120، 231، 239، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2/ 96، برقم 128. (¬2) سورة هود، الآية: 88.

ثالثا: وجوب القدوة الحسنة:

كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: ((إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم باللَّه لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة)) (¬1). ولقد تنبه لخطورة هذا الأمر الفقيه أبو المنصور الدمياطي فأخذ يحذر القدوات قائلاً: أيها العالِم إياك الزلل ... واحذرِ الهفوةَ، فالخطبُ جلَلْ هفوة العالِم مستعظمة ... إن هفا أصبح في الخلق مَثَلْ وعلى زلَته عمدتهم ... فبها يحتجّ من أخطأ وزَلّْ لا تقلْ يستر علمي زلَّتي ... بلْ بها يحصل في العلم الخلَلْ إن تكن عندك مستحقرةً ... فهي عند الله والناس جَبَلْ فإذا الشمس بدت كاسفةً ... وجلُ الخلقُ لها كل الوَجَلْ وترامت نحوها أبصارُهم ... في انزعاجٍ واضطرابٍ وزجَلْ وسرى النقص لهم من نقصها ... فغدت مُظلمةً منها السُّبُلْ وكذا العالِم في زلَّته ... يفتن العالم طُرّاً ويضِلّْ يُقتدى منه بما فيه هفا ... لا بما استعصم فيه واستَقَلّْ فهو ملحُ الأرض ما يصلحه ... إن بدا فيه فسادٌ وخَلَلْ (¬2) ثالثاً: وجوب القدوة الحسنة: من الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها ¬

(¬1) تاريخ الأمم والملوك للطبري، 2/ 68، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 31. (¬2) المدخل، لابن الحاج، 1/ 107، 108، وانظر: المصفّى من صفات الدعاة لعبد الحميد البلالي، 1/ 21.

الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ باللَّه من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاةالحق يعملون به وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال اللَّه - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). هذه الآية العظيمة تُبيِّن لنا أن الداعي إلى اللَّه - عز وجل - ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى اللَّه بلسانه، ويدعو إلى اللَّه بأفعاله أيضاً؛ ولهذا قال بعده: {وَعَمِلَ صَالِحًا}، فالداعي إلى اللَّه - عز وجل - يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى اللَّه بأقوالهم الطيبة، وهم يوجِّهون الناس بالأقوال والأعمال فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم (¬3). وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى اللَّه بالأقوال والأعمال، والسيرة وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيما العامّة وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى اللَّه - عز وجل - من أهمّ المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33. (¬3) فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 350.

فاضل حتى يُقتدى بأفعاله وأقواله (¬1). ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}، الآية. وهذه الآية الكريمة تفيد أن الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - هم أحسن الناس قولاً إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثّر الناس بدعوتهم، وينتفعون بها ويحبونهم عليها، بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون، فإنهم لا حظّ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، إنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من اللَّه - سبحانه - والسب من الناس، والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم. قال اللَّه - عز وجل - موبِّخاً اليهود: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬2)، فأرشد - سبحانه - في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لِمَا يقول أمر يخالف العقل، كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل (¬3). وصحّ عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (¬4). ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن باز، 3/ 110. (¬2) سورة البقرة، الآية: 44. (¬3) انظر: فتاوى ابن باز، 2/ 343. (¬4) متفق عليه من حديث أسامة بن زيد: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، برقم 3267، ومسلم، كتاب الزهد، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، برقم 2989.

هذه حال من دعا إلى اللَّه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ باللَّه من ذلك، فمن أهمّ الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته (¬1). فأنت يا عبد اللَّه في أشدّ الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى من الامتحان، ولو أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء اللَّه، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة (¬2). والمؤمن الداعي إلى اللَّه قويّ الإيمان، البصير بأمر اللَّه يصرِّح بحق اللَّه، وينشط في الدعوة إلى اللَّه، ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرّح بأنه مسلم، وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال - عز وجل -: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬3)، فالفرح برحمة اللَّه فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع (¬4). ¬

(¬1) انظر: فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 1/ 351. (¬2) انظر: المرجع السابق، 2/ 290. (¬3) سورة يونس، الآية: 58. (¬4) انظر: فتاوى ابن باز، 1/ 338.

وينبغي للدعاة إلى اللَّه تعالى: أن يُعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبراً وتعقلاً، وعملاً بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني، ولأنها المفسِّرة لكتاب اللَّه، كما قال اللَّه - عز وجل -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2). والعلم هو ما قاله اللَّه في كتابه الكريم، أو قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني الداعية بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر اللَّه به وما نهى اللَّه عنه، ويعرف طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته إلى اللَّه وإنكاره المنكر وطريقة أصحابه - رضي الله عنهم - (¬3). فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب اللَّه - عز وجل - حتى يستقيموا عليه، وحتى يكون لهم خلقاً ومنهجاً يسيرون عليه أينما كانوا، يقول - عز وجل -: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬4)، فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها. فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يُعنوا بهذا الخُلُق، وأن يُقبلوا على كتاب اللَّه قراءةً، وتدبُّراً، وتعقّلاً، وعملاً، يقول - سبحانه وتعالى -: {كِتَابٌ ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 44. (¬2) سورة النحل، الآية: 64. (¬3) انظر: فتاوى ابن باز، 4/ 171، 232. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 9.

أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬1). أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم اللَّه التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب اللَّه - عز وجل - والعناية به: تلاوةً، وتدبراً، وتعقلاً، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالاً لأهل العلم عمَّا أشكل عليه من الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب اللَّه قراءة وتدبراً وعملاً (¬2). ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 29. (¬2) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز، 4/ 79، 80.

المبحث الحادي عشر: العلم النافع

المبحث الحادي عشر: العلم النافع أولاً: أهمية العلم النافع: العلم أعظم الأخلاق الحميدة، وهو من أركان الحكمة، ولهذا أمر اللَّه به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (¬1). وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه اللَّه تعالى لهذه الآية بقوله: ((بابٌ: العلم قبل القول والعمل)) (¬2). وذلك أن اللَّه أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}، ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}، فدلّ ذلك على أن مرتبة العلم مُقدَّمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (¬3). والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون علم من غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة (¬4). ولا يكون الداعية إلى اللَّه مستقيماً حكيماً إلا بالعلم الشرعي، وإن ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، قبل الحديث رقم 68. (¬3) انظر: فتح الباري، 1/ 160، وحاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، جمع عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي، ص15. (¬4) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 13/ 136، 6/ 388.

لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين. ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وَشُرَطه (¬1). وقد مدح اللَّه - عز وجل - أهل العلم وبيَّن فضلهم، وأثنى عليهم، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (¬2)، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} (¬3)، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬4)، وبيَّن سبحانه أن العلم نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬5)، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬6)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين)) (¬7). وقال: ((مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين للإمام ابن القيم، 2/ 464. (¬2) سورة الزمر، الآية: 9. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬4) سورة فاطر، الآية: 28. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬6) سورة الشورى، الآية: 52. (¬7) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.

أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فَقُهَ في دين اللَّه ونفعه ما بعثني اللَّه به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هُدى اللَّه الذي أُرسلت به)) (¬1). وهذا يدل على أهمية العلم للدعاة إلى اللَّه تعالى، وأنه من أهم المهمات، وأعظم الواجبات؛ ليدعوا الناس على بصيرة. فيجب أن يكون الداعية على بيّنة في دعوته؛ ولهذا قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2)، والعلم الصحيح مرتكز على كتاب اللَّه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن كلّ علم يُتلقَّى من غيرهما يجب أن يعرض عليهما، فإن وافق ما فيهما قُبل، وإن كان مخالفاً وجب ردّه على قائله كائناً من كان (¬3). وهذا معنى كلام الشافعي رحمه اللَّه: كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ ... إلاّ الحديث وعلم الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين (¬4) ومقصوده - رحمه اللَّه - بوسواس الشياطين العلوم التي تخالف ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلّم، برقم 79، ومسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم، برقم 2283. (¬2) سورة يوسف، الآية: 108. (¬3) انظر: زاد الداعية إلى الله للعلامة ابن عثيمين، ص6. (¬4) انظر: ديوان الشافعي، ص124، والبداية والنهاية لابن كثير، 10/ 124.

ثانيا: أقسام العلم:

الكتاب والسنة، أو التي ليس فيها نفع للمسلمين. ثانياً: أقسام العلم: وقد قسّم الإمام ابن تيمية رحمه اللَّه العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه اللَّه: ((والعلم الممدوح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورّثه الأنبياء)) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ)) (¬1). وهذا العلم ثلاثة أقسام: القسم الأول: علم باللَّه، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل اللَّه سورة الإخلاص، وآية الكرسي ونحوهما. القسم الثاني: علم بما أخبر اللَّه به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل اللَّه آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك. القسم الثالث: العلم بما أمر اللَّه به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان باللَّه من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، برقم 3641، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم 2682، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم 223، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 1/ 43.

ما وُجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة؛ فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين. وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه اللَّه إلى هذه الأقسام بقوله: العلم أقسام ثلاثة ما لها ... من رابع والحقّ ذو تبيان عِلمٌ بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أُوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجّة، ريحها طيبّ، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ)) (¬1). فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما يُنتفع بالريحان، وأما ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، برقم 5111، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن، برقم 5111.

ثالثا: العمل بالعلم:

الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمنٌ حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته (¬1). ثالثاً: العمل بالعلم: والعلم لابدّ فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً - هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذَّر اللَّه المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬2). وحذّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم اللَّه - عز وجل - لا يُكلف اللَّه نفساً إلا وسعها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬3). ¬

(¬1) انظر: فتاوى ابن تيمية، 11/ 396، 397 بتصرف، والفتاوى أيضاً 7/ 21 - 25، وقال ابن تيمية رحمه الله: ((العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين، وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه)). انظر: فتاوى ابن تيمية، 10/ 145. (¬2) سورة الصف، الآيتان: 2 - 3. (¬3) سورة البقرة، الآية: 159.

وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتّصف بكتمان ما أنزل اللَّه من البيّنات الدّالات على الحق، المُظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل اللَّه، والغش لعباد اللَّه، لعنه اللَّه، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيه في غشّ الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة اللَّه، فجُوزيَ من جنس عمله، كما أن معلّم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة اللَّه، فَجُوزيَ من جنس عمله (¬1). وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار)) (¬2). فتبيّن بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان (¬3) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من ¬

(¬1) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي،1/ 186،وتفسير البغوي،1/ 134،وابن كثير، 1/ 200. (¬2) الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم 2649، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم، برقم 3658، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، برقم 266، وأحمد، 2/ 263، 305، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، 1/ 49، وصحيح الترمذي، 2/ 336. (¬3) سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة 107هـ، في النصف من شعبان، وعاش (91) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 454 - 474.

عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم للَّه)) (¬1). وقال رحمه اللَّه: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر)) (¬2). وقال الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((تعلّموا، تعلّموا، فإذا علمتم فاعملوا)) (¬3). وقال - رضي الله عنه -: ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبّخ نفسه)) (¬4). وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللَّه - عز وجل -)) (¬5). وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً)) (¬6). ولهذا قال الشاعر: ¬

(¬1) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب فضل العلم والعالم، 1/ 81. (¬2) المصدر السابق، 1/ 81. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 195. (¬4) المرجع السابق، 2/ 6. (¬5) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7. (¬6) المرجع السابق، 2/ 7.

رابعا: طرق تحصيل العلم:

إذا العلم لم تعمل به كان حجةً ... عليك ولم تُعذر بما أنت جاهلُه فإن كنت قد أُوتيت علماً فإنما ... يصدق قولَ المرء ما هو فاعلُه (¬1) وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل. وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مقروناً بالعمل؛ ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه اللَّه مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها)) (¬2). وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما بالحكمة، والفقه في الدين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم علمه الحكمة))، وفي لفظ: ((اللَّهم علمه الكتاب))، وفي لفظ: ((اللَّهم فقهه في الدين)) (¬3). فكان رضي الله عنهما حَبْراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. رابعاً: طرق تحصيل العلم: والعلم النافع له أسباب يُنال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها: 1 - أن يسألَ العبد ربّه العلمَ النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله، 2/ 7. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم 1343، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم 816. (¬3) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، برقم 3546، 6842، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس رضي الله عنهما، برقم 2477.

2 - الاجتهاد في طلب العلم

إليه، وقد أمر اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه (¬1)، فقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬2)، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللَّهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علماً)) (¬3). 2 - الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة (¬4). وقد جاء رجل إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: إني أريد أن أتعلّم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((كفى بتركك له تضييعاً)) (¬5). ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي يُنال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتبع، وبالحب له يُستمع، وبالفراغ له يجتمع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما تعلّمت] (¬6). ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه: أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبئك عن تفصيلها ببيان ذكاءٌ، وحرصٌ، واجتهادٌ، وبُلغةٌ ... وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان (¬7) ¬

(¬1) انظر: تفسير الإمام البغوي، 3/ 233، وتفسير العلامة السعدي، 5/ 194. (¬2) سورة طه، الآية: 114. (¬3) الترمذي، في الدعوات، باب في العفو والعافية، برقم 3599، وابن ماجه في العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم 3833، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 47. (¬4) انظر: تفسير السعدي، 5/ 194. (¬5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 104. (¬6) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 102، 103. (¬7) ديوان الشافعي، ص116.

3 - اجتناب جميع المعاصي

3 - اجتناب جميع المعاصي بتقوى اللَّه تعالى؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1)، وقال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (¬2). وهذا واضح بيِّن أنَّ من اتقى اللَّه جعل له علماً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل (¬3)؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله)) (¬4). وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه اللَّه -: ((خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة (¬5) كانت فيه وصمةً (¬6) أن يكون: فَهِماً، حليماً، عفيفاً، صليباً (¬7)، عالماً سؤولاً عن العلم)) (¬8). وقال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى: شَكوتُ إلى وكيعٍ (¬9) سوء حفظي وأخبرني بأن علم اللَّه نور ... ونور اللَّه لا يُهدى لعاصي (¬10) ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 282. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 338، وتفسير السعدي، 1/ 349. (¬4) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 196. (¬5) خطة: أي خصلة. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬6) وصمة: عيباً. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬7) قوياً شديداً، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى. انظر: فتح الباري، 13/ 146. (¬8) البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء، 13/ 146. (¬9) وكيع بن الجراح بن مليح، الإمام، الحافظ، محدث العراق، ولد سنة 129هـ، ومات سنة ... فأرشدني إلى ترك المعاصي 196هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 9/ 140، وتهذيب التهذيب، 11/ 109. (¬10) ديوان الشافعي، ص88،وانظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم، ص104.

4 - عدم الكبر والحياء عن طلب العلم

وقال الإمام مالك للإمام الشافعي رحمهما اللَّه تعالى: ((إني أرى اللَّه قد جعل في قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية)) (¬1). 4 - عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ((نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)) (¬2). وقالت أم سُليم رضي الله عنها: يا رسول اللَّه، إن اللَّه لا يسْتَحْيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأت الماء)) (¬3). وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر)) (¬4). 5 - الإخلاص في طلب العلم والعمل به، بل أعظمها ولُبُّها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تعلّم علماً ممّا يُبتغى به وجه اللَّه - عز وجل -، لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) (¬5) يعني ريحها. فيظهر مما تقدم أن العلم لا بدَّ فيه من العمل والإخلاص والمتابعة. ¬

(¬1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم، ص 104. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، قبل الحديث رقم 130. (¬3) متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، برقم 130، وصحيح مسلم، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، برقم 332. (¬4) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الحياء في العلم، قبل الحديث رقم 130. (¬5) أبو داود بلفظه في العلم، باب في طلب العلم لغير الله، برقم 2885، وابن ماجه في المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، برقم 54، وانظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 48.

المبحث الثاني عشر: الحكمة

المبحث الثاني عشر: الحكمة أولاً: تعريف الحكمة لغة وشرعاً: تعريف الحكمة في اللغة: جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها: 1 - تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل. وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد (¬1). 2 - والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيم (¬2). 3 - والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب (¬3). 4 - والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم، والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل (¬4). ¬

(¬1) القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المتوفى سنة 817هـ، باب الميم، فصل الحاء، ص1415، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص62. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة حكم، 1/ 119، وانظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 140، والمعجم الوسيط، مادة: حكم، 1/ 190. (¬3) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الميم، فصل الحاء، 12/ 143، ومختار الصحاح، مادة: حكم، ص 62. (¬4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب الحاء مع الكاف، مادة: حكم، 1/ 419.

5 - والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل (¬1). 6 - والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزدد عليها ما ليس منها. والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير (¬2). 7 - والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (¬3). 8 - والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسمّيت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد (¬4). ومما تقدّم يتّضح ويتبيّن أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معانٍ تتضمن معنى المنع: ¬

(¬1) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، كتاب الحاء، مادة: حكم، ص127. (¬2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/ 288 بتصرف يسير. (¬3) انظر: المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، المتوفى سنة 770هـ، مادة: الحكم، 1/ 145، وتاج العروس، 8/ 253. (¬4) مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، 2/ 91، باب الحاء والكاف، مادة: حكم.

تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي

فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم. والحِلْمُ: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب. والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل. والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير اللَّه، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها اللَّه تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح. ومن فسّر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: ((الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه)) (¬1). تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع، والعمل الصالح، وقيل: الخشية للَّه، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين اللَّه، وقيل: العلم ¬

(¬1) مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، 2/ 7.

الحكمة في كتاب الله نوعان

والعمل به، ولا يُسمَّى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه [بإحكامٍ، وإتقانٍ]، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة (¬1). فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهِماً، خاشياً للَّه، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه ... والحكمة أعمّ من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مُسدَّدون، مُفهَّمون، ومُوفَّقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور (¬2). والحكمة في كتاب اللَّه نوعان (¬3): مفردة، ومقرونة بالكتاب. فالمفردة كقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4). وقوله تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬5). وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ ¬

(¬1) انظر: التعريف بالتفصيل في الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى للمؤلف، ص26 - 31. (¬2) انظر: تفسير الطبري، 1/ 436، 3/ 61. (¬3) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 478، والتفسير القيم لابن القيم، ص227. (¬4) سورة النحل، الآية: 125. (¬5) سورة البقرة، الآية: 269.

لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬1). وهذه الحكمة فُسِّرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة وهذا النوع كثير في كتاب اللَّه تعالى. وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة (¬2). ((وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب اللَّه حكمة، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السَّفَه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح ... )) (¬3). وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضمّ جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: ((الإصابة في الأقوال والأفعال، والإرادات، والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه)). أما الحكمة المقرونة بالكتاب، فهي السنة من: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬4). وقوله - عز وجل -: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 12. (¬2) انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان، 2/ 320. (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم، 2/ 33. (¬4) سورة البقرة، الآية: 129.

ثانيا: أهمية الحكمة:

وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). قال اللَّه - عز وجل - {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬2). وقال - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬3)، وغير ذلك من الآيات. وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الإمام الشافعي، والإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة (¬4). ثانياً: أهمية الحكمة: 1 - قد بيّن القرآن الكريم طرق الدعوة إلى اللَّه تعالى، ويأتي في مقدمة هذه الطرق: الحكمة في الدعوة إلى اللَّه - عز وجل -، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى اللَّه تعالى بالحكمة، فقال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬5). 2 - من تتبّع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى اللَّه - عز وجل -، فأقبل الناس ودخلوا في دين ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 231. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 2. (¬4) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 478، والتفسير القيم، ص227. (¬5) سورة النحل، الآية: 125.

اللَّه أفواجاً بفضل اللَّه تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم - صلى الله عليه وسلم - الذي ملأ اللَّه قلبه بالإيمان والحكمة، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو ذر يُحدّث أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل فَفرجَ صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست (¬1) من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي .. )) الحديث (¬2). وهذا يُثبِتُ أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى اللَّه تعالى، حيث امتلأ بها صدر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو صاحب الدعوة، مع الإيمان، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة، كما يؤكّد قيمة وأهمية الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل وهو روح القدس، في طست من ذهب، وهو أغلى المعادن، في مكة المكرمة، وهي البقعة المباركة؛ ليمتلئ بها صدر محمد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو خير الخلق، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر الماء وأفضله. كل هذا يؤكد أن الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى أمرها عظيم، وشأنها كبير، وقد قال تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬3). ¬

(¬1) إناء كبير مستدير. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 1/ 460، والمعجم الوسيط، مادة: (الطّسْت)، 2/ 557. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، برقم 3164، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات وفرض الصلوات، برقم 163. (¬3) سورة البقرة، الآية: 269.

3 - من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين

ثم سار أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على طريقه وهديه في الدعوة إلى اللَّه بالحكمة، فانتشر الإسلام في عهدهم - رضي الله عنهم - انتشاراً عظيماً، ودخل في الإسلام خلق لا يحصي عددهم إلا اللَّه تعالى، وجاء التابعون، وكمّلوا السير على هذا الطريق في الدعوة إلى اللَّه بالحكمة، وهكذا سارت القرون الثلاثة المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان، فأظهر اللَّه الإسلام وأهله، وأذَلَّ الشرك وأهله وأعوانه. 3 - ومن الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم .. فحسب، وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون: - باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون. - وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات، وأهواء تصدّه عن اتّباع الحق. - وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بِحُسنِ خُلُقٍ، ولُطفٍ، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، وردّ الباطل بأقرب طريق، وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرّد المجادلة والمغالبة وحبّ العلوّ، بل لابدّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد. -

4 - الحكمة تجعل الداعي إلى الله يقدر الأمور قدرها

وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل اللَّه تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين، مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل ردّه ووقف في طريقه (¬1). وما أحسن ما قاله الشاعر: دعا المصطفى دهراً بمكةَ لم يُجب ... وقد لان منه جانبٌ وخطابُ فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا (¬2) وصدق هذا القائل فقد قال: قولاً صادقاً مطابقاً للحق (¬3)؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الشِّعرِ حكمة)) (¬4). 4 - الحكمة تجعل الداعي إلى اللَّه يُقدِّر الأمور قدرها، فلا يُزَهِّد في الدنيا، والناس بحاجة إلى النشاط والجدّ والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع، والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء، وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة. ¬

(¬1) انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 194، وتفسير ابن كثير، 3/ 416، و4/ 315، وفتاوى ابن تيمية، 2/ 45، و19/ 164. (¬2) ذكر سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز في مجموع فتاواه، 3/ 184، و204: ((أن هذا الشعر يروى لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -)). (¬3) انظر: فتح الباري، 10/ 540، 6/ 531، وشرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 33، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 354. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشِّعر والرَّجَزِ والحداءِ وما يكره منه، برقم 5793.

5 - الحكمة تجعل الداعية إلى اللَّه يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتَون من قبلها، والقدر الذي يبيّن لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشقّ بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى اللَّه بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلِّم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح (¬1). ¬

(¬1) وقد كتبت رسالة في الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، وقد طبعت ولله الحمد، فأغنى عن التفصيل في موضوعات الحكمة.

المبحث الثالث عشر: السلوك الحكيم

المبحث الثالث عشر: السلوك الحكيم تعريف السلوك لغة وشرعاً: السلوك لغة: مصدر سلك يقال: سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاً (¬1)، وسلكه غيره. والسلوك اصطلاحاً: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك (¬2). أما الخُلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروِيَّة، وجمعه: أخلاق. والأخلاق عِلْمٌ موضوعه أحكام قَيِّمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح (¬3)، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه. القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويّة والفكر، ثم يستمر عليه حتى يصير مَلَكَة وخُلقاً (¬4). والسلوك عمل إرادي، كقول: الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك. فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور، حرف الكاف فصل السين، 10/ 442. (¬2) المعجم الوسيط، مادة (سلك)، 1/ 445. (¬3) المعجم الوسيط، مادة (خلق)، 1/ 252. (¬4) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، د/محمود حمدي زقزوق، ص39.

مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولابد لنا من مظهر يدلّنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخُلق الطيّب يعرف بالأعمال الطيبة (¬1). والحكمة تتفرّع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم (¬2). والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق اللَّه له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك من قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيراً ما سمعنا أن أناساً قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماضٍ ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يُتَّهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض ¬

(¬1) انظر: مقدمة في علم الأخلاق، ص43. (¬2) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 1/ 13.

خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذّات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عَرَضٍ أو مالٍ، أو شهرة، أو جاهٍ. أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبداً بفضل اللَّه رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلاً إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد، ولا يتخذون من الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه. ولاشك أن اللَّه - عز وجل - يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والمسلم إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه الحكيم (¬1) نجح في أمور دينه ودنياه بإذن اللَّه تعالى. ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص39.

المبحث الرابع عشر: الاستقامة

المبحث الرابع عشر: الاستقامة الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2)، وقال تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3). وعن سفيان بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: ((قل: آمنت باللَّه، ثم استقم)) (¬4). والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى اللَّه: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سدِّدوا وقارِبوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمدنيَ اللَّه برحمةٍ منه وفضل)) (¬5). فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 30. (¬2) سورة الأحقاف، الآيتان: 13 - 14. (¬3) سورة هود، الآية: 112. (¬4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، برقم 38. (¬5) مسلم، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله، برقم 2816.

السداد والإصابة في النيات، والأقوال، والأعمال، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحدٌ على عمله، ولا يُعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة اللَّه، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي اللَّه على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات. والداعية إلى اللَّه يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن اللَّه تعالى - لا يُخيِّب اللَّه سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان (¬1). وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يُقبل قول الداعية، ويُقتدَى بأفعاله، فيُعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند اللَّه - عز وجل -، ويحصل على أحسن قولٍ وعملٍ على الإطلاق، كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). إنّ كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل للَّه وحده، والاعتزاز بالإسلام. ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 105، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15/ 357. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33.

وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً: الشرط الأول: دعوته إلى اللَّه - تعالى - بأن يُعبد اللَّه وحده، فَيُطاع فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. الشرط الثاني: عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والقيام بالمستحبات، والابتعاد عن المكروهات، فهو مع دعوته الخلق إلى اللَّه يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي. الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكراً لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط الثلاثة، فلا أحد أحسن قولاً منه (¬1). ولكن قد يحصل للداعية ما يصدُّه عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبيّن اللَّه - عز وجل - أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللِّين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم. أما شياطين الجن فلا مَنْجَى منهم إلا بالاستعاذة منهم باللَّه وحده (¬2)، قال اللَّه تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). ¬

(¬1) انظر: تفسير العلامة السعدي، 6/ 575، وتفسير الجزائري، 4/ 120. (¬2) انظر: أضواء البيان للشنقيطي، 2/ 341، 342، وتفسير السعدي، 6/ 527، وزاد المعاد، 2/ 462. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200، وانظر: سورة المؤمنون، الآيات: 96 - 98، وسورة فصلت، الآيات: 34 - 36.

المبحث الخامس عشر: الخبرات والتجارب

المبحث الخامس عشر: الخبرات والتجارب التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضل اللَّه يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهّاب {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬1)؛ ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه. والتجربة في العلم: اختبار مُنظِّم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجةٍ ما، أو تحقيق غرضٍ معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيءٍ وإصلاحه (¬2)، ويُقال: جَرَّبَهُ تَجرِبَةً: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُلِيَ ما كان عنده، ومجرِّب: عرف الأمور (¬3)، تقول، جربت الشيء تجريباً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب (¬4). وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة)) (¬5). ومن المعلوم أن الحكيم لابد له من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة)) (¬6). والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: جرب، 1/ 114. (¬3) القاموس المحيط، باب الباء، فصل الجيم، ص85. (¬4) المصباح المنير، مادة جرب، ص95. (¬5) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، موقوفاً على معاوية مجزوماً به، بعد الرقم 6132. (¬6) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، برقم 2033،وأحمد في المسند، 3/ 8.

وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفي عنه فعرف به رتبة العفو فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل (¬1). والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها (¬2). والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنيَّة على المران والتجارب؛ ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم (¬3). وبهذا يعلم أن الداعية إلى اللَّه إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جرّبهم، فالتجارب تنمّي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجِّع الجبان، وتسخِّي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه فهو من الحمقى الذين لا يفقهون (¬4). وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 10/ 530، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 182. (¬2) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، 6/ 424. (¬3) انظر: الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية، للدكتور/ صبحي محمصاني، ص140. (¬4) انظر: هكذا علمتني الحياة، القسم الأول: للدكتور مصطفى السباعي، ص47.

والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم اللَّه وربّاهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث اللَّه من نبي إلا رعى الغنم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بعث اللَّه نبيّاً إلاّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (¬1). وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاّ وقد رعاها)) (¬2). والحكمة من ذلك - واللَّه أعلم - أن اللَّه - عز وجل - يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)) (¬3)؛ ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سبعٍ وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدّة تفرّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، برقم 2262. (¬2) البخاري، كتاب الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم، برقم 3225، وكتاب الأطعمة، باب الكباث، برقم 3225، ومسلم في كتاب الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث، برقم 2050، وهو النضيج من ثمر الأراك، انظر: شرح النووي، 14/ 6. (¬3) البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، برقم 4127، ومسلم في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، برقم 52.

فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها (¬1). ثم بعد رعيهم الغنم جرّبوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم؛ ولهذا قال موسى - صلى الله عليه وسلم - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - عندما فرضت عليه الصلاة خمسين صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إنّ أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كلّ يومٍ، وإني واللَّه قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ... )) فما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمسٍ صلواتٍ كل يوم (¬2). فموسى قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أضعف من بني إسرائيل أجساداً، وأقلّ منهم قوةً، والعادة أن ما عجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (¬3). فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى اللَّه، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 4/ 441، وشرح النووي على مسلم، 14/ 6. (¬2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، برقم 3674. (¬3) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 1/ 220، وفتح الباري، 1/ 463.

أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين)) (¬1)، وقال: ((كلّكم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)) (¬2). وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد له - لإصلاح المتديِّنين وتوجيههم - أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسِّياسيين، ويتعرَّف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كُرْهِ نفسٍ واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى اللَّه، ويحرم الناس من علمه (¬3)، وهذا يؤهِّله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدِّثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي - رضي الله عنه -: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ اللَّه ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم 5782، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم 2998. (¬2) الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد، برقم 2499،وابن ماجه في الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4251، والدارمي في الرقائق، باب التوبة، 2/ 213، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي،2/ 305. (¬3) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص41، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن السعدي، ص88.

ورسوله)) (¬1). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (¬2). وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يُمكِّنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (¬3). ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 127. (¬2) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، برقم 14. (¬3) سورة النحل، الآية: 125.

المبحث السادس عشر: السياسة الحكيمة

المبحث السادس عشر: السياسة الحكيمة إذا سلك المسلم مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن اللَّه تعالى. والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى اللَّه، وقد سلك هذا المسلك، فنفع اللَّه به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يُعرَف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أيِّ أمةٍ من الأمم كان له مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرِّزين - سواء كان قائداً مُحنَّكاً، أو مربِّياً حكيماً - اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق، وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى اللَّه مكتسباً عظيماً. وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى اللَّه - عز وجل - كثيرة، منها الطرق الآتية: الطريق الأول: تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملُّوا عن الاستماع ويفوتهم من الإرشاد والتعليم ¬

(¬1) انظر: هداية المرشدين، للشيخ علي محفوظ، ص24، و31.

الطريق الثاني: ترك الأمر الذي لا ضرر فيه ولا إثم

النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)) (¬1). ولهذا طبَّق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - يُذكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لودِدْتُ أنك ذكرتنا في كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّلنا بها مخافة السآمة علينا (¬2). وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يسّروا ولا تُعسّروا، وبشّروا ولا تُنفِّروا)) (¬3). الطريق الثاني: ترك الأمر الذي لا ضرر فيه ولا إثم، اتقاءً للفتنة، فقد يجد الداعية قوماً استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألاَّ يدعو، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - اجتناباً لفتنة قومٍ كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 95، وباب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، برقم 118. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، برقم 70. (¬3) البخاري، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة، برقم 69، ومسلم، كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1734.

الطريق الثالث: تأليف القلوب بالمال أحيانا

بالبيت فَهُدِمَ، فأَدْخَلْتُ فيه ما أُخْرِجَ منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم)) (¬1). وفي رواية: ((إن قومك قصرت بهم النفقة))، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: ((فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدْخِلَ الجَدْرَ في البيت، وأن أُلصِقَ بابه بالأرض)) (¬2). وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها - صلى الله عليه وسلم - لدفع هذه المفسدة (¬3). الطريق الثالث: تأليف القلوب بالمال أحياناً، فالداعية كالطبيب الذي يشخِّص المرض أولاً، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخاً لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه، للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع اللَّه للمؤلفة قلوبهم نصيباً من ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم 1584، ومسلم، في الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم 1333. (¬2) البخاري، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، برقم 1584، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة، برقم 1332. (¬3) انظر: شرح النووي على مسلم، 9/ 89.

الطريق الرابع: التأليف بالجاه

الزكاة، وقد كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسلك هذا المسلك، فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال، إذا ظهر له أن الإيمان لم يرسخ؛ ولذلك أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ منه خشية أن يُكبّ في النار على وجهه)) (¬1). وقد كان يعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البيِّنات، والبراهين الواضحة (¬2). وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((تهادوا تحابّوا)) (¬3). وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه - صلى الله عليه وسلم - (¬4). الطريق الرابع: التأليف بالجاه من السياسة الحكيمة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: ((أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول اللَّه فواللَّه لما تنقلبون به خير ما ينقلبون به))، فقالوا: بلى يا رسول اللَّه قد رضينا (¬5). ¬

(¬1) البخاري بنحوه، كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، برقم 1408، ومسلم في الإيمان، باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه، برقم 2480. (¬2) انظر: هداية المرشدين، ص35. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 6/ 169،والبخاري في الأدب المُفْرَد، ص208، برقم 594، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير،3/ 70: ((إسناده حسن))،وانظر: إرواء الغليل، برقم 1601. (¬4) انظر: صحيح مسلم، 4/ 1803 - 1806، وانظر أيضاً: البخاري مع الفتح، 3/ 135، 6/ 250، 11/ 258. (¬5) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم، برقم 2483، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه، برقم 2483.

الطريق الخامس: التأليف بالعفو في موضع الانتقام

وفي رواية: ((لو سلك الناس وادياً أو شِعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شِعباً لسَلكتُ وادي الأنصار أو شِعب الأنصار)) (¬1). فإذا سلك الداعية هذه السياسة وُفِّق للصواب والحكمة - بإذن اللَّه تعالى -. الطريق الخامس: التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت. وهذا أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته. وقد مدح اللَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬2). وقال - عز وجل -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ¬

(¬1) مسلم، في كتاب الزكاة، الباب السابق، برقم، 2486. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159.

الطريق السادس: عدم مواجهة الداعية أحدا بعينه

حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1). الطريق السادس: عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يُؤدِّبه أو يزجره مادام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخَّع أمامه، أيحب أحدكم أن يُستقبل فيتنخّع في وجهه، فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا))، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض (¬2). وفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - ناساً في بعض الصلوات، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحطبَ، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً يؤمُّ الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ [يتخلّفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم)) (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة))، فاشتدّ قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفنَّ أبصارُهم)) (¬4). وصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فرخّص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 128. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 550. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم 618، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 651، وما بين المعقوفين من رواية مسلم. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم 717.

الطريق السابع: إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه

- صلى الله عليه وسلم - فخطب، فحمد اللَّه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزَّهون عن شيءٍ أصنعه، فواللَّه إني لأعلمهم باللَّه، وأشدُّهم له خشية)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (¬2). وبلغه شرط أهل بريرة رضي الله عنها أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: ((ما بال أناسٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللَّه، من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللَّه فليس له، وإن شرط مائة مرة، شرط اللَّه أحقُّ وأوثقُ)) (¬3). وهذا يدلّ الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب ستراً عليهم، ورفقاً بهم، وتلطُّفاً. والداعية يستطيع أن يُوجِّه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعوّ المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب (¬4). الطريق السابع: إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله)) (¬5). فقد صوَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم 5750، ومسلم، كتاب الفضائل، باب علمه - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وشدة خشيته، برقم 2356. (¬2) مسلم، في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، برقم 1401. (¬3) البخاري، كتاب المكاتب، باب ما يجوز من شروط المكاتب، برقم 2584، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، برقم 1504. (¬4) انظر: فتح الباري، 10/ 513. (¬5) مسلم، في كتاب الأمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، برقم 1893.

الطريق الثامن: أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره

وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من جهَّز غازياً فقد غزا)) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه))، قيل: يا رسول اللَّه: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمَّه)) (¬2). وهذا أصل في سدّ الذرائع، ويُؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرَّمٍ يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم (¬3)، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬4). فقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يسبُّ أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبَّب في سبِّهما. الطريق الثامن: أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل اللَّه الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟))، قلت: أن يُغفَر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ... )) (¬5). ¬

(¬1) مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، برقم 1895. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، برقم 5973. (¬3) انظر: فتح الباري، 10/ 404. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 108. (¬5) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، برقم 121.

الطريق التاسع: ضرب الأمثال

فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبروراً، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غُفر لك، أو نحوها (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن ماء البحر: ((هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته)) (¬2). فأجاب - صلى الله عليه وسلم - السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حلّ ميتة البحر، فعندما عرف - صلى الله عليه وسلم - اشتباه الأمرِ على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى حكمٍ كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته، مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً (¬3). الطريق التاسع: ضرب الأمثال، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)) (¬4). وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 2/ 138، وانظر: هداية المرشدين، ص32. (¬2) أبو داود، في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم 83، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، برقم 69، والنسائي في الطهارة، باب ماء البحر، برقم 331، وابن ماجه في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، برقم 386، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 14. (¬3) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام، للشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، 1/ 18. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم 2446، ومسلم، في كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم 2585.

بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (¬1). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 5665، ومسلم في البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، برقم 1999.

المبحث السابع عشر: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم

المبحث السابع عشر: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم المسلم الفطن الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، ويُنزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم، وأفهامهم، وطبائعهم، وأخلاقهم، ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذَّب اللَّه ورسوله)) (¬1). وذُكِرَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((أمرنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن نُنْزِلَ الناس منازلهم)) (¬2). وقال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (¬3). وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للدعاة إلى اللَّه - عز وجل -، فقال لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حينما بعثه إلى اليمن - داعياً ومعلماً وقاضياً -: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب ... )) الحديث (¬4). فبين - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعدّ لهم، ويقدّم لهم ما يناسبهم، وما يُصلح أحوالهم. ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من خص قوماً بالعلم دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 157. (¬2) مسلم، في المقدمة،1/ 6، وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منزلهم، برقم 4844. (¬3) مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، 14. (¬4) البخاري، كتاب الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، برقم 1395، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وشرائع الإسلام، برقم 19.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: ((يا عائشة، لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون)) (¬1). فترك - صلى الله عليه وسلم - هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد (¬2). فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جداً؛ فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشُّبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم (¬3). والدّاعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله، مقدّراً للظروف التي يدعو فيها، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم. والداعية إلى اللَّه - تعالى - لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقاً في تبلغيه ولا مسدّداً في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، برقم 126. (¬2) قال ابن حجر - رحمه الله - تعالى: ((يستفاد منه ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه)). انظر: فتح الباري، 1/ 225. (¬3) انظر: شرح الإمام النووي على مسلم، 1/ 76، 197، وفتح الباري، 1/ 225، وكيف يدعو الداعية لعبد الله ناصح علوان، ص7، 37،47،155،وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، ص7.

فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والمادّيين والدهريّين؟ أم من الوثنيين المشركين؟. فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدّم معهم؟ وماذا يؤخّر؟ وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟ وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يُشخِّصُ المرض، ويعرف الداء ويُحدّده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه، من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا فالداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويُحدّد الدّاء، ويعرف الدّواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة (¬1). ¬

(¬1) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله للمؤلف، ص335 - 336.

المبحث الثامن عشر: الحلم والعفو

المبحث الثامن عشر: الحِلْم والعفو أولا: تعريف الحِلْم: الحِلْم: بالكسر: العقل (¬1)، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند الغضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وعقل (¬2)، ومن أسماء اللَّه - تعالى -: (الحليم)، وهو الذي لا يستخفّه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ إليه (¬3). والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب (¬4). والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقّل ولا تبصّر كان على رذيلة، وإن تبلّد، وضيّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلّى بالحلم مع القدرة وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة. وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، واللَّه أعلم (¬5). ¬

(¬1) القاموس المحيط، باب الميم، فصل الحاء، ص1416. (¬2) المعجم الوسيط، مادة: حلم، 1/ 194. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، حرف الحاء مع اللام، 1/ 434. (¬4) المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة حلم، ص129. (¬5) انظر: مفردات غريب القرآن ص129، وأخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 182، والأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن الميداني، 2/ 326.

ثانيا: أهمية الحلم:

وقد وصف اللَّه نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬1). ونلاحظ أن الآيات التي وصفت اللَّه بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (¬2). ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت اللَّه بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬3)، وهذا يفيد - واللَّه أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم مقومات الداعية الناجح، ومن أعظم أركان الحكمة (¬4). ثانياً: أهمية الحِلْم: الحلم من أعظم أخلاق المسلم، وهو أيضاً من دعائم الحكمة، فلا يكون الداعية ناجحاً حتى يكون: حكيماً، فالحكمة تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وكل خلل في ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 155. (¬2) سورة فاطر، الآية: 45. (¬3) سورة الحج، الآية: 59. (¬4) انظر: أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.

الداعية إلى اللَّه فسببه الإخلال بالحكمة وأركانها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلّهم منها ميراثاً، ومعاول هدم الحكمة: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، وطائش، ولا عجول (¬1). ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم مقومات الداعية ومن أركان الحكمة التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى اللَّه - تعالى - مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها اللَّه - عز وجل -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأشجِّ (¬2): ((إن فيك خصلتين يحبِّهما اللَّه: الحلم والأناة)) (¬3). وفي رواية قال الأشجّ: يا رسول اللَّه، أنا تخلَّقت بهما أم اللَّه جبلني عليهما؟ قال: ((بل اللَّه جبلك عليهما))، قال: الحمد للَّه الذي جبلني على خُلُقيْن يحبهما اللَّه ورسوله (¬4). وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأشجّ ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرّبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم)) فقال القوم: نعم، فقال الأشجّ: يا رسول اللَّه، ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 2/ 480. (¬2) المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشج عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك ومات بها - رضي الله عنه -. انظر: تهذيب التهذيب، 10/ 267. (¬3) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله، برقم 25. (¬4) أبو داود، في الأدب، باب في قبلة الجسد، برقم 5227، وأحمد، 4/ 206، 3/ 23.

إنك لم تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبَّعَنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين ... )) الحديث. فالأناة: تربُّصُه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحّة عقله، وجودة نظره للعواقب (¬1). ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خُلُق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى اللَّه والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة. وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر اللَّه المؤزَّر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن غريباً أن يوجهه اللَّه تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وقال - عز وجل -: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬3). وقال - عز وجل -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم، 1/ 189، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 152. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200. (¬3) سورة فصلت، الآية: 34.

ثالثا: أمثلة الحلم:

الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬1). ثالثاً: أمثلة الحلم: المثال الأول: مع من قال هذه قسمة ما عُدِلَ فيها: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه اللَّه، فقلت: واللَّه لأُخبرنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدلْ إذا لم يعدلِ اللَّه ورسولُه؟! رحم اللَّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) (¬2). وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى اللَّه - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكِّل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (¬3). المثال الثاني: مع من قال: كنا أحقَّ بهذا: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول اللَّه من اليمن بذهيبة (¬4) في أديم مقروظ (¬5) لم تُحصِّل من ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬2) البخاري بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس، برقم 2981، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، برقم 1062. (¬3) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 8/ 49. (¬4) أي: ذهب. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬5) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري، 8/ 68.

ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (¬1)، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (¬2)، والرابع إما علقمة (¬3) وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول اللَّه! اتّقِ اللَّه، قال: ((ويلك، أولست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي اللَّه))، قال: ثم ولَّى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول اللَّه! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لم أُومر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم))، قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍّ فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللَّه رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) (¬4). وهذا من ظواهر حلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخذ بالظاهر، ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل ¬

(¬1) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح، 8/ 68. (¬2) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬3) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري، 8/ 68. (¬4) البخاري، كتاب المغازي، باب بعث على بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى اليمن، برقم 3166، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، برقم 1064.

المثال الثالث: مع الطفيل:

واستوجبه؛ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله، لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، ولاسيما من صلّى (¬1). المثال الثالث: مع الطفيل: من مواقف الحلم ما فعله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، فقد أسلم الطفيل - رضي الله عنه - قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى اللَّه - عز وجل - فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وذكر له أن دوساً هلكت وكفرت وعصت وأبت. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن دوساً قد عصت وأبت، فادع اللَّه عليهم، فاستقبل رسول اللَّه القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: ((اللَّهم اهد دوساً، وائت بهم، اللَّهم اهد دوساً، وائت بهم)) (¬2). وهذا يدلّ على حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وتأنِّيه في الدعوة إلى اللَّه - عز وجل -؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من ردّ الدعوة؛ ولكنه - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم بالهداية، فاستجاب اللَّه دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأني وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، فأسلم ¬

(¬1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/ 69. (¬2) البخاري، في كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، برقم 2779، وفي كتاب المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي، برقم 4131، وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين، برقم 6034، ومسلم، في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل غفار وأسلم وجهينة وأشجع وتميم ودوس وطيئ، برقم 2524، وأخرجه أحمد واللفظ له، 2/ 243، 448، وانظر: البداية والنهاية، 6/ 337، 3/ 99، وسيرة ابن هشام، 1/ 407.

المثال الرابع: مع من أراد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -:

على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتاً من دوس، ثم لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين (¬1). اللَّه أكبر! ما أعظمها من حكمة أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة. وهذا مما يوجب على الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل اللَّه ثم معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته. المثال الرابع: مع من أراد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -: روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نجد (¬2)، فأدركنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، فعلّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلّون بالشجر، قال: فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتاً (¬3) في يده، فقال لي: من يمنعنك مني؟ قال: قلت: اللَّه، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: اللَّه، قال: فشام (¬4) السيف، فها هو ذا جالس))، ثم لم يعرض له رسول ¬

(¬1) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 1/ 346،وزاد المعاد، 3/ 626،والإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 225. (¬2) وقع في رواية البخاري التصريح باسمها ((ذات الرقاع))، انظر: البخاري مع الفتح، 7/ 426. (¬3) والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي، 15/ 45. (¬4) شام السيف: أي رده في غمده. انظر: المرجع السابق، 15/ 45.

المثال الخامس: مع زيد الحبر:

اللَّه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). اللَّه أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس! أعرابي يريد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يعصمه اللَّه منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخُلُقٌ عظيم، وصدق اللَّه العظيم إذ يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2)، وهذا الخلق العظيم قد أثَّر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير (¬3). المثال الخامس: مع زيد الحبر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار (¬4). جاء زيد بن سعنة إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يطلبه ديناً له، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول، ونظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ غليظٍ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، برقم 2910، وكتاب المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، برقم 4136، ومسلم، واللفظ له، كتاب الفضائل، باب: توكله على الله - تعالى -، وعصمة الله - تعالى - له من الناس، برقم 843، وأحمد، 3/ 311، 364. وانظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، فقد ذكر رواية مطولة عزاها لأبي بكر الإسماعيلي في صحيحه، 2/ 335. (¬2) سورة القلم، الآية: 4. (¬3) انظر: فتح الباري، 7/ 428، وشرح النووي على مسلم، 15/ 44، وذكر ابن حجر والنووي في هذا الموضع أن اسم الأعرابي: غورث بن الحارث. (¬4) انظر: هذا الحبيب يا محب، ص528، وهداية المرشدين، ص384.

قوم مُطْلٌ، وشدّد له في القول، فنظر إليه عمر وعنياه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو اللَّه، أتقول لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: ((أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ))، فكان هذا سبباً لإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وكان زيد قبل هذه القصة يقول: ((لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً)) (¬1). فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر (¬2). فقد أقام محمد - صلى الله عليه وسلم - براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق. ¬

(¬1) ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة هذه القصة وعزاها إلى الطبراني، والحاكم، وأبي الشيخ في كتابه أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن سعد، وغيرهم، ثم قال ابن حجر: ورجال إسناده موثقون ... ومحمد بن أبي السري وثقة ابن معين ... والوليد قد صرح بالتحديث، 1/ 566. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 2/ 310، وعزاه إلى أبي نعيم في الدلائل، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 240: ((رواه الطبراني، ورجاله ثقات)). (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 566.

المثال السادس: مع ثمامة:

المثال السادس: مع ثمامة: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: بعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم (¬1)، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؛ فتركه رسول اللَّه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعطَ منه ما شئت؟ فتركه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حتى كان من الغد، فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة))، فقال: عندي ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؟ فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((أطلقوا ثمامة)) , فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: ((أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، واللَّه ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشّره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال ¬

(¬1) معناه: إن تقتل تقتل صاحب دم يدرك قاتله به ثأره لرئاسته وفضيلته، وقيل: معناه تقتل من عليه دم مطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. انظر: فتح الباري، 8/ 88.

له قائل: أصبوت؟ فقال: [لا واللَّه]، ولكني أسلمت مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا واللَّه لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). ((ثم خرج - رضي الله عنه - إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل)) (¬2). وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه قريش عن الميرة، ونزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (¬3). وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتدّ أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين (¬4). اللَّه أكبر، ما أحلم النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وما أعظمه من موقف، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتألف القلوب، ويلاطف من يُرجى إسلامه من الأشراف ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، برقم 4372، ومسلم - واللفظ له إلا ما بين المعقوفين فمن البخاري - في كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه، برقم 1764. (¬2) سيرة ابن هشام، 4/ 317 بتصرف يسير، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 88. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 76. وقال ابن حجر عن هذا الأثر: ((إسناده حسن)). انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 203. (¬4) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 203.

المثال السابع: مع من جذب النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه:

الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير. وهكذا ينبغي للدعاة إلى اللَّه - عز وجل - أن يعظّموا أمر الحلم والعفو عن المسيء، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من الحلم والعفو والمنّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه (¬1)؛ ولهذا قال: أهمّ بترك القول ثم يردّني ... إلى القول إنعامُ النّبيّ محمّدِ شكرتُ له فكّي من الغلِّ بعدما ... رأيت خيالاً من حسامٍ مهنّدِ (¬2) المثال السابع: مع من جذب النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فضحك، ثم أمر له بعطاء (¬3). وهذا من روائع حلمه - صلى الله عليه وسلم - وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسّى به الدعاة إلى اللَّه، ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 89، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 8/ 88. (¬2) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 203. (¬3) البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، برقم 3149، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة، برقم 1057.

المثال الثامن: اللهم اغفر لقومي:

والولاة بعده في حلمه، وخُلُقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (¬1). المثال الثامن: اللَّهم اغفر لقومي: ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم اللَّه، ويدمرهم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: كأني أنظر إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات اللَّه وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (¬2). المثال التاسع: مع من سبّ: ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى اللَّه والصالحون من أتباعهم، وإذا كان اللَّه - عز وجل - قد جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - مثلاً عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول اللَّه - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (¬3). فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 10/ 506، وشرح النووي على مسلم، 7/ 146، 147. (¬2) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 3477، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، برقم 1792. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 63.

خيراً كما كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً (¬1). فعن النعمان بن مقرن المزني - رضي الله عنه -، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنَّ ملكاً بينكما يذبّ عنك كلما يشتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحقّ به، وإذا قال له: عليك السلام، قال: بل لك، أنت أحق به)) (¬2). فهؤلاء الدعاة إلى اللَّه والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردّون المعروف من القول على من جهل عليهم (¬3)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلّقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم يُنفِّذُوه، {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (¬4)، فترتّب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (¬5)، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬6). ¬

(¬1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 2/ 310، والإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 556، ومجمع الزوائد، 8/ 240. (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند، 5/ 445، وقال ابن كثير في تفسيره، 3/ 326: ((إسناده حسن)). (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 326. (¬4) سورة الشورى، الآية: 37. (¬5) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 621. (¬6) سورة فصلت، الآية: 34.

المثال العاشر: مع عيينة:

المثال العاشر: مع عيينة: ومما يُبيّن حلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فواللَّه ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه - تعالى - قال لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1)، وإن هذا من الجاهلين، واللَّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب اللَّه (¬2). وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب. أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين. والثاني: قوله: واللَّه ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير. والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، برقم 4642.

ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح بعدما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية: ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، - رضي الله عنه - وأرضاه (¬1)، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخُلُقه. وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) (¬2). ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال أوصني: ((لا تغضب)) (¬3). والداعية إلى اللَّه يستطيع أن يتّصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك بعلاج الغضب (¬4)، إذا حلّ به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه اللَّه، وبينه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية وفعلية وعملية حتى يكونوا حلماء، حكماء. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6114، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، برقم 2609. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، برقم 6116، والحديث فيه: فردد مراراً، قال: ((لا تغضب)). (¬4) انظر: المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم، المطلب الأول: علاج الغضب من هذا الكتاب.

المبحث التاسع عشر: الأناة والتثبت

المبحث التاسع عشر: الأناة والتثبت أولاً: تعريف الأناة والتثبت: الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة (¬1). ويقال: تأنَّى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله (¬2). وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبّت، وتأنّى فيه ولم يعجل (¬3). ويأتي التبين بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصّر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ (¬4). وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ (¬5). والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني ¬

(¬1) المصباح المنير، مادة: أنى، 28. (¬2) انظر: مختار الصحاح، مادة: أنى، ص13، والمعجم الوسيط، 1/ 31. (¬3) انظر: المعجم الوسيط، مادة: أبان، 1/ 80، ومادة: ثبت، 1/ 93. (¬4) انظر: القاموس المحيط، باب الراء، فصل الباء، ص448، ومختار الصحاح، مادة: بصر، ص22، والمعجم الوسيط، 1/ 59. (¬5) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 352.

ثانيا: أهمية الأناة والتثبت:

فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلاّن على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همّته للقيام بالأعمال التي تحقّق له ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب. ثانياً: أهمية الأناة والتثبت: والأناة عند المسلم الصادق تسمح له بأن يُحكِّم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنها تعرّضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها (¬1). والداعية مطلوب منه أن يتخلّق بخُلُق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خُلُقٌ مذموم يدل على ضعف الهمة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها لعبد الرحمن الميداني، 2/ 353، وأخلاق القرآن الكريم للشرباصي، 3/ 15.

وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن اللَّه تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة. وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم بالأعمال وتصريف الأمور (¬1). قال اللَّه - تعالى - للنبي - صلى الله عليه وسلم - تربية له وتعليماً: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬2). فأمر اللَّه سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل اللَّه له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبيِّنه له ويفسِّره (¬3). وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬4). وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى اللَّه - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬5)، قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: ¬

(¬1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني، 2/ 353 - 354، بتصرف. (¬2) سورة القيامة، الآيات: 16 - 19. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 450. (¬4) سورة طه، الآية: 114. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 6.

(فتَثبَّتوا)، والمراد من التبيّن التعرّف والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر (¬1). والدعاة إلى اللَّه أولى بامتثال أمر اللَّه - تعالى - وبالتأنِّي والتثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس (¬2). والداعية إلى اللَّه - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح له الحق. والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤدِّيان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو مُحرّفاً، أو مزوَّراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته. وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتّهم هذا، أو يسبّ ذاك، فيندم ويحصد ¬

(¬1) انظر: فتح القدير، للإمام الشوكاني، 4/ 60. (¬2) انظر: في ظلال القرآن، 6/ 3334، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي، 3/ 15.

ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنَّى، وتبيَّن، وتثبَّت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعداءه عدواً جديداً منهم. ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (¬1)، قال - عز وجل -: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} (¬2). ولعظم أمر الأناة والتبين التي أمر اللَّه بها حتى في جهاد الكفار في سبيل اللَّه الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى اللَّه تعالى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة. فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبيت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. ¬

(¬1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم، 3/ 26، وفي ظلال القرآن، 6/ 3342. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 11. (¬3) سورة النساء، الآية: 94.

ثالثا: أمثلة الأ ناة والتثبت:

وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين؛ فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكفّ عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعرفُ دين العبد وعقله ورزانته (¬1). ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله: {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (¬2). ثالثاً: أمثلة الأ ناة والتثبت: المثال الأول: مع أسامة: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه)) قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنما كان متعوِّذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه))، قال، فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ¬

(¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 2/ 132. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، سورة النساء، باب: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، برقم4591.

المثال الثاني: قبل القتال:

ذلك اليوم (¬1). وفي رواية: قال: قلت يا رسول اللَّه: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ (¬2). وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة))، قال: يا رسول اللَّه: استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة)). قال فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة)) (¬3). ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس أناةً وتثبُّتاً، فكان لا يُقاتل أحداً من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم ... )) (¬4). المثال الثاني: قبل القتال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّم ويربِّي أصحابه على الأناة والتثبُّت في دعوتهم إلى اللَّه - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعوَ عدوَّه قبل القتال إلى ثلاث خصال: ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة إلى الحرقات، برقم 4269، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم 96. (¬2) مسلم، في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم 96. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، برقم 96. (¬4) البخاري بلفظه مطولاً، في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم 610، ومسلم، في الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سُمِعَ فيهم الأذان، برقم 1365.

المثال الثالث: في الصلاة:

الخصلة الأولى: الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. الخصلة الثانية: فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. الخصلة الثالثة: فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم (¬1). المثال الثالث: في الصلاة: ومن تربيته لأصحابه - صلى الله عليه وسلم - على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت)) (¬3). ولِسُمُوِّ الأناة أحبها اللَّه - عز وجل -، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - للأشج: ((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم، والأناة)) (¬4). والرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناة وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظاً محمد - صلى الله عليه وسلم -. المثال الرابع: في الغزو: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: اللَّه ¬

(¬1) أخرج الحديث مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، برقم 1731، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 3/ 100. (¬2) البخاري، كتاب الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، وقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله}،برقم 908، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بسكينة ووقار والنهي عن إتيانها سعيا، برقم 602. (¬3) مسلم، في كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، برقم 604. (¬4) مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله وشرائع الدين والدعاء إليه، برقم 17.

أكبر، اللَّه أكبر فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((على الفطرة))، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((خرجت من النار)) (¬1). وعنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوماً لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم ... (¬2). وهذا يدل على تثبته - صلى الله عليه وسلم - وعدم عجلته، وهو أسوة الدعاة إلى اللَّه تعالى وقدوتهم. وعن عبد اللَّه بن سرجس المزني - رضي الله عنه -،أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السَّمْتُ الحسن (¬3)، والتُّؤَدَةُ، والاقتصاد (¬4)، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة)) (¬5). وبهذا يُعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها اللَّه حتى تكون المسارعة مما يحبه اللَّه تعالى (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، برقم 382. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم 2943. (¬3) السمت الحسن: هو حسن الهيئة والمنظر. انظر: فيض القدير للمناوي، 3/ 277. (¬4) الاقتصاد: هو التوسط في الأمور والتحرز عن طرفي الإفراط والتفريط. انظر: المرجع السابق 3/ 277. (¬5) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، برقم 2010، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 195. (¬6) انظر: شرح السنة للبغوي، 13/ 177، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 153.

المبحث العشرون: الرفق واللين

المبحث العشرون: الرفق واللين أولاً: تعريف الرفق واللين: الرفق لغة: اللطف ولين الجانب (¬1)، وهو ضد العنف (¬2)، واللين: ضد الخشونة (¬3)، قال اللَّه تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬4). ومعنى {لِنتَ لَهُمْ}: سهَّلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم (¬5). فظهر من هذه التعريفات اللغوية أن الرفق واللين يتضمن: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف (¬6). ويُطلق الرفق واللين على المداراة إذا كان في ذلك دفع برفق، يُقال: ((دَارَأهُ)) أي لاينه واتقاه (¬7)، ودفعه (¬8)، ولاطفه ولاينه اتقاءً لشرِّه (¬9)، وفي الحديث: ((أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فجاءت بهمة ¬

(¬1) القاموس المحيط، ص145، والمعجم الوسيط، 1/ 362، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 2/ 246. (¬2) مختار الصحاح، ص105. (¬3) المرجع السابق، ص255. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬5) انظر: تفسير البغوي، 1/ 449. (¬6) انظر: فتح الباري، 10/ 449. (¬7) مختار الصحاح، ص85، مادة ((دَرَأَ)). (¬8) القاموس المحيط، ص50. (¬9) المعجم الوسيط، 1/ 276.

تمرّ بين يديه فمازال يُدارئُها)) أي يدافعها (¬1)، وقد بوّب البخاري - رحمه اللَّه - باباً في صحيحه فقال: (باب المداراة مع الناس) ثم أورد حديث عائشة أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: ((ائذنوا له فبئس ابن العشيرة)) - أو بئس أخو العشيرة))، فلما دخل ((ألان له الكلام)). قالت عائشة: فقلت له: يا رسول اللَّه قلت ما قلت ثم ألنت له في القول. فقال: ((أي عائشة إن شر الناس منزلة عند اللَّه من تركه - أو ودعه - الناس اتِّقاء فُحشه)) (¬2)، ويذكر عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: ((إنا لنكشِرُ (¬3) في وجوه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم)) (¬4). فظهر أن المداراة هي: الدفع برفق ولين. والمداراة ليست من المداهنة: قال ابن بطال - رحمه اللَّه -: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه. والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، 2/ 110. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب، برقم 6054. (¬3) هو في الغالب الضحك مع ظهور الأسنان، الفتح، 10/ 528. (¬4) البخاري، بصيغة التمريض، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس، قبل الحديث رقم 6131، وقال ابن حجر10/ 528: ((منقطع)).

1 - الرفق واللين لين الجانب بالقول والفعل

بلطف القول والفعل لاسيما إذا احتيج إلى تألفّه ونحو ذلك (¬1). وقد قال اللَّه تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2)، ومعنى: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا}: يقول: دارياه وارفقا به (¬3)، وقد استدل بهذه الآية المأمون عندما عنّفه واعظ وشدّد عليه القول، فقال: يا رجل ارفق، فقد بعث اللَّه من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬4)، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّه لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (¬5). ولهذا قال القائل: وإذا عجزت عن العدوِّ فداره ... وامزح له إن المزاحَ وفاقُ فالنارُ بالماء الذي هو ضدُّها ... تُعطي النِّضاح وطبعُها الإحراقُ فظهر مما تقدم: 1 - أن الرفق واللين: لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر، وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة والخشونة. ¬

(¬1) فتح الباري، 10/ 528. (¬2) سورة طه، الآيتان: 43 - 44. (¬3) تفسير البغوي، 3/ 219. (¬4) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي، 2/ 334. وانظر: الرفق واللين للدكتور فضل إلهي، ص12. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 159.

2 - المداراة تطلق على الرفق واللين

2 - أن المداراة تطلق على الرفق واللين إذا كان فيها مدافعة، كتعليم الجاهل، ونهي الفاسق عن فسقه. والمداراة من أخلاق المؤمنين. 3 - أن المداهنة مذمومة محرمة، وهي: معاشرة الفاسق ومخاللته مع الرضى بما هو عليه من المعاصي وعدم الإنكار عليه، واللَّه الموفق. ثانياً: أهمية الرفق واللين: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((إنه من أُعطي حظّه من الرفق فقد أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)) (¬1). فقد عظّم النبي - صلى الله عليه وسلم - شأن الرفق في الأمور كلها، وبين ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى اللَّه - عز وجل -؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرّفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيّن فضل الرفق، والحث على التخلّق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذمّ العنف وذمّ من تخلَّق به. فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده (¬2). ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 6/ 159، وإسناده صحيح كما في الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 519. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم، 16/ 145، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 449، وتحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 6/ 154.

وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من العنف، وعن التشديد على أمته - صلى الله عليه وسلم -، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: ((اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) (¬1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير. فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أموره قال: ((بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد اللَّه - عز وجل - بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق)) (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن: ((يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا)) (¬4). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا)) (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم 1828. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1732. (¬3) أخرجه أحمد في المسند، 6/ 71، قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 219، برقم 1219: ((حديث صحيح من رواية عائشة رضي الله عنها)). (¬4) البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم 4341، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1733، واللفظ له. (¬5) البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم 69، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم 1734.

في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقتٍ والتعسير في وقت، ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر، فلو اقتصر على يسّروا لصدق ذلك على من يسِّر مرّة أو مرّات، وعسّر في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في يسّرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حثّ في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل اللَّه وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قرب إسلامه وترك التشديد عليه، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها (¬1)، وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم (¬2). ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم، 12/ 41، وفتح الباري، 1/ 163. (¬2) انظر: فتح الباري، 1/ 162، 163.

ثالثا: أمثلة الرفق واللين:

فصلوات اللَّه وسلامه عليه فقد دلّ أمته على كل خير، وحذّرهم من كل شرّ، ودعا على من شقّ على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة، وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم (¬1). ثالثاً: أمثلة الرفق واللين: المثال الأول: مع شاب استأذن في الزنا: عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: إن فتىً شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا له: مه مه! فقال له: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: ((أتحبّه لأمك)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبّونه لأمهاتهم)). قال: ((أفتحبّه لابنتك؟)) قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)). قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)). قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)). قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللَّهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (¬2). وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - أن يعتنوا ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على مسلم 12/ 213. (¬2) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -، 5/ 256، 257، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني، 1/ 129، وقال: ((رجاله رجال الصحيح))، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 370.

المثال الثاني: مع اليهود:

بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم. وكما يبين لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرّفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر كله. المثال الثاني: مع اليهود: عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السامُ عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السامُ واللعنة. قالت: فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((مهلاً يا عائشة إن اللَّه يُحبّ الرفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول اللَّه أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((قد قلت وعليكم)) (¬1). وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة إن اللَّه رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه)) (¬3). وبين رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن من حُرِمَ الرفق فقد حرم الخير، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يحرم الرفق يحرم الخير)) (¬4). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أٌعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، برقم 6024. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، عن عائشة رضي الله عنها، برقم 2593. (¬3) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً، برقم 2594،عن عائشة رضي الله عنها أيضاً. (¬4) المرجع السابق، في الكتاب والباب المشار إليهما سابقاً عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -، برقم 2592.

المثال الثالث: مع من بال في المسجد:

حرم حظه من الخير)) (¬1)، وعنه - رضي الله عنه - يبلغ به قال: ((من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن)) (¬2). المثال الثالث: مع من بال في المسجد: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ (¬3)، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزرموه (¬4)، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه، والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه (¬5) عليه (¬6). وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي قال: ((اللَّهم ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الرفق، برقم 2013، وقال: ((حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 195. (¬2) أخرجه أحمد في المسند، 6/ 451، وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة، برقم 876، وذكر له شواهد كثيرة. (¬3) مه: كلمة زجر، وهو اسم مبني على السكون، معناه: اسكت. وقيل: أصلها: ما هذا؟ انظر: شرح النووي، 3/ 193. (¬4) لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. والإزرام: القطع. انظر: المرجع السابق، 3/ 190. (¬5) شنه: أي صبه عليه. انظر: المرجع السابق، 3/ 193. (¬6) أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، برقم 286، والبخاري، بمعناه مختصراً في كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، برقم 219، وروايات بول الأعرابي في البخاري في عدة مواضع منها: برقم 219، 220، 221، وقبل الحديث رقم 222.

ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً))، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: ((لقد حجّرت واسعاً)) يريد رحمة اللَّه (¬1). وتُفسّر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين، ثم قال: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لقد تحجّرت واسعاً))، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه، فقال لهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين، أهريقوا عليه دلواً من ماء، أو سجلاً من ماء)) (¬2). قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: ((فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ بأبي وأمي فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب)) (¬3). النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكم خلق اللَّه، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك. وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب، وتسبّب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطعوا عليه بوله. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم 6010. (¬2) أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، برقم 147، وأخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر واللفظ لأحمد، 12/ 244، برقم 7254، وأخرجه أحمد أيضاً مطولاً، 20/ 134، برقم 10540، وأبو داود، برقم 380. (¬3) أخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر وهو تكملة للحديث السابق من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -، 20/ 134، برقم 10540، وابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل، برقم 529.

وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال له حينما قال: ((اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً)): ((لقد حجّرت واسعاً))، يريد - صلى الله عليه وسلم - رحمة اللَّه، فإن رحمة اللَّه قد وسعت كل شيء، قال - عز وجل -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1)، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة اللَّه على خلقه. وقد أثنى اللَّه - عز وجل - من فعل خلاف ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (¬2). وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة (¬3). وحينما بال في المسجد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لدار بين أمرين: 1 - إما أن يقطع عليه بوله فيتضرّر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه. 2 - وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفّ عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬2) سورة الحشر، الآية: 10. (¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 439.

المثال الرابع: مع معاوية بن الحكم:

المصلحتين بترك أيسرهما (¬1). وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم - صلى الله عليه وسلم - لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه - كما تقدّم - وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب (¬2). فقد أثّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل (¬3). المثال الرابع: مع معاوية بن الحكم: عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: بينا أنا أصلي مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك اللَّه! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني، لكنّي سكتُّ، فلما صلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فواللَّه ما كهرني (¬4) ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 1/ 325، وشرح النووي على مسلم، 3/ 191. (¬2) أخرجه ابن ماجه، برقم 529، وأحمد، تقدم تخريجه. (¬3) انظر: فتح الباري، 1/ 325، وشرح النووي، 3/ 191، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 2/ 39، وتحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي، 1/ 457. (¬4) ما كهرني: أي ما قهرني ولا نهرني. انظر: شرح النووي، 5/ 20.

قلت: يا رسول اللَّه! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء اللَّه بالإسلام، وإنا منا رجالاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم)). قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم)) (¬1)، (قال ابن الصلاح: فلا يصدّنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطّون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يخطّ، فمن وافق خطّه فذاك)) (¬2). قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُد والجوَّانية (¬3)، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول اللَّه! أفلا أعتقها، قال: ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين اللَّه؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول اللَّه. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (¬4). وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية - رضي الله عنه -؛ لأن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية - رضي الله عنه -: ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه. ¬

(¬1) قال العلماء: معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. انظر: المرجع السابق، 5/ 22. (¬2) اختلف العلماء في معناه، والصحيح أن معناه: من وافق خطه فهو مباح له؛ ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يُباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يُباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وقيل: إنه نُسخ في شرعنا. فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن فهو محرم. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 23. (¬3) الجوانية: موضع في شمال المدينة بقرب جبل أحد. انظر: المرجع السابق، 5/ 23. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، برقم 537، وانظر شرحه في شرح مسلم للنووي، 5/ 20.

المثال الخامس: مع من كانت يده تطيش:

المثال الخامس: مع من كانت يده تطيش: عن عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - قال: كنت غلاماً في حجر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((يا غلام سم اللَّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك))، فمازالت تلك طعمتي بعد (¬1). المثال السادس: مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة: عن سلمة بن صخر الأنصاري - رضي الله عنه - قال في حديثه: (( ... خرجت فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته خبري فقال لي: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: نعم ها أنذا فامضِ فيَّ حكمك فإني صابر له، قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: ((فصم شهرين)) قال: قلت: يا رسول اللَّه وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فتصدق)) قال: فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك))، قال فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - السعة والبركة وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي، قال: فدفعوها لي)) (¬2). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام، برقم 2022، والبخاري، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، برقم 5376. (¬2) أحمد، برقم 16468، وأبو داود، كتاب الطلاق، باب في الظهار، برقم 2215، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة المجادلة، برقم 3299، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، برقم 2026، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 352، وإرواء الغليل، 7/ 179.

المثال السابع: مع من بكت عند القبر:

المثال السابع: مع من بكت عند القبر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقِ اللَّه واصبري)) قالت: إليك عنّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬1)، وهذا فيه الدلالة على رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجاهل، وترك المؤاخذة. المثال الثامن: من رفق صلة بن أشيم: ومن المواقف التطبيقية ما فعله صلة بن أشيم - رحمه اللَّه - حين مر رجل قد أسبل ثيابه يسحبها ويجرّها على الأرض، فأخذ الناس يسبّونه ويُغلظون له في القول، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درساً عملياً للرفق واللين في الإنكار فقال لهم: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي إنّ لي إليك حاجة. قال: ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم ونعمى عيني - أي أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك - فرفع إزاره. فقال: صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم (¬2). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري، برقم 1283. (¬2) مختصر منهاج القاصدين، ص137.

المبحث الحادي والعشرون: الصبر

المبحث الحادي والعشرون: الصبر أولاً: تعريف الصبر: الصبر لغة: الحبس والمنع، وهو ضدّ الجزع، ويقال: صبر صبراً: تجلَّد ولم يجزع، وصبر: انتظر، وصبّر نفسه: حبسها وضبطها، وصبر فلاناً: حبسه، وصبرت صبراً: حبست النفس عن الجزع، وسُمّي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، والشراب، والنكاح (¬1). فتبين بذلك أن الصبر هو: منع وحبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن التشْويش: كلطم الخدود، وشقّ الجيوب ونحوهما (¬2). وحقيقة الصبر: هو خُلُقٌ فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يَحْسُنُ، ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها (¬3). وهذه القوة تمكِّن الإنسان من ضبط نفسه لتحمّل المتاعب، والمشاق، والآلام (¬4). والصبر ينبغي: أن يُبيَّن مفهومه، وأهميته في حياة المسلم، ¬

(¬1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 3/ 7،والمصباح المنير،1/ 331، والقاموس المحيط، ص540،ومختار الصحاح، ص145،والقاموس الفقهي لغة اصطلاحاً، ص206. (¬2) انظر: عدة الصابرين لابن القيم، ص27، ومدارج السالكين، 2/ 156، وطريق الهجرتين لابن القيم، ص437. (¬3) انظر: عدة الصابرين، ص29. (¬4) انظر: الأخلاق الإسلامية للميداني، 2/ 305.

ومجالاته، وأنواعه، وحكمه، وطرق تحصيله، وأمثلة تطبيق الصبر والشجاعة، وقد بيَّنت ذلك كله في رسالة مستقلة، وللَّه الحمد، فأغنى عن التفصيل هنا (¬1). ¬

(¬1) قد يسّر الله تعالى كتابة رسالة في الصبر، ومجالاته، وقد طبعت، ولله الحمد.

المبحث الثاني والعشرون: الرحمة

المبحث الثاني والعشرون: الرحمة وسأقتصر في هذا المبحث على رحمة النبي؛ لأنها جامعة مانعة: أولاً: عموم رحمته - صلى الله عليه وسلم - للإنس والجن، والمؤمنين والكافرين والحيوان: قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1)، فالمؤمنون به - صلى الله عليه وسلم - قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وغيرهم كفرها، وبدَّلوا نعمة اللَّه كفراً، وأبوا رحمة اللَّه ونعمته (¬2). قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((من آمن باللَّه واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن باللَّه ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف)) (¬3). قال الإمام الطبري رحمه اللَّه: ((أولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي رُوي عن ابن عباس: وهو أن اللَّه أرسل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع العالم: مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن اللَّه هداه به وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء به من عند اللَّه الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله)) (¬4). ومما يدل على أن رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة للعالم؛ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول اللَّه! ادعُ على المشركين، قال: «إني لم أُبعث ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للسعدي، ص532. (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره جامع البيان، 18/ 552. (¬4) جامع البيان للطبري، 18/ 552.

ثانيا: الأمثلة التطبيقية وأنواعها:

لَعَّاناً وإنما بُعِثْتُ رحمةً» (¬1). وحديث حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيُّما رجل من أمتي سببته سبةً أو لعنته لعنةً في غضبي؛ فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة» (¬2). وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ» (¬3). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة» (¬4). ثانياً: الأمثلة التطبيقية وأنواعها: النوع الأول: رحمته - صلى الله عليه وسلم - لأعدائه: المثال الأول: رحمته - صلى الله عليه وسلم - لأعدائه في الجهاد: وقد شملت رحمته - صلى الله عليه وسلم - الأعداء حتى في قتالهم ومجاهدتهم؛ فإن قوة الجهاد في سبيل اللَّه تعالى في شريعته - صلى الله عليه وسلم - لها ضوابط ينبغي أن ¬

(¬1) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، برقم 2599. (¬2) أبو داود، كتاب السنة، باب النهي عن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 4659، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 134. (¬3) رواه ابن سعد، 1/ 192، وابن أبي شيبة 11/ 504، والحاكم، 1/ 35، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة بطرقه، برقم 490. (¬4) مسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2355.

يلتزم بها المجاهدون في سبيل اللَّه – تعالى – ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬1)، فيدخل في ذلك ارتكاب المناهي: من المثلة، والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال، والرُّهبان، والمرضى، والعُمي، وأصحاب الصّوامع؛ لكن من قاتل من هؤلاء أو استعان الكفّار برأيه قتل (¬2). ويدخل في ذلك قتل الحيوان لغير مصلحة، وتحريق الأشجار، وإفساد الزّروع والثّمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت (¬3)، وقد «وُجدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان» (¬4)؛ ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش أوسريّة أوصاه في خاصته بتقوى اللَّه ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا بسم اللَّه في سبيل اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ... » (¬5)، ثم بيّنها - صلى الله عليه وسلم - كالآتي: (أ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين. (ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 190. (¬2) انظر: المغني لابن قدامة 13/ 175 - 179. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 227 وعناصر القوة في الإسلام ص212. (¬4) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قتل الصبيان في الحرب، برقم 3014، ورقم 3015. (¬5) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 3/ 1357، برقم 1731.

المثال الثاني: وفاؤه بالعهد مع أعدائه - صلى الله عليه وسلم -:

(ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم (¬1). المثال الثاني: وفاؤه بالعهد مع أعدائه - صلى الله عليه وسلم -: من أعظم الضوابط في الجهاد الوفاء بالعهد وعدم الخيانة؛ لقول اللَّه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (¬2). فإذا كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانةً، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة، فيحنئذٍ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك. ودلّت الآية على أنه إذا وُجِدَت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن يُنبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يُخَف منهم بل عُلم ذلك. ودلّ مفهوم الآية أيضاً أنه إذا لم يُخف منهم خيانة؛ بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (¬3). ولهذا قال سليم بن عامر: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى عهدهم غزاهم، فجاء رجل على ¬

(¬1) انظر المرجع السابق 3/ 1357، وزاد المعاد 3/ 100. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 58. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 321، وتفسير السعدي 3/ 183 - 184.

المثال الثالث: دفعه - صلى الله عليه وسلم - نزول العذاب على أعدائه:

فرس أو بِرْذَونٍ وهو يقول: اللَّه أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية - رضي الله عنه - فسأله، فقال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشدُّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضيَ أمَدُها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية (¬1). وهذا كلُّه يدلُّ على أن الهدف والمراد من الجهاد هو إعلاء كلمة اللَّه - عز وجل -. المثال الثالث: دفعه - صلى الله عليه وسلم - نزول العذاب على أعدائه: ومن الأمثلة العظيمة على هذه الرحمة التي شملت حتى أعدائه - صلى الله عليه وسلم - قصّته مع مَلَك الجبال حينما بعثه اللَّه إليه؛ ليأمره بما شاء عندما آذاه المشركون، فجاء ملك الجبال وسلَّم عليه وقال: (يا محمد إن اللَّه قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت (¬2)؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) [والأخشبان جبلان عظيمان في مكة، تقع مكة بينهما]، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لملك الجبال: «بل أرجو أن يخرج اللهُ من أصلابهم من يعبُد اللَّه وحده لا يُشرك به شيئاً» (¬3). المثال الرابع: سلامة قلبه - صلى الله عليه وسلم -، وحُبّه الخير لليهود وغيرهم: ومن الأمثلة العظيمة لرحمته - صلى الله عليه وسلم - حديث أنس - رضي الله عنه - قال: (كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقعد عند رأسه ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه 3/ 83 (رقم 2759)، وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/ 528، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الغدر (رقم 1580) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) استفهام، أي فمرني بما شئت، انظر: فتح الباري، 6/ 316. (¬3) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين، برقم 3231، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، برقم 1795.

النوع الثاني: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين:

فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: له أطع أبا القاسم، فأسلم، [وفي رواية النسائي فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه]، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «الحمد للَّه الذي أنقذه من النار» [وفي رواية أبي داود: أنقذه بي من النار] (¬1). وغير ذلك كثير. النوع الثاني: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين: قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2)، فقد بعث اللَّه تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، وهو من أنفس المؤمنين خاصة، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، وهو في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم، ويشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، ويحب لهم الخير، ويسعى جاهداً في إيصاله إليهم، ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان، ويكره لهم الشر، وهو شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم؛ ولهذا كان حقُّهُ مُقدّماً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره (¬3). وقال اللَّه - عز وجل -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬4)، أقرب ما للإنسان نفسه، فالرسول أولى به من نفسه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بذل لهم النصح والشفقة والرأفة؛ فلذلك وجب على العبد إذا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ برقم 1356، وكتاب المرضى، باب عيادة المشرك، برقم 5657، وانظر: فتح الباري، 3/ 219. (¬2) سورة التوبة، الآية: 128. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص357. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 6.

النوع الثالث: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للناس جميعا:

تعارض مراد نفسه مع مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يُقدّم مُراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يُعارض قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد من الناس، كائناً من كان، وأن يُقدّم محبّته على محبّة الناس كلهم (¬1). وقال - سبحانه وتعالى -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬2). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به» (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاءً فعلينا قضاؤُهُ، ومن ترك مالاً فهو لورثته» (¬4). النوع الثالث: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للناس جميعاً: 1 - عن جرير بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يَرحَم الناس لا يَرحَمُه اللَّه - عز وجل -» (¬5). 2 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تُنزعُ الرحمة إلاّ من شقي» (¬6). ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص659. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم 1828. (¬4) البخاري، كتاب الفرائض، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من ترك مالاً فلأهله))، برقم 6731، ورقم 2298، ومسلم، كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، برقم 1619. (¬5) مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك، برقم 2319. (¬6) الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات، برقم 1923، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 350.

النوع الرابع: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للصبيان:

3 - وعن عبد اللَّه بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرحمن، فمن وصلها وصله اللَّه ومن قطعها قطعه اللَّه» (¬1). النوع الرابع: رحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للصبيان: 1 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء شيخٌ يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبطأ القوم عنه أن يُوسِّعوا له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّرُ كبيرنا» (¬2). 2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا» (¬3). النوع الخامس: رحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للبنات: 1 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان فيتقي اللَّه فيهنَّ ويحسن إليهنَّ إلا دخل الجنة» (¬4). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات، برقم 1924، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 350. (¬2) الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات، برقم 1919، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 348. (¬3) الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات برقم 1920، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 349. (¬4) أبو داود، كتاب الأدب، باب في فضل من عال اليتامى، برقم 5147، والترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات، برقم 1912 و1916، وقال عنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/ 429: ((صحيح لغيره)).

النوع السادس: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للأيتام:

2 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «مَن عال بنتين أو ثلاثاً، أو اختين أو ثلاثاً حتى يَبِنَّ (¬1) أو يموت عنهن كُنتُ أنا وهو في الجنة كهاتين» وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها (¬2). النوع السادس: رحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للأيتام: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك أحد رواة الحديث بالسبابة والوسطى (¬3). 2 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً شكا إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال له: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» (¬4). النوع السابع: رحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للمرأة والضعيف: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم إنِّي ¬

(¬1) حتى يَبِنَّ: أي يتَزَوَّجْن. يقال أبان فلانٌ بنْتَه وبَيَّنَها إذا زوّجها. النهاية في غريب الحديث والأثر،1/ 454، مادة (بين). (¬2) أحمد في المسند، 19/ 481، برقم 12498، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 428. (¬3) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، برقم 2983، والبخاري من حديث سهل بن سعد برقم 605. (¬4) أحمد، 14/ 558، برقم 9018، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، 3/ 323: ((رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح)) وحسّنه، الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 676. وقد ضعّفه أصحاب الموسوعة الحديثية في تحقيق مسند الإمام أحمد 13/ 21، برقم 7576، ولفظه: ((إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)) وفي 14/ 558، برقم 9018، بلفظ ما في متن هذا البحث.

النوع الثامن: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للأرملة والمسكين:

أُحَرِّج (¬1) حقّ الضعيفين: اليتيم والمرأة» (¬2). 2 - وعن عامر بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه شهد حجة الوداع مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذَكّر ووعظ ثم قال: «استوصوا بالنساء خيراً؛ فإِنهنَّ عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك» (¬3). 3 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة غير بيتِ أُمّ سُليم إلا على أزواجه، فقيل له. فقال: «إني أرحمها، قُتل أخوها معي» (¬4). النوع الثامن: رحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للأرملة والمسكين: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللَّه، أو القائم الليل الصائم النهار»، ولفظ مسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللَّه، وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر» (¬5). 2 - عن عبد اللَّه بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ ¬

(¬1) أحرّج: أي أضيقه وأحرمه على من ظلمهما. النهاية في غريب الحديث، 1/ 361. (¬2) ابن ماجه، كتاب الأدب، باب حق اليتيم، برقم 3678، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 298. (¬3) ابن ماجه، كتاب النكاح، باب حق المرأة على زوجها، برقم 1851، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 120، ورواه الترمذي أيضاً، والنسائي، كتاب مواقيت الصلاة، ذكر نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وانظر: إرواء الغليل، برقم 1997. (¬4) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير، برقم 2844، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 6/ 161. (¬5) البخاري، كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، برقم 5353، 606، 607، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، برقم 2982.

الذّكر، ويُقِلُّ اللّغْوَ، ويُطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي له الحاجة (¬1). 3 - عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجهِ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فما نزل حتى جيّش (¬2) كل ميزاب بالمدينة، فأذكر قول الشاعر: ثِمَالُ (¬3) اليتامى عصمة للأرامل ... وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه وهو قول أبي طالب (¬4). والأرملة: المرأة التي مات زوجها، والأرمل الرجل الذي ماتت زوجته، وسواء كانا غنيين أو فقيرين، ويُقال لكلِّ واحدٍ من الفريقين على انفراده: أراملُ، وهو بالنساء أخصّ وأكثر استعمالاً (¬5)؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لئن سلّمَني اللَّه تعالى لأَدَعَنَّ أرامل العراق لا يحتجن إلى رجلٍ بعدي أبداً) (¬6). فاتضح من الأحاديث آنفة الذكر أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرحم ¬

(¬1) النسائي، كتاب الجمعة، باب ما يستحب من تقصير الخطبة، برقم 1415، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 456. (¬2) جيّش: أي تَدَفَّقَ وجرى الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (جيش) .. (¬3) ثمال: أي الملجأ والغياث. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (ثمل). (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، برقم 1272، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 382، وأخرجه البخاري تعليقاً وموصولاً، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم 1008، 1009، وبهذا قوّاه الحافظ ابن حجر، انظر: صحيح ابن ماجه، 1/ 382. (¬5) النهاية في غريب الحديث، 2/ 66. (¬6) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة، برقم 3700.

النوع التاسع: رحمته - صلى الله عليه وسلم - لطلاب العلم والشفقة عليهم:

الأرامل والمساكين، ويَحُثّ على العناية بهم، وسدِّ حاجاتهم، فصلوات اللَّه وسلامه عليه. 4 - عن أمِّ بُجيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أنها قالت: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك: إن المسكين ليقومُ على بابي فما أجد له شيئاً أُعطيه، فقال لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إن لم تجدي له شيئاً تُعطينه إيّاه إلا ظلفاً مُحرَّقاً فادفعيه إليه في يده» (¬1)، وهذا فيه رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمساكين وحثّه على إطعامهم، على حسب القدرة والاستطاعة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم. النوع التاسع: رحمته - صلى الله عليه وسلم - لطلاب العلم والشفقة عليهم: 1 - عن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا: مرحباً مرحباً بوصية رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأقنوهم» قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علّموهم (¬2). 2 - عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: أتينا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَةٌ متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رفيقاً، فلما ظّنّ أنّا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا [وفي رواية: فلما رأى شوقنا إلى أهالينا] سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلّموهم، ومروهم، ... وصلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدُكم ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الزكاة، باب حق السائل، برقم 1667، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 464. (¬2) الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الاستيصاء بمن يطلب العلم، برقم 2650، 2651، وابن ماجه، المقدمة، باب الوصاة بطلبة العلم، برقم 247، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/ 98.

النوع العاشر: رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسرى:

وليؤمُّكم أكبَرُكُم» (¬1)، وهذا فيه شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمته لطلاب العلم. النوع العاشر: رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسرى: عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «فُكُّوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض» (¬2)، وهذا الحديث فيه رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسرى المسلمين، والأمر بفَكِّهم، والأمر بإطعام الجائع، وعيادة المريض. النوع الحادي عشر: رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرضى والشفقة عليهم: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حقّ المسلم على المسلم ستّ» قيل: ما هُنّ يا رسول اللَّه؟ قال: «إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللَّه فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» (¬3). 2 - عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» قيل: يا رسول اللَّه! وما خرفة الجنة؟ قال: «جناها» (¬4). 3 - عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من مسلم يعودُ مسلماً غدوة إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم 628، وباب الأذان للمسافر، إذا كانوا جماعة، والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع، برقم 631. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فكاك الأسير، برقم 3046. (¬3) البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم 1240، ومسلم، كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، برقم 2162، واللفظ له. (¬4) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب في فضل عيادة المريض، برقم 2568.

النوع الثاني عشر: رحمته - صلى الله عليه وسلم - للحيوان، والطير، والدواب:

وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح، وكان له خريفٌ في الجنة» (¬1). 4 - عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلاّ عافاه اللَّه من ذلك المرض» (¬2). وهذه الأحاديث فيها الرحمة الظاهرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمرضى، ورغبته العظيمة في نفعهم وشفائهم، وترغيبه لأمته في العناية بالمرضى وإدخال السرور عليهم. النوع الثاني عشر: رحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للحيوان، والطير، والدواب: 1 - في حديث أبي هريرة أن رجلاً وجد كلباً يأكل الثرى من العطش، فسقاه فغفر اللَّه له، قالوا: يا رسول اللَّه! وإنَّ لنا في البهائم أجراً؟ قال: «في كُلِّ كبدٍ رطبة أجر» وفي لفظ للبخاري: «فشكر اللَّه له فأدخله الجنة» (¬3). 2 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «غُفِرَ لامرأة مومسةٍ مرَّت بكلبٍ على رأس ركيٍّ كاد يقتله العطش، فنزعت خُفَّها فأوثقته ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض برقم 969، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 497. (¬2) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم 3106، والترمذي، كتاب الطب، باب حدثنا محمد بن المثنى، برقم 2083، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 3160. (¬3) البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، برقم 173، وكتاب المظالم، باب الآبار على الطرق إذا لم يتأذ بها، برقم 2466، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم 2244.

بخمارها فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك» (¬1). 3 - عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولاسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (¬2). 4 - عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من مسلم يغرس غرساً أو زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (¬3). 5 - عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رجلاً أضجع شاةً وهو يحدُّ شفرته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَتُريدُ أن تُميتَها موتاتٍ هَلاَّ أحددتَ شفرتك قبل أن تُضْجِعَهَا؟» (¬4). 6 - وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم ¬

(¬1) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، برقم 3321، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم 2245. (¬2) البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، برقم 2365، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، برقم 3482، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم 2243. (¬3) البخاري، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، برقم 2320، ومسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، باب فضل الغرس والزرع، برقم 1552. (¬4) الحاكم، 4/ 233، وصححه على شرط الشيخين، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 4/ 33، وقال: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 552.

فأحسنوا الذِبْحَةَ، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (¬1). 7 - وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يرفعه قال: «من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقِّها [إلا سأله] اللَّه - عز وجل - عنها يوم القيامة» قيل: يا رسول اللَّه فما حقُّها؟ قال: «أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فَيُرمى بها» (¬2)، وسمعت سماحة شيخنا ابن باز رحمه اللَّه يقول: ((قتل العصفور لا يجوز إذا كان للتلاعب، أما من قتله؛ لأكله أو الصدقة به فلا بأس)) (¬3). 8 - وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنه مرَّ بصبيانٍ من قريش قد نصبوا طيراً أو دجاجةً يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كلَّ خاطئةٍ من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرَّقَوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن اللَّه من فعل هذا؛ إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لعن من اتخذ شيئاً فيه الروحُ غرضاً» (¬4) (¬5). 9 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة، برقم 1955. (¬2) النسائي، كتاب الصيد والذبائح، إباحة أكل العصافير، برقم 4445، 7/ 239، والحاكم، 4/ 233، وصححه ووافقه الذهبي، وما بين المعقوفين له، وحسّنه الألباني في صحيح الترغيب، 2/ 552. (¬3) سمعته أثناء تقريره على سنن النسائي، الحديث رقم 4445. (¬4) الغرض: بفتح الغين المعجمة والراء: هو ما ينصبه الرماة يقصدون إصابته من قرطاس ونحوه. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 153]. (¬5) البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يُكره من المُثْلَةِ والْمَصْبُورَةِ والمُجْثِّمَةِ، برقم 5515، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم، برقم 1958 بلفظه.

فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرةً (¬1) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تَفرش [أي تُرَفرِفُ بجناحيها وتقرب من الأرض] فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من فَجعَ هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها» ورأى قرية نملٍ (¬2) قد حرَّقناها فقال: «مَن حرَّق هذه؟» قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يُعَذِّب بالنار إلا ربُّ النار» (¬3). 10 - وعن جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على حمارٍ قد وُسِمَ في وجهِهِ فقال: «لعن اللَّه الذي وسمه» (¬4) [الوسم الكي بحديدة]. 11 - وعنه - رضي الله عنه -: نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجهِ، وعن الوسم في الوجه (¬5). 12 - وعن عبد اللَّه بن جعفر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أردفني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم خلفه، وفيه: فدخل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ فلمَّا رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح ذفراه (¬6) فسكت، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا ¬

(¬1) حُمَّرةٌ: بضم الحاء وتشديد الميم، وقد خُفِّف: طائر صغير، كالعصفور أحمر اللون. [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 439]. (¬2) قرية نملٍ: موضع النمل مع النمل. [رياض الصالحين بعد الحديث رقم 1613]. (¬3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدو بالنار، برقم 2675، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 146. (¬4) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه، ووسمه فيه، برقم 2117. (¬5) مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه، ووسمه فيه، برقم 2116. (¬6) ذفراه: ذفرا البعير بكسر الذال المعجمة مقصور: هي الموضع الذي يعرق في قفا البعير عند أذنه، وهما ذفران. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 157].

النوع الثالث عشر: رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبكاؤه في مواطن كثيرة:

الجمل؟» فجاء فتىً من الأنصارِ فقال: لي يا رسول اللَّه، فقال: «أفلا تتقي اللَّه في هذه البهيمةِ التي ملَّكَكَ اللَّه إيَّاها؛ فإنه شكا إليَّ أنَّك تُجيعه وتُدئبُهُ» (¬1). (¬2) وهذه نماذج يسيرة من أنواع رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأعدائه، وأحبابه، والمسلم، والكافر، والذكر والأنثى، والصغير، والكبير، والإنس، والحيوان، والطير، والنمل، وغير ذلك كثير لا يحصر في مثل هذا المقام. فصلوات اللَّه وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار. النوع الثالث عشر: رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبُكاؤه في مواطن كثيرة: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية اللَّه تعالى، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ (¬3). ومن الحالات التي بكى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتي: 1 - بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - من خشية اللَّه في صلاة الليل، فقال بلال: يا رسول اللَّه لِمَ تبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آية ويل لمن قرأها ¬

(¬1) تُدْئِبُهُ: بضم التاء ودال مهملة ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وباء موحدة: أي تتعبه بكثرة العمل. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/ 157]. (¬2) أحمد، 1/ 205، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ، برقم 2549، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 110. (¬3) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 183.

2 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من خشية الله تعالى

ولم يتفكّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}» (¬1). (¬2) 2 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من خشية اللَّه تعالى، فعن عبد اللَّه بن الشخِّير قال: أتيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاءِ (¬3). 3 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماع القرآن، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «اقرأ عليَّ القرآن» فقلت: يا رسول اللَّه! أقرأ عليك؛ وعليك أُنزل؟ فقال: «نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري» قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬4)، فإذا عيناه تذرفان (¬5). 4 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند فقد الأحبة، بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنه إبراهيم، فجعلت عيناه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول اللَّه؟ فقال: «يا ابن عوف! إنها رحمة ... إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنّا بفراقك يا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 190. (¬2) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68: ((وهذا إسناد جيد)). (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة، برقم 904، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم 276. (¬4) سورة النساء، الآية: 41. (¬5) البخاري، كتاب التفسير، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، برقم 4582، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطالب القراءة من حافظه للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم 800.

5 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاة إحدى بناته

إبراهيم لمحزونون» (¬1). 5 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاة إحدى بناته، قيل: هي أُمُّ كلثوم زوجة عثمان بن عفان رضي اللَّه عن الجميع، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: شهدنا بنتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل فيكم أحد لم يُقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها» قال: فنزل في قبرها فقَبَرها (¬2). 6 - وبكى - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنة له أيضاً، فعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أخذ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ابنة له تقضي (¬3) فاحتضنها فوضعها بين يديه فماتت وهي بين يديه، فصاحت أُمُّ أيمن، فقال: يعني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «أتبكين عند رسول اللَّه؟» فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: «إني لست أبكي إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كلِّ حال، إنَّ نفسه تُنزع من بين جنبيه وهو يحمد اللَّه - عز وجل -» (¬4). 7 - وبكى - صلى الله عليه وسلم - عند وفاة أحد أحفاده، فعن أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أرسلَتْ بنتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5): إنَّ ابني قد احتُضِرَ فاشْهَدنا، فأرسل يُقرِئُ السلام ويقول: «إنّ للَّه ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنا بك لمحزونون)، برقم 1303، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك، برقم 2315. (¬2) البخاري، برقم 1285، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه)، وباب من يدخل قبر المرأة، برقم 1342. (¬3) تقضي: تشرف على الموت، فيقال: قَضىَ فلان يريد قد مات ومَضى. انظر: لسان العرب، 15/ 186. (¬4) أحمد، 1/ 268، والترمذي في الشمائل، برقم 324، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 279. (¬5) قيل: إنها زينب رضي الله عنها؛ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

8 - بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت عثمان بن مظعون

بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب» فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ ابن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال - رضي الله عنهم -، فرُفِعَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، قال: كأنها شَنّ، وفي رواية: (تقعقع (¬1) كأنها في شنٍّ (¬2)، ففاضت عيناه) فقال سعد: يا رسولَ اللَّه ما هذا؟ قال: «هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده» وفي رواية: «هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب مَن شاء من عباده، إنما يرحم اللَّه من عباده الرُّحماءُ» (¬3). 8 - بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت عثمان بن مظعون، فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ حتى رأيت الدموع تسيل. ولفظ الترمذي: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبّل عثمانَ بن مظعون، وهو ميِّتٌ وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان) (¬4). 9 - بكى - صلى الله عليه وسلم - على شهداء مؤتة، فعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيداً وجعفراً للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الرّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه حتى فُتِح ¬

(¬1) تقعقع: تضطرب وتتحرك. النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 134. (¬2) الشن: القربة البالية. انظر: فتح الباري، 1/ 140. (¬3) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، برقم 1284، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923. (¬4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب تقبيل الميت، برقم 3163، والترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تقبيل الميت، برقم 989، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تقبيل الميت، برقم 1456، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 289.

10 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة قبر أمه

عليهم» (¬1). 10 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة قبر أمه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أَزورَ قبرها فَأذِنَ لي، فزورُوا القبور فإنها تذكركم الموت» (¬2). 11 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن عبادة وهو مريض، فعن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله (¬3)، فقال: «قد قضى؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: «ألا تسمعون؟ إن اللَّه لا يُعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذب بهذا» (¬4) – وأشار إلى لسانه – «أو يرحم ... » (¬5) الحديث (¬6). 12 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند القبر، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كُنّا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بَلَّ ¬

(¬1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، برقم 4262. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة قبر أمه، برقم 108 - (976). (¬3) غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها [فتح الباري لابن حجر، 3/ 175]. (¬4) ولكن يعذب بهذا: أي إن قال: سوءاً. [فتح الباري 3/ 175]. (¬5) أو يرحم: أي إن قال خيراً. [فتح الباري 3/ 175]. (¬6) البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، برقم 1304، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 924.

13 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في ليلة بدر

الثَّرى ثم قال: «يا إخواني! لِمِثْلِ هذا فأعِدُّوا» (¬1). 13 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه ويدعوه حتى أصبح، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: ما كان فينا فارس يوم بدرٍ غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرةٍ يُصلّي ويبكي حتى أصبح (¬2). 14 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، فعن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: انكسفتِ الشمس يوماً على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُصلّي، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، وذكر الحديث، وقال: فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: «عُرِضَتْ عليَّ النار فجعلت أنفخها، فخفت أن تغشاكم» وفيه: «ربِّ ألم تعدني ألا تُعذّبهم» (¬3). 15 - بكى - صلى الله عليه وسلم - لقبوله الفداء في أسرى معركة بدر، ففي حديث عبد اللَّه بن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -: ( ... فلما أسروا الأسارى قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء؟» فقال أبو بكر: يا نبي اللَّه! هم بنوا العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى اللَّه أن يهديهم للإسلام، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «ما ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4195، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1751. وكذلك أخرجه أحمد، 4/ 294. (¬2) ابن خزيمة، برقم 899، 2/ 53، وأحمد 2/ 299، برقم 1023، وصحح إسناده الألباني والأعظمي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 52. (¬3) ابن خزيمة في صحيحه، برقم 901، وقال الألباني والأعظمي: إسناده صحيح، انظر: صحيح ابن خزيمة، 2/ 53، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي برقم 278.

16 - بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - شفقة على أمته

ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتُمكِّن علياً من عقيلٍ فيضربُ عُنقه، وتُمكِّنِّي من فلانٍ - نسيباً لعمر - فأضربَ عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها، فَهَوِيَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قُلْتُ، ولَمّا كان مِنَ الغَدِ جئتُ فإذا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول اللَّه! أخبرني من أيّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبُك؟ فإن وجدتُ بُكاءً بكيت، وإن لم أجد بُكاءً تباكيتُ لبكائكما؟ فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» شجرةٍ قريبةٍ من نبيّ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل اللَّه - عز وجل -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ (¬1) فِي الْأَرْضِ إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬2)، فأحلّ اللَّه الغنيمة لهم) (¬3). 16 - بكى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شفقة على أمته، فعن عبد اللَّه بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا قول اللَّه - عز وجل - في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬4) الآية، وقال عيسى - عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5) الآية، فرفع يديه وقال: «اللَّهم أُمّتي أُمّتي» وبكى، فقال اللَّه - عز وجل -: «يا ¬

(¬1) يثخن في الأرض: يُكثر القتل والقهر في العدوِّ. شرح النووي 12/ 87. (¬2) سورة الأنفال، الآيات: 67 – 69. (¬3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، برقم 1763. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 36. (¬5) سورة المائدة، الآية: 118.

ثالثا: تلطفه - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال وإدخال السرور عليهم

جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بما قال وهو أعلم، فقال اللَّه: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنَّا سَنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوءك» (¬1). ثالثاً: تلطفه - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال وإدخال السرور عليهم وَصَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الدرجة العليا في الكمال البشري في جميع المجالات، ومن هذه الأخلاق العظيمة أخلاقه مع الأطفال التي ضرب فيها المثل الأعلى، ولا يصل إلى درجته أحد من خلق اللَّه تعالى، لا علماء النفس، ولا غيرهم؛ ولكن مع ذلك المسلم يُلْزِمُ نفسه على حسب قدرته بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذا تلطفه ومداعبته الكريمة للأطفال، ومن ذلك على سبيل المثال والإيجاز ما يأتي: المثال الأول: مداعبته - صلى الله عليه وسلم - محمود بن الرُّبيع: قال محمود - رضي الله عنه -: ((عَقلتُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلوٍ)) (¬2)، وقوله - رضي الله عنه -: عقلت: أي حفظت، ومجةً: المجُّ هو إرسال الماء من الفَمِ، ولا يُسمَّى مجًّا إلا إذا كان عن بُعدٍ، وفعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - إمَّا مداعبةً أو ليُبارك عليه كما كان ذلك شأنه مع أولاد الصحابة (¬3)، قال شيخنا ابن باز رحمه اللَّه: وهذا من ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وبكائه شفقة عليهم، برقم 202. (¬2) البخاري، كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير، برقم 77، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، برقم 265 - (33). (¬3) فتح الباري لابن حجر، 1/ 172.

المثال الثاني: ملاطفته ومداعبته - صلى الله عليه وسلم - لجملة من الأطفال:

باب المداعبة وحسن الخلق (¬1). المثال الثاني: ملاطفته ومداعبته - صلى الله عليه وسلم - لجملة من الأطفال: عن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه -، قال: ((صليتُ مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلاة الأُولى ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه، فاستقبلهُ وِلدانٌ فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحداً واحداً، قال: وأما أنا فمسح خدَّيَّ فوجدت لِيَدِهِ برداً أو ريحاً، كأنما أخرجها من جؤنة عطّار)) (¬2)، والجؤنة: السفط الذي فيه متاع العطار. المثال الثالث: ملاطفته - صلى الله عليه وسلم - الحسن والحسين في مواقف كثيرة: 1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قبَّل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابسٍ التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «من لا يَرْحم لا يُرحم» (¬3). 2 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تُقَبِّلون صبيانكم فما نُقَبِّلُهُم، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أن نَزَعَ اللهُ من قلبك الرحمة» (¬4)، والمعنى: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها اللَّه منه (¬5). ¬

(¬1) سمعته منه أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 77. (¬2) مسلم، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولين مسه، والتبرك بمسحه، برقم 2329. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، برقم 5997. (¬4) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، برقم 5998، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك، برقم 2317. (¬5) فتح الباري لابن حجر، 10/ 430.

المثال الرابع: ركوب الصبي على ظهره - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد:

3 - والحسن والحسين رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا من أحب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: ... وسمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هُمَا ريحانتاي من الدنيا» (¬1)، والمعنى: أنهما مما أكرمني اللَّه وحباني به؛ لأن الأولاد يُشمّون ويُقبَّلون، فكأنهم من جملة الرياحين، وقوله «من الدنيا» أي نصيبي من الريحان الدنيوي (¬2). 4 - وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعلَّ اللَّه أن يُصلِحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬3). وقد أصلح اللَّه به بين معاوية ومن معه وأتباع علي بن أبي طالب ومن معه فتنازل عن الخلافة لمعاوية فحقن اللَّه تعالى به دماء المسلمين (¬4). 5 - وعن البراء - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والحسن بن عليٍّ على عاتقه يقول: «اللَّهم إني أُحِبُّه فأَحِبَّه» (¬5). المثال الرابع: ركوب الصبي على ظهره - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد: وعن شدَّادٍ - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس؛ ليصلي بهم إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدَّم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، برقم 5994. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 10/ 427. (¬3) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، برقم 3746. (¬4) انظر: البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، برقم 2704. (¬5) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، برقم 3749.

المثال الخامس: محبته - صلى الله عليه وسلم - لأسامة:

ثم كبر للصلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أَبِي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال الناس: يا رسول اللَّه! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظنَنّا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: «كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّلَهُ حتى يقضي حاجته» (¬1). المثال الخامس: محبته - صلى الله عليه وسلم - لأُسامة: عن أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فَيُقْعِدُني على فخذه ويُقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثُمَّ يضمُّهما ثم يقول: «اللَّهم ارحمهما فإني أرحمهما» وفي رواية: «اللَّهم إني أُحبُّهما فأَحبَّهما» (¬2). المثال السادس: حَمْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - بنت زينب وهو يصلي: فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حاملٌ أمامة بنت زينب، بنت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بنت أبي العاص، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها (¬3). ¬

(¬1) النسائي، كتاب التطبيق، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، برقم 1142، وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/ 246، ومسند أحمد 25/ 420، برقم 16033. (¬2) البخاري، كتاب الأدب، باب وضع الصبي على الفخذ، برقم 6003، وكتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، برقم 3747، وكتاب فضائل الصحابة، باب ذكر أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا 3735. (¬3) البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم 516، وكتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم 5996، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، برقم 543.

المثال السابع: مداعبة أم خالد باللغة الحبشية:

المثال السابع: مداعبة أم خالد باللغة الحبشية: فعن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: ((أتيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «سَنَه سَنَه» قال عبد اللَّه الراوي: وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي (¬1)، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «دعها» ثم قال: «أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي» قال عبد اللَّه فبقيت حتى ذكر)) (¬2)، والمعنى فبقيت حتى ذكر الراوي من بقائها أمداً طويلاً، وقيل: لم تعش امرأة مثلما عاشت أم خالد (¬3). المثال الثامن: تخفيفه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عند بكاء الصبي: كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي رحمة لأمه وشفقة عليها وعليه، - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنِّي لأقوم في الصلاة أُريد أن أُطوِّل فيها فأسمع بكاء الصّبيِّ؛ فأتجوَّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أُمِّه» (¬4). المثال التاسع: سلامه - صلى الله عليه وسلم - على الصبيان: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه مرَّ على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله (¬5). ¬

(¬1) زبرني: أي نهرني وزجرني. انظر: المصباح المنير، 1/ 250. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من تكلم بالفارسية والرطانة، برقم 3071. (¬3) فتح الباري لابن حجر، 1/ 184. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب الإيجاز في الصلاة وإكمالها، برقم 707. (¬5) البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان، برقم 6247، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان، برقم 2168.

المثال العاشر: مداعبته - صلى الله عليه وسلم - لأبي عمير:

المثال العاشر: مداعبته - صلى الله عليه وسلم - لأبي عُميرٍ: فعن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلقاً، وكان لي أخٌ يُقال له: أبو عُمير - أحسبه فَطِيماً - وكان إذا جاء - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا عُمير ما فعل النُّغير؟» (¬1) نُغرٌ كان يلعبُ به، أي طير صغير كان يلعب به أبو عمير، فمات النُّغير، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - حزيناً على النغير، فداعبه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). المثال الحادي عشر: إعطاؤه - صلى الله عليه وسلم - الصبي قبل الأشياخ؛ لأنه عن يمينه: أعطى - صلى الله عليه وسلم - الشراب لغلام صغير عن يمينه قبل الأشياخ، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم، والأشياخ عن يساره فقال: «يا غلام أَتَأْذَنُ لِي أَن أُعطيه الأشياخ؟» قال: ما كنت لأوثر بفضلي منكَ أحداً يا رسول اللَّه! فأعطاه إياه. وفي رواية: «أَتَأْذَنُ لي أن أُعطِيَ هؤلاء؟» فقال الغلامُ: لا واللهِ يا رسول اللَّه، لا أُوثِرُ بنصيبي منك أحداً، قال: فَتَلَّهُ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في يده (¬3). المثال الثاني عشر: بول الصبيان في حجره - صلى الله عليه وسلم -: فعن أمِّ قيس بنت مِحصنٍ أنها أتت بابنٍ لها لم يأكل الطعام إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حجره، فبال على ثوبه، فدعا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل، برقم 6203. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 10/ 583. (¬3) البخاري، كتاب المساقاة (الشرب)، باب في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، مقسوماً كان أو غير مقسوم، برقم 2351، وكتاب المظالم، باب إذا أذن له أو أحله، ولم يبين كم هو، برقم 2451.

بماءٍ فنضحه ولم يغسله (¬1). وغير هذه المواقف كثيرةٌ جداً. وصلَّى اللَّه وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الوضوء، باب بول الصبيان، برقم 223.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي، دار الندوة الجديدة، بيروت. 2 - الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني، الطبعة الثالثة، 1413هـ، دار القلم دمشق. 3 - الأدب المفرد، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري تخريج محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثالثة دار البشائر، بيروت، لبنان. 4 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 5 - الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني دار صادر، بيروت، لبنان. 6 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 7 - البداية والنهاية، للحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير، ت:747هـ، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر. 8 - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي، بدون تاريخ، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان. 9 - تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت 310هـ، الطبعة الثانية، 1408هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 10 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، لأبي العُلا محمد عبد الرحمن عبد الرحيم المباركفوري، ت 1353 هـ، الطبعة الثانية، 1457 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. . 11 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)، للإمام أبي الفداء إسماعيل بن الخطيب عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، طبعة 1407 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 12 - تفسير البغوي (معالم التنزيل)،للإمام الحافظ أبي محمد الحسين بن مسعود

البغوي ت516 هـ، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، الطبعة الأولى،1406 هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 13 - التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمعه محمد أويس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 14 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، 773هـ، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية. 15 - تهذيب التهذيب، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، الطبعة الأولى، 1404هـ، دار الفكر. 16 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ت1376هـ، تحقيق محمد زهري النجار، طبعة 1404 هـ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 17 - جامع الأصول من أحاديث الرسول، لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت656 هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1453 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. 18 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت 310هـ، تحقيق محمود محمد شاكر، توزيع دار التربية والتراث، مكة المكرمة. 19 - الجامع الصحيح (سنن الترمذي)، تحقيق أحمدمحمد شاكر، وأتمه إبراهيم عطوة عوض، المكتبة الإسلامية. 20 - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1411 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 21 - جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى 1414 هـ، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية. 22 - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبى،

ت 671 هـ، تحقيق محمد إبراهيم الحفناوي، ومحمود حامد عثمان، الطبعة الأولى، 1414 هـ، دار الحديث، القاهرة. 23 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت751هـ، تحقيق أبي حذيفة عبيد الله بن عالية، الطبعة الأولى،1407هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 24 - حاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، بقلم عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ت1392هـ، الطبعة الخامسة، 1407هـ، بدون ناشر. 25 - الحكمة في الدعوة إلى الله، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، الطبعة الثالثة، 1417 هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض، المملكة العربية السعودية. 26 - الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية، للمحامي صبحي محمصاني، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، دار الملايين، بيروت. 27 - ديوان الإمام الشافعي، لأبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ت 254 هـ، جمعه وعلق عليه محمد عفيف الزعبي، الطبعة الثالثة، 1392 هـ، مؤسسة الزعبي، بيروت، لبنان. 28 - زاد الداعية إلى الله، لمحمد بن صالح العثيمين، بدون تاريخ، مطابع المدينة بالرياض، المملكة العربية السعودية. 29 - زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1399 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 30 - سبل السلام الموصل إلى بلوغ المرام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق محمد صبحي حسن حلاق، الطبعة الأولى عام 1418هـ، دار ابن الجوزي، الدمام، المملكة العربية السعودية. 31 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة 1418هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 32 - سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 33 - سنن أبي داود، الطبعة الأولى عام 1420هـ، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية.

34 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر. 35 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة 1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 36 - السنن الكبرى، لأحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ. 37 - السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، ت 458 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 38 - سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، ت 303 هـ، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، ت 911 هـ، وحاشية السندي، ت 1138 هـ، الطبعة الأولى، 1406 هـ، اعتنى به ورقمه عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، 1406 هـ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان. 39 - سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الرابعة، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 40 - سيرة ابن هشام، لأبي محمد بن عبد الملك بن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء. 41 - السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، الطبعة الثامنة، 1405هـ، المكتب الإسلامي. 42 - شرح السنة، للإمام أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، ت 329 هـ، تحقيق أبي ياسر خالد بن قاسم الردادي، الطبعة الأولى 1414 هـ، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية. 43 - شرح صحيح مسلم للنووي، لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، دار القلم، بيروت، لبنان.

44 - شعب الإيمان، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، الطبعة الأولى، 1410 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 45 - صحيح ابن ماجه، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 46 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، طبعة 1414 هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان. وطبعة 1315 هـ، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا، والنسخة المطبوعة مع فتح الباري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 47 - صحيح الجامع الصغير، للعلامة ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1388 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 48 - صحيح سنن الترمذي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1408 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 49 - صحيح سنن النسائي باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1409 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 50 - صحيح سنن النسائي، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 51 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري االنيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 52 - صفة المنافقين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبى بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ. 53 - طريق الهجرتين وباب السعادتين، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت 751، تخريج عمر بن محمود وأبو عمر، الطبعة الأولى 1409 هـ، دار ابن القيم، الدمام، المملكة العربية السعودية. 54 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، للإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق محمد عثمان الخشت، الطبعة الرابعة، 1410 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

55 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الطبعة الثالثة 1399هـ، دار الفكر. 56 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي وإشراف محب الدين الخطيب، بدون تاريخ، مكتبة الرياض، المملكة العربية السعودية. 57 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت 1250 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 58 - الفوائد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، ت 751هـ، بتحقيق بشير عيون، الطبعة الأولى، 1407هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 59 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة عبد الرؤوف المناوي، ت 1031 هـ، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 60 - القاموس الفقهي: لغة واصطلاحاً، لسعدي أبو جيب، الطبعة الأولى، 1402هـ، دار الفكر، دمشق، سورية. 61 - القاموس المحيط، للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت 817 هـ الطبعة الأولى، 1406 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 62 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير:، علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، ت 630هـ، الطبعة السادسة 1406هـ، دار الكتاب العربي. 63 - كيف يدعو الداعية، لعبد الله ناصح علوان، الطبعة الثانية، 1406هـ، دار السلام، القاهرة، وحلب. 64 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، الطبعة الثالثة، 1402 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. 65 - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن القاسم، أشرف على طباعته المكتب السعودي بالمغرب. 66 - مجموع فتاوى ابن باز، جمع عبد الله الطيار، وأحمد الباز، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الوطن، الرياض، المملكة العربية السعودية. 67 - مجموعة الرسائل الكبرى، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ت 728هـ، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 68 - مختار الصحاح، للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، طبعة

1985م، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان. 69 - مختصر منهاج القاصدين، للإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسى، ت 689 هـ، تعليق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، طبعة 1398 هـ، مكتبة دار البيان، دمشق. 70 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة بدون تاريخ، مكتبة السنة المحمدية، ومكتبة تيمية، القاهرة. 71 - المدخل لابن الحاج، محمد بن محمد بن محمد العبدري المالكي ت 737هـ، مكتبة دار التراث، القاهرة. ... 72 - المستدرك على الصحيحين، للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، بدون تاريخ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 73 - مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت 241 هـ، بدون تاريخ، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت، لبنان. 74 - مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، شرحه ووضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر. 75 - مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة 1405هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 76 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 77 - المصفى من صفات الدعاة، لعبد الحميد البلالي، الطبعة الرابعة، 1405هـ، دار الدعوة، الكويت. 78 - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الطبعة الثانية، المكتبة الإسلامية، إستانبول، تركيا. 79 - مفتاح دار السعادة، للعلامة الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تخريج علي بن حسن بن علي بن عبد المجيد، الطبعة الأولى، 1416 هـ، دار ابن عفان، الخبر، المملكة العربية السعودية. 80 - مفردات ألفاظ القرآن، العلامة الراغب الأصفهاني، ت 502 هـ، تحقيق

صفوان عدنان داوودي، الطبعة الأولى، 1412 هـ، دار القلم، دمشق، دار الشامية، بيروت. 81 - مقامع الشيطان، لسليم بن عيد الهلالي، الطبعة الأولى، 1408 هـ، مكتبة ابن الجوزي، الأحساء، المملكة العربية السعودية. 82 - مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395هـ، بتحقيق عبد السلام محمد هارون، طبعة 1399هـ، دار الفكر. 83 - مقدمة في علم الأخلاق، للدكتور محمود حمدي زقزوق، الطبعة الثانية، 1401هـ، دار القلم، الكويت. 84 - من صفات الداعية اللين والرفق، للدكتور فضل إلهي، الطبعة الأولى، 1411هـ، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض. 85 - موسوعة أخلاق القرآن الكريم، للدكتور أحمد الشرباصي، الطبعة الثانية، 1405هـ، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان. 86 - النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان. 87 - النية وأثرها في الأحكام الشرعية، الدكتور صالح بن غانم السدلان، الطبعة الثانية، 1414 هـ، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية. 88 - هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، للشيخ علي محفوظ، الطبعة التاسعة، 1399هـ، دار الاعتصام. 89 - هذا الحبيب يا محب، لأبي بكر جابر الجزائري، الطبعة الأولى، 1408هـ، مكتبة لينة، دمنهور. 90 - هكذا علمتني الحياة، للدكتور مصطفى السباعي، الطبعة الثالثة، 1406هـ، المكتب الإسلامي.

§1/1