الخلافة

محمد رشيد رضا

(مُقَدّمَة) {وَإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات فأتمهن قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا، قَالَ: وَمن ذريتي، قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين} {2: 124} . {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذِي من قبلهم، وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا، وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} {24: 55} . {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ لخائف الأَرْض وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم، إِن رَبك سريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} {6: 165} . . هدَانَا الْكتاب الْحق، وَالنَّظَر فِي تَارِيخ الْخلق، إِلَى الِاعْتِبَار بخلافة الشعوب بَعْضهَا لبَعض، فِي السِّيَادَة وَالْحكم فِي الأَرْض، وبخلافة الْأَفْرَاد والبيوت فِي الشعوب، وَمَا فِيهَا من حق مَشْرُوع وتراث مَغْصُوب، وَإِلَى مَا لله تَعَالَى فِي ذَلِك من الحكم وَالسّنَن الاجتماعية، وَالْأَحْكَام وَالسّنَن الشَّرْعِيَّة وَمن الْعَهْد بِالْإِمَامَةِ الْعَامَّة لبَعض الْمُرْسلين، والوعد باستخلاف وإرث الأَرْض لِعِبَادِهِ الصَّالِحين، وَمن تِلْكَ السّنَن الْعَامَّة ابتلاء بعض الشعوب بِبَعْض ليظْهر أَيهَا أقوم وَأقرب إِلَى الْعدْل وَالْحق فَيكون حجَّة لَهُ على الْخلق ولينتقم من الظَّالِمين، تَارَة بأمثالهم من المفسدين، وَتارَة بأضدادهم من المصلحين، وَتَكون عَاقِبَة التَّنَازُع لِلْمُتقين، فالمتقون هم الَّذين يَتَّقُونَ بَاب الخيبة والفشل، ويسيرون على سنَن الله الشَّرْعِيَّة والكونية فِي الْعَمَل، والصالحون هم الَّذين يجتنبون الْفساد، ويسلكون سَبِيل الرشاد، ويقومون مَا اعوج من أَمر الْعباد.

عهد الله تَعَالَى بِالْإِمَامَةِ الْعَامَّة لنَبيه وخليله إِبْرَاهِيم وللعادلين من ذُريَّته غير الظَّالِمين، فوعد بهَا قوم مُوسَى من بني إِسْرَائِيل، وَقوم مُحَمَّد من بني إِسْمَاعِيل، قَالَ تَعَالَى فِي الْوَعْد الأول 28: 5 {ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين} وَقَالَ فِي الْوَفَاء بِهِ 7: 137 {وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهِ وتمت كلمة رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا} الْآيَة وَقَالَ فِي الْوَعْد الثَّانِي 24: 55 {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} . . وَقد صدق الله هَذِه الْأمة وعده ووفى لَهَا، كَمَا وفى لمن قبلهَا، ثمَّ سلبها جلّ مَا أَعْطَاهَا، كَمَا عاقب بذلك سواهَا، إِذْ نقضت عهدها كَمَا نقضوا، وفسقت عَن أَمر بهَا كَمَا فسقوا، واغترت بنسبها وبكتابها كَمَا اغتروا، وَإِنَّمَا ناط تَعَالَى إِرْث الأَرْض، بِإِقَامَة الْحق وَالْعدْل، وبالصلاح والإصلاح لأمور الْخلق، وَاسْتثنى من نيل عَهده الظَّالِمين، وتوعد بسلبه من الْفَاسِقين، وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْهَا أَن تعْتَبر بذلك فتثوب إِلَى رشدها، وتتوب إِلَى رَبهَا، عَسى أَن يرحمها، وَيتم لآخرها، مَا أنْجز من عَهده لأولها، وَلكنهَا لما تفعل، وَعَسَى أَن تفعل. إِن الْمَرِيض الْجَاهِل بمرضه لَا يطْلب لَهُ علاجا، وَإِن من يطْلب العلاج من غير الطَّبِيب الْعَارِف بمرضه لَا يُصِيب نجاحا، وَإِن دَاء الْمُسلمين ودواءه مُبين فِي كِتَابهمْ الْمنزل، وَلَكنهُمْ حرمُوا على أنفسهم الْعلم وَالْعَمَل بِهِ، اسْتغْنَاء عَنْهُمَا بِفقه المقلدين وكتبهم، وَيُمكن الْعلم بهما مِمَّا أرشدهم إِلَيْهِ الْكتاب من السّير فِي الأَرْض، للنَّظَر فِي أُمُور الْأُمَم وَالِاعْتِبَار بسنن الله فِي الْخلق، وَلَكنهُمْ قَلما كَانُوا يَسِيرُونَ، وَإِذا سَارُوا فقلما ينظرُونَ ويعتبرون.

وَالْإِسْلَام هِدَايَة روحية، وسياسة اجتماعية مَدَنِيَّة، أكمل الله بِهِ دين الْأَنْبِيَاء، وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ نظام الِاجْتِمَاع البشري من سسن الارتقاء، فَأَما الْهِدَايَة الدِّينِيَّة الْمَحْضَة فقد جَاءَ بهَا تَامَّة أصلا وفرعا، وفرضا ونفلا، إِذْ مدارها على نُصُوص الْوَحْي، وَبَيَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا بالْقَوْل وَالْفِعْل، وَلما طَرَأَ الضعْف على الْمُسلمين جهلوا هَذَا الأَصْل، فغلا بَعضهم فِي الدّين، فَزَاد فِي أَحْكَام الْعِبَادَات والمحرمات الدِّينِيَّة، والمواسم والأحزاب والأوراد الصُّوفِيَّة، مَا ألفت فِيهِ المجلدات، ويستغرق الْعَمَل بِهِ جَمِيع الْأَوْقَات، ويستلزم جعله من الدّين نُقْصَان دين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِذْ لم يكن لديهم شَيْء مِنْهُ، وَلَو اشتغلوا بِمثلِهِ لما وجدوا وقتا لفتح الْبِلَاد، وَإِصْلَاح أُمُور الْعباد. . وَأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الْإِسْلَام أساسها وقواعدها، وَشرع للْأمة الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِيهَا، لِأَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وترتقي بارتقاء الْعمرَان وفنون الْعرْفَان، وَمن قَوَاعِده فِيهَا أَن سلطة الْأمة لَهَا، وأمرها شُورَى بَينهَا، وَأَن حكومتها ضرب من الجمهورية، وَخَلِيفَة الرَّسُول فِيهَا لَا يمتاز فِي أَحْكَامهَا على أَضْعَف أَفْرَاد الرّعية، وَإِنَّمَا هُوَ منفذ لحكم الشَّرْع ورأي الْأمة، وَأَنَّهَا حافظة للدّين ومصالح الدُّنْيَا، وجامعة بَين الْفَضَائِل الأدبية، وَالْمَنَافِع المادية، وممهدة لتعميم الْأُخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الْأُمَم الصورية والمعنوية. . وَلما طَرَأَ الضعْف على الْمُسلمين قصروا فِي إِقَامَة الْقَوَاعِد وَالْعَمَل بالأصول، وَلَو أقاموها لوضعوا لكل عصر مَا يَلِيق بِهِ من النّظم وَالْفُرُوع. . ظَهرت مَدَنِيَّة الْإِسْلَام مشرقة من أفق هِدَايَة الْقُرْآن، مَبْنِيَّة على أساس البدء بإصلاح الْإِنْسَان، ليَكُون هُوَ المصلح لأمور الْكَوْن وشئون الِاجْتِمَاع، فَكَانَ جلّ إصْلَاح الْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِقَامَة الْحق وَالْعدْل، والمساواة بَين النَّاس فِي الْقسْط، وَنشر الْفَضَائِل وقمع الرذائل، وَإِبْطَال مَا أرهق الْبشر من استبداد الْمُلُوك والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدّين على الْعُقُول والأرواح، فبلغوا بذلك حدا من الْكَمَال، لم يعرف لَهُ نَظِير فِي تَارِيخ الْأُمَم والأجيال، واستتبع ذَلِك مَدَنِيَّة سريعة السّير، جَامِعَة بَين الدّين والفضيلة، وَبَين التَّمَتُّع بالطيبات والزينة، ارتقت فِيهَا الْعُلُوم والفنون بِسُرْعَة غَرِيبَة، حَتَّى قَالَ الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف لوبون فِي كِتَابه (تطور الْأُمَم) : إِن ملكة الْفُنُون لم تستحكم لأمة من الْأُمَم فِيمَا دون الثَّلَاثَة أجيال الطبيعية إِلَّا للْعَرَب، وَيَعْنِي بِالثَّلَاثَةِ أجيال: الجيل الْمُقَلّد، والجيل المخضرم، والجيل المستقل. .

لقد أَتَى على النَّاس حِين من الدَّهْر وهم يظنون أَن المدنية الإسلامية قد مَاتَت وبليت، فَلَا رَجَاء فِي بَعْضهَا، وَأَن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فَلَا مطمع فِي مَوتهَا، ثمَّ اسْتَدَارَ الزَّمَان وَظهر خطأ الحسبان، وَكثر فِي حكماء أوروبة وعلمائه من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بِمَا يفتك بهَا من أوبئة الأفكار المادية، وَالروح الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف فِي الشَّهَوَات الحيوانية، وَقد كَانَ من أساطين أهل هَذَا الرَّأْي شيخ فلاسفة الْعَصْر هربرت سبنسر الإنكليزي مؤسس علم الِاجْتِمَاع، وَكثر أَهله بعد الْحَرْب الْكُبْرَى، لما ترَتّب عَلَيْهَا من الْمَفَاسِد الَّتِي لَا تحصى، فقد أرثت الأحقاد والأضغان بَين الشعوب الأوروبية، وضاعفت الْمَفَاسِد والمشاكل الْمَالِيَّة والسياسية، وَلكنهَا قد هزت الْعَالم الإسلامي والشرق كُله هزة عنيفة، وأحدثت فِي شعوبه توارث لم تكن مألوفة، فسنحت لَهُ فرْصَة للْعَمَل، هِيَ منَاط الرَّجَاء وَقُوَّة الأمل. . وَإِن أعظم مظَاهر هَذِه الفرصة نهضة الشّعب التركي من كبوته الَّتِي قَضَت على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بَين الدولتين الإيرانية والأفغانية، وبثه دَعْوَة الِاعْتِصَام مَعَ سَائِر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه فِي إِلْغَاء الامتيازات الْأَجْنَبِيَّة، وَالنَّقْص من سَائِر الْقُيُود والأغلال السياسية والمالية، فرجاؤنا فِيهِ أَن يشد أواصر الإخاء مَعَ الْأمة الْعَرَبيَّة، ويتعاون مَعهَا على إحْيَاء المدنية الإسلامية، بتجديد حُكُومَة الْخلَافَة على الْقَوَاعِد المقررة فِي الْكتب الكلامية والفقهية، وَألا يرضى بِمَا دون ذَلِك من الْمظَاهر الدُّنْيَوِيَّة، وَلَا يغتر بتحبيذ عوام الْمُسلمين لما قَرَّرَهُ فِي أَمر الْخلَافَة الروحية، فَمَا أضاع على الْمُسلمين دنياهم وَدينهمْ، إِلَّا تحبيذ دهمائهم لكل مَا تَفْعَلهُ حكوماتهم ودولهم، ناهيك بشعور الْمُسلمين، الَّذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين، إِنَّه شُعُور شرِيف، وَإِنَّمَا يعوزه الرَّأْي الحصيف، فقد كَانَ السوَاد الْأَعْظَم من هَؤُلَاءِ الملايين، يَرْمِي من يُخَالف أهواء السُّلْطَان عبد الحميد بالخيانة أَو المروق من الدّين، وَهُوَ السُّلْطَان الَّذِي أقنع جُمْهُور ساسة التّرْك بِإِسْقَاط سلطة السلاطين، الَّذِي تحمده الْيَوْم هَذِه الملايين، وَمَا لَهُم بِهَذَا وَلَا ذَاك من علم وَلَا سُلْطَان مُبين. . أَيهَا الشّعب التركي الْحَيّ: إِن الْإِسْلَام أعظم قُوَّة معنوية فِي الأَرْض وَإنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمكن أَن يحيي مَدَنِيَّة الشرق وينقذ مَدَنِيَّة الغرب، فَإِن المدنية لَا تبقى إِلَّا

بالفضيلة، والفضيلة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِالدّينِ، وَلَا يُوجد دين يتَّفق مَعَ الْعلم والمدنية إِلَّا الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا عاشت المدنية الغربية هَذِه الْقُرُون بِمَا كَانَ فِيهَا من التوازن بَين بقايا الْفَضَائِل المسيحية، مَعَ التَّنَازُع بَين الْعلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فَإِن الْأُمَم لَا تنسل من فَضَائِل دينهَا، بِمُجَرَّد طروء الشَّك فِي عقائده على أذهان الْأَفْرَاد وَالْجَمَاعَات مِنْهَا، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بالتدريج فِي عدَّة أجيال، وَقد انْتهى التَّنَازُع بفقد ذَلِك التوازن، وَأصْبح الدّين والحضارة على خطر الزَّوَال، واشتدت حَاجَة الْبشر إِلَى إصْلَاح روحي مدنِي ثَابت الْأَركان، يَزُول بِهِ استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الْأَغْنِيَاء للْفُقَرَاء، وخطر البلشفية على الْأَغْنِيَاء، وَيبْطل بِهِ امتياز الْأَجْنَاس، لتتحقق الْأُخوة الْعَامَّة بَين النَّاس، وَلنْ يكون ذَلِك إِلَّا بحكومة الْإِسْلَام، الَّتِي بيناها بالإجمال فِي هَذَا الْكتاب، وَنحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إِذا وفْق الله للْعَمَل بهَا. . أَيهَا الشّعب التركي الباسل: إِنَّك الْيَوْم أقدر الشعوب الإسلامية على أَن تحقق للبشر هَذِه الأمنية، فاغتنم هَذِه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خَالِد، لَا يذكر مَعَه مجدك الْحَرْبِيّ التالد، وَلَا يجرمنك المتفرنجون على تَقْلِيد الإفرنج فِي سيرتهم، وَأَنت أهل لِأَن تكون إِمَامًا لَهُم بمدنية خير من مدنيتهم، وَمَا ثمَّ إِلَّا المدنية الإسلامية، الثَّابِتَة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدِّينِيَّة، فَلَا تزلزلها النظريات الَّتِي تعبث بالعمران، وتفسد نظم الْحَيَاة الاجتماعية على النَّاس. . أَيهَا الشّعب التركي المتروي: انهض بتجديد حُكُومَة الْخلَافَة الإسلامية، بِقصد الْجمع بَين هِدَايَة الدّين والحضارة لخدمة الإنسانية، لَا لتأسيس عصبية إسلامية تهدد الدول الغربية، فَإِن فعلت ذَلِك وَأثبت إخلاصك وَصِحَّة نيتك فِيهِ، فَإنَّك تَجِد من عُلَمَاء الإفرنج وفضلائهم وأحرارهم من يشد أزرك، وَيرْفَع ذكرك، وَيدْفَع عَنْك تهم الساسة المفترين، وإغراء الطامعين المغررين. . أَيهَا الشّعب التركي الْعَاقِل: إِنَّنِي أهدي إِلَيْك هَذِه المباحث الَّتِي كتبتها فِي بَيَان حَقِيقَة الْخلَافَة وأحكامها، وَشَيْء من تَارِيخه وعلو مكانتها، وَبَيَان حَاجَة جَمِيع الْبشر إِلَيْهَا، وَجِنَايَة الْمُسلمين على أنفسهم بِسوء التَّصَرُّف فِيهَا، وَالْخُرُوج بهَا عَن موضوعها، وَمَا يعْتَرض الْآن فِي سَبِيل إحيائها، مَعَ بَيَان الْمخْرج مِنْهَا، بِمَا أشرع السَّبِيل، وأنار الدَّلِيل، بمقال وسط بَين الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل، جَامع لآراء العارفين

بمصالح الدُّنْيَا وَحَقِيقَة الدّين، فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ، وَإِنَّمَا الشُّكْر لَهَا، بِالْعَمَلِ بهَا {وَإِذ تَأذن ربكُم لَئِن شكرتم لأزيدنكم وَلَئِن كَفرْتُمْ إِن عَذَابي لشديد} ...

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية

الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالخلافة الإسلامية لقد كَانَت الْخلَافَة والسلطنة فتْنَة للنَّاس فِي الْمُسلمين كَمَا كَانَت حُكُومَة الْمُلُوك فتْنَة لَهُم فِي سَائِر الْأُمَم والملل. . وَكَانَت هَذِه الْمَسْأَلَة نَائِمَة فأيقظتها الْأَحْدَاث الطارئة فِي هَذِه الْأَيَّام، إِذْ أسقط التّرْك دولة آل عُثْمَان، وأسسوا من أنقاضها فيهم دولة جمهورية بشكل جَدِيد، من أُصُولهَا أَنهم لَا يقبلُونَ أَن يكون فِي حكومتهم الجديدة سلطة لفرد من الْأَفْرَاد لَا باسم خَليفَة وَلَا باسم سُلْطَان، وَأَنَّهُمْ قد فصلوا بَين الدّين والسياسة فصلا تَاما وَلَكنهُمْ سموا أحد أَفْرَاد أسرة السلاطين السَّابِقين خَليفَة روحياً لجَمِيع الْمُسلمين، وحصروا هَذِه الْخلَافَة فِي هَذِه الأسرة، كَمَا بَينا ذَلِك بالتفصيل فِي هَذَا الْجُزْء وَمَا قبله من الْمنَار. لذَلِك كثر خوض الجرائد فِي مَسْأَلَة الْخلَافَة وأحكامها، فَكثر الْخَلْط والخبط فِيهَا، وَلبس الْحق بِالْبَاطِلِ، فَرَأَيْنَا من الْوَاجِب علينا أَن نبين أَحْكَام شريعتنا فِيهَا بالتفصيل الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمقَام، ليعرف الْحق من الْبَاطِل، وَأَن نقفى على ذَلِك بمقال آخر فِي مَكَان نظام الْخلَافَة من نظم الحكومات الْأُخْرَى، وسيرة الْمُسلمين فِيهِ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُم فِي هَذَا الزَّمَان. وَإِن تأييدنا للحكومة التركية الجديدة، لمما يُوجب علينا هَذَا الْبَيَان والنصيحة، وَنحن إِنَّمَا نؤيدها لمَكَان الدّين، ومصلحة الْمُسلمين، وَمَا أَضْعَف ديننَا وَأَهله، إِلَّا محاباتهم للأقوياء فِيهِ، فَكَانَت مُحَابَاة الْعلمَاء للملوك وَالْخُلَفَاء وبالا عَلَيْهِم وعَلى النَّاس، وَقد أَخذ الله الْمِيثَاق على الْعلمَاء {لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} وَمن الله نستمد الصَّوَاب، ونسأله الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب:

فارغة

التعريف بالخلافة الإسلامية ووجوبها شرعا

التَّعْرِيف بالخلافة الإسلامية ووجوبها شرعا

فارغة

التعريف بالخلافة

التَّعْرِيف بالخلافة الْخلَافَة، والإمامة الْعُظْمَى، وإمارة الْمُؤمنِينَ، ثَلَاث كَلِمَات مَعْنَاهَا وَاحِد، وَهُوَ رئاسة الْحُكُومَة الإسلامية الجامعة لمصَالح الدّين وَالدُّنْيَا. قَالَ الْعَلامَة الأصولي الْمُحَقق السعد التَّفْتَازَانِيّ فِي متن مَقَاصِد الطالبين، فِي علم أصُول عقائد الدّين: الْفَصْل الرَّابِع - أَي من العقائد السمعية - فَفِي الْإِمَامَة، وَهِي رئاسة عَامَّة فِي أَمر الدّين وَالدُّنْيَا خلَافَة عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَقَالَ الْعَلامَة الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة: الْإِمَامَة مَوْضُوعَة لخلافة النُّبُوَّة فِي حراسة الدّين وسياسة الدُّنْيَا. وَكَلَام سَائِر عُلَمَاء العقائد وَالْفُقَهَاء من جَمِيع مَذَاهِب أهل السّنة لَا يخرج عَن هَذَا الْمَعْنى، إِلَّا أَن الإِمَام الرَّازِيّ زَاد قيداّ فِي التَّعْرِيف فَقَالَ: هِيَ رئاسة عَامَّة فِي الدّين وَالدُّنْيَا لشخص وَاحِد من الْأَشْخَاص. . وَقَالَ: هُوَ احْتِرَاز عَن كل الْأمة إِذا عزلوا الإِمَام لفسقه. . قَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد بعد ذكر هَذَا الْقَيْد فِي التَّعْرِيف وَمَا علله بِهِ: (وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُل الْأمة أهل الْحل وَالْعقد وَاعْتبر رئاستهم على من عداهم أَو على كل من أحاد الْأمة) .

حكم الإمامة أو نصب الخليفة

حكم الْإِمَامَة أَو نصب الْخَلِيفَة أجمع سلف الْأمة، وَأهل السّنة، وَجُمْهُور الطوائف الْأُخْرَى على أَن نصب الإِمَام - أَي تَوليته على الْأمة - وَاجِب على الْمُسلمين شرعا لَا عقلا فَقَط كَمَا قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة، وَاسْتَدَلُّوا بِأُمُور لخصها السعد فِي متن الْمَقَاصِد بقوله: لنا وُجُوه: (الأول) الْإِجْمَاع وَبَين فِي الشَّرْح أَن المُرَاد إِجْمَاع الصَّحَابَة قَالَ: وَهُوَ الْعُمْدَة، حَتَّى قدموه على دفن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (الثَّانِي) أَنه لَا يتم إِلَّا بِهِ مَا وَجب من إِقَامَة الْحُدُود وسد الثغور وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِحِفْظ النظام (الثَّالِث) أَن فِيهِ جلب مَنَافِع وَدفع مضار لَا تحصى وَذَلِكَ وَاجِب إِجْمَاعًا (الرَّابِع) وجوب طَاعَته ومعرفته بِالْكتاب وَالسّنة، وَهُوَ يَقْتَضِي وجوب حُصُوله وَذَلِكَ بنصبه اهـ. وَمعنى الْأَخير أَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ من وجوب طَاعَته فِي الْمَعْرُوف شرعا وَوُجُوب مَعْرفَته بِالْكتاب وَالسّنة وَكَونهَا من أهم شُرُوطه يَقْتَضِي أَن نَصبه وَاجِب شرعا، وَقد أَطَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد فِي بَيَان هَذِه الْوُجُوه وَمَا اعْترض بِهِ بعض المبتدعة الْمُخَالفين عَلَيْهَا وَالْجَوَاب عَنْهَا. وَقد غفل هُوَ وَأَمْثَاله عَن الِاسْتِدْلَال على نصب الإِمَام بالأحاديث الصَّحِيحَة الْوَارِدَة فِي الْتِزَام جمَاعَة الْمُسلمين وإمامهم، وَفِي بَعْضهَا التَّصْرِيح بِأَن " من مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث لِابْنِ عمر مَرْفُوعا، وَسَيَأْتِي حَدِيث حُذَيْفَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَفِيه قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لَهُ " تلْزم جمَاعَة الْمُسلمين وإمامهم ". من ينصب الْخَلِيفَة ويعزله؟ : اتّفق أهل السّنة على أَن نَصْبَ الْخَلِيفَة فرض كِفَايَة، وَأَن المطالب بِهِ أهل الْحل وَالْعقد فِي الْأمة، وَوَافَقَهُمْ المغتزلة والخوارج على أَن الْإِمَامَة تَنْعَقِد ببيعة أهل الْحل وَالْعقد. . وَلَكِن اضْطربَ كَلَام بعض الْعلمَاء فِي أهل الْحل وَالْعقد من هم؟ وَهل تشْتَرط مُبَايَعَتهمْ كلهم أم يَكْتَفِي بِعَدَد معِين مِنْهُم؟ أم لَا يشْتَرط الْعدَد؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَن تكون تسميتهم بِأَهْل الْحل وَالْعقد مَانِعَة من الْخلاف فيهم، إِذْ الْمُتَبَادر مِنْهُ أَنهم زعماء الْأمة وأولو المكانة وَمَوْضِع الثِّقَة من سوادها الْأَعْظَم، بِحَيْثُ تتبعهم فِي

طَاعَة من يولونه عَلَيْهَا فينتظم بِهِ أمرهَا، وَيكون بمأمن من عصيانها وخروجها عَلَيْهِ، قَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد كَغَيْرِهِ من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء: هم الْعلمَاء والرؤساء ووجوه النَّاس زَاد فِي الْمِنْهَاج للنووي الَّذين يَتَيَسَّر اجْتِمَاعهم. وَعلله شَارِحه الرملى بقوله لِأَن الْأَمر يَنْتَظِم بهم ويتبعهم سَائِر النَّاس. وَهَذَا التَّعْلِيل هُوَ غَايَة التَّحْقِيق منطوقاً ومفهوماً فَإِذا لم يكن المبايعون بِحَيْثُ تتبعهم الْأمة فَلَا تَنْعَقِد الْإِمَامَة بمبايعتهم. . وَهَذَا هُوَ الْمَأْخُوذ من عمل الصَّحَابَة (رَضِي الله عَنْهُم) فِي تَوْلِيَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، فَإِن عمر عَدّ البدء فِي بيعَة أبي بكر فلتة لِأَنَّهُ وَقع قبل أَن يتم التشاور بَين جَمِيع أهل الْحل وَالْعقد إِذْ لم يكن فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة أحد من بني هَاشم وهم فِي ذروتهم، وتضافرت الرِّوَايَات بِأَن أَبَا بكر (رَضِي الله عَنهُ) أَطَالَ التشاور مَعَ كبراء الصَّحَابَة فِي ترشيح عمر فَلم يعبه أحد لَهُ بِشَيْء إِلَّا شدته، وَإِن كَانُوا يعترفون أَنَّهَا فِي الْحق، فَكَانَ يُجِيبهُمْ بِأَنَّهُ يرَاهُ يلين فيشتد هُوَ - وَهُوَ وزيره - ليعتدل الْأَمر، وَأَن الْأَمر إِذا آل إِلَيْهِ يلين فِي مَوضِع اللين ويشتد فِي مَوضِع الشدَّة، حَتَّى إِذا رأى أَنه أقنع جُمْهُور الزعماء - وَفِي مقدمتهم عَليّ كرم الله وَجهه - صرح باستخلافه فقبلوا وَلم يشذ مِنْهُم أحد، وَلما طعن عمر رأى حصر الشورى الْوَاجِبَة فِي الزعماء السِّتَّة الَّذين مَاتَ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ عَنْهُم رَاض لعلمه بِأَنَّهُ لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِم أحد وَلَا يخالفهم فِيمَا يتفقون عَلَيْهِ أحد، لأَنهم هم المرشحون للْإِمَامَة دون سواهُم (وهم عُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَلما أخرج نَفسه عبد الرَّحْمَن بن عَوْف مِنْهُم وَجعلُوا لَهُ الِاخْتِيَار بَقِي ثَلَاثًا لَا تكتحل عينه بِكَثِير نوم وَهُوَ يشاور كبراء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَلما رَجَعَ عُثْمَان دَعَا الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وأمراء الأجناد فَلَمَّا اجْتَمعُوا عِنْد مِنْبَر رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بعد صَلَاة الْفجْر صرح لَهُم بِاخْتِيَارِهِ لعُثْمَان وَبَايَعَهُ هَؤُلَاءِ كلهم، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَغَيره. . وَالْمرَاد بأمراء الأجناد وُلَاة الأقطار الْكُبْرَى مصر وَالشَّام وحمص والكوفة وَالْبَصْرَة وَكَانُوا قد حجُّوا مَعَ عمر فِي ذَلِك الْعَام وحضروا مَعَه الْمَدِينَة. وَلما شَذَّ أحد هَؤُلَاءِ الْوُلَاة - وَهُوَ مُعَاوِيَة فَلم يُبَايع عليا كرم الله وَجهه مَعَ إِجْمَاع سَائِر الْمُسلمين على مبايعته - كَانَ من الْفِتْنَة وتفرق الْكَلِمَة مَا كَانَ. . وَإِنَّمَا تصح الْمُبَايعَة باتفاقهم، أَو اتِّفَاق الرؤساء الَّذين يتبعهُم

غَيرهم، وَمن لم يتبعهُم بِالِاخْتِيَارِ، سهل عَلَيْهِم إكراهه بِقُوَّة الْأمة على الطَّاعَة والانقياد. . وَمن رُؤَسَائِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْر قواد الْجَيْش كوزيرى الحربية والبحرية وأركان الْحَرْب لَهما. . وَمَتى تمت الْبيعَة فِي العاصمة وَجب أَن تتبعها الولايات بمبايعة ولاتها إِذا كَانُوا يتبعُون فِيهَا، وَإِلَّا وَجب أَن يَنْضَم إِلَيْهِم زعماء أَهلهَا من الْعلمَاء والقواد وَغَيرهم. . وَغلط بعض الْمُعْتَزلَة وَالْفُقَهَاء فَقَالُوا: إِن الْبيعَة تَنْعَقِد دَائِما بِخَمْسَة مِمَّن يصلح للْإِمَامَة بِدَلِيل مَا أَشَارَ بِهِ عمر إِذْ حصر الشورى فِي المرشحين السِّتَّة وَقبل جَمِيع الصَّحَابَة مِنْهُ ذَلِك فَكَانَ إِجْمَاعًا. . نعم كَانَ إِجْمَاعًا على الشورى وعَلى أُولَئِكَ السِّتَّة فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة، لَا إِجْمَاعًا على ذَلِك الْعدَد فِي كل مبايعة، وَقَالُوا إِن مَذْهَب الأشعرى أَنَّهَا تَنْعَقِد بِعقد وَاحِد مِنْهُم إِذا كَانَ بمشهد من الشُّهُود وَهُوَ غلط وَاضح؟ وَقد ذكر هَذَا القَوْل الْفُقَهَاء مُقَيّدا بِمَا إِذا انحصر الْحل وَالْعقد فِيهِ بِأَن وثق زعماء الْأمة بِهِ وفوضوا أَمرهم إِلَيْهِ، وَهَذَا لم يَقع وينذر أَن يَقع. . وإمامة عُثْمَان لم تكن بمبايعة عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَحده بل كَانَت عَامَّة لَا خَاصَّة بِهِ، وَكَذَلِكَ مبايعة عمر لأبي بكر، فَإِن الْإِمَامَة لم تَنْعَقِد بمبايعته وَحده، بل بمتابعة الْجَمَاعَة لَهُ، وَقد صَحَّ أَن عمر أنكر على من زعم أَن الْبيعَة تَنْعَقِد بِوَاحِد من غير مُشَاورَة الْجَمَاعَة وَكَانَ بلغه هَذَا القَوْل فِي أثْنَاء حجه فعزم على بَيَان حَقِيقَة أَمر الْمُبَايعَة وَمَا يشْتَرط فِيهَا من الشورى على جَمَاهِير الْحجَّاج فَذكره بَعضهم بِأَن الْمَوْسِم يجمع أخلاط النَّاس وَمن لَا يفهمون الْمقَال، فيطيرون بِهِ كل مطار، وَأَنه يجب أَن يرجئ هَذَا الْبَيَان إِلَى أَن يعود إِلَى الْمَدِينَة فيلقيه على أهل الْعلم والرأي فَفعل ... قَالَ على مِنْبَر الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : بَلغنِي أَن قَائِلا مِنْكُم يَقُول وَالله لَو مَاتَ عمر لبايعت فلَانا، فَلَا يغترن امْرُؤ أَن يَقُول إِن بيعَة أبي بكر كَانَت فلتة فتمت، أَلا وَإِنَّهَا قد كَانَت كَذَلِك وَلَكِن وقى الله شَرها، وَلَيْسَ فِيكُم من تتطلع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر، من بَايع رجلا من غير مشورة من الْمُسلمين فَلَا يُبَايع هُوَ وَلَا الَّذِي بَايعه لغرة أَن يقتلا. ثمَّ سَاق خبر بيعَة أبي بكر وَمَا كَانَ يخْشَى من وُقُوع الْفِتْنَة بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لَوْلَا تِلْكَ الْمُبَادرَة بمبايعته للثقة

سلطة الأمة ومعنى الجماعة

بِقبُول سَائِر الْمُسلمين، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَقد أقرَّت جمَاعَة الصَّحَابَة عمر على ذَلِك فَكَانَ إِجْمَاعًا فتقرر بِهَذَا، إِن الأَصْل فِي الْمُبَايعَة أَن تكون بعد استشارة جُمْهُور الْمُسلمين وَاخْتِيَار أهل الْحل وَالْعقد وَلَا تعْتَبر مبايعة غَيرهم إِلَّا أَن تكون تبعا لَهُم. . وَأَن عمل عمر (رَضِي الله عَنهُ) خَالف هَذَا الأَصْل الْقطعِي فَكَانَ فلتة لمقتضيات خَاصَّة لَا أصلا شَرْعِيًّا يعْمل بِهِ، وَمن تصدى لمثله فَبَايع أحدا فَلَا يَصح أَن يكون هُوَ وَلَا من بَايعه أَهلا للمبايعة، بل يكون ذَلِك تغريراً بأنفسهما قد يُفْضِي إِلَى قَتلهمَا إِذْ أحدث فِي الْأمة شقاقا وفتنة. سلطة الْأمة وَمعنى الْجَمَاعَة قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف الْمُؤمنِينَ {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَالْقُرْآن يُخَاطب جمَاعَة الْمُؤمنِينَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يشرعها حَتَّى أَحْكَام الْقِتَال وَنَحْوهَا من الْأُمُور الْعَامَّة الَّتِي لَا تتلعق بالأفراد كَمَا بَيناهُ فِي التَّفْسِير، وَقد أَمر بِطَاعَة أولي الْأَمر - وهم الْجَمَاعَة - لَا ولي الْأَمر، وَذَلِكَ أَن ولي الْأَمر وَاحِد مِنْهُم، وَإِنَّمَا يطاع بتأييد جمَاعَة الْمُسلمين الَّذين بَايعُوهُ لَهُ وثقتهم بِهِ، وَيدل على هَذَا الْمَعْنى مَا ورد من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الْتِزَام الْجَمَاعَة وَكَون طَاعَة الْأَمِير تَابِعَة لطاعتهم واجتماع الْكَلِمَة بسلطتهم كَحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " من رأى من أميره شَيْئا فليصبر عَلَيْهِ فَإِن من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " وَلما أخبر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حُذَيْفَة بن الْيَمَان بِمَا يكون فِي الْأمة من الْفِتَن فِي الحَدِيث الصَّحِيح الْمَشْهُور قَالَ: فَمَا تَأْمُرنِي إِن أدركني ذَلِك؟ قَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " تلْزم جمَاعَة الْمُسلمين " وإمامهم " قَالَ قلت: فَإِن لم يكن لَهُم جمَاعَة وَلَا إِمَام؟ قَالَ " فاعتزل تِلْكَ الْفرق كلهَا " إِلَخ. . وَفِي بعض الْأَحَادِيث بَيَان أَن الْجَمَاعَة وهم السوَاد الْأَعْظَم أَي بِالنِّسْبَةِ إِلَى صدر الْإِسْلَام. وَمن الْأَدِلَّة على سلطة الْأمة - وَاسْتَدَلُّوا بِهِ على الْإِجْمَاع - حَدِيث " لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة - وَفِي لفظ لن تَجْتَمِع - وَفِي رِوَايَة زِيَادَة وَيَد الله على الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار " وَفِي أُخْرَى " سَأَلت رَبِّي أَلا تَجْتَمِع على ضَلَالَة وأعطانيها " وَهُوَ فِي مُسْند أَحْمد وجامع التِّرْمِذِيّ وَالْكَبِير للطبراني ومستدرك الْحَاكِم ...

قَالَ الطَّبَرِيّ بعد ذكر الْخلاف فِي الْجَمَاعَة، وَمِنْه حصر بَعضهم إِيَّاه فِي الصَّحَابَة: وَالصَّوَاب لُزُوم الْجَمَاعَة الَّذين فِي طَاعَة من اجْتَمعُوا على تأميره، فَمن نكث بيعَته خرج عَن الْجَمَاعَة (قَالَ) وَفِي الحَدِيث أَنه مَتى لم يكن للنَّاس إِمَام فافترق النَّاس أحزاباً فَلَا يتبع الْمُسلم أحدا فِي الْفرْقَة ويعتزل الْجَمِيع إِن اسْتَطَاعَ ذَلِك خشيَة من الْوُقُوع فِي الشَّرّ. . نَقله عَنهُ الْحَافِظ فِي شرح البُخَارِيّ وَأقرهُ. . هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة هم أولو الْأَمر من الْمُسلمين وَأهل الْحل وَالْعقد وَالْإِجْمَاع المطاع. . وَمِنْهُم كبار الْحُكَّام، وَأهل الشورى لَدَى الإِمَام، وَمَتى خُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْكتاب وَالسّنة وآثار الصَّحَابَة فِي أَمر من الْأُمُور الْعَامَّة فهم المعنيون المطالبون بتنفيذ الْأَمر، ومراقبة المنفذ: وَمن الْآثَار الدَّالَّة على الْإِجْمَاع فِي ذَلِك قَول أبي بكر (رَضِي الله عَنهُ) فِي خطبَته الأولى بعد الْمُبَايعَة: " أما بعد فقد وليت عَلَيْكُم وَلست بِخَيْرِكُمْ فَإِذا اسْتَقَمْت فَأَعِينُونِي، وَإِذا زِغْت فقوموني ". . وروى نَحوه عَن عمر وَعُثْمَان: وهم الَّذين فرضوا لَهُ راتب الْخلَافَة كَرجل من أوساط الْمُهَاجِرين لَا أعلاهم وَلَا أَدْنَاهُم. . وَفِي متن المواقف للعضد: وللأمة خلع الإِمَام وعزله بِسَبَب يُوجِبهُ، وَإِن أدّى إِلَى الْفِتْنَة احْتمل أدنى المضرتين. . وَقَالَ شَارِحه السَّيِّد الْجِرْجَانِيّ فِي بَيَان السَّبَب: مثل أَن يُوجد مِنْهُ مَا يُوجب اختلال أَحْوَال الْمُسلمين، وانتكاس أُمُور الدّين. . كَمَا كَانَ لَهُم نَصبه وإقامته لإنتظامها وإعلائها. . وَسَيَأْتِي مثله لإِمَام الْحَرَمَيْنِ. وَقد تقدم فِي التَّعْرِيف بالخلافة قَول الرَّازِيّ إِن الرِّئَاسَة الْعَامَّة هِيَ حق الْأمة الَّتِي لَهَا أَن تعزل الإِمَام (الْخَلِيفَة) إِذا رَأَتْ مُوجبا لعزله، وَقد فسر السعد معنى هَذِه الرِّئَاسَة لِئَلَّا تستشكل فَيُقَال إِذا كَانَت الرِّئَاسَة للْأمة فَمن المرءوس؟ فَقَالَ إِنَّه يُرِيد بالأمة أهل الْحل وَالْعقد أَي الَّذين يمثلون الْأمة بِمَا لَهُم فِيهَا من الزعامة والمكانة، ورئاستهم تكون على من عداهم أَو على جَمِيع أَفْرَاد الْأمة. . وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيح، وَيُؤَيّد هَذَا تَفْسِير الرَّازِيّ لأولى الْأَمر فِي قَوْله تَعَالَى 58: 4 {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فقد حقق أَن المُرَاد بأولي الْأَمر أهل الْحل وَالْعقد الَّذين يمثلون سلطة الْأمة. وَقد تَابعه على هَذَا النَّيْسَابُورِي وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ الإِمَام، ووضحناه فِي التَّفْسِير مستدلين عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى (وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه

شروط أهل الاختيار للخليفة

مِنْهُم} وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن أولي الْأَمر الَّذين كَانُوا مَعَ الرَّسُول يرد إِلَيْهِم مَعَه أَمر الْأَمْن وَالْخَوْف وَمَا اشبههما من الْمصَالح الْعَامَّة لَيْسُوا عُلَمَاء الْفِقْه وَلَا الْأُمَرَاء والحكام، بل أهل الشورى من زعماء الْمُسلمين. شُرُوط أهل الِاخْتِيَار للخليفة: اشْترط الْعلمَاء فِي جمَاعَة الْمُسلمين أهل الْحل وَالْعقد شُرُوطًا بَينهَا الْمَاوَرْدِيّ فِي الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة بقوله: (فصل) فَإِذا ثَبت وجوب الْإِمَامَة ففرضها على الْكِفَايَة كالجهاد وَطلب الْعلم فَإِذا قَامَ بهَا من هُوَ أَهلهَا سقط فَرضهَا عَن الكافة وَإِن لم يقم بهَا أحد خرج من النَّاس فريقان (أَحدهمَا) أهل الِاخْتِيَار حَتَّى يختاروا إِمَامًا للْأمة (وَالثَّانِي) أهل الْإِمَامَة حَتَّى ينْتَصب أحدهم للْإِمَامَة. . فَأَما أهل الِاخْتِيَار فالشروط الْمُعْتَبرَة فيهم ثَلَاثَة (أَحدهَا) الْعَدَالَة الجامعة لشروطها (وَالثَّانِي) الْعلم الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى معرفَة من يسْتَحق الْإِمَامَة على الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِيهَا (وَالثَّالِث) الرَّأْي وَالْحكمَة المؤديان إِلَى اخْتِيَار من هُوَ للْإِمَامَة أصلح، وبتدبير الْمصَالح أقوم وَأعرف. . وَلَيْسَ لمن كَانَ فِي بلد الإِمَام على غَيره من أهل الْبِلَاد فضل مزية يقدم بهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَار من يحضر بِبَلَد الإِمَام مُتَوَلِّيًا لعقد الْإِمَامَة عرفا وَشرعا لسبوق علمهمْ بِمَوْتِهِ، وَلِأَن من يصلح للْإِمَامَة فِي الْأَغْلَب مَوْجُود فِي بَلَده اه (فتح الْبَارِي) . . أَقُول: لهَذِهِ الشُّرُوط مَأْخَذ من هدى السّلف فقد قَالَ الطَّبَرِيّ: لم يكن فِي أهل الْإِسْلَام أحد لَهُ من الْمنزلَة فِي الدّين وَالْهجْرَة والسابقة وَالْعقل وَالْعلم والمعرفة بالسياسة مَا للستة الَّذين جعل عمر الْأَمر شُورَى بَينهم.

أما الْعَدَالَة الَّتِي هِيَ الشَّرْط الأول فَهِيَ عِنْد الْفُقَهَاء عبارَة عَن التحلي بالفرائض والفضائل، والتخلي عَن الْمعاصِي والرذائل، وَعَما يخل بالمروءة أَيْضا، وَاشْترط بَعضهم فِيهَا أَن تكون ملكة لَا تكلفاً، وَلَكِن التَّكَلُّف إِذا الْتزم صَار خلقا. . وَأما الْعلم فيعنون بِهِ علم الدّين ومصالح الْأمة وسياستها وَإِذا أَطْلقُوهُ كَانَ المُرَاد بِهِ الْعلم الاستقلالي الْمعبر عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَيفهم من كَلَام بَعضهم أَن الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع شَرط فِي مجموعهم لَا فِي كل فَرد مِنْهُم، فقد قَالَ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَنه يشْتَرط أَن يكون فيهم مُجْتَهد. . وتقييده شَرط الْعلم بِمَا قَيده بِهِ يدل على أَنه يخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان فَإِن اسْتِحْقَاق الْإِمَامَة فِي هَذَا الْعَصْر يتَوَقَّف على عُلُوم لم يكن يتَوَقَّف عَلَيْهَا فِي العصور الْقَدِيمَة، وَقد ذكر بعض الْعلمَاء أَن من مرجحات اخْتِيَار الصَّحَابَة لأبي بكر (رض) أَنه كَانَ أعلمهم بأنساب الْعَرَب وبأحوالهم وقواتهم، وَلأَجل هَذَا لم يهب من قتال أهل الرِّدَّة مَا هابه عمر، ولابد الْآن للْإِمَام وَجَمَاعَة الشورى (أهل الْحل وَالْعقد) الَّذين هم قوام إِمَامَته وأركان حكومته من الْعلم بالقوانين الدولية والمعاهدات الْعَامَّة، وبأحوال الْأُمَم والدول الْمُجَاورَة لبلاد الْإِسْلَام وَذَات العلاقات السياسية والتجارية بهَا من حَيْثُ سياستها وقوتها وَمَا يخَاف ويرجى مِنْهَا، وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لَا تقاء ضررها وَالِانْتِفَاع بهَا. . وَمن الْآثَار فِي ذَلِك قَول الْحَافِظ فِي الْكَلَام على مبايعة عُثْمَان من (الْفَتْح) : وَالَّذِي يظْهر من سيرة عمر فِي أمرائه الَّذين كَانَ يؤمرهم فِي الْبِلَاد أَنه كَانَ لَا يُرَاعِي الْأَفْضَل فِي الدّين فَقَط بل يضم إِلَيْهِ مزِيد الْمعرفَة بالسياسة مَعَ اجْتِنَاب مَا يُخَالف الشَّرْع فِيهَا فلأجل ذَلِك اسْتخْلف (أَي أمَّر) مُعَاوِيَة والمغيرة بن شُعْبَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ مَعَ وجود من هُوَ أفضل مِنْهُم فِي أَمر الدّين وَالْعلم كَأبي الدَّرْدَاء فِي الشَّام وَابْن مَسْعُود فِي الْكُوفَة. . وسيرة أبي بكر وَعمر فِي الْخلَافَة يقْتَدى بهَا وَلَا سِيمَا فِي الْأُمُور الْعَامَّة الْكُلية الَّتِي تسمى سنة بِدَلِيل اشْتِرَاط عبد الرَّحْمَن إِيَّاهَا مَعَ سنة الرَّسُول على عَليّ وَعدم تَرْجِيحه لعدم جزمه فِي الْجَواب أَو تَقْيِيده بالاستطاعة وترجيحه لعُثْمَان لجزمه بِغَيْر قيد لِأَن سنتهما نَالَتْ الاجماع وَلقَوْله ( [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ) " اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر " رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن حُذَيْفَة وصححوه، وَبَالغ فُقَهَاء

الشروط المعتبرة في الخليفة

الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة فعدوا أَعمال عمر قَوَاعِد فِي الجزئيات كالخراج ومعاملة أهل الذِّمَّة وَهِي أَعمال اجتهادية تتبع الْمصلحَة. . وَهَذَا الْعلم هُوَ الْمَادَّة لما ذكر فِي الشَّرْط الثَّالِث من الْحِكْمَة وجودة الرَّأْي. وَلم يشْتَرط قُوَّة العصبية فيهم لِأَن الْمَفْرُوض أَنهم أهل الْحل وَالْعقد الَّذين تعتمد عَلَيْهِم الْأمة فِي أمورها الْعَامَّة، وَأَن أَحْكَام الشَّرْع فِيهَا هِيَ الحاكمة والنافذة، وَأَن الْمُسلمين لَا يدينون إِلَّا بهَا، وَلَا يخضعون إِلَّا لمن ينفذها، وَأما التغلب بعصبية الْجِنْس فَلَيْسَ من هدى الْإِسْلَام فِي شَيْء، بل هُوَ خُرُوج عَن هدايته، وَحكمه فِيهِ سَيذكرُ بعد. . فَعلم مِمَّا تقدم أَن لقب أهل الْحل وَالْعقد مُرَاد بِهِ معنى المصدرين فِيهِ بِالْقُوَّةِ وبالفعل وهم الرؤساء الَّذين تتبعهم الْأمة فِي أمورها الْعَامَّة، وأهمها نصب الإِمَام الْأَعْظَم وَكَذَا عَزله إِذا ثَبت عِنْدهم وجوب ذَلِك، وَمن يملك التَّوْلِيَة يملك الْعَزْل، كَمَا تقدم بَيَانه فِي مَسْأَلَة سلطة الْأمة، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الإِمَام الَّذِي " جَار وَظهر ظلمه وغشمه وَلم يرعو لزاجر عَن سوء صَنِيعه: فلأهل الْحل وَالْعقد التواطؤ على ردعه وَلَو بِشَهْر السِّلَاح وَنصب الحروب " وَمن ظن أَن كل من يُوصف بِالْعلمِ والوجاهة تَنْعَقِد ببيعتهم الْإِمَامَة وَيجب على الْأمة اتباعهم فِيهَا فقد جهل معنى الْحل وَالْعقد وَمعنى الْجَمَاعَة وَالْإِجْمَاع، وَمَا تقدم من الْأَخْبَار والْآثَار، وَمن كَلَام الْمُحَقِّقين فِي الْمَسْأَلَة وَلَا سِيمَا شُرُوط أهل الِاخْتِيَار. . الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِي الْخَلِيفَة: قَالَ السعد: وَقد ذكر فِي كتبنَا الْفِقْهِيَّة أَنه لابد للْأمة من إِمَام يحيى الدّين وَيُقِيم السّنة وينتصف للمظلومين ويستوفي الْحُقُوق ويضعها موَاضعهَا. وَيشْتَرط أَن يكون مُكَلّفا مُسلما عدلا حرا ذكرا مُجْتَهدا شجاعا ذَا رَأْي وكفاية سميعا بَصيرًا ناطقا قرشيا. . فَإِن لم يُوجد فِي قُرَيْش من

يستجمع الصِّفَات الْمُعْتَبرَة ولى كنانى، فَإِن لم يُوجد فَرجل من ولد إِسْمَاعِيل فَإِن لم يُوجد فَرجل من الْعَجم اه. وَالْمرَاد بقوله مُجْتَهدا الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، بِالْعلمِ بأدلتها التفصيلية. . وَالتَّفْصِيل الْأَخير فِي حَال فقد القرشى للشَّافِعِيَّة وَقيل إِنَّه من فرض مَالا يَقع، وكل مَا قبله مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد أهل السّنة، إِلَّا الْحَنَفِيَّة فقد أجَاز بَعضهم تَوْلِيَة غير الْعَالم الْمُجْتَهد لِأَنَّهُ يَسْتَعِين بالمفتين الْمُجْتَهدين كالقضاء، وَقد قَالَ الشَّيْخ قَاسم بن قلطوبغا فِي حَاشِيَته على المسايرة لشيخه الْكَمَال بن الْهمام إِن الشُّرُوط الَّتِي لَا تَنْعَقِد الْخلَافَة بِدُونِهَا عِنْد الْحَنَفِيَّة هِيَ الْإِسْلَام والذكورة وَالْحريَّة وَالْعقل وأصل الشجَاعَة وَأَن يكون قرشيا. ا. هـ أَي وَمَا عدا هَذِه فشروط تَقْدِيم فِي الِاخْتِيَار لَا شُرُوط انْعِقَاد ووضح الْمَاوَرْدِيّ هَذِه الشُّرُوط بقوله: وَأما أهل الْإِمَامَة فالشروط الْمُعْتَبرَة فيهم سَبْعَة (أَحدهَا) الْعَدَالَة على شُرُوطهَا الجامعة (وَالثَّانِي) الْعلم الْمُؤَدِّي إِلَى الِاجْتِهَاد فِي النَّوَازِل وَالْأَحْكَام (وَالثَّالِث) سَلامَة الْحَواس من السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان ليَصِح مَعهَا مُبَاشرَة مَا يدْرك بهَا (وَالرَّابِع) سَلامَة الْأَعْضَاء من نقص يمْنَع من اسْتِيفَاء الْحَرَكَة وَسُرْعَة النهوض (وَالْخَامِس) الرَّأْي المفضى إِلَى سياسة الرّعية وتدبير الْمصَالح (وَالسَّادِس) الشجَاعَة والنجدة المؤدية إِلَى حماية الْبَيْضَة وَجِهَاد الْعَدو (وَالسَّابِع) النّسَب وَهُوَ أَن يكون من قُرَيْش لوُرُود النَّص فِيهِ، وانعقاد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَلَا اعْتِبَار بضرار حِين شَذَّ فجوزها فِي جَمِيع النَّاس لِأَن أَبَا بكر الصّديق (رَضِي الله عَنهُ) احْتج يَوْم السَّقِيفَة على الْأَنْصَار فِي دفعهم عَن الْخلَافَة لما بَايعُوا سعد بن عبَادَة عَلَيْهَا (أَي أَرَادوا مبايعته) بقول النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " الْأَئِمَّة من قُرَيْش " فأقلعوا عَن التفرد بهَا، وَرَجَعُوا عَن الْمُشَاركَة فِيهَا حِين قَالُوا: منا أَمِير ومنكم أَمِير، تَسْلِيمًا لروايته، وَتَصْدِيقًا لخبره، وَرَضوا بقوله: نَحن الْأُمَرَاء، وَأَنْتُم الوزراء وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " قدمُوا

قُريْشًا وَلَا تقدموها " - أَي وَلَا تتقدموها - وَلَيْسَ مَعَ هَذَا النَّص شُبْهَة لمنازع فِيهَا، وَلَا قَول لمخالف لَهُ. . أَقُول: قد تقدم الْكَلَام فِي الْعَدَالَة وَالْعلم المشترطين فِي أهل الِاخْتِيَار للخليفة وَيَأْتِي مثله هُنَا بِالْأولَى، أما الْإِجْمَاع على اشْتِرَاط القرشية فقد ثَبت بِالنَّقْلِ وَالْفِعْل، رَوَاهُ ثقاة الْمُحدثين، وَاسْتدلَّ بِهِ المتكلمون وفقهاء مَذَاهِب السّنة كلهم. وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل بِتَسْلِيم الْأَنْصَار وإذعانهم لنَبِيّ قُرَيْش ثمَّ إذعان السوَاد الْأَعْظَم من الْأمة عدَّة قُرُون حَتَّى إِن التّرْك الَّذين تغلبُوا على العباسيين وسلبوهم السلطة بِالْفِعْلِ لم يتجرأ أحد مِنْهُم على ادِّعَاء الْخلَافَة وَلَا التصدي لانتحالها حَتَّى بالتغلب الَّذِي يجِئ الْكَلَام فِيهِ بعد، وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْأمة كلهَا مجمعة على مَا ذكر، معتقدة لَهُ دينا، بل كَانَ الْمُلُوك والسلاطين المتغلبون يستمدون السلطة مِنْهُم، أَو كَانُوا يدعونَ النِّيَابَة عَنْهُم. . وَأما الْأَحَادِيث فِي ذَلِك فكثيرة مستفيضة فِي جَمِيع كتب السّنة، وَقد أخرجوها فِي كتب الْأَحْكَام وأبواب الْخلَافَة أَو الْإِمَارَة والمناقب وَغَيرهَا، وَلم يَقع خلاف فِي مَضْمُون مجموعها بَين أهل السّنة من عرب وَلَا عجم، وَلم يتصد أحد من عُلَمَاء التّرْك لتأويلها، وَقد طبع بعض الْكتب المثبتة لَهَا فِي الآستانة بِإِذن نظارة المعارف حَتَّى فِي زمن السُّلْطَان عبد الحميد الَّذِي لم يهتم بلقب الْخَلِيفَة أحد مثله، وَمِنْهَا شرح الْمَقَاصِد الَّذِي نقلنا عَنهُ هُنَا مَا نقلنا، وَكَذَا المواقف مَعَ شَرحه وحواشيه. . وَحَدِيث " قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها " الَّذِي ذكره الْمَاوَرْدِيّ رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة بلاغا وَابْن عدي فِي الْكَامِل من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَالْبَزَّار فِي مُسْنده من حَدِيث عَليّ كرم الله وَجهه وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب بأسانيد صَحِيحَة. . وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع فِي الصَّحِيحَيْنِ " النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الشَّأْن " وَلَا نُرِيد ذكر بَقِيَّة الْأَحَادِيث وَإِنَّمَا خرجنَا الحَدِيث الَّذِي اعْتَمدهُ الْمَاوَرْدِيّ وَذكرنَا مَا يقرب مِنْهُ فِي لَفظه لِأَنَّهُ لم يُخرجهُ وحسبنا من قُوَّة حَدِيث " الْأَئِمَّة من قُرَيْش " من حَيْثُ الرِّوَايَة قَول الْحَافِظ بن حجر فِي فتح الْبَارِي عِنْد ذكره فِي المناقب من صَحِيح البُخَارِيّ مَا نَصه: قد جمعت طرقه عَن نَحْو أَرْبَعِينَ صحابيا لما بَلغنِي أَن بعض فضلاء الْعَصْر ذكر أَنه لم يرو إِلَّا عَن أبي بكر الصّديق. . وَذكر الْحَافِظ أَن لفظ

أبي بكر لسعد بن عبَادَة فِي السَّقِيفَة فِي مُسْند أَحْمد: وَالله لقد علمت يَا سعد أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ وَأَنت قَاعد " قُرَيْش وُلَاة هَذَا الْأَمر " فَقَالَ لَهُ سعد: صدقت. فَمن علم هَذَا لَا يلْتَفت إِلَى مَا يذكرهُ بعض أهل هَذَا الْعَصْر من تَأْوِيل تِلْكَ الْأَحَادِيث والبحث فِي أَسَانِيد بَعْضهَا، أَو من أَن شَرط القرشية من الشُّرُوط الخلافية وَإِن قَالَ هَذَا بعض كبار الْمُتَكَلِّمين فَإِن هَؤُلَاءِ يذكرُونَ أَمْثَال هَذِه الخلافات الشاذة عَن بعض المبتدعة لأجل الرَّد عَلَيْهَا، لَا لِأَنَّهَا كالخلاف بَين أَئِمَّة الْحق من الْمسَائِل الاجتهادية، وغرض من يُمَارِي أَو يكتم شَرط القرشية فِي هَذَا الْعَصْر تَصْحِيح خلَافَة سلاطين بني عُثْمَان، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَيْهِ عندأهل السّنة المشترطين للقرشية بِإِجْمَاع مذاهبهم إِلَّا بقاعدة التغلب، وَأما عِنْد الْخَوَارِج فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، لأَنهم إِنَّمَا أَنْكَرُوا شَرط القرشية منعا لحصر الْإِمَامَة فِي بَيت معِين. . وماذا يضر العثمانيين أَن تكون خلافتهم بالتغلب وَقد قَالَ بعض الْفُقَهَاء فِي بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس كلهم أَو جلهم مثل ذَلِك. . وَأما حِكْمَة حصر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْخلَافَة الشَّرْعِيَّة فيهم أَو سَببه فقد ذكر المتكلمون وَالْفُقَهَاء فِيهِ مَا روى من قَول أبي بكر الصّديق. . للْأَنْصَار فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة: من أَنهم أَوسط الْعَرَب نسبا ودارا، وأعزهم أحسابا. . وَزَاد بَعضهم مَا كَانَ الصّديق فِي غنى عَنهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَأجْمع كَلَام لَهُم فِي هَذَا مَا ذكره الشَّيْخ أَحْمد ولى الله الدهاوي فِي كِتَابه (حجَّة الله الْبَالِغَة) وَفِي بعضه نظر قَالَ: " وَالسَّبَب المفضى لهَذَا أَن الْحق الَّذِي أظهره الله على لِسَان نبيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا جَاءَ بِلِسَان قُرَيْش وَفِي عاداتهم، وَكَانَ أَكثر ماتعين من الْمَقَادِير وَالْحُدُود مَا هُوَ عِنْدهم، وَكَانَ الْمعد لكثير من الْأَحْكَام مَا هُوَ فيهم، فهم أقوم بِهِ، وَأكْثر النَّاس تمسكا بذلك وَأَيْضًا فَإِن قُريْشًا قوم النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَحزبه وَلَا فَخر لَهُم إِلَّا بعلو دين مُحَمَّد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَقد اجْتمع فيهم حمية دينية، وحيمة نسبية، فَكَانُوا مَظَنَّة الْقيام بالشرائع والتمسك بهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يجب أَن يكون الْخَلِيفَة مِمَّن لَا يستنكف النَّاس من طَاعَته لجلالة نسبه

وحسبه، فَإِن من لانسب لَهُ يرَاهُ النَّاس حَقِيرًا ذليلا، وَأَن يكون مِمَّن عرف مِنْهُم الرئاسات والشرف، ومارس قومه جمع الرِّجَال وَنصب الْقِتَال، وَأَن يكون قومه أقوياء يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الْأَنْفس، وَلم تَجْتَمِع هَذِه الْأُمُور إِلَّا فِي قُرَيْش، ولاسيما بعد مابعث النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَنبهَ بِهِ أَمر قُرَيْش، وَقد أَشَارَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِلَى ذَلِك فَقَالَ: " وَلنْ يعرف هَذَا الْأَمر إِلَّا لقريش هم أَوسط الْعَرَب دَارا ... الخ ". " وَإِنَّمَا لم يشْتَرط كَونه هاشميا مثلا لوَجْهَيْنِ (أَحدهمَا) أَلا يَقع النَّاس فِي الشَّك فيقولوا إِنَّمَا أَرَادَ ملك أهل بَيته كَسَائِر الْمُلُوك فَيكون سَببا للارتداد، ولهذه الْعلَّة لم يُعْط النَّبِي الْمِفْتَاح (أَي مِفْتَاح الْكَعْبَة) للْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ (وَالثَّانِي) أَن المهم فِي الْخلَافَة رِضَاء النَّاس بِهِ واجتماعهم عَلَيْهِ وتوقيرهم إِيَّاه وَأَن يُقيم الْحُدُود ويناضل دون الْملَّة وَينفذ الْأَحْكَام، واجتماع هَذِه الْأُمُور لَا يكون إِلَّا فِي وَاحِد بعد وَاحِد، وَفِي اشْتِرَاط أَن يكون من قَبيلَة خَاصَّة تضييق، وحرج فَرُبمَا لم يكن فِي هَذِه الْقَبِيلَة من تَجْتَمِع فِيهِ الشُّرُوط وَكَانَ فِي غَيرهَا ". وَأَقُول: إِن الله تَعَالَى ختم دينه وأتمه وأكمله بكتابه الْحَكِيم الَّذِي أنزلهُ {قُرْآنًا عَرَبيا} و {حكما عَرَبيا} على خَاتم رسله الْعَرَبِيّ الْقرشِي، واقتضت حكمته أَن يكون نشره فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا بدعوة قُرَيْش وزعامتهم، وَقُوَّة الْعَرَب وحماية هَذِه الدعْوَة بسيوفهم، وكل من دخل فِي الْإِسْلَام من الأعجام وَكَانَ لَهُ عمل صَالح فِيهِ كَانَ تَابعا لَهُم متلقيا عَنْهُم، على مُسَاوَاة الشَّرْع فِي أَحْكَامه بَينهم، ونبوغ كثير من مواليهم الَّذين استعربوا بالتبع لَهُم، وَكَانَت قُرَيْش فِي جملَة بطونها أكمل الْعَرَب خلقا وأخلاقا وفصاحة وذكاء وفهما وَقُوَّة عارضة، كَمَا كَانَت أصرح نسبا فِي سلالة إِسْمَاعِيل وأشرف تَارِيخا فِي الْعَرَب بفضائلها وفواضلها وَخدمتهَا لبيت الله تَعَالَى، فَكَانَ مَجْمُوع هَذِه المزايا الَّتِي كملت بِالْإِسْلَامِ مؤهلا لَهَا لِاجْتِمَاع كلمة الْعَرَب عَلَيْهَا، ثمَّ كلمة من يدْخل فِي الْإِسْلَام من شعوب الْعَجم بِالْأولَى، وَلَا سِيمَا بعد النَّص من الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بذلك وَإِجْمَاع أصحابة

عَلَيْهِ، فحكمة جعله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ خلَافَة نبوته فِيهَا وَسَببه أَمْرَانِ (الأول) كَثْرَة المزايا الَّتِي تَنْتَشِر بهَا الدعْوَة، وَتَكون بِسَبَب طباع الْبشر سَببا لجمع الْكَلِمَة، وَمنع الْمُعَارضَة والمزاحمة أَو ضعفها، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِن النَّاس أذعنوا لَهُم على تنازعهم وَكَثْرَة من لم يقم بأعباء الْخلَافَة مِنْهُم وَلَا أَخذهَا بِحَقِّهَا فَلم يَكُونُوا يَبْتَغُونَ بديلا من فَرد أَو بَيت مِنْهُم، إِلَّا إِلَى آخر مِنْهُم، وَكَانَ افتئات بعض الْأَعَاجِم على بعض العباسيين فسقا على الشَّرْع واعتداء على الْحُقُوق الْعَامَّة كَسَائِر أَنْوَاع الاعتداء على الْأَمْوَال والأعراض (وَالثَّانِي) أَن تكون إِقَامَة الْإِسْلَام متسلسلة فِي سلائل أول من تلقاها ودعا إِلَيْهَا ونشرها حَتَّى لَا يَنْقَطِع اتِّصَال سَيرهَا الْمَعْنَوِيّ والتاريخي، فَإِن الْحُقُوق الْخَاصَّة من الْملَل والأمم وليدة التَّارِيخ وربيبته. ألم تروا أَن سيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين تعد هِيَ الْمثل الْأَعْلَى لأحكام الْكتاب وَالسّنة النَّبَوِيَّة وهديهما، وَأَن سيرة الْخُلَفَاء الْمَدَنِيين من الأمويين والعباسيين الَّذين نشرُوا الْفُنُون والعلوم ورقوا الحضارة فِي الشرق والغرب تعد أصل المَدنِيَّة الإسلامية وسندها؟ أَو لم تروا أَن صلَة الْعَالم الإسلامي بمهد الْإِسْلَام الموضعي (الْحجاز) تعد فِي الدرجَة الثَّانِيَة لصلته بكتابه وسنته، حَتَّى إِن الْخَلِيفَة الَّذِي نصبته الدولة التركية الجديدة فِي الآستانة، قد لقب نَفسه بخادم الْحَرَمَيْنِ الشريفين كالسلاطين الَّذين كَانَ الْحجاز خاضعا لَهُم؟ ألم تعلمُوا أَن الْإِسْلَام على حُرِّيَّته وسماحته قد خص الْحجاز أَو جَزِيرَة الْعَرَب بألا يبْقى فِيهَا دينان وَأوصى بذلك النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي آخر حَيَاته؟ ألم يبلغكم أَن بعض المؤرخين من غير الْمُسلمين قَالَ: لَو أَن الْجَيْش الَّذِي فتح جنوب فرنسا بعد فتح الأندلس كَانَ كُله أَو أَكْثَره عَرَبيا لملك أوربا كلهَا ودان لَهُ أَهلهَا، وَإِنَّمَا انْتقض الإفرنج عَلَيْهِ لِأَن أَكْثَره كَانَ من البربر الَّذين لم يفهموا الْإِسْلَام وَلم يلتزموا أَحْكَامه فِي حفظ العهود وَالْعدْل وَعدم الاعتداء على الْأَمْوَال والأعراض كالعرب، أَفَرَأَيْتُم لَو جعل الْإِسْلَام خلَافَة النُّبُوَّة مشَاعا وتغلب عَلَيْهَا الْعَجم من الْقُرُون الأولى أَكَانَ يحفظ الْإِسْلَام ولغته كَمَا حفظ بنشر خلفاء قُرَيْش لَهُ من برهم وفاجرهم؟ وَهَذَا بحث يَتَّسِع المجال لشرحه وَلَكِن فِي غير هَذَا الْمقَال الَّذِي نُرِيد أَن يكون بِقدر الْحَاجة الطارئة.

وَقد أورد بعض فضلاء الْعَصْر شُبْهَة على جعل الْخلَافَة فِي قُرَيْش بِأَنَّهَا تعَارض مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَام من الْمُسَاوَاة وَمن نزع العصبية وتسييد طَائِفَة مُعينَة على سَائِر الْمُسلمين بل جعلهَا كالشبهة الَّتِي أوردهَا بعض الْعلمَاء على الشِّيعَة الَّذين يحصرونها فِي العلويين من أَنَّهَا تفتح بَاب الطعْن فِي الْإِسْلَام لغير الْمُؤمنِينَ بزعمهم أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِنَّمَا أسس ملكا لأهل بَيته، وكل ذَلِك ظَاهر الْبطلَان، كَمَا بَيناهُ فِي مَوضِع آخر من الْمنَار. فَإِن قُريْشًا بطُون كَثِيرَة مُتَفَرِّقَة وَكَانَ بَينهَا من التعادي فِي الْجَاهِلِيَّة مَا بَين غَيرهَا من قبائل الْعَرَب وبطونها وَمِنْه عَدَاوَة بني عبد شمس لبني هَاشم الَّتِي خفيت بعد فتح النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لمَكَّة وتأليفه لأبي سُفْيَان كَبِير بني أُميَّة وَفِي خلَافَة أبي بكر وَعمر، وَبَدَأَ الاستعداد لإظهارها فِي خلَافَة عُثْمَان وأظهرها مُعَاوِيَة بعده. وَلم يَتَجَدَّد لقريش شَأْن فِي زمن الرَّاشِدين لم يكن لَهَا وَلَا فِي زمن الأمويين والعباسيين، إِلَّا أَن الأمويين كَانَت عِنْدهم عصبية لأهل بَيتهمْ ثمَّ للعربية فمقتهم الْعَالم الإسلامي وقلبهم قبل أَن يستكمل ملكهم قرنا وَاحِدًا. وَلم يكن لبني تَمِيم فِي خلَافَة أبي بكر وَلَا لبني عدي فِي خلَافَة عمر أدنى امتياز على أحد من أقرانهم، ونزوان بني أُميَّة على مصَالح الْأمة فِي زمَان عُثْمَان كَانَ بِسَبَب ضعفه، بنعرة عصبية مِنْهُ، وَلم يغْفر لَهُ الرَّأْي الإسلامي الْعَام هَذَا بل هاج النَّاس عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ ذَلِك تمهيداً لتمكن أَصْحَاب الدسائس الْخفية فِي الْإِسْلَام من قَتله، أعنى دسائس حزب عبد الله بن سبأ الْيَهُودِيّ. . وَالْمَجُوس مثيري الْفِتَن فِي الْإِسْلَام. وَقد روى أَن الإِمَام الْعَادِل الْعَاقِل عمر حذر عُثْمَان وعلياً وَعبد الرَّحْمَن من مثل هَذَا الإيثار للأقارب الْمنَافِي لهدى الْإِسْلَام والمفضي إِلَى فَسَاد الْأَمر. . فَقَالَ لَهُم لما جعل الْأَمر من السِّتَّة: إِن النَّاس لن يعدوكم أَيهَا الثَّلَاثَة، فَإِن كنت يَا عُثْمَان فِي شَيْء من أَمر النَّاس فَاتق الله وَلَا تحملن بني أُميَّة وَبني أبي معيط على رِقَاب النَّاس، وَإِن كنت يَا عَليّ فَاتق الله وَلَا تحملن بني هَاشم على رِقَاب النَّاس، وَقَالَ لعبد الرَّحْمَن مثل ذَلِك. . ذكره الْحَافِظ فِي شرح البُخَارِيّ، وَقَوله إِن النَّاس لن يعدوكم مبْنى على الْقَاعِدَة الَّتِي قررناها وَهِي أَن أَمر الْخلَافَة للْأمة لَا للستة الزعماء الَّذين أَرَادَ عمر جمع كلمة الْأمة بِجمع كلمتهم، لعلو مكانتهم فِيهَا بمناقبهم، على أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قد أوعد قُريْشًا فِي بعض الْأَحَادِيث بانتقام الله مِنْهُم إِذا لم يقيموا الْحق وَالْعدْل وَالرَّحْمَة كَمَا

صيغة المبايعة

شرعها، وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك مُتعَدِّدَة مِنْهَا قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " يَا معشر قُرَيْش إِنَّكُم أهل هَذَا الْأَمر مالم تحدثُوا فَإِذا غيرتم بعث الله عَلَيْكُم من يلحاكم كَمَا يلحى الْقَضِيب " رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو يعلى عَن ابْن مَسْعُود بِسَنَد رِجَاله ثِقَات وَله طَرِيق آخر بِلَفْظ آخر وشواهد وَمِنْهَا " الْأُمَرَاء من قُرَيْش مَا عمِلُوا فِيكُم بِثَلَاث - مَا رحموا إِذا استرحموا، واقسطوا إِذا قسموا، وَعدلُوا إِذا حكمُوا " رَوَاهُ الْحَاكِم عَن أنس بِسَنَد حسن. . هَذَا وَإِن العباسيين لم يحملوا بني هَاشم على رِقَاب النَّاس بل كَانُوا أَشد من بني أُميَّة وَطْأَة على العلويين الَّذين هم خيارهم وفضلوا الْفرس ثمَّ التّرْك على الْعَرَب، وَأما العلويون فَكَانُوا أزهد النَّاس فِي الدُّنْيَا وملكها، وَلَوْلَا ذَلِك لسعوا لَهَا سعيها، وَمن صَحَّ مِنْهُ الْهوى أرشد للحيل، وَلم يتول أحد مِنْهُم الْإِمَامَة بعد أَن نزل عَنْهَا الإِمَام الْحسن السبط عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا أَئِمَّة الزيدية فِي الْيمن فَكَانُوا وَمَا زَالُوا أفضل وَأَعْدل أهل بَيت تولوها بعد الرَّاشِدين. . وَأما أدارسة الْمغرب فيلقبون بالسلاطين وَأما العبيديون فَكَانُوا أدعياء فِي النّسَب وَفِي الْإِسْلَام أَيْضا. . وَجُمْلَة القَوْل أَن الشعوبية أوردوا شُبُهَات كَثِيرَة على الْعَرَب وعَلى قُرَيْش وَأجَاب عَنْهَا الْعلمَاء كَابْن قُتَيْبَة وَغَيره، وَلكُل قوم محامد ومساوئ وَدين الله فَوق كل شَيْء وَمَا صَحَّ دَلِيله وأجمعت عَلَيْهِ الْأمة أَو سوادها الْأَعْظَم فِي خير الْقُرُون لَا نقبل رَأيا وَلَا بحثا فِي نقضه، وَإِلَّا لم يبْق لنا شَيْء من ديننَا، وَمَا كَانَت أهواء العصبية والمحاباة فِي الدّين إِلَّا فتْنَة لنا، وضارة بعربنا وعجمنا، وَإِن جهل ذَلِك الكثيرون منا، وَإِن حِكْمَة الشَّارِع [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي جعل خلَافَة نبوته فِي قُرَيْش منزهة عَن العصبية الْجَاهِلِيَّة الَّتِي حرمهَا، ولبابها مَكَان قُرَيْش من هَذَا الدّين وَكتابه وَنبيه ولغته وَأَهْلهَا. . إِذْ لم تقم لَهُ قَائِمَة إِلَّا بدعوتهم ولغتهم، ثمَّ لم يَخْدمه أحد من الْأَعَاجِم إِلَّا من أتقنها، فخدمه أَولا من استعرب من الْفرس وَغَيرهم، ثمَّ جدد قُوَّة دولته العثمانيون من التّرْك، بعد أَن مزق شَمله وأضعفه سلفهم، وسنبين بعد مَا يجب لَهُ علينا وَعَلَيْهِم. . صِيغَة الْمُبَايعَة: الْإِمَامَة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الْحل وَالْعقد لمن اختاروه إِمَامًا للْأمة بعد التشاور بَينهم، وَالْأَصْل فِي الْبيعَة أَن تكون على الْكتاب وَالسّنة وَإِقَامَة الْحق وَالْعدْل من قبله وعَلى السّمع وَالطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف من قبلهم. فَفِي الصَّحِيح أَن عبد الرَّحْمَن

ابْن عَوْف قَالَ فِي مبايعته لعُثْمَان: أُبَايِعك على سنة الله وَرَسُوله والخليفتين من بعده، وَبَايَعَهُ النَّاس على ذَلِك. وَإِن النَّاس لما اجْتَمعُوا على عبد الْملك بن مَرْوَان بعد قتل عبد الله بن الزبير بَايعه عبد الله بن عمر (رَضِي الله عَنهُ) بعد أَن امْتنع عَن مبايعتهما مَعًا لأجل الْخلاف والتفرقة. فَكتب إِلَيْهِ: إِنِّي أقرّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة لعبد الله عبد الْملك أَمِير الْمُؤمنِينَ على سنة الله وَرَسُوله فِيمَا اسْتَطَعْت، وَإِن بَنِى ّ قد أقرُّوا بذلك. وَكَانَ الصَّحَابَة يبايعون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على السّمع وَالطَّاعَة فِي المنشط وَالْمكْره وَقَول الْحق وَالْقِيَام بِهِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا وَعدم عصيانه فِي الْمَعْرُوف، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مبايعة النِّسَاء لَهُ (وَلَا يعصِينك فِي مَعْرُوف) وَقد صَحَّ أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] هُوَ الَّذِي كَانَ يلقنهم قيد الِاسْتِطَاعَة عِنْد الْمُبَايعَة وَقد بَايعُوهُ أَيْضا على الْإِسْلَام وعَلى الْهِجْرَة وعَلى الْجِهَاد وَالصَّبْر وَعدم الْفِرَار من الْقِتَال وعَلى بيعَة النِّسَاء المنصوصة فِي الْقُرْآن. وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا مَعْرُوفَة فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن. نخص بِالذكر مِنْهَا حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت الْمُتَّفق عَلَيْهِ وَلَفظه كَمَا فِي كتاب الْفِتَن من البُخَارِيّ: دَعَانَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَبَايعْنَا فَقَالَ فِيمَا أَخذ علينا أَن بَايعنَا على السّمع وَالطَّاعَة فِي منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وَألا ننازع الْأَمر أَهله " إِلَّا أَن تروا كفرا بواحا عنْدكُمْ من الله فِيهِ برهَان " وَلَفظه فِي بَاب الْمُبَايعَة من كتاب الْأَحْكَام " بَايعنَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على السّمع وَالطَّاعَة فِي المنشط وَالْمكْره وَألا ننازع الْأَمر أَهله، وَأَن نقوم وَأَن نقُول بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَاف فِي الله لومة لائم " قَالَ الْحَافِظ فِي شرح حَدِيث البُخَارِيّ فِي الْمُبَايعَة على السّمع وَالطَّاعَة الَّذِي تقدم فِي الأَصْل عِنْد قَوْله فِيهِ من كتاب الْفِتَن " وَألا ننازع الْأَمر أَهله " أَي الْملك والإمارة. . وَجُمْلَة القَوْل أَن الْعلمَاء اتَّفقُوا على وجوب الْخُرُوج على الإِمَام بالْكفْر وَاخْتلفُوا فِي الظُّلم وَالْفِسْق لتعارض الْأَدِلَّة وَمِنْهَا سد ذَرِيعَة الْفِتْنَة وَالتَّحْقِيق الْمُخْتَار أَن على الْأَفْرَاد الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بشروطهما دون الْخُرُوج على ولي الْأَمر بِالْقُوَّةِ، وَأما أهل الْحل وَالْعقد فَيجب عَلَيْهِم مَا يرَوْنَ فِيهِ الْمصلحَة الراجحة حَتَّى الْقِتَال وَقد تقدم النَّقْل فِي هَذَا فِي مَسْأَلَة سلطة الْأمة وسنعود إِلَيْهِ فِي بحث مَا يخرج بِهِ الإِمَام عَن الْخلَافَة. .

ما يجب على الأمة بالمبايعة

مَا يجب على الْأمة بالمبايعة: وَمَتى تمت الْمُبَايعَة وَجب بهَا على الْمُبَايِعين وَسَائِر الْأمة بالتبع لَهُم الطَّاعَة للْإِمَام فِي غير مَعْصِيّة الله والنصرة لَهُ، وقتال من بغى عَلَيْهِ أَو استبد بِالْأَمر دونه، وَسَيَأْتِي الْكَلَام على دَار الْعدْل وَالْجَمَاعَة، وَمَا يتَعَلَّق بهَا كَحكم الْهِجْرَة. . وأهم مَا يجب التَّذْكِير بِهِ من طَاعَة الإِمَام الْحق على كل مُسلم وَكَذَا إِمَام الضَّرُورَة أَو التغلب على كل من بَايعه بِالذَّاتِ وَمن لَزِمته بيعَة أهل الْحل وَالْعقد - أَدَاء زَكَاة المَال والأنعام وَالزَّرْع وَالتِّجَارَة - وَالْجهَاد الْوَاجِب وجوبا كفائيا على مَجْمُوع الْأمة وَالْوَاجِب وجوبا عينيا على أفرادها رجَالًا وَنسَاء على مَا هُوَ مُبين فِي كتب الْفِقْه، كَمَا يجب عَلَيْهِم طَاعَة من ولاهم أَمر الْبِلَاد من الْوُلَاة السياسيين والقضاة وقواد الجيوش دون غَيرهم، وَيجب على هَؤُلَاءِ الخضوع لَهُ فِيمَا يُقيد بِهِ سلطتهم وَفِي عَزله إيَّاهُم إِذا عزلهم، وَالشّرط الْعَام فِي الطَّاعَة أَلا تكون فِي مَعْصِيّة لله تَعَالَى وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي هَذَا مَعْرُوفَة وَمجمع على مَعْنَاهَا. . وَمن الْأَخْبَار والْآثَار الَّتِي يحسن إيرادها هُنَا مَا رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد رب الْكَعْبَة قَالَ: دخلت الْمَسْجِد فَإِذا عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ جَالس فِي ظلّ الْكَعْبَة وَالنَّاس مجتمعون عَلَيْهِم فأتيتهم فَجَلَست إِلَيْهِ فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه وَمنا من ينتضل وَمنا من هُوَ فِي جشره إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " الصَّلَاة جَامِعَة " فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَقَالَ: " إِنَّه لم يكن نَبِي قبلي إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَيْهِ أَن يدل أمته على خير مَا يُعلمهُ لَهُم وَيُنْذرهُمْ شَرّ مَا يُعلمهُ لَهُم، وَإِن أمتكُم هَذِه جعل عَافِيَتهَا فِي أَولهَا، وسيصيب آخرهَا بلَاء وَأُمُور تنكرونها، وتجئ فتْنَة فيرقق بَعْضهَا بَعْضًا وتجئ الْفِتْنَة فَيَقُول الْمُؤمن هَذِه مهلكتي ثمَّ تنكشف وتجئ الْفِتْنَة فَيَقُول الْمُؤمن هَذِه هَذِه، فَمن أحب أَن يزحزح عَن النَّار وَيدخل الْجنَّة فلتأته منيته وَهُوَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وليأت إِلَى النَّاس الَّذِي يجب أَن يُؤْتى إِلَيْهِ. . وَمن بَايع إِمَامًا فَأعْطَاهُ صَفْقَة يدة، وَثَمَرَة

ما يجب على الإمام للملة والأمة

قلبه. . فليطعه إِن اسْتَطَاعَ فَإِن جَاءَ آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " فدنوت مِنْهُ فَقلت لَهُ: أنْشدك الله آنت سَمِعت هَذَا من رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ؟ فَأَهوى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلبه بيدَيْهِ وَقَالَ سمعته أذناي ووعاه قلبِي، فَقلت لَهُ هَذَا ابْن عمك مُعَاوِيَة يَأْمُرنَا أَن نَأْكُل أَمْوَالنَا بَيْننَا بِالْبَاطِلِ ونقتل أَنْفُسنَا وَالله يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما} قَالَ فَسكت سَاعَة ثمَّ قَالَ: أطعه فِي طَاعَة الله وأعصه فِي مَعْصِيّة الله. . وَقد أعز الله الْبشر بِالْإِسْلَامِ، وَمُقْتَضى الْكتاب وَالسّنة أَنه لَا طَاعَة وَلَا خضوع فِيهِ إِلَّا لله تَعَالَى، وَطَاعَة الرَّسُول من طَاعَته لقَوْله: {من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله} وَطَاعَة أولى الْأَمر كَذَلِك لقَوْله: {وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَلذَلِك اشْترط فِيهَا أَن تكون فِي تَنْفِيذ أصُول شَرعه أَو فروعه. . وَقد قَالَ بعض أُمَرَاء بني أُميَّة لبَعض عُلَمَاء التَّابِعين: أَلَيْسَ الله قد أَمركُم بِأَن تطيعونا فِي قَوْله: {وأولي الْأَمر مِنْكُم} ؟ فَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ قد نزعت عَنْكُم - يَعْنِي الطَّاعَة - إِذْ خالفتم الْحق بقوله: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} ؟ نَقله الْحَافِظ فِي الْفَتْح: قَالَ وَمن بديع الْجَواب وَذكره. . على أَن أولى الْأَمر هُنَا الْجَمَاعَة أَي الْأمة كَمَا تقدم. . مَا يجب على الإِمَام للملة وَالْأمة: يجب على الإِمَام نشر دَعْوَة الْحق، وَإِقَامَة ميزَان الْعدْل، وحماية الدّين من الاعتداء والبدع، والمشاورة فِي كل مَا لَيْسَ فِيهِ نَص، وَهُوَ مسئول عَن عمله يُرَاجِعهُ كل أحد من الْأمة فِيمَا يرَاهُ أَخطَأ فِيهِ، يحاسبه عَلَيْهِ أهل الْحل وَالْعقد، وَقد قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " الإِمَام الَّذِي على النَّاس رَاع وَهُوَ مسئول عَن رَعيته " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث لِابْنِ عمر وَغَيرهمَا. . وَقد بَين الْمَاوَرْدِيّ مَا يجب عَلَيْهِ فِي متأخرها أَشد مِمَّا قبله، فيعد الْمُتَقَدّم رَقِيقا بِالْإِضَافَة إِلَى مَا بعده. . عشر قَوَاعِد كُلية لم يذكر مِنْهَا مَسْأَلَة الْمُشَاورَة، على كَثْرَة النُّصُوص فِيهَا، واستفاضة آثَار الرَّاشِدين فِي الجري عَلَيْهَا، اتبَاعا لما صَحَّ من عمل النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بهَا، قَالَ: " وَالَّذِي يلْزمه من الْأُمُور الْعَامَّة عشر أَشْيَاء:

أَحدهَا حفظ الدّين على أُصُوله المستقرة، وَمَا أجمع عَلَيْهِ سلف الْأمة، فَإِن نجم مُبْتَدع أوزاغ ذُو شُبْهَة عَنهُ، أوضح لَهُ الْحجَّة وَبَين لَهُ الصَّوَاب، وَأَخذه بِمَا يلْزمه من الْحُقُوق وَالْحُدُود، ليَكُون الدّين محروسا من خلل، وَالْأمة مَمْنُوعَة من زلل (وَالثَّانِي) تَنْفِيذ الْأَحْكَام بَين المتشاجرين، وَقطع الْخِصَام بَين المتنازعين حَتَّى تعم النصفة فَلَا يتَعَدَّى ظَالِم، وَلَا يضعف مظلوم (الثَّالِث) حماية الْبَيْضَة والذب عَن الْحَرِيم، ليتصرف النَّاس فِي المعايش وينتشروا فِي الْأَسْفَار، آمِنين من تغرير بِنَفس أَو مَال (وَالرَّابِع) إِقَامَة الْحُدُود لتصان محارم الله تَعَالَى عَن الانتهاك، وَتحفظ حُقُوق عباده من إِتْلَاف واستهلاك (وَالْخَامِس) تحصين الثغور بالعدة الْمَانِعَة، وَالْقُوَّة الدافعة، حَتَّى لَا يظْهر الْأَعْدَاء بغرة ينتهكون فِيهَا محرما، أَو يسفكون فِيهَا لمُسلم أَو معاهد دَمًا (وَالسَّادِس) جِهَاد من عاند الْإِسْلَام بعد الدعْوَة، حَتَّى يسلم أَو يدْخل فِي الذِّمَّة، ليقام بِحَق الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره على الدّين كُله (وَالسَّابِع) جباية الفئ وَالصَّدقَات على مَا أوجبه الشَّرْع نصا واجتهادا من غير خوف وَلَا عسف (وَالثَّامِن) تَقْدِير العطايا وَمَا يسْتَحق فِي بَيت المَال من غير سرف وَلَا تقتير، وَدفعه فِي وَقت لَا تَقْدِيم فِيهِ وَلَا تَأْخِير (التَّاسِع) استكفاء الْأُمَنَاء، وتقليد النصحاء، فِيمَا يفوضه إِلَيْهِم من الْأَعْمَال، ويكله إِلَيْهِم من الْأَمْوَال، لتَكون الْأَعْمَال بالكفاءة مضبوطة، وَالْأَمْوَال بالأمناء مَحْفُوظَة، (الْعَاشِر) أَن يُبَاشر بِنَفسِهِ مشارفة الْأُمُور وتصفح الْأَحْوَال لينهض بسياسة الْأمة، وحراسة الْملَّة، وَلَا يعول على التَّفْوِيض تشاغلا بلذة أَو عبَادَة، فقد يخون الْأمين ويغش الناصح، وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله} فَلم يقْتَصر الله سُبْحَانَهُ على التَّفْوِيض دون الْمُبَاشرَة، وَلَا عذره فِي اتِّبَاع الْهوى حَتَّى وَصفه بالضلال. . وَهَذَا وَإِن كَانَ مُسْتَحقّا عَلَيْهِ بِحكم الدّين ومنصب الْخلَافَة فَهُوَ من حُقُوق السياسة لكل مسترع. . قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام " كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته " وَلَقَد أصَاب الشَّاعِر فِيمَا وصف بِهِ الزعمي الْمُدبر حَيْثُ يَقُول: (الْبَسِيط)

(وقلدوا أَمركُم لله دركم ... رحب الذِّرَاع بِأَمْر الْحَرْب مضطلعا) (لَا مترفا إِن رخاء الْعَيْش ساعده ... وَلَا إِذا عض مَكْرُوه بِهِ خشعا) (وَلَيْسَ يشْغلهُ مَال يثمره ... عَنْكُم وَلَا ولد يَبْغِي لَهُ الرفعا) (مَا زَالَ يحلب در الدَّهْر أشطره ... يكون متّبعا يَوْمًا ومتَبَعا) (حَتَّى اسْتمرّ على شزر مريرته ... مستحكم الرَّأْي لافخما وَلَا ضرعا) (أَقُول) عِبَارَته فِي الْوَاجِب الأول فِي مُنْتَهى التَّحْقِيق، وَهُوَ الْمُحَافظَة على مَا أجمع عَلَيْهِ السّلف الصَّالح من الدّين وَإِطْلَاق الْحُرِّيَّة للْأمة فِيمَا سواهُ من الْمسَائِل الاجتهادية من حَيْثُ الْعلم وَعمل الْأَفْرَاد فِي الْعِبَادَات، وَأما مَا يتَعَلَّق بالسياسة وَالْقَضَاء المنوط بالحكومة فَلهُ أَن يرجح بعض الْأَحْكَام الاجتهادية على بعض، باستشارة الْعلمَاء من أهل الْحل وَالْعقد، وَلَا سِيمَا إِذا لم يكن هُوَ من أهل الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع، وَلَقَد كَانَ أَئِمَّة الدّين يطيعون الْخُلَفَاء فِيمَا يُخَالف اجتهادهم من أُمُور الْحُكُومَة إِذا لم يُخَالف النَّص الْقطعِي من الْكتاب وَالسّنة وَلَكنهُمْ لم يطيعوهم فِي القَوْل بِخلق الْقُرْآن لِأَنَّهُ من أُمُور العقائد الَّتِي خالفوا فِيهَا السّلف. . وَالْجهَاد الَّذِي ذكره فِي الْوَاجِب السَّادِس أَرَادَ بِهِ الْقِتَال الْعَيْنِيّ والكفائي وَإِنَّمَا يجب على كل مُكَلّف إِذا استولى الْعَدو على بعض بِلَاد الْمُسلمين وَتوقف دَفعه على ذَلِك وَإِلَّا اكْتفى بِمن يستنفرهم الإِمَام بِحَسب الْحَاجة، وَالْجهَاد قد يكون بِالْمَالِ وَاللِّسَان وَمِنْه الدعْوَة إِلَى الْإِسْلَام بالبرهان. وَتجب طَاعَة الإِمَام فِي التَّعْلِيم العسكري بنظام الْقرعَة وَغَيره، وَعَلِيهِ أَن يعد للأعداء مَا يَسْتَطِيع من قُوَّة ليقاتلهم بِمَا يقاتلوننا بِهِ أَو يفوقهم، وَمِنْه إنْشَاء البوارج والغواصات والطيارات الحربية وأنواع الأسلحة الخ وَتجب طَاعَته فِي ذَلِك كُله بِالْمَالِ وَالنَّفس، بِنَصّ قَوْله تَعَالَى {وأَعِدُّوا لَهْم مَا اسْتطَعْتُم من قُوَّة} وَالْخطاب للْأمة وَإِنَّمَا الرئيس هُوَ الَّذِي يوحد النظام فِيهَا. وعَلى هَذَا تكون الْعُلُوم والفنون الطبيعية والكيماوية والآلية كلهَا من الْوَاجِبَات الكفائية وَمَا لَا يتم الْوَاجِب الْمُطلق إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب. وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَام جِهَاد يجب بِهِ قتال كل مُخَالف وَإِن كَانَ معاهدا أَو ذِمِّيا.

الشورى في الإسلام

الشورى فِي الْإِسْلَام (أَقُول) وأهم مَا يجب على الإِمَام الْمُشَاورَة فِي كل مَالا نَص فِيهِ عَن الله وَرَسُوله، وَلَا إِجْمَاعًا صَحِيحا يحْتَج بِهِ، أَو مَا فِيهِ نَص اجتهادي غير قَطْعِيّ، وَلَا سِيمَا أُمُور السياسة وَالْحَرب المبنية على أساس الْمصلحَة الْعَامَّة، وَكَذَا طرق تَنْفِيذ النُّصُوص فِي هَذِه الْأُمُور إِذْ هِيَ تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان. فَهُوَ لَيْسَ حَاكما مُطلقًا كَمَا يتَوَهَّم الكثيرون بل مُقَيّد بأدلة الْكتاب وَالسّنة وسيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين الْعَامَّة وبالمشاورة، وَلَو لم يرد فِيهَا إِلَّا وصف للْمُؤْمِنين بقوله تَعَالَى: {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَقَوله لرَسُوله: {وشاورهم فِي الْأَمر} لكفى، فَكيف وَقد ثبتَتْ فِي الْأَخْبَار والْآثَار قولا وَعَملا، وَسبب هَذَا الْأَمر للرسول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بالمشاورة فِي أَمر الْأمة، جعله قَاعِدَة شَرْعِيَّة لمصالحها الْعَامَّة، فَإِن هَذِه الْمصَالح كَثِيرَة الشّعب وَالْفُرُوع وَلَا يُمكن تحديدها، وتختلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان فَلَا يُمكن تقييدها، وَقد ذهب بعض عُلَمَاء السّلف إِلَى أَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ غَنِيا عَن الْمُشَاورَة فلولا إِرَادَة جعلهَا قَاعِدَة شَرْعِيَّة لما أَمر الله بهَا، روى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فِي تَفْسِيره قَوْله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} أَنه قَالَ: قد علم الله أَنه مَا بِهِ إِلَيْهِم من حَاجَة وَلَكِن أَرَادَ أَن يستن بِهِ من بعده. وروى فِي الْمَرْفُوع مَا يُؤَيّدهُ فقد أخرج ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ بِسَنَد حسن عَن ابْن عَبَّاس أَن الْآيَة لما نزلت قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " أما إِن الله وَرَسُوله لَغَنِيَّانِ عَنْهَا وَلَكِن جعلهَا الله رَحْمَة لأمتي فَمن اسْتَشَارَ مِنْهُم لَا يعْدم رشدا، وَمن تَركهَا لم يعْدم غيا " أَي شرعها الله تَعَالَى لتحقيق الرشد فِي الْمصَالح وَمنع الْمَفَاسِد فَإِن الغي هُوَ الْفساد والضلال، وَلَكِن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ناطقة بِأَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لم يكن مستغنيا عَن غَيره من النَّاس إِلَّا فِيمَا ينزل عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْي وَقَالَ " أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم " رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة وَأنس وَقَالَ " مَا كَانَ من أَمر دينكُمْ فَإلَى، وَمَا كَانَ من أَمر دنياكم فَأنْتم أعلم بِهِ " رَوَاهُ أَحْمد، وَفِي حَدِيث رَافع بن خديج فِي صَحِيح مُسلم أَيْضا أَنه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " إِنَّمَا أَنا بشر، إِذا أَمرتكُم بشئ من أَمر دينكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذا أَمرتكُم بِشَيْء من رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنا بشر " وَهَذَا هُوَ الْمُوَافق لقَوْله تَعَالَى {قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ} فَهُوَ ممتاز على الْبشر بِالْوَحْي إِلَيْهِ وَلكنه فِيمَا عداهُ وَعدا مَا يستلزمه بشر يجوز عَلَيْهِ الْأَعْرَاض البشرية، وَيحْتَاج إِلَى غَيره فِي الْأُمُور الكسبية، وَكَونه أكمل لَا يَقْتَضِي أَن يُحِيط بِكُل

شَيْء علما وَيقدر على كل عمل فَإِن هَذَا لله وَحده {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك} . . وَلذَلِك كَانُوا إِذا راجعوه فِي أَمر أَمر بِهِ وَرَأَوا الْمصلحَة فِي غَيره سَأَلُوهُ أقاله أَو فعله بِوَحْي من الله أم من رَأْيه؟ فَإِذا قَالَ إِنَّه من رَأْيه ذكرُوا رَأْيهمْ وَقد يعْمل بِهِ ويرجحه على رَأْيه كَمَا فعل فِي يَوْم بدر فقد جَاءَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أدنى مَاء فَنزل عِنْده فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت هَذَا الْمنزل أمنزل أنزلكه الله لَيْسَ لنا أَن فتقدمه وَلَا أَن نتأخر عَنهُ؟ أم هُوَ الرَّأْي وَالْحَرب والمكيدة؟ قَالَ " بل هُوَ الرَّأْي وَالْحَرب والمكيدة " فَقَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ هَذَا بمنزل فانهض بِالنَّاسِ حَتَّى نأتي أدنى مَاء من الْقَوْم فننزله ثمَّ تغور مَا وَرَاءه الخ فَقَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " لقد أَشرت بِالرَّأْيِ " وَعمل بِرَأْيهِ، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ عَبَّاس عَن ابْن سعد أَن جِبْرِيل نزل فَقَالَ للنَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الرَّأْي مَا أَشَارَ بِهِ الْحباب بن الْمُنْذر: وَقد اسْتَشَارَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَبَا بكر وَعمر (رَضِي الله عَنْهُمَا) فِي أسرى بدر فَاخْتلف رأيهما فَقَالَ " لَو اجتمعتما مَا عصيتكما " وَكَانَ رَأْيه مُوَافقا لرأي أبي بكر فأنفذه ثمَّ نزل الْوَحْي بِمَا يُؤَيّد رَأْي عمر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} . الْآيَتَيْنِ فَقَالَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لعمر " كَاد يصيبنا فِي خِلافك شَرّ " وَالرِّوَايَات فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَثِيرَة. . وكل هَذَا كَانَ قبل أَمر الله تَعَالَى إِيَّاه بمشاورتهم فَإِنَّهُ نزل فِي غَزْوَة أحد وفيهَا رجح رَأْي الْأَكْثَرين على رَأْيه [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ورأي كثير من كبراء الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم، وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ سُئِلَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن الْعَزْم أَي قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر فَإِذا عزمت فتوكل على الله} فَقَالَ " مُشَاورَة أهل الرَّأْي ثمَّ اتباعهم ". وَقد حققنا مَسْأَلَة الشورى فِي الْحُكُومَة الإسلامية بالتفصيل فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة من سُورَة آل عمرَان وَتَفْسِير: {أطعيوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} من سُورَة النِّسَاء. وَبينا فِي الأول الْحِكْمَة فِي ترك الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] نظام الشورى للْأمة وَعدم وضع أَحْكَام لَهَا، وَمُلَخَّصه أَن النظام يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال الْأمة فِي كثرتها وقلتها وشئونها الاجتماعية ومصالحها الْعَامَّة فِي الْأَزْمِنَة الْمُخْتَلفَة، فَلَا يُمكن أَن تكون لَهُ أَحْكَام مُعينَة توَافق جَمِيع الْأَحْوَال فِي كل زمَان وَمَكَان، وَلَو وَضَع لَهَا أحكاما مُؤَقَّتَة لخشى أَن يتَّخذ النَّاس مَا يَضَعهُ لذَلِك الْعَصْر وَحده دينا مُتبعا فِي كل حَال

وزمان وَإِن خَالف الْمصلحَة، كَمَا فعلوا فِي الْأَخْذ بظواهر مبايعة أبي بكر وَعُثْمَان واستخلاف عمر. فَاكْتفى بشرع الله للمشاورة وتربيته [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الْأمة عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ. على أَن أولي العصبية خالفوا مَا شَرعه الله بِاتِّبَاع أهوائهم ومطامعهم لتقصير أولي الْأَمر فِي وضع هَذَا النظام لكل زمَان بِمَا يُنَاسِبه، كَمَا ضبط عمر (رَضِي الله عَنهُ) الْأَمر فِي زَمَنه بِمَا يُنَاسِبه، بل عَنى عُلَمَاؤُنَا بمسائل النَّجَاسَة وَالْحيض والبيوع أَشد من عنايتهم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة، حَتَّى قَالَ إِمَام كَبِير مثل الْأَشْعَرِيّ إِن بيعَة رجل وَاحِد من أهل الْحل وَالْعقد تلْزم الْأمة إِذا أشهد عَلَيْهَا فَأنى يَسْتَقِيم أَمر أمة تعْمل بِهَذَا القَوْل فِي رياستها الْعَامَّة؟ . وَأما الْآثَار عَن الرَّاشِدين فِي الْمُشَاورَة فكثيرة (مِنْهَا) مَا رَوَاهُ الدَّارمِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن مَيْمُون بن مهْرَان أَن أَبَا بكر كَانَ يسْأَل عَامَّة الْمُسلمين عَمَّا لَا يجد فِيهِ نصا من الْكتاب وَلَا سنة عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] هَل يعلمُونَ عَن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيهِ شَيْئا فَرُبمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْط فَقَالُوا نعم قضى فِيهِ بِكَذَا فَيَأْخُذ بِهِ ويحمد الله تَعَالَى (قَالَ) وَإِن أعياه ذَلِك دَعَا رُءُوس الْمُسلمين وعلماءهم فاستشارهم فَإِذا اجْتمع رَأْيهمْ على أَمر قضى بِهِ، وَإِن عمر بن الْخطاب كَانَ يفعل ذَلِك، وَزَاد أَنه كَانَ بعد النّظر فِي الْكتاب وَالسّنة ينظر فِيمَا قضى بِهِ أَبُو بكر أَيْضا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يقْضى إِلَّا بِنَصّ أَو مُشَاورَة. وَانْظُر إِلَى الْفرق بَين سُؤال عَامَّة الْمُسلمين عَن الرِّوَايَة واختصاص الرؤساء وَالْعُلَمَاء بالمشاورة، ذَلِك بِأَنَّهُم هم جمَاعَة أولي الْأَمر وَأهل الْحل وَالْعقد الَّذين أَمر الْكتاب بطاعتهم بعد طَاعَة الله وَرَسُوله وَقَالَ فِي إِحَالَة أَمر الْأمة إِلَيْهِم {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولى الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} . (وَمِنْهَا) مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَأَبُو سعيد فِي الْقَضَاء عَن عَليّ قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِن عرض لي أَمر لم ينزل قَضَاء فِي أمره وَلَا سنة كَيفَ تَأْمُرنِي؟ قَالَ: " تجعلونه شُورَى بَين أهل الْفِقْه والعابدين من الْمُؤمنِينَ وَلَا تقضي فِيهِ بِرَأْيِك خَاصَّة ". (وَمِنْهَا) مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس: وَكَانَ الْقُرَّاء أَصْحَاب مجْلِس عمر ومشاروته كهولا كَانُوا أَو شبَابًا. وَذكر وَاقعَة فِي رُجُوع عمر إِلَى قَول من يذكرهُ بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ: وَكَانَ وقافا عِنْد كتاب الله عز وَجل وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من

التولية بالاستخلاف والعهد

استشارة عمر فِي مَسْأَلَة الوباء لما خرج إِلَى الشَّام وَأَخْبرُوهُ إِذْ كَانَ فِي (سرغ) أَن الوباء وَقع فِي الشَّام، فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين ثمَّ الْأَنْصَار فاختلفا. ثمَّ طلب من كَانَ هُنَالك من مشيخة قُرَيْش من مهاجرة الْفَتْح، فاتفقوا على الرُّجُوع وَعدم الدُّخُول على الوباء، فَنَادَى عمر بِالنَّاسِ: إِنِّي مصبح على ظهر: (أَي مُسَافر، وَالظّهْر الرَّاحِلَة) فَأَصْبحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أفرارا من قدر الله؟ فَقَالَ عمر: لَو غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة؟ نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، أَرَأَيْت لَو كَانَت لَك إبل فَهَبَطت وَاديا لَهُ عدوتان إِحْدَاهمَا خصبة وَالْأُخْرَى جدبة أَلَيْسَ إِن رعيت الخصبة رعيتها بِقدر الله، وَإِن رعيت الجدبة رعيتها بِقدر الله؟ ثمَّ جَاءَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَأخْبرهُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوع الْمُوَافق لرأي شُيُوخ قُرَيْش. التَّوْلِيَة بالاستخلاف والعهد: اتّفق الْفُقَهَاء على صِحَة اسْتِخْلَاف الإِمَام الْحق والعهد مِنْهُ بالخلافة إِلَى من يَصح الْعَهْد إِلَيْهِ على الشُّرُوط المعتبره فِيهِ أَي فِي الإِمَام الْحق، فالعهد أَو الِاسْتِخْلَاف لَا يَصح إلاَّ من إِمَام مستجمع لجَمِيع شُرُوط الْإِمَامَة لمن هُوَ مثله فِي ذَلِك. هَذَا شَرط الْعَهْد إِلَى الْفَرد، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك باستخلاف أبي بكر لعمر، وَأما الْعَهْد إِلَى الْجَمِيع وَجعله شُورَى فِي عدد مَحْصُور من أهل الْحل وَالْعقد، فَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَن تكون الْإِمَامَة متعينة لأَحَدهم، بِحَيْثُ لَا مجَال لمنازعة أحد لمن يتفقون عَلَيْهِ مِنْهُم، وَهُوَ الْمُوَافق لجعل عمر إِيَّاهَا شُورَى فِي السّنة (رَضِي الله عَنهُ) قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وانعقد الْإِجْمَاع عَلَيْهَا أصلا فِي انْعِقَاد الْإِمَامَة بالعهد وَفِي انْعِقَاد الْبيعَة بِعَدَد يتَعَيَّن فِيهِ الْإِمَامَة لأَحَدهم بِاخْتِيَار أهل الْحل وَالْعقد وَقد تمسك بِهَذَا أَئِمَّة الْجور وخلفاء التغلب والمطامع وَلم يراعوا فِيهِ مَا راعاه من احْتَجُّوا بِعَمَلِهِ من استشارة أهل الْحل وَالْعقد وَالْعلم برضاهم أَولا وإقناع من كَانَ

توقف فِيهِ، وَالرِّوَايَات فِي هَذَا مَعْرُوفَة فِي كتب الحَدِيث وَمن أجمعها (كنز الْعمَّال) وَكتب التَّارِيخ والمناقب، وَأي عَالم أَو عَاقل يقيس عهد أبي بكر إِلَى عمر فِي تحري الْحق وَالْعدْل والمصحلة بعد الاستشارة فِيهِ ورضاء أهل الْحل وَالْعقد بِهِ على عهد مُعَاوِيَة واستخلافة ليزِيد الْفَاسِق الْفَاجِر بِقُوَّة الإراهاب من جِهَة ورشوة الزعماء من جِهَة أُخْرَى؟ ثمَّ مَا تلاه وَاتَّبَعت فِيهِ سنته السَّيئَة من احتكار أهل الْجور والطمع فِي السُّلْطَان، وَجعله إِرْثا لأولادهم أَو لأوليائهم كَمَا يُورث المَال وَالْمَتَاع؟ إِلَّا إِن هَذِه أَعمال عصبية الْقُوَّة الْقَاهِرَة الْمُخَالفَة لهدي الْقُرْآن، وَسنة الْإِسْلَام. ذكر الْفَقِيه ابْن حجر فِي التُّحْفَة اخْتِصَاص اسْتِخْلَاف بقسميه (الفردي والجمعي) بِالْإِمَامِ الْحق واعتماده، ثمَّ قَالَ وَقد يشكل عَلَيْهِ مَا فِي التواريخ والطبقات من تَنْفِيذ الْعلمَاء وَغَيرهم لعهود بني الْعَبَّاس مَعَ عدم استجماعهم للشروط، بل نفذ السّلف عهود بني أُميَّة مَعَ أَنهم كَذَلِك، إِلَّا أَن يُقَال هَذِه وقائع مُحْتَملَة إِنَّهُم إِنَّمَا نفذوا للشوكة وخشية الْفِتْنَة لَا للْعهد بل هُوَ الظَّاهِر. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي الْعَهْد الْمشَار إِلَيْهِ فِي أول هَذِه الْمَسْأَلَة: وَيعْتَبر شُرُوط الْإِمَامَة فِي الْمولى من وَقت الْعَهْد إِلَيْهِ. وَإِن كَانَ صيغراً أَو فَاسِقًا وَقت الْعَهْد وبالغاً عدلا عِنْد موت الْمولى لم تصح خِلَافَته حَتَّى يسْتَأْنف أهل الِاخْتِيَار بيعَته اهـ وَنقل الْحَافِظ بن حجر فِي شَرحه لحَدِيث عبَادَة فِي الْمُبَايعَة - وَقد تقدم - أَنه لَا يجوز عقد الْولَايَة لفَاسِق ابْتِدَاء، وَأَن الْخلاف فِي الْخُرُوج على الْفَاسِق فِيمَا إِذا كَانَ عادلاً وإمامته صَحِيحَة ثمَّ أحدث جوراً اهـ وَقد علم مِمَّا أسلفنا أَن الْعَهْد والاستخلاف بِشُرُوطِهِ مُتَوَقف على إِقْرَارا أهل الْحل وَالْعقد لَهُ. واستدلالهم يقتضية وَإِن لم يصرحوا بِهِ، وَأما المتغلبون بِقُوَّة العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وَلَيْسَ حَقًا شَرْعِيًّا لَازِما لذاته، بل يجب نبذه كَمَا تجب إِزَالَتهَا، واستبدال إِمَامَة شَرْعِيَّة بهَا، عِنْد الْإِمْكَان والأمان من فتْنَة أَشد ضَرَرا على الْأمة مِنْهَا، وَإِذا زَالَت بتغلب آخر فَلَا يجب على المسملين الْقِتَال لإعادتها. .

طالب الولاية لا يولى

طَالب الْولَايَة لَا يُولى من هدى الْإِسْلَام أَن طَالب الْولَايَة والإمارة لأجل الجاه والثروة لَا يُولى فقد قَالَ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] لِرجلَيْنِ طلبا أَن يؤمرهما: " لن نستعمل على عَملنَا من أَرَادَهُ " وَفِي رِوَايَة " إننا لَا نولي هَذَا من سَأَلَهُ وَلَا من حرص عَلَيْهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ وَمُسلم بِلَفْظ " إِنَّا وَالله لَا نولى على هَذَا الْعَمَل أحدا سَأَلَهُ وَلَا أحداُ حرص عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة للْإِمَام أَحْمد " إِن أخونكم عندنَا من يَطْلُبهُ " فَلم يستعن بهما فِي شَيْء حَتَّى مَاتَ. . وَسبب هَذَا الْمَنْع الْقطعِي الْمُؤَكّد بالقسم أَن طلاب الولايات وَلَا سِيمَا أَعْلَاهَا وَهِي الْإِمَامَة والحريصون عَلَيْهَا هم محبو السلطة للعظمة والتمتع والتحكم فِي النَّاس، وَقد ظهر أَنهم هم الَّذين أفسدوا أَمر هَذِه الْأمة وأولهم من الْجَمَاعَات بَنو أُميَّة وَإِن كَانَ فيهم أَفْرَاد، بل مِنْهُم رجل الرِّجَال وَوَاحِد الْآحَاد - عمر بن عبد الْعَزِيز خَامِس الرَّاشِدين - وَلكنه لم يكن حَرِيصًا على الْإِمَامَة وَلَو أمكنه لأعادها إِلَى العلويين. وَذكر الْحَافِظ فِي شرح الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا كلمة حق عَن الْمُهلب قَالَ: الْحِرْص على الْولَايَة هُوَ السَّبَب فِي اقتتال النَّاس عَلَيْهَا حَتَّى سفكت الدِّمَاء واستبيحت الْأَمْوَال والفروج وَعظم الْفساد فِي الأَرْض بذلك. وهنالك أَحَادِيث أُخْرَى. . وَلَو حَافظ الْمُسلمُونَ على أصل الشَّرْع الَّذِي قرر فِي عهد الرَّاشِدين فِي أَمر الْخلَافَة لما وَقعت تِلْكَ الْفِتَن والمفاسد ولعم الْإِسْلَام الأَرْض كلهَا. . وَقد قَالَ عَالم ألماني لشريف حجازي فِي الآستانة: إِنَّه كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نضع لمعاوية تمثالاً من الذَّهَب فِي عواصمنا، لِأَنَّهُ لَو لم لم يحول سلطة الْخلَافَة عَمَّا وَضعهَا عَلَيْهِ الشَّرْع وَجرى عَلَيْهِ الراشدون لملك الْعَرَب بِلَادنَا كلهَا وصيروها إسلامية عَرَبِيَّة. . إِمَامَة الضَّرُورَة والتغلب بِالْقُوَّةِ: اتّفق محققو الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز أَن يُبَايع بالخلافة إِلَّا من كَانَ مستجمعا لما ذَكرُوهُ من شرائطها وبخاصة الْعَدَالَة والكفاءة والقرشية، فَإِذا تعذر وجود بعض الشُّرُوط تدخل الْمَسْأَلَة فِي حكم الضرورات. . والضرورات تقدر بِقَدرِهَا، فَيكون الْوَاجِب حِينَئِذٍ مبايعة من كَانَ مستجمعا لأكْثر الشَّرَائِط من أَهلهَا، مَعَ الِاجْتِهَاد

وَالسَّعْي لاستجماعها كلهَا. قَالَ الْكَمَال بن الْهمام فِي المسايرة: والمتغلب تصح مِنْهُ هَذِه الْأُمُور للضَّرُورَة كَمَا لَو لم يُوجد قرشي عدل، أَو وجد وَلم يقدرعلى تَوليته لغَلَبَة الجورة. . قَالَ هَذَا ردا على الْحَنَفِيَّة فِي استدلالهم على عدم اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الْأَئِمَّة بِقبُول بعض الصَّحَابَة للولاية وَالْقَضَاء من ظلمَة بني أُميَّة كمروان وصلاتهم مَعَهم، فمراده بالأمور: الْقَضَاء والإمارة وَالْحكم كَمَا قَالَه شَارِح المسايرة. . وَقَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد: وَهَهُنَا بحث وَهُوَ أَنه إِذا لم يُوجد إِمَام على شَرَائِطه، وَبَايع طَائِفَة من أهل الْحل وَالْعقد قرشياً فِيهِ بعض الشَّرَائِط من غير نَفاذ لأحكامه، وَطَاعَة من الْعَامَّة لأوامره، وشوكة بهَا يتَصَرَّف فِي مصَالح الْعباد، ويقتدر على النصب والعزل لمن أَرَادَ هَل يكون ذَلِك إتيانا بِالْوَاجِبِ؟ وَهل يجب على ذَوي الشَّوْكَة الْعَظِيمَة من مُلُوك الْأَطْرَاف، المتصفين بِحسن السياسة وَالْعدْل والإنصاف أَن يفوضوا إِلَيْهِ الْأَمر بِالْكُلِّيَّةِ، ويكونوا لدية كَسَائِر الرّعية، وَقد يتَمَسَّك بِمثل قَول الله تَعَالَى: {أطِيعُوا الله وأَطيعوا الرسولَ وأُوليِ الأَمْر مِنْكُم} وَقَوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " من مَاتَ وَلم يعرف إِمَام زَمَانه مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " فَإِن وجوب الطَّاعَة والمعرفة يَقْتَضِي الْحُصُول اهـ أَي يجب عَلَيْهِم ذَلِك. وَإِنَّمَا فرض أَن الْمُبَايِعين فِي هَذِه الصُّورَة بعض أهل الْحل وَالْعقد لِأَنَّهُ إِذا بَايعه جَمِيعهم وَمِنْهُم الْمُلُوك الَّذين ذكرهم تمت شوكته وَنفذ حكمه قطعا، وَهَذِه الصُّورَة تصدق على بعض خلفاء بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس الَّذين كَانَت تنقصهم الْعَدَالَة أَو الْعلم الاجتهادي، وَكَانَ الْجُمْهُور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضَّرُورَة إمامتهم، إِذا لم تتيسر بيعَة أمثل مِنْهُم وَإِن كَانَ مَوْجُودا، وَالْمُعْتَمد عِنْد الْحَنَفِيَّة أَن إمامتهم صَحِيحَة مُطلقًا، لِأَن الْعلم وَالْعَدَالَة عِنْدهم لَيست من شُرُوط الِانْعِقَاد كَمَا تقدم فِي مَحَله. . قَالَ الْكَمَال بن الْهمام مُحَقّق الْحَنَفِيَّة فِي المسايرة تبعا للغزالي: (الأَصْل الْعَاشِر) لَو تعذر وجود الْعلم وَالْعَدَالَة فِيمَن تصدى للْإِمَامَة - بِأَن تغلب عَلَيْهَا جَاهِل بِالْأَحْكَامِ أَو فَاسق - وَكَانَ فِي صرفه إثارة فتْنَة لَا تطاق حكمنَا بانعقاد إِمَامَته كَيْلا نَكُون كمن يَبْنِي قصراً ويهدم مصرا، وَإِذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغى فِي بِلَادهمْ الَّتِي غلبوا عَلَيْهَا لمسيس الْحَاجة فَكيف لَا نقضي بِصِحَّة الْإِمَامَة عِنْد

لُزُوم الضَّرَر الْعَام بِتَقْدِير عدمهَا. . وَإِذا تغلب آخر على ذَلِك المتغلب وَقعد مَكَانَهُ انْعَزل الأول وَصَارَ الثَّانِي إِمَامًا اه. وَقَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد بعد ذكر شُرُوط الْإِمَامَة وَآخِرهَا النّسَب الْقرشِي مانصه: وَأما إِذا لم يُوجد فِي قُرَيْش من يصلح لذَلِك أَو لم يقتدر على نَصبه لاستيلاء أهل الْبَاطِل وشوكة الظلمَة وأرباب الضَّلَالَة فَلَا كَلَام فِي جَوَاز تقلد الْقَضَاء تَنْفِيذ الْأَحْكَام وَإِقَامَة الْحُدُود وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالْإِمَامِ من كل ذِي شَوْكَة. . كَمَا إِذا كَانَ الإِمَام الْقرشِي فَاسِقًا أَو جائراً أَو جَاهِلا فضلا عَن أَن يكون مُجْتَهدا. . وَبِالْجُمْلَةِ مَبْنِيّ مَا ذكر فِي بَاب الْإِمَامَة على الِاخْتِيَار والاقتدار. . وَأما عِنْد الْعَجز والاضطرار، واستيلاء الظلمَة وَالْكفَّار والفجار، وتسلط الْجَبَابِرَة الأشرار، فقد صَارَت الرِّئَاسَة الدُّنْيَوِيَّة تغلبية، وبنيت عَلَيْهَا الْأَحْكَام الدِّينِيَّة المنوطة بِالْإِمَامِ ضَرُورَة، وَلم يعبأ بِعَدَمِ الْعلم وَالْعَدَالَة وَسَائِر الشَّرَائِط، والضرورات تبيح الْمَحْظُورَات، وَإِلَى الله المشتكي فِي النائبات، وَهُوَ المرتجي لكشف الملمات اهـ. بِحُرُوفِهِ. وَالْفرق بَين هَذِه الْخلَافَة وَمَا قبلهَا بعد كَون كل مِنْهُمَا جَائِزا للضَّرُورَة أَن الأولى صدرت من أهل الْحل وَالْعقد باختيارهم لمن هُوَ أمثل الفاقدين لبَعض الشَّرَائِط، وَلذَلِك فَرْضه الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ قرشيا إِذْ القريشيون كَثِيرُونَ دَائِما وَجزم بِوُجُوب طَاعَته مَعَ فرض كَونه ضيعفا. . وَأما الثَّانِيَة فصاحبها هُوَ المعتدي على الْخلَافَة بِقُوَّة العصبية لَا بِاخْتِيَار أهل الْحل وَالْعقد لَهُ، لعدم وجود من هُوَ أجمع للشرائط مِنْهُ، فَذَاك يطاع اخْتِيَارا، وَهَذَا يطاع اضطراراً. وَمعنى هَذَا أَن سلطة التغلب كَأَكْل الْميتَة وَلحم الْخِنْزِير عِنْد الضَّرُورَة تنفذ بالقهر وَتَكون أدنى من الفوضى. . وَمُقْتَضَاهُ أَنه يجب السَّعْي دَائِما لإزالتها عِنْد الْإِمْكَان، وَلَا يجوز أَن توطن الْأَنْفس على دوامها، وَلَا أَن تجْعَل كالكرة بَين المتغلبين يتقاذفونها ويتلقونها، كَمَا فعلت الْأُمَم الَّتِي كَانَت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها بقوتها الكامنة فِيهَا، وَكَون قُوَّة مُلُوكهَا وأمرائها مِنْهَا، ألم تَرَ إِلَى من استناروا بِالْعلمِ الاجتماعي مِنْهَا كَيفَ هبوا لإِسْقَاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وَكَانَ آخر من فعل ذَلِك الشّعب التركي، وَلكنه أسقط نوعا من التغلب بِنَوْع آخر عَسى أَن

ما يخرج به الخليفة من الإمامة

يكون خيرا مِنْهُ، وَإِنَّمَا فعله تقليدا لتِلْك الْأُمَم الأبية، إِذْ كَانَ جَمَاهِير عُلَمَاء التّرْك والهند ومصر وَغَيرهَا من الأقطار، يوجبون عَلَيْهِ طَاعَة خلفاء سلاطين بني عُثْمَان، ماداموا لَا يظهرون الْكفْر وَالرِّدَّة عَن الْإِسْلَام، مهما يكن فِي طاعتهم من الظُّلم وَالْفساد، وخراب الْبِلَاد، وإرهاق الْعباد، عملا بالمعتمد عِنْد الْفُقَهَاء بِغَيْر نظر وَلَا اجْتِهَاد! وَهَذَا أهم أَسبَاب اعْتِقَاد الْكثير مِنْهُم، إِن سلطة الْخلَافَة الشَّرْعِيَّة، تحول دون حفظ الْملك والحياة الاستقلالية، وسنفصل الْكَلَام فِي هَذَا بعد وَفِيمَا يجب لجعل الحكم شَرْعِيًّا إسلاميا. . مَا يخرج بِهِ الْخَلِيفَة من الْإِمَامَة: قَالَ الْمَاوَرْدِيّ بعد بَيَان مَا يجب على الإِمَام - وَقد تقدم - وَإِذا قَامَ الإِمَام بِمَا ذَكرْنَاهُ من حُقُوق الْأمة فقد أدّى حق الله تَعَالَى فِيمَا لَهُم وَعَلَيْهِم وَوَجَب لَهُ عَلَيْهِم حقان الطَّاعَة والنصرة - مالم يتَغَيَّر حَاله. " وَالَّذِي يتَغَيَّر بِهِ حَاله فَيخرج بِهِ عَن الْإِمَامَة شَيْئَانِ أَحدهمَا جرح فِي عَدَالَته وَالثَّانِي نقص فِي بدنه، فَأَما الْجرْح فِي عَدَالَته فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ (أَحدهمَا) مَا تَابع فِيهِ الشَّهْوَة. . (الثَّانِي) مَا تعلق فِيهِ بِشُبْهَة، فَأَما الأول مِنْهُمَا فمتعلق بِأَفْعَال الْجَوَارِح وَهُوَ ارتكابه للمحظورات، وإقدامه على الْمُنْكَرَات، تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى، فَهَذَا فسق يمْنَع من انْعِقَاد الْإِمَامَة وَمن استدامتها، فَإِذا طَرَأَ على من انْعَقَدت إِمَامَته خرج مِنْهَا، فَلَو عَاد إِلَى الْعَدَالَة لم يعد إِلَى الْإِمَامَة إِلَّا بِعقد جَدِيد. . وَأما الثَّانِي مِنْهُمَا فمتعلق بالاعتقاد والمتأول بِشُبْهَة تعترض فيتأول لَهَا خلاف الْحق فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا فَذهب فريق مِنْهُم إِلَى أَنَّهَا تمنع من انْعِقَاد الْإِمَامَة وَمن استدامتها، وَيخرج بحدوثه مِنْهَا ". الخ (ص 16) الْمنَار: وَبعد تَفْصِيل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهِي الابتداع بالتأول ذكر الْقسم الثَّانِي مِمَّا يمْنَع من الْخلَافَة وَهُوَ نقص الْبدن فَجعله ثَلَاثَة أَقسَام: نقص الْحَواس وَنقص الْأَعْضَاء وَنقص التَّصَرُّف وَقسمهَا أَيْضا إِلَى أَقسَام وَأطَال فِي بَيَان أَحْكَامهَا، وَالَّذِي تَقْتَضِي الْحَال نَقله مِنْهُ نقص التَّصَرُّف وَقد عقد لَهُ فصلا خَاصّا قَالَ فِيهِ مَا نَصه:

" وَأما نقص التَّصَرُّف فضربان حجر وقهر، فَأَما الْحجر فَهُوَ أَن يستولي عَلَيْهِ من أعوانه من يستبد بتنفيذ الْأُمُور من غير تظاهر بِمَعْصِيَة، وَلَا مجاهرة بمشاقة، فَلَا يمْنَع ذَلِك من إِمَامَته، وَلَا يقْدَح فِي صِحَة ولَايَته، وَلَكِن ينظر فِي أَفعَال من يستولي عَليّ أُمُوره، فَإِن كَانَت جَارِيَة على أَحْكَام الدّين وَمُقْتَضى الْعدْل جَازَ إِقْرَاره عَلَيْهَا، تنفيذا لَهَا، وإمضاء لأحكامها، لِئَلَّا يقف من الْأُمُور الدِّينِيَّة مَا يعود بِفساد على الْأمة. . وَإِن كَانَت أَفعاله خَارِجَة عَن حكم الدّين وَمُقْتَضى الْعدْل لم يجز إِقْرَاره عَلَيْهَا، وَلَزِمَه أَن يستنصر من يقبض يَده، ويزيل تغلبه. وَأما الْقَهْر فَهُوَ أَن يصير مأسورا فِي يَد عَدو قاهر لَا يقدر على الْخَلَاص مِنْهُ فَيمْنَع ذَلِك عَن عقد الْإِمَامَة لَهُ لعَجزه عَن النّظر فِي أُمُور الْمُسلمين، وَسَوَاء كَانَ الْعَدو مُشْركًا أَو مُسلما بَاغِيا، وللأمة فسحة فِي اخْتِيَار من عداهُ من ذَوي الْقُدْرَة وَإِن أسر بعد أَن عقدت لَهُ الْإِمَامَة فعلى كَافَّة الْأمة استنقاذه لما أوجبته الْإِمَامَة من نصرته، وَهُوَ على إِمَامَته مَا كَانَ مرجواً لخلاص مأمول الفكاك، إِمَّا بِقِتَال أَو فدَاء. . " فَإِن وَقع الْإِيَاس مِنْهُ لم يخل حَال من أسره من أَن يَكُونُوا مُشْرِكين أَو بغاة الْمُسلمين، فَإِن كَانَ فِي أسر الْمُشْركين خرج من الْإِمَامَة لليأس من خلاصه، واستأنف أهل الِاخْتِيَار بيعَة غَيره على الْإِمَامَة ". وَهنا ذكر مَسْأَلَة عَهده بِالْإِمَامَةِ إِلَى غَيره وَمَا يَصح مِنْهَا وَمَا لَا يَصح ثمَّ قَالَ: " وَإِن كَانَ مأسورا مَعَ بغاة الْمُسلمين فَإِن كَانَ مرجوا لخلاص فَهُوَ على إِمَامَته وَيكون الْعَهْد فِي ولي الْعَهْد ثَابتا وَإِن لم يصر إِمَامًا، وَإِن لم يُرْجَ خُلَاصَة لم يخل حَال الْبُغَاة من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يَكُونُوا نصبوا لأَنْفُسِهِمْ إِمَامًا أَو لم ينصبوا فَإِن كَانُوا فوضى لَا إِمَام لَهُم فالإمام المأسور على إِمَامَته لِأَن بيعَته لَهُم لَازِمَة، وطاعته عَلَيْهِم وَاجِبَة، فَصَارَ مَعَهم كمصيره مَعَ أهل الْعدْل، إِذا صَار تَحت الْحجر، وعَلى أهل الِاخْتِيَار أَن يستنيبوا عَنهُ نَاظرا يخلفه إِن لم يقدر على الِاسْتِنَابَة. . فَإِن قدر عَلَيْهَا كَانَ أَحَق بِاخْتِيَار من يستنيبه مِنْهُم. . فَإِن خلع المأسور نَفسه أَو مَاتَ لم يصر المستناب إِمَامًا لِأَنَّهَا نِيَابَة عَن مَوْجُود فَزَالَتْ بفقده. . وَإِن كَانَ أهل الْبَغي قد نصبوا لأَنْفُسِهِمْ إِمَامًا دخلُوا فِي بيعَته، وانقادوا لطاعته، فالإمام المأسور فِي أَيْديهم خَارج من الْإِمَامَة بالإياس من خلاصه،

لأَنهم قد انحازوا بدار مُنْفَرد حكمهَا عَن الْجَمَاعَة، فَلم يبْق لأهل الْعدْل بهم نصْرَة، وَلَا للمأسور مَعَهم قدرَة، وعَلى أهل الِاخْتِيَار فِي دَار الْعدْل أَن يعقدوا الْإِمَامَة لمن ارتضوه لَهَا. . فَإِن خلص المأسور لم يعد إِلَى الْإِمَامَة لِخُرُوجِهِ مِنْهَا أهـ (ص 19، 20) . وَمن الْمَعْلُوم أَن كل هَذَا التَّفْصِيل فِي الإِمَام الْحق المستجمع للشروط الْقَائِم بالواجبات، وَأما إِمَامَة التغلب فَكلهَا تجْرِي على قَاعِدَة الِاضْطِرَار الْمُتَقَدّمَة (رقم 11) . . وَمَا ذكره من انعزال الإِمَام بِالْفِسْقِ قد اخْتلف فِيهِ، وَالْمَشْهُور الَّذِي حَقَّقَهُ الْجُمْهُور أَنه لَا يجوز تَوْلِيَة الْفَاسِق وَلَكِن طروء الْفسق بعد التَّوْلِيَة لَا تبطل بِهِ الْإِمَامَة مُطلقًا وَبَعْضهمْ فصل: قَالَ السعد فِي شرح الْمَقَاصِد وَإِذا ثَبت الإِمَام بالقهر وَالْغَلَبَة ثمَّ جَاءَ آخر فقهره انْعَزل وَصَارَ القاهر إِمَامًا. . وَلَا يجوز خلع الإِمَام (أَي الْحق) بِلَا سَبَب، وَلَو خلعوه لم ينفذ، وَإِن عزل نَفسه فَإِن كَانَ لعجز عَن الْقيام بِالْأَمر انْعَزل وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَنْعَزِل الإِمَام بِالْفِسْقِ وَالْإِغْمَاء وينعزل بالجنون وبالعمى والصمم والخرس وبالمرض الَّذِي ينسيه الْعُلُوم. . (ص 272 ج 2) . . وَقد اسْتدلَّ من قَالَ يخلع بالْكفْر دون الْمعْصِيَة بِحَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت فِي الْمُبَايعَة عِنْد الشَّيْخَيْنِ قَالَ: دَعَانَا النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخذ علينا أَن بَايعنَا على السّمع وَالطَّاعَة فِي منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا وَألا ننازع الْأَمر أَهله " إِلَّا أَن تروا كفرا بواحا عنْدكُمْ من الله فِيهِ برهَان " وَقد ذكر الْحَافِظ فِي شرح قَوْله " إِلَّا أَن تروا كفرا بواحا " رِوَايَات أُخْرَى بِلَفْظ الْمعْصِيَة وَالْإِثْم بدل الْكفْر ثمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عبد الله عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم من رِوَايَته عَن أبي عبَادَة " سيلي أُمُوركُم من بعدِي رجال يعرفونكم مَا تنكرون، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُم مَا تعرفُون. فَلَا طَاعَة لمن عصى الله " وَعند أبي بكر

ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أَزْهَر بن عبد الله عَن عبَادَة رَفعه " سَيكون عَلَيْكُم أُمَرَاء يأمرونكم بِمَا لَا تعرفُون ويفعلون مَا تنكرون فَلَيْسَ لأولئك عَلَيْهِم طَاعَة ". وَقَالَ فِي شرح قَوْله: " عنْدكُمْ من الله فِيهِ برهَان " أَي من نَص آيَة أَو خبر صَحِيح لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يجوز الْخُرُوج عَلَيْهِم مَا دَامَ فعلهم يحْتَمل التَّأْوِيل. قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بالْكفْر هُنَا الْمعْصِيَة وَمعنى الحَدِيث لَا تنازعوا وُلَاة الْأُمُور فِي ولايتهم وَلَا تعترضوا عَلَيْهِم إِلَّا أَن تروا مِنْهُم مُنْكرا محققا تعلمونه من قَوَاعِد الْإِسْلَام فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فأنكروا عَلَيْهِم وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُم. وَقَالَ غَيره المُرَاد بالإثم هُنَا الْمعْصِيَة وَالْكفْر فَلَا يعْتَرض على السُّلْطَان إِلَّا إِذا وَقع فِي الْكفْر الظَّاهِر. . وَالَّذِي يظْهر حمل رِوَايَة الْكفْر على مَا إِذا كَانَت الْمُنَازعَة فِي الْولَايَة فَلَا ينازعه بِمَا يقْدَح فِي الْولَايَة إِلَّا إِذا ارْتكب الْكفْر، وَحمل رِوَايَة الْمعْصِيَة على مَا إِذا كَانَت الْمُنَازعَة فِيمَا عدا الْولَايَة فَإِذا لم يقْدَح فِي الْولَايَة نازعه فِي الْمعْصِيَة بِأَن يُنكر عَلَيْهِ بِرِفْق، ويتوصل إِلَى تثبيت الْحق لَهُ بِغَيْر عنف، وَمحل ذَلِك إِذا كَانَ قَادِرًا وَالله أعلم، وَنقل ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء فِي أُمَرَاء الْجور أَنه إِذا قدر على خلعه بِغَيْر فتْنَة وَلَا ظلم وَجب وَإِلَّا فَالْوَاجِب الصَّبْر. . وَعَن بَعضهم لَا يجوز عقد الْولَايَة لفَاسِق ابْتِدَاء، فَإِن أحدث جوراً بعد أَن كَانَ عدلا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْخُرُوج عَلَيْهِ وَالصَّحِيح الْمَنْع إِلَّا أَن يكفر فَيجب الْخُرُوج عَلَيْهِ. . وَقد تقدم التَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة ونصوص الْمُحَقِّقين فِيهَا وَمُلَخَّصه أَن أهل الْحل وَالْعقد يجب عَلَيْهِم مقاومة الظُّلم والجور وَالْإِنْكَار على أَهله بِالْفِعْلِ، وَإِزَالَة سلطانهم الجائر وَلَو بِالْقِتَالِ إِذا ثَبت عِنْدهم أَن الْمصلحَة فِي ذَلِك هِيَ الراجحة والمفسدة هِيَ المرجوجة، وَمِنْه إِزَالَة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة التّرْك لسلطة آل عُثْمَان مِنْهُم، فقد كَانُوا على ادعائهم الْخلَافَة الإسلامية جائزين جارين فِي أَكثر أحكامهم على مايسمى فِي عُرْفِ أهل هَذَا الْعَصْر بالملكية الْمُطلقَة، فَلذَلِك بَدَأَ التّرْك بتقييدهم بالقانون الأساسي تقليدا لأمم أوربة، وَسبب ذَلِك جهل الَّذين قَامُوا بِهَذَا الْأَمر بِأَحْكَام الشَّرْع الإسلامي (كمدحت باشا وإخوانه) ثمَّ قَامَ الكماليون أخيرا بِإِسْقَاط هَذِه الدولة ورفض السلطة الشخصية بجملتها وتفصيلها. .

دار العدل ودار الجور والتغلب

دَار الْعدْل وَدَار الْجور والتغلب: دَار الْإِسْلَام وَمَا يقابلها من دَار الْحَرْب معروفتان وَلَهُمَا أَحْكَام كَثِيرَة. . وَقد تكَرر فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَن الْعلمَاء من أَحْكَام الْخلَافَة ذكر دَار الْعدْل وَهِي دَار الْإِسْلَام الَّتِي نصب فِيهَا الإِمَام الْحق، الَّذِي يُقيم ميزَان الْعدْل، تسمى بذلك إِذا قوبلت بدار الْبَغي والجور، وَهِي مَا كَانَ الحكم فِيهَا بتغلب قُوَّة أهل العصبية من الْمُسلمين وَعدم مُرَاعَاة أَحْكَام الْإِمَامَة الشَّرْعِيَّة وشروطها. . وَأهل دَار الْعدْل هم الَّذين يسمون الْجَمَاعَة، وهم الَّذين يجب على جَمِيع الْمُسلمين اتباعهم وَاتِّبَاع إمَامهمْ اخْتِيَارا، وَعدم اتِّبَاع من يخالفهم إِلَّا اضطرارا، وَهَاتَانِ الداران قد توجدان مَعًا فِي وَقت وَاحِد، وَقد تُوجد إِحْدَاهمَا دون الْأُخْرَى. . وَلكُل مِنْهُمَا أَحْكَام. . أما دَار الْعدْل فطاعة الإِمَام فِيهَا فِي الْمَعْرُوف وَاجِبَة شرعا ظَاهرا وَبَاطنا، وَلَا تجوز مُخَالفَته إِلَّا إِذا أَمر بِمَعْصِيَة لله تَعَالَى ثَابِتَة بِنَصٍّ صَرِيح من الْكتاب وَالسّنة دون الِاجْتِهَاد والتقليد، وَيجب قتال من خرج عَلَيْهِ من الْمُسلمين أَو بغى فِي بِلَاده الْفساد بِالْقُوَّةِ، كَغَيْرِهِ من الْقِتَال الْوَاجِب شرعا، وَتجب الْهِجْرَة من دَار الْحَرْب وَمن دَار الْبَغي إِلَى هَذِه الدَّار على من استضعف فيهمَا فظلم أَو منع من إِقَامَة دينه، وعَلى من تحْتَاج إِلَيْهِم دَار الْعدْل لحفظها ومنعها من الْكفَّار أَو الْبُغَاة، ولغير ذَلِك من الْمصَالح الْوَاجِبَة لإعزاز الْملَّة، إِذا توقف هَذَا الْوَاجِب على هَذِه الْهِجْرَة، وَأما دَار الْبَغي والجور فالطاعة فِيهَا لَيست قربَة وَاجِبَة شرعا لذاتها، بل هِيَ ضَرُورَة تقدر بِقَدرِهَا وَتقدم تَفْصِيل القَوْل فِيهَا. . وَمن الظُّلم الْمُوجب لِلْهِجْرَةِ مِنْهَا على من قدر إِلَى دَار الْعدْل إِن وجدت حمل المتغلبين من يخضع لَهُم على الْقِتَال لتأييد عصبيتهم والاستيلاء على بعض بِلَاد الْمُسلمين، فَمن قدر على الْفِرَار من ذَلِك وَجب عَلَيْهِ. فَأمرهَا دَائِما دائر على قَاعِدَة ارْتِكَاب أخف الضررين، وَالظَّاهِر أَن يفرق بَين قِتَالهمْ لأهل الْعدْل فَلَا تُبَاح الطَّاعَة فِيهِ بِحَال، وَبَين قتال غَيرهم كأمثالهم من المتغلبين، وَفِيه تَفْصِيل لَا مَحل لبيانه هُنَا ... وَأما الْجِهَاد الشَّرْعِيّ فَيجب مَعَ أَئِمَّة الْجور، وَمِنْه دفاعهم عَن بِلَادهمْ إِذا اعْتدى عَلَيْهَا الْكفَّار. .

كيف سن التغلب على الخلافة

قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ، مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة، وَمن قَاتل تَحت راية عمية يغْضب لعصبة أَو يَدْعُو إِلَى عصبَة أَو ينصر عصبَة فَقتل فَقتله جَاهِلِيَّة، وَمن خرج على أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها، وَلَا يتحاشى من مؤمنها، وَلَا يَفِي الَّذِي عهد عَهده، فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ - وَفِي رِوَايَة - يغْضب للْعصبَةِ وَيُقَاتل للْعصبَةِ فَلَيْسَ من أمتِي " رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة والعمية بِضَم الْعين وَكسرهَا (لُغَتَانِ) وَتَشْديد الْمِيم وفسروها بِالْكبرِ والضلال وَالْمرَاد بهَا عَظمَة الْقُوَّة والبطش، والتغلب الَّذِي لَا يُرَاد بِهِ الْحق وَلذَلِك بَينه بِأَنَّهُ يغْضب للْعصبَةِ وَهِي بِالتَّحْرِيكِ قوم الرجل الَّذين يعصبونه ويعتصب بهم أَي يُقَوي ويشتد، وَفِي رِوَايَة العصبية وَهِي نِسْبَة إِلَى الْعصبَة. . وَأَنت تعلم أَن المتغلبين مَا قَامُوا وَلَا يقومُونَ إِلَّا بالعصبية، المُرَاد بهَا عَظمَة الْملك العمية، لَا يقصدون بقتالهم إعلاء كلمة الله، وَلَا إِقَامَة ميزَان الْحق وَالْعدْل بَين جَمِيع النَّاس، وَمَا أفسد على هَذِه الْأمة أمرهَا، وأضاع عَلَيْهَا ملكهَا إِلَّا جعل طَاعَة هَؤُلَاءِ الجبارين الباغين وَاجِبَة شرعا على الْإِطْلَاق، وَجعل التغلب أمرا شَرْعِيًّا كمبايعة أهل الِاخْتِيَار من أولي الْأَمر، وَأهل الْحل وَالْعقد للْإِمَام الْحق، وَجعل عهد كل متغلب بَاغ إِلَى وَلَده أَو غَيره من عصبته، لأجل حصر السُّلْطَان والجبروت فِي أسرته، حَقًا شَرْعِيًّا وأصلا مرعيا لذاته، وَعدم التَّفْرِقَة بَين اسْتِخْلَاف مُعَاوِيَة وَلَده يزِيد الْفَاسِق الْفَاجِر بالرغم من أنوف الْمُسلمين، وَبَين عهد الصّديق الْأَكْبَر واستخلافه للْإِمَام الْعَادِل عمر بن الْخطاب ذِي المناقب الْعَظِيمَة بعد مُشَاورَة أهل الْحل وَالْعقد فِيهِ وإقناعهم بِهِ، وَالْعلم بتلقيهم لَهُ بِالْقبُولِ ... كَيفَ سنّ التغلب على الْخلَافَة : كَانَ سَبَب تغلب بني أُميَّة على أهل الْحل وَالْعقد من الْأمة أَن قُوَّة الْأمة الإسلامية الْكُبْرَى فِي عَهدهم كَانَت قد تَفَرَّقت فِي الأقطار الَّتِي فتحهَا الْمُسلمُونَ وانتشر فِيهَا الْإِسْلَام بِسُرْعَة غَرِيبَة وَهِي مصر وسورية وَالْعراق، وَكَانَ أهل هَذِه الْبِلَاد قد تربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الرّوم وَالْفرس، فَلَمَّا صَارَت أزمة أُمُورهم بيد حكامهم من الْعَرَب استخدمهم مُعَاوِيَة الَّذِي سنّ سنة التغلب السَّيئَة فِي الْإِسْلَام على الخضوع لَهُ بِجعْل الْوُلَاة فيهم من صنائعه الَّذين يؤثرون المَال

والجاه على هِدَايَة الْإِسْلَام، وَإِقَامَة ماجاء بِهِ من الْعدْل والمساواة، وَصَارَ أَكثر أهل الْحل وَالْعقد الحائزين للشروط الشَّرْعِيَّة مَحْصُورين فِي البلدين الْمُكرمين (مَكَّة المكرمة وَالْمَدينَة المنورة) وهم ضعفاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل تِلْكَ الأقطار الْكَبِيرَة الغنية الَّتِي تعول الْحجاز وتغذيه. أَخذ مُعَاوِيَة الْبيعَة لِابْنِهِ الْفَاسِق يزِيد بِالْقُوَّةِ والرشوة، وَلم يلق مقاومة تذكر بالْقَوْل أَو الْفِعْل إِلَّا فِي الْحجاز، فقد روى البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره - وَاللَّفْظ لَهُ - من طرق أَن مَرْوَان خطب بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ على الْحجاز من قبل مُعَاوِيَة فَقَالَ: إِن الله قد أرى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي وَلَده يزِيد رَأيا حسنا، وَإِن يستخلفه فقد اسْتخْلف أَبُو بكر وَعمر، وَفِي لفظ سنة أبي بكر وَعمر، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر: سنة هِرقل وَقَيْصَر، إِن أَبَا بكر وَالله مَا جعلهَا فِي أحد من وَلَده الخ، وَفِي رِوَايَة سنة كسْرَى وَقَيْصَر، أَنا أَبَا بكر وَعمر لم يجعلاها فِي أولادهما، ثمَّ حج مُعَاوِيَة لِيُوَطِّئ لبيعة يزِيد فِي الْحجاز فَكلم كبار أهل الْحل وَالْعقد أَبنَاء أبي بكر وَعمر وَالزُّبَيْر فخالفوه وهددوه إِن لم يردهَا شُورَى فِي الْمُسلمين، وَلكنه صعد الْمِنْبَر وَزعم أَنهم سمعُوا وأطاعوا وَبَايَعُوا يزِيد، وهدد من يكذبهُ مِنْهُم بِالْقَتْلِ. وَأخرج الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق مُحَمَّد بن سعيد بن زمانة أَن مُعَاوِيَة لما حَضرته الْوَفَاة قَالَ ليزِيد: قد وطأت لَك الْبِلَاد ومهدت لَك النَّاس وَلست أَخَاف عَلَيْك إِلَّا أهل الْحجاز فَإِن رَابَك مِنْهُم ريب فَوجه إِلَيْهِم مُسلم بن عقبَة فَإِنِّي قد جربته وَعرفت نصيحته. . قَالَ فَلَمَّا كَانَ من خلافهم عَلَيْهِ مَا كَانَ دَعَاهُ فوجهه فأباحها ثَلَاثًا، دعاهم إِلَى بيعَة يزِيد وَأَنَّهُمْ أعبد لَهُ وقن فِي طَاعَة الله ومعصيته وَأخرج أَبُو بكر بن خَيْثَمَة بِسَنَد صَحِيح إِلَى جوَيْرِية بن أَسمَاء سَمِعت أَشْيَاخ أهل الْمَدِينَة يتحدثون أَن مُعَاوِيَة لما احْتضرَ دَعَا يزِيد فَقَالَ لَهُ: إِن لَك من أهل الْمَدِينَة يَوْمًا فَإِن فعلوا فَارْمِهِمْ بِمُسلم بن عقبَة فَإِنِّي عرفت نصيحته الخ ذكره الْحَافِظ فِي الْفَتْح، أَبَاحَ عَدو الله مَدِينَة الرَّسُول ثَلَاثَة أَيَّام فَاسْتحقَّ هُوَ وجنده اللَّعْنَة الْعَامَّة فِي قَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عِنْد تَحْرِيمهَا كمكة من أحدث فِيهَا حَدثا أَو آوى مُحدثا فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل الله مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صرفا وَلَا عدلا " أَي فرضا وَلَا نفلا - مُتَّفق عَلَيْهِ - فَكيف بِمن استباح فِيهَا المَاء والأعراض وَالْأَمْوَال؟ ؟

وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول أفسد النَّاس اثْنَان: عَمْرو بن الْعَاصِ يَوْم أَشَارَ على مُعَاوِيَة بِرَفْع الْمَصَاحِف، وَذكر مفْسدَة التَّحْكِيم، والمغيرة بن شُعْبَة، وَذكر قصَّته إِذْ عَزله مُعَاوِيَة عَن الْكُوفَة فرشاه بالتمهيد لاستخلاف يزِيد فَأَعَادَهُ، قَالَ الْحسن فَمن أجل هَذَا بَايع هَؤُلَاءِ النَّاس لأبنائهم وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ شُورَى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة أ. هـ مُلَخصا من تَارِيخ الْخُلَفَاء. وَهَذَا الَّذِي قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ من أَئِمَّة التَّابِعين مُوَافق لما قَالَه ذَلِك السياسي الألماني لأحد شرفاء الْحجاز من أَنه لَوْلَا مُعَاوِيَة لظلت حُكُومَة الْإِسْلَام على أَصْلهَا، ولساد الْإِسْلَام أوربة كلهَا، وَقد تقدم. . وَقد اضْطربَ أهل الْأَهْوَاء وَمن لَا علم لَهُم بِشَيْء من حَقِيقَة الْإِسْلَام ونشأته إِلَّا من أَخْبَار المؤرخين وَهِي أمشاج لم يكن يُمَيّز صحيحها من ضعيفها وحقها من باطلها إِلَّا الْحفاظ من الْمُحدثين، فنجد من هَؤُلَاءِ من يمِيل إِلَى النواصب أَو الْخَوَارِج وَمن يرجح جَانب غلاة الشِّيعَة. . وَكَانَ أستاذنا الشَّيْخ حُسَيْن الجسر ينشد: (من طالع التَّارِيخ مَعَ أَنه ... لم يتَمَسَّك باعتقاد سليم) (أصبح شِيعِيًّا وَإِلَّا فَقل ... يخرج عَن نهج الْهدى الْمُسْتَقيم) وَلذَلِك نجد فِي المصريين وَغَيرهم من المنتمين إِلَى مَذَاهِب السّنة - وعَلى غلو دهمائهم فِي تَعْظِيم آل الْبَيْت - من هُوَ ناصبي يفضل بني أُميَّة على العلويين وَيَزْعُم أَنهم أعزوا الْإِسْلَام وَأَقَامُوا الدّين، وَالتَّحْقِيق أَن فتح الْإِسْلَام لكثير من الْبِلَاد فِي أيامهم الَّذِي هُوَ حسنتهم الْعَظِيمَة كَانَ أمرا اقتضته طبيعة الْإِسْلَام والإصلاح الَّذِي جَاءَ بِهِ لإنقاذ الْبشر، وَلم يكن لغير عمر بن عبد الْعَزِيز مِنْهُم عمل انْفَرد بِهِ فِي إِقَامَة الدّين نَفسه، وَلم يكن لَهُم عمل فِي ذَلِك مُخْتَصّ بدولتهم بِحَيْثُ يُقَال إِنَّه لولاهم لرجع الْإِسْلَام الْقَهْقَرِي فِي الْعلم وَالْعَمَل أَو الْفَتْح، وَمَا كَانَ لَهُم من عمل حسن فِي هَذِه الْأُمُور فقد كَانَ لمن بعدهمْ من العباسيين مثله، وَكِلَاهُمَا تَابع فِي الدّين للخلفاء الرَّاشِدين لَا متبوع، وَأما الْأُمُور المدنية الَّتِي استتبعت الْفَتْح الإسلامي فَلِكُل من الْفَرِيقَيْنِ فِيهَا عمل، وَإِنَّمَا سَيِّئَة الأمويين الَّتِي لَا تغْفر ماسنوه فِي قَاعِدَة حُكُومَة الْإِسْلَام، حِين كَانَت انتخابية شُورَى فِي أولى

الِاخْتِيَار من أهل الْحل وَالْعقد وَقد نسخوها بالقاعدة المادية، الْقُوَّة تغلب الْحق، فهم الَّذين هدموها، وتبعهم من بعدهمْ فِيهَا. وَمن اطلع على كتب السّنة يعلم أَن الله تَعَالَى قد اطلع رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على مُسْتَقْبل أمته، وَأَن مَا وَقع كَانَ مِمَّا تَقْتَضِيه طباع الْبشر بِحَسب قدر الله وسنته، وَقد أخبر بذلك بعض أَصْحَابه بالتلميح تَارَة وبالتصريح أُخْرَى وَمِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة الَّذِي روى عَنهُ فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد عدَّة أَحَادِيث وآثار فِي ذَلِك وَأَنه كَانَ يستعيذ بِاللَّه من إِمَارَة الصّبيان وَمن رَأس السِّتين وَهِي السّنة الَّتِي ولى فِيهَا يزِيد (وَقد مَاتَ قبلهَا) وَكَانَ يَقُول لَو قلت لكم إِنَّكُم ستحرقون بَيت ربكُم وتقتلون ابْن نَبِيكُم لقلتم لَا أكذب من أبي هُرَيْرَة. . يَعْنِي قتل الْحُسَيْن وَقد وَقع بعده. . وَأخرج البُخَارِيّ وَغَيره من طَرِيق عمر بن يحيى بن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي قَالَ: أَخْبرنِي جدي قَالَ كنت جَالِسا مَعَ أبي هُرَيْرَة فِي مَسْجِد النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ومعنا مَرْوَان (هُوَ ابْن الحكم بن أبي الْعَاصِ وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة لمعاوية) فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: سَمِعت الصَّادِق المصدوق [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يَقُول " هلكة أمتِي على أَيدي غلمة من قُرَيْش " فَقَالَ مَرْوَان لعنة الله عَلَيْهِم غلمة، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة لَو شِئْت أَن أَقُول بني فلَان وَبني فلَان لفَعَلت. . فَكنت أخرج مَعَ جدي إِلَى بني مَرْوَان حِين ملكوا الشَّام فَإِذا رَآهُمْ غلمانا أحداثا قَالَ لنا عَسى هَؤُلَاءِ أَن يَكُونُوا مِنْهُم. قُلْنَا أَنْت أعلم وَإِنَّمَا أهلكوا الْأمة بإفساد حكومتها الشَّرْعِيَّة الإصلاحية. . وَإِلَّا فقد وَسعوا ملكهَا بتغلب العصبية. . قَالَ الْحَافِظ فِي شرح الحَدِيث قَالَ ابْن بطال: وَفِي هَذَا الحَدِيث حجَّة لما تقدم من ترك الْقيام على السُّلْطَان وَلَو جَار لِأَنَّهُ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أعلم أَبَا هُرَيْرَة بأسماء هَؤُلَاءِ وَلم يَأْمر بِالْخرُوجِ عَلَيْهِم، مَعَ إخْبَاره أَن هَلَاك الْأمة على أَيْديهم، لكَون الْخُرُوج أَشد فِي الْهَلَاك وَأقرب إِلَى الاستئصال من طاعتهم، فَاخْتَارَ أخف الضررين وأيسر الْأَمريْنِ. . ونقول مَا ذكر من الْقَاعِدَة صَوَاب وَمَا قبله من تطبيق النَّازِلَة عَلَيْهَا لَا يَصح، فقد قاوم أهل الْحجاز فغلبوا على أَمرهم، وَالصَّوَاب مَا بَيناهُ من قبل من تفرق جمَاعَة، الْإِسْلَام العالمة العادلة فِي المماليك، وَكَون من بَقِي بالحجاز ضعفاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى المملكة الإسلامية الجديدة، فَلم يكن أَمر الْخُرُوج مُمكنا إِلَّا بعصبية كعصبيتهم كَمَا

فعل بَنو الْعَبَّاس، وَقد مهد أَكثر الْعلمَاء السَّبِيل للاستبداد وَالظُّلم بِمثل هَذَا الْإِطْلَاق فِي الخضوع لأهلهما، وَقد تكَرر بَيَان التَّحْقِيق فِيهِ. . ثمَّ قَالَ الْحَافِظ يتعجب من لعن مَرْوَان الغلمة الْمَذْكُورين مَعَ أَن الظَّاهِر أَنهم من وَلَده، فَكَأَن الله تَعَالَى أجْرى ذَلِك على لِسَانه ليَكُون أَشد فِي الْحجَّة لَعَلَّهُم يتعظون. . وَقد وَردت أَحَادِيث فِي لعن الحكم وَالِد مَرْوَان وَمَا ولد، أخرجهَا الطَّبَرَانِيّ وَغَيره، وغالبها فِيهِ مقَال وَبَعضهَا جيد، وَلَعَلَّ المُرَاد تَخْصِيص الغلمة الْمَذْكُورين بذلك ا. هـ وَقَوله من وَلَده يصدق على الْأَكْثَر وَإِلَّا فَإِن يزِيد بن مُعَاوِيَة أول من كَانَ يَعْنِي أَبُو هُرَيْرَة بالغلمة وَالصبيان. . وَجُمْلَة القَوْل أَن مرادنا من هَذَا الْبَحْث بَيَان مفْسدَة إِخْرَاج الْخلَافَة الإسلامية عَمَّا وَضعهَا عَلَيْهِ الْإِسْلَام، وَجعلهَا تَابِعَة لقُوَّة العصبية والتغلب، فَهَذِهِ الْمفْسدَة هِيَ أصل الْمَفَاسِد والرزايا الَّتِي أَصَابَت الْمُسلمين فِي دينهم ودنياهم. . وَقد كررنا ذكرهَا لتحفظ وَلَا تنسى. . وَمن أغرب الغرائب أَن قصر الْمُسلمُونَ عَن غَيرهم من أهل الْملَل الَّتِي كَانُوا قد فاقوها فِي الْعلم وَالْعَمَل بِأَن لم يقم أحد مِنْهُم بِعَمَل منظم لإعادة حكم الْإِسْلَام كَمَا بَدَأَ، بل رَضوا بالتفرق والانقسام، وَالظُّلم والاستذلال، من كل من تولى الْأَمر فِي قطر من أقطارهم، حَتَّى سهل عَلَيْهِم مثل ذَلِك من غَيرهم. . فَكَانُوا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَقْصُورَة: (من ساسه الظُّلم بِسَوْط بأسه ... هان عَلَيْهِ الذل من حَيْثُ أَتَى) (وَمن يهن هان عَلَيْهِ قومه ... وَمَاله وَدينه الَّذِي ارتضى) أفلم يَأْتهمْ نبأ مَا فعل البابوات، من تنظيم الجمعيات، وَجمع القناطير من الدَّنَانِير لأجل إِعَادَة سلطانهم الديني؟ إِلَّا أننا قلدنا غَيرنَا فِيمَا يضر، وَلم نقلد وَلَا استقللنا فِيمَا ينفع فِي هَذَا الْأَمر، وَلَا يزَال فِينَا من يَجِدُّ فِي نبذ مَا بَقِي من قشور سُلْطَان الْخلَافَة الإسلامية بعد ذهَاب لبابها، ويظنون أَن وجودهَا هُوَ الَّذِي أَضْعَف ملكنا، وَإِنَّمَا أضعفه ذهابها، فَإِن مَا نزال ندعيه مِنْهَا للمستبدين، كذب على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، وَلَو استمسكنا بعروتها الوثقى لَكنا سادة الْعَالمين، وَقد عرف هَذَا كثير من عُلَمَاء الْأَجَانِب وَلم يعرفهُ أحد من زعمائنا السياسيين. .

وحدة الخليفة وتعدده

وحدة الْخَلِيفَة وتعدده: أصل الشَّرْع أَن يكون رَئِيس الْحُكُومَة وَهُوَ الإِمَام وَاحِدًا وَهَذَا أَمر إجماعي عِنْد جَمِيع الْأُمَم كالمسلمين، وَسَببه مَعْرُوف وَهُوَ أَن أَمر الْحُكُومَة أولى من كل أَمر عَام لَهُ شعب كَثِيرَة بِأَن تكون لَهُ جِهَة وَاحِدَة يضْبط بهَا النظام وتتقي الفوضى. قَالَ الكمالان فِي المسايرة وَشَرحهَا (وَلَا يُولى) الْإِمَامَة (أَكثر من وَاحِد) لقَوْله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَالْأَمر بقتْله مَحْمُول كَمَا صرح بِهِ الْعلمَاء على مَا إِذا لم ينْدَفع إِلَّا بِالْقَتْلِ، فَإِذا أصر على الْخلاف كَانَ بَاغِيا فَإِذا لم ينْدَفع إِلَّا بِالْقَتْلِ قتل، وَالْمعْنَى فِي امْتنَاع تعدد الإِمَام أَنه منَاف لمقصود الْإِمَامَة من اتِّحَاد كلمة أهل الْإِسْلَام واندفاع الْفِتَن، وَأَن التَّعَدِّي يَقْتَضِي لُزُوم امتثنال أَحْكَام متضادة (قَالَ الْحجَّة - حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ - فَإِن ولى عدد مَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات فالإمام من انعدقت لَهُ الْبيعَة من الْأَكْثَر، والمخالف بَاغ يجب رده إِلَى الانقياد إِلَى الْحق، وَكَلَام غَيره من أهل السّنة اعْتِبَار السَّبق فَقَط فَالثَّانِي يجب رده ا. هـ وَدَلِيل الْجُمْهُور نَص الحَدِيث. . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ (ص 7) وَإِذا عقدت الْإِمَامَة لإمامين فِي بلدين لم تَنْعَقِد إمامتهما لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون للْأمة إمامان فِي وَقت وَاحِد، وَإِن شَذَّ قوم فجوزوه ا. هـ وَأَقُول إِنَّمَا جوزه من جوزه حَال تعذر الْوحدَة وَهَذَا هُوَ الْخلاف الَّذِي نَقله الْعَضُد فِي المواقف إِذْ قَالَ: " وَلَا يجوز العقد لإمامين فِي صقع متضايق الأقطار، أما فِي متسعها بِحَيْثُ لَا يسع الْوَاحِد تَدْبيره فَهُوَ مَحل الِاجْتِهَاد " قَالَ شَارِحه السَّيِّد الْجِرْجَانِيّ: لوُقُوع الْخلاف. . وَاعْتمد الْجَوَاز معشيه الفناري وَهُوَ من أشهر عُلَمَاء الرّوم أَو التّرْك. . وَأما فِي حَال إِمْكَان الْوحدَة فَلَا نعلم أَن أحدا من الْعلمَاء الَّذين لعلمهم قيمَة قَالَ بِجَوَاز التَّعَدُّد، وَقَول من قَالَ بالتعدد للضَّرُورَة أقوى من قَول الْجُمْهُور بإمامة المتغلب للضَّرُورَة، إِذا كَانَ كل من الْإِمَامَيْنِ أَو الْأَئِمَّة مستجمعاً للشروط مُقيما

للعدل، فَإِن كَانَ فِي هَذِه تفرق فَهُوَ فِي غير عدوان وَلَا عَدَاوَة، وَفِي تِلْكَ بغي وجور رُبمَا يفْسد الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا، بل أفسدهما بِالْفِعْلِ. . وَقد بسط تَرْجِيح هَذَا القَوْل السَّيِّد صديق حسن خَان بهادر فِي آخر كِتَابه " الرَّوْضَة الندية " قَالَ: " وَإِذا كَانَت الْإِمَامَة الإسلامية مُخْتَصَّة بِوَاحِد، والأمور رَاجِعَة إِلَيْهِ مربوطة بِهِ كَمَا كَانَ فِي أَيَّام الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم فَحكم الشَّرْع فِي الثَّانِي الَّذِي جَاءَ بعد ثُبُوت ولَايَة الأول أَن يقتل إِذا لم يتب عَن الْمُنَازعَة. . وَأما إِذا بَايع كل وَاحِد مِنْهُمَا جمَاعَة فِي وَقت وَاحِد فَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر، بل يجب على أهل الْحل وَالْعقد أَن يَأْخُذُوا على أَيْدِيهِمَا حَتَّى يَجْعَل الْأَمر فِي أَحدهمَا. فَإِن استمرا على التَّحَالُف كَانَ أهل الْحل وَالْعقد أَن يختاروا مِنْهُمَا من هُوَ أصلح للْمُسلمين، وَلَا تخفى وُجُوه التَّرْجِيح على المتأهلين لذَلِك ". " وَأما بعد انتشار الْإِسْلَام واتساع رقعته وتباعد أَطْرَافه فمعلوم أَنه قد صَار فِي كل قطر أَو أقطار الْولَايَة إِلَى إِمَام أَو سُلْطَان، وَفِي الْقطر الآخر أَو الأقطار كَذَلِك. . وَلَا ينفذ لبَعْضهِم أَمر وَلَا نهي فِي غير قطره أَو أقطاره الَّتِي رجعت إِلَى ولَايَته فَلَا بَأْس بِتَعَدُّد الْأَئِمَّة والسلاطين، وَتجب الطَّاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم بعد الْبيعَة على أهل الْقطر الَّذِي ينفذ فِيهِ أوامره ونواهيه، وَكَذَلِكَ صَاحب الْقطر الآخر، فَإِذا قَامَ من ينازعه فِي الْقطر الَّذِي ثَبت فِيهِ ولَايَته وَبَايَعَهُ أَهله كَانَ الحكم فِيهِ أَن يقتل إِذا لم يتب وَلَا يجب على أهل الْقطر الآخر طَاعَته وَلَا الدُّخُول تَحت ولَايَته لتباعد الأقطار، فَإِنَّهُ قد لَا يبلغ إِلَى مَا تبَاعد مِنْهَا خبر إمامها أَو سلطانها وَلَا يدْرِي من قَامَ مِنْهُم أَو مَاتَ، فالتكليف بِالطَّاعَةِ وَالْحَال هَذِه تَكْلِيف بِمَا لَا يُطلق، وَهَذَا مَعْلُوم لكل من لَهُ إطلاع على أَحْوَال الْعباد والبلاد، فَإِن أهل الصين والهند لَا يَدْرُونَ بِمن لَهُ الْولَايَة فِي أَرض الْمغرب فضلا عَن أَن يتمكنوا من طَاعَته، وَهَكَذَا الْعَكْس، وَكَذَلِكَ أهل مَا وَرَاء النَّهر لَا يَدْرُونَ بِمن لَهُ الْولَايَة فِي الْيمن، وَهَكَذَا الْعَكْس،

فاعرف هَذَا فَإِنَّهُ الْمُنَاسب للقواعد الشَّرْعِيَّة، والمطابق لما تدل عَلَيْهِ الْأَدِلَّة، ودع عَنْك مَا يُقَال فِي مُخَالفَته، فَإِن الْفرق بَين مَا كَانَت عَلَيْهِ الْولَايَة الإسلامية فِي أول الْإِسْلَام وَمَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن، أوضح من شمس النَّهَار، وَمن أنكر ذَلِك فَهُوَ مباهت لَا يسْتَحق أَن يُخَاطب بِالْحجَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلهَا وَالله الْمُسْتَعَان " اهـ. هَذَا أَوْجَه تَفْصِيل قيل فِي جَوَاز التَّعَدُّد للضَّرُورَة وَهُوَ اجْتِهَاد وجيه ويشبهه عِنْد بعض الْأَئِمَّة تعدد الْجُمُعَة فِي الْبَلَد الْوَاحِد. . فَالْأَصْل فِي الشَّرْع أَن يجْتَمع أهل الْبَلَد كلهم فِي مَسْجِد وَاحِد لِأَن للشارع حِكْمَة جلية فِي الِاجْتِمَاع فَإِن تعدّدت فالجمعة للسابق والمتأخر لَا يعْتد بجمعته. فَمَتَى علم أَنَّهَا أُقِيمَت فِي مَسْجِد لم يجز أَن تُقَام ثَانِيَة فِيهِ وَلَا فِي غَيره من ذَلِك الْبَلَد، وَمن أَقَامَهَا كَانَت صلَاتهم بَاطِلَة وَكَانُوا آثمين، وَلَا تسْقط عَنْهُم صَلَاة الظّهْر، وَجوز التَّعَدُّد للضَّرُورَة بِقَدرِهَا أَشد المانعين حظرا لَهُ فِي حَال الِاخْتِيَار. . وَظَاهر كَلَام الْجُمْهُور الَّذين أطْلقُوا منع تعدد الإِمَام الْحق، أَن الْمُسلمين الَّذين لَا يَسْتَطِيعُونَ اتِّبَاع جمَاعَة الْمُسلمين وإمامهم فِي دَار الْعدْل لبعد الشقة وَتعذر المواصلة، يعذرُونَ فِي تأليف حُكُومَة خَاصَّة بقطرهم، وَيكون حكمهم فِيهَا حكم من أَسْلمُوا وتعذرت عَلَيْهِم الْهِجْرَة إِلَى دَار الْإِسْلَام لنصرة الإِمَام، وَلَا تكون دَارهم مُسَاوِيَة لدار الْعدْل وَجَمَاعَة الْإِمَامَة الَّذين أَقَامُوا الشَّرْع قبلهم، بل يجب عَلَيْهِم اتِّخَاذ الْوَسَائِل للالتحاق بهَا، وَجمع الْكَلِمَة وَلَو باستمداد السلطة مِنْهَا ونصرة إمامها وجماعتها بِقِتَال من يقاتلهم عِنْد الْإِمْكَان، كَمَا يجب على الْجَمَاعَة نَصرهم فِي حَال الاعتداء عَلَيْهِم، وَإِذا صَحَّ أَن يكون حكمهم كَحكم من لم يهاجروا إِلَى دَار الْإِسْلَام فَالْحكم فِي نَصرهم يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَئ حَتَى يُهاجروا، وَإِن اسْتَنصَرُوكم فِي الدِّين فعَليكُم النصرُ إِلَّا عَلَى قَوْم بَيْنكُم وَبيْنَهم ميثَاق} على القَوْل الْمُخْتَار بِأَن هَذِه الْآيَة فِي الْولَايَة الْعَامَّة. . لَا فِيمَا كَانَ من ولَايَة التَّوَارُث خَاصَّة. . وَجُمْلَة القَوْل أَن جُمْهُور الْمُسلمين أَجمعُوا على أَن تعدد الْإِمَامَة الإسلامية غير جَائِز، وَمُقْتَضَاهُ أَن الْحُكُومَة الإسلامية الَّتِي تَتَعَدَّد للضَّرُورَة. . وَتعذر فِي ترك اتِّبَاع الْجَمَاعَة هِيَ حُكُومَة ضَرُورَة تعْتَبر مُؤَقَّتَة، وتنفذ أَحْكَامهَا وَلَكِن لَا تكون مُسَاوِيَة للأولى، وَإِن كَانَت مستجمعة لشروط الْإِمَامَة مثلهَا، وَظَاهر القَوْل الآخر الَّذِي

عدوة شاذا أَنَّهَا إِذا كَانَت مستجمعة للشروط كَانَت إِمَامَة صَحِيحَة، وَهَذَا هُوَ التَّعَدُّد الْحَقِيقِيّ، وَلَكِن لم يخْتَلف اثْنَان فِي أَنَّهَا للضَّرُورَة، فَإِذا زَالَت وَجَبت الْوحدَة. ولهذه الْمسَائِل أَحْكَام كَثِيرَة لَا مَحل هُنَا للبحث فِيهَا. . بيد أَنه لابد من الْبَحْث فِي ثُبُوت هَذِه الضَّرُورَة، فَإِن بعد الشقة بَين الْبِلَاد، وَتعذر المواصلات الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا تَنْفِيذ الْأَحْكَام، مِمَّا يخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان، فَلَا يَصح أَن يَجْعَل عذرا دَائِما لصدع وحدة الْإِسْلَام، وَقد " تقَارب الزَّمَان " فِي عهدنا هَذَا مصداقاً لما ورد فِي بعض الْأَحَادِيث المنبئة بالأحداث المستترة فِي ضمائر الْغَيْب، فاتصلت الأقطار النائية بَعْضهَا بِبَعْض فِي الْبر وَالْبَحْر، بالبواخر والسكك الحديدية. . ثمَّ بالمراكب الهوائية (الطيارات والمناطيد) الَّتِي صَارَت تنقل الْبَرِيد وَالنَّاس مَسَافَة مئات وألوف من الأميال، فِي سَاعَة أَو سَاعَات، دع نقل الْأَخْبَار بِقُوَّة الكهرباء من أول الدُّنْيَا إِلَى آخرهَا فِي دقائق معدودات. . وَلَو كَانَت هَذِه الْوَسَائِل فِي عصر سلفنا لملكوا الْعَالم كُله، وَهُوَ مَا يطْمع فِيهِ بعض الْأُمَم الْيَوْم، وَهَذِه شعوب الشمَال فِي أوربة قد سادت مُعظم شعوب الْجنُوب والشرق، وَبَين شعوب الْفَرِيقَيْنِ مُنْتَهى أبعاد الْعمرَان من الأَرْض. وَلَكِن الْمُسلمين قصروا فِي هَذِه الْوَسَائِل، فبعض بِلَادهمْ محرومة مِنْهَا كلهَا، وَمَا يُوجد فِي بَعْضهَا فهم عَالَة فِيهِ على الإفرنج، وَإِن شرعهم يفرضها عَلَيْهِم فرضا دينياً من وُجُوه أهمها أَن كثيرا من الْفَرَائِض والواجبات تتَوَقَّف عَلَيْهَا أَو لَا تتمّ إِلَّا بهَا، كحفظ المملكة والدفاع عَنْهَا، والإعداد لأعدائها مَا تَسْتَطِيع من قُوَّة كَمَا أمرنَا كتَابنَا، وَقد صَار هَذَا من الْفَرَائِض العينية علينا، لاستيلائهم على أَكثر بِلَادنَا، ويتحقق الْوُجُوب الْعَيْنِيّ على الرِّجَال وَالنِّسَاء باستيلاء الْأَعْدَاء على قَرْيَة صَغِيرَة مِنْهَا، دع توقف وحدة السلطة عَلَيْهِ بالخضوع لإِمَام وَاحِد يُقيم الْحق وَالْعدْل فِينَا، منفذا بِهِ أَحْكَام شرعنا. . فأمام وحدة الإِمَام الْوَاجِبَة وَاجِبَات كَثِيرَة قد فرط فِيهَا الْمُسلمُونَ من قبل، بقبولهم أَحْكَام التغلب الَّتِي أضاعت جلّ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَام لإِصْلَاح الْبشر فِي شكل حكومتهم وصفاتها وَغير ذَلِك، فَأَي وَاجِب مِنْهَا أَقَامُوا حَتَّى يطالبوا بِهَذَا الْوَاجِب؟ . .

وحدة الإمامة بوحدة الأمة

وحدة الْإِمَامَة بوحدة الْأمة: وحدة الْإِمَامَة تتبع وحدة الْأمة، وَقد مزقت العصبية المذهبية ثمَّ الجنسية الشعوب الإسلامية بعد تَوْحِيد الْإِسْلَام إِيَّاهَا بِالْإِيمَان بِرَبّ وَاحِد، وإله وَاحِد، وَكتاب وَاحِد، والخضوع لحكم شرع وَاحِد، وتلقى الدّين والآداب وَغَيرهَا بِلِسَان وَاحِد، فَأنى يكون لَهَا الْيَوْم إِمَام وَاحِد، وَهِي لَيست أمة وَاحِدَة؟ لَا أَقُول إِن هَذَا محَال فِي نَفسه، وَإِنَّمَا أَقُول إِنَّنِي لَا أعرف شعبًا من شعوب الْمُسلمين وَلَا جمَاعَة من جماعاتهم المنظمة تقدرة قدره، وتسعى إِلَيْهِ من طَريقَة، فهم فِي دَرك من الْجَهْل والتخاذل والتفرق المذهبي والتعصب الجنسي وَضعف الهمة يقْعد بهم عَن التسامي إِلَى هَذَا الْمثل الْأَعْلَى فِي الْكَمَال الديني والاجتماعي، وَحمل الْبِلَاد الإسلامية ذَات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس وَاحِد بِالْقُوَّةِ العسكرية مِمَّا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَان وَلَا سَبِيل إيضا إِلَى إقناع حكومات هَذِه الْبِلَاد، بِاتِّبَاع وَاحِد مِنْهُم بالرضى وَالِاخْتِيَار. . والحكومات المستقلة الْآن هِيَ حكومات التّرْك وَالْفرس والأفغان ونجد واليمن الْعليا وَهِي النجُود وَمَا يتبعهَا واليمن السُّفْلى والحجاز، وَقد اسْتَقَلت بعض الأقطار الإسلامية الَّتِي كَانَت تَابِعَة لروسية القيصرية كبخارى وخيوه، وَلَكِن استقلالهما لم يسْتَقرّ بعد، على أَنه قد اعْترف بِهِ فِي المعاهدة التركية الأفغانية، وَمثلهمَا أذربيجان ودونهما كردستان، وَهَذِه الحكومات الصَّغِيرَة تجزم الدولة التركية بِأَنَّهَا ستسودهن وتدعمهن فِي جامعتها الطورانية. . وَكَذَا سَائِر شعوب القوقاز الإسلامية، وَلَا تُوجد حُكُومَة مِنْهُنَّ يُمكن أَن تَدعِي الْخلَافَة الدِّينِيَّة. فَبَقيَ الْكَلَام فِي الحكومات الْعَرَبيَّة. . والدول الثَّلَاث الأعجمية. . فَأَما أهل الْيمن الْعليا فيعتقدون أَن الْإِمَامَة الشَّرْعِيَّة الصَّحِيحَة محصورة فيهم مُنْذُ ألف سنة ونيف لِأَن أئمتهم ينتخبون انتخابا شَرْعِيًّا تراعي فِيهِ جَمِيع الشُّرُوط الشَّرْعِيَّة الَّتِي يشترطها أهل السّنة مَعَ زِيَادَة مُرَاعَاة مَذْهَبهم الزيدي، وَأَن هَذِه الزِّيَادَة لَا تعَارض مَذْهَب أهل السّنة، وَأَنَّهُمْ يحكمون بِالشَّرْعِ ويقيمون الْحُدُود، ومذهبهم فِي الْفُرُوع مَذْهَب العترة النَّبَوِيَّة. . وَهُوَ قَلما يُخَالف مَذَاهِب السّنة الْأَرْبَعَة وَلَا سِيمَا مَذْهَب الْحَنَفِيَّة. . فَلَا مطمع فِي إقناعهم بِاتِّبَاع غَيرهم، وَقد قَاتلهم التّرْك

عدَّة قُرُون وَلم يستطيعوا إِزَالَة إمامتهم، وَلَكِن جيرانهم من الْعَرَب وَسَائِر الْمُسلمين لَا يعتدون بإمامتهم، وهم لَا يدعونَ إِلَيْهَا وَلَا يستعدون لتعميمها وَقد اعْترف بِصِحَّتِهَا إِمَام حفاظ السّنة وقاضي قُضَاة مصر وَشَيخ مَشَايِخ الْإِسْلَام فِي أزهرها لعهده الْحَافِظ أَحْمد بن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي شَرحه لحَدِيث " لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان " من صَحِيح البُخَارِيّ. وَأما السَّيِّد الإدريسي فَهُوَ على كَونه حَاكما مُسْتقِلّا، وَسَيِّدًا علوياً، وفقيها أزهريا، ومرشدا صوفيا. لم يدع منصب الْخلَافَة فِيمَا نعلم، وَلم يدع رُؤَسَاء إمارته إِلَى مبايعته بهَا، وَلَكِن أهل بَيته وجماعته يَعْتَقِدُونَ أَنه أَحَق بهَا من شرفاء الْحجاز، ويلقبونه بالسيد الإِمَام. . ولقبه بَعضهم بِصَاحِب الْجَلالَة الهاشمية، وَقد نقل لنا الثِّقَات أَن الْملك حُسَيْنًا اجْتهد فِي استمالته للاعتراف بالتبعية للحجاز فِي السياسة الخارجية أَو بِالِاسْمِ فَقَط فَلم يفلح، كَمَا أَنه لم يفلح فِي سَعْيه لَدَى الإِمَام يحيى بذلك، وَقد اسْتغْرب كل مِنْهُمَا هَذَا السَّعْي. . وبلغنا أَن السَّيِّد الإدريسي كَانَ يفضل الِاعْتِرَاف بسيادة التّرْك السياسية على بِلَاده فِي الْأُمُور الخارجية، هرباً من دسائس الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية. . وَأما حُكُومَة الْحجاز فَهِيَ جَدِيدَة وَلَا يعرف لَهَا نظام ثَابت، وَإِنَّمَا ملك الْحجاز هُوَ هُنَالك الْحُكُومَة وكل شَيْء، وَقد بَايعه أهل مَكَّة على أَنه ملك الْعَرَب ثمَّ بَايعه آخَرُونَ فِي سورية وَغَيرهَا بالخلافة وإمارة الْمُؤمنِينَ على عهد وجود وَلَده فيصل فِيهَا قبل إعلان اسْتِقْلَال دمشق، وَذَلِكَ كَمَا يُبَايع أمثالهم فِي سوريا ومصر الْخَلِيفَة الْجَدِيد فِي الآستانة، وَيظْهر أَن وَلَده فيصل ملك الْعرَاق وَولده عبد الله أَمِير شَرق الْأُرْدُن مصران على بذل نفوذهما لجعله هُوَ الْخَلِيفَة، وَأخذ الْمُبَايعَة لَهُ من سورية وَالْعراق عَن سنوح الفرصة. . وَقد نشر فِي جَرِيدَة الْقبْلَة مقالات قديمَة وحديثة فِي بطلَان خلَافَة خلفاء التّرْك فِي الآستانة وتكفيرهم وتكفير حكومتهم، وَقد كَانَ فِي عمان مَسْجِد متداع فَأمر الْأَمِير عبد الله بتجديد بنائِهِ فَوضع لَهُ قاضيه الشَّيْخ سعيد الكرمي تَارِيخا فِي أَبْيَات من الشّعْر نقشت على لوح من الرخام وضع فَوق بَابه قَالَ فِي أَولهَا: (حُسَيْن بن عون من بني مجد عدنان ... فَصَارَ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِلَا ثَانِي) (أعَاد لَهُ حق الْخلَافَة بعد مَا ... ثوت زَمنا بِالْغَصْبِ فِي آل عُثْمَان)

وَقد جعل هَذَا القَاضِي بِنَاء حُسَيْن لما سَمَّاهُ مجد عدنان، سَببا لصيرورته أَمِير الْمُؤمنِينَ الَّذِي لَا ثَانِي لَهُ فِي بِلَاد الْإِسْلَام، وَهُوَ لم يبن لعدنان مجداً، ومجد عدنان لَيْسَ سَببا للخلافة، وَإِنَّمَا يرضى النَّاظِم بذلك أميره الَّذِي كَانَ وَلَا يزَال يعسى لتحقيق جعل وَالِده خَليفَة، وَلكنه طعن فِي إِمَامَة يحيى حميد الدّين الَّذِي يخْطب أميره ووالد أميره الْملك وده، لَا فِي خلَافَة أعدائه التّرْك فَقَط، وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يقرن بِهِ أحدا من شرفاء الْحجاز وأمثالهم. . مِمَّن يرَوْنَ أنفسهم أَهلا للْإِمَامَة بأنسابهم، فَإِنَّهُ على تَوَاتر نسبه الْهَاشِمِي الْعلوِي، وصراحته بخلوه من شوائب الرّقّ غير الشَّرْعِيّ، قد انتخب بِأَنَّهُ عَالم مُجْتَهد شُجَاع مُدبر، ذُو شَوْكَة ومنعة يقدر بهما على حفظ اسْتِقْلَال بِلَاده، وَقد بُويِعَ بِالْإِمَامَةِ مُنْذُ عشرات من السنين، والمعترفون بإمامته يزِيدُونَ على عدد أهل الْحجاز، بل على أهل سورية كلهَا وَالْعراق أَيْضا. . لَيْسَ من غرضنا هُنَا مناقشة هَؤُلَاءِ وَلَا غَيرهم فِي دعاويهم وَلَا أغراضهم بل بَيَان الْوَاقِع فِي الْبِلَاد الإسلامية المستقلة وَهُوَ أَن ملك الْحجاز وَأَوْلَاده يَعْتَقِدُونَ أَن الْخلَافَة حَقهم بنسبهم ومركزهم فِي الْحجاز، وَأَنَّهُمْ ينالونه بمساعدة الدولة البريطانية لَهُم، وَقد قَالَ أحدهم عبد الله أَمِير شَرق الْأُرْدُن فِي الْإسْكَنْدَريَّة " إِن الْخلَافَة لنا " ونقلت الجرائد المصرية هَذَا عَنهُ ورد عَلَيْهِ فِي بَعْضهَا. . وَأما أهل نجد فحنابلة سلفيون وهم يسمون أَمِيرهمْ إِمَامًا وَلَا يسمونه خَليفَة وَلم يبلغنِي أَنه يَدعِي الْخلَافَة الْعَامَّة، وَلَكنهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنه لَا يُوجد أَمِير مُسلم يُقيم دين الله كَمَا أنزلهُ غَيره، وَأَن بِلَادهمْ دَار الْعدْل وَجَمَاعَة الْمُسلمين وَالْهجْرَة إِلَيْهَا وَاجِبَة بشروطها. . فَلَا مطمع فِي اتباعهم لغَيرهم، وَقد اتهموا بانتحال مَذْهَب جَدِيد نفر مِنْهُم غَيرهم، وهم لَا يبالون مَا يُقَال فيهم، وَلَا يدعونَ أحدا إِلَى اتباعهم، إِلَّا البدو المجاورين لَهُم، الَّذين لَا يعْرفُونَ من الْإِسْلَام عقيدة وَلَا عملا، فيدعونهم إِلَى التدين وَترك البداوة وَاتِّبَاع حكومتهم الإسلامية الَّتِي تقيم شرع الله وحدوده على مَذْهَب إِمَام السّنة أَحْمد بن حَنْبَل. . فَهَذَا ملخص مَا نعلم من حَال الْبِلَاد الْعَرَبيَّة المستقلة، وَتَركنَا ذكر حُكُومَة عمان الأباضية لِأَن نُفُوذ الإنكليز فِيهَا كَبِير، فأهلها لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا إِلَى الارتباط بغيرهم، وَمذهب أَكْثَرهم أباضى فهم من الْخَوَارِج الَّذين لَا يقيدهم مَذْهَبهم بِشَرْط

القرشية وَقد علمت من سُلْطَان مسْقط السَّابِق أَنه كَانَ يتَمَنَّى الارتباط بالدولة العثمانية. . وَأما الدول الأعجمية المستقلة فأولاها التركية، وَكَانَت تدعى أَن الْخلَافَة انْتَقَلت إِلَى سلاطينها بنزول آخر خلفاء العباسيين عتها للسُّلْطَان سليم الَّذِي أسره بِمصْر وَحمله إِلَى الآستانة وتسلسل ذَلِك فيهم بعد ذَلِك بالعهد والاستخلاف، حَتَّى كَانَ من أَمرهم فِي هَذِه الْأَيَّام مَا كَانَ، وَيُقَال إِن السُّلْطَان مُحَمَّد وحيد الدّين المخلوع مَا زَالَ يَدعِي الْخلَافَة الَّتِي آلت إِلَيْهِ بنظام الوراثة، وَالْحق مَا بَيناهُ من قبل، وَأَن الْخَلِيفَة العباسي الَّذِي أسره السُّلْطَان سليم لم يكن يملك الْخلَافَة وَلَا النُّزُول عَنْهَا وَلَو لأَهْلهَا، وَلَو كَانَ يملكهما، لاشترط فِي نُزُوله الْحُرِّيَّة وَالِاخْتِيَار، وَلم يكن يملكهما، وَمثله السُّلْطَان وحيد الدّين الْآن، فَلذَلِك لَا يعْتد بِمَا يتوقعه بَعضهم من نُزُوله عَنْهَا لملك الْحجاز، وَإِنَّمَا كَانَت خلَافَة التّرْك العثمانيين بالتغلب، فَلَا فرق بَين اخْتِيَار الْأَمِير عبد الْمجِيد الان بعد انْقِطَاع سلسلة الْعَهْد والاستخلاف بخلع مُحَمَّد وحيد الدّين، وَبَين اخْتِيَار هَذَا قبله عملا بذلك النظام. . هَذَا إِذا جعلته حُكُومَة أنقرة خَليفَة بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيّ الْمَعْرُوف. . وَلكنهَا اخترعت نوعا جَدِيدا من الْحُكُومَة ونوعاً آخر من الْخلَافَة، وَوضعت للأولى قانوناً أساسياً عَرفْنَاهُ وَلم تضع للثَّانِيَة قانوناً لتعلم مِنْهُ كنهها، فَإِن كَانَت خلَافَة روحية لَا سُلْطَان لَهَا فِي سياسة الْأمة وحكومتها فَهِيَ غير الْإِمَامَة الَّتِي بَينا أَحْكَامهَا، على أَن مَا يضعونه لَهَا من النظام إِن كَانَ مُوَافقا للشَّرْع حمدناه، وَإِن كَانَ مُخَالفا لَهُ أنكرناه، وَلَا يضرنا تَسْمِيَة هَذَا الْعَمَل خلَافَة، فَمثله مَعْهُود عِنْد أهل الطَّرِيق وَلَا مشاحة فِي الْإِصْلَاح وسنبين لَهَا فِي كل وَقت مَا يجب عَلَيْهَا لِلْإِسْلَامِ. وثانيتها الإيرانية، وَهِي شِيعِيَّة إمامية، والإمامة عِنْدهم للْإِمَام مُحَمَّد الْمهْدي المنتظر فَلَا تعترف بإمامة أُخْرَى لغيره، وَإِنَّمَا ترتبط بغَيْرهَا من الدول الإسلامية، بِنَوْع من المخالفات السياسية. وثالثتها الأفغانية وَهِي سنية وَقد اعْترفت فِي المحالفة الَّتِي عقدت بَينهَا وَبَين الْحُكُومَة التركية الجديدة فِي أنقرة بِأَن الدولة التركية دولة الْخلَافَة، وَلَكِن لم تعترف بسيادة مَا عَلَيْهَا. . بل كَانَت محالفتها محالفة الند للند. .

وَقد كَانَ نَص الْمَادَّة الثَّالِثَة من هَذِه المحالفة الَّتِي وضعت فِي (أنقرة) جعل الدولة الأفغانية فِي مَكَان التَّابِع من الدولة التركية، وَهَذِه التَّرْجَمَة نشرت فِي جَرِيدَة الْأَخْبَار المصرية لمراسلها فِي (كابل) عَاصِمَة الأفغان " تصدق الدولة الأفغانية بِهَذِهِ الْمُنَاسبَة على أَنَّهَا تقتدي بتركيا الَّتِي تحدم خدمات جليلة وَتحمل علم الْخلَافَة الإسلامية " أَي تقر وتعترف بِهَذِهِ الْقدْوَة. وَذكر المراسل أَن أَمِير الأفغان لم يقبل هَذَا النَّص بل غَيره " بِأَن الدولة الأفغانية لَا تقتدي بالدولة الْعلية التركية، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَن تعترف بِأَنَّهَا دولة الْخلَافَة " وَقد كَانَ هَذَا قبل الانقلاب التركي الْأَخير، وَذكر فِي بعض الجرائد أَن الأفغان أَنْكَرُوا مِنْهُ جعل الْخلَافَة روحية لَا شَأْن لَهَا فِي السياسة وَالْأَحْكَام وَإِذا آل الْأَمر إِلَى اعترافهم بِصِحَّة الْخلَافَة العثمانية التركية شرعا فَلَا مندوحة لَهُم عَن اتِّبَاع الْخَلِيفَة لأَنهم قوم مُسلمُونَ مستمسكون بدينهم استمساكا عَظِيما. . وَلَكِن الظَّاهِر أَن جَمِيع الَّذين يعترفون للعثمانيين من التّرْك بالخلافة وَلَا يتبعُون حكومتهم فَإِنَّمَا يعترفون لَهُم بلقب من ألقاب الشّرف، لصَاحبه نُفُوذ معنوي لَدَى الدول. . وَإِلَّا فَلَا معنى لكَون الرجل خَليفَة الْمُسلمين إِلَّا أَنه إِمَام دينهم وَرَئِيس حكومتهم الَّذِي تجب طَاعَته عَلَيْهِم. . وتباح دِمَاؤُهُمْ فِي الْخُرُوج عَلَيْهِ، والاستقلال بالحكم دونه بِشُرُوطِهِ الْمَعْرُوفَة فِي كتب الْفِقْه. . وَأما المتغلب الَّذِي لَا يطاع إِلَّا بالقهر فَلَا يجوز لغير من قهرهم الِاعْتِرَاف لَهُ بالخلافة، وَإِن من الْعَبَث بِالْإِسْلَامِ أَن تجْعَل إِمَامَته الْكُبْرَى مُجَرّد لقب من ألقاب الْمَدْح والشرف. . هَذَا وَأما الْبِلَاد الإسلامية الرازحة تَحت أثقال السيطرة الْأَجْنَبِيَّة كمصر وَسَائِر أقطار إفريقية الشمالية وسورية وَالْعراق فَلَيْسَ لَهَا من أَمر حكمهَا أَو حُكُومَة دينهَا شَيْء. . وَلَيْسَ فِيهَا جمَاعَة تتصرف فِي ذَلِك بِحل وَلَا عقد، فَلَو أَن رُؤَسَاء الْحُكُومَة والشعب فِي قطر مِنْهَا - وهم الَّذين كَانُوا لَوْلَا السلطة الْأَجْنَبِيَّة أهل الْحل وَالْعقد فِيهَا - أَرَادوا أَن يبايعوا خَليفَة فِي بِلَاد التّرْك أَو الْعَرَب مثلا مبايعة صَحِيحَة، وَهِي مَا توجب عَلَيْهِم أَن يَكُونُوا خاضعين لسلطانه، مُطِيعِينَ فِي أُمُورهم الْعَامَّة لأَمره وَنَهْيه، ناصرين لَهُ على من يقاتله أَو يبغى عَلَيْهِ، لما اسْتَطَاعُوا أَن يمضوا ذَلِك وينفذوه بِدُونِ إِذن الدولة الْأَجْنَبِيَّة المسيطرة عَلَيْهِم، وَهِي لن تَأذن وَإِن كَانَت تَدعِي أَنَّهَا لَا تعَارض الْمُسلمين فِي أُمُور دينهم، وَأَنَّهَا تاركة أَمر الْخلَافَة إِلَيْهِم. .

أهل الحل والعقد في هذا الزمان

وَأما الْأَفْرَاد وَالْجَمَاعَات الَّذين لَيْسَ لَهُم رئاسة وَلَا نُفُوذ فِي قيادة الشّعب، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يطيعوا إِذا بَايعُوا، كَأَن ينفروا إِذا استنفروا، وينصروا إِذا استنصروا، فقد يُسْمَح لَهُم فِي بعض هَذِه الأقطار بِأَن يَقُولُوا مَا شَاءُوا، وَفِي بَعْضهَا لَا يسمح لَهُم بذلك، وَرَأى السوَاد الْأَعْظَم من الْمُسلمين فِي كل قطر من هَذِه الأقطار مُخَالف لرأي الدولة المسيطرة عَلَيْهِ، وَمن ذَلِك مبايعة بعض الْأَفْرَاد وَالْجَمَاعَات المصرية والهندية للخليفة التركي الْجَدِيد، وَلَو أَرَادَ مثل ذَلِك أهل تونس والجزائر لما أُبِيح لَهُم مَعَ علم فرنسة المسيطرة عَلَيْهِم أَن هَذِه الْمُبَايعَة لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا اتباعهم لحكومته التركية. . وَأَن هَذِه الْحُكُومَة نَفسهَا، غير تَابِعَة لخليفتها، بل هُوَ تَابع لَهَا، وموظف عِنْدهَا، وَهِي الَّتِي تحدد عمله ووظيفته. . وصفوة القَوْل أَن الشعوب الإسلامية المقهورة بِحكم الْأَجَانِب لَيْسَ لَهَا من أمرهَا إِلَّا مَا يجود بِهِ عَلَيْهَا الْأَجَانِب القاهرون لَهَا، وَلَا يُمكنهَا أَن تساعد على وحدة الْأمة، الَّتِي تتَوَقَّف عَلَيْهَا وحدة الْإِمَامَة. . إِلَّا من طَرِيق بَث الدعْوَة وبذل المَال، وَأَن الشعوب المستقلة لَا مطمع الْآن فِي جمع كلمتها. . بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها، وإيجاد خلَافَة صَحِيحَة قَوِيَّة توَحد حكومتها. . وَأقرب مِنْهُ عقد مُوالَاة ودية أَو محالفات سياسية عسكرية بَينهَا، وَقد بَدَأَ بذلك الْأَعَاجِم مِنْهَا. . وَأما الْعَرَبيَّة فقد عز إِلَى الْيَوْم التَّأْلِيف بَينهَا، فَإِذا يسره الله تيَسّر اتفاقها مَعَ غَيرهَا، وَكَانَ ذَلِك تمهيدا للْإِمَامَة الْعَامَّة الَّتِي تجمع كلمتها كلهَا. . وَمن ذَا الَّذِي يُطَالب بِإِعَادَة تكوين الْأمة الإسلامية المنحلة العقد المفككة الأوصال، وبإعادة منصب الْخلَافَة إِلَى الْموضع الَّذِي وَضعه فِيهِ الشَّارِع؟ أهل الْحل وَالْعقد؟ . . وَمن هم وَأَيْنَ هم الْيَوْم؟ أهل الْحل وَالْعقد فِي هَذَا الزَّمَان وَمَا يجب عَلَيْهِم فِي أَمر الْأمة وَالْإِمَام: فَرغْنَا مِمَّا قصدنا إِلَى بَيَانه من أَحْكَام الْإِمَامَة الْعُظْمَى فِي الْإِسْلَام، ونقفي عَلَيْهِ بِبَيَان مَا يجب من السَّعْي للْعَمَل بِهَذِهِ الْأَحْكَام، بِإِعَادَة تكوين الْأمة ووحدتها. وَنصب الإِمَام الْحق لَهَا، الَّذِي بَينا فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة أَنه وَاجِب عَلَيْهَا شرعا، تأثم

كلهَا بِتَرْكِهِ، وتعد حَيَاتهَا ومبيتتها جَاهِلِيَّة مَعَ فَقده، فالأمة كلهَا مُطَالبَة بِهِ، وَهِي صَاحِبَة الْأَمر والشأن فِيهِ كَمَا بَيناهُ فِي الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة، وَإِنَّمَا يقوم بِهِ ممثلوها من أهل الْحل وَالْعقد كَمَا حررناه فِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة، فَأهل الْحل وَالْعقد هم المطالبون بِجَمِيعِ مصَالح الْأمة الْعَامَّة، وَمَسْأَلَة السلطة الْعليا بِخَاصَّة. . قُلْنَا إِن أهل الْحل وَالْعقد هم سراة الْأمة وزعماؤها ورؤساؤها، الَّذين تثق بهم فِي الْعُلُوم والأعمال والمصالح الَّتِي بهَا قيام حَيَاتهَا، وتتبعهم فِيمَا يقررونه بشأن الديني والدنيوي مِنْهَا، وَهَذَا أَمر من ضروريات الِاجْتِمَاع فِي جَمِيع شعوب الْبشر، تتَوَقَّف عَلَيْهِ الْحَيَاة الاجتماعية المنظمة، قَالَ شَاعِرنَا الْعَرَبِيّ: (لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إذاجهالهم سادوا) وَإِذا صلحت هَذِه الفئة من الْأمة صلح حَالهَا وَحَال حكامها، وَإِذا فَسدتْ فسدا، وَلذَلِك كَانَ من مُقْتَضى الْإِصْلَاح الإسلامي أَن يكون أهل الْحل وَالْعقد فِي الْإِسْلَام من أهل الْعلم الاستقلالي بشريعة الْأمة ومصالحها السياسية والاجتماعية، والقضائية والإدارية والمالية، وَمن أهل الْعَدَالَة والرأي وَالْحكمَة، كَمَا بَيناهُ فِي الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة، وَهِي مَا يشْتَرط فِي أهل الِاخْتِيَار للخليفة. . فَذكر أهل الْحل وَالْعقد قد تكَرر فِي مسَائِل أَحْكَام الْخلَافَة، وَلم نجعله عنواناً إِلَّا لهَذِهِ الْمَسْأَلَة الَّتِي عقدت للْكَلَام فيهم أنفسهم، وَأَيْنَ يوجدون الْيَوْم، وَمَا يجب عَلَيْهِم لأمتهم فِي هَذَا الْعَصْر، فَإِن الحكومات غير الشَّرْعِيَّة من أَجْنَبِيَّة ووطنية تَعْنِي بإفساد زعماء الشعوب الَّتِي تستبد فِي أمرهَا، ليكونوا أعوانا لَهَا على استبدادها، وَمن تعجز عَن إفساده على قومه بالترغيب ثمَّ بالترهيب تكيد لَهُ أَو تبطش بِهِ، فَأهل الْحل وَالْعقد من قبل الْأمة، قَلما يوجدون إِلَّا فِي الْأُمَم الْحرَّة، وَأكْثر الرؤساء فِي الْأُمَم المقهورة يكونُونَ من قبل حكامها، وهم الَّذين توليهم رئاسة بعض الْأَعْمَال والمصالح فِيهَا، فَيكون مَا بيدهم من الْحل وَالْعقد مُسْتَأْجرًا، وَقد تغش الْأمة بِبَعْض رِجَاله، وَقد يكونُونَ فِي نظرها من الخونة الْمُسْتَحقّين للعقاب، وَقد يُوجد فيهم من يكون أَهلا للثقة، وتعرف لَهُ الْأمة ذَلِك أَو تجهله، وَإِذا سكتت على إِظْهَار احتقارها لصنائع المستبدين فِيهَا، لتفرقها فِي وَقت الانقياد والدعة، فَإِنَّهَا تظهره فِي وَقت الِاجْتِمَاع بِالِاضْطِرَابِ والثورة، وَقد أظهرت لنا الثورة المصرية فِي هَذِه السنين، كَرَاهَة الْأمة، واحتقارها لأفراد من رُؤَسَاء مصَالح الدُّنْيَا وَالدّين، وترئيس أَفْرَاد

آخَرين عَلَيْهَا، وَآيَة هَذِه الزعامة المصنوعة الْمُسْتَأْجرَة للحكومة أَن صَاحبهَا إِذا خرج من منصبه، تَجِد جُمْهُور الْأمة لَا يحفل بِهِ، وَلَا يعده زعيماً لَهُ، وَرُبمَا أظهر لَهُ الاحتقار والإهانة. . وَقد رَأينَا الْأَجَانِب الغاصبين لبَعض بِلَادنَا فِي هَذِه السنوات النحسات يقودون بعض هَؤُلَاءِ الزعماء الَّذين أفسدوهم على الْأمة أَو رأسوهم عَلَيْهَا إِلَى عواصم بِلَادهمْ، ويتواطئون مَعَهم على توطيد سلطتهم فِيهَا (أَي الْأمة) ويستخدمون بَعضهم فِي الْبِلَاد للاستعانة بهم على استعمارها، وَكَذَلِكَ كَانَ يفعل السلاطين والأمراء، فِي استمالة الْعلمَاء والوجهاء، بالرتب والأوسمة والهبات، ثمَّ هَب التّرْك والمصريون يطْلبُونَ سلطة الْأمة بمجالس النواب، وَهَذِه الْمجَالِس بِمَعْنى جمَاعَة أهل الْحل وَالْعقد فِي الْإِسْلَام، إِلَّا أَن الْإِسْلَام يشْتَرط فيهم من الْعلم وَالْفضل مَالا يَشْتَرِطه الإفرنج ومقلدتهم فِي هَذَا الْعَصْر. وَقد صَار أهل الجمعية الوطنية فِي أنقرة أَصْحَاب الْحل وَالْعقد بِالْفِعْلِ، وبالرغم من السُّلْطَان الَّذِي ناصبهم فباء بالخزي والعزل، وحلوا مَحل مجْلِس المبعوثين ومجلس الوزراء وشخص السُّلْطَان جَمِيعًا، وَقد ذَكرنِي هَذَا مَا قَالَه لي الْغَازِي أَحْمد مُخْتَار باشا فِي الآستانة لما سَأَلته عَن رَأْيه فِي الْحُكُومَة الدستورية قَالَ: عندنَا مجْلِس وَلَيْسَ عندنَا سُلْطَان، وَلَا بُد من الكفتين فِي وجود الْمِيزَان. وَأما الْبِلَاد المقهورة بالاحتلال الْأَجْنَبِيّ كمصر والهند، فَلَا مجَال فِيهَا لمثل مَا فعل التّرْك، وَإِنَّمَا يظْهر فِيهَا فَرد بعد فَرد، إِلَّا أَن تبلغ الْأمة سنّ الرشد. وَلَقَد وصل الْأُسْتَاذ الإِمَام رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى مقَام الزعامة فِي هَذِه الْأمة ومرتبة أهل الْحل وَالْعقد فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة والدنيوية من سياسة وَغَيرهَا، بل قَارب أَن يكون زعيم الْأمة الإسلامية كلهَا، وَلَكِن بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، لِأَن الْأمة لم تكن قد تكونت تَكُونَا يؤهلها للسير فِي الخطة الَّتِي يختطها لَهَا، وَلذَلِك كَانَ يَقُول: يَا وَيْح الرجل الَّذِي لَيْسَ لَهُ أمة، وَقد كَانَ أَمِير بِلَاده ينْهَى عَنهُ وينأى عَنهُ، على أَنه كَانَ يرجع فِي الْمُهِمَّات وَحل المشكلات إِلَيْهِ ... وَقد بلغ سعد باشا زغلول مقَام الزعامة السياسية فِي هَذِه السنين الَّتِي تكون فِيهَا قومه، فَلَمَّا تصدى للْعَمَل بِقُوَّة الشّعب. . كَانَ جَزَاؤُهُ النَّفْي بعد النَّفْي، وَيُوجد فِي الْهِنْد رجال من الْمُسلمين والهنود رفعتهم أَحْدَاث الزَّمَان إِلَى مقَام الزعامة فِي الْأمة،

بِإِظْهَار مَا هم عَلَيْهِ من الْكَفَاءَة وعلو الهمة وهم الْآن فِي غيابات السجون، مِنْهُم (غاندي) عِنْد الهندوس وَأَبُو الْكَلَام وَمُحَمّد عَليّ وشوكت عِنْد الملسمين، ويلي هَؤُلَاءِ جماعاتهم كالوفد الْمصْرِيّ عندنَا وجمعية الْخلَافَة عِنْدهم. . وَأما الْجَمَاعَات الْقَدِيمَة مثل هَيْئَة كبار الْعلمَاء فِي الْأَزْهَر بِمصْر، وَفِي جَامع الفاتح والسليمانية من الآستانة، وجامع الزيتونة بتونس، ومدرسة ديوبند بِالْهِنْدِ فَإِن جُمْهُور الْأمة يَثِق بِأَن حكم الله مَا قَالُوا، لَكِن أَكثر المتفرنجين - وَمِنْهُم أَكثر الْحُكَّام والقواد والأحزاب السياسية - قَلما يُقِيمُونَ لأحد مِنْهُم وزنا، إِلَّا من كَانَ ذَا منصب أَو ثروة، أصَاب بهَا بعض الوجاهة. . وَلَا يُوجد فِي عُلَمَاء أهل السّنة مُجْتَمعين وَلَا منفردين من يبلغ فِي الزعامة وَاتِّبَاع الشّعب لَهُ مبلغ مجتهدي عُلَمَاء الشِّيعَة، وَلَا سِيمَا متخرجي النجف مِنْهُم، فَأُولَئِك هم الزعماء لأهل مَذْهَبهم حَقًا، وَيُقَال إِنَّهُم أفتوا فِي هَذِه الآونة بِتَحْرِيم انتخاب الجمعية الوطنية، الَّتِي أمرت بهَا حُكُومَة الْملك فيصل لإقرار المعاهدة بَين الْعرَاق والدولة البريطانية، فأطاعها البدو والحضر من الشِّيعَة. . وَقد كَانَ ميرزا حسن الشِّيرَازِيّ رَحمَه الله تَعَالَى أصدر فَتْوَى تَحْرِيم التنباك فخضع لَهَا الشّعب الإيراني كُله، وَتركُوا اسْتِعْمَال التنباك وزرعه، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صادرات بِلَادهمْ كالقطن فِي الْقطر الْمصْرِيّ، وَكَانَ الَّذِي حمله على إصدار هَذِه الْفَتْوَى موقظ الشرق السَّيِّد جمال الدّين الأفغاني قدس الله روحه بِسَبَب إِعْطَاء حُكُومَة إيران امتيازا بالتنباك لشركة إنكليزية، فاضطرت الْحُكُومَة لفسخ الامتياز فِي مُقَابل تعويض للشَّرِكَة قدره خَمْسمِائَة ألف جنيه إنجليزي، وَلَو لم تفسخ هَذِه الشّركَة لفَعَلت فِي إيران مَا فعلت شركَة الْجُلُود الإنكليزية فِي الْهِنْد، أَي لملكت أمتها تِلْكَ الْبِلَاد وضمتها إِلَى إمبراطورية الْهِنْد. . قلت إِن الحكومات المسبتدة تجتهد فِي إِفْسَاد من يظْهر من الزعماء فِي الشعوب الَّتِي تتولى أمرهَا، على أَنَّهَا تعنى قبل ذَلِك بالأسباب الَّتِي تمنع وجود الزعامة فِيهَا بإفساد التَّعْلِيم ومراقبته، وَقد أبعدوا عُلَمَاء الدّين عَن السياسة وَعَن الْحُكُومَة، فَصَارَ أَكثر أَهلهَا وأنصارها من الْجَاهِلين بالشريعة، وَتَوَلَّى هَؤُلَاءِ أَمر التَّعْلِيم وإعداد عُمَّال الْحُكُومَة بِهِ، وانكمش الْعلمَاء إِلَى زَوَايَا مَسَاجِدهمْ، أَو جحور بُيُوتهم، وَلم يطالبوا بحقوقهم، وَلَا اسْتَعدوا لذَلِك بِمَا تَقْتَضِيه حَال الزَّمَان، وطبيعة الْعمرَان، وَلَا عرفُوا كَيفَ يحفظون مكانتهم من زعامة الْأمة بتعريفها بحقوقها، وقيادتها

حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل

للمطالبة بهَا، فأضاعوا حَقهم من الْحل وَالْعقد فِيهَا، وتركوها لرؤساء الْحُكَّام وللأحزاب والجمعيات السياسية الَّتِي يتَوَلَّى أمرهَا فِي الْغَالِب من لَا حَظّ لَهُم من عُلُوم الدّين، وَلَا من تَرْبِيَته الَّتِي لَا نظام لما بَقِي مِنْهَا عِنْد بعض الْمُسلمين. . فَإِذا أُرِيد السَّعْي - وَالْحَال هَذِه - لما وَجب فِي الشَّرْع من إِمَامَة الْحق وَالْعدْل الْعَامَّة، فَلَا بُد قبل ذَلِك من السَّعْي لوُجُود جمَاعَة أهل الْحل وَالْعقد المتحلين بِالصِّفَاتِ الَّتِي اشْترطت فيهم، كَمَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة. فَإِنَّهُم هم أَصْحَاب الْحق فِي نصب الإِمَام بنيابتهم عَن الْأمة، وبتأييده فِي حمل الْأمة على طَاعَته، وَالْمَطْلُوب قبل نصب الإِمَام الْعَام للْأمة كلهَا، أَو للبلاد المستقلة مِنْهَا، أَن تتحد شعوب هَذِه الْبِلَاد، وَترجع عَن جعل اخْتِلَاف الْمذَاهب والأجناس واللغات مَوَانِع للوحدة والاتفاق ... وَإِنَّا نتساءل هُنَا: هَل يُوجد فِي الْبِلَاد الإسلامية من أهل الْحل والقعد من يقدر على النهوض بِهَذَا الْأَمر؟ وَإِذا لم يكن فِيهَا من لَهُم هَذَا النّفُوذ بِالْفِعْلِ، أَفلا يُوجد من لَهُ ذَلِك بِالْقُوَّةِ؟ ثمَّ أَلا يُمكن للْمُسلمين وضع نظام لجعل النّفُوذ بِالْقُوَّةِ نفوذاً بِالْفِعْلِ؟ بلَى إِنَّه مُمكن عسر، وَقُوَّة الْعَزِيمَة تجْعَل الْعسر يسرا، وَقُوَّة الْعَزِيمَة تتبع قُوَّة الداعية، وَمن ذَا الَّذِي يُرْجَى أَن يضع النظام ويشرع فِي الْعَمَل؟ أَلا إِنَّه حزب الْإِصْلَاح الإسلامي المعتدل ... حزب الْإِصْلَاح الإسلامي المعتدل: قدر علم مِمَّا تقدم أَن الْعَمَل لوحدة الْأمة الإسلامية بِقدر الْإِمْكَان ينْحَصر الْيَوْم فِي الشعبين الكبيرين - الْعَرَبِيّ جرثومة الْإِسْلَام، والتركي سيف الصمصام، وَأَن أَمر الْبِلَاد الْعَرَبيَّة المستقلة بيد أئمتها وأمرائها فالتأليف بَينهم مقدم على كل شَيْء فِيهَا. . ونقول هُنَا: أَن المتصدرين للزعامة السياسية ومقام الْحل وَالْعقد فِي غير جَزِيرَة الْعَرَب من الْبِلَاد الإسلامية أَزوَاج ثَلَاثَة، مقلدة الْكتب الْفِقْهِيَّة الْمُخْتَلفَة، ومقلدة القوانين وَالنّظم الأوربية، وحزب الْإِصْلَاح الْجَامِع بَين الِاسْتِقْلَال فِي فهم فقه الدّين وَحكم

حزب المتفرنجين

الشَّرْع الإسلامي وكنه الحضارة الأوربية، وَهَذَا الحزب هُوَ الَّذِي يُمكنهُ إِزَالَة الشقاق من الْأمة، على مَا يجب عمله فِي إحْيَاء منصب الْإِمَامَة، إِذا اشْتَدَّ أزره، وَكثر مَاله وَرِجَاله، فَإِن موقفه فِي الْوسط يُمكنهُ من جذب المستعدين لتجديد الْأمة من الطَّرفَيْنِ. . وَهُوَ الحزب الَّذِي سميناه فِي الْمقَالة الثَّالِثَة من مقالات (مَدَنِيَّة القوانين) بحزب الْأُسْتَاذ الإِمَام إِذْ كَانَ الْمنَار يمهد السَّبِيل لجعل الْأُسْتَاذ زعيم الْإِصْلَاح فِي جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام، وَإِنَّا نَعْرِف أفرادا من هَؤُلَاءِ المصلحين المعتدلين فِي الأقطار الْمُخْتَلفَة وَلَا سِيمَا الْعَرَبيَّة والتركية والهندية، ونشهد أَن مُسْلِمِي الْهِنْد فِي جُمْلَتهمْ أَرْجَى لشد أزر هَذَا الحزب بِالْمَالِ وَالرِّجَال من غَيرهم، وَلَكنهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَل إِلَّا باتحاد عقلائهم مَعَ عقلاء سَائِر الأقطار، لتكوين جمَاعَة أهل الْحل وَالْعقد بِمَا يتفقون عَلَيْهِ من النظام، لأجل قيادة الرَّأْي الْعَام، ولتكوين مؤتمر عَاجل لأجل تَقْرِير مَا يتَّخذ من الْوَسَائِل الْآن، فَإِن مَسْأَلَة الْخلَافَة كَانَت مسكوتا عَنْهَا، فَجَعلهَا الانقلاب التركي الْجَدِيد أهم الْمسَائِل الَّتِي يبْحَث فِيهَا، وَلَوْلَا كَثْرَة التخبط وتضليل الرَّأْي الْعَام بِأَكْثَرَ مَا كتب فِيهَا لآثرنا السُّكُوت على القَوْل، مَعَ السَّعْي إِلَى مَا نرى من الْمصلحَة فِيهَا بِالْعَمَلِ، وَلَكِن وَجب التَّمْهِيد لَهُ بِبَيَان الْحَقَائِق وَإِن جعلت مَوضِع الْبَحْث والمراء، باخْتلَاف الآراء والأهواء، وحسبنا أَن نذْكر حزب الْإِصْلَاح بِمَا يعن لَهُ من العقبات، من حزبي التقاليد والعصبيات، وَبِمَا يجب أَن يعد للْعَمَل من الْقَوَاعِد والبينات. . حزب المتفرنجين: بَينا فِي الْمقَالة الثَّالِثَة من مقالات (مَدَنِيَّة القوانين) مرادنا من التفرنج وَأَهله وَأَن مِنْهُم الْمُرْتَدين المجاهرين بالْكفْر والمسرين بِهِ، ومداركهم فِي حُكُومَة الْإِسْلَام وشريعته. . ونقول هُنَا أَيْضا: إِن ملاحدة المتفرنجين يَعْتَقِدُونَ أَن الدّين لَا يتَّفق فِي هَذَا الْعَصْر مَعَ السياسة وَالْعلم والحضارة، وَأَن الدولة الَّتِي تتقيد بِالدّينِ تقيدا فعليا لَا يُمكن أَن تعز وتقوى وتساوي الدولة العزيزة. . وَهَؤُلَاء كَثِيرُونَ جدا فِي المتعلمين فِي أوربه وَفِي الْمدَارِس الَّتِي تدرس فِيهَا اللُّغَات الأوروبية والعلوم العصرية، وَرَأى أَكْثَرهم أَنه يجب أَن تكون الْحُكُومَة غير دينية. . وحزبهم قوي ومنظم فِي التّرْك، وَغير منظم فِي مصر،

وَضَعِيف فِي مثل سورية وَالْعراق والهند، ورأيه أَنه يجب إِلْغَاء منصب الْخلَافَة الإسلامية من الدولة، وإضعاف الدّين الإسلامي فِي الْأمة، واتخاذ جَمِيع الْوَسَائِل لاستبدال الرابطة الجنسية أَو الوطنية بالرابطة الدِّينِيَّة الإسلامية، وَالتّرْك من هَؤُلَاءِ أَشد خصوم إِقَامَة الْإِمَامَة الصَّحِيحَة فِي الدولة التركية. . وَقد بثت جمعياتهم الدعْوَة فِي الأناضول مهد النعرة الإسلامية، إِلَى العصبية العمية، بالأساليب الَّتِي لَا يشْعر الْجُمْهُور بالغرض مِنْهَا، وَقد أَشَرنَا من قبل إِلَى بَعْضهَا، فَكَانَ لَهَا التَّأْثِير الْمَطْلُوب: كَانَ التركي هُنَاكَ إِذا سُئِلَ عَن جنسه قَالَ: مُسلم وَالْحَمْد لله، وَبِذَلِك يمتاز من الرُّومِي والأرمني. . وَأما الْآن فَصَارَ يُجيب بِأَنَّهُ تركي. . وَكَانَ لَا يفهم من وجوب الْخدمَة العسكرية إِلَّا طَاعَة خَلِيفَته، وسلطانه فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، فبثت فِيهِ فكرة الْقِتَال فِي سَبِيل التّرْك ووطن التّرْك لمجد التّرْك، وَقد اطَّلَعْنَا فِي هَذِه الْأَيَّام على قصَّة (قَمِيص من نَار) للكاتبة الإسرائيلية النّسَب التركية السياسة وَالْمذهب، خالدة أديب وزيرة المعارف فِي حُكُومَة أنقرة، وَقد أنشأتها لبَيَان كنه الْحَرَكَة الوطنية فِي الأناضول الَّتِي أنشئت لمقاومة سلطة الآستانة وَإِخْرَاج اليونان من الْبِلَاد وتأمين استقلالها فألقيناها مصورة لما ذكرنَا، لم نر فِيهَا كلمة وَاحِدَة تدل على فكرة الْجِهَاد الإسلامي وَلَا الرّوح الديني الَّذِي كُنَّا نعهد. . على أَن فريقا من هَؤُلَاءِ المتفرنجين يرى أَن وجود منصب الْخلَافَة فِي التّرْك يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ من بعض الْوُجُوه السياسية والأدبية وَغَيرهمَا إِذا كَانَت الْخلَافَة صورية أَو روحانية لَا سُلْطَان لَهَا فِي التشريع وَلَا فِي التَّنْفِيذ، بل ينْحَصر نفوذها فِي الدعاية السياسية للدولة من طَرِيق الدّين، كسلطة البابا والبطاركة وجمعيات التبشير، وَأكْثر هَؤُلَاءِ من أَصْحَاب العصبية الطورانية، الَّذين يتفقون من بعض الْوُجُوه مَعَ طلاب الجامعة الإسلامية، فَإِنَّهُم يطمعون فِي تأليف أمة كَبِيرَة من شعوب الشرق الأعجمية الْمسلمَة بجعلهم كلهم تركا لِأَنَّهُ لَيْسَ لأحد مِنْهُم لُغَة علمية مدونة إِلَّا الْفرس الإيرانيين والأفغانيين، وَكَذَا لُغَة الأورد وَفِي مُسْلِمِي الْهِنْد، على أَن اللُّغَة التركية فَاشِية فِي أَكثر بِلَاد إيران، وَمن لم يُمكن إدغامه فِي الْأمة التركية باسم الْوحدَة الطورانية ورابطة اللُّغَة التركية، فَإِن من الْمُمكن إدغامه فِيهَا بالتبع للخلافة الإسلامية، ثمَّ يكون أَوْلَاد هَؤُلَاءِ تركا بالتعليم والتربية تبعا للحكومة. وحزب العصبية التركية الْمَحْضَة، معَارض لحزب العصبية الطورانية الْعَامَّة، إِذْ يخَاف أَن

حزب حشوية الفقهاء الجامدين

يضيع التّرْك فِيهَا كَمَا ضَاعُوا فِي الجامعة العثمانية أَو الإسلامية بِزَعْمِهِ. . وَلَيْسَ من غرضنا هُنَا تَحْقِيق هَذِه الْمسَائِل ولاانقادها، بل التَّذْكِير بِمَا فِيهَا من مُعَارضَة الْإِمَامَة الإسلامية الْحق بأوجز عبارَة، وَلَا نيأس من إقناع الكثيرين مِنْهُم بِالْجمعِ بَين الجنسية التركية والإسلامية. . وهنالك فريق من المتفرنجين - وَمِنْهُم بعض المتدينين - وَمن غَيرهم يرَوْنَ أَن إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية وَجعل رَئِيس الدولة هُوَ الإِمَام الْحق الَّذِي يُقيم الْإِسْلَام مُتَعَذر فِي هَذَا الزَّمَان فِي دولة مَدَنِيَّة، فإمَّا أَن تكون الْخلَافَة فِي الدولة التركية اسمية كَمَا كَانَت فِي الدولة العثمانية ينْتَفع بهَا بِقدر الْإِمْكَان وَيَتَّقِي فِيهَا شَرّ استبداد الْخَلِيفَة، وَتَكون الْحُكُومَة مُطلقَة من قيد الْتِزَام الشَّرْع، فِي الْأَحْكَام الَّتِي لَا يُمكن الْعَمَل بهَا فِي هَذَا الْعَصْر، وَإِمَّا أَن يسْتَغْنى عَنْهَا الْبَتَّةَ. . واستمالة حزب الْإِصْلَاح لهَؤُلَاء أيسر من استمالته لغَيرهم. . حزب حشوية الْفُقَهَاء الجامدين: إِن جَمِيع عُلَمَاء الدّين وَأكْثر الْعَامَّة المقلدين لَهُم يتمنون أَن تكون حكومتهم إسلامية مَحْضَة، وَالتّرْك يحتمون أَن تكون تَابِعَة لفقه الْمَذْهَب الْحَنَفِيّ، وَمِنْهُم من لَا يرى مَانِعا من الْأَخْذ فِي بعض الْأَحْكَام بِفقه غير الْحَنَفِيَّة من مَذَاهِب أهل السّنة، وَلَا يبالون بِمَا خَالف ذَلِك من مَدَنِيَّة الْعَصْر، وَلَكِن هَؤُلَاءِ الْعلمَاء يعجزون عَن جعل القوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الْفِقْه التقليدي ويأبون الْقبُول بِالِاجْتِهَادِ الْمُطلق فِي كل الْمُعَامَلَات الدُّنْيَوِيَّة، وَلَو فوض إِلَيْهِم أَمر الْحُكُومَة على أَن ينهضوا بهَا لعجزوا قطعا، وَلما اسْتَطَاعُوا حَربًا وَلَا صلحا. . طالما بَينا فِي الْمنَار أَن تَقْصِير عُلَمَاء الْمُسلمين فِي بَيَان حَقِيقَة الْإِسْلَام والدفاع عَنهُ بِمَا تَقْتَضِيه حَالَة هَذَا الْعَصْر هُوَ أكبر أَسبَاب ارتداد كثير من متفرنجة الْمُسلمين عَنهُ، وَأَنَّهُمْ لَو بَينُوهُ كَمَا يجب لدخل فِيهِ من الإفرنج أنفسهم، أَضْعَاف من يخرج بفتنتهم. . وَأَن سَبَب ذَلِك أَو أهم أَسبَابه أَنه لَيْسَ للْمُسلمين إِمَام وَلَا جمَاعَة تقيم ذَلِك بنظام وَمَال كَمَا يفعل إِمَام الكاثوليك البابا والبطاركة والأساقفة وجمعيات التبشير

فِي بِلَاد النَّصْرَانِيَّة، على أَن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا الْعلمَاء وأبطلوا عَلَيْهِم زعامتهم للْأمة إِلَّا فِيمَا يُؤَيّد ظلمهم واستبدادهم كَمَا ذكرنَا آنِفا. . وَلَو كَانَ للْمُسلمين خَليفَة قَائِم بأعباء الْإِمَامَة الْعُظْمَى لما أهمل أَمر الدفاع عَن الْإِسْلَام والدعوة إِلَيْهِ، وَلما غلب على الدولة العثمانية من لَا علم لَهُم بِهِ، أَلَيْسَ من الْغَرِيب أنني لما وضعت مَشْرُوع الدعْوَة والإرشاد للْقِيَام بِهَذِهِ الْفَرَائِض الَّتِي هِيَ أول مَا يجب على إِمَام الْمُسلمين وجماعتهم لم يُوجد فِي وزراء الدولة وَلَا رؤسائها من تجرأ على إجَازَة هَذَا الِاسْم وَأَن الَّذين استحسنوا الْمَشْرُوع اتَّفقُوا على تَسْمِيَة جمعيته بِجَمَاعَة الْعلم والإرشاد، نعم إِن مستشار الصدارة قَالَ لحقى باشا الصَّدْر الْأَعْظَم أَمَامِي: إِذا نفذنا هَذَا الْمَشْرُوع أَلا نلقي مقاومة من الدول الْعُظْمَى؟ فَأَجَابَهُ: إِن لدولة البلغار مدرسة عندنَا لتخريج الدعاة إِلَى النَّصْرَانِيَّة أفتكون دولة الْخلَافَة فِي عاصمتها دون دولة البلغار حريَّة فِي دينهَا؟ وَلَكِن هَذَا الصَّدْر الْأَعْظَم لم ينفذ الْمَشْرُوع وَلم يساعدنا فِيهِ أدني مساعدة، وَإِنَّمَا اغتنمنا فرْصَة سفرة إِلَى إيطالية وسفر طلعت بك وَزِير الداخلية وزعيم الاتحادية إِلَى أدرنة لتقرير الْمَشْرُوع رسميا، وأعانني على ذَلِك انْعِقَاد مجْلِس الوكلاء برئاسة شيخ الْإِسْلَام مُوسَى كاظم أَفَنْدِي أحد أنصاره فَمَا زلت ألح عَلَيْهِ حَتَّى أصدر - رَحمَه الله - قرارا من الْمجْلس بتنفيذه، ثمَّ جَاءَ طلعت بك فأفسد الْأَمر. . وَكَانَ الَّذِي يسمونه السُّلْطَان و (الْخَلِيفَة) فِي قفصه مَغْلُوبًا على أمره، لَا يكَاد يصحو من سكره، وَلَا ترجو المشيخة الإسلامية مِنْهُ قولا وَلَا عملا فِي هَذَا الْأَمر وَلَا غَيره، ولماذا كَانَ نُفُوذ مثل طلعت وكاظم أغلب عَلَيْهِ من نُفُوذ شيخ الْإِسْلَام وشيوخ دَار الْفَتْوَى؟ أَلَيْسَ لعجز الشُّيُوخ وأعوانهم عَن إدارة أُمُور الدولة وَعَن إِظْهَار كِفَايَة الشَّرِيعَة، وَعَن إِثْبَات أصُول الِاعْتِقَاد بهَا بِالْحجَّةِ. وَدفع كل مَا يرد عَلَيْهَا من شبهه؟ أَلَيْسَ لأَنهم غير متصفين بِمَا اشْتَرَطَهُ أَئِمَّة الشَّرْع فِي أهل الْحل وَالْعقد، من الْعلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟ على أَن نُفُوذ عُلَمَاء الدّين فِي بِلَاد التّرْك أقوى مِنْهُ فِي مثل سورية ومصر، وَلَكِن خصومهم من المتفرنجين أقوى مِنْهُم، وكل من الْفَرِيقَيْنِ يعد الآخر سَبَب ضعف الدولة، وتقهقر الْأمة، وَالْحق أَن الذَّنب مُشْتَرك بَينهمَا، وَأَن نصب الإِمَام الْحق

وَجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الْخلَافَة، لَا يتم إِلَّا بِجمع حزب الْإِصْلَاح لكلمة الْمُسلمين المتفرقة بجذب أَكثر أَصْحَاب النّفُوذ إِلَيْهِ، حَتَّى تَنْحَصِر صِفَات أهل الْحل وَالْعقد فِيهِ، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بتحويل الْعلمَاء مِنْهُم عَن جمود التَّقْلِيد وعصبية الْمذَاهب، وكشف شُبُهَات المتفرنجين على الدّين وَالشَّرْع، وَبَيَان الْخَطَأ فِي عصبية الْجِنْس، فَإِن كَانَ إقناع السوَاد الْأَعْظَم بذلك غير مستطاع الْآن، فَحسب هَذَا الحزب من النجاح الرجحان على سَائِر الْأَحْزَاب، واستعداده لذَلِك بِمَا سنبينه من الْأَسْبَاب. . إِن الْإِسْلَام هِدَايَة روحية، ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فِيهِ من كملتا لَهُ، والناقص فِيهِ من ضعف فِيهِ إِحْدَاهمَا أَو كلتاهما، وَقد فقدهما مَعًا الْمَلَاحِدَة من غلاة العصبية الجنسية، فَهَؤُلَاءِ لَا علاج لَهُم، لَا عِنْد أنصار الْخلَافَة وَلَا عِنْد غَيرهم، وَلَكِن بَيَان حَقِيقَة الْإِسْلَام، وَمَا فِيهِ من الحكم وَالْأَحْكَام، الكافلة لأرقى معارج الْمَدِينَة والعمران، مَعَ الْخُلُو من كل مَا فِي المدنية المادية من الشَّرّ وَالْفساد، على الْوَجْه الَّذِي سنشير إِلَيْهِ فِي أبحاثنا هَذِه - يفل من حَدهمْ، ويوقفهم عِنْد حَدهمْ، بل يهدي من لم يخْتم على قلبه من أفرادهم، وَهُوَ بهداية الْكثير من غَيرهم أقوم، ونجاح الدعْوَة فيهم أَرْجَى. . حَسبنَا هَذِه الْإِشَارَة إِلَى مَا يجب من السَّعْي لهَذَا الْعَمَل فِي التّرْك، وَأما الشّعب الْعَرَبِيّ الَّذِي هُوَ أصل الْإِسْلَام وأرومته، وَلَا حَيَاة لَهُ بلغته، وَلَا تتمّ أَرْكَانه إِلَّا بفريضة الْحَج الَّتِي تُؤدِّي فِي بِلَاده، وَهُوَ الرُّكْن الاجتماعي الوحيد الْجَامِع بَين شعوبه، وَلَا يُمكن أَن تكون الْإِمَامَة الصَّحِيحَة الْعَامَّة بمعزل عَنهُ، فَهُوَ شعب كُله متدين، لَيْسَ فِي جزيرته إلحاد وَلَا تفرنج، وَإِنَّمَا آفته الْجَهْل بطرق إدارة الْبِلَاد وعمرانها، وبالعلوم والفنون الَّتِي يتَوَقَّف حفظ الِاسْتِقْلَال وَعزة الْملَّة عَلَيْهَا، وتعادي الْأُمَرَاء، ودسائس الْأَعْدَاء، فَكل مَا يجب لَهُ على حزب الْإِصْلَاح، إقناع أمرائه بِمَا يجب من الِاتِّحَاد، ومساعدتهم على مَا يجب من إعداد وَسَائِل الْقُوَّة والعمران، وَهَا نَحن أولاء نذْكر بِمَا يجوز نشره من برامج الْأَعْمَال، وأساليب الِاسْتِدْلَال وكنه استعداد الْمُسلمين لهَذَا الْأَمر الْعَظِيم. .

مقاصد الناس في الخلافة وما يجب على حزب الإصلاح

مَقَاصِد النَّاس فِي الْخلَافَة وَمَا يجب على حزب الْإِصْلَاح: الْأُمُور بمقاصدها - ومقاصد النَّاس فِي الْخلَافَة مُخْتَلفَة وقلما يقْصد أحد مِنْهُم إِقَامَة الْخلَافَة الصَّحِيحَة الشَّرْعِيَّة الَّتِي بَينا حَقِيقَتهَا وأحكامها، ذَلِك بِأَن أَكْثَرهم لَا يَعْقِلهَا، وَمن يَعْقِلهَا من غير الْأَكْثَرين يظنون إِقَامَتهَا متعذرة، وَأَنه لَا مندوحة عَن الرضى بخلافة الضَّرُورَة، الَّتِي لاتراعي فِيهَا جَمِيع الشُّرُوط الشَّرْعِيَّة، وَلَا جَمِيع مَا يجب على الْخَلِيفَة وَالْجَمَاعَة، ثمَّ هم يَخْتَلِفُونَ فِي حد هَذِه الضَّرُورَة لاتساع مجَال الرَّأْي والهوى فِيهِ، حَتَّى لَا يبْقى بَينهم وَبَين من لَا يعْرفُونَ حَقِيقَة هَذَا المنصب ومنافعه كَبِير فرق، وَلَو عرفهَا السوَاد الْأَعْظَم لتمنوها، وَلَو وضع نظام لإقامتها ودعوا إِلَيْهِ لأجابوا، وبذلوا فِي سَبيله مَا اسْتَطَاعُوا. . باحثت كثيرا من خَواص المصريين المعممين وَغير المعممين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فألفيتهم متفقين على أَن الْقَصْد من تأييد الْخلَافَة الجديدة الَّتِي ابتدعتها حُكُومَة أنقرة الجمهورية فِي الآستانة تخذيل الدولة البريطانية فِي دسائسها الَّتِي ترمى بهَا إِلَى جعل هَذَا المنصب الإسلامي الرفيع آلَة فِي يَدهَا فِيمَا كَانَت تسْعَى إِلَيْهِ من اصطناع الْملك حُسَيْن فِي مَكَّة وَالسُّلْطَان وحيد الدّين فِي الآستانة وَمَا آل إِلَيْهِ سعيها من الْجَمِيع بَينهمَا بعد تهريبها الثَّانِي إِلَى مالطة، وَلم يقْصد أحد من المصريين بتأييد الْخَلِيفَة الْجَدِيد بالتهنئة وَلَا الْمُبَايعَة أَن يكون لَهُ على بِلَادهمْ حق إِمَام الْمُسلمين الْأَعْظَم على الْأمة من كَون حكومتهم تَابِعَة لَهُ وخاضعة لسلطانه فِيمَا يرى فِيهِ الْمصلحَة من نصب أمرائها وحكامها وعزلهم وجباية المَال وَأخذ الْجند للْجِهَاد وَغير ذَلِك من وظائف الْخلَافَة الَّتِي ذكرهَا عُلَمَاء الْإِسْلَام، وَهَذَا كَمَا ترى غَرَض سياسي فَائِدَته سلبية والباعث عَلَيْهِ الشُّعُور الإسلامي الْعَام، الَّذِي وَلَده الضغط الْأَجْنَبِيّ، ومحاولة هَذِه الدولة لاستعباد الشعوب الإسلامية الَّتِي بَقِي لَهَا بَقِيَّة من الِاسْتِقْلَال وَلَا سِيمَا التّرْك وَالْعرب، وَهُوَ لَا يتَوَقَّف على وجود الْخلَافَة الصَّحِيحَة وَلَا الإِمَام الْحق وَالْجَمَاعَة، بل هُوَ من قبيل المظاهرة السياسية للزعيم السياسي (سعد باشا زغلول) بل دونهَا قُوَّة، لأجل هَذَا لَا يبالون بِشُرُوط هَذِه الْخلَافَة وأعمالها، وَمثلهمْ فِي ذَلِك سَائِر مُسْلِمِي إفريقية وأمثالهم من المستذلين للأجانب، على أَن هَؤُلَاءِ يتمنون لَو يكونُونَ

تابعين للدولة التركية، ويعلمون أَن ذَلِك معتذر وَلَكِن ساسة المصريين لَا يتَمَنَّى أحد مِنْهُم ذَلِك. ومسلموا الْهِنْد أَشد عناية من سَائِر مُسْلِمِي الأَرْض بِهَذَا الْأَمر، ونصرهم للخلافة التركية إيجابي وسلبي لَا سَلبِي فَقَط، وَلَا يرضون أَن تكون خلَافَة روحانية لَا حكم لَهَا وَلَا سُلْطَان، فَإِذا تساهلوا فِي بعض شُرُوطهَا الَّتِي يُوجِبهَا مَذْهَبهم الَّذِي يتعصبون لَهُ أَشد التعصب بِشُبْهَة الضَّرُورَة فَلَا يتساهلون فِي أصل موضوعها والمقصد الَّذِي شرعت لأَجله، وَهُوَ إِقَامَة أَحْكَام الشَّرْع الإسلامي فِي الْعِبَادَات والمعاملات المدنية والسياسية وَغَيرهَا، فهم يحتمون أَن يكون الْخَلِيفَة - كَانَ متغلبا - رَئِيس الْحُكُومَة الإسلامية الْأَعْلَى، ثمَّ لَا يسْأَلُون بعد ذَلِك أَقَامَ أَحْكَام الشَّرْع أم لَا، بِدَلِيل مَا كَانَ من تعصبهم لعبد الحميد الَّذِي جعل نَفسه فَوق الشَّرْع والقانون - فَكَانَ مستبدا فِي كل شَيْء - ثمَّ لمُحَمد رشاد الَّذِي لم يكن بِيَدِهِ من الْأَمر شئ، وَكَذَا للاتحاديين الَّذين سلبوه كل شئ، ثمَّ لوحيد الدّين، إِلَى أَن فر مَعَ الْأَجَانِب مغاضبا لِقَوْمِهِ ولسائر الْمُسلمين. فَإِذا ظلّ هَذَا مُنْتَهى شوطهم، فَلَا حَيَاة للخلافة الصَّحِيحَة بسعيهم، وَلَا حَاجَة إِلَى تأليف حزب أَو جمعية غير مَا عِنْدهم، وَيُمكن على هَذَا إرضاؤهم بالخلافة الروحية بحيلة لفظية، كَأَن تشْتَرط الْحُكُومَة الفعلية على من تسميه خَليفَة أَن يُفَوض إِلَيْهَا أَمر الْأَحْكَام كلهَا أَو مَا يسمونه الْآن فِي عرف القوانين بالسطتين التشريعية والتنفيذية. . وَإِن كَانَ يعلم هُوَ وَسَائِر النَّاس أَن التَّفْوِيض الصَّحِيح فِي الشئ إِنَّمَا يكون مِمَّن يملكهُ، وَيكون مُخْتَارًا فِيهِ، وَأَنه لَا يسلبه حق مراقبة الْمُفَوض إِلَيْهِ ومؤاخذته وَلَو بِالْعَزْلِ، إِذا خَالف نُصُوص الشَّرْع، أَو خرج عَن جادة الْعدْل، بل هَذِه المراقبة على الوزراء والأمراء والقواد وَاجِبَة على إِمَام الْمُسلمين وَهُوَ مُقَيّد فِيهَا وَفِيمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا بنصوص الشَّرْع وبمشاورة أهل الْحل وَالْعقد، لَا مستبد فِي الْأَمر. . إِذا ظلّ الْمُسلمُونَ على هَذِه الْحَالة فَلَا إِمَامَة وَلَا إِمَام، وَقد آن لَهُم أَن يفقهوا أَن جعل أَحْكَام الضَّرُورَة فِي خلَافَة التغلب أصلا ثَابتا دَائِما هُوَ الَّذِي هدم بِنَاء الْإِمَامَة، وَذهب بسلطة الْأمة الْمعبر عَنْهَا بِالْجَمَاعَة، وترتب عَلَيْهِ تفرق الْكَلِمَة، وَضعف الدّين والدولة، وَظُهُور الْبدع على السّنة. . وَقد انْقَلب الْوَضع وَعم الْجَهْل، حَتَّى صَار الألوف من كبراء حكام الْمُسلمين وقوادهم وزعمائهم فِي دنياهم يظنون فِي هَذَا

علاقة الخلافة بالعرب والترك

الْعَصْر أَن منصب الْخلَافَة وَغَيره من أَحْكَام الْإِسْلَام هُوَ سَبَب ضعف الْمُسلمين وَأَنه لَا تقوم لَهُم بهَا قَائِمَة، وَلَا يكونُونَ مَعَ التزامها أمة عزيزة غنية وَالْأَمر بالضد. . والعلاج الشافي من هَذَا الدَّاء، والدواء المستأصل لهَذَا الوباء، هُوَ إحْيَاء منصب الْإِمَامَة، بِإِعَادَة سلطة أهل الْحل وَالْعقد الْمعبر عَنْهُم بِالْجَمَاعَة، لإِقَامَة الْحُكُومَة الإسلامية الصَّحِيحَة، الَّتِي هِيَ خير حُكُومَة يصلح بهَا أَمر الْمُسلمين بل أَمر سَائِر الْبشر، بجمعها بَين الْعدْل والمساواة وَحفظ الْمصَالح وَمنع الْمَفَاسِد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وكفالة القاصرين والعاجزين، وكفاية الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من صدقَات الْمُسلمين، فَفِيهَا علاج لجَمِيع الْمَفَاسِد الاجتماعية، فِي حكومات المدنية المادية، الَّتِي ألجأت الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة إِلَى البلشفية والفوضوية. . فَإِذا أقيم بِنَاء حُكُومَة منظمة على هَذِه الأسس وَالْقَوَاعِد لَا تلبث بعد ظُهُور أمرهَا، أَن تكون قدوة للأمم الْحرَّة الَّتِي أمرهَا بِيَدِهَا، وَلَا يَسْتَطِيع أكَابِر مجرميها أَن يَمْكُرُوا بعد ذَلِك فِيهَا، ليصدوها عَنْهَا ويغووها، وَحِينَئِذٍ ينجز الله وعده لنا، كَمَا أنجزه لمن قبلنَا، فِي قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} الْآيَة. . فَالْوَاجِب على حزب الْإِصْلَاح الَّذِي نقترحه أَن يُوَجه كل قَصده وهمه أَولا إِلَى بَيَان شكل حُكُومَة الْخلَافَة الإسلامية الْأَعْلَى بالنظام اللَّائِق بِهَذَا الْعَصْر الَّذِي امتاز بالنظام على سَائِر العصور، ثمَّ يحاول إقناع أَصْحَاب النّفُوذ فِي الْبِلَاد الإسلامية المرجوة لتنفيذه بِمَا فِيهِ من الْمصَالح وَالْمَنَافِع والسعادة، وبتفضيله على جَمِيع أَنْوَاع الحكومات فِي الْعَالم، وبإمكان تنفيذه، وَدفع كل مَا للمتفرنجين واليائسين من الشُّبُهَات على ذَلِك، وكل ذَلِك سهل كَمَا جربنَا بِأَنْفُسِنَا. . علاقَة الْخلَافَة بالعرب وَالتّرْك: ثمَّ ليعلم هَذَا الحزب أَن الْفَوْز فِي هَذَا يتَوَقَّف على التَّأْلِيف والتوحيد بَين الْعَرَب وَالتّرْك، وإنفاقهما عَلَيْهِ وَلَو بِالْجُمْلَةِ ومراعاة مَا قوى فِي هَذَا الْعَصْر من العصبية الجنسية مَعَ اتقاء ضررها بِقدر الِاسْتِطَاعَة، وَكَذَا عصبية الْمَذْهَب عِنْد طَائِفَة الزيدية، لَا لِأَن جمع الْكَلِمَة ووحدة الْأمة من أهم مَا يجب من أَعمال الْخَلِيفَة فَقَط بل لِأَن النجاح الْمَطْلُوب فِي هَذَا الْأَمر يتَوَقَّف على تعاون الشعبين عَلَيْهِ. . ذَلِك أَن إحْيَاء

منصب الْخلَافَة الصَّحِيحَة، يتَوَقَّف على إحْيَاء الدّين والشريعة، وَإِنَّمَا يكون هَذَا بِالْعلمِ الاستقلالي فِي الدّين الْمعبر عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطلق، وَهُوَ يتَوَقَّف على إتقان اللُّغَة الْعَرَبيَّة. . لأجل فهم الْكتاب وَالسّنة، فعلاقة هَذَا المنصب بلغَة الْعَرَب وبتاريخ الْعَرَب وببلاد الْعَرَب جلي ظَاهر، فثم مهبط الْوَحْي، ومظهر الْإِسْلَام الْحق، حَيْثُ قبلته ومشاعر دينه، وَمَوْضِع إِقَامَة الرُّكْن الاجتماعي الْعَام من أَرْكَانه، وَلَا يُمكن أَن يُمَارِي فِي هَذَا من يُمَارِي فِي اشْتِرَاط النّسَب الْقرشِي فِيهَا خلافًا لمذاهب السّنة كلهَا، أَو الْعلوِي الفاطمي خلافًا لمذاهب الشِّيعَة وبخاصة الزيدية. . الْعَرَب قُوَّة عَظِيمَة للخلافة، وَلكنهَا غير منظمة وَلَا متحدة كقوة التّرْك، وَالْعَمَل بالشريعة فِي حكومات جَزِيرَة الْعَرَب المستقلة وَأَهْلهَا أتم وأكمل مِنْهُ فِي بِلَاد التّرْك. . وَلَكِن هَذِه الحكومات غير قاردة الْآن على إِظْهَار حضارة الْإِسْلَام وَلَا على نشر دَعوته الصَّحِيحَة على الْوَجْه الَّذِي يُحَرك إِلَى النّظر كَمَا اشْترط بعض عُلَمَاء الْكَلَام، وَالتّرْك أقدر مِنْهُم على الأول وَأعظم عونا على الثَّانِي إِذا قنعوا بِإِقَامَة الْإِمَامَة الْحق على صراطها الْمُسْتَقيم، فَكل من هذَيْن الشعبين يُمكن أَن يكمل مَا ينقص الآخر فِي ذَلِك مَعَ اسْتِقْلَال كل مِنْهُمَا فِي إدارة بِلَاده وسياستها والسيادة فِيهَا وارتباط كل حُكُومَة مُسْتَقلَّة فيهمَا - وَكَذَا فِي غَيرهمَا - بمقام الْخلَافَة مُبَاشرَة بالرضى وَالِاخْتِيَار خضوعا لحكم الشَّرْع فِي جِهَة، وانتفاعا بِمَا يُمكن من الْوحدَة الإسلامية فِي كل كل وَقت بِمَا يُنَاسِبه من جِهَة أُخْرَى. . لَو اتّفق رُؤَسَاء حُكُومَة جَزِيرَة الْعَرَب على جعل وَاحِد مِنْهُم خَليفَة للْمُسلمين وَبَايَعُوهُ مَعَ عُلَمَاء بِلَادهمْ وقضاتها وقوادها لما كَانَ للترك أدنى وَجه لمعارضتهم بخليفة ينصبونه فِي الآستانة وَإِن أَعْطوهُ حُقُوق الْإِمَامَة الشَّرْعِيَّة - وَمَا هم بفاعلين - بل لَو اتّفق أهل الْحجاز وتهامة ونجد أَو أَكْثَرهم على مبايعة إِمَام الْيمن الْمَشْهُود لَهُ بِالْعلمِ وَالْعَدَالَة والكفاية، وأعلن هَذَا أَنه يجْرِي على قَوَاعِد الِاجْتِهَاد فِي إِمَامَته، ويقر أهل كل مَذْهَب على مَذْهَبهم لما اسْتَطَاعَ أحد من عُلَمَاء الْمُسلمين، لَا الْعَرَب وَلَا الْعَجم، أَن يطعن فِي خِلَافَته، أَو يرجح عَلَيْهَا خلَافَة أُخْرَى. . إِلَّا أَن يتبع أحد هَوَاهُ فَلَا يكون لقَوْله قيمَة، وَلَا سِيمَا إِذا قَامَ هَذَا الإِمَام بالإصلاح الديني فِي الْحجاز وَسَائِر بِلَاد الْعَرَب، ونظم قوى الْإِمَامَة التنظيم الَّذِي تَقْتَضِيه حَالَة الْعَصْر وَمَا هُوَ بعسير، وَإِذا فَاتَ هَذِه الْإِمَامَة اعْتِرَاف بعض الأقطار الإسلامية بهَا الْيَوْم فَلَا يفوتها ذَلِك غَدا، بعد بَث الدعْوَة وَلَو فِي موسم الْحَج وَحده، وَالدّين عون لَهُم وظهير، وَلَكِن أكبر مصائب الْعَرَب التَّفَرُّق وَحب الرياسة.

ومكانة مصر تلِي مكانة جَزِيرَة الْعَرَب فِي هَذَا الْأَمر لَو كَانَت مُسْتَقلَّة وأرادت إِقَامَة الْخلَافَة الشَّرْعِيَّة الصَّحِيحَة، وَلَكِن المتفرنجين فِيهَا كالمتفرنجين فِي التّرْك يَأْبَى أَكْثَرهم ذَلِك ويجهل قِيمَته. . والدولة البريطانية عدوة الْخلَافَة وَالْعرب تعَارض هَذَا وَذَاكَ بِكُل قواها، وَقد كَانَ نصرها التّرْك على مُحَمَّد عَليّ خوفًا من تجدّد شباب الْإِسْلَام بدولة عَرَبِيَّة، وَهِي تعتقد أَن التّرْك لَا يجددون حَيَاة الْخلَافَة الصَّحِيحَة أبدا وَلَا ينشرون دَعْوَة الْإِسْلَام، وَكَانَ هَذَا أحد أَسبَاب تأييدها لَهُم ولخلافتهم فِي الْجُمْلَة. . وكل مَا قيل من أَن الإنجليز كَانُوا يسعون لإِقَامَة خلَافَة عَرَبِيَّة فِي مصر أَو الْحجاز قبل الْحَرْب الْكُبْرَى فَهُوَ كذب مَحْض، وَلَو فعلت ذَلِك مصر لاتبعها الْحجاز حتما وَكَذَا سورية إِذا استطاعت، بل تتمنى هَذِه الأقطار اتباعها وَلَو بِدُونِ إِقَامَة الْخلَافَة فِيهَا، وَلَعَلَّ أهل السّنة وَكَثِيرًا من الشِّيعَة فِي الْعرَاق لَا يأبون هَذِه الْوحدَة الْعَرَبيَّة إِذا أمكنت. . يظنّ بعض النَّاس أَنه ينقص الْبِلَاد الْعَرَبيَّة شَيْء أهم من هَذَا الْأَمر السلبي وَهُوَ الضعْف وفقد الشَّوْكَة الَّتِي يحْمُونَ بهَا الْخلَافَة ومقام الْخلَافَة، بله الْقُدْرَة على مَا يقدر عَلَيْهِ التّرْك من الْجِهَاد وَالْفَتْح. . وَهَذَا الظَّن بَاطِل فَإِن الْيمن وَحدهَا قد حفظت استقلالها ومنصب الْإِمَامَة فِيهَا أَكثر من ألف سنة، وَإِن التّرْك قَاتلُوا أَئِمَّة الْيمن زهاء أَرْبَعَة قُرُون وَمَا اسْتَطَاعُوا الْقَضَاء على إمامتهم وَلَا الِاسْتِيلَاء على جَمِيع بِلَادهمْ مَعَ كَثْرَة من ظَاهر التّرْك من أهل الْبِلَاد بِسَبَب اخْتِلَاف الْمَذْهَب. . وَلَوْلَا قُوَّة الْيمن لاستولى عَلَيْهَا الإنجليز من عهد بعيد كَمَا صرح بذلك أحد وُلَاة عدن مِنْهُم أَمَام زعيم عَرَبِيّ حضرمي قَالَ: لَوْلَا هَذَا الإِمَام الَّذِي عِنْده نصف مليون مقَاتل لَو قَالَ لَهُم ألقوا أَنفسكُم فِي النَّار أطاعوه - لاستولينا على جَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب بِغَيْر قتال يذكر ... هَذَا وَإِن جَزِيرَة الْعَرَب لَا يخْشَى عَلَيْهَا من غير الإنجليز، وَهَؤُلَاء لَا يحاولون فتحهَا بِالسَّيْفِ وَالنَّار لموانع كَثِيرَة. . مِنْهَا أَنهم لَا يُقَاتلُون شعبًا قَوِيا حَرْبِيّا بالطبع فِي بِلَاد وعرة كَثِيرَة الْجبَال والأودية، خَالِيَة من سِكَك الْحَدِيد وَسَائِر أَنْوَاع المواصلات، وَمِنْهَا أَن قتال أهل هَذِه الْبِلَاد كثير النَّفَقَات قَلِيل الرِّبْح، بل لَا ربح فِيهِ إِلَّا إِذا تيَسّر أَخذ الْبِلَاد وَأنْفق على الْإِصْلَاح فِيهَا ملايين كَثِيرَة نَقْدا لأجل الرِّبْح نَسِيئَة، وَإِنَّمَا يطمعون فِي الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا باصطناع أمرائها وكبرائها بالدسائس وَالدَّرَاهِم، والتدخل فِيهَا بحيل التِّجَارَة والامتيازات الاقتصادية بالتدريج، وَقد بذلوا فِي هَذِه

السَّبِيل أَمْوَالًا عَظِيمَة لزعماء الْعَرَب حاشا أَئِمَّة الْيمن - وَلَا يزالون يبذلون وَلم يستفيدوا بِهِ شَيْئا ثَابتا يوازي مَا بذلوا وَلَا قدرُوا أَن يصطنعوا بِهِ أحدا من أُولَئِكَ الْأُمَرَاء إِلَّا ملك الْحجاز وَأَوْلَاده، وَلنْ يَسْتَطِيع هَؤُلَاءِ بعد الْيَوْم أَن يعملوا لَهُم شَيْئا لِأَن الْأمة الْعَرَبيَّة قد عرفت كنه جنايتهم عَلَيْهَا، فدوام استمساك الدولة البريطانية بِهِ لَا يزيدها وَلَا يزيدهم إِلَّا مقتا عِنْد الْعَرَب وَعند سَائِر الْمُسلمين. . بل نقُول إِنَّه لَيْسَ من أصُول السياسة البريطانية الْفَتْح بِالْقُوَّةِ العسكرية مُطلقًا، وَلم تكن الدولة العثمانية هِيَ الْمَانِعَة للإنكليز من فتح هَذِه الْبِلَاد قبل الْيَوْم، فَإِن الدولة لم تكن تَسْتَطِيع إرْسَال جَيش إِلَيْهَا إِلَّا من طَرِيق الْبَحْر، وَمَتى كَانَ لَهَا أسطول يُقَارب أحد الأساطيل البريطانية فيتمكن من إرْسَال الْجند والذخيرة إِلَى الْيمن وحماية سواحلها وَسَائِر سواحل الدولة من الإنجليز إِذا وَقعت الْحَرْب بَينهمَا؟ ولماذا لم تحم مصر مِنْهُم أَو تخرجهم مِنْهَا؟ وَأما كَون أهل جَزِيرَة الْعَرَب لَا يَسْتَطِيعُونَ الْجِهَاد بِقصد الْفَتْح كالترك وَهُوَ مَا فضل بِهِ التّرْك بعض الباحثين مَعنا فِي الْمَسْأَلَة فَيُقَال فِيهِ إِن من فضل الله على جَزِيرَة الْعَرَب أَنه لَيْسَ فِيهَا شعوب أَجْنَبِيَّة مُخْتَلفَة فِي الْجِنْس أَو الدّين يتحاكون بالعرب فيغرونها بِفَتْح بِلَادهمْ، وَأَن التّرْك لَا يرَوْنَ شَيْئا أسلم لَهُم فِي بِلَادهمْ من إِخْرَاج الشعوب الْمُخَالفَة لَهُم فِي الْجِنْس وَالدّين ليستريحوا من هَذَا التحاك وغوائله، وَلنْ يقدموا على قتال أحد من جيرانهم لأجل فتح بِلَاده وَقد كَانَت حروبهم فِي الْقُرُون الْأَخِيرَة كلهَا دفاعا للمعتدين أَو مقاومة للثائرين، وَلم يكن شَيْء مِنْهَا لأجل سَعَة الْملك وَلَا لأجل نشر الدّين، وهم أحْوج النَّاس إِلَى الاسْتِرَاحَة من الْقِتَال والانصراف إِلَى عمرَان بِلَادهمْ وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الْعُلُوم والفنون، والطامعون فِي سَعَة الْملك مِنْهُم إِنَّمَا يطمعون فِي ضم الشعوب الإسلامية الشرقية إِلَيْهِم الَّتِي يُمكنهُم أَن يجنسوها بجنسيتهم اللُّغَوِيَّة كالكرد والجركس والتتار وَسَائِر شعوب الْجِنْس الطوراني. . وَأما الدعْوَة إِلَى الْإِسْلَام من غير قتال فالعرب أقدر عَلَيْهَا من التّرْك، وهم دعاة بالطبع وَقد أسلم الملايين من سكان إفريقية وجزائر الْمُحِيط الجنوبي بدعوة تجار الْعَرَب والدراويش السائحين مِنْهُم، وحرية الِاعْتِقَاد فِي أَكثر حكومات هَذَا الْعَصْر تغنى خَليفَة الْمُسلمين عَن الْقِتَال لحماية الدعْوَة وحرية الدّين كَمَا كَانَ عَلَيْهِ خلفاء الْعَرَب من الْأَوَّلين. .

جعل مركز الخلافة في الحجاز وموانعه

إننا على علمنَا بِمَا ذكر كُله نود أَن يتعاون التّرْك وَالْعرب على إحْيَاء منصب الْخلَافَة، وَسَنذكر مَا يمتاز بِهِ التّرْك على الْعَرَب فِي هَذَا الْمقَام، ليعلم أَن كلا من الشعبين عَاجز بِانْفِرَادِهِ، قوى بأَخيه على النهوض بأعباء هَذَا الْإِصْلَاح الْعَظِيم، الجدير بِأَن يُغير نظام الْعَالم، وينقذ الشرق والغرب من الْهَلَاك. . وَمَا نقترحه من وَسَائِل التعاون والاتفاق خَاص بِمَا سيتقرر من الْخلَافَة الصَّحِيحَة الدائمة مَعَ السُّكُوت عَن التَّعَدُّد الْمَعْرُوف فِي الْحَال الْحَاضِرَة فِي الشعبين، وَذَلِكَ بِأَن يكون الَّذين يعلمُونَ ويربون ليشرحوا للانتخاب الشَّرْعِيّ بالشورى من بيوتات شرفاء قُرَيْش وسادتها، وَأَن تكفل الدولة التركية هَذَا الاستعداد وتشرف على جَمِيع شئونه حَتَّى لَا يكون للتنافس فِيهِ بَين الشعبين أدنى مجَال، بل حَتَّى يكون إحْيَاء هَذَا المنصب من أكبر أَسبَاب الِاتِّحَاد والتعاون بَينهمَا، وَإِذا شَاءَ التّرْك حِينَئِذٍ أَن يكون مقَام الْخَلِيفَة فِي بِلَادهمْ فعلى حزب الْإِصْلَاح أَن يقنع الْعَرَب بذلك، وَإِن كُنَّا نرى أَن الأجدر بِالْقبُولِ الْآن أَن يكون فِي منْطقَة وسطى بَين بِلَاد الشعبين، على مَا سنفصله بعد. . وَالْقِسْمَة فِي مَسْأَلَة مقَام الْخَلِيفَة ثلاثية وَهِي إِمَّا أَن يكون فِي بِلَاد الْعَرَب أَو الْحجاز خَاصَّة وَإِمَّا فِي بِلَاد التّرْك أَو الآستانة خَاصَّة وَإِمَّا فِي منْطقَة وسطى مُشْتَركَة. . جعل مَرْكَز الْخلَافَة فِي الْحجاز وموانعه: قد علمنَا مِمَّا تقدم أَن بِلَاد الْعَرَب بل جزيرتهم بل الْحجاز مِنْهَا هُوَ أولى بِلَاد الْإِسْلَام بِأَن يكون موطن الْخلَافَة الإسلامية، ويزداد هَذَا ظهورا بِبَيَان الْإِصْلَاح الديني الَّذِي يجب على الْخَلِيفَة فِي هَذَا الْعَصْر، وَلَكِن فِي الْحجاز مَوَانِع تحول الْيَوْم دون إِمْكَان وجود الْخلَافَة الصَّحِيحَة الَّتِي يرجوها الْمُسلمُونَ فِيهِ حَتَّى فِي حَاله الْحَاضِرَة الَّتِي لَا يرضى أهل قطر إسلامي آخر مَعهَا أَن يكون تَابعا لَهُ فَكيف إِذا أُرِيد أَن يسوس بِلَاد الْعَرَب كلهَا أَو يدبر شئون غَيرهَا من الْبِلَاد الإسلامية؟ وَكَيف إِذا أُرِيد أَن يكون الْمثل الْأَعْلَى لأَفْضَل حُكُومَة لَا يُرْجَى إصْلَاح حَال الْبشر بِدُونِهَا - وإننا نذْكر المهم مِنْهَا - وَالْحَال هَذِه - وَهُوَ:

1 - أَن الْملك المتغلب على الْحجاز لهَذَا الْعَهْد يعْتَمد فِي تأييد ملكه على دولة غير إسلامية مستعبدة لكثير من شعوب الْمُسلمين وطامعة فِي استعباد غَيرهَا وَلَا سِيمَا الْعَرَب، وَقد أوثق نَفسه مَعهَا بعقود بل قيود اعْترف لَهَا فِيهَا بِأَن الْأمة الْعَرَبيَّة مِنْهَا بِمَنْزِلَة الْقَاصِر من الْوَصِيّ وَأَن لَهَا حق تربيتها وحمايتها من الدَّاخِل وَالْخَارِج حَتَّى حق دُخُول بِلَاده بِالْقُوَّةِ العسكرية لكبح الثورات الداخلية، وَمن شَاءَ فَليُرَاجع نَص هَذِه الوثائق فِي المجلد الثَّالِث وَالْعِشْرين من الْمنَار (ص 612 - 624) . 2 - أَن هَذَا الْملك قد لقب نَفسه بِملك الْعَرَب وَهُوَ يسْعَى لِأَن يعْتَرف لَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الزعيم الْأَكْبَر للْأمة الْعَرَبيَّة والممثل لجَمِيع حكوماتها المستقلة لتَكون كلهَا موثقة ومرهقة بِتِلْكَ العهود السالبة لاستقلالها، على أَن كل حُكُومَة من الحكومات الْعَرَبيَّة الْمُجَاورَة لَهُ أقوى وَأصْلح من حكومته من كل وَجه، وَغير مُقَيّدَة نَفسهَا بعهود سالبة للاستقلال. . 3 - أَنه قد رَضِي أَن يَجْعَل ولديه رئيسين فِي بعض الْبِلَاد الْعَرَبيَّة الَّتِي استولت عَلَيْهَا الدولة الْأَجْنَبِيَّة الْمَذْكُورَة تابعين لوزارة الاستعمار فِي تِلْكَ الدولة كالكثير من مستعمراتها الَّتِي لَهَا رُؤَسَاء وطنيون، فَكَانُوا بذلك أول من أعَان دولة أَجْنَبِيَّة غير مسلمة على استعمار بِلَاد الْعَرَب. . 4 - أَن حكومته استبدادية شخصية غير مُقَيّدَة بِشَيْء فَهُوَ يفعل مَا يَشَاء وَيحكم بِمَا يُرِيد. مِثَال ذَلِك مَا نَسْمَعهُ وَمَا نرَاهُ فِي جريدتها الْمُسَمَّاة بالقبلة من أَخْبَار المصادرات الْمَالِيَّة والغرامات الرسمية وَغير ذَلِك مِمَّا لَا نَعْرِف لَهُ أصلا فِي الشَّرْع الإسلامي. . وَأما القوانين الوضعية فَهُوَ يحرمها وَيكفر العاملين بهَا {} ! 5 - أَن هَذِه الْحُكُومَة خصم لكل علم يعين على الْإِصْلَاح الديني والدنيوي فَهِيَ على كراهتها للعلوم والفنون العصرية - حَتَّى تَقْوِيم الْبلدَانِ - تمنع كثيرا من الْكتب الشَّرْعِيَّة ككتب شَيْخي الْإِسْلَام المصلحين الكبيرين ابْن تَيْمِية وَابْن الْقيم وَغَيرهمَا من دُخُول بِلَاد الْحجاز. . 6 - مَا ثَبت بالدلائل الْمُخْتَلفَة من حرص أهل هَذَا الْبَيْت على الْخلَافَة والإمارة وَالْملك وَلَو فِي ظلّ الْإِمَارَة الْأَجْنَبِيَّة غير الإسلامية، وَقد سبق فِي الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من هَذِه المباحث أَن طَالب الْولَايَة لَا يُولى. .

7 - أَن أهل هَذَا الْبَيْت فاقدون لأهم شُرُوط الْخلَافَة وَلَا سِيمَا الْعلم الشَّرْعِيّ، بِدَلِيل مَا نقرأه فِي منشورات الْملك الرسمية وبلاغات حكومته من الأغلاط اللُّغَوِيَّة والآيات القرآنية المحرفة، وَالْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة على الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، والتفاسير الْمُخَالفَة للغة ولإجماع الْمُفَسّرين وَغير الْمُفَسّرين، مَعَ الْإِصْرَار على ذَلِك وَعدم تَصْحِيحه مِمَّا يدل على أَنه لَا يُوجد عَالم فِي الْحجاز كُله يتجرأ على تَصْحِيح آيَة أَو حَدِيث أَو حكم شَرْعِي ينشر فِي جريدتهم الَّتِي هِيَ عنوان الْجَهْل. . ونسكت عَمَّا نعلمهُ باختبارنا وَرِوَايَة الصَّادِقين المختبرين أَيْضا. . 8 - أَن مُعظم الْعَالم الإسلامي يمقت حُكُومَة الْحجاز الْحَاضِرَة؛ إننا نرى الطعْن فِيهَا فِي صحف مصر وتونس والجزائر وجاوه وَالتّرْك والهند وَغَيرهَا على أَن أَكثر أَصْحَاب هَذِه الصُّحُف والكاتبين فِيهَا لَا يعلمُونَ كل مَا نعلم من سوء حَالهَا. . 9 - أَن الَّذين يسعون لإحياء منصب الْخلَافَة فِي الْإِسْلَام يرْمونَ بِهِ إِلَى ثَلَاثَة أغراض (أَحدهَا) إِقَامَة حُكُومَة الشورى الإسلامية كَمَا شرعها الله لتَكون حجَّة على الْبشر أَجْمَعِينَ كَمَا تقدم (ثَانِيهَا) إِعَادَة مَدَنِيَّة الْإِسْلَام بالعلوم والفنون والصناعات الَّتِي عَلَيْهَا مدَار الْقُوَّة والعمران، تِلْكَ المدنية الجامعة بَين نعم الدُّنْيَا المادية، وَبَين الْفَضَائِل الدِّينِيَّة الروحية، الَّتِي تحل عقد جَمِيع المشكلات الاجتماعية، (ثَالِثهَا) الْإِصْلَاح الديني بِإِزَالَة الخرافات والبدع وإحياء السّنَن وَجمع الْكَلِمَة وَشد أواصر الْأُخوة الإسلامية وَسَائِر الْفَضَائِل الإنسانية، وَلَيْسَ فِي حُكُومَة الْحجاز استعداد لهَذِهِ الْمَقَاصِد الْعَالِيَة، وَلَا يُرْجَى أَن يرضى الْبَيْت الْحَاكِم بالوسائل العلمية والعملية الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا هَذَا الْإِصْلَاح الْعَظِيم. . 10 - أَن الْحجاز فَاقِد لما تتَوَقَّف عَلَيْهِ إِقَامَة الْخلَافَة من الشَّوْكَة والثروة، فَهُوَ لَا قوام لَهُ بِنَفسِهِ فَكيف يقوم بأعباء هَذَا المنصب الْعَظِيم؟ وَلَا يرضى أحد من مُسْلِمِي الْعَرَب المجاورين لَهُ أَن يتبعوا حكومته الاستبدادية الضعيفة فَكيف يرضى بذلك غَيرهم؟

إقامة الخلافة في بلاد الترك وموانعها ومرجحاتها

إِقَامَة الْخلَافَة فِي بِلَاد التّرْك وموانعها ومرجحاتها: لجعل إِقَامَة الْخلَافَة الصَّحِيحَة فِي بِلَاد التّرْك مَوَانِع ترجع إِلَى أَمريْن كليين: (أَحدهمَا) وَهُوَ أهمهما مَا يخْشَى من امْتنَاع أَكثر الزعماء العسكريين والسياسيين مِنْهُ لما فِيهِ من تَوْحِيد السلطة الْعَامَّة فِي شخص الْخَلِيفَة، وَمَا تتَوَقَّف عَلَيْهِ الْخلَافَة من إحْيَاء اللُّغَة الْعَرَبيَّة فِي بِلَاد التّرْك، وفروع ذَلِك وأسبابه مَعْرُوفَة، (وَثَانِيهمَا) مُعَارضَة الْأمة الْعَرَبيَّة وَلَا سِيمَا فِي الجزيرة وَمَا يتبعهَا، وَلَكِن الْمُعَارضَة لَا تكون مُؤثرَة وثابتة إِلَّا إِذا جعلت الْخلَافَة صورية كَمَا كَانَت، أَو روحية كَمَا هِيَ الْآن. . ولعلهم لَوْلَا إِرَادَة جعلهَا مصلحَة دعاية (بروبغندة) للدولة التركية لما اخْتَارُوا لَهَا الآستانة مَدِينَة الفخفخة الْبَاطِلَة، وَالْعَظَمَة الزائلة الَّتِي صَارَت طرفا فِي الْبِلَاد الإسلامية ومهددة بحرا وَبرا، فَإِذا كَانَت لَا تصلح أَن تكون عَاصِمَة للدولة التركية. . فَلَنْ تصلح للخلافة الإسلامية بِالْأولَى. . وَأما إِذا قبل أولو الْأَمر من التّرْك أَن يحيوا منصب الْخلَافَة الْحق فالرجاء فِي تَحْقِيق أغراضها ومقاصدها الثَّلَاثَة يكون أتم وأسرع، وَتقوم بهَا الْحجَّة على الْعَرَب إِلَّا إِذا اجْتمعت كلمة أُمَرَاء الجزيرة على مبايعة وَاحِد مِنْهُم، وَذَلِكَ غير منتظر، لما تقدم بَسطه فَيكون الرجحان لمن يُؤَيّدهُ التّرْك بالأسباب الْآتِيَة: 1 - أَن التّرْك الْآن فِي موقف وسط بَين جمود التقاليد وطموح التفرنج، جمود عرب الجزيرة الَّذِي جعل الدّين مَانِعا من الْعُلُوم والفنون الَّتِي ترقى بهَا حضارة الْأمة وثروتها، وَعزة الدولة وقوتها، وطموح التفرنج الَّذِي يُرَاد بِهِ انتزاع مقومات الْأمة الإسلامية الدِّينِيَّة والتاريخية، ومشخصاتها، واستبدال مقومات أمة أُخْرَى ومشخصاتها بهَا. . وحضارة الْإِسْلَام وحكومة الْخلَافَة هِيَ وسط بَين الجمود وَبَين حضارة الإفرنج المادية الَّتِي تفتك بهَا ميكروبات الْفساد وأوبئة الْهَلَاك، فَهِيَ عرضة للزوال، فَكيف حَال من يقلدها تقليدا تأباه طبيعة أمته وعقائدها. . 2 - أَن مَا ظهر من عزم الْحُكُومَة التركية الجديدة وحزمها وشجاعتها وعلو همتها وإقدامها يضمن - بِفضل الله تَعَالَى - نَجَاحهَا فِي إِقَامَة هَذَا الْإِصْلَاح الإسلامي

إقامة الخلافة في منطقة وسطى

بل الإنساني الْأَعْظَم بِإِقَامَة حُكُومَة الْخلَافَة الجامعة بَين الْقُوَّة المادية والفضائل الإنسانية الْمُغنيَة للبشر عَن خطر البلشفية والفوضوية لِأَنَّهَا كافلة لكل مَا تطلبه الإشتراكية المعتدلة من الْإِنْصَاف والانتصاف من أَثَرَة أَرْبَاب رُءُوس الْأَمْوَال. وَهِي بِهَذِهِ الصِّفَات أقدر على اتقاء كيد أَعدَاء الْإِسْلَام الَّذين يقاومون الْخلَافَة جهد طاقتهم. . 3 - أَن الدولة التركية الجديدة هِيَ الدولة الإسلامية الَّتِي برعت فِي فنون الْحَرْب الحديثة ويرجى إِذا نجحت فِيمَا تَعْنِي بِهِ من الْأَخْذ بوسائل الثروة والعمران أَن تمكنها مواردها من الِاسْتِغْنَاء عَن جلب الأسلحة وَغَيرهَا من أدوات الْحَرْب بصنعها فِي بلادها، فتزداد قُوَّة على حفظ حكومتها وبلادها. . وَتَكون قدوة لجيرانها وأستاذا لَهُم. . 4 - أَن جعل مقَام الْخَلِيفَة فِي بِلَاد التّرْك أَو كفالتهم لَهُ يُقَوي هِدَايَة الدّين فِي هَذَا الشّعب الإسلامي الْكَبِير، ويحول دون نجاح ملاحدة المتفرنجين وغلاة العصبية الجنسية، فِي انْتِزَاعه من جسم الجامعة الإسلامية، فيظل سياجا لِلْإِسْلَامِ وعضوا رئيسيا فِي جامعته الفضلى. . 5 - لَئِن كَانَ جهل الْعَرَب وَالتّرْك فِي الزَّمن الْمَاضِي بِمَعْنى الْخلَافَة ووظائفها - وَلَا سِيمَا جمعهَا لكلمة الْمُسلمين - سَببا من أَسبَاب تقاطعهما وتدابرهما الَّتِي نتهت بِسُقُوط السلطنة العثمانية، وباستيلاء الْأَجَانِب على قسم كَبِير من بِلَاد الْعَرَب، والتمهيد للاستيلاء على الْبَاقِي فَإِن مَا نسعى إِلَيْهِ الْآن سَيكون إِن شَاءَ الله تَعَالَى أقوى الْأَسْبَاب لجمع الْكَلِمَة والتعاون على إحْيَاء عُلُوم الْإِسْلَام ومدنيته، مَعَ اسْتِقْلَال كل فريق بإدارة بِلَاده مستمدا السلطة من الْخَلِيفَة الإِمَام الْمُجْتَهد فِي عُلُوم الشَّرْع الإسلامي، الْمُنْتَخب بالشورى من أهل الْحل وَالْعقد من الْعَرَب وَالتّرْك وَغَيرهمَا من الشعوب الإسلامية، بِمُقْتَضى النظام الَّذِي يوضع لذَلِك. . إِقَامَة الْخلَافَة فِي منْطقَة وسطى: إِنَّنِي ضَعِيف الأمل فِي كل من الْعَرَب وَالتّرْك لَا أرى أحدا مِنْهُم قد ارْتقى إِلَى هَذِه الدرجَة بِنَفسِهِ، وَلَا أرى آيَة بَيِّنَة على استعدادهما لما اقترحت من تعاونهما عَلَيْهِ. . وَلست مِمَّن يدع لليأس مسربا يسرب فِيهِ إِلَى قلبه لهَذَا أقترح على حزب

نموذج من النظم الوالجب وضعها للخلافة

الْإِصْلَاح أَن يسْعَى لإقناع التّرْك أَولا بِجعْل الْخلَافَة فِي مَرْكَز الدولة، فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا فليساعدوا على جعلهَا فِي منْطقَة وسطى من الْبِلَاد الَّتِي يكثر فِيهَا الْعَرَب وَالتّرْك والكرد كالموصل الْمُتَنَازع عَلَيْهَا بَين الْعرَاق والأناضول وسورية وَيضم إِلَيْهَا مثلهَا من الْبِلَاد الْمُتَنَازع فِيهَا بَين سورية والأناضول، وَتجْعَل شقة حياد ورابطة وصل معنوي، فِي مظهر فصل جغرافي، فَتكون الْموصل اسْما وَافق الْمُسَمّى. . أَلا فليجربوا إِن كَانُوا مرتابين فِي عَاقِبَة هَذَا الْأَمر الْعَظِيم وليفوضوا إِلَى حزب الْإِصْلَاح وضع النظام لإِقَامَة الْإِمَامَة الْعُظْمَى فِي هَذِه المنطقة وتنفيذ أَحْكَامهَا ومناهجها الإصلاحية الإسلامية فِيهَا، ثمَّ لَا يتبعهَا أحد من الْبِلَاد الَّتِي حولهَا إِلَّا بطوعه واختياره، فَإِذا رضيت الدولة التركية بذلك على أَن تكون كافلة لَهُ وذائدة عَنهُ فالمرجو أَن يرضى الْعَرَب والكرد بِهِ فِي هَذِه المنطقة وَمَا يجاورها، على أَن يتَّفق الْجَمِيع من حَولهمْ على احترامها فَلَا تعتدي وَلَا يعتدى عَلَيْهَا. . وَإِلَّا وَجب السَّعْي لرد الْأَمر إِلَى معدنه، وَإِقْرَاره فِي مقره، بعد إِزَالَة الْمَوَانِع، وتهيئة الْوَسَائِل، فَإِن بَدَأَ نَاقِصا ضَعِيفا، فسيكمل وَيكون قَوِيا، وَقد " بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ "، ويأرز بَين المسجدين كَمَا تأرز الْحَيَّة فِي جحرها، وَلَا تزَال طَائِفَة من هَذِه الْأمة قَائِمَة بِأَمْر الله لَا يضرهم من خذلهم أَو خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم ظاهرون - كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. . نموذج من النّظم الوالجب وَضعهَا للخلافة: أول مَا يجب على الحزب الَّذِي يولي وَجهه شطر هَذَا الْإِصْلَاح الْعَظِيم أَن يضع نظاما أساسيا لحكومة الْخلَافَة على أتم الْوُجُوه الَّتِي تقتضيها حَال الْعَصْر فِي حراسة الدّين وسياسة الدولة أَو الدول الإسلامية وَإِصْلَاح الْأمة، وبرنامجا لتنفيذ هَذَا النظام بالتدريج السَّرِيع الَّذِي يدْخل فِي الطَّاقَة وكتابا فِي الْأُصُول الشَّرْعِيَّة للقوانين الإسلامية، تقوم بهَا الْحجَّة على كل من يزْعم عدم صَلَاحِية الشَّرِيعَة للحضارة والعمران فِي هَذَا الْعَصْر. . وَبعد وضع النظام التَّام لإِقَامَة الْإِمَامَة على أساسها وقيامها بوظائفها وأعمالها، بِوَضْع نظام مُؤَقّت لإمامة الضَّرُورَة، ويشرع فِي تَنْفِيذ النظامين مَعًا.

مِثَال تفصيلي من هَذَا الْإِجْمَال: تنشأ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للْإِمَامَة الْعُظْمَى وللاجتهاد فِي الشَّرْع الَّذين ينتخب مِنْهُم رجال ديوَان الْخلَافَة الْخَاص وَأهل الْقَضَاء والإفتاء وواضعو القوانين الْعَامَّة، ونظم الدعْوَة إِلَى الْإِسْلَام والدفاع عَنهُ، وَإِزَالَة الْبدع والخرافات اللاصقة بأَهْله. وَمِمَّا يدرس فِي هَذِه الْمدرسَة أصُول القوانين الدولية وَعلم الْملَل والنحل، وخلاصة تَارِيخ الْأُمَم، وَسنَن الِاجْتِمَاع، ونظم الهيئات الدِّينِيَّة كالفاتيكان والبطاركة والأساقفة وجمعياتهم الدِّينِيَّة وأعمالها، فَمَتَى تخرج فِي هَذِه الْمدرسَة فِي الزَّمن الْمعِين أَفْرَاد مستجمعون لشرائط الْخلَافَة، وَمن أهمها الْعلم الاستقلالي الاجتهادي وَالْعَدَالَة، تَزُول ضَرُورَة جعل الْخَلِيفَة جَاهِلا أَو فَاسِقًا. . فَإِذا انتخب أحد المتخرجين فِي هَذِه الْمدرسَة انتخابا حرا من قبل أهل الِاخْتِيَار - الَّذين يتحَرَّى فيهم أَن يَكُونُوا من جَمِيع الأقطار الإسلامية وَلَا سِيمَا المستقلة مِنْهَا بِمُوجب النظام الْخَاص لَهُ - ثمَّ بَايعه من سَائِر أهل الْحل وَالْعقد من يحصل بهم الثِّقَة التَّامَّة للْأمة كَافَّة قَامَت الْحجَّة على كل فَرد أَو جمَاعَة أَو شعب بِأَنَّهُ هُوَ الإِمَام الْحق النَّائِب عَن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي إِقَامَة الدّين وسياسة الدُّنْيَا، وَأَن طَاعَته فرض شَرْعِي فِي كل مَا هُوَ غير مَعْصِيّة قَطْعِيَّة ثَابِتَة بِنَصّ الْكتاب أَو السّنة الصَّحِيحَة من الْمصَالح الْعَامَّة، وَلَا تجوز مُخَالفَته فِي شئ من ذَلِك بِاجْتِهَاد يُعَارض اجْتِهَاده وَلَا تَقْلِيد مُجْتَهد آخر، فَإِن اجْتِهَاده فِي الْمصَالح الْعَامَّة مُرَجّح على اجْتِهَاد غَيره مَتى كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد كَمَا هُوَ الْوَاجِب. وَإِنَّمَا يتبع كل امْرِئ اجْتِهَاد نَفسه أَو فَتْوَى قلبه وراحة وجدانه فِيمَا يخْتَلف فِيهِ اجْتِهَاد الْعلمَاء من الْأُمُور الشخصية الْخَاصَّة ككون هَذَا المَال حَلَالا أَو حَرَامًا. وَيجوز لكل مُسلم مُرَاجعَة الْخَلِيفَة فِيمَا يُخَالف فِيهِ النَّص، وَلأَهل الْحل وَالْعقد مُرَاجعَته فِي رَأْيه واجتهاده الْمُخَالف للْمصْلحَة الْعَامَّة. وَمثل مَا يرجح اجْتِهَاده فِيمَا ذكر كَمثل حكم الْحَاكِم فَإِنَّهُ يرفع الْخلاف فِي الْمسَائِل الاجتهادية، وَلَكِن من علم أَنه قضى لَهُ بِغَيْر حَقه لَا يحل لَهُ ديانَة أَن يَأْخُذهُ، لِأَن علمه بالواقع أرجح من ظن القَاضِي الَّذِي هُوَ اجْتِهَاده فِي الحكم أَو فِي تطبيقه الدَّعْوَى كَمَا ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح، على أَن الْحَنَفِيَّة يَقُولُونَ بنفوذ حكم الْحَاكِم فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَيحل عِنْدهم ديانَة أَن تَأْكُل مَا حكم لَك بِهِ القَاضِي الشَّرْعِيّ وَإِن كنت تعلم أَن المَال لَيْسَ لَك:

نهضة المسلمين وتوقفها على الاجتهاد في الشرع

بعد هَذَا أذكر الحزب بأهم البرامج وَالنّظم الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْعَمَل وَهِي: 1 - برنامج الْمدرسَة الْعليا الَّتِي يتَخَرَّج فِيهَا الْخُلَفَاء والمجتهدون. 2 - برنامج انتخاب الْخَلِيفَة 3 - برنامج ديوَان الْخلَافَة الإداري والمالي ومجالسه. . . مجْلِس الشورى الْعَامَّة. مجْلِس الْإِفْتَاء والتصنيفات الدِّينِيَّة والشرعية وَالنَّظَر فِي المؤلفات. . مجْلِس التَّقْلِيد والتفويض لرؤساء الحكومات والقضاة والمفتين. . مجْلِس المراقبة الْعَامَّة على الْحُكُومَة. مجْلِس الدعْوَة إِلَى الْإِسْلَام والدعاة. . مجْلِس خطابة الْمَسَاجِد والوعظ والإرشاد والحسبة. . مجْلِس الزَّكَاة الشَّرْعِيَّة ومصارفها. . مجْلِس إِمَارَة الْحَج وخدمة الْحَرَمَيْنِ الشريفين. . مجْلِس قلم الرسائل. نهضة الْمُسلمين وتوقفها على الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع: لَا أرى من الْمصلحَة أَن أنشر كل مَا عِنْدِي من الْعلم والرأي التفصيلي فِي وَسَائِل تَجْدِيد الْإِمَامَة الإسلامية الْعُظْمَى ومقاصده ومنافعه، لأنني أخْشَى أَن يَسْتَفِيد مِنْهُ أَعدَاء الْإِسْلَام مَا يكونُونَ أقدر بِهِ على قطع الطَّرِيق علينا من حَيْثُ لَا ننتفع نَحن بِهِ كَمَا يجب. . فَإِن استعدادنا لهَذَا الْإِصْلَاح لَا يزَال ضَعِيفا جدا: رئم الْمُسلمُونَ الضيم، ورزئوا بالضعف، وَرَضوا بالخسف، وَلم يبْق لشعب مِنْهُم همة فِي خير وَلَا شَرّ، حَتَّى كَانَ هَذَا التطور الْجَدِيد فِي بعض شعوبهم فِي هَذَا الْعَصْر، وَقد كَانَ جلّ سَببه شدَّة ضغط الْأَجَانِب عَلَيْهِم، لَا رجوعهم إِلَى هِدَايَة دينهم، وَلَا الْعلم بِأَنَّهُم فقدوا بِتَرْكِهَا، مَا كَانُوا قد أَصَابُوهُ بهديها، وَأَنَّهُمْ لَو أَقَامُوا الشَّرْع، وامتثلوا أَمر الله فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} لما سبقهمْ أحد إِلَى صنع المدافع والقذائف وَسَائِر أَنْوَاع السِّلَاح. . وَلَا إِلَى بِنَاء الْجَوَارِي الْمُنْشَآت فِي الْبَحْر كالأعلام،

والعلوم والفنون الَّتِي تتَوَقَّف عَلَيْهَا هَذِه الْأَعْمَال، وَلما فاقهم أحد فِي فنون الحضارة، وزينة الدُّنْيَا وطيبات الْمَعيشَة، وهم يقرءُون فِي مُحكم كِتَابهمْ الْمنزل: {قل مَن حَرَّم زينةَ الله الَّتِي أَخْرجَ لِعِبَادِهِ والطيباتِ من الرزق؟ قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} . . وَلَو جَاءَت هَذِه النهضة بهداية الْإِسْلَام - وَهُوَ أهل لما هُوَ أرقى مِنْهَا - لكانوا فِي المدنية أسْرع سيرا، وَأبْعد شوطا، وَلما احْتَاجَ إحْيَاء منصب الْخلَافَة إِلَى سعي ودأب، وَلَا لتأليف حزب، على أَن الشُّعُور الإسلامي من أقوى الْوَسَائِل المعنوية للنهضة، وَإِن كَانَ بعض العاملين فِيهَا لَيْسَ لَهُم حَظّ مِنْهُ، بل هم حَرْب لَهُ، بيد أَن أَكْثَرهم يعلم أَنهم لابد لَهُم من مراعاته ومداراة أَهله، لأَنهم سَواد الْأمة الْأَعْظَم إِلَى أَن يربوا جيلا جَدِيدا يغرسون فِي أنفس نشئة الشُّعُور الجنسي الْمَحْض، وَيكون هُوَ صَاحب الرَّأْي الْعَام فِي الشّعب. . هَذَا مَا نعلمهُ بِالْخَيرِ، من أَمر النهضة فِي مصر وَالتّرْك، بل قيل لنا أَيْضا: إِن نهضة الأفغان الجديدة تغلب عَلَيْهَا صبغة المدنية لَا الصبغة الدِّينِيَّة، وهم أَشد الشعوب الإسلامية الناهضة تدينا، وأضعفهم تفرنجا، وَقد يَصح أَن يُقَال إِنَّهُم لَيْسُوا من التفرنج فِي شَيْء، فإننا نعني بِهِ الافتتان بتقليد الإفرنج فِي مظَاهر حياتهم وعاداتهم وشكل حكوماتهم، لَا الْعُلُوم والفنون والصناعات وَالنّظم الَّتِي راجت سوقها فِي هَذَا الْعَصْر عِنْدهم، بعد أَن كُنَّا نَحن أَحَق بهَا وَأَهْلهَا، فِي قُرُون طَوِيلَة كَانُوا فِيهَا محرومين مِنْهَا. . وَخير مَا بلغنَا عَن الأفغان فِي نهضتهم هَذِه أَنهم يعنون باقتباس الْفُنُون الزراعية والصناعية من أوربة دون الْفُنُون الأدبية والعلوم القانونية، فَإِن لَهُم فِي آدَاب الْإِسْلَام وشريعته غنى عَن ذَلِك. وَلَا سِيمَا إِذا سلكوا فِيهَا مَسْلَك الْعلم الاستقلالي الْمعبر عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ، فالترقي الإسلامي يتَوَقَّف عَلَيْهِ فِي تجديده مِثْلَمَا توقف عَلَيْهِ فِي مبدئه. . كَمَا بدأنا وأعدنا مرَارًا وَلَا بُد من التّكْرَار الْكثير فِي مثل هَذَا. . وَلَو كَانَ الأفغان متصلين بِجَزِيرَة الْعَرَب وَجعلُوا الْعَرَبيَّة لغتهم الرسمية لكانوا أَجْدَر الشعوب الإسلامية بِالسَّبقِ إِلَى إحْيَاء منصب الْخلَافَة، على أَن الرَّجَاء فِي تجديدهم مَدَنِيَّة الْإِسْلَام فِي الشرق عَظِيم، وَلَا غرو، فموقظ الشرق وقائده فِي الْعَصْر قد خرج من بِلَادهمْ. .

فارغة

فتاوي مصطفى كمال الدينية برأيه

فتاوي مصطفى كَمَال الدِّينِيَّة بِرَأْيهِ

فارغة

لَا يُمكن للْمُسلمين أَن يجمعوا بَين هِدَايَة الْإِسْلَام وحضارته من حَيْثُ هُوَ دين سيادة وسلطان إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ فِي شَرعه الْوَاسِع المرن، فَترك الْجِهَاد هُوَ الَّذِي رد بَعضهم إِلَى البداوة الَّتِي قضى عَلَيْهَا أَو إِلَى مَا يقرب مِنْهَا، وطوح ببعضهم إِلَى التفرنج والإحاد وَالسَّعْي إِلَى الْبعد عَن الدّين. مِثَال ذَلِك أَن التّرْك نصبوا خَليفَة متقنا لصاعتي التَّصْوِير والموسيقى، وللعزف بالآلات الوترية، وكل من هذَيْن العملين محرم ومسقط للعدالة فِي الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، وَمن أَشدّهَا فِيهِ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة الَّذِي ينتمي إِلَيْهِ الشّعب التركي، وَقد ردَّتْ المحكمة الشَّرْعِيَّة بِمصْر شَهَادَة أستاذ موسيقى (موسيقار) من عهد قريب. وَلَكِن لكل من الْمَسْأَلَتَيْنِ تخريجاً فِي الِاجْتِهَاد كَمَا سنشير إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَحْث. وَقد سُئِلَ الْغَازِي مصطفى كَمَال باشا فِي أثْنَاء سياحته الْأَخِيرَة فِي الأناضول عَن صنع التمائيل ونصبها فِي الْبِلَاد، أَلَيْسَ محرما شرعا؟ - وَقد روى أَنهم سينصبون لَهُ تمثالا فِي أنقرة - فَأفْتى بِأَنَّهُ غير محرم الْيَوْم كَمَا كَانَ محرما فِي أول الْإِسْلَام وَقرب الْعَهْد بالوثنية، وَجزم بِأَنَّهُ لَا بُد للْأمة التركية من الِاشْتِغَال بنحت التماثيل، لِأَنَّهُ من فنون حضارة الْعَصْر الضرورية، وَاسْتشْهدَ أَو اسْتدلَّ على حلّه بِمَا رأى فِي مصر من التماثيل. وَقد أفتى لنَفسِهِ وللحكومة فِي مَسْأَلَة اخْتِلَاط النِّسَاء بِالرِّجَالِ، ومشاركتهن لَهُم فِي الْأَعْمَال، بل سنّ فِيهَا سنة جَدِيدَة إِذْ عقد لَهُ فِي أزمير على فتاة متفرنجة حضرت مجْلِس العقد بِنَفسِهَا، ووقفت تجاهه فِيهِ وسألها القَاضِي عَن رِضَاهَا بِهِ بعلاً فأجابت، وسجل زواجهما وأصبحت بعد ذَلِك تُسَافِر مَعَه بزِي الفرسان، وتقابل مَعَه من يلقى من الرِّجَال، وَقد صرح فِي مَسْأَلَة النِّسَاء وَمَا سيكن عَلَيْهِ فِي الْأمة التركية الجديدة بِمَا لَا يرضاه رجال الدّين والمتدينون، وَلَا يزَال يسْأَل عَن المشكلات الْمُتَعَلّقَة بشئون الْأمة الدِّينِيَّة فيفتى برايه، فيخطئ ويصيب. ولابد فِي أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل من الْموقف الْوسط بَين التقحم الْجَدِيد والجمود التليد، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ دون التَّقْلِيد.

أمثلة لحاجة الترك إلى الاجتهاد في الشرع

مصطفى كَمَال باشا ذكي فصيح، وَلكنه غير أصولي وَلَا فَقِيه، وَهُوَ يُفْتِي فِي أَمْثَال هَذِه الْمسَائِل الدِّينِيَّة، بِمَا أُوتِيَ من الجرأة العسكرية، والإدلال بزعامته السياسية، فَيقبل مِنْهُ الْعَوام، وَلَا يتجرأ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء. وَلَكِن سير حكومته على هَذِه السَّبِيل - وَهِي شعبية إسلامية - لَا يُمكن أَن يَدُوم بتأثير سلطة شخصية، فَلَا بُد لَهَا من إِحْدَى ثَلَاث: إِمَّا اتِّبَاع فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة بالجري على الرَّاجِح فِي كتب الْفَتْوَى - وَهَذَا مَالا يرضاه أحد من طلاب المدنية العصرية الغلاة وَلَا المعتدلين - وَإِمَّا أَن يرفضوا كَون الْحُكُومَة إسلامية بِحجَّة الْفَصْل بَين الدّين والسلطة، وَهَذَا مَا يتمناه ملاحدة المتفرنجين وَلَكِن لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن سَواد الْأمة الْأَعْظَم مُسلمُونَ، وهم أَصْحَاب السلطة وسيكون لَهُم الرَّأْي الْغَالِب فِي الجمعية الوطنية. فَلم يبْق إِلَّا الثَّالِثَة وَهِي سَبِيل الْعلم الاستقلالي الاجتهادي الَّذِي نوهنا بِهِ فَهُوَ الَّذِي يثبت لهَذِهِ الْحُكُومَة وللعالم كُله أَن الشَّرِيعَة الإسلامية أوسع الشَّرَائِع وأكملها، وَأَن من أُصُولهَا حظر كل مَا ثَبت ضَرَره، وَإِبَاحَة مَا ثَبت نَفعه، وَإِيجَاب مَالا بُد مِنْهُ، وَأَن الْمحرم فِيهَا بِالنَّصِّ يُبَاح للضَّرُورَة، وَالْمحرم لسد ذَرِيعَة الْفساد يُبَاح للمصحلة الراجحة. أَمْثِلَة لحَاجَة التّرْك إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع أولى مَا يذكر هُنَا مَا ألممنا بِهِ آنِفا، فَأَما التَّصْوِير فَهُوَ قد حرم لعِلَّة مَعْرُوفَة وَهِي سد ذَرِيعَة الوثنية، ومضاهاة خلق الله، فَإِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ لمصْلحَة راجحة فِي الْعلم كتصوير الْأَبدَان المساعد على إتقان عُلُوم الطِّبّ والجراحة، أَو تَحْقِيق المسميات اللُّغَوِيَّة من الطير وَالْحَيَوَان لمُجَرّد ضبط اللُّغَة وَلما يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة كمعرفة مَا يُؤْكَل وَمَا لَا يُؤْكَل عِنْد من يحرمُونَ أكل السبَاع المفترسة مِنْهَا أَو الْمسَائِل العلمية الْكَثِيرَة والمصالح العسكرية أَو الإدارية، كتصوير الجواسيس والجناة - فَكل ذَلِك يُبَاح شرعا حَيْثُ لَا شُبْهَة عبَادَة، وَلَا قصد إِلَى مضاهاة خلق الله، وَقد بَينا ذَلِك بالتفصيل فِي فتاوي الْمنَار، وَهُوَ مِمَّا لمحه مصطفى كَمَال باشا لمحا، فَأفْتى بِالْجَوَازِ الْمُطلق طردا وعكسا، وَهُوَ مَالا يتم مُطلقًا، واستدلاله على جَوَاز نصب

التماثيل لكبراء الرِّجَال بِعَمَل الْحُكُومَة المصرية يشبه استدلاله على صِحَة سلب السلطة من الْخَلِيفَة الْآن بسلبها من الْخُلَفَاء العباسيين، وَلَيْسَ من الدّين فِي شَيْء، فَإِن الْحُكُومَة المصرية غير مُقَيّدَة بِالشَّرْعِ فِي جَمِيع أَعمالهَا، وَلم يكن نصبها لشَيْء من هَذِه التماثيل بفتوى من عُلَمَاء الْأَزْهَر وَلَا غَيرهم، وَلَو استفتتهم لما أفتوا، لَا لِأَن نصب التماثيل محرم فِي الْإِسْلَام فَقَط، بل لِأَن فِيهِ إِضَاعَة كَثِيرَة من مَال الْأمة فِي غير مصلحَة أَيْضا، وهم لَا يقبلُونَ شُبْهَة من يدعونَ أَن نصب التماثيل للرِّجَال الْعِظَام ينْفخ فِي روح الْأمة الرَّغْبَة فِي التَّشَبُّه بهم، وَالْقِيَام بِمثل أَعْمَالهم، لأَنهم يجزمون بِأَنَّهُ لم يخْطر فِي بَال مصري قطّ أَن يكون كمحمد عَليّ باشا أَو إِبْرَاهِيم باشا أَو سُلَيْمَان باشا الفرنسي ذَوي التماثيل المنصوبة بِمصْر والإسكندرية، وَبِأَن التماثيل قد تنصب لمن يكون قدوة سَيِّئَة أَيْضا، وبأنها من تقاليد الإفرنج فِي أَمر من أُمُور زِينَة مدينتهم الَّتِي تَقْتَضِي نفقات عَظِيمَة لَا تقدم عَلَيْهَا إِلَّا الْأُمَم الغنية ذَات الثروة الواسعة، فَلَو كَانَ مُبَاحا مُطلقًا فِي شرعنا لَكَانَ الأولى بِنَا تَركه لأمرين يرجحان بِهِ (أَحدهمَا) الاقتصاد فِي المَال وَنحن لَا نزال شعوبا فقيره (وَثَانِيهمَا) تحامي التَّقْلِيد لَهُم فِيمَا هُوَ من مشخصات حضارتهم الَّتِي فتنا بهَا فَكَانَت من أَسبَاب استكبارنا لَهُم واحتقارنا لأنفسنا، وَقد نَهَانَا نَبينَا [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن التَّشَبُّه بغيرنا لنكون مستقلين دونهم بل قدوة لَهُم. وَهَذِه مَسْأَلَة اجتماعية مهمة فصلنا القَوْل فِي مضارّها مرَارًا. وَقَول مصطفى كَمَال باشا: إِن الْأمة لابد لَهَا من اتقان صناعَة نحت التماثيل يُجَاب عَنهُ بِأَن الْأمة تاركة لصناعات كَثِيرَة وَاجِبَة شرعا وَهِي كل مَا تتَوَقَّف عَلَيْهِ الْمَعيشَة وَالْقِيَام بالواجبات الذاتية كالملابس والأسلحة والطيارات والبوارج الحربية وَغير ذَلِك. فَلَا يَصح لتارك الضروريات والحاجيات القانع بِأَن يكون فيهمَا عَالَة على الْأَجَانِب أَن يهتم بِأَمْر الزِّينَة الْمَحْضَة وَلَو لم تكن ضارة فِي دين وَلَا دنيا. وَأما مَسْأَلَة الموسيقى فَلَيْسَ لمحرميها من النُّصُوص الصَّحِيحَة مثل أَحَادِيث تَحْرِيم التَّصْوِير واتخاذ الصُّور والتماثيل، بل هِيَ مَسْأَلَة خلافية. وَقد فصلنا فِي الْمنَار القَوْل فِي أَدِلَّة الَّذين حظروا سَماع الْغناء وَالْمَعَازِف (آلَات الطَّرب) من جِهَة الرِّوَايَة وَمن جِهَة الدِّرَايَة والاستنباط وحققنا، أَن الأَصْل فِي الْمَسْأَلَة الْإِبَاحَة وَأَن الْمحرم مِنْهُ

مَا كَانَ ذَرِيعَة إِلَى مَعْصِيّة أُخْرَى كمن يغريه السماع بِشرب الْخمر أَو غَيره من الْفسق وَأَن الْإِسْرَاف فِيهِ مَكْرُوه. . الخ. وَأما مَسْأَلَة النِّسَاء فأحكام الْإِسْلَام أَعلَى الْأَحْكَام وأعدلها وأفضلها فِيهَا، وَأكْثر مَا ينتقده الْعُقَلَاء الْفُضَلَاء من مسلمات المدن المحجبات بِحَق فَهُوَ من الْعَادَات، فَإِذا كَانَ طلاب تَغْيِير هَذِه الْعَادَات يحكمون الدَّلِيل فِي ترك مَا هُوَ ضار مِنْهَا وَالْأَخْذ بِمَا هُوَ نَافِع من غَيرهَا فسيرون الشَّرْع الإسلامي أقوى نصير لَهُم فِيهِ، وَلَيْسَ الْفَصْل بَين الضار والنافع فِي هَذِه وَأَمْثَاله بِالْأَمر السهل، بل هُوَ يحْتَاج إِلَى تدقيق وَبحث لاخْتِلَاف الآراء فِيهِ باخْتلَاف الْأَهْوَاء والتربية كَمَا يعلم من الْمِثَال الْآتِي: تصدي أحد أساتذة الْمدَارِس الأميرية فِي هَذِه الْبِلَاد لامْرَأَة متزوجة يتصباها، وَكَانَ من تصبيه لَهَا أَن قَالَ لَهَا وَهِي مارة فِي الطَّرِيق مَا مَعْنَاهُ: إِن جمَالهَا قد حرم عَلَيْهِ نوم اللَّيْل، فقاضاه زَوجهَا إِلَى المحكمة الْأَهْلِيَّة طَالبا عِقَابه على تصبي زَوجته ومحاولة إفسادها عَلَيْهِ، فَحكم قَاضِي المحكمة الابتدائية بِبَرَاءَة الْأُسْتَاذ مُعَللا عمله بِأَنَّهُ من حب الْجمال الَّذِي هُوَ من الغرائز المحمودة والأذواق الصَّحِيحَة، فَكيف يعد ذَنبا يُعَاقب عَلَيْهِ القانون؟ وَلَكِن قَاضِي الِاسْتِئْنَاف عد عمله ذَنبا وَحكم عَلَيْهِ بعقوبة. إِن تربية مُسْلِمِي مصر وَالتّرْك - وأمثالهم - مذبذبة مضطربة فِي هَذَا الْعَصْر، والتفاوت فِيهَا كَبِير، فَمنهمْ غلاة التفرنج الَّذين يسْتَحلُّونَ الْفَوَاحِش ويميلون إِلَى الْإِبَاحَة وهم الأقلون وَللَّه الْحَمد، وَمِنْهُم الجامدون على جَمِيع التقاليد العتيقة خَيرهَا وشرها، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَت منسوبة إِلَى الدّين - وَإِن خطأ - وَبَين هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أهل الْقَصْد والاعتدال من عُلَمَاء الدّين وعلماء الدُّنْيَا، فَيجب أَن يُحَال كل مَا يُرَاد من التَّغْيِير فِي عادات الْأمة إِلَى لجان من هَؤُلَاءِ المعتدلين يبحثون فِي مَنَافِعه ومضاره من كل وَجه، ويضعون النظام لما يقررون تَغْيِيره، مراعين فِيهِ سنَن الِاجْتِمَاع باتقاء ضَرَر الاستعجال والطفرة، وَمَا يحدثان من الفوضى فِي الْأمة والتفاوت الْعَظِيم بَين أفرادها وجماعاتها، فَإِن الجيل الْحَاضِر وليد الجيل الْمَاضِي ووارثه فِي غرائزه وأفعاله وانفعالاته وعاداته، بل ينْزع بِهِ الْعرق إِلَى الأجيال الَّتِي قبله، فَإِذا حمل على ترك شَيْء مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ من الْأَفْعَال والعادات فَإِنَّمَا يسهل عَلَيْهِ من ذَلِك مَا يُوَافق الْهوى واللذة، دونما يُوَافق الْعقل والمصحلة، ثمَّ إِنَّه لابد أَن يلقِي مُعَارضَة من فريق كَبِير

من الْأمة بِمُقْتَضى سنَن الغريزة، فَإِن كلا من حب التَّجْدِيد وَحب الْمُحَافظَة على الْقَدِيم غريزي فِي الْبشر، فَيظْهر هَذَا فِي أنَاس وَذَاكَ فِي آخَرين بِتَقْدِير الْعَلِيم الْحَكِيم، وَإِلَّا لكانوا على غرار وَاحِد لَا يتَغَيَّر كالنمل والنحل، أَو لكانوا كل يَوْم فِي جَدِيد لَا يثبتون عَلَيْهِ وَلَا يكون لجيل مِنْهُم شبه بجيل آخر. فَمن يظنّ أَنه يُمكنهُ أَن يُمِيت أمة من الْأُمَم بِإِبْطَال مقوماتها من العقائد والغرائز والأخلاق ومشخصاتها من الْآدَاب والعادات ثمَّ يبعثها خلقا جَدِيدا فِي جيل وَاحِد بتغيير فِي قوانينها وشكل حكومتها، وإقناعها بذلك بالخطب وَالشعر والجرائد - فَهُوَ مغرور وَالْحمل عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَة لَا يَأْتِي إِلَّا بحكومة شخصية قاهرة. نعم إِن التَّغْيِير مُمكن وواقع، وَطَرِيقه مَعْرُوف، وَهُوَ مَا أرشدنا الله تَعَالَى إِلَيْهِ بقوله {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} وتغيير مَا بالأنفس إِنَّمَا يكون منظما بتعميم التربية والتعليم، وَقد حقق عُلَمَاء الِاجْتِمَاع أَن التَّأْثِير فِي تَغْيِير حَال الشّعب لَا يتم إِلَّا فِي ثَلَاثَة أجيال. جيل التَّقْلِيد والمحاكاة، وجيل الْخُصُومَة وجيل الِاسْتِقْلَال، وبتمامه يتم تكوين الملكة. وَمثل هَذَا فِي الشعوب كَمثل التَّعْلِيم الابتدائي والثانوي والعالي للأفراد وَقد يشذ بعض الشعوب فِي بعض الملكات كَمَا يشذ بعض الْأَفْرَاد بذكاء نَادِر فَيبلغ من إحكامها فِي بدايته مَا يعجز عَن مثله البليد فِي نهايته. وَقد حقق الفيلسوف الاجتماعي (غوستاف لوبون) الْمَشْهُور فِي كِتَابه (تطور الْأُمَم) أَن ملَكة الْفُنُون لم تستحكم لأمة من أُمَم الأَرْض فِي أقل من الثَّلَاثَة أجيال المقررة إِلَّا للْعَرَب، فهم وحدهم الَّذين تربت هَذِه الملكة فيهم، فَصَارَ لَهُم مَذْهَب خَاص فِيهَا مُنْذُ الجيل الأول من مدنيتهم الإسلامية، فَإِذن لابد من جعل كل تَغْيِير يُرَاد فِي الْأمة إِلَى لجان من أهل الِاخْتِصَاص فِيهِ، تدرسه وتمحصه وتقرر فِيهِ مَا فِيهِ مصلحتها وموافقة شريعتها. وَلَيْسَ بَيَان هذامن مقصدنا هُنَا، وَلكنه استطراد غرضنا مِنْهُ رد مَسْأَلَة النِّسَاء وأمثالها إِلَى أصل علمي مَعْقُول، فَإِن الفوضى فِيهَا ضاربة أطنابها فِي بِلَادنَا كالبلاد التركية، فَمَا يرَاهُ بعض النَّاس ضارا قطعا يرَاهُ آخَرُونَ هُوَ النافع الَّذِي لابد مِنْهُ، ومقلدة الإفرنج فِيهِ كالجامدين على الْقَدِيم لَيْسُوا على هدى وَلَا بَصِيرَة، فَإِن أَعقل حكماء الإفرنج وأكبر عُلَمَائهمْ غير راضين عَن حَال النِّسَاء عِنْدهم، وَقد حكى لنا

توقف الاجتهاد في الشرع على اللغة العربية

عَن عاهل المانية عِنْدَمَا زار الآستانة فِي أَيَّام الْحَرْب أَنه لما اطلع على تهتك النِّسَاء التركيات وبروزهن للرِّجَال متبرجات كنساء الإفرنج عذل طلعت باشا الصَّدْر الْأَعْظَم الاتحادي على ذَلِك قَائِلا إِنَّه كَانَ لكم من دينكُمْ وازع للنِّسَاء عَمَّا نشكو نَحن من غوائله الأدبية والاقتصادية ونعجز عَن تلافيه فَكيف تتفضون مِنْهُ باختياركم؟ إِنَّكُم إِذن لمخطئون. وَمِمَّا يحسن التَّذْكِير بِهِ من الْمسَائِل الَّتِي يتَمَسَّك جَمَاهِير متفقهة الْمُسلمين فِيهَا بِمَا يُنَافِي ضروريات الحضارة الْحَاضِرَة والمصالح الْعَامَّة زعمهم أَن السَّائِل الْمُسَمّى بالكحول والسبيرتو نجس يحرم اسعماله فِي كل مَا يَسْتَعْمِلهُ فِيهِ الْأَطِبَّاء والصيادلة وَسَائِر الصناع الَّذين يعدونه ضَرُورِيًّا فِي صناعتهم، وَقد أفتى جمَاعَة من فُقَهَاء الْهِنْد بذلك مُنْذُ أشهر ورددنا عَلَيْهِ ردا طَويلا أثبتنا فِيهِ أَن هَذَا السَّائِل طَاهِر ومطهر طبي، وَأَنه من الضروريات الَّتِي يجب الِانْتِفَاع بهَا فِي كثير من الْأَعْمَال، وَأَنه مِمَّا عَمت الْبلوى بِهِ، وَلَكِن الأَصْل فِي فتاوي أَفْرَاد الْعلمَاء أَن يعْمل بهَا من يقتنع بِصِحَّة أدلتها إذاكانت الْفَتْوَى مؤيدة بِالدَّلِيلِ على طَريقَة السّلف الَّتِي تجْرِي عَلَيْهَا فِي الْمنَار، وَمن يَثِق بِعلم صَاحبهَا أَو بِكَوْنِهِ على الْمَذْهَب الَّذِي ينتمي إِلَيْهِ فِي المقلدين، فَليعلم أَنَّهَا لَا تحل المشكلات الْعَامَّة بل تبقي الْأمة مضطربة باخْتلَاف الفتاوي وأقوال الْعلمَاء، وَإِنَّمَا يحل المشكلات الْعَامَّة وَيجمع كلمة الْأمة فِيهَا الإِمَام الْأَعْظَم (الْخَلِيفَة) إِذا كَانَ مُجْتَهدا كَمَا تقدم. توقف الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع على اللُّغَة الْعَرَبيَّة: قد ثَبت مِمَّا تقدم أَن الْجمع بَين حضارة الْعَصْر وفنونه وَبَين الْمُحَافظَة على الْإِسْلَام لَا يتم إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْع فَكَذَلِك لَا يكون الْخَلِيفَة هُوَ الإِمَام الْحق الَّذِي تجب طَاعَته ويمكنه نشر دَعْوَة الدّين والمحافظة عَلَيْهِ ومقاومة الْبدع وَإِزَالَة الْخلاف بَين الْأمة فِي الْمسَائِل الاجتماعية والمدنية الْعَامَّة إِلَّا إِذا كَانَ مُجْتَهدا، وَالِاجْتِهَاد يتَوَقَّف على اتقان اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَفهم أساليبها وخواص تراكيبها والملكة الراسخة فِي فنونها، للتمكن من فهم نُصُوص الْكتاب وَالسّنة وهما فِي الذرْوَة الْعليا من هَذِه اللُّغَة، وَقد

عد عُلَمَاء الْأُصُول من جَمِيع الْمذَاهب معرفَة اللُّغَة الْعَرَبيَّة شرطا مُسْتقِلّا للِاجْتِهَاد مَعَ اشْتِرَاط الْعلم بِالْكتاب وَالسّنة، بل صرح بعض أَئِمَّة الْعلمَاء بِأَن معرفَة هَذِه اللُّغَة فرض على كل مُسلم وَإِن مُقَلدًا - وَلَوْلَا أَن جَمِيع سلف الْأمة كَانَ على هَذَا الِاعْتِقَاد لما انتشرت الْعَرَبيَّة فِي خير الْقُرُون فِي كل قطر انْتَشَر فِيهِ الْإِسْلَام من غير مدارس منظمة تديرها الحكومات أَو الجمعيات وَهل لذَلِك من سَبَب غير الِاعْتِقَاد بِالْوُجُوب الديني، وَمن الْآيَات على ذَلِك إِجْمَاع الْعلمَاء فِي كل زمَان وَمَكَان على أَدَاء جَمِيع الْعِبَادَات اللسانية بِهَذِهِ اللُّغَة، كتلاوة الْقُرْآن وأذكار الصَّلَاة وَالْحج وَغَيرهَا، حَتَّى إِنَّهُم لَا يزالون يؤدون بهَا الْوَعْظ من خطْبَة الْجُمُعَة وَالْحَمْد لله والشهادتين والتلاوة وَالدُّعَاء فَقَط، وَلَكِن مِنْهُم من يترجمها بعد الصَّلَاة وَقد نقل إِلَيْنَا من الآستانة أَن أول جُمُعَة حضرها الْخَلِيفَة الروحي الْجَدِيد ألقيت فِيهَا خطْبَة الصَّلَاة باللغة التركية وَمن الْمَعْلُوم من الْإِسْلَام بِالضَّرُورَةِ أننا متعبدون بتدبر الْقُرْآن وَالِاعْتِبَار والاتعاظ بآياته وبفهم تِلَاوَة الصَّلَاة وأذكارها، وكل ذَلِك يتَوَقَّف على معرفَة اللُّغَة الْعَرَبيَّة، وتقصير بعض الْمُسلمين فِي هَذَا الْوَاجِب كتقصيرهم فِي الْوَاجِبَات الْكَثِيرَة الَّتِي أضاعت عَلَيْهِم دينهم ودنياهم. لَيْسَ من غرضنا هُنَا أَن نَدْعُو أعاجم الْمُسلمين إِلَى تعلم اللُّغَة الْعَرَبيَّة، وَإِنَّمَا الْغَرَض أَن نذْكر حزب الْإِصْلَاح بِمَا لَا يجهله أَكثر رِجَاله من العلاقة القوية بَين منصب الْخلَافَة وَبَين اللُّغَة الْعَرَبيَّة فَإِنَّهُ سيجد فِي اللُّغَة مُعَارضَة شَدِيدَة، وَلَكِن حجَّته قَوِيَّة وَهِي تعذر حَيَاة الْإِسْلَام نَفسه وَالِاجْتِهَاد فِي أَحْكَامه بِدُونِهَا، وَتعذر تعارف الْمُسلمين وَجمع كلمتهم بِالْقدرِ المستطاع بِدُونِهَا، فَفِي كل قطر يسكنهُ الْمُسلمُونَ وكل مَدِينَة مِنْهُ لَا يزَال الْإِسْلَام فِيهَا حَيا، وَيُوجد من أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ من يُمكن التعارف مَعَهم وَنشر مَا يُقرر لخدمة الدّين بسعيهم. إِن اللُّغَة رابطة من روابط الْجِنْس، وَقد حرم الْإِسْلَام التعصب للْجِنْس لِأَنَّهُ مفرق للْأمة ذَاهِب بالاعتصام والوحدة وَاضع للعداوة مَوضِع الألفة، وَقد نهى النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] عَن العصبية العمية الْجَاهِلِيَّة وتبرأ مِمَّن يَدْعُو إِلَيْهَا أَو يُقَاتل عَلَيْهَا، وَقد كَانَ من إصْلَاح الْإِسْلَام الديني والاجتماعي تَوْحِيد اللُّغَة بِجعْل لُغَة هَذَا الدّين الْعَام لُغَة لجَمِيع الْأَجْنَاس الَّتِي تهتدي بِهِ، فَهُوَ قد حُفظ بهَا وَهِي قد حفظت بِهِ. فلولاه

لتغيرت كَمَا تغير غَيرهَا من اللُّغَات، وكما كَانَ يعروها التَّغْيِير من قبله. ولولاها لتباعدت الأفهام فِي فهمه، ولصار أديانا يكفّر أَهلهَا بَعضهم بَعْضًا، وَلَا يَجدونَ أصلا جَامعا يتحاكمون إِلَيْهِ إِذا رجعُوا إِلَى الْحق وَتركُوا الْهوى، فاللغة الْعَرَبيَّة لَيست خَاصَّة بجيل الْعَرَب سلائل يَعْرُب بن قحطان بل هِيَ لُغَة الْمُسلمين كَافَّة، ولغة شعوب أُخْرَى من غيرالعرب، وَطَوَائِف من الْعَرَب غير الْمُسلمين، وَمَا خدم الْإِسْلَام أحد من غير الْعَرَب إِلَّا بِقدر حظهم من لغته، وَلم يكن أحد من الْعَرَب فِي النّسَب يفرق بَين سيبوَيْه الْفَارِسِي النّسَب وأستاذه الْخَلِيل الْعَرَبِيّ فِي فضلهما واجتهادهما فِي خدمَة اللُّغَة، وَلَا بَين البُخَارِيّ الْفَارِسِي وأستاذيه أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَق بن رَاهْوَيْةِ العربيين فِي خدمَة السّنة، بل لم يخْطر فِي بَال أحد من سلف الْأمة وَلَا خلفهَا قبل هَذَا الْعَصْر أَن يَأْبَى تَفْضِيل كثير من الْأَعَاجِم فِي النّسَب على بعض أقرانهم وأساتذتهم من الْعَرَب فِيمَا امتازوا بِهِ من خدمَة هَذَا الدّين ولغته، وَلَا نَعْرِف أحدا من عُلَمَاء الْأَعَاجِم لَهُ حَظّ من خدمَة الْإِسْلَام وَهُوَ يجهل لغته، وَلَوْلَا أَن ظلّ عُلَمَاء الدّين فِي جَمِيع الشعوب الإسلامية مُجْمِعِينَ على التَّعَبُّد بِقِرَاءَة الْقُرْآن المعجز للبشر بأسلوبه الْعَرَبِيّ وأذكار الصَّلَاة وَغَيرهَا بِالْعَرَبِيَّةِ ومدارسة التَّفْسِير والْحَدِيث بِالْعَرَبِيَّةِ لضاع الْإِسْلَام فِي الْأَعَاجِم مِنْهَا. وَلَو أَن الدولة العثمانية أحيت اللُّغَة الْعَرَبيَّة فِيمَا فَتحته من أوروبة لانتشر فِيهَا الْإِسْلَام ثمَّ فِيمَا جاورها انتشارا عَاما، ولقامت فِيهَا مَدَنِيَّة إسلامية كمدنية الْعَرَب فِي الأندلس وَكَانَ رسوخها فِيهَا عَظِيما، وَلكنهَا لم تفعل ذَلِك وَلم تجْعَل لغتها التركية لُغَة علم وفنون بل اعتمدت فِي حكمهَا على قُوَّة السَّيْف وَحده، فَكَانَ من غوائل ذَلِك - وَهِي كَثِيرَة - أَن جَمِيع الشعوب الَّتِي خضعت لسيادتها وسلطانها ظلت مُحَافظَة على لغاتها حَتَّى الْمُسلمين مِنْهُم. . فَلَمَّا تَجَدَّدَتْ فِي هَذَا الْعَصْر عصبية اللُّغَة، وَجعل التّرْك العثمانيون لغتهم لُغَة علم أَرَادوا أَن يكرهوا الشعوب الإسلامية فِي سلطنتهم على ترك لغاتهم إِلَى لُغَة الدولة فَامْتنعَ الْجَمِيع عَلَيْهِم، وهب أَصْحَاب اللُّغَات غير العلمية الْمُدَوَّنَة كالألبانيين والكرد والجركس إِلَى تدوين لغاتهم وَجعلهَا لُغَة علم وفنون كَمَا فعل التّرْك، وَقد حَارَبت الدولة الألبانيين وهم أعظم حصونها فِي أروبة لأجل اللُّغَة، فَاخْتَارُوا حربها وَالْخُرُوج من سلطنتها على ترك لغتهم، وَلَو رضيت لنَفسهَا لُغَة الْإِسْلَام ودعتهم إِلَيْهَا لما أَبَوا، وَهَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ الَّتِي فرقت بَين التّرْك وَالْعرب

الاشتراع الإسلامي والخلافة

ذَلِك التَّفْرِيق الَّذِي أَشَرنَا إِلَى رزاياه فِي هَذَا الْبَحْث مرَارًا، وسعينا لتلافيه قبل تفاقم خطبه فَمَا أفادنا السَّعْي فلاحا، وَكَيف يعقل أَن يرضى الْعَرَب استبدال التركية بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي شرفها الله على جَمِيع اللُّغَات بكتابه المعجز للبشر وحجته عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة على مَالهَا من المزايا الْأُخْرَى. . وَنحن نرى التتار إخْوَة التّرْك فِي الْعرق الطوراني لَا يرضون بترك لغتهم واستبدال التركية بهَا وَهِي أرقى مِنْهَا؟ . فَنحْن الْآن تجاه أَمر وَاقع، مَا لَهُ من دَافع، وكل مَا نطمع فِيهِ أَن نتقي ضَرَره، ونوفق بَين الجامعة الإسلامية والجامعة الجنسية اللُّغَوِيَّة بِمَا فصلناه من تعاون الْعَرَب وَالتّرْك على إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية الْحق، فَإِذا وفْق الله لإتمام هَذَا فَهُوَ الَّذِي تتمّ بِهِ الْوحدَة، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. . الاشتراع الإسلامي والخلافة: نُرِيد بالاشتراع مَا يعبر عَنهُ عندنَا بالاستنباط وَالِاجْتِهَاد، وَفِي عرف هَذَا الْعَصْر بالتشريع (وَقد اسْتعْمل بعض عُلَمَائِنَا هَذَا كالشرع فِي الإلهي خَاصَّة) وَهُوَ وضع الْأَحْكَام الَّتِي تحْتَاج إِلَيْهَا الْحُكُومَة لإِقَامَة الْعدْل بَين النَّاس وَحفظ الْأَمْن والنظام، وصيانة الْبِلَاد، ومصالح الْأمة وسد ذرائع الْفساد فِيهَا. . وَهَذِه الْأَحْكَام تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والمدنية كَمَا قَالَ الإِمَام الْعَادِل عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ تحدث للنَّاس أقضية بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور. . أَي وَغَيره من الْمَفَاسِد والمصالح والمضار وَالْمَنَافِع. . فالأحكام تخْتَلف وَإِن كَانَ الْغَرَض مِنْهَا وَاحِدًا وَهُوَ مَا ذكرنَا آنِفا من إِقَامَة الْعدْل. . الخ. . وَلَا يقوم أَمر حُكُومَة مَدَنِيَّة بِدُونِ اشتراع، وَلَا ترتقي أمة فِي معارج الْعمرَان بِدُونِ حُكُومَة يكفل نظامها اشتراع عَادل يُنَاسب حالتها الَّتِي وَضعهَا فِيهَا تاريخها الْمَاضِي، ويسلك لَهَا السبل والفجاج للعمران الراقي، ولايصلح لأمة من الْأُمَم شرع أمة أُخْرَى مُخَالفَة لَهَا فِي مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، كَمَا أَنه لَا يصلح للغة من اللُّغَات قَوَاعِد لُغَة أُخْرَى فِي صِيغ كلمها وَأَحْكَام تأليفها، إِلَّا إِذا أَرَادَت أمة أَن

تندغم فِي أمة أُخْرَى وتتحد بهَا فتكونا أمة وَاحِدَة كَمَا اتّحدت شعوب كَثِيرَة بِالْإِسْلَامِ فَكَانَت أمة وَاحِدَة ذَات شَرِيعَة وَاحِدَة، وَأما الشعوب الَّتِي تقتبس شرائع شعوب أُخْرَى بِغَيْر تصرف وَلَا اجْتِهَاد فِيمَا تحوله إِلَى مَا يلائم عقائدها وآدابها ومصالحها الَّتِي كَانَ الشّعب بهَا شعبًا مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ فَإِنَّهَا لَا تلبث أَن تزداد فَسَادًا واضطرابا، ويضعف فِيهَا التماسك والاستقلال الشّعبِيّ فَيكون مَانِعا من الِاسْتِقْلَال السياسي وَمَا يتبعهُ. . فشرع الْأمة عنوان مجدها وشرفها. . وروح حَيَاتهَا ونمائها، وأعجب مَا منى بِهِ بعض الشعوب الإسلامية أَن ترك شَرِيعَة لَهُ ذَات أصل ثَابت فِي الْحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة، واستبدل بهَا قوانين شعوب أُخْرَى هِيَ دونهَا فَأَصْبحُوا وَلَا إِمَام لَهُم فِي حياتهم الاشتراعية من أنفسهم، بل هم يقتدون فِيهَا بأفراد من أعاجم الفرنجة يقلدونهم بِمَا خسروا بِهِ أهم مقومات أمتهم، وَأعظم مظهر من مظَاهر شرفهم، وأشرف أثر من آثَار تاريخهم، وَهُوَ الشَّرْع الديني، الَّذِي هُوَ أساس الاشتراع البشري الاجتهادي. . لَا تتسع هَذِه الْخُلَاصَة الَّتِي نكتبها فِي هَذَا الْبَحْث لبَيَان أَنْوَاع الحكومات الغابرة والحاضرة وشأنها فِي الاشتراع وَمَكَان الْمُسلمين فِيهِ، وَإِنَّمَا نقُول إِن صحفنا الْعَرَبيَّة تصرح فِي هَذَا الْعَهْد آناً بعد آخر بِأَن أحدث أصُول التشريع هُوَ أَنه حق للْأمة، ويظن هَؤُلَاءِ الَّذين يَكْتُبُونَ هَذَا وَأكْثر من يقرءُون كَلَامهم أَن هَذَا الأَصْل من وضع الإفرنج، وَأَن الْإِسْلَام لَا تشريع فِيهِ للبشر. لِأَن شَرِيعَته مستمدة من الْقُرْآن، وَالْأَحْكَام المدنية والسياسية فِيهِ قَليلَة محدودة، وَمن السّنة، وَالزِّيَادَة فِيهَا على مَا فِي الْقُرْآن قَليلَة ومناسبة لحَال الْمُسلمين فِي أول الْإِسْلَام دون سَائِر الْأَزْمِنَة وَلَا سِيمَا زَمَاننَا هَذَا، وَأَن الْإِجْمَاع وَالِاجْتِهَاد على استنادهما إِلَى الْكتاب وَالسّنة قد انقطعا وأقفلت أبوابهما باعتراف جَمَاهِير عُلَمَاء السّنة فِي جَمِيع الأقطار الإسلامية، وَأَن هَذَا هُوَ السَّبَب فِي تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدِّينِيَّة، واضطرار الحكومتين لمدنيتين الوحيدتين التركية والمصرية إِلَى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدا ثمَّ تشريعا. . ذَلِك ظن الَّذين يجهلون أصُول الشَّرِيعَة الإسلامية وأساس الاشتراع فِيهَا، الَّذين لَا يفرقون بَين الِاصْطِلَاح الفقهي والاصطلاح العصري فِي التشريع فيعمى عَلَيْهِم الْحَقِيقَة اخْتِلَاف الِاصْطِلَاح، ذَلِك بِأَن اسْم الدّين وَالشَّرْع قد يستعملان

اسْتِعْمَال المترادف وَإِن كَانَ بَينهمَا عُمُوم وخصوص فَإِنَّهُم كثيرا مَا يختصون الشَّرْع بِالْأَحْكَامِ القضائية أَو العملية دون أصُول العقائد وَالْحكم والآداب الَّتِي هِيَ قَوَاعِد الدّين، الْمُتَعَلّقَة بصلاح المعاش والمعاد، وَلذَلِك جعلُوا الْفِقْه قسمَيْنِ: عبادات ومعاملات، وَالْفُقَهَاء يفرقون فِي ذَلِك بَين الدّيانَة وَالْقَضَاء يَقُولُونَ يجوز هَذَا قَضَاء لَا ديانَة. . وَتسَمى الْأَحْكَام العملية دينا بِاعْتِبَار أَنَّهَا يدان بهَا الله تَعَالَى فتتبع إذعانا لأَمره وَنَهْيه. . وَبِهَذَا الِاعْتِبَار تطلق كلمة الشَّارِع على الله تَعَالَى، وأطلقت على النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِأَنَّهُ مبلغ الشَّرْع ومبينه، وَمن الْعلمَاء من قَالَ إِن الله تَعَالَى أذن لَهُ أَن يشرع، وَالْجُمْهُور على أَنه مبلغ ومبين لما نزل عَلَيْهِ من الْوَحْي وَأَن الْوَحْي أَعم من الْقُرْآن. . وَالتَّحْقِيق أَن هَذَا كُله خَاص بِأَمْر الدّين، وَهُوَ مَا شرع ليتقرب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى من الْعِبَادَات، وَترك الْفَوَاحِش والمنكرات، ومراعاة الْحق وَالْعدْل فِي الْمُعَامَلَات، تَزْكِيَة للنَّفس وإعدادا لَهَا لحياة الْآخِرَة. . وَمِنْهَا مَا فِي الْمُعَامَلَات من معنى الدّين كاحترام أنفس النَّاس وأعراضهم وَأَمْوَالهمْ والنصح لَهُم وَترك الْإِثْم وَالْبَغي والعدوان والغش والخيانة وَأكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ. . وَأما مَا عدا ذَلِك من نظام الإدارة وَالْقَضَاء والسياسة والجباية وتدبير الْحَرْب مِمَّا لَا دخل للتعبد والزلفى إِلَى الله فِي فروعه بعد حسن النِّيَّة فِيهِ - فقد كَانَ الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي زَمَنه مشترعا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ مَأْمُورا من الله بمشاورة الْأمة فِيهِ، وَلَا سِيمَا أولى الْأَمر من أفرادها الَّذين هم مَحل ثقتها فِي مصالحها الْعَامَّة وممثلو إرادتها من الْعلمَاء والزعماء والقواد، وَهُوَ كَذَلِك مفوض من بعده إِلَى هَؤُلَاءِ أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الْوحدَة من يختارونه إِمَامًا لَهُم وَخَلِيفَة لَهُ. . وَالدَّلِيل على هَذَا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى: {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَقَوله: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} الْآيَة وَقَوله: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} وَمن السّنة مَا صَحَّ عَنهُ من أَن أمته لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة، وَمَا كَانَ يَجعله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَوضِع الشورى من أُمُور الْحَرْب وَغَيرهَا من الْمصَالح الدُّنْيَوِيَّة، وَمَا أذن فِيهِ من الِاجْتِهَاد والرأي عِنْد فقد النَّص من الْكتاب، وَعدم السّنة المتبعة، والْحَدِيث فِيهِ مَشْهُور، وَمن آثَار الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين مَا كَانُوا يستشيرون فِيهِ أهل الْعلم والرأي من أُمُور الإدارة وَالْقَضَاء وَالْحَرب أَيْضا، وَمَا وضعوه من الدَّوَاوِين وَالْخَرَاج وَغير ذَلِك مِمَّا لم يرد بِهِ نَص فِي الْكتاب وَالسّنة، وَمن أصُول الْفِقْه حجية إِجْمَاع

الْأمة، واجتهاد الْأَئِمَّة، فَكل هذامما يُسمى فِي عرف علم الْحُقُوق والقانون تشريعا، وَهُوَ ميدان الْمُجْتَهدين الْوَاسِع وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل فِي خير الْقُرُون ... فَثَبت بِهَذَا أَن لِلْإِسْلَامِ اشتراعا مَأْذُونا بِهِ من الله تَعَالَى، وَأَنه مفوض إِلَى الْأمة يقره أهل الْعلم والرأي والزعامة فِيهَا بالشورى بَينهم. . وَأَن السلطة فِي الْحَقِيقَة للْأمة، فَإِذا أمكن استفتاؤها فِي أَمر وأجمعت عَلَيْهِ فَلَا مندوحة عَنهُ. . وَلَيْسَ للخليفة - دع من دونه من الْحُكَّام - أَن ينْقض إجماعها، وَلَا أَن يُخَالِفهُ وَلَا أَن يُخَالف نوابها وممثليها من أهل الْحل وَالْعقد أَيْضا. . واتفاق هَؤُلَاءِ إِذا كَانُوا مَحْصُورين يُسمى إِجْمَاعًا عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول، بِشَرْط أَن يَكُونُوا من أهل الْعلم الاجتهادي. وَأما إذااختلفوا فَالْوَاجِب رد مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الْأَصْلَيْنِ الأساسيين وهما الْكتاب وَالسّنة، وَالْعَمَل بِمَا يُؤَيّدهُ الدَّلِيل مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا، لقَوْله تَعَالَى بعد الْأَمر بِطَاعَة الله وَطَاعَة الرَّسُول وأولي الْأَمر: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} أَي أحسن عَاقِبَة ومآلا مِمَّا عداهُ، وَمِنْه الْعَمَل بِرَأْي أَكثر نواب الْأمة فِي تشريع قوانين أوربة ومقلديها فشرعنا مُخَالف لَهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَمن وُجُوه كَونه خيرا من غَيره، وَأحسن عَاقِبَة أَن النزاع بَين الْأمة يَزُول بتحكيم الْكتاب وَالسّنة فِيهِ، وتطيب نفوس جَمِيع نواب الْأمة بِمَا يظْهر رجحانه بِالدَّلِيلِ، وَلَا يبْقى للأضغان والنزاع بَينهم مجَال. . وَقد تقدم إِثْبَات سلطة الْأمة وتمثيل أهل الْحل وَالْعقد لَهَا فِي أول هَذِه المباحث (رقم 3، 4) بِقدر الْحَاجة الْعَارِضَة. . وَأما تَفْصِيل القَوْل فِي هَذَا وَذَاكَ فيراجع فِيهِ تفسي: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فِي الْجُزْء الْخَامِس من تَفْسِير الْمنَار. . الاشتراع - أَو التشريع أَو الاستنباط - ضَرُورَة من ضرورات الِاجْتِمَاع البشري، وَمن قَوَاعِد الشَّرْع الإسلامي أَن الضَّرُورَة لَهَا أَحْكَام: مِنْهَا أَنَّهَا تبيح مَا حرمه الله تعلى بِإِذْنِهِ فِي قَوْله بعد بَيَان مُحرمَات الطَّعَام: {إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ} وَمِنْهَا نفي الْحَرج والعسر من الدّين، وانتفاؤهما من قسم الْمُعَامَلَات أولى من انتفائهما من قسم الْعِبَادَات الَّتِي يعقل أَن يكون فِيهَا ضرب من الْمَشَقَّة لتربية النَّفس وتزكيتها إِذْ لَا تكمل تربية بِدُونِ احْتِمَال مشقة وَجهد. . ويسهل هَذَا الِاحْتِمَال نِيَّة الْقرْبَة وابتغاء المثوبة فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْمُعَامَلَات شَيْء من معنى التدين إِلَّا مَا ذكرنَا آنِفا، وَالْغَرَض مِنْهُ حفظ الْأَنْفس وَالْأَمْوَال والأعراض أَن يعتدى عَلَيْهَا بِغَيْر حق، فَمن لم يردعه عَن

ذَلِك خوف عُقُوبَة الْحُكَّام فِي الدُّنْيَا يردعه خوف عَذَاب الله فِي الْآخِرَة إِن كَانَ مُؤمنا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . فَتبين بِهَذَا أَن للاشتراع الْمدنِي والجنائي والسياسي والعسكري دَلَائِل كَثِيرَة، مِنْهَا قَوَاعِد الضرورات وَنفي الْحَرج وَمنع الضَّرَر والضرار، فَلَو لم ينص فِي الْقُرْآن على أَن أُمُور الْمُؤمنِينَ الْعَامَّة شُورَى بَينهم، وَلَو لم يُوجب طَاعَة أولي الْأَمر بالتبع لطاعة الله وَطَاعَة الرَّسُول، وَلَو لم يفْرض على الْأمة رد هَذِه الْأُمُور إِلَيْهِم ويفوض إِلَيْهِم أَمر استنباط أَحْكَامهَا، وَلَو لم يقر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] معَاذًا على الِاجْتِهَاد والرأي فِيمَا يعرض عَلَيْهِ من القضايا الَّتِي لَا نَص عَلَيْهَا فِي كتاب الله وَلم تمض فِيهَا سنة من رَسُوله لَو لم يرد هَذَا كُله وَمَا فِي مَعْنَاهُ لكفت الضَّرُورَة أصلا شَرْعِيًّا للاستنباط الَّذِي يُسمى فِي عرف هَذَا الْعَصْر بالتشريع. ووراء هَذَا وَذَاكَ عمل الْأمة فِي صدر الْإِسْلَام، وَخير الْقُرُون، وَكَذَا مَا بعْدهَا من الْقُرُون الْوُسْطَى الَّتِي خرجت فِيهَا الْخلَافَة الكافلة للأمور الْعَامَّة عَن مَنْهَج الْعلم الاستقلالي فزالا مَعًا لتلازمهما. الْخلَافَة منَاط الْوحدَة، ومصدر الاشتراع، وسلك النظام، وكفالة تَنْفِيذ الْأَحْكَام، وأركانها أهل الْحل وَالْعقد رجال الشورى، وَرَئِيسهمْ الإِمَام الْأَعْظَم، وَيشْتَرط فيهم كلهم أَن يَكُونُوا أَهلا للاشتراع، الْمعبر عَنهُ فِي أصولنا بِالِاجْتِهَادِ والاستنباط، وَقد كَانَ أول فَسَاد طَرَأَ على نظام الْخلَافَة وصدع فِي أَرْكَانهَا جعلهَا وراثية فِي أهل الغلب والعصبية، وَأول تَقْصِير رزئ بِهِ الْمُسلمُونَ عدم وضع نظام يَنْضَبِط بِهِ قِيَامهَا بِمَا يجب من أَمر الْأمة على الْقَوَاعِد الَّتِي هدى إِلَيْهَا الْكتاب وَالسّنة، وَأول خلل نَشأ عَن هَذَا وَذَاكَ تفلت الْخُلَفَاء من سيطرة أهل الْحل وَالْعقد الَّذِي يمثلون الْأمة، واعتمادهم على أهل عصبية الْقُوَّة، الَّتِي كَانَ من أهم إصْلَاح الْإِسْلَام لأمور الْبشر إِزَالَتهَا، فَصَارَ صَلَاح الْأمة وفسادها تَابعا بذلك لصلاح الْخَلِيفَة وأعوانه أهل عصبيته، لَا لممثلي الْأمة وَمحل ثقتها من أهل الْعلم والرأي فِيهَا، والغيرة والحدب عَلَيْهَا.

ثمَّ ترَتّب على ذَلِك شُعُور الْخُلَفَاء بالاستغناء عَن الْعلم أَو عدم شُعُورهمْ بِالْحَاجةِ إِلَيْهِ وَترك التَّمَتُّع باللذات اشتغالا بِهِ لتَحْصِيل رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَرَأَوا أَنه يُمكنهُم الِاسْتِعَانَة بالعلماء الَّذين يتقلدون مناصب الوزارة وَالْقَضَاء والإفتاء وَغَيرهَا من الْأَعْمَال الَّتِي يحْتَاج فِيهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام فتركوا الْعلم ثمَّ جهلوا قيمَة الْعلمَاء فصاروا يقلدون الْجَاهِلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من بفتي بِعَدَمِ اشْتِرَاط الْعلم الاستقلالي (الِاجْتِهَاد) فِي إِمَام الْمُسلمين وَلَا فِي القَاضِي لِإِمْكَان استعانتهما بالمفتي الَّذِي لَا يكون إِلَّا مُجْتَهدا، ثمَّ عَم الْجَهْل فصاروا يستفتون الْجَاهِلين (أَي غير الْمُجْتَهدين) أمثالهم، ثمَّ أذاع هَؤُلَاءِ الجاهلون الَّذين احتكروا مناصب الدولة وأموالها أَن الِاجْتِهَاد قد أقفل بَابه، وَتعذر تَحْصِيله، وأوجبوا على أنفسهم وعَلى الْأمة تَقْلِيد أَفْرَاد مُعينين من الْعلمَاء والانتساب إِلَيْهِم، ثمَّ صَارُوا يقلدون كل من ينتمي إِلَيْهِم مَعَ الْإِجْمَاع على امْتنَاع تَقْلِيد الْمُقَلّد، فَضَاعَ علم الْأَحْكَام وفقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، وَالْأمة لَا تشعر، فَلَمَّا صَار أَمر الْحُكُومَة فِي أَيدي الْجَاهِلين ضَاعَت الشَّرِيعَة والاشتراع، واختل نظام الْأمة، وانحل أمرهَا وتضعضع ملكهَا، وَقع كل ذَلِك بترك مَا صَحَّ فِيهِ من أصُول الْإِسْلَام وفروعه، والجاهلون يحسبون أَنه وَقع بِاتِّبَاع تعاليمه {} قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ محسن التنوخي فِي كِتَابه: (جَامع التواريخ) حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن بن عَبَّاس قَالَ: كَانَ أول مَا انحل من سياسة الْملك فِيمَا شَاهَدْنَاهُ من أَيَّام بني الْعَبَّاس - الْقَضَاء، فَإِن ابْن الْفُرَات (الْوَزير الْمَشْهُور) وضع مِنْهُ وَأدْخل فِيهِ قوما بالزمانات لَا علم لَهُم وَلَا أبوة فيهم، فَمَا مَضَت إِلَّا سنوات حَتَّى ابتدأت تتضع ويتقلدها كل من لَيْسَ لَهَا بِأَهْل، حَتَّى بلغت فِي سنة نيفا وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة إِلَى أَن تقلد وزارة المتقي أَبُو الْعَبَّاس الْأَصْفَهَانِي الْكَاتِب، وَكَانَ فِي غَايَة سُقُوط الْمُرُوءَة والرقاعة إِلَى أَن قَالَ: وتلا سُقُوط الوزارة اتضاع الْخلَافَة وَبلغ أمرهَا إِلَى مَا نشاهد فانحلت دولة بني الْعَبَّاس بانحلال الْقَضَاء، وَكَانَ أول مَا وضع ابْن الْفُرَات من

الْقَضَاء تَقْلِيده إِيَّاه أَبَا أُميَّة الأخوص الْفُلَانِيّ الْبَصْرِيّ أه، وَذكر أَنه إِنَّمَا قَلّدهُ لموعدة وعدها إِيَّاه، إِذْ أَوَى إِلَيْهِ واختفى عِنْده فِي أَيَّام محنته. وَأَقُول أَن ابْن الْفُرَات كَانَ من أقدر الوزراء وأعلمهم بشئون الْملك والسياسة، وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَإِنَّمَا جرأه على مثل هَذَا جهل الْخَلِيفَة وانصرافه إِلَى اللَّهْو واللعب، ثمَّ التَّلَذُّذ والإسراف فِي اللَّذَّات، فَإِنَّهُ ولي وَله ثَلَاث عشرَة سنة: قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ: اخْتَلَّ أَمر النظام كثيرا فِي أَيَّام المقتدر بصغره. يَعْنِي أَن الْخلَل قد طَرَأَ قبله من ايام المتَوَكل بن المعتصم، إِذْ كَانَ قد اشْتَدَّ عَبث التّرْك الَّذين استكثر مِنْهُم المعتصم، وجعلهم عدَّة الْخلَافَة وسياجها، فَكَانُوا هم الَّذين دكوا بنيانها وهدموا أَرْكَانهَا. وَالْعلَّة الأولى لهَذَا كُله بِدعَة ولَايَة الْعَهْد الَّتِي استدلوا عَلَيْهَا باستخلاف أبي بكر لعمر (رَضِي الله عَنهُ) فجعلتها الْقُوَّة حَقًا لكل خَليفَة وَإِن كَانَ متغلباً لَا يعد من أَئِمَّة الْحق، وَلم يراع مَا رعاه أَبُو بكر من استشارة أهل الْحل وَالْعقد وَقد بَينا بطلَان هَذَا فِي الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من هَذَا الْبَحْث. فَعلم بِهَذَا القَوْل الْوَجِيز أَن التساهل فِي بعض شُرُوط الْخلَافَة الَّتِي عَلَيْهَا مدارها وَهِي الْعلم الاستقلالي وَالْعَدَالَة والشورى بِنصب الإِمَام وَفِي تصرفه، قد كَانَ معلولا للتغلب وَعلة لفقد الاشتراع - الاستنباط - الَّذِي لَا يقوم أَمر الدولة وَلَا يطّرد ارتقاؤها وَلَا حفظهَا بِدُونِهِ، فَكَانَ هَذَا عِلّة لضعف الدولة، وَكَانَ ضعف الدولة عِلّة لضعف الْأمة، إِذْ صَارَت تَابِعَة للدولة لَا متبوعة وَكَانَ فَسَاد أَمرهمَا مَعًا عِلّة لتغيرات كَثِيرَة فِي الْأَحْوَال الاجتماعية وشئون الْمَعيشَة تَقْتَضِي أحكاماً شَرْعِيَّة أُخْرَى غير الَّتِي كَانَ الْأَمر عَلَيْهَا قبلهَا، أَو تعود الْإِمَامَة الْحق إِلَى أَصْلهَا. وَنَحْمَد الله أَن ظهر لأركان الدولة التركية الَّتِي تنحّلُ منصب الْخلَافَة أَن الدولة العثمانية كَانَت فَاسِدَة، وَأَنَّهَا لم تكن بعد دَعْوَة الْخلَافَة خيرا من قبلهَا، بل لم تلبث أَن دب إِلَيْهَا الْخلَل والضعف بالتدريج فِي كل من أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، حَتَّى صَار كثير من نابتتها المتفرنجين يصرحون بِأَن الْإِسْلَام هُوَ الَّذِي جنى عيها، وَأَن حكم الْخلَافَة هُوَ الْفَاسِد الَّذِي لَا يُمكن صَلَاح حَالهَا مَعَه، فتسنى لنا أَن نبين لَهَا وللعالم الإسلامي الَّذِي كَانَ أَكْثَره مفتوناً بهَا أَنَّهَا لم تكن قَائِمَة على أصُول الشَّرِيعَة فِي الْخلَافَة، وَأَن نبين حَقِيقَة الْخلَافَة وشكل الْحُكُومَة الإسلامية الْحق وَخطأ جُمْهُور أَعْضَاء الْمجْلس الوطني

ما بين الاشتراع وحال الأمة من تباين وتوافق

الْكَبِير فِي رَأْيهمْ وعملهم فِيهَا، وَنثْبت بالدلائل أَن أصُول الْحُكُومَة الإسلامية أرقى من أصُول سَائِر حكومات الْأُمَم، بجمعها بَين دفع الْمَفَاسِد وَحفظ الْمصَالح المادية، وَبَين الْحق وَالْعدْل والفضائل الَّتِي يتهذب بهَا الْبشر وتكمل الإنسانية، وَأَن نَدْعُو هَذِه الْأمة التركية الإسلامية إِلَى إِقَامَة حُكُومَة الْإِسْلَام كَمَا أَمر الله وَرَسُوله وخلفاؤه الراشدون خير أمة أخرجت للنَّاس وَلَو كره المتفرنجون {ليَهْلكَ من هلك عَن بَيِّنة، ويحيا من حَيَّ عَن بَيِّنَة وَإِن الله لسميع عليم} مَا بَين الاشتراع وَحَال الْأمة من تبَاين وتوافق: وضع الإسام قَوَاعِد عَامَّة لأنواع الْمُعَامَلَات الدُّنْيَوِيَّة راعي فِيهَا هِدَايَة الدّين وَتَقْيِيد حكومته بِالْتِزَام الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل، فَلم يَجْعَل مَا فوض إِلَى أولى الْأَمر فِيهَا من الاستنباط - الاشتراع - مُطلقًا من كل قيد لِئَلَّا يجنوا على آدَاب الْأمة خطأ فِي الِاجْتِهَاد، أَو اتبَاعا للهوى إِذا غلب عَلَيْهِم الْفساد، فَحرم الرِّبَا الَّذِي كَانَ فاشياً فِي الْجَاهِلِيَّة، لما فِيهِ من الْقَسْوَة وَالْبخل والطمع الَّذِي يحمل على استغلال ضَرُورَة الْمُحْتَاج، كَمَا حرم الْغِشّ والخيانة، وَجعل الْأمة متكافلة بِمَا أوجب من النَّفَقَة على الْقَرِيب، وَالزَّكَاة لإِزَالَة ضَرُورَة الْفَقِير والمسكين، ولغير ذَلِك من الْمصَالح الْعَامَّة، وَجعل لكل امْرَأَة كافلا يقوم بأمرها من زوج أَو قريب، وَإِلَّا فالإمام الْأَعْظَم أَو نَائِبه، لِئَلَّا تضطر إِلَى مَا يشق عَلَيْهَا الْقيام بِهِ من الْكسْب مَعَ قِيَامهَا بوظائفها الْخَاصَّة بهَا من الْحمل والوضع وَالرضَاعَة وتربية الْأَطْفَال، فَيكون اضطرارها إِلَى الْحَيَاة الاستقلالية سَببا لقلَّة النَّسْل ولغير ذَلِك من الْمَفَاسِد. وَقد كَانَ تَأْثِير ضعف الدّين فِي الشعوب الإسلامية وحكوماتها أَن ترك كل مِنْهُمَا مُرَاعَاة مَا يجب عَلَيْهِ من تِلْكَ الْقَوَاعِد والتزام أَحْكَامهَا، فترتب على ذَلِك احْتِيَاج كل مِنْهُمَا إِلَى ارْتِكَاب بعض الْمَحْظُورَات كالربا إِمَّا اضطراراً وَإِمَّا اخْتِيَارا ترجح فِيهِ المصحلة على الْمفْسدَة رجحاناً ظَاهرا. هَذَا الِاحْتِيَاج الَّذِي يدْفع صَاحبه إِلَى ارْتِكَاب الْمحرم إِذا لم يجد لَهُ مخرجا لَا يعرض فِي الْإِقْرَاض كَمَا يعرض فِي الِاقْتِرَاض، فَكَانَ من أَثَره أَن الْمُسلمين

لم يَجدوا من يقرضهم إِلَّا من غَيرهم، إِمَّا من أهل ذمتهم وَإِمَّا من الْأَجَانِب عَنْهُم، كالمعاهدين الَّذين يكونُونَ فِي بعض الأحيان حربيين، وَهَذِه مفْسدَة أُخْرَى هِيَ ذهَاب ثروة الْمُسلمين إِلَى غَيرهم، وناهيك بذهابها إِلَى أعدائهم، وحاجتهم إِلَيْهِم فِي أهم مصالحهم. ثمَّ إِن توسع الْفُقَهَاء فِي مسَائِل الرِّبَا وإدخالهم فِيهَا مَا لم يكن مَعْرُوفا فِي عصر الْوَحْي، وتضييق أَكْثَرهم فِي أَحْكَام الْعُقُود الْمَالِيَّة، واستحداث الْأُمَم الَّتِي يتعاملون مَعهَا لأنواع كَثِيرَة من الْعُقُود والمعاملات، وترقي الْعُلُوم الاقتصادية والأعمال الْمَالِيَّة إِلَى دَرَجَة قَضَت بتفوق متبعي قواعدها ونظمها على غَيرهم فِي الثروة وَالْقُوَّة والسيادة - كل أُولَئِكَ كَانَ دافعا فِي صُدُور الْمُسلمين ورافعاً لغَيرهم عَلَيْهِم حَتَّى فِي دِيَارهمْ، بل هُوَ أظهر الْعِلَل لسلب جلّ ملكهم مِنْهُم، والسيطرة عَلَيْهِم فِيمَا بقى لَهُم شَيْء من السِّيَادَة فِيهِ، ولاعتقاد أَكثر الَّذين يعْرفُونَ أَحْوَال هَذِه الْأُمَم العزيزة فِي علومها وأعمالها ويجهلون أصُول الْإِسْلَام، أَن الْإِسْلَام نَفسه عِلّة ضعف الْمُسلمين بِمَا فِي شَرعه من الجمود على أَحْكَام عتيقة مَالِيَّة واجتماعية توجب فقر ملتزمها وكل مَا يجره الْفقر فِي الْأُمَم من الذل والضعف وفقد الْملك. بدأت بِضَرْب الْمَسْأَلَة الْمَالِيَّة مثلا لما طَرَأَ على كثير من الْبِلَاد الإسلامية من تَأْثِير ترك الْعَمَل بِأَحْكَام الشَّرِيعَة الغراء، إِذْ كَانَ المَال قوام حَيَاة الْأُمَم والدول فِي كل زمَان، وَصَارَ لَهُ من الشَّأْن فِي هَذَا الزَّمَان مَا لم يكن لَهُ من قبل وَلَا سِيمَا عصر النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] الَّذِي كَانَت فِيهِ الْأمة قَليلَة الْحَاجَات، وَغير مرتبطة فِي حَيَاتهَا بمعاملات الْأُمَم الْأُخْرَى، وَلَكِن عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الْحَكِيم قد أنزل فِي ذَلِك الْعَصْر قَوْله {وَلَا تُؤتوا السُّفَهَاء أموالَكم الَّتِي جعلَ الله لكم قيَاما} فأرشدنا بِهِ إِلَى مكانة المَال من حَيَاة الْأُمَم ونظام أمرهاوكونها لَا تقوم إِلَّا بِهِ، وحثنا على الْمُحَافظَة عَلَيْهِ، وَعدم تَمْكِين السُّفَهَاء من التَّصَرُّف فِيمَا هُوَ ملك لَهُم مِنْهُ، كَمَا أمرنَا فِي آيَات أُخْرَى بالاقتصاد ونهانا عَن الْإِسْرَاف والتبذير، وذمه كَمَا ذمّ الْقمَار غول الثروة بِمَا أَفَادَ تحريمهما تَحْرِيم الْقمَار بأنواعه فِي الدّين، فَهَل يُمكن أَن يُقَال إِن مُقْتَضى شرع هَذَا الدّين أَن يكون أَهله فُقَرَاء؟ وَأَن يكون مَا بِهِ قيام معاشهم وَعزة أمتهم ودولتهم فِي أَيدي الطامعين فيهم من الْأُمَم الْأُخْرَى؟ وَإِذا كَانَ هَذَا مُخَالفا لهدى هَذَا الدّين فَمَا بَال المشتغلين بِعلم الشَّرْع فِيهِ أَجْهَل أهل بِلَادهمْ بالفنون الْمَالِيَّة،

وَبِمَا يرتبط بهَا من الْأُمُور السياسية، وَلَا يجْعَلُونَ هَذِه الْفُنُون مَا يتدارسونه فِي مدارسهم الدِّينِيَّة؟ السَّبَب لهَذَا أَنه لَيْسَ لَهُم حُكُومَة إسلامية تطلبه مِنْهُم لتَكون أَحْكَامهَا وميزانيتها مُوَافقَة لحكم الشَّرْع. وأضرب لَهُم مثلا آخر مَيْل بعض الْمُسلمين فِي مصر وَالتّرْك إِلَى التعاليم الاشتراكية بل قيامهم بتأليف الْأَحْزَاب لَهَا والدعوة إِلَيْهَا، سَوَاء كَانَ ذَلِك افتناناً بتقليد الفرنجة أَو شعوراً بِمَا يشْعر بِهِ الاشتراكيون فِي أوربة من تَأْثِير أَثَرَة أَرْبَاب الْأَمْوَال على الْعمَّال، وَغَيرهم من أهل الإملاق، لَو كَانَت الشَّرِيعَة الإسلامية نَافِذَة الْأَحْكَام وَهِي الْهِدَايَة الَّتِي يتبعهَا الْخَواص والعوام، لما شعر بِالْحَاجةِ إِلَى التعاليم الاشتراكية أحد من أَهلهَا، بل لرأي الاشتراكيون من الْأُمَم الْأُخْرَى أَنه يجب حل الْمَسْأَلَة الاجتماعية على ضوئها، ولكان ذَلِك سَببا لاهتداء كثير مِنْهُم إِلَى الْإِسْلَام ودعوتهم إِلَيْهِ. وَمَالِي لَا أذكر من الْمثل فِي هَذَا الْمقَام دَعْوَة كثير من النِّسَاء وَالرِّجَال فِي مثل هَذِه الْبِلَاد إِلَى تربية الْمَرْأَة تربية استقلالية تَسَاوِي بهَا الرجل فِي كل شَيْء حَتَّى لَا يكون فِيمَا عَلَيْهَا فِي شَيْء، سبق الْإِسْلَام جَمِيع الْملَل إِلَى الْمُسَاوَاة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الشئون الزَّوْجِيَّة إِلَّا هَذِه الدرجَة بقوله تَعَالَى: {ولهن مِثلُ الَّذِي عَلَيْهِم بِالْمَعْرُوفِ وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرجة} وَهِي الرياسة الَّتِي بَينهَا فِي قَوْله: {الرِّجَال قَوَّامون على النِّسَاء بِمَا فضّل الله بَعضهم على بعض وَبِمَا أَنْفقُوا من أَمْوَالهم} فَجعل سَببهَا تَفْضِيلهمْ عَلَيْهِنَّ بِالْقُوَّةِ على الْكسْب والحماية والدفاع، وَمَا فرض لَهُنَّ عَلَيْهِم من الْمهْر وَالنَّفقَة. أَفَرَأَيْت لَو أَن أَفْرَاد الْمُسلمين وحكامهم أَقَامُوا هَذِه الشَّرِيعَة فساوى الرِّجَال النِّسَاء بأنفهسم فِي كل شَيْء ماعدا رياسة الْمنزل وَكَذَا الرياسة الْعَامَّة كالإمامة الْعُظْمَى وإمامة الصَّلَاة، وكرموهن كَمَا أوصاهم الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَكَانَت النِّسَاء تشعر بِالْحَاجةِ إِلَى إعداد أَنْفسهنَّ للكسب وَغَيره من أَعمال الرِّجَال الشاقة؟ أم يفضلن أَن يعشن فِي هناء وراحة يتمتعن من كسب الرِّجَال فِي ظلّ كفاتهم وكفالة الشَّرِيعَة الَّتِي تنفذها حكومتهم بِمَا لَا يتمتع بِهِ الرِّجَال أنفسهم؟ فَإِن الْمَرْأَة تَأْكُل من كسب الرجل مَا يَأْكُل وَهِي الْمُدبرَة لأمر مأكله، وَلكنهَا تفضله بِمَا تلبس من الْحلَل وَمَا تتزين بِهِ من الحلى، فَإِن كَانَ ثمَّ غبن فالرجل هُوَ المغبون.

وَجُمْلَة القَوْل فِي هَذَا الْمقَام أَن ترك الْعَمَل وَالْحكم بالشريعة فِي بعض الْمسَائِل يُفْضِي إِلَى ترك بعض آخر مِنْهَا أَو يُفْضِي إِلَى جعله متعذراً إِذْ يصير مفْسدَة بعد أَن كَانَ فِي الأَصْل عين مصلحَة، ثمَّ يُؤثر ذَلِك فِي أفكار الْأمة وأخلاقها وعاداتها، حَتَّى تنْقَلب بتغيير عَظِيم فِي مقوماتها ومشخصاتها، الشَّرّ وَالْخَيْر أَو الْبَاطِل وَالْحق كل مِنْهُمَا يَقُول جنسه وَيُؤَيِّدهُ، وَقد فقدت الْأمة الإسلامية مَا يصونها من ذَلِك التدهور والهوى، وَينصب لَهَا معارج الرقي، ويستنبط لَهَا من الْأَحْكَام فِي كل زمن مَا يَلِيق بِحَالِهَا، مَبْنِيا على قَوَاعِد الشَّرِيعَة الهادية إِلَى كمالها. ذَلِك بِأَن الاستنباط (الاشتراع) الَّذِي أُذن بِهِ لأولي الْأَمر من الْمُسلمين قد فقد بفقد جَمَاعَتهمْ، وَزَوَال الْإِمَامَة الْحق المنفذة لاستنباطهم، كَمَا علم ذَلِك من الْمسَائِل 3، 4، 5، 17 من هَذَا الْبَحْث، وَمن بَقِي يشْتَغل بِعلم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الإسلامية فقصارى أَمر جمهورهم مدارسة الْكتب التب ألفت للأزمنة الْمَاضِيَة الَّتِي كَانَت دَار الْإِسْلَام فِيهَا ذَات اسْتِقْلَال ومنعة، وَبَيت مَال غنى كَاف لكفالة المعوزين والغارمين وَغير ذَلِك من النَّفَقَات الشَّرْعِيَّة، فَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يفتوا بِمَا يخرج عَن قَوَاعِد مصنفي تِلْكَ الْكتب لتِلْك الْأَزْمِنَة ولحكوماتها، الَّتِي كَانَت تلتزم الْعَمَل بهَا، بل قرروا فِيمَا وضعوه من الشُّرُوط للإفتاء أَن يلتزموا فروع كتب مُعينَة لَا يتعدونها، لِأَن تعديها ضرب من الِاجْتِهَاد وَلَو فِي الْمَذْهَب، وَقد قرروا مَنعه كالاجتهاد الْمُطلق. ومنتهى مَا يرجي من توسعتهم على الْحُكُومَة الَّتِي تُرِيدُ الْعَمَل بِأَحْكَام الشَّرِيعَة أَن يستخرجوا لَهَا بعض الْفُرُوع الْمُوَافقَة للْمصْلحَة الْعَامَّة فِي هَذَا الزَّمَان من كتب الْمذَاهب الْمُعْتَمدَة، فَإِن الَّذين حرمُوا عَلَيْهِم الِاجْتِهَاد والاستنباط من أصُول الشَّرِيعَة والاقتباس من مصباحها مُبَاشرَة قد أوجبوا عَلَيْهِم تَقْلِيد مَذَاهِب مُعينَة. كَمَا قَالَ صَاحب جَوْهَرَة التَّوْحِيد: " فَوَاجِب تَقْلِيد حبر مِنْهُم ". يَعْنِي الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين فِي الفقة، فاعتمدوا هَذَا التَّحْرِيم والتحليل مِمَّن لَيْسَ بأَهْله. وَإِنَّمَا أباحوا تَقْلِيد غير الْأَرْبَعَة من الْمُجْتَهدين للْعَالم بذلك فِي خَاصَّة نَفسه. دون الْإِفْتَاء بِهِ لغيره، كَمَا قَالَ بَعضهم: (وَجَائِز تَقْلِيد غير الْأَرْبَعَة ... فِي غير إِفْتَاء وَفِي هَذَا سَعَة)

مِثَال هَذِه التَّوسعَة فِي أصُول الْمُعَامَلَات أَن الْقَاعِدَة عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين أَن الأَصْل فِي الْعُقُود الْبطلَان فَلَا يَصح مِنْهَا إِلَّا مَا دلّ الشَّرْع على صِحَّته، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الأَصْل فِيهَا الصِّحَّة إِلَّا مَا دلّ الْكتاب أَو السّنة على بُطْلَانه، لقَوْله تَعَالَى فِي أول سُورَة الْمَائِدَة وَهِي آخر مَا نزل من السُّور {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} والعقود مَا يتعاقد النَّاس عَلَيْهِ، فَهَذَا الْمَذْهَب أقوى دَلِيلا، وأقوم قيلا، وَأهْدى سَبِيلا، بِمَا فِيهِ من التَّوسعَة على النَّاس وَهُوَ الَّذِي رَجحه الْمُحَقِّقُونَ من الْحَنَابِلَة. . ألم تَرَ أَنه لما شَاءَت الحكومتان العثمانية والمصرية أَن تخرجا عَن مَذْهَب الْحَنَفِيَّة فِي بعض أَحْكَام النِّكَاح وَالطَّلَاق وَفسخ النِّكَاح فِي بعض الْأَحْوَال، وتأخذا فِيهَا بِمَا تقرر فِي الْمذَاهب الْأُخْرَى لباهما شُيُوخ الْفِقْه وَوَضَعُوا لَهما قوانين فِي هَذِه الْأَبْوَاب مقتبساً بَعْضهَا من الْمذَاهب الثَّلَاثَة الْأُخْرَى وَلَعَلَّهُمَا لَو شاءتا الْأَخْذ فِي بعض الْأَحْكَام بأقوال غير عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة العترة لما أَبَوا مواتاتهما، فَإِن الجمود على مَذْهَب معِين لم يكن إِلَّا تَحْقِيقا لرغبة الْأُمَرَاء والسلاطين، والاسترزاق من الْأَوْقَاف الَّتِي زمامها بِأَيْدِيهِم، فالذنب فِيهِ مُشْتَرك بَينهم وَبَين الْفُقَهَاء الَّذين رَأَوْا فِيهِ مَنْفَعَة لَهُم. . وَأما الَّذِي لَا يَجْرُؤ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ المتفقهة فَهُوَ الاستنباط من الْكتاب وَالسّنة، وقواعدهما الْعَامَّة ككون الضرورات تبيح الْمَحْظُورَات، وَكَون مَا حرم لسد الذريعة يُبَاح للْمصْلحَة الراجحة. . وَإِن نَص أئمتهم على هَذِه الْقَوَاعِد لِأَن هَذَا عِنْدهم من الِاجْتِهَاد الْمَمْنُوع. . وَالْحق أَن الْعلم الاستقلالي (الِاجْتِهَاد) لم يَنْقَطِع وَلنْ يَنْقَطِع من هَذِه الْأمة المحمدية، وَإِلَّا لبطلت حجَّة الله على الْخلق بفقد حملتها والدعاة إِلَيْهَا والذابين عَنْهَا، وَلما صَحَّ من خبر الْمَعْصُوم من عدم اجتماعها على ضَلَالَة، وَمن أَنه لَا يزَال فِيهَا طَائِفَة ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله، وَلَكِن هَؤُلَاءِ الْعلمَاء المستقلين كَانُوا ينتسبون فِي كل عصر من أعصار غَلَبَة الْجَهْل إِلَى الْمذَاهب الَّتِي نشئوا عَلَيْهَا قبل الِاجْتِهَاد لسببين: (أَحدهمَا) أَنهم لم يَكُونُوا يَجدونَ رزقا يتمكنون بِهِ من الِانْقِطَاع للْعلم إِلَّا من الْأَوْقَاف المحبوسة على المشتغلين بِهَذِهِ الْمذَاهب فيضطرون إِلَى تدريس كتبهَا والتصنيف فِيهَا ليحل لَهُم الْأكل مِمَّا وقف على أَهلهَا (وَثَانِيهمَا) أَن الْمُلُوك والحكام وأعوانهم من المقلدين كَانُوا وَمَا زَالُوا حَربًا للْعلم الاجتهادي الَّذِي يفتضحون بِهِ،

تأثير الإمامة في إصلاح العالم الإسلامي

وَيظْهر جهلهم وضلالهم بظهوره، فَإِذا وجدت حُكُومَة إسلامية جرئية كالحكومة التركية الْحَاضِرَة تحيي الْعلم الاجتهادي، فَإِنَّهَا تَجِد مُنْذُ الْآن سداداً من عوز لما تحْتَاج إِلَيْهِ من الْأَحْكَام وللتعليم فِي الْمدرسَة الاجتهادية الَّتِي اقترحنا إنشاءها فِي الْمَسْأَلَة (رقم 26) على أَن مقلدة الْمذَاهب لَا تكَاد تطلب الْحُكُومَة مِنْهُم شَيْئا إِلَّا ونجد فيهم من يفتيها وَلَو بالتأويل وَالْخُرُوج عَن صَحِيح الْمَذْهَب. إِذن لَا يُمكن خُرُوج الْأمة الإسلامية من جُحر الضَّب الَّذِي دخلت فِيهِ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَوُجُود الْمُجْتَهدين وَمَا يلْزمه من وجود الْإِجْمَاع الأصولي الَّذِي هُوَ إِحْدَى الْحجَج عِنْد الْجُمْهُور، وَإِن شِئْت قلت هُوَ ركن الاشتراع الركين الَّذِي لَا يُمكن أَن ترتقي أمة وَلَا يَنْتَظِم أَمر حُكُومَة بِدُونِهِ كَمَا قُلْنَا فِي صدر هَذِه الْمَسْأَلَة، بل وجود الْإِمَامَة الْحق يتَوَقَّف على هَذَا الِاجْتِهَاد كَمَا علم مماتقدم، وَإِن اجْتِمَاع الْمُجْتَهدين فِي هَذَا الْعَصْر ممهد السَّبِيل موطأ الأكناف لِإِمْكَان الْعلم بهم ودعوتهم إِلَى الِاجْتِمَاع فِي مَكَان وَاحِد أَو عرض الْمسَائِل عَلَيْهِم أَيْنَمَا وجدوا، وَهَذَا لم يكن مُمكنا فِي عصر أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَمن بعدهمْ وَلذَلِك فَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: إِن الْعلم بِالْإِجْمَاع إِن وجد غير مُمكن. تَأْثِير الْإِمَامَة فِي إصْلَاح الْعَالم الإسلامي: الْعَالم الإسلامي فِي غمَّة من أَمر دينه وَأَحْكَام شَرِيعَته، تتنازعه أهواء حكامه المختلفي الْأَدْيَان والمآرب، وآراء علمائه ومرشديه المختلفي الْمذَاهب والمشارب، ومساورة أعدائه فِي دينه ودنياه، وَلَيْسَ لَهُ مصدر هِدَايَة عَامَّة مُتَّفق عَلَيْهِ فَيرجع إِلَيْهِ فِيمَا عمى عَلَيْهِ، وَكلما ظهر فِيهِ مصلح هَب أهل الْأَهْوَاء المفسدون يصدون عَنهُ، ويطعنون فِي دينه وَعلمه، وَلَا علاج لهَذِهِ الْمَفَاسِد والضلالات إِلَّا إحْيَاء منصب الْإِمَامَة، وَإِقَامَة الإِمَام الْحق المستجمع للشروط الشَّرْعِيَّة، الَّذِي يقوم مَعَ أهل الْحل وَالْعقد بأعباء الْخلَافَة النَّبَوِيَّة، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يذعن كل مُسلم لوُجُوب طَاعَته فِيمَا يصدر عَنهُ من أُمُور الْإِصْلَاح الْعَامَّة بِقدر الِاسْتِطَاعَة، ويرجح إرشاده على إرشاد غَيره فِي الْأُمُور الْخَاصَّة، إِذْ يكون أَجْدَر ببيانها بِالْحجَّةِ الْوَاضِحَة فَإِذا لم تكن الْإِمَامَة كَذَلِك كَانَ حكم الشَّرْع فِيهَا أَنَّهَا سلطة تغلب، وَلَا تجب طَاعَة المتغلب شرعا وَلَو

فِيمَا وَافق الشَّرْع إِلَّا على من هُوَ متغلب عَلَيْهِم، فقد كَانَ السُّلْطَان عبد الحميد يَدعِي الْخلَافَة، وَلما لم يكن مستجمعاً لشروطها وَلَا قَائِما بواجباتها لم يكن مسلمو الأفغان واليمن ونجد وَالْمغْرب الْأَقْصَى يُؤمنُونَ بِصِحَّة خِلَافَته، وَلَا يَعْتَقِدُونَ وجوب طَاعَته، فيجعلوا حكوماتهم تَابِعَة لدولته، بل لم يكن أهل مصر الَّذين كَانُوا تَحت سيادته السياسية معترفين بخلافته، يقبلُونَ أَن يكون لَهُ عَلَيْهِم أَمر وَلَا نهي، وَإِنَّمَا كَانَ اعترافهم أمرا صورياً معنوياً يتوكأون عَلَيْهِ فِي مقاومة السيطرة البريطانية عَلَيْهِم، كَمَا هُوَ شَأْنهمْ وشأن أمثالهم فِي الِاعْتِرَاف بالخلافة الاسمية الحديثة فِي الآستانة على مَا بَيناهُ فِي مَوْضِعه من هَذَا الْبَحْث، وَهَذِه الْخلَافَة الحديثة لَا تبلغ دَرَجَة التغلب، فَإِن الَّذين ابتدعوها لم يجعلوها ذَات أَمر وَلَا نهي فِي حكومتهم. وَأما إِذا نفذ مَا اقترحناه وَبينا طَرِيقه من إِقَامَة الْإِمَامَة الْحق، وَلَو فِي بقْعَة صَغِيرَة من الأَرْض، فَإِن جَمِيع الْعَالم الإسلامي يذعن لَهَا إذعانا نفسياً منشأة العقيدة الدِّينِيَّة وَلَا تَجِد حُكُومَة من الحكومات الإسلامية مجالا لِلطَّعْنِ فِيهَا، وَلَا يكون لأحد من المصطنعين للأجانب سَبِيل لإنكارها، وَحِينَئِذٍ يسْعَى كل شعب إسلامي للاعتصام بهَا فالشعب الَّذِي لَا يَسْتَطِيع أَن يتبع حُكُومَة الإِمَام الْحق لقهر دولة قَوِيَّة لَهُ يجْتَهد ويتحرى أَن يتبع جمَاعَة الْمُسلمين وإمامهم كَمَا أمره الله وَرَسُوله فِيمَا لَا سيطرة لحكومته عَلَيْهِ فِيهِ من نظام التربية الدِّينِيَّة والتعليم الإسلامي وَالْأَحْكَام الشخصية، بل قد تضطر كل حُكُومَة مسيطرة على شعب إسلامي أَو أَكثر أَن تستميله بِقدر مَا ترى فِيهِ من الْوحدَة والرأي الْعَام بموادة خَليفَة نبيه، والسماح لَهُ بِأَن يتلَقَّى الْإِرْشَاد الديني من قبله كَمَا هُوَ شَأْن الكاثوليك مَعَ البابا. وَلَعَلَّ هَذَا بعض مَا يقْصد إِلَيْهِ التّرْك من إِيجَاد خَليفَة روحاني كالبابا والبطاركة عِنْد النَّصَارَى، وَلَكِن الْمَسْأَلَة دينية شَرْعِيَّة يجب فِيهَا الِاتِّبَاع، وَلَا يُمكن أَن تنجح بالمواضعة والابتداع، وَإِن كَانَ يود ذَلِك الكثيرون مِمَّن يقدمُونَ السياسة على الدّين، وَقد جهل هَذَا بعض الَّذين أظهرُوا اسْتِحْسَان عمل التّرْك وتجاهله بعض آخر أَو غفل عَنهُ، وَظن كل مِنْهُم أَن هَذَا كَاف فِي حُصُول مَا يرغبون فِيهِ من نكاية أَعدَاء الْإِسْلَام وغيظهم، وَشد أزر الشّعب التركي ومؤازرته عَلَيْهِم، وَذَلِكَ ظن الْجَاهِلين بشئون الْعَالم وسياسة الدول ودرجة اختبارها كَمَا نبينه فِي الْمَسْأَلَة التالية: لَعَلَّنَا من أدرى النَّاس بِمَا يَتَرَتَّب على إِقَامَة الْإِمَامَة الْحق من الْإِصْلَاح

فِي الْعَالم الإسلامي بمالنا من الاختبار، وَكَثْرَة مَا يرد علينا من الرسائل والمسائل من الأقطار، وَمن أحدثها سُؤال ورد من قطر إسلامي عَن أقل مَا يكون بِهِ الْإِنْسَان الْجَاهِل الأعجمي مُسلما، لِأَن أَهله أَجْهَل وأضل من مُسْلِمِي (بنوك - سيام) الَّذين وصف لنا سوء حَالهم من سَأَلنَا عَن صِحَة إسْلَامهمْ ونشرناه فِي الْمنَار من قبل. وَقد بَقِي عِنْد كل مِنْهُمَا بَقِيَّة مِمَّن يَدعِي الْعلم يحفظون من مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أحكاما اجتهادية يحتمون على النَّاس الْعَمَل بهَا فِي صَلَاة الْجُمُعَة وَغَيرهَا فَأدى ذَلِك إِلَى ترك صَلَاة الْجُمُعَة فَترك صَلَاة الْجَمَاعَة من بَعضهم، بل إِلَى ترك الصَّلَاة مِمَّن يعسر عَلَيْهِم حفظ الْفَاتِحَة وتجويدها بِإِخْرَاج الْحُرُوف من مخارجها وَتَشْديد المشدد مِنْهَا وَلَا سِيمَا الْيَاء فِي {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} فَإِن تَخْفيف المشدد فِيهَا مُبْطل للصَّلَاة عِنْد الشَّافِعِيَّة. وَمن أحدثها سُؤال بعض أهل الْعلم فِي جاوه عَن حكم مَا جروا عَلَيْهِ بِأَمْر حكامهم الْمُسلمين من إِلْزَام كل من يتَزَوَّج بِأَن يُطلق الْمَرْأَة الَّتِي يعْقد عَلَيْهَا عقب العقد طَلَاقا مُعَلّقا على التَّقْصِير فِي النَّفَقَة عَلَيْهَا، أَو ضربهَا، أَو على الْغَيْبَة عَنْهَا، وَتركهَا بِغَيْر نَفَقَة بِالصّفةِ الَّتِي يرى الْقَارئ بَيَانهَا فِي بَاب الْفَتْوَى من الْمنَار. إِن كثيرا من أهل الْعلم الساعين لإِصْلَاح حَال الْمُسلمين فِي الأقطار الْمُخْتَلفَة يعْملُونَ بِمَا ننشر فِي الْمنَار من الْحَقَائِق الدِّينِيَّة بالأدلة التفصيلية، ويسألنا بَعضهم عَمَّا يعرض عَلَيْهِ ممالم ير حكمه فِيهِ، ويجد هَؤُلَاءِ وأمثالهم معارضين فِي بعض الْبِلَاد من مقلدة بعض الْمذَاهب لما يُخَالف مَذْهَبهم، وَلَكنهُمْ لَا يعنون بنشر مذاهبهم وَحمل النَّاس عَلَيْهَا، بل يتركونهم فوضى فِي أَمر دينهم لَا يبالون بتركهم للفرائض، وَلَا باقترافهم لكبائر الْمعاصِي وَإِنَّمَا يهتمون بمعارضة بعض الْمسَائِل الَّتِي تخَالف مَذْهَبهم كَصَلَاة الْجُمُعَة بِمَا دون أَرْبَعِينَ رجلا حرا بَالغا مُقيما فِي دَاخل سور الْبَلَد لَا يظعن عَنْهَا، وَإِن أدَّت هَذِه الْمُعَارضَة إِلَى ترك الْجُمُعَة الْبَتَّةَ، فَإِذا صَار للْمُسلمين إِمَام وَجَمَاعَة من أهل الْعلم الاجتهادي وَالْعَدَالَة يستمد مِنْهُمَا دعاة الْإِصْلَاح الْعلم والإرشاد، فَإِنَّهُ لَا يلبث أَن يعم ذَلِك مُسْلِمِي جَمِيع الْبِلَاد. وَقد سبق لنا أَن اقترحنا فِي المجلد الأول من الْمنَار ضروبا من الْإِصْلَاح على مقَام الْخلَافَة الإسلامية الرسمي - وَإِن كَانَت خلَافَة تغلب - لِأَن بِلَادنَا كَانَت خاضعة

لحكمه، ونود أَن يقوم بِالْحَقِّ بِقدر طاقته، فَكَانَ جزاؤنا على مثل هَذَا الاقتراح منع الْمنَار أَن يدْخل الْبِلَاد العثمانية، وإيذاء أهلنا وأصدقائنا فِي الديار السورية. وَلَا غرو فَذَلِك الْخَلِيفَة نَفسه كَانَ جَاهِلا بأصول الدّين وفروعه وَبِمَا يصلح بِهِ حَال الْمُسلمين وَيفْسد، وأعوانه جهلاء وَأَصْحَاب أهواء، فهم لَا يبلغونه أَمْثَال تِلْكَ الاقتراحات وَإِذا ذكروها لَهُ شوهوها، وَجعلُوا حَقّهَا بَاطِلا، وصلاحها فَسَادًا، وَهُوَ يُصدقهُمْ وَلَا يطمئن لخَبر غَيرهم، وفاقد الشئ لَا يُعْطِيهِ. وَجُمْلَة القَوْل أَن الْجَهْل الْغَالِب على أَكثر الْمُسلمين والتعصب المذهبي المفرّق للكلمة بَين المتعلمين للدّين مِنْهُم لَا يُمكن تلافي ضررهما فِي زمن قصير إِلَّا بِإِقَامَة خلَافَة النُّبُوَّة على وَجههَا الَّذِي لَا يسهل على أحد أَن يُمَارِي فِيهِ مراء ظَاهرا، وَيَكْفِي أَن يعْتَقد صِحَّتهَا السوَاد الْأَعْظَم من الْمُسلمين لموافقتها لمذاهبهم وهم المنتمون إِلَى مَذَاهِب أهل السّنة والزيدية من الشِّيعَة والأباضية من بقايا الْخَوَارِج، وَهَؤُلَاء إِذا كَانُوا لَا يشترطون فِي الإِمَام مَا يَشْتَرِطه أهل السّنة والزيدية من النّسَب فهم لَا يشترطون عَدمه، وَمَا لنا لَا نتحرى فِيهِ الْمَذْهَب الَّذِي يسْتَلْزم غَيره كاستلزام مَذْهَب الزيدية لمذاهب السّنة والخوارج استلزام الْأَخَص للأعم والمقيد للمطلق؟ إِن هَذَا لَهو القَوْل الْحق الَّذِي تقوم بِهِ المصحلة الإسلامية الْعَامَّة وَمَا عداهُ مِمَّا يقبله أَتبَاع كل ناعق بباعث السياسة الْحَاضِرَة فَهُوَ غثاء، وسيذهب جفَاء، وَمِنْه يعلم أَن مَا قَرّرته حُكُومَة أنقرة بَاطِل فِي نَفسه، وَلَا يُفِيد الْعَالم الإسلامي أقل فَائِدَة، بل قد كَانَ سَببا مُنْذُ الْآن لشقاق فِي الشّعب التركي الَّذِي يرجح جمهوره الْهِدَايَة الإسلامية، على نظريات القوانين والتقاليد الإفرنجية، فَإِن فِي مجْلِس الجمعية الوطنية حزبا كَبِيرا يرى أَن الْمصلحَة تقضى بِوَضْع الْخَلِيفَة فِي الْموضع الَّذِي وَضعته فِيهِ الشَّرِيعَة، بِأَن يكون هُوَ رَئِيس الْحُكُومَة والمنفذ للْأَحْكَام، نعم إِن حزب الْغَازِي مصطفى كَمَال باشا الْمصر على رفض كل سلطة شخصية فِي الْحُكُومَة التركية الْعليا سَوَاء كَانَت باسم الْخلَافَة أَو غَيرهَا هُوَ صَاحب الغلب فِي الْمجْلس الْحَاضِر وَلَكِن سَبَب ذَلِك تَأْثِير هَذَا الرجل وَحزبه من قواد الْجَيْش فِي الْأَنْفس بِمَا لَهُم من الْمِنَّة فِي إنقاذ الدولة من الْخطر، لَا أَن هَذَا هُوَ رَأْي الْأمة التركية. وَلَو استفتيت الْأمة استفتاء حرا لخالفت هَذَا الحزب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. هَذَا هُوَ الْحق. وَسَيعْلَمُ الْعَالم الإسلامي أننا قد قمنا بِهَذَا الْبَيَان بِمَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من التواصي

كراهة غير المسلمين لحكومة الخلافة

بِالْحَقِّ والتواصي بِالصبرِ، وبالنصيحة لله وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم فَيرجع إِلَى رَأينَا من يُخَالِفهُ الْيَوْم كَمَا رجعُوا إِلَى رَأينَا فِي السُّلْطَان عبد الحميد ثمَّ فِي جميعة الِاتِّحَاد والترقي، وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين. كَرَاهَة غير الْمُسلمين لحكومة الْخلَافَة: قد يَقُول قَائِل: إِن غير الْمُسلمين فِي الْبِلَاد الَّتِي تُوصَف بالإسلامية (نِسْبَة إِلَى السوَاد الْأَعْظَم من أَهلهَا) يكْرهُونَ أَن تؤسس حُكُومَة الْخلَافَة فِيهَا، وَلَا سِيمَا النَّصَارَى الَّذين يرَوْنَ أَن ضعف النّفُوذ والتشريع والآداب والتقاليد الإسلامية فِي كل بلد إسلامي إِنَّمَا يكون بِقُوَّة نُفُوذ الإفرنج وتشريعهم وآدابهم وتقاليدهم - وَكَذَا لغاتهم - وَبِذَلِك تكون مقومات الْأمة ومشخصاتها أقرب إِلَى النَّصْرَانِيَّة مِنْهَا إِلَى الْإِسْلَام، وَمن لم يُؤمن بالعقيدة النَّصْرَانِيَّة والوصايا الإنجيلية بمحبة الْأَعْدَاء وَكَرَاهَة الْغنى وإدارة الخد الْأَيْسَر لمن يضْربهُ على خَدّه الْأَيْمن فَإِنَّهُ قد يكون أَشد استمساكا بالنصرانية الاجتماعية السياسية من أقوى الْمُؤمنِينَ بالإنجيل إِيمَانًا. فَتلك النَّصْرَانِيَّة المزورة لتي تنْسب إِلَيْهَا المدنية المادية الأوربية هِيَ مثار التعصب وَالْكَرَاهَة لكل مَا هُوَ إسلامي، لَا نَصْرَانِيَّة الْإِنْجِيل الزاهدة المتواضعة الخاشعة ذَات الإيثار الَّذِي يسمونه " إِنْكَار الذَّات ". وَإِذا كَانَ أمثالهم من متفرنجة الْمُسلمين يكْرهُونَ الْحُكُومَة الدِّينِيَّة ويعارضون فِي إحْيَاء منصب الْخلَافَة أَفلا يكون متفرنجة النَّصَارَى أولى؟ وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَكيف نعود إِلَى تَجْدِيد حُكُومَة دينية يكرهها كثير من رعاياها وينفرون مِنْهَا؟ الْجَواب عَن هَذَا يحْتَاج إِلَى تَفْصِيل نكتفي بالضروري مِنْهُ فَنَقُول: إِذا صَحَّ مَا يعزي إِلَى من ذكر من أهل الوطن بِمُقْتَضى العاطفة وتأثير التربية، فَإِن من يمحص الْحَقِيقَة وَينظر إيها بِعَين الْمصلحَة سَوَاء كَانَ مِنْهُم أَو من غَيرهم فَإِنَّهُ يحكم فِيهَا حكما آخر.

إِن حُكُومَة الْخلَافَة إسلامية مَدَنِيَّة قَائِمَة على أساس الْعدْل والمساواة إِلَّا أَن لغير الْمُسلمين فِيهَا من الْحُرِّيَّة الشخصية مَا لَيْسَ للمرتد وَالْمُنَافِق من الْمُسلمين، فَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَن يكون الْإِسْلَام رابطة جنسية أدبية حرَّة بِحَيْثُ يكون لَهُم فِي حكومته جَمِيع حُقُوق الْمُسلمين الشَّرْعِيَّة والعرفية والقانونية، وَإِن صَرَّحُوا بِأَنَّهُم لَا يدينون الله بِالْإِيمَان بعقيدته، وَلَا بِإِقَامَة أَرْكَانه وشعائره، وهم يعلمُونَ أَن الْحُكُومَة الإسلامية لَا تعطيهم شَيْئا من ذَلِك، حَتَّى إِن الْمَرْأَة إذاعلمت من زَوجهَا أَنه ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام حرم عَلَيْهَا أَن تقيم مَعَه وتستمر فِي عصمته، وَأَحْكَام الْمُرْتَدين مَعْرُوفَة فَأَمرهمْ أغْلظ من أَمر الوثنيين، دع الكتابيين الَّذين تحل ذَبَائِحهم والتزوج بالمحصنات من نِسَائِهِم، وَلَا تعاقب الْحُكُومَة الإسلامية غير الْمُسلمين على شَيْء يحل لَهُم فِي دينهم - وَإِن لم يكن حَلَالا فِي الْإِسْلَام - إِلَّا مَا فِيهِ إِيذَاء لغَيرهم، بل لَا تحاسبهم على أَعْمَالهم الشخصية الَّتِي لَا تضر الْمُسلمين وَلَا غَيرهم من رعيتها وَإِن خَالَفت دينهم، وَلكنهَا تحاسب الْمُسلمين وتعاقبهم على الْمعاصِي بالحدود وأنواع التَّعْزِير كالتوبيخ وَالْحَبْس وَذَلِكَ أَن من أصُول الْإِسْلَام حفظ الْآدَاب والفضائل وَمنع الْفَوَاحِش والمنكرات. وَقد وصف الله الْمُسلمين بقوله: {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونَهْوا على الْمُنكر} وَقَالَ فيهم: {كُنْتُم خَيرَ أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنْهون عَن الْمُنكر} وَأَحْكَام الرِّدَّة والحسبة فِي الْإِسْلَام مَعْرُوفَة. فَعلم بِهَذَا أَن ملاحدة الْمُسلمين وفساقهم المستهترين أَجْدَر أَن يَكُونُوا أَشد كَرَاهَة لإِقَامَة أَحْكَام الشَّرِيعَة من غير الْمُسلمين لِأَنَّهَا تكلفهم مَا لَا تكلّف غَيرهم وتواخذهم بِمَا لَا تؤاخذه بِهِ. وَقد اقترح بعض هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَة على جمَاعَة المؤتمر السوري الْعَام الَّذِي عقد فِي دمشق أَن يقرروا جعل الْحُكُومَة السورية غير دينية، وَلَا أذكر أَن أحدا من الْأَعْضَاء النَّصَارَى وَافق على الاقتراح بل صرح بَعضهم برده كأكثر الْمُسلمين. واقترح فِي ذَلِك المؤتمر أَن تقيد مَادَّة الْحُرِّيَّة الشخصية من القانون الأساسي بِقَيْد عدم الْإِخْلَال بالآداب الْعَامَّة، فَرد هَذَا الاقتراح بعض هَؤُلَاءِ الموصوفين بِالْمُسْلِمين وَصرح بَعضهم بتعليل الرَّد بِأَنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَن يجوز للشرطة منع الرجل من الْجُلُوس مَعَ الْمَرْأَة فِي ملهى من الملاهي أَو مقهى من المقاهي الْعَامَّة لمعاقرة الْخمر (؟ ؟) وَقد كن رد هَذَا الاقتراح أقبح خزي صدر من ذَلِك المؤتمر،

وَإِن علل الرَّد بَعضهم بالاستغناء عَن قيد الْآدَاب الْعَامَّة بِقَيْد القوانين الَّتِي يُمكن أَن ينص فِيهَا على ذَلِك الْقَيْد، وخُدع بعض أهل الدّين وَالْأَدب بذلك وَمَا كَانَ ينغبي لَهُم أَن يُخدعوا، بل أَقُول إِن أَكثر النَّصَارَى من أَعْضَاء ذَلِك المؤتمر كَانُوا أقرب إِلَى الْمُسلمين المستمسكين بِأَحْكَام الْإِسْلَام مِنْهُم إِلَى المتفلتين من الدّين، وَإِن كَانَ هَؤُلَاءِ يَتَقَرَّبُون إِلَيْهِم وينتصرون لَهُم فِيمَا يُوَافق أهواءهم من مُخَالفَة هِدَايَة الدّين الْعَامَّة. وَقد ثَبت بالتجارب أَن غير المتدينين إِذا اخْتلفُوا لأسباب سياسية أَو غَيرهَا فَإِنَّهُم يكونُونَ أَشد عَدَاوَة وقسوة لبَعْضهِم على بعض من المتدينين بِالْفِعْلِ من الْفَرِيقَيْنِ فالمتدين وَإِن شَذَّ يكون أقرب إِلَى الرَّحْمَة من المادي، وَاعْتبر ذَلِك بِمَا وَقع من الْقَسْوَة فِي الْحَرْب البلقانية، الْحَرْب الْعَامَّة بَين الأوربيين أنفسهم وَبَين من غلبت عَلَيْهِم تربيتهم من الأرمن وَالروم وَالتّرْك. وأضرب مثلا آخر: الدكتور برتكالوس الرُّومِي قَالَ لجَماعَة من السوريين كَانُوا يظهرون الابتهاج وَالسُّرُور بالدستور العثماني عقب إعلانه: إِن حكم الشَّرِيعَة الإسلامية خير لنا معشر النَّصَارَى من حكم السدتور الَّذِي يسلبنا كثيرا مِمَّا أعطتنا الشَّرِيعَة من الأمتيازات ويحملنا مَا أعفتنا من التكليفات. وأيد كَلَامه اشتداد العداء بَين التّرْك وَبَين الرّوم والأرمن وَغَيرهمَا بعد الدستور الَّذِي ترَتّب عَلَيْهِ سلب هَؤُلَاءِ كثيرا مِمَّا بَقِي لَهُم مُنْذُ كَانَ الحكم بِالشَّرْعِ وَحده. وإنني أعقب على هَذَا القَوْل بِأَن أَشد مَا يتبرم بِهِ متفرنجة التّرْك من أَحْكَام الشَّرِيعَة هُوَ مَا أَعطَتْهُ من الْحُرِّيَّة الواسعة لغير الْمُسلمين فِي بِلَاد الْإِسْلَام، ويرون أَنه لولاها لَصَارَتْ هَذِه الْبِلَاد مِلَّة وَاحِدَة كبلاد أوربة الَّتِي لم يكن فِيهَا شَيْء من هَذِه الْحُرِّيَّة ولاستراحت من العداوات والفتن الَّتِي أثارها عَلَيْهِم نَصَارَى الرومللي فالأناضول بدسائس أوربة حَتَّى كَانَت سَبَب انحلال السلطنة العثمانية، هَذَا رَأْيهمْ، وَمن الْغَرِيب أَن كثيرا من نَصَارَى بِلَادنَا المتفرنجين يوافقونهم على هَذِه النظرية وَيَقُولُونَ ياليت الْمُسلمين أكْرهُوا أجدادنا على الْإِسْلَام فِي أزمنة الْفَتْح وَالْقُوَّة، إِذن كُنَّا فِي أوطاننا أمة وَاحِدَة ذَات مِلَّة وَاحِدَة فنسلم من شقاء هَذَا الشقاق والفتن المخربة للبلاد.

لَا مجَال فِي هَذَا الْمقَام لتحرير القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَلَيْسَ من الصعب بَيَان خطأ من يظنّ أَن مُعَاملَة نَصَارَى الدولة بِعدْل الشَّرِيعَة الإسلامية وحريتها هُوَ الَّذِي ألبّهم عَلَيْهَا، وَلَا إِثْبَات أَن الَّذِي ألّبهم ثمَّ أثارهم هُوَ جهل رجال الدولة وغفلتهم عَن دسائس أوربة فِي هَذِه الشعوب وَمَا بثوا فِي مدارسها وكنائسها! إِنَّمَا غرضنا من ذكرهَا أَن الشَّرِيعَة الإسلامية خير لِلنَّصَارَى فِي بِلَاد أَكثر أَهلهَا مُسلمُونَ من حُكُومَة مَدَنِيَّة لَا يتَقَيَّد أَهلهَا بأصول هَذِه الشَّرِيعَة - كَمَا كَانُوا فِي عهد الْخُلَفَاء من الْعَرَب وَكَذَا سلاطين العثمانيين - فَإِن الْفرق الْحَقِيقِيّ بَين الحكومتين هُوَ أَن الأكثرية الْمسلمَة لَا يحل لَهَا أَن تتبع هَواهَا فِي التشريع الديني، وَلَا فِي التَّنْفِيذ بِمَا يعد ظلما للأقلية غير الْمسلمَة لِأَن الله تَعَالَى حرم الظُّلم تَحْرِيمًا مُطلقًا لَا هوادة فِيهِ وَلَا عذر، وَأوجب الْعدْل إِيجَابا مُطلقًا عَاما لَا مُحَابَاة فِيهِ، وحذر تحذيرا خَاصّا من ترك الْعدْل فِي حَالَة الْكَرَاهَة والبغض من أَي فريق كَانَ بقوله تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنّكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى، واتقو الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي وَلَا يحملنكم بغض قوم لكم أَبُو بغضكم لَهُم، قَالَ بعض الْمُفَسّرين أَي الْكفَّار، وَالصَّوَاب أَنه أَعم، على أَلا تعدلوا فيهم بل اعدلوا فيهم كغيرهم وَحذف الْمَعْمُول دَلِيل الْعُمُوم، أَي أعدلوا عدلا مُطلقًا عَاما فِي الْمُؤمن وَالْكَافِر، وَالْبر والفاجر، وَالصديق والعدو، الخ وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {يأيها الَّذين آمنواكونوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهداء لله وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين، إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما، فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} أَي كونُوا قَائِمين بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَام وَغَيرهَا على أكمل وَجه، كَمَا تدل عَلَيْهِ صِيغَة الْمُبَالغَة شُهَدَاء لله فِي إِثْبَات الْحق، وَمَا كَانَ لله لَا يُمَيّز فِيهِ الْمُؤمن نَفسه وَلَا الدِّيَة أَو أقرب النَّاس إِلَيْهِ على غَيرهم، لِأَن هَذَا التَّمْيِيز إِيثَار لنَفسِهِ أَو لقريبه على ربه الَّذِي جعل الشَّهَادَة لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يفرق فِيهِ الْغنى وَالْفَقِير بِأَن يحابي الْغنى طَمَعا فِي نواله أَو الْفَقِير رَحْمَة بِهِ، وقفي على هَذَا بِالنَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ اتِّبَاع هوى النَّفس كَرَاهَة للعدل، وبحظر اللّى ّ والتحريف للشَّهَادَة أَو الْإِعْرَاض عَنْهَا أَو عَن الحكم بِالْحَقِّ، وتهدد فَاعل ذَلِك وتوعده بِأَنَّهُ خَبِير بأَمْره لَا يخفى عَلَيْهِ شئ، دع ماورد فِي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة من الْوَصِيَّة بِأَهْل الْعَهْد والذمة خَاصَّة، وَلَوْلَا ذَلِك لفَعَلت الحكومات الإسلامية القوية بالمخالفين لَهُم مَا فعل غَيرهم من إبادة بعض وإجلاء آخَرين عَن دِيَارهمْ أَو

إكراههم على دين الْإِسْلَام أَو سنّ قوانين استثنائية لقهرهم وإذلالهم، وَفِي التَّارِيخ العثماني أَن السُّلْطَان سُلَيْمَان استفتى شيخ الْإِسْلَام أَبَا السُّعُود الْعِمَادِيّ الدِّمَشْقِي الأَصْل فِي إِكْرَاه النَّصَارَى على الْإِسْلَام أَو الْجلاء فَأبى أَن يفتيه، وَبَين لَهُ أَن الشَّرِيعَة لَا تبيح ذَلِك فأذعن، وَكَانَ يُرِيد أَن يفعل بهم كَمَا فعلت الدولة الإسبانية بمسلمي الأندلس وثمة فرق آخر بَين الشَّرْع الإسلامي والاشتراع البشري الَّذِي لَا تتقيد حكومته بِالدّينِ، هُوَ فِي مصلحَة غير الْمُسلمين أَيْضا، وَهُوَ أَن كل مُسلم يعْتَقد أَن الحكم الشَّرْعِيّ حكم إلهي وَأَن طَاعَته قربَة وزلفى عِنْد الله يُثَاب عَلَيْهَا فِي الْآخِرَة، وعصيانه عصيان لله تَعَالَى يُعَاقب عَلَيْهِ فِيهَا، سَوَاء حكم بِهِ الْحَاكِم عَلَيْهِ أم لَا، وَلَكِن حكم الْحَاكِم يرفع خلاف الْمذَاهب، فَتكون طَاعَته ضربا لازبا. وَهَذَا ضَمَان لغير الْمُسلم الْوَازِع فِيهِ نَفسِي وَلَا ضَمَان مثله للْمُسلمِ من غَيره. (فَإِن قيل) كل ذِي دين يُحَاسب نَفسه (أَو ضَمِيره) على مَا يَعْتَقِدهُ من حق عَلَيْهِ (قُلْنَا) هَذَا عَام مُشْتَرك وَمَا نَحن فِيهِ أخص مِنْهُ، وَهُوَ احترام الحكم الشَّرْعِيّ وَوُجُوب طَاعَة الْحَاكِم إِذا حكم عَلَيْهِ سَوَاء اعْتقد صِحَّته أم لم يعْتَقد - وَإِن أَمن عِقَاب الْحُكُومَة فِي التفصي مِنْهُ بالحيلة. وَجُمْلَة القَوْل أَنه لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة ظلم لغير الْمُسلم يعْذر بِهِ على كراهتها، وَهِي تَسَاوِي بَين أَضْعَف ذمِّي أَو معاهد وَبَين الْخَلِيفَة الْأَعْظَم فِي موقف الْقَضَاء وَتَقْرِير الْحُقُوق، والشواهد على هَذَا فِي عصر الْخلَافَة الراشدة وَمَا بعْدهَا مُتعَدِّدَة. وإننا نصرح بِكُل قُوَّة بِأَن الْعدْل الْعَام الْمُطلق لم يُوجد إِلَّا فِي الْإِسْلَام. وَمَا وَقع من شذوذ بعض حكام الْمُسلمين فِي ظلم بعض الذميين فَإِنَّمَا كَانَ من أقلهم علما واهتداء بِالدّينِ، وَلم يكن خَاصّا بِغَيْر الْمُسلمين وَلَا شئ ينْتَقد من أَئِمَّة الْعدْل وخلفاء الْحق إِلَّا بعض الْمُعَامَلَات الاستثنائية فِي أزمنة الْفَتْح مِمَّن غفل عَن كَونهَا أحكاما عسكرية مُؤَقَّتَة. فَأَرَادَ جعلهَا دائمة. على أَن الْإِسْلَام كَانَ أعدل وأرحم فِيهَا من جَمِيع الْبشر حَتَّى قَالَ أحد حكماء أوربة المنصفين: مَا عرف التَّارِيخ فاتحا أعدل وَلَا أرْحم من الْعَرَب. وَلَا نَعْرِف لَهُم مطعنا فِي الْمُسَاوَاة الشَّرْعِيَّة فِي الْأَحْكَام الَّتِي عملت بهَا جَمِيع الدول

الإسلامية إِلَّا مَسْأَلَة رد شَهَادَة غير الْمُسلم على الْمُسلم، وَهِي مَسْأَلَة لَا يقوم دَلِيل على إِطْلَاق القَوْل فِيهَا بل لَهَا مخرج من الْكتاب وَالسّنة وأصول الشَّرِيعَة فقد قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْمَائِدَة وَهِي من آخر مَا نزل من الْقُرْآن لَيْسَ فِيهَا حكم مَنْسُوخ {يأيها الَّذين آمنُوا شهادةَ بينكِم إِذا حضر أحدَكم الموتُ حِين الوصيةِ اثْنَان ذَوَا عدل مِنْكُم أَو أخران من غَيْركُمْ} الْآيَة. . والمتبادر الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور السّلف وَالْخلف أَن المُرَاد بغيركم غير المخاطبين بِالْآيَةِ وهم الْمُسلمُونَ، رخصه بعض الْعلمَاء بِأَهْل الْكتاب، وَلَا دَلِيل على هَذَا التَّخْصِيص وَقَيده بَعضهم بِمثل الْحَالة الَّتِي نزلت فِيهَا الْآيَة بِنَاء على أَن الأَصْل فِي الشَّهَادَة غير الْمُسلم الْعدْل أَن ترد لقَوْله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا ذوَى ْ عدل مِنْكُم} وَقد بَينا ضعف الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة على مَا ذكر فِي تَفْسِير آيَة الْمَائِدَة بتفصيل مِنْهُ أَن هَذَا فِي الْأَمر بِالْإِشْهَادِ فِي مَسْأَلَة المطلقات المعتدات من المسلمات لَا فِي الشَّهَادَة مُطلقًا، وَلَا فِي كل إِشْهَاد، وَقد قَالَ تَعَالَى فِي الْإِشْهَاد على الْأَمْوَال: {فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم} وَلم يُقيد هَذَا الْإِشْهَاد بالعدول من الْمُؤمنِينَ كَمَا قَيده فِي الْمَسْأَلَة الْخَاصَّة بِالنسَاء المسلمات، وَبينا ضعف حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي الْآيَتَيْنِ مَعَ اخْتِلَاف موضوعهما، وَالْفرق بَين الْإِشْهَاد وَالشَّهَادَة، كَمَا بَينا ضعف القَوْل بِأَن غير الْمُسلم لَا يكون عدلا بِدَلِيل الْقُرْآن إِذْ جَاءَ فِيهِ: {ومِن قوم مُوسَى أُمةٌ يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} وَقَوله: {ومِن أهل الْكتاب مَن إنْ تأمَنه بقنطار يُؤَدِّه إِلَيْك} كَمَا بَينا ضعفه بِدَلِيل سيرة الْبشر الْمَعْلُومَة بِالِاخْتِيَارِ وَالْعقل وَهُوَ أَنه لم تُوجد أمة من الْأُمَم جردت من الصدْق وَالْعَدَالَة بِحَيْثُ لَا يصدق أحد من أَهلهَا، وَبينا أَيْضا سَبَب تَفْضِيل الْفُقَهَاء للْمُسلمِ على غَيره فِي الشَّهَادَة من أَرْبَعَة أوجه أهمها مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ الْأَولونَ من التَّقْوَى والصدق وَعدم الْمُحَابَاة عملا بوصايا الدّين الَّتِي تقدم بعض الْآيَات فِيهَا آنِفا وَمَا اتّفق عَلَيْهِ المؤرخون فِي مُقَابلَة ذَلِك من غَلَبَة فَسَاد الْأَخْلَاق على الْأُمَم الْأُخْرَى الَّتِي فتح الْمُسلمُونَ بلادها. وَفِي أصُول الشَّرِيعَة مُسْتَند آخر لشهادة غير الْمُسلم وَهُوَ دُخُولهَا فِي عُمُوم الْبَيِّنَة إِذا ثَبت عندالقاضي صدقه فِيهَا فَإِن الْبَيِّنَة فِي اللُّغَة كل مَا يتَبَيَّن بِهِ الْحق وَقد فصل الْمُحَقق ابْن القيّم هَذَا الْمَعْنى فِي كِتَابه (أَعْلَام الموقعين) ونشرنا ذَلِك فِي الْمنَار وَبينا أَنه يدْخل فِي عُمُوم الْبَيِّنَة كل مَا تجدّد فِي هَذَا الْعَصْر من أَنْوَاع الجرائم كأثر خطوط

الْأَصَابِع على الْأَشْيَاء مثلا. وَمن أَرَادَ التَّفْصِيل فَعَلَيهِ بالمنار وَتَفْسِيره. فَلم يبْق بعد هَذَا الْبَيَان على إجماله من عذر لغير الْمُسلمين إِذا كَرهُوا إحْيَاء الشَّرِيعَة الإسلامية العادلة لمحض التعصب الْأَعْمَى أَو لتفضيل تشريع الْأَجَانِب على تشريع من يشاركهم فِي وطنهم. وَلَيْسَ من الْحق وَلَا من الْعدْل أَن تكلّف أمة ترك منقبة التشريع الفضلى، وَمثل هَذِه الْحُكُومَة المثلى، إرضاء لفئة قَليلَة لَا مصلحَة لَهَا فِي تَركهَا، وَإِنَّمَا تكرهها لمحض التعصب على السوَاد الْأَعْظَم من أهل وطنها، وناهيك بِمَا تأرث من الأضغان بَين مُسْلِمِي الأناضول وَالروم والأرمن الَّذين خَرجُوا على التّرْك فِي زمن محنتهم وساعدوا أعداءهم عَلَيْهِم فِي حربهم. وموضوع الْكَلَام فِي إِقَامَة الْخلَافَة فِي هَذِه الْبِلَاد التركية، فَإِذا رَضِي التّرْك بذلك وعاملوا هَؤُلَاءِ الجناة الْبُغَاة بِعدْل الشَّرِيعَة ورحمتها فَلَا يعقل أَن يكرهوا ذَلِك ويفضلوا عَلَيْهِ غَيره إِن كَانُوا يعْقلُونَ، وَإِنَّمَا أخْشَى أَن يكون هَذَا الْأَمر نَفسه مِمَّا ينفر كثيرا من التّرْك عَن إِقَامَة الشَّرِيعَة الَّتِي تحرم عَلَيْهِم أَن يتبعوا الْهوى فِي مُعَاملَة أَقوام أُولَئِكَ الجناة القساة الَّذين خربوا دِيَارهمْ بالنَّار والبارود، وهم يرونها بأعينهم أكواما من الرماد والأنقاض. وَهَذِه حكومات جَزِيرَة الْعَرَب إسلامية مَحْضَة لَيْسَ فِيهَا قوانين وضعية وَلَا تشريع أوربي، وأقدمها حُكُومَة أَئِمَّة الْيمن، وهنالك كثير من الْيَهُود وهم راضون عَن حُكُومَة الْإِمَامَة الشَّرْعِيَّة لم يشكوا مِنْهَا ظلما وَلَا هضما، وَلم يفضلوا عَلَيْهَا حُكُومَة أُخْرَى، وَلَو سرى إِلَيْهِم سم السياسة الاستعمارية من طَرِيق التَّعْلِيم أَو غَيره لأفسدوهم على حكومتهم، وأثاروهم عَلَيْهَا لطلب وَطن قومِي لَهُم فِي الْبِلَاد وَلَو عدهم نافثوا السم فِي أَرْوَاحهم بالمساعدة على ذَلِك حبا فِي الإنسانية أَي حبا فِي إِفْسَاد الإنسانية وإثارة الْبغضَاء بَين الْمُخْتَلِفين فِي الدّين وَالْجِنْس أَو اللُّغَة بَعضهم على بعض ليتمكنوا من استبعاد الْجَمِيع. {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار}

الخلافة ودول الإستعمار

الْخلَافَة ودول الإستعمار: من البديهي أَن إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية يسوء رجال دوَل الاستعمار، وَأَنَّهُمْ قد يقاومونها بِكُل مَا أُوتوا من حول وَقُوَّة، وأحرصهم على ذَلِك الدولة البريطانية، وَلَا أَجْهَل مِمَّن يظنون أَنَّهَا كَانَت تسْعَى قبل الْحَرْب لجعل الْخلَافَة فِي الْأمة الْعَرَبيَّة إِلَّا الَّذين يظنون الْيَوْم أَنَّهَا تود الْيَوْم تأسيس دولة أَو دوَل عَرَبِيَّة، وَلَو كَانَت تُرِيدُ هَذَا من قبل لَكَانَ أقرب طرقه مساعدة أَئِمَّة الْيمن المجاورين لَهَا فِي منْطقَة عدن على التّرْك بِالسِّلَاحِ وَالْمَال لتنظيم جيشهم والاستيلاء على الْحجاز، فَإِن حُكُومَة الْإِمَامَة فِي الْيمن قَوِيَّة عادلة قديمَة راسخة يرجع تاريخها إِلَى الْقرن الثَّالِث من الْهِجْرَة، وَقد حاربتها الدولة العثمانية زهاء أَرْبَعَة قُرُون لإسقاطها فعجزت عَن ذَلِك، وَلَكِن الْحُكُومَة البريطانية كَانَت لَهَا بالمرصاد وَمَا زَالَت تكيد لَهَا، وتسعى بالدسائس والفتن للتدخل فِي شئونها، والتوسل بذلك للاستيلاء عَلَيْهَا، وَلم تستطع ذَلِك، وَلنْ يَجْعَل الله لَهَا عَلَيْهَا سَبِيلا. وَقد اشْتهر لَدَى الْخَاص وَالْعَام أَن الدولة البريطانية كَانَت ظهيرة للخلافة العثمانية التركية، وَمَا ذَلِك إِلَّا لعلمها أَنَّهَا صورية، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تنْتَفع بِإِظْهَار صداقتها لَهَا، وَكَانَ رجال هَذِه الدولة الداهية أعلم النَّاس بِأَن هَذِه الدولة قد دب فِي جسمها الانحلال، وَأَنَّهَا سائرة فِي طَرِيق الفناء والزوال، وَإِنَّمَا كَانُوا يحاولون أَن تبقى حصنا بَين القيصرية الروسية المخيفة بِسُرْعَة تكونها ونموها وَبَين الْبَحْر الْأَبْيَض الْمُتَوَسّط، على شَرط أَن تكون قُوَّة هَذَا الْحصن بِمَا وَرَاءه من المساعدة البريطانية لَا بِنَفسِهِ، وَقد بَينا هَذَا فِي الْمنَار من قبل، وَأَن الْغَازِي أَحْمد مُخْتَار باشا وَافَقنَا على أَن قَاعِدَة الدولة البريطانية فِي السياسة العثمانية أَلا تَمُوت الدولة وَلَا تحيا، وَبينا أَيْضا أَن هَذِه الْقَاعِدَة قد تَغَيَّرت بِمَا كَانَ بَين الدولتين البريطانية والروسية على مسَائِل الشرق، واقتسامهما بِلَاد إيران قبل الْحَرْب، وَأَنَّهَا لم تجنح إِلَى إِقَامَة خلَافَة عَرَبِيَّة صورية تكون آلَة بِيَدِهَا إِلَّا بعد الْحَرْب الْعَامَّة، والتمكن من خداع شرِيف مَكَّة وتسخيره لمساعدتها، وَنَحْمَد الله أَن جعلنَا من أَسبَاب خيبة هَذَا السَّعْي حَتَّى لم يتم لَهَا.

وَقد عنيت الدولة البريطانية مُنْذُ أول زمن هَذِه الْحَرْب بالبحث فِي مَسْأَلَة الْخلَافَة وطفق رجالها يستطلعون عُلَمَاء الْمُسلمين وزعماءهم فِي مصر والسودان والهند وَغَيرهَا آراءهم فِيهَا ليكونوا على بَصِيرَة فيمايريدونه من إبِْطَال تَأْثِير إعلان الْخَلِيفَة العثماني الْجِهَاد الديني بِدَعْوَى بطلَان صِحَة خِلَافَته من جِهَة، وبدعوى أَن هَذِه الْحَرْب لَا شَأْن للدّين فِيهَا من جِهَة أُخْرَى، وَقد وجد من منافقي الْهِنْد من كتب لَهُم رِسَالَة باللغة الإنكليزية فِي ذَلِك وأرسلها إِلَيْنَا ناشرها لنترجمها بِالْعَرَبِيَّةِ وننشرها فِي الْمنَار فعجبنا من جَهله ونفاقه، وَلَوْلَا المراقبة الشَّدِيدَة على الصُّحُف عَامَّة والمنار خَاصَّة فِي تِلْكَ الْأَيَّام لرددنا عَلَيْهَا. وَقد اطَّلَعْنَا على مَا كتبه بعض عُلَمَاء مصر لَهُم فِي الْخلَافَة وَهُوَ نقل عبارَة شرح الْمَقَاصِد، وعبارات أُخْرَى فِي مَعْنَاهَا، وَعلمنَا أَن بعض الْعلمَاء كتب لَهُم بعض الْحَقَائِق فِي شَأْنهَا. وَقد دارت بَيْننَا وَبَين بعض رِجَالهمْ مناقشات فِي الْمَسْأَلَة الْعَرَبيَّة اقْتَضَت أَن نكتب لَهُم مذكرات فِي تخطئة سياستهم فِيهَا، بَينا فِي المذكرة الأولى مِنْهَا الَّتِي قدمناها لَهُم فِي أَوَائِل سنة 1915 أَن أَكثر مُسْلِمِي الأَرْض متمسكون بالدولة العثمانية وخليفتها لِأَنَّهَا أقوى الحكومات الإسلامية، وَأَنَّهُمْ يخَافُونَ أَن يَزُول بزوالها حكم الْإِسْلَام من الأَرْض، وَأَن هَذَا أعظم شَأْنًا عِنْدهم من بَقَاء الْمعَاهد المقدسة سليمَة مصونة، بل بَينا لَهُم أَيْضا أَن إعلانها الْجِهَاد شَرْعِي، وَأَن سَبَب ضعف تَأْثِيره فِي مثل مصر هُوَ الِاعْتِقَاد بِأَنَّهَا منتصرة مَعَ حلفائها فَلَا تحْتَاج إِلَى مساعدة. . وعدت إِلَى بحث الْخلَافَة فِي آخر مذكرة مِنْهَا، وَهِي الَّتِي أرسلتها إِلَى الْوَزير لويد جورج فِي منتصف سنة 1919 فَقلت فِي بَيَان مَا يرضى الْمُسلمين من انكلترة " إِن الْوَزير قد علم أَن الِاعْتِرَاف باستقلال الْحجاز وَتَسْمِيَة أَمِير مَكَّة ملكا لم يكن لَهُ ذَلِك التَّأْثِير الَّذِي كَانَ الإنكليز يتوقعونه من قُلُوب الْمُسلمين، ذَلِك بِأَن بِلَاد الْحجاز أفقر الْبِلَاد الإسلامية وأضعفها فِي كل شَيْء، وَهِي موطن عبَادَة، لَا ملك وسيادة وَلم يكن الْمُسلمُونَ مضطربين من الْخَوْف على الْمَسَاجِد المقدسة أَن تهدم، أَو يمْنَع النَّاس من الصَّلَاة فِيهَا وَالْحج إِلَيْهَا وزيارتها، بل الِاضْطِرَاب الْأَعْظَم على السلطة الإسلامية الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَن لَا بَقَاء لِلْإِسْلَامِ بِدُونِهَا، والحرص على بَقَائِهَا ممزوج بِدَم كل مُسلم وعصبه، فَهُوَ لَا يرى دينه بَاقِيا إِلَّا بِوُجُود دولة إسلامية مُسْتَقلَّة قَوِيَّة قادرة بذاتها على تَنْفِيذ أَحْكَام شَرعه بِغَيْر معَارض وَلَا سيطرة أَجْنَبِيَّة، وَهَذَا هُوَ السَّبَب فِي

تعلق أَكثر مُسْلِمِي الأَرْض بمحبة دولة التّرْك، واعتبارهم إِيَّاهَا هِيَ الدولة الممثلة لخلافة النُّبُوَّة مَعَ فقد سلطانهم لما عدا الْقُوَّة والاستقلال من شُرُوطهَا الْخَاصَّة، وَلَوْلَا ذَلِك لاعترفوا بخلافة إِمَام الْيمن لشرف نسبه وَعلمه بِالشَّرْعِ واستجماعه لغير ذَلِك من شُرُوط الْخلَافَة ذَلِك بِأَن الشُّرُوط تعد ثانوية بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصل الْمَطْلُوب. مِثَال ذَلِك أَن الْحُكُومَة المصرية تشْتَرط فِي مستخدميها أَن يَكُونُوا مصريي الْجِنْس عارفين باللغة الْعَرَبيَّة حاملين لشهادات مَخْصُوصَة وَلكنهَا عِنْدَمَا تحْتَاج إِلَى مستخدم فني لعمل لَا يُوجد مصري يعرفهُ تتْرك اشْتِرَاط ذَلِك فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يقدم الْمُسْتَوْفى للشروط على غَيره إِذا كَانَ قَادِرًا على أصل الْعَمَل الْمَطْلُوب. وَكَانَ الْغَرَض لنا من هَذَا أَلا يغتروا بِمَا يعلمُونَ من عدم استجماع الْخَلِيفَة التركي لشروط الْخلَافَة، وَلَا بِمَا كَانُوا يرْمونَ إِلَيْهِ من جعل شرِيف مَكَّة خَليفَة بعد اعترافه لَهُم بِأَن مَكَان الْأمة الْعَرَبيَّة من انكلترة مَكَان الْقَاصِر - بالطفولية أَو العته - من الْوَصِيّ وَرضَاهُ بحمايتهم لَهُ وَلها، وَقد صرحنا للوزير فِي هَذِه المذكرة بِأَن الَّذِي يُرْضِي الْعَالم الإسلامي من دولته ترك الشعوب الإسلامية الْعَرَبيَّة والتركية والفارسية أحرارا مستقلين فِي بِلَادهمْ وَبَقَاء مَسْأَلَة الْخلَافَة على مَا هِيَ عَلَيْهِ إِلَى أَن يُمكن تأليف مؤتمر إسلامي عَام لحل مشكلتها، وَقد بَينا فِيهَا أَيْضا أَن هَذِه الدولة مستهدفة لعداوة الشرق كُله بالتبع لعداوة الْعَالم الإسلامي، فَلَا يغرنها ضعف الْمُسلمين وتفرقهم فتحتقر عداوتهم مَعَ كَونهم مئات الملايين فَإِنَّهُم لن يَكُونُوا أَضْعَف من " ميكروبات الأوبئة " وسننشر هَذِه المذكرة فِي الْوَقْت الْمُنَاسب. . لم يبال هَذَا الْوَزير بنصح هَذِه المذكرة فاستمر على سياسة الْقَضَاء على دولة التّرْك واستعباد الْعَرَب حَتَّى خذله الله وخذله قومه وأسقطوا وزارته، وَلَكِن بَقِي أَشد أنصاره فِي الوزارة الَّتِي خلفتها وَهُوَ لورد كرزون الَّذِي هُوَ أَشد تعصبا وعداوة للْمُسلمين مِنْهُ فَلذَلِك لم يتَغَيَّر من سياسة الدولة شَيْء فِي الْمَسْأَلَة الإسلامية إِلَّا مَا اضطرت إِلَيْهِ من مجاملة الدولة التركية الجديدة بعد تنكيلها بالجيش اليوناني الَّذِي أغرته وزارة لويد جورج بِالْقضَاءِ على مَا بَقِي للترك من الْقُوَّة فِي الأناضول، فأثبتت بذلك أَنَّهَا لَا تلين إِلَّا للقوة، وَأما الْحق وَالْعدْل وَالْوَفَاء بالعهود والوعود فلهَا فِي قَامُوس سياستها معَان أُخْرَى غير مَا يعرفهُ سَائِر الْبشر فِي لغاتهم. .

الخلافة وتهمة الجامعة الإسلامية

الْخلَافَة وتهمة الجامعة الإسلامية: إِن السَّبَب الأول لكَون الدولة البريطانية هِيَ الْخصم الْأَكْبَر الأشد الْأَقْوَى من خصوم الْخلَافَة الإسلامية هُوَ أَنَّهَا تخشى أَن تتجدد بهَا حَيَاة الْإِسْلَام وتتحقق فكرة الجامعة الإسلامية فيحول ذَلِك دون استعبادها للشرق كُله. . وَقد نشرنا فِي مجلدات الْمنَار أقوالا كَثِيرَة للساسة الأوربيين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من أهمها مَا نشرناه فِي المجلد الْعَاشِر سنة 1325 من رأى كرومر فِي تَقْرِيره السنوي عَن مصر والسودان سنة 1906 وأهمه قَوْله: " الْمَقْصُود من الجامعة الإسلامية بِوَجْه الْإِجْمَال اجْتِمَاع الْمُسلمين فِي الْعَالم كُله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فَإِذا نظر إِلَيْهَا من هَذَا الْوَجْه وَجب على كل الْأُمَم الأوروبية الَّتِي لَهَا مصَالح سياسية فِي الشرق أَن تراقب هَذِه الْحَرَكَة مراقبة دقيقة لِأَنَّهَا يُمكن أَن تُؤدِّي إِلَى حوادث مُتَفَرِّقَة فتضرم فِيهَا نيران التعصب الديني فِي جِهَات مُخْتَلفَة من الْعَالم. . ". ثمَّ ذكر أَن للجامعة الإسلامية مَعَاني أُخْرَى أهم من الْمَعْنى الْأَصْلِيّ وَهِي: (أَولهَا) فِي مصر الخضوع للسطان وترويج مقاصده. . (وَثَانِيها) استلزامها لتهييج الأحقاد الجنسية والدينية إِلَّا فِيمَا ندر. . (وَثَالِثهَا) السَّعْي فِي إصْلَاح أَمر الْإِسْلَام على النهج الإسلامي ( {} ) وَبِعِبَارَة أُخْرَى السَّعْي فِي الْقرن الْعشْرين لإعادة مبادئ وضعت مُنْذُ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية فِي حَالَة الْفطْرَة والسذاجة " وَذكر أَن عيب هَذِه المبادئ وَالسّنَن والشرائع هُوَ المناقضة لآراء أهل هَذَا الْعَصْر فِي علاقَة الرِّجَال بِالنسَاء وَأمر آخر قَالَ إِنَّه " أهم من ذَلِك كُله وَهُوَ إفراغ القوانين المدنية والجنائية والمالية فِي قالب وَاحِد لَا يقبل تغييرا وَلَا تحويرا (قَالَ) وَهَذَا مَا وقف تقدم الْبلدَانِ الَّتِي دَان أَهلهَا بدين الْإِسْلَام ... " ثمَّ قفى على تحذير الأوربين من الجامعة الإسلامية بتحذيرهم من الجامعة الوطنية لِئَلَّا تتجلبب لَهَا الأولى " الَّتِي هِيَ أعظم الحركات المتقهقرة ". رددنا على لورد كرومر فِي كل هَذِه الْمسَائِل ردا، ورد غَيرنَا عَلَيْهِ أَيْضا وَفِي هَذِه المباحث مَا فِيهَا من تفنيد كَلَامه، وغرضنا هُنَا أَن نبين شدَّة اهتمام الإنكليز بمقاومة

الجامعة الإسلامية بِكُل معنى من مَعَانِيهَا، وتحريضهم جَمِيع الأوربيين وَجَمِيع النَّصَارَى عَلَيْهَا وعَلى من يتَصَدَّى لَهَا، وتخويف الْمُسلمين مِنْهَا. . وَلَقَد كن من إرهاب أوربة للشعوب الإسلامية وحكوماتها أَن جَعلتهَا تخَاف وتحذر كل مَا يكرههُ الأوربيون مِنْهَا وَتظهر الرَّغْبَة فِي كل مَا يدعونها إِلَيْهِ، وجروا على ذَلِك حَتَّى صَار الكثيرون مِنْهُم يَعْتَقِدُونَ أَن مَا يستحسنه لَهُم هَؤُلَاءِ الطامعون فيهم هُوَ الْحسن، وَمَا يستقبحونه مِنْهُم هُوَ الْقَبِيح، إِذْ تربوا على ذَلِك، وَلم يَجدوا أحدا يبين لَهُم الْحَقَائِق، وَكَانَ هَذَا عونا لَهُم على سلب اسْتِقْلَال هَؤُلَاءِ المخدوعين والمرهبين فِي بعض الْبِلَاد، وَغَلَبَة نفوذهم على نُفُوذ الْحُكُومَة فِي بِلَاد أُخْرَى كمصر والدولة العثمانية، واستحوذ الْجُبْن والخور على رجال الحكومات فِي هَذِه الْبِلَاد حَتَّى إِن أَرْكَان الدولة العثمانية لم يتجرءوا على الْإِذْن لنا بإنشاء مدرسة إسلامية فِي عاصمتها باسم (دَار الدعْوَة والإرشاد) كَمَا تقدم، وَلم يَكُونُوا كلهم يجهلون مَا ذكرت، بل قَالَ لي شيخ الْإِسْلَام حسني أَفَنْدِي رَحمَه الله تَعَالَى: إِن عندنَا قَاعِدَة مطردَة فِي الإفرنج هِيَ أَن كل مَا يرغبوننا فِيهِ فَهُوَ ضار بِنَا، وكل مَا ينفروننا مِنْهُ فَهُوَ نَافِع لنا. . وَإِنَّمَا هُوَ جبن بعض الرؤساء وَفَسَاد عقائد بعض. . وَمَا الْجُبْن إِلَّا غشاوة من الْوَهم على عين البصيرة انقشعت عَن ترك الأناضول، فَرَأَوْا أَنهم بعد انكسارهم فِي الْحَرْب الْعَامَّة، وفقدهم لتِلْك الممالك الواسعة، أعز وَأقوى مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مُنْذُ مِائَتي سنة، إِذْ كَانَت الْبِلَاد فِيهَا تنتقص من أطرافها، ونفوذ الْأَجَانِب فِي عَاصِمَة الدولة فَوق نُفُوذ خليفتها وسلطانها. . لهَذَا السَّبَب ينوط الرَّجَاء بحكومة الأناضول أُلُوف الألوف من الْمُسلمين أَن تحيي منصب الْخلَافَة، وتجدد بِهِ مجد الْإِسْلَام وشريعته الغراء الَّتِي يرجي أَن يَتَجَدَّد بإحيائها مجد الإنسانية، وَيدخل الْبشر فِي عصر جَدِيد ينجون بِهِ من مفاسد المدنية المادية، الَّتِي تهدد الْعمرَان الأوروبي نَفسه بالزوال، بله عمرَان الشرق. . أَنا لَا أتصور أَن يكون الرعب من مُعَارضَة دوَل أوربة الاستعمارية هُوَ الَّذِي يمْنَع التّرْك من إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية. . فَإِن هَذَا شكل حكومتنا، وَمُقْتَضى ديننَا وطالما صرحت هَذِه الدول بعد الْحَرْب بِأَنَّهَا لَا تفتات على الْمُسلمين فِي أَمر الْخلَافَة، وَأما الجامعة الإسلامية الَّتِي يخافونها فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى. . وَلكُل دولة لَهَا رعايا من الْمُسلمين أَن تسوسهم بالطريقة الَّتِي ترَاهَا أحفظ لمصلحتها، نعم لن يكون الإفرنج

هم الَّذين يمْنَعُونَ إِقَامَة الْخلَافَة، وَلَكِن الَّذِي يخْشَى أَن يمْنَعهَا إِنَّمَا هم المتفرنجون دون غَيرهم وَقد شرحنا ذَلِك من قبل. من الْمَعْقُول فِي السياسة أَن يطعن المستعمرون للبلاد الإسلامية فِي جَامِعَة دينية يظنون أَنَّهَا قد تُفْضِي إِلَى انْتِقَاض أهل هَذِه الْبِلَاد عَلَيْهِم، وَيَخَافُونَ أَن تكون الْخلَافَة الْحق سَببا لتحَقّق هَذِه الجامعة، وَأَن يطعنوا فِي الشَّرِيعَة الإسلامية وينفروا الْمُسلمين مِنْهَا لأجل ذَلِك، كَمَا يطعن فِيهَا دعاة النَّصْرَانِيَّة لهَذِهِ الْعلَّة وللطمع فِي تنصير الْمُسلمين، وَهَذَا الْخَوْف من إِقَامَة الْخلَافَة يكون على أشده إِذا كَانَ الْبَاعِث على إِقَامَتهَا السياسة الْمَحْضَة الَّتِي يسْتَحل اصحابها كل عمل لأجل مصلحتهم، وَقد يكون دون ذَلِك إِذا كَانَ الْبَاعِث دينيا مَحْضا وَهُوَ إِقَامَة حكم الْإِسْلَام كَمَا شَرعه الله تَعَالَى، وَلَيْسَ من شُرُوطهَا أَن يتبعهَا جَمِيع الْمُسلمين، وَنحن نعلم أَن هَذَا مُتَعَذر غير مستطاع فِي هَذَا الزَّمَان، وتكليف غير المستطاع مَمْنُوع فِي الْإِسْلَام {لَا يُكلِّف الله نفسا إِلَّا وُسْعَها} بل نَحن نرى الرَّأْي الْغَالِب فِي بعض الْبِلَاد يَأْبَى إحْيَاء الْخلَافَة حَتَّى إننا نجتهد فِي إقناع الْحُكُومَة التركية الْحَاضِرَة بِهِ ونشك فِي قبُولهَا، فَإِن زعيمها وَصَاحب النّفُوذ الْأَعْلَى فِي أقوى أحزابها يُصَرح فِي خطبه بِأَن السلطة فِي هَذِه الْحُكُومَة للْأمة الَّتِي يمثلها الْمجْلس الوطني الْكَبِير بِلَا شَرط وَلَا قيد، وَأَنه لَا يُمكن أَن يكون لشخص معِين نُفُوذ فِيهَا مهما يكن لقبه " أَي خَليفَة سمى أَو سُلْطَانا ". وَلما أذاع الاتحاديون عزمهم على إنْشَاء مدرسة جَامِعَة إسلامية فِي الْمَدِينَة المنورة وابتداع سجل لطلاب الشَّفَاعَة النَّبَوِيَّة فِيهَا، وَقَالَت الجرائد وَغير الجرائد أَن مُرَادهم بذلك إحْيَاء الجامعة الإسلامية، كتبت مقَالَة فِي هَذَا الْمَوْضُوع نشرتها فِي المجلد السَّابِع عشر من الْمنَار (سنة 1332) قلت فِيهَا مانصه: " وَأما رأيى الَّذِي أنصح بِهِ الدولة، فَهُوَ أَن تصدى رجالها السياسيين لتحريك أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرا وَلَا ينفعها إِلَّا قَلِيلا، ويوشك أَن تكون هَذِه الْأَقْوَال الَّتِي قيلت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة - على قلَّة تأثيرها - من أَسبَاب مَا نرَاهُ من شدَّة تحامل أوروبة عَلَيْهَا، وأكتفي فِي هَذَا الْمقَام بِالْمثلِ الَّذِي يكرره الإِمَام الْغَزالِيّ " كن يَهُودِيّا صرفا وَإِلَّا فَلَا تلعب بِالتَّوْرَاةِ ". " ومرادي من هَذَا أَنه يجب عَلَيْهَا أحد أَمريْن:

(الأول) أَن تؤسس حُكُومَة إسلامية، خَالِيَة من التقاليد والقوانين الإفرنجية، إِلَّا مَا كَانَ من النظام الَّذِي يتَّفق مَعَ الشَّرْع وَلَا يخْتَلف باخْتلَاف الأقوام، وَتُعْطِي مقَام الْخلَافَة حَقه من إحْيَاء دَعْوَة الْإِسْلَام، وَإِقَامَة الْحُدُود وحرية أهل الْأَدْيَان، وَلَا يعجزها حِينَئِذٍ أَن ترْضى غير الْمُسلمين من رعاياها الَّذين لَيْسَ لَهُم أهواء سياسية، وَلَا ضلع مَعَ الدول الْأَجْنَبِيَّة، بل يكون إرضاؤهم أسهل عَلَيْهَا مِنْهُ الْآن إِن شاءته، وَلَو كَانَ لي رَجَاء فِي إصغائها إِلَى هَذَا الرَّأْي، أَو جعله مَحل النّظر والبحث، لبينت ذَلِك بالتفصيل، ولأوردت مَا أعلمهُ من المشكلات والعقبات الَّتِي تعترض فِي طَرِيق تنفيذه من داخلية وخارجية مَعَ بَيَان الْمخْرج مِنْهَا، ثمَّ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من تَجْدِيد حَيَاة الدولة وَكَونه هُوَ المنجي لَهَا من الْخطر، وَإِن ترَاءى لكثير من النَّاس أَنه هُوَ المسرع بالخطر، ظنا مِنْهُم أَن أوروبة تعجل بالإجهاز على الدولة إِذا علمت أَنَّهَا شرعت بنهضة إسلامية لعلمها بِأَن هَذِه هِيَ حَيَاتهَا الْحَقِيقِيَّة، وَكَون حَيَاتهَا بِهَذَا هُوَ مَا يُصَرح بِهِ بعض أَحْرَار الأوروبيين وَإِن خُوّفِ مِنْهُ بالتمويه والإبهام أَكثر السياسيين. . (الثَّانِي) أَن تدع كل ماعدا الْأُمُور الرسمية الْمَعْهُودَة لَدَيْهَا من أُمُور الدّين إِلَى الجمعيات الدِّينِيَّة الْحرَّة، والأفراد الَّذين يدفعهم استعدادهم إِلَى هَذِه الْخدمَة، وَلها أَن تساعد مَا يسْتَحق المساعدة من هَذِه الْأَعْمَال بالحماية، وَكَذَا بالإعانة الْمَالِيَّة من أوقاف المسملين الْخَيْرِيَّة (إِذا كَانَت تُرِيدُ بَقَاء الْأَوْقَاف الْعَامَّة فِي يَدهَا وَلَا تجب طلاب الْإِصْلَاح إِلَى جعل أوقاف كل ولَايَة فِي أَيدي أَهلهَا) مَعَ بَقَائِهَا بمعزل عَن السياسة وَأَهْلهَا. . وَلَوْلَا أَن هَذَا هُوَ رَأْيِي لما اشْترطت على رجال الدولة وجميعة الِاتِّحَاد إِذْ عرضت عَلَيْهِم مَشْرُوع الدعْوَة والإرشاد أَن يكون فِي يَد جمَاعَة حرَّة، لَا علاقَة لَهَا بالسياسة، وَألا تخصص لَهَا إِعَانَة من خزينة الدولة، بل تكون نفقاتها مِمَّا تجمعه هِيَ من الإعانات بأنواعها وَمِمَّا تعطاه من أوقاف الْمُسلمين الْخَيْرِيَّة. . فستذكرون مَا أَقُول لكم وأفوض أَمْرِي إِلَى الله، إِن الله بَصِير بالعباد) . . هَذَا مَا كتبناه فِي ذَلِك الْوَقْت، وَقد شرحنا آراء الإفرنج فِي الجامعة الإسلامية وَمَا فِيهَا من الأوهام وَمَا يَنْبَغِي للْمُسلمين مرَارًا فِي مجلدات الْمنَار. .

شهادة لوردين للشريعة الإسلامية

شَهَادَة لوردين للشريعة الإسلامية: مَا كل من يتَكَلَّم فِي الْإِسْلَام وشريعته من الإفرنج يتَكَلَّم عَن علم صَحِيح، وَمَا كل من لَدَيْهِ علم يَقُول مَا يعْتَقد، فَإِن مِنْهُم من تنطقه السياسة بِمَا تريه من مصلحَة دولته، وَمِنْهُم المتعصب الَّذِي لَا يبْحَث عَن شئ من أَمر الْإِسْلَام إِلَّا مَا يُمكن الطعْن فِيهِ لتشكيك الْمُسلمين فِي دينهم أَو لتحريض أعدائهم عَلَيْهِم. . وَقد وجد فيهم من قَالَ الْحق فِي الْإِسْلَام وشريعته فِي أَحْوَال اقْتَضَت ذَلِك. . كلمة لورد كرومر فِي الشَّرِيعَة: من هَؤُلَاءِ لورد كرومر الَّذِي طعن الشَّرِيعَة تِلْكَ الطعنة النجلاء الَّتِي أَقَامَت مصر وأقعدتها، وَقد اضْطر إِلَى إنصافها وَتَقْيِيد مَا أطلقهُ من الطعْن فِيهَا. بِمَا لَا يُنكره أحد من عقلاء الْمُسلمين كَمَا انصفها بِكَلِمَة قَالَهَا مرّة للأستاذ الإِمَام ونشرنا هَذَا وَذَاكَ فِي مُجَلد الْمنَار الْعَاشِر إِذْ كَانَ هُوَ بِمصْر، فقد قلت فِي سِيَاق الرَّد على طعنته: إِن الْأُسْتَاذ الإِمَام رَحمَه الله تَعَالَى حَدثنِي أَنه كَانَ يكلمهُ مرّة فِي مَسْأَلَة إصْلَاح المحاكم الشَّرْعِيَّة فِي إبان اهتمام الشّعب والحكومة بهَا وَاعْتِرَاض بعض الْعلمَاء على إصلاحها، فَأَقَامَ لَهُ الدَّلَائِل على أَن الْإِسْلَام يَدْعُو إِلَى كل إصْلَاح، ويناسب كل زمَان، فَقَالَ لَهُ اللورد مَا تَرْجَمته: " أَتصدق يَا أستاذ أنني اعْتقد أَن دينا أوجد مَدَنِيَّة جَدِيدَة وَقَامَت بِهِ دوَل عَظِيمَة لَا يكون أساسه الْعدْل؟ هَذَا محَال، ولكنني أعلم أَن هَذِه المقاومات (أَي لإِصْلَاح المحاكم) أُمُور (اكليركية) " أَي تقاليد لرجل الدّين الإسلامي كتقاليد الْكَنِيسَة عِنْد النَّصَارَى. هَذِه الْكَلِمَة حَملتنِي على إرْسَال كتاب إِلَى اللورد هَذَا نَصه: الْقَاهِرَة فِي 20 ربيع الأول سنة 1325 كتاب من صَاحب الْمنَار للورد كرومر جناب اللورد الْعَظِيم

كتاب لورد كرومر إلى أصحاب المنار

أحيّيك بِمَا يَلِيق بمكانتك، وَإِن لم يسْبق لي شرف الْمعرفَة لحضرتك، وَأَرْجُو أَن تمن عَليّ ببضع دقائق من وقتك الثمين تُجِيبنِي فِيهَا عَن السُّؤَال الْآتِي الَّذِي يهمني من حَيْثُ أَنا صَاحب مجلة إسلامية تدافع عَن الدّين وتبحث فِي فلسفته وَهُوَ: هَل عنيت بِمَا قلت فِي تقريرك الْأَخير عَن الحكم بالشريعة الإسلامية " الَّتِي وضعت مُنْذُ أَكثر من ألف سنة " الدّين الإسلامي نَفسه الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الْقُرْآن الْحَكِيم وَالسّنة النَّبَوِيَّة؟ أم عنيت بذلك الْفِقْه الإسلامي الَّذِي وَضعه الْفُقَهَاء؟ فَإِن كنت تَعْنِي الثَّانِي فَهُوَ من وضع الْبشر، وَقد مزجت فِيهِ آراؤهم بِمَا يَأْخُذُونَ عَن الأول وَخطأ فِيهِ بَعضهم بَعْضًا، وَقد ترك حكام الْمُسلمين أنفسهم الْعَمَل بِكَثِير مِنْهُ. . ولطلاب الْإِصْلَاح من الْمُسلمين انتقاد على كثير من تِلْكَ الآراء فِي كل مَذْهَب. . وَإِن كنت تَعْنِي الأول فهاذ الْعَاجِز مستعد لِأَن يبين لجنابكم أَن مُعظم مَا جَاءَ فِي الدّين نَفسه من الْأَحْكَام القضائية والسياسية هُوَ من الْقَوَاعِد الْعَامَّة، وَهِي توَافق مصلحَة الْبشر فِي كل زمَان وَمَكَان لِأَن أساسها دَرْء الْمَفَاسِد وجلب الْمصَالح بِحكم الشورى، وَمَا فِيهِ من الْأَحْكَام الْجُزْئِيَّة (وَهُوَ مُقَابل الْمُعظم) رَاجع إِلَى ذَلِك. . وَاخْتِمْ رقيمي مودعا لجنابكم بالتحية والاحترام. منشئ الْمنَار بِمصْر مُحَمَّد رشيد رضَا وَقد أجابنا بِالْكتاب الْآتِي بنصه الْعَرَبِيّ موقعا ومؤرخا بِخَطِّهِ الإفرنجي وَهُوَ كتاب لورد كرومر إِلَى أَصْحَاب الْمنَار: حَضْرَة صَاحب الْفَضِيلَة الْعَلامَة الشَّيْخ رشيد رضَا صَاحب جَرِيدَة الْمنَار جَوَابا على خطابكم أَقُول إِنِّي عنيت بِمَا كتبت مَجْمُوع القوانين الإسلامية الَّتِي تسمونها الْفِقْه لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَام وَلم أعن الدّين الإسلامي نَفسه وَلذَلِك قلت فِي هَذَا التَّقْرِير الْأَخير وَفِي غَيره بِوُجُوب مساعدة الحزب الإسلامي الَّذِي يطْلب الْإِصْلَاح ويسير مَعَ المدنية من غير أَن يمس أصُول الدّين. . وَلَعَلَّ الْعبارَة الَّتِي كتبتها بتقريري كَانَت موجزة فَلم تُؤَد المُرَاد تَمامًا. . واقبلوا يَا حَضْرَة الْأُسْتَاذ احترامي الْفَائِق كرومر

في مايو سنة كلمة لورد كتشنر للسيد الزهراوي

فِي 4 مايو سنة 1907 كلمة لورد كتشنر للسَّيِّد الزهراوي: زار السَّيِّد عبد الحميد الزهراوي عقب تَعْيِينه عضوا فِي مجْلِس الْأَعْيَان العثماني مصر وَنزل ضيفا عِنْد صديقه صَاحب الْمنَار، وزار لورد كتشنر العميد البريطاني فِي ذَلِك الْوَقْت بإيعاز وَكنت مَعَه فَكَانَ مِمَّا قَالَه لَهُ اللورد باللغة الْعَرَبيَّة: " 1 " أَن الدولة العثمانية لَا تصلح بالقوانين الَّتِي تقتبسها منا - معشر الأوربيين - وَنحن مَا صلحت لنا هَذِه القوانين إِلَّا بعدتربية تدريجية فِي عدَّة قُرُون كُنَّا نغير فِيهَا ونبدل بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحْوَال، وَإِن عنْدكُمْ شَرِيعَة عادلة مُوَافقَة لعقائدكم ولأحوالكم الاجتماعية، فَالْوَاجِب على الدولة أَن تعْمل بهَا وتترك قوانين أوروبة فتقيم الْعدْل وَتحفظ الْأَمْن وتستغل بلادها الخصبة، وَعِنْدِي أَنَّهَا لَا تصلح بِغَيْر هَذَا. . هَذَا الْكَلَام حق وَإِن جَازَ على قَائِله الْجَهْل وَالْخَطَأ فِيمَا يظنّ أَنه لَا يصلح لنا من قوانين أوربة، وَنحن نعلم أَن كل مَا لديهم من حق وَعدل فِي ذَلِك فشريعتنا قد سبقت إِلَى تَقْرِيره كَمَا علم مِمَّا تقدم ولتفصيل ذَلِك مقَام آخر. . الْخلَافَة والبابوية، أَو الرياسة الروحية: الْإِسْلَام دين الْحُرِّيَّة والاستقلال الَّذِي كرم الْبشر وَرفع شَأْنهمْ بإعتاقهم من رق الْعُبُودِيَّة لغير الله تَعَالَى من رُؤَسَاء الدّين وَالدُّنْيَا. . فَأول أُصُوله تَجْرِيد الْعِبَادَة والتنزيه وَالتَّقْدِيس وَالطَّاعَة الذاتية لله رب الْعَالمين، وَأَن الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لَيْسُوا إِلَّا مرشدين ومعلمين، {وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين} ، فَلَا سيطرة لَهُم على سرائر النَّاس، وَلَا حق الْإِكْرَاه والإجبار، وَلَا المحاسبة على الْقُلُوب والأفكار، وَلَا مغْفرَة الذُّنُوب والأوزار، وَلَا الحرمان من الْجنَّة وَإِدْخَال النَّار، بل ذَلِك كُله لله الْوَاحِد القهار، الْعَفو الْغفار، قَالَ تَعَالَى لخاتم رسله: {فَذَكِّر إِنَّمَا أَنْت مُذَكِرّ. لست عَلَيْهِم بمُسيْطِر} . (نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْت

عَلَيْهِم بجبار} . {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل} . {مَا عَلَيْك من حسابهم من شئ وَمَا من حِسَابك عَلَيْهِم من شئ} . {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضَرَّا وَلَا رَشَدا} . . {إِنَّك لَا تَهديِ من أحْبَبتْ ولكنّ الله يهديَ من يَشَاء} . . وَإِنَّمَا تجب طَاعَة الرَّسُول فِيمَا يبلغهُ ويبينه من أَمر الدّين عَن الله تَعَالَى وَمَا ينفذهُ من شَرعه، دون مَا يستحسنه فِي أُمُور الدُّنْيَا بظنه ورأيه، فالطاعة الذاتية إِنَّمَا هِيَ لله، وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: {مَن يُطِع الرسولَ فَقد أطَاع الله} فطاعة الرَّسُول ثمَّ طَاعَة أولي الْأَمر من الْأمة تبع لطاعة الله الَّتِي أوجبهَا للْمصْلحَة تنفيذا للشريعة، على أَن الرَّسُول مَعْصُوم فِي تَبْلِيغ الدّين وإقامته، وَقد جعله الله أُسْوَة حَسَنَة لأمته، وَكَانَ الصَّحَابَة على هَذَا يراجعون النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِيمَا يَقُوله بِرَأْيهِ فِي الْمصَالح الْعَامَّة كالحرب وَالسّلم ويبدون آراءهم، وَكَانَ يرجع عَن رَأْيه إِلَى رَأْي الْوَاحِد مِنْهُم إِذا تبين لَهُ أَنه الصَّوَاب، كَمَا رَجَعَ إِلَى رَأْي الْحباب بن الْمُنْذر يَوْم بدر، وَإِلَى رَأْي الْجُمْهُور بعد الشورى، وَإِن لم يظْهر لَهُ أَنه أصوب كَمَا فعل يَوْم أحد. وَقد قَالَ " إِنَّمَا أَنا بشر إِذا أَمرتكُم بشئ من أَمر دينكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذا أَمرتكُم بشئ من رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنا بشر " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث رَافع بن خديج، وَقَالَ " أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم " رَوَاهُ من حَدِيث عَائِشَة. . وَكَانَ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يعلم أَن فِيمَن اتبعهُ منافقين، وَكَانَ يعرف بَعضهم دون بعض وَلكنه يعاملهم مُعَاملَة الْمُؤمنِينَ، لِأَن من أصُول شَرِيعَته أَن يُعَامل النَّاس بِحَسب أَعْمَالهم الظَّاهِرَة ويوكل أَمر الْقُلُوب والسرائر إِلَى الله تَعَالَى. . قَالَ رجل لَهُ وَقد رَآهُ يُعْطي رجَالًا من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم: يَا رَسُول الله اتَّقِ الله. قَالَ: " وَيلك أَو لست أَحَق أهل الأَرْض أَن يَتَّقِي الله؟ " ثمَّ ولى الرجل فَقَالَ خَالِد بن الْوَلِيد: يَا رَسُول الله أَلا أضْرب عُنُقه؟ وَفِي رِوَايَة فَقَالَ عمر يَا رَسُول الله إئذن لي أضْرب عُنُقه، قَالَ: " لَا تفعل لَعَلَّه أَن يكون يُصَلِّي " فَقَالَ خَالِد: وَكم من مصل يَقُول بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قلبه: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " إِنِّي لم أومر أَن أنقب فِي قُلُوب النَّاس وَلَا أشق بطونهم " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ. . وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْن الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فَهَل يكون للخلفاء والأمراءمهما عظم شَأْنهمْ أَن يحاسبوا النَّاس على قُلُوبهم، أَو يسيطروا عَلَيْهِم فِي فهمهم للدّين أَو عَمَلهم بِهِ، وَرُبمَا كَانَ فيهم من هم أعلم بِهِ مِنْهُم؟ كلا إِن الْخَلِيفَة فِي الْإِسْلَام لَيْسَ إِلَّا

رَئِيس الْحُكُومَة الْمقيدَة، لَا سيطرة وَلَا رقابة لَهُ على أَرْوَاح النَّاس وَقُلُوبهمْ، وَإِنَّمَا هُوَ منفذ للشَّرْع وطاعته محصورة فِي ذَلِك فَهِيَ طَاعَة للشَّرْع لَا لَهُ نَفسه، كَمَا تقدم آنِفا وَبسط فِي الْمَسْأَلَة (1 و 6 و 8) وَلَكِن الْأَعَاجِم أفسدوا فِي أَمر الْإِمَامَة والخلافة بِمَا دست الباطنية فِي الشِّيعَة من تعاليم الإِمَام الْمَعْصُوم، وَبِمَا أفرط الْفرس وَالتّرْك وَمن تَبِعَهُمْ فِي الغلو بإطراء الْخُلَفَاء مِمَّا يذكر مِثَاله فِي الْخُلَاصَة التاريخية الْآتِيَة، حَتَّى فتحُوا لَهُم بَاب الاستعباد، وقهروا الْأمة على الخنوع والانقياد، ثمَّ انْتهى كل غلو إِلَى ضِدّه، فَكَانَ غلو الْأَعَاجِم فِي الْخُلَفَاء العباسيين سَببا للْقَضَاء على خلافتهم، ثمَّ كَانَ تقديس الْخُلَفَاء العثمانيين سَببا لإِسْقَاط دولتهم، وَقد أبقى التّرْك لوَاحِد مِنْهُم لقب خَليفَة مُجَردا من مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ والسياسي كَمَا تقدم، وَلم يمْنَع ذَلِك النَّاس وَلَا سِيمَا أَصْحَاب الجرائد عَن وَصفه بالقداسة، وبصاحب الْعَرْش، وَغير ذَلِك من الإطراء بالْقَوْل وَالْفِعْل. . وَكثر خوض الْمُسلمين كغيرهم بِذكر الْخلَافَة الروحية، وفصلها من السلطة الزمنية السياسية، وَإِنَّا وَإِن كُنَّا قد بَينا الْحق فِي الْمَسْأَلَة فِي هَذَا الْبَحْث نرى أَن نزيدها أيضاحا بِنَقْل مَا كتبه الْأُسْتَاذ الإِمَام فِيهَا نقلا عَن كِتَابه: (الْإِسْلَام والنصرانية مَعَ الْعلم والمدنية) قَالَ رَحمَه الله:

فارغة

الفصل الخامس للإسلام

الْفَصْل الْخَامِس لِلْإِسْلَامِ قلب السلطة الدِّينِيَّة

فارغة

" أصل من أصُول الْإِسْلَام انْتقل إِلَيْهِ، وَمَا أَجله من أصل، قلب السلطة الدِّينِيَّة والإتيان عَلَيْهَا من أساسها، هدم الْإِسْلَام بِنَاء تِلْكَ السلطة ومحا أَثَرهَا حَتَّى لم يبْق لَهَا عِنْد الْجُمْهُور من أَهله اسْم وَلَا رسم. . لم يدع الْإِسْلَام لأحد بعد الله وَرَسُوله سُلْطَانا على عقيدة أحد وَلَا سيطرة على إيمَانه. . على أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مبلغا ومذكرا، لَا مهيمنا وَلَا مسيطرا: قَالَ الله تَعَالَى {فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر، لست عَلَيْهِم بمسيَطر} وَلم يَجْعَل لأحد من أَهله أَن يحل وَلَا أَن يرْبط لَا فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء بل الْإِيمَان يعْتق الْمُؤمن من كل رَقِيب عَلَيْهِ فِيمَا بَينه وَبَين الله سوى الله وَحده، وَيَرْفَعهُ عَن كل رق إِلَّا الْعُبُودِيَّة لله وَحده، وَلَيْسَ لمُسلم مهما علا كَعبه فِي الْإِسْلَام على آخر مهما انحطت مَنْزِلَته فِيهِ إِلَّا حق النَّصِيحَة والإرشاد. قَالَ تَعَالَى فِي وصف الناجين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} وَقَالَ: {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون} وَقَالَ: {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فالمسلمون يتناصحون ثمَّ هم يُقِيمُونَ أمة تَدْعُو إِلَى الْخَيْر وهم المراقبون عَلَيْهَا يردونها إِلَى السَّبِيل السوى إِذا انحرفت عَنهُ. . وَتلك الْأمة لَيْسَ لَهَا فيهم إِلَّا الدعْوَة التَّذْكِير، والإنذار والتحذير وَلَا يجوز لَهَا وَلَا لأحد من النَّاس أَن يتتبع عَورَة أحد. . وَلَا يسوغ لقوي وَلَا لضغيف أَن يتجسس على عقيدة أحد، وَلَيْسَ يجب على مُسلم أَن يَأْخُذ عقيدته أَو يتلَقَّى أصُول مَا يعْمل بِهِ عَن أحد إِلَّا عَن كتاب الله وَسنة رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . . لكل مُسلم أَن يفهم عَن الله من كتاب الله وَعَن رَسُوله من كَلَام رَسُوله بِدُونِ توسيط أحد من سلف وَلَا خلف وَإِنَّمَا يجب عَلَيْهِ قبل ذَلِك

السلطان في الإسلام

أَن يحصل من وسائله مَا يؤهله للفهم كقواعد اللُّغَة الْعَرَبيَّة وآدابها وأساليبها وأحوال الْعَرَب خَاصَّة فِي زمَان الْبعْثَة، وَمَا كَانَ النَّاس عَلَيْهِ زمن النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، وَمَا وَقع من الْحَوَادِث وَقت نزُول الْوَحْي، وَشَيْء من النَّاسِخ والمنسوخ من الْآثَار. . فَإِن لم تسمح لَهُ حَاله بالوصول إِلَى مَا بعده لفهم الصَّوَاب من السّنة وَالْكتاب فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يسْأَل العارفين بهما. وَله بل عَلَيْهِ أَن يُطَالب الْمُجيب بِالدَّلِيلِ على مَا يُجيب بِهِ سَوَاء كَانَ السُّؤَال فِي أَمر الِاعْتِقَاد أَو فِي حكم عمل من الْأَعْمَال. . فَلَيْسَ فِي الْإِسْلَام مَا يُسمى عِنْد قوم بالسلطة الدِّينِيَّة بِوَجْه من الْوُجُوه. السُّلْطَان فِي الْإِسْلَام لَكِن الْإِسْلَام دين وَشرع، فقد وضع حدوداً، ورسم حقوقا، وَلَيْسَ كل مُعْتَقد فِي ظَاهر أمره بِحكم يجْرِي عَلَيْهِ فِي عمله. . فقد يغلب الْهوى، وتتحكم الشَّهْوَة، فيغمط الْحق، أَو يتَعَدَّى المعتدى الْحَد، فَلَا تكمل الْحِكْمَة من تشريع الْأَحْكَام إِلَّا إِذا وجدت قُوَّة الْإِقَامَة الْحُدُود. . وتنفيذ حكم القَاضِي بِالْحَقِّ، وصون نظام الْجَمَاعَة. . وَتلك الْقُوَّة لَا يجوز أَن تكون فوضى فِي عدد كثير، فَلَا بُد أَن تكون فِي وَاحِد وَهُوَ السُّلْطَان أَو الْخَلِيفَة. . الْخَلِيفَة عِنْد الْمُسلمين لَيْسَ بالمعصوم، وَلَا هُوَ مهبط الْوَحْي، وَلَا من حَقه الاستئثار بتفسير الْكتاب وَالسّنة. . نعم شَرط فِيهِ أَن يكون مُجْتَهدا، أَي أَن يكون من الْعلم باللغة الْعَرَبيَّة وَمَا مَعهَا مِمَّا تقدم ذكره بِحَيْثُ يَتَيَسَّر لَهُ أَن يفهم من الْكتاب وَالسّنة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْأَحْكَام، حَتَّى يتَمَكَّن بِنَفسِهِ من التَّمْيِيز بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَالصَّحِيح وَالْفَاسِد، ويسهل عَلَيْهِ إِقَامَة الْعدْل الَّذِي يُطَالِبهُ بِهِ الدّين وَالْأمة مَعًا. . هُوَ على هَذَا - لَا يَخُصُّهُ الدّين فِي فهم الْكتاب وَالْعلم بِالْأَحْكَامِ بمزية، وَلَا يرْتَفع بِهِ إِلَى منزلَة، بل هُوَ وَسَائِر طلاب الْفَهم سَوَاء، إِنَّمَا يتفاضلون بصفاء

الْعقل، وَكَثْرَة الْإِصَابَة فِي الحكم، ثمَّ هُوَ مُطَاع مادام على المحجة، ونهج الْكتاب وَالسّنة، والمسلمون لَهُ بالمرصاد، فَإِذا انحرف عَن النهج أقاموه عَلَيْهِ، وَإِذا اعوج قوموه بِالنَّصِيحَةِ والإعذار إِلَيْهِ، " لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق " فَإِذا فَارق الْكتاب وَالسّنة فِي عمله، وَجب عَلَيْهِم أَن يستبدلوا بِهِ غَيره مَا لم يكن فِي استبداله مفْسدَة تفوق الْمصلحَة فِيهِ فالأمة أَو نَائِب الْأمة هُوَ الَّذِي ينصبه، وَالْأمة هِيَ صَاحِبَة الْحق فِي السيطرة عَلَيْهِ، وَهِي الَّتِي تخلعه مَتى رَأَتْ ذَلِك من مصلحتها، فَهُوَ حَاكم مدنِي من جَمِيع الْوُجُوه. . وَلَا يجوز لصحيح النّظر أَن يخلط الْخَلِيفَة عِنْد الْمُسلمين بِمَا يُسَمِّيه الإفرنج (كراتيك) أَي سُلْطَان إلهي. فَإِن ذَلِك عِنْدهم هُوَ الَّذِي ينْفَرد بتلقي الشَّرِيعَة عَن الله، وَله حق الأثرة بالتشريع، وَله فِي رِقَاب النَّاس حق الطَّاعَة، لَا بالبيعة، وَمَا تَقْتَضِيه من الْعدْل وحماية الْحَوْزَة، بل بِمُقْتَضى الْإِيمَان، فَلَيْسَ لِلْمُؤمنِ مَا دَامَ مُؤمنا أَن يُخَالِفهُ، وَإِن اعْتقد أَنه عَدو لدين الله، وَشهِدت عَيناهُ من أَعماله مَا لَا ينطبق على مَا يعرفهُ من شرائعه، لِأَن عمل صَاحب السُّلْطَان الديني وَقَوله فِي أَي مظهر ظهراهما دين وَشرع. . هَكَذَا كَانَت سلطة الْكَنِيسَة فِي الْقُرُون الْوُسْطَى، وَلَا تزَال الْكَنِيسَة تَدعِي الْحق فِي هَذِه السلطة كَمَا سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ. . كَانَ من أَعمال التمدن الحَدِيث الْفَصْل بَين السلطة الدِّينِيَّة والسلطة المدنية، فَترك للكنيسة حق السيطرة على الِاعْتِقَاد والأعمال فِيمَا هُوَ من مُعَاملَة العَبْد لرَبه، تشرع وتنسخ مَا تشَاء، وتراقب وتحاسب كَمَا تشَاء، وَتحرم وَتُعْطِي كَمَا تُرِيدُ، وخول السلطة المدنية حق التشريع فِي معاملات النَّاس بَعضهم لبَعض، وَحقّ السيطرة على مَا يحفظ نظام اجْتِمَاعهم، فِي معاشهم لَا فِي معادهم، وعدوا هَذَا الْفَصْل منبعا للخير الْأَعَمّ عِنْدهم. .

ثمَّ هم واهمون فِيمَا يرْمونَ بِهِ الْإِسْلَام من أَنه يحتم قرن السلطتين فِي شخص وَاحِد. . ويظنون أَن معنى ذَلِك فِي رَأْي الْمُسلم أَن السُّلْطَان هُوَ مُقَرر الدّين، وَهُوَ وَاضع أَحْكَامه وَهُوَ منفذها، وَالْإِيمَان آلَة فِي يَده يتَصَرَّف بهَا فِي الْقُلُوب بالإخضاع، وَفِي الْعُقُول بالإقناع، وَمَا الْعقل والوجدان عِنْده إِلَّا مَتَاع، ويبنون على ذَلِك أَن الْمُسلم مستعبد لسلطانه بِدِينِهِ، وَقد عهدوا أَن سُلْطَان الدّين عِنْدهم كَانَ يحارب الْعلم، ويحمي حَقِيقَة الْجَهْل، فَلَا يَتَيَسَّر للدّين الإسلامي أَن يَأْخُذ بالتسامح مَعَ الْعلم مَا دَامَ من أُصُوله أَن إِقَامَة السُّلْطَان وَاجِبَة بِمُقْتَضى الدّين. وَقد تبين لَك أَن هَذَا كُله خطأ مَحْض وَبعد عَن فهم معنى ذَلِك الأَصْل من أصُول الْإِسْلَام. . وَعلمت أَن لَيْسَ فِي الْإِسْلَام سلطة دينية سوى الموعظة الْحَسَنَة، والدعوة إِلَى الْخَيْر والتنفير من الشَّرّ، وَهِي سلطة خولها الله لأدنى الْمُسلمين يقرع بهَا أنف أعلاهم، كَمَا خولها لأعلاهم يتَنَاوَل بهَا من أَدْنَاهُم. . وَمن هُنَا تعلم " الْجَمَاعَة " أَن مَسْأَلَة السُّلْطَان فِي دين الْإِسْلَام لَيست مِمَّا يضيق بِهِ صَدره، وتحرج بِهِ نَفسه عَن احْتِمَال الْعلم، وَقد تقدم مَا يُشِير إِلَى مَا صنع الْخُلَفَاء العباسيون والأمويون الأندلسيون من صنائع الْمَعْرُوف مَعَ الْعلم وَالْعُلَمَاء: وَرُبمَا أَتَيْنَا على شئ آخر مِنْهُ فِيمَا بعد. يَقُولُونَ: إِن لم يكن للخليفة ذَلِك السُّلْطَان الديني أَفلا يكون للْقَاضِي أَو للمفتي أَو شيخ الْإِسْلَام؟ وَأَقُول: إِن الْإِسْلَام لم يَجْعَل لهَؤُلَاء أدنى سلطة على العقائد وَتَقْرِير الْأَحْكَام، وكل سلطة تنَاولهَا وَاحِد من هَؤُلَاءِ فَهِيَ سلطة مَدَنِيَّة قررها الشَّرْع الإسلامي، وَلَا يسوغ لوَاحِد مِنْهُم أَن يَدعِي حق السيطرة على إِيمَان أحد أَو عِبَادَته لرَبه أَو ينازعه فِي طَرِيق نظره " اهـ.

خاتمة

خَاتِمَة خُلَاصَة اجتماعية تاريخية، فِي الْخلَافَة والدول الإسلامية {وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ} . .؟ (تمهيد) : لقد كَانَ فِيمَن قبلنَا من الْبشر منذرون ورسل بعثوا لهدايتهم، وملوك وحكام يتولون الْأَحْكَام والسياسة فيهم، وَكَانَ بعض الْأَنْبِيَاء ملوكاً، وَكَانَ بعض الْمُلُوك تابعين للأنبياء، وَكَانَ الْملك والرياسة فتْنَة للملوك والرعايا، وللرؤساء والمرءوسين، {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ} وَكَانَ رُؤَسَاء الدّين من غير الْأَنْبِيَاء كثيرا مَا يشتركون مَعَ رُؤَسَاء الدُّنْيَا من الْمُلُوك والأمراء فِي فتْنَة المَال والجاه، فَيكون بَعضهم أَوْلِيَاء بعض فِي استعباد مرءوسيهم، والتمتع بِأَمْوَالِهِمْ وأعراضهم، وَكَانَت الشعوب، تنقاد لأولئك الرؤساء إِمَّا بوازع الِاعْتِقَاد الديني، وَإِمَّا بقهر الْقُوَّة وَالسُّلْطَان، وَإِمَّا بالأمرين جَمِيعًا، وَرُبمَا كَانَ بَعْضهَا ويضيق ذرعاً بِبَعْض الْمُلُوك الجائرين فينزع يَده من طاعتهم، ويثل عروشهم، ويولي أمره جمَاعَة من الزعماء الَّذين نهضوا لمقاومة الْجور والقهر بقوتهم، حَتَّى إِذا مَا صَار الْأَمر إِلَيْهِم كَانُوا وهم عصبَة أَشد جوراً وبغياً من الْملك الْوَاحِد الَّذِي لَا يَسْتَطِيع ظلما وَلَا هضما إِلَّا بأعوانه من أمثالهم، وَمَا زَالَ النَّاس مرهقين بسيطرة رُؤَسَاء الدّين الروحية فِي سرائرهم، ورؤساء الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا فِي ظواهرهم. (إِذا أَوَوْا إِلَى ظلّ الْعدْل ... يَوْمًا لفحهم هجير الْجور أَيَّامًا) (وَإِذا تذوقوا من حلاوة الرَّحْمَة ... جرعة رَاحَة تجرعوا من علقم الْقَسْوَة)

يشقي الأولوف مِنْهُم ليتمتع باللذة أَفْرَاد من المترفين، وَيحرم الألوف من بلغَة الْعَيْش ويتمتع بثمرات كسبهم نفر من المسرفين، وَمَا زَالَ النَّاس كَذَلِك حَتَّى بعث الله خَاتم رسله رَحْمَة للْعَالمين، فَجَاءَهُمْ عَنهُ بِمَا فِيهِ صَلَاح الدُّنْيَا وهداية الدّين. فَكَانَ من أصُول هدايته للبشر أَن أسس لَهُم دينا وسطا، وَشرعا عادلاً، ومملكة شورية: جعل أَمرهم شُورَى بَينهم، وأزال جبرية الْملك وأثرته وكبرياءه من حكومتهم، وَجعل أَمر الرئيس الَّذِي يمثل الْوحدَة ويوحد النظام وَالْعدْل فِي المملكة للْأمة، ينتخبه أهل الرَّأْي وَالْعَدَالَة وَالْعلم من زعمائها، الموثوق بهم عِنْدهَا، وَجعله مسئولاً عَنْهُم لديهم، ومساوياً فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرِيعَة لأدنى رجل مِنْهُم، وَفرض عَلَيْهِم طَاعَته فِي الْمَعْرُوف من الْحق وَالْعدْل، وَحرم عَلَيْهِم طَاعَته فِي الْمعْصِيَة وَالْبَغي والجور، وَجعل الْوَازِع فِي ذَلِك دينياً لينفذ فِي السِّرّ والجهر، لِأَن الطَّاعَة الْحَقِيقِيَّة لله وَحده، والسيطرة لجَماعَة الْأمة، وَإِنَّمَا الرئيس ممثل للوحدة، وَلذَلِك خَاطب الْكتاب الْمنزل، نَبِي هَذَا الدّين الْمُرْسل، بقوله فِي آيَة الْمُبَايعَة {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف} وَأمره بمشاروتهم فِي الْأَمر، وَقد أَقَامَ هَذِه الْأُصُول صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ على أكمل وَجه، فَكَانَ يستشيرهم، وَيرجع عَن رَأْيه إِلَى رَأْيهمْ، ودعا فِي مرض مَوته مَن عساه ظلمه بشئ إِلَى الاقتصاص مِنْهُ، وَسَار على سنته هَذِه خلفاؤه الراشدون من بعده، فَكَانَ هَذَا من أفعل أَسبَاب قبُول دين الْإِسْلَام، وسيادته على جَمِيع الْملَل والأديان، واستعلاء حكمه ولغته فِي الشرق والغرب، وخضوع الْأُمَم الْكَثِيرَة لَهُ بِالرِّضَا والطوع، وانتشاره فِي قرن وَاحِد من الْحجاز إِلَى أقْصَى أفريقية وأوربة من جَانب الْمغرب، وَإِلَى بِلَاد الْهِنْد من جِهَة الْمشرق. . وَلَو سَار من جَاءَ بعد الرَّاشِدين على سُنَنهمْ فِي اتِّبَاع هدى الْكتاب وَالسّنة، لعمت هِدَايَة الْإِسْلَام الْعَالم كُله، وَلما تهافت عبيد الشُّهْرَة والشهوة، على رياسته الَّتِي هِيَ خلَافَة للنبوة، والنزوات عَلَيْهَا بِقُوَّة العصبية، إِذْ لَيْسَ فِيهَا تمتّع باللذات الجسدية، وَلَا بعظمة السيطرة الجبروتية. . فقد فرض الصَّحَابَة للخليفة الأول نَفَقَة نَفسه وَعِيَاله كَرجل من أوساط الْمُهَاجِرين لَا أعلاهم وَلَا أَدْنَاهُم، وَلكنه، هُوَ وَمن بعده من الرَّاشِدين اخْتَارُوا أَن يَكُونُوا فِي معيشتهم دون الْوسط من أمتهم. .

سنة التغلب وعواقبها وإفساد الأعاجم لحكم الإسلام العربي

أما الاعتداء على عمر وَقَتله فَلم يكن من حسد الْمُسلمين وَلَا من كراهتهم لَهُ، وَلَا من طمع أحد فِي أَن يخلفه، بل كَانَ من جمَاعَة الْمَجُوس السّريَّة انتقاماً مِنْهُ لفتحه لبلادهم، وإسقاطه لملكهم، وَأما التَّعَدِّي على عُثْمَان وَقَتله فقد كَانَ بدسائس الْفرس وَعبد الله بن سبأ الْيَهُودِيّ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الفتنتان لما وصل الشقاق بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ، كَمَا يعلم ذَلِك كل مدقق فِي التَّارِيخ. . اتَّسع ملك الْإِسْلَام وَكثر خصومه من زعماء الْملَل والشعوب الَّذين أَزَال عظمتهم واستمتاعهم بِملك بِلَادهمْ، وساوي بَينهم وَبَين عبيدهم فِي الْحُقُوق وكل أقوامهم كَانُوا عبيدا لَهُم، وَلم يكن الْوَازِع الديني فِيمَن دخلُوا فِيهِ من هَذِه الشعوب مثله فِيمَن فهموه حق الْفَهم من الْعَرَب، وَلم تكن كل بطُون الْعَرَب كالسابقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَلم يكن من السهل إِيجَاد نظام لقُوَّة الْخلَافَة تخضع لَهُ كل هَذِه الْأُمَم والشعوب فِي الْخَافِقين مَعَ بعد الشقة وصعوبة المواصلات، فَلهَذَا سهل على السبئيين وَالْمَجُوس بَث الْفِتَن لِلْإِسْلَامِ وللعرب، وعَلى مُعَاوِيَة تأليف جَيش فِي الشَّام يُقَاتل بِهِ الإِمَام الْحق أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثمَّ جعل خلَافَة النُّبُوَّة ملكا عَضُوضًا كملك الغابرين. . سنة التغلب وعواقبها، وإفساد الْأَعَاجِم لحكم الْإِسْلَام الْعَرَبِيّ: فتح مُعَاوِيَة للأقوياء بَاب التغلب فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يهرعون، وَلم يثبت ملك الأمويين مَعَه قرنا وَاحِدًا كَامِلا، وَلما كَانَ الْإِسْلَام قد أبطل عصبية الْعَرَب الجنسية احْتَاجَ العباسيون إِلَى أَن يستعينوا على الأمويين بعصبية الْأمة الفارسية، وَكَانَ للزنادقة وَالْمُنَافِقِينَ من هَؤُلَاءِ مكايد خُفْيَة، يُرِيدُونَ أَن يديلوا للْفرس من الْعَرَب، وللمجوسية من الْإِسْلَام، ولأجلها بثوا فِي الْمُسلمين التَّفْرِقَة بالغلو فِي آل الْبَيْت توسلا لِلطَّعْنِ فِي جُمْهُور الصَّحَابَة؛ ليفرقوا كلمة الْعَرَب ويبعدوا بهم عَن أصُول الْإِسْلَام الشورى (الديمقراطي) وينشئوا فِيهِ حُكُومَة (أتوقراطية) مُقَدَّسَة أَو معبودة،

بِجعْل رئاستها لمن يدعونَ فيهم الْعِصْمَة من بَيت النُّبُوَّة، ليسهل عَلَيْهِم بذلك إِعَادَة الكسروية والمجوسية. وَلما انْكَشَفَ أَمرهم للعباسيين عولوا على جعل عصبيتهم من التّرْك، فَكَانَ المعتصم يَشْتَرِي شُبَّانهمْ من بِلَادهمْ وَسَائِر النواحي ويجعلهم جُنُودا لَهُ، وَيُطلق لَهُم الْعَنَان، ويمهد لَهُم هُوَ وَمن بعده سَبِيل السُّلْطَان، جهلا مِنْهُم بطبائع الْعمرَان، وَكَانُوا أولى جهل وقسوة وَفَسَاد، فطغوا فِي الْبِلَاد، وَأَكْثرُوا الْبَغي والعدوان على الْعباد، حَتَّى صَارُوا يقتلُون الْخُلَفَاء أنفسهم وهم على عروشهم أَو يخلعونهم وَيُوَلُّونَ غَيرهم بأهوائهم، فَاخْتَارَ بفسادهم النظام، وَالطَّاعَة بوازع الْإِسْلَام؛ فسهل على إخْوَانهمْ التتار اجتياح ملك العباسيين تخريبا وتتبيبا، وتقتيلا وتمثيلا، واستفحل أَمر الباطنية من القرامطة وَغَيرهم، وَقد كَانَ جند التّرْك فِي العباسيين، كجند الانكشارية فِي العثمانيين، كَانَ قُوَّة لَهُم، ثمَّ صَار قُوَّة عَلَيْهِم، ومفسدا لملكهم. . وَقد أفسد الْأَعَاجِم أَمر الْخُلَفَاء العباسيين بالإطراء والتعظيم الَّذِي يُنكره الْإِسْلَام وَلَا تعرفه الْعَرَب، بشر من إفسادهم لَهُ بالاستبداد بهم والاعتداء عَلَيْهِم، كَمَا فعل السُّلْطَان عضد الدولة بذلك الْمظهر العجيب الَّذِي أَقَامَهُ للخليفة الطائع. . قَالَ السُّيُوطِيّ فِي تَرْجَمَة الطائع لله من تَارِيخ الْخُلَفَاء: وَسَأَلَ عضد الدولة الطائع أَن يزِيد فِي ألقابه " تَاج الْملَّة " ويجدد الْخلْع عَلَيْهِ ويلبسه التَّاج فَأَجَابَهُ وَجلسَ الطائع على السرير وَحَوله مائَة بِالسُّيُوفِ والزينة، وَبَين يَدَيْهِ مصحف عُثْمَان، وعَلى كتفه الْبردَة، وَبِيَدِهِ الْقَضِيب، وَهُوَ متقلد بِسيف رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَضربت ستارة بعثها عضد الدولة وَسَأَلَ أَن تكون حِجَابا للطائع حَتَّى لَا تقع عَلَيْهِ عين أحد من الْجند قبله، وَدخل الأتراك والديلم وَلَيْسَ مَعَ أحد مِنْهُم حَدِيد، ووقف الْأَشْرَاف وَأَصْحَاب الْمَرَاتِب من الْجَانِبَيْنِ، ثمَّ أذن لعضد الدولة فَدخل، ثمَّ رفعت الستارة وَقبل عضد الدولة الأَرْض، فارتاع زِيَاد الْقَائِد لذَلِك وَقَالَ لعضد الدولة: مَا هَذَا أَيهَا الْملك؟ أَهَذا هُوَ الله؟ فَالْتَفت إِلَيْهِ وَقَالَ هَذَا خَليفَة الله فِي أرضه ( {} ) ثمَّ اسْتمرّ يمشي وَيقبل الأَرْض سبع مَرَّات. . فَالْتَفت إِلَيْهِ الطائع إِلَى خَالص الْخَادِم، وَقَالَ استدنه، فَصَعدَ عضد الدولة فَقبل الأَرْض مرَّتَيْنِ، فَقَالَ: ادن إِلَيّ، فَدَنَا وَقبل رجله، وثنى الطائع يَمِينه عَلَيْهِ وَأمره فَجَلَسَ على كرْسِي بعد أَن كرر عَلَيْهِ " اجْلِسْ " وَهُوَ يستعفى، فَقَالَ لَهُ أَقْسَمت

إضراب المسلمين في حكوماتهم

عَلَيْك لتجلسن، فَقبل الْكُرْسِيّ وَجلسَ. . فَقَالَ لَهُ الطائع قد رَأَيْت أَن أفوض إِلَيْك أَمر الرّعية فِي شَرق الأَرْض وغربها، وتدبيرها فِي جَمِيع جهاتها، سوى خاصتي وأسبابي، فتول ذَلِك. فَقَالَ يُعِيننِي الله على طَاعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وخدمته، ثمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْخلْع وَانْصَرف. ثمَّ ذكر المؤرخ من عَاقِبَة هَذَا مَا وصل إِلَيْهِ أَمر الْخُلَفَاء بعد ذَلِك مَعَ السلاطين إِذْ كَانُوا كآحاد الوجهاء فِي رِكَابهمْ. . وَمَا كَانَ يَفْعَله أَمْثَال ذَلِك الْملك الْجَاهِل المتملق، وكل مَا ذكر من تِلْكَ الْهَيْئَة مُنكرَات فِي الْإِسْلَام. فتقبيل الأَرْض أَشد تذللا من الرُّكُوع وَالسُّجُود \، وَقد صحت الْأَحَادِيث فِي النَّهْي عَن التَّشَبُّه بالأعاجم فِي كبريائهم وبذخهم، حَتَّى فِي الْوُقُوف على رُءُوس مُلُوكهمْ أَو بَين أَيْديهم. . إضراب الْمُسلمين فِي حكوماتهم وَأما سَبَب وُقُوع ذَلِك الِاضْطِرَاب وَطول الْعَهْد عَلَيْهِ فَهُوَ أَن التطورات الاجتماعية كَانَت تقضي بِوُقُوع مَا وَقع من التَّصَرُّف فِي شكل الْحُكُومَة الإسلامية، وَلم يكن يُمكن فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَة أَن يوضع لَهَا نظام يكفل أَن تجْرِي على سنة الرَّاشِدين، وَلَا طَريقَة أَوَائِل الأمويين والعباسيين، فِي الْجمع بَين عَظمَة الدُّنْيَا ومصالح الدّين، وَلما صَار هَذَا مُمكنا كَانَ أَمر الدّين قد ضعف، وتلاه فِي جَمِيع الشعوب الإسلامية ضعف حكوماتها، وَضعف حضارتها، فَلم تهتد إِلَى مثل مَا اهْتَدَى إِلَيْهِ الإفرنج من الْقَضَاء على استبداد مُلُوكهمْ شعبًا بعد شعب، فَمنهمْ من قضى على الْحُكُومَة الملكية قَضَاء مبرما، وَمِنْهُم من قيد سلطة الْمُلُوك فَلم يدع لَهُم من الْملك إِلَّا بعض الْمظَاهر الفخمة الَّتِي يُسْتَفَاد مِنْهَا فِي بعض الْأَحْوَال، دون أَن يكون لَهُم من الْأَمر وَالنَّهْي فِي الْحُكُومَة أدنى استبداد ... ذَلِك بِأَن كل من يُعْطي تَصرفا فِي أَمر يجب أَن يكون مسئولا عَن سيرته فِيهِ، والتقاليد المتبعة فِي الْملك أَن الْملك فَوق الرّعية فَلَا يتطاولون إِلَى مقَامه الْأَعْلَى لِيَسْأَلُوا عَمَّا فعل، وَهَذَا شَيْء أبْطلهُ الْإِسْلَام بجعله إِمَام الْمُسلمين كواحد مِنْهُم فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرِيعَة، وَنَصّ على أَنه مسئول عَمَّا يفعل بقوله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] " كلكُمْ رَاع وكلكم

مسئول عَن رَعيته، فالإمام رَاع وَهُوَ مسئول عَن رَعيته، وَالرجل رَاع فِي أَهله وَهُوَ مسئول عَن رَعيته، وَالْمَرْأَة راعية فِي بَيت زَوجهَا وَهِي مسئولة عَن رعيتها " الخ (مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر) وَكَانَ الْمُسلمُونَ يراجعون الْخُلَفَاء الرَّاشِدين ويردون عَلَيْهِم أَقْوَالهم وآراءهم فيرجعون إِلَى الصَّوَاب إِذا ظهر لَهُم أَنهم كَانُوا مخطئين، حَتَّى إِن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ خطأته امْرَأَة فِي مَسْأَلَة فَقَالَ على الْمِنْبَر: امْرَأَة أَصَابَت وَأَخْطَأ عمر. . أَو وَرجل أَخطَأ. . غفل الْمُسلمُونَ عَن هَذَا فتركوا الْخلَافَة لأهل العصبية يتصرفون فِيهَا تصرف الْمُلُوك الْوَارِثين الَّذين كَانُوا يَزْعمُونَ أَن الله فَضلهمْ على سَائِر الْبشر لذواتهم ولبيوتهم وَأوجب طاعتهم والخضوع لَهُم فِي كل شَيْء، فَلم يُوجد فِي أهل الْحل وَالْعقد من الرؤساء من اهْتَدَى إِلَى وضع نظام شَرْعِي للخلافة بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسمى فِي هَذَا الْعَصْر بالقانون الأساسي، يقيدون بِهِ سلطة الْخَلِيفَة بنصوص الشَّرْع، ومشاورتهم فِي الْأَمر، كَمَا وضعُوا الْكتب الطوَال للْأَحْكَام الَّتِي يجب الْعَمَل بهَا فِي السياسة والإدارة والجباية وَالْقَضَاء وَالْحَرب، وَلَو وضعُوا كتابا فِي ذَلِك معززا بأدلة الْكتاب وَالسّنة وسيرة الرَّاشِدين، وَمنعُوا فِيهِ ولَايَة الْعَهْد للوارثين، وقيدوا اخْتِيَار الْخَلِيفَة بالشورى، وبينوا أَن السلطة للْأمة يقوم بهَا أهل الْحل وَالْعقد مِنْهَا، وَجعلُوا ذَلِك أصولا متبعة - لما وقعنا فِيمَا وقعنا فِيهِ. . فَأَما الراشدون رَضِي الله عَنْهُم فقد كَانُوا واثقين بتحريهم للحق وَالْعدْل ويصرحون بسلطة الْأمة عَلَيْهِم وهم واقفون فِي موقف الرَّسُول [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من منبره كَمَا قَالَ أَبُو بكر " وُليِّت عَلَيْكُم وَلست بِخَيْرِكُمْ فَإِذا اسْتَقَمْت فَأَعِينُونِي، وَإِذا زِغْت فقوموني ". وكما قَالَ عمر " من رأى مِنْكُم فيّ اعوجاجا فليقومه "، وكما قَالَ عُثْمَان: " أَمْرِي لأمركم تبع ". وأقوال عَليّ وأعماله بالشورى مَعْرُوفَة على اضْطِرَاب الْأَمر وَظُهُور الْفِتَن فِي زَمَنه، وَمَوْت كثير من كبراء أهل الْعلم وتفرق بَعضهم، ثمَّ إِنَّهُم لم يَكُونُوا قد دخلُوا فِي عهد التصنيف وَوضع النّظم والقوانين، وَلَا شعروا بِشدَّة الْحَاجة إِلَى ذَلِك لِكَثْرَة الصّلاح وخضوع الْأمة لوازع الدّين. . وَمَا جَاءَ عصر التَّأْلِيف والتدوين إِلَّا وَكَانَت الْخلَافَة قد انقلبت إِلَى طبيعة الْملك بالبدعتين الكبريين اللَّتَيْنِ ابتدعهما مُعَاوِيَة، وهما جعل الْأَمر تَابعا لقُوَّة العصبية،

قاعدة ابن خلدون في العصبية مخالفة للإسلام

وَجعل الْخلَافَة تراثا ينْتَقل من الْمَالِك إِلَى وَلَده أَو غَيره من عصبته، وشغل النَّاس عَن سوء هَاتين البدعتين سُكُون الْفِتْنَة الَّتِي أثارها السبئيون وَالْمَجُوس وافترصها الأمويون، وَمَا تلاه من اجْتِمَاع الْكَلِمَة وحقن الدِّمَاء فِي الدَّاخِل، وَالْعود إِلَى الْفتُوح وَنشر هِدَايَة الْإِسْلَام وسيادته فِي الْخَارِج، وَذَلِكَ أَن تَأْثِير الْفساد الَّذِي يطْرَأ على الصّلاح الْعَظِيم لَا يظْهر إِلَّا بتدرج بطئ. . قَاعِدَة ابْن خلدون فِي العصبية مُخَالفَة لِلْإِسْلَامِ: خُدع كَثِيرُونَ بمظهر ذَلِك الْملك حَتَّى حكيمنا الاجتماعي (ابْن خلدون) الَّذِي اغْترَّ باهتدائه إِلَى سنة قيام الْملك وَسَائِر الْأُمُور البشرية الْعَامَّة بالعصبية فَأدْخل فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، بل مَا هُوَ مضاد لَهَا، كدعوة الرُّسُل (عَلَيْهِم السَّلَام) فَجعل مدارها على منعتهم فِي اقوامهم وَقُوَّة عصبية عَشَائِرهمْ. . مُعْتَمدًا على حَدِيث معَارض بآيَات الْقُرْآن الْكَثِيرَة، وبوقائع تواريخهم الصَّحِيحَة، وَبني على ذَلِك إِلْحَاق الْخلَافَة بِالنُّبُوَّةِ بِمَا لبس عَلَيْهِ من ذَلِك، وَإِنَّمَا النُّبُوَّة وَخِلَافَة النُّبُوَّة هادمتان لسلطان العصبية القومية ومقررتان لقاعدة الْحق، واتباعه بوازع النَّفس، والإذعان لشريعة الرب. . وَهَذِه قصَص الرُّسُل فِي الْقُرْآن الْكَرِيم ناقضة لبنيان قَاعِدَته. وَفِي بَعْضهَا التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْقُوَّة والمنعة كَقَوْلِه تَعَالَى حِكَايَة عَن لوط عَلَيْهِ السَّلَام: {قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد} أم أَيهمْ قَامَت دَعوته بعصبية قومه؟ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل؟ أم مُوسَى الكليم؟ أم عِيسَى الرّوح الْكَرِيم؟ أم خَاتم النَّبِيين؟ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم. . ألم تكن جلّ مزايا بني هَاشم فِي قُرَيْش الْفَضَائِل الأدبية دون الحربية؟ ألم يكن جلّ اضطهاده [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وصده عَن تبيلغ دَعْوَة ربه من رُؤَسَاء قُرَيْش؟ ألم يَكُونُوا هم الَّذين ألجئوه إِلَى الْهِجْرَة. . وهم الَّذين نزل الله فيهم {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك} الْآيَة؟ حَتَّى هَاجر مستخفيا. . وسمى الله هجرته إخراجا - أَي نفيا وإبعادا - بِمثل قَوْله تَعَالَى {يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم} حَتَّى نَصره الله تَعَالَى بضعفاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. . وَمَا آمن أَكثر قُرَيْش إِلَّا بعد أَن أظهره الله عَلَيْهِم وخذلهم فِي حروبهم لَهُ. .

نعم إِن بعض كَلَام ابْن خلدون فِي حِكْمَة جعل الْخلَافَة فِي قُرَيْش صَحِيح وَهُوَ مكانتهم الْعليا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام الَّتِي لم ينازعهم فِيهَا أحد من الْعَرَب، وَأولى أَلا ينازعهم فِيهَا من يدين بِالْإِسْلَامِ من الْعَجم، وَذَلِكَ من أَسبَاب جمع الْكَلِمَة، وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك الصّديق (رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) فِي احتجاجه على الْأَنْصَار، وَأما عصبية الْقُوَّة الحربية فَلم تكن عِلّة وَلَا جُزْء عِلّة لجعل الْخلَافَة فِي قُرَيْش. . لِأَن الْإِسْلَام قضى على هَذِه العصبية الْجَاهِلِيَّة - يعْتَرف ابْن خلدون كَغَيْرِهِ بذلك - فَلَا يُمكن أَن يَجْعَلهَا عِلّة من علل شَرعه القويم الَّذِي مَدَاره على جعل الْقُوَّة تَابِعَة للحق، خلافًا لسَائِر المبطلين من الْبشر الَّذين يجْعَلُونَ الْقُوَّة فَوق الْحق، فإمَّا أَن يكون تَابعا لَهَا، وَإِمَّا أَن تقضي عَلَيْهِ قبل أَن يقْضى عَلَيْهَا. . وَبِهَذَا الْبَيَان الْوَجِيز يعلم سَائِر مَا فِي كَلَام ابْن خلدون من شوب الْبَاطِل بتحكيم قَاعِدَته فِي تَصْحِيح عمل مُعَاوِيَة حَتَّى فِي اسْتِخْلَاف يزِيد، وَجعله مُجْتَهدا مخطئا فِي قتال أَمِير الْمُؤمنِينَ عليّ كرم الله وَجهه، ومصيبا فِي اسْتِخْلَاف يزِيد الَّذِي أنكرهُ عَلَيْهِ أكبر عُلَمَاء الصَّحَابَة فنفذه بالخداع وَالْقُوَّة والرشوة، فَهُوَ يزْعم أَن مُعَاوِيَة كَانَ عَالما بقاعدته فِي أَن الْأُمُور الْعَامَّة لَا تتمّ إِلَّا بشوكة العصبية، وَبِأَن عصبية الْعَرَب كلهم قد انحصرت فِي قومه بني أُميَّة، وَأَن جعل الْخلَافَة شُورَى فِي أهل الْحل وَالْعقد من أهل الْعلم وَالْعَدَالَة والكفاية من وجهاء قُرَيْش غير بني أُميَّة لم يعد مُمكنا، وكل هَذَا بَاطِل. وَفِي كَلَام ابْن خلدون شَوَاهِد على بُطْلَانه، وَلَيْسَ من مقصدنا إطالة القَوْل فِي بَيَان ذَلِك هُنَا. وحسبنا أَن نقُول إِن عصبية الْعَرَب لم تَنْحَصِر فِي بني أُميَّة لَا بقوتهم الحربية وَلَا بِثِقَة الْأمة بعدلهم وكفاءتهم، وَإِنَّمَا افترضوا حَيَاء عُثْمَان وَضَعفه فنزوا على مناصب الْإِمَارَة وَالْحكم فِي الْأَمْصَار الإسلامية الَّتِي هِيَ قُوَّة الدولة ومددها. . واصطنعوا من محبى الدُّنْيَا من سَائِر بطُون قُرَيْش وَغَيرهم من يعلمُونَ أَنهم يواتونهم. . وَأكْثر هَؤُلَاءِ مِمَّن لم يعرفوا من الْإِسْلَام إِلَّا بعض الظَّوَاهِر وهم مَعَ الْحُكَّام أَتبَاع كل ناعق، فتوسلوا بهم إِلَى سنّ سنة الْجَاهِلِيَّة وَالْقَضَاء على خلَافَة النُّبُوَّة الشَّرْعِيَّة. .

وَلَو شَاءَ مُعَاوِيَة أَن يَجْعَلهَا شُورَى كَمَا نصح لَهُ بعض كبراء الصَّحَابَة (رَضِي الله عَنْهُم) وَيجْعَل قومه وَغَيرهم مؤيدين لمن ينتخب انتخابا شَرْعِيًّا بِالِاخْتِيَارِ من أهل الشورى لفعل، وَمَا مَنعه إِلَّا حب الدُّنْيَا وفتنة الْملك، وَلَكِن عمر بن عبد الْعَزِيز لم يكن يَسْتَطِيع ذَلِك بعد أَن استفحل أَمرهم، وصاروا محيطين بِمن يتَوَلَّى الْأَمر مِنْهُم. . وَفِي كتاب الْفِتَن من صَحِيح البُخَارِيّ أَن أَبَا بَرزَة الصَّحَابِيّ الْجَلِيل سُئِلَ - وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ - عَن التَّنَازُع على الْخلَافَة بَين مَرْوَان وَابْن الزبير والخوارج - وَهُوَ أثر سنة مُعَاوِيَة - فَقَالَ: احتسبت عِنْد الله أَنِّي أَصبَحت ساخطا على أَحيَاء قُرَيْش، إِنَّكُم يَا معشر الْعَرَب كُنْتُم على الْحَال الَّذِي علمْتُم من الذلة والقلة والضلالة وَإِن الله أنقذكم بِالْإِسْلَامِ وَبِمُحَمَّدٍ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] حَتَّى بلغ بكم مَا ترَوْنَ وَهَذِه الدُّنْيَا الَّتِي أفسدت بَيْنكُم، إِن ذَاك الَّذِي فِي الشَّام وَالله إِن يُقَاتل إِلَّا على الدُّنْيَا وَإِن هَؤُلَاءِ الَّذين بَين أظْهركُم وَالله إِن يُقَاتلُون إِلَّا على الدُّنْيَا، وَإِن ذَاك الَّذِي بِمَكَّة وَالله إِن يُقَاتل إِلَّا على الدُّنْيَا. أهـ. . وَيَعْنِي بالذين بَين أظْهركُم الْخَوَارِج الَّذِي يسمون الْقُرَّاء، وَلذَلِك جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى زِيَادَة: يَزْعمُونَ أَنهم قراؤكم. . نعم إِن الْأَوَّلين من بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس استخدموا طبيعة الْملك وتوسلوا بِهِ إِلَى مَقَاصِد الْخلَافَة كنشر الْإِسْلَام ولغته وإعزازه وَفتح الممالك وَإِقَامَة الْعدْل بَين النَّاس كَافَّة. . إِلَّا مَا كَانَ من الانتقام من المتهمين بِطَلَب الْخلَافَة وَمن التَّصَرُّف فِي بَيت المَال. . قَالَ ابْن خلدون بعد تَفْصِيل لَهُ فِي هَذَا الْبَاب: فقد صَار الْأَمر إِلَى الْملك وَبقيت مَعَاني الْخلَافَة من تحري الدّين ومذاهبه والجري على منهاج الْحق، وَلم يظْهر التَّغَيُّر إِلَّا فِي الْوَازِع الَّذِي كَانَ دينا ثمَّ انْقَلب عصبية وسيفا. . وَهَكَذَا كَانَ الْأَمر لعهد مُعَاوِيَة ومروان وَابْنه عبد الْملك والصدر الأول من خلفاء بني الْعَبَّاس إِلَى الرشيد وَبَعض وَلَده ثمَّ ذهبت مَعَاني الْخلَافَة وَلم يبْق إِلَّا اسْمهَا، وَصَارَ الْأَمر ملكا بحتا، وَجَرت طبيعة التغلب إِلَى غايتها، واستعملت فِي أغراضها من الْقَهْر والتقلب فِي الشَّهَوَات والملاذ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَمر لولد عبد الْملك وَلمن جَاءَ بعد الرشيد من بني الْعَبَّاس، وَاسم الْخلَافَة بَاقِيا فيهم لبَقَاء عصبية الْعَرَب، والخلافة وَالْملك فِي الطورين ملتبس بعضهما بِبَعْض. ثمَّ ذهب رسم الْخلَافَة وأثرها بذهاب عصبية

الترك العثمانيون والخلافة والتفرنج

الْعَرَب وفناء جيلهم وتلاشي أَحْوَالهم، وَبَقِي الْأَمر ملكا بحتا كَمَا كَانَ الشَّأْن فِي مُلُوك الْأَعَاجِم بالمشرق. يدينون بِطَاعَة الْخَلِيفَة تبركا، وَالْملك بِجَمِيعِ ألقابه ومناحيه لَهُم، وَلَيْسَ للخليفة مِنْهُ شئ، فقد تبين أَن الْخلَافَة وجدت بِدُونِ الْملك أَولا ثمَّ التبست معانيهما واختلطت، ثمَّ انْفَرد الْملك حَيْثُ افْتَرَقت عصبيته من عصبية الْخلَافَة. وَهَذِه الْخُلَاصَة الَّتِي ذكرهَا ابْن خلدون تدل على صِحَة قَوْلنَا الَّذِي كررناه مرَارًا وَهُوَ أَن خلفاء بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس قد جمعُوا بَين عَظمَة الْملك ونعيمه وترفه وَبَين مَقَاصِد الْخلَافَة من نشر الدّين وَالْحق وَالْعدْل، وَأَن الْفساد دب إِلَيْهِم بالتدريج، وَمَا زَالَ يفتك بهم حَتَّى أَزَال ملكهم، وَأكْثر الْمُسلمين لَا يَشْعُرُونَ بسير السّنَن الاجتماعية فيهم، والأقلون لَا يَسْتَطِيعُونَ تلافي الْفساد وتداركه قبل أَن يَنْتَهِي إِلَى غَايَته من هَلَاك الْأمة. وَإِنَّمَا كَانَ يتلافى بالنظام الَّذِي تُقَام بِهِ الْخلَافَة، فالنظام قد أوجد أديانا ومذاهب بَاطِلَة، وَثَبت دولا جائرة، فَكيف لَا يحفظ بِهِ الْحق الراسخ رسوخ الأطواد؟ فو الْحق الَّذِي يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ، لَو أَن الْمُسلمين بذلوا من الْعِنَايَة لإعادة الْخلَافَة إِلَى نصابها عشر مَا بذلت فرق الباطنية لإفسادها، لعادت أقوى مِمَّا كَانَت وسادوا بهَا الدُّنْيَا كلهَا. هَذَا وَإِن مَا فَاتَ الْمُسلمين فِي الْقُرُون الْوُسْطَى لَا يَنْبَغِي أَن يفوتهُمْ فِي هَذَا الْعَصْر الَّذِي عرف الْبشر فِيهِ من سنَن الله تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاع البشري وَمن فَوَائِد النظام وَأَحْكَامه مَا لم يَكُونُوا يعْرفُونَ. . التّرْك العثمانيون والخلافة والتفرنج: كَانَ أَجْدَر الْمُسلمين بِالسَّبقِ إِلَى هَذَا رجال الدولة العثمانية، وَلَا سِيمَا الَّذين يُقِيمُونَ فِي الآستانة والرومللي من بِلَاد أوروبة، يشاهدون تطور شعوبها وترقيهم فِي الْعُلُوم والفنون والنظام، وَلَكِن دولتهم لم تكن دولة عُلُوم وفنون. . لِأَنَّهُ لم يكن لَهُم لُغَة علمية مدونة قَابِلَة لذَلِك إِلَّا فِي أثْنَاء الْقرن الْمَاضِي. . وَلم يكن يتَعَلَّم عُلُوم

إحياء الجنسية الطورانية

الْإِسْلَام مِنْهُم إِلَّا قَلِيل من المقلدين، وَلِهَذَا جعلُوا سلطة سلاطينهم شخصية مُطلقَة. حَتَّى بعد تحليتهم بلقب الْخلَافَة، فَلَمَّا صَارُوا يدرسون تَارِيخ أوروبة وقوانينها، وثوراتها على حكوماتها لإِزَالَة استبدادها، ظنُّوا أَنه لَا سَبِيل لتقييد استبدادهم وَمنع ظلمهم إِلَّا بتقليد أوروبة فِي شكل حكوماتها الملكية الْمقيدَة، ثمَّ رجحوا فِي هَذَا الزَّمن الجمهورية لأَنهم رَأَوْا أَن جعل السُّلْطَان مقدسا غير مسئول كَمَا قرروه فِي قانونهم الأساسي لم يَفِ بالغرض، وَلَو درسوا الشَّرِيعَة دراسة استقلالية كَمَا يدرسون القوانين لوجدوا فِيهَا مخرجا أوسع وَأفضل من القانون الأساسي السَّابِق، وَمن الْخلَافَة الروحية وحكومة الجمعية الوطنية الْحَاضِرَة. أسس مدحت باشا وأعوانه الدستور العثماني فمزق السُّلْطَان عبد الحميد شملهم وداس دستورهم مُدَّة ثلث قرن كَانَ فِيهَا الْحَاكِم الْمُطلق الَّذِي لَا راد لأَمره، وَلَا معقب لحكمه، وَالشَّرْع والقانون تَحت إِرَادَته، منتحلا لنَفسِهِ مَا اخْتصَّ بِهِ رب الْعِزَّة نَفسه دون خلقه، بقوله تَعَالَى {لَا يُسئل عَمَّا يفعل وهم يُسئلون} وَالنَّاس فِي المملكة العثمانية ومصر وتونس والهند يَقُولُونَ: قَالَ الْخَلِيفَة الْأَعْظَم وَفعل الْخَلِيفَة الْأَعْظَم، فَإِن قَالَ أحد العثمانيين المظلومين فِي أنفسهم وَفِي أمتهم ووطنهم، إِنَّه أَسَاءَ وظلم، لعنوه وحكموا عَلَيْهِ بالخيانة أَو بالْكفْر، فَكَانَ هَذَا سَببا لاعتقاد هَؤُلَاءِ المتفرنجين من التّرْك أَن منصب الْخلَافَة نَفسه عقبَة فِي طَرِيق مَا يَبْغُونَ من تَقْلِيد أوروبة فِي شكل حكوماتها الْمقيدَة، من حَيْثُ إِن الْخَلِيفَة يجب أَن يطاع مُطلقًا وَلَا يجوز أَن يعْصى، وَلَا أَن يُقيد بقانون، وَمن حَيْثُ إِن رياسته للدولة تجعلها مضطرة لمراعاة أَحْكَام الشَّرِيعَة الإسلامية فِي السياسة والإدارة وَالْقَضَاء والتعليم، وَإِلَى تعلم اللُّغَة الْعَرَبيَّة الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا فهم الشَّرِيعَة، وَهَذِه قيود تنَافِي مَا يَبْغُونَ تَقْلِيد الإفرنج فِيهِ لاستقلال أمتهم التركية، بِجعْل سلطتها فِي الحكم والدولة لَهَا، لَا تتقيد فِيهِ بِقَيْد مَا من شَرِيعَة أُخْرَى، وَلَا لُغَة أُخْرَى، وَهُوَ مَا يعبرون عَنهُ " بالحاكمية الملية ". . إحْيَاء الجنسية الطورانية: عزم هَؤُلَاءِ المتفرنجون على إحْيَاء الجنسية التركية الطورانية وَجعلهَا مُسْتَقلَّة أتم الِاسْتِقْلَال فِي الحكم والتشريع، والعقائد والآداب، غير مُقَيّدَة فِيهِ بِقَيْد مستمد من أمة أُخْرَى، بل أَقُول بلغَة صَرِيحَة نصيحة: غير مقيدين فِيهِ بالشريعة الإسلامية

وسائل المتفرنجين لإماتة الدين

وَلَا بِالدّينِ الإسلامي، وَقد مهدوا لَهُ السَّبِيل بِمَا ألغوا لَهُ من الْكتب والرسائل، وَوَضَعُوا لَهُ من الأناشيد والقصائد، وواتتهم السلطة الإتحادية على ذَلِك، وَلَكِن عارضهم فِيهِ جُمْهُور الشّعب التركي الَّذِي يُرِيدُونَ هَذَا لَهُ وَبِه وَفِيه، وَهُوَ شعب متدين بِالْإِسْلَامِ، وسلطانه يعْتَرف لَهُ أَكثر مُسْلِمِي الأَرْض بِأَنَّهُ خَليفَة النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فوجدوا أَن لدولتهم بِهِ نفوذا روحيا فِي هَذِه الشعوب الإسلامية قد جعل لَهَا مكانة خَاصَّة لَدَى الدول الْكُبْرَى فِي سياستها، لَهُ فَائِدَة من جِهَة وغائلة من جِهَة أُخْرَى، فَإِن هَذِه الدول تضطر إِلَى مراعاتها فِي بعض الْأُمُور لكيلا تهيج عَلَيْهَا رعاياها الْمُسلمين باتهامها بعداوة دولة الْخلَافَة، وَتقبل مِنْهَا كل عذر تعتذر بِهِ عَن بعض مَا يُرَاد مِنْهَا بِأَنَّهُ مَا لَا يُسْتَطَاع صدوره من خَليفَة الْمُسلمين، وَلِهَذَا السَّبَب نَفسه تجمع على عَدَاوَة هَذِه الدولة والكيد لَهَا، وَالسَّعْي لإضعافها أَو إعدامها لتستريح من تَأْثِير منصب الْخلَافَة فِي رعاياها الْمُسلمين. . وَلِهَذَا فَشَا فِي هَؤُلَاءِ المتفرنجين الِاعْتِقَاد بِأَن ضَرَر الْخلَافَة عَلَيْهِم، أكبر من نَفعه لَهُم، ثمَّ تزلزل هَذَا الِاعْتِقَاد عِنْد بَعضهم مُنْذُ حَرْب طرابلس الغرب إِلَى الْآن، وَقد كَانَ الاتحاديون على تهورهم بَين إقدام وإحجام للفصل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَجعل السِّيَادَة الطورانية فَوق سيادة الْإِسْلَام. وَسَائِل المتفرنجين لإماتة الدّين: تعَارض الْمَانِع والمقتضى، فاتخذوا لإِزَالَة الْمَوَانِع وَسَائِل (مِنْهَا) بَث الْإِلْحَاد والتعطيل فِي الْمدَارِس الرسمية وَلَا سِيمَا العسكرية وَفِي الشّعب جَمِيعًا، وألفوا لذَلِك كتبا ورسائل بأساليب مُخْتَلفَة (وَمِنْهَا) تربية النابتة الحديثة فِي الْمدَارِس وَفِي الْجَيْش على العصبية الجنسية، وإحلال خيالها مَحل الوجدان الديني بجعلها هِيَ الْمثل الْأَعْلَى للْأمة، وَالْفَخْر برجالها المعروفين فِي التَّارِيخ وَإِن كَانُوا من المفسدين المخربين، بَدَلا من الْفَخر بِرِجَال الْإِسْلَام من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَغَيرهم من السّلف الصَّالِحين، وَلَهُم فِي ذَلِك أشعار وأناشيد كَثِيرَة يتَغَنَّى بهَا التلاميذ والجنود وَغَيرهم (وَمِنْهَا) التدرج فِي محو كل مَا هُوَ إسلامي فِي أَعمال الْحُكُومَة، وإضعاف سلطة المشيخة الإسلامية، حَتَّى إِنَّهُم سلبوا مِنْهَا الرياسة على المحاكم الشَّرْعِيَّة، وَوَضَعُوا قانونا للْأَحْكَام الشخصية (وَمِنْهَا) إضعاف التَّعْلِيم الديني حَتَّى إِنَّهُم حددوا عدد من يتَخَرَّج فِي

منتهى سلطة الخليفة وشيخ الإسلام

الْمدَارِس الدِّينِيَّة فجعلوه قَلِيلا لَا يَكْفِي للمحافظة على الدّين وَالشَّرْع، (وَمِنْهَا) جعل الْخلَافَة والسلطنة مظْهرا مؤقتا لَا أَمر لصَاحبه وَلَا نهي، وَلَكِن يُسْتَفَاد من اسْمه، فِي تَنْفِيذ مَا لَا يقبله الْجُمْهُور من غَيره، حَتَّى شاع أَنهم كَانُوا يصدرون الإرادات السّنيَّة بإمضاء السُّلْطَان مُحَمَّد رشاد وَهُوَ لَا يدْرِي (وَمِنْهَا) إِفْسَاد الْآدَاب والأخلاق الإسلامية بِالْعَمَلِ فأباحوا للنِّسَاء التركيات هتك الْحجاب والتبرج والتهتك، بل أباحوا لَهُنَّ الْبغاء وَكَانَت إِبَاحَته مَقْصُورَة من قبل على غير المسلمات. . وَقد حَدثنِي الْأَمِير شكيب أرسلان فِي (جنيف سويسره) عَن طلعت باشا الصَّدْر الْأَعْظَم أَن عاهل الألمان لما زار الآستانة فِي أثْنَاء الْحَرْب وَرَأى النِّسَاء التركيات سافرات متبرجات عذله على ذَلِك وَذكر لَهُ مَا فِيهِ من الْمَفَاسِد الأدبية والمضار الاقتصادية الَّتِي تَئِنُّ مِنْهَا أوربة وتعجز عَن تلافيها. . وَقَالَ لَهُ: إِن لكم وقاية من ذَلِك كُله بِالدّينِ أفتزيلونها بِأَيْدِيكُمْ؟ مُنْتَهى سلطة الْخَلِيفَة وَشَيخ الْإِسْلَام: لم يكن منصب الْخلَافَة الَّذِي يتحلى بلقبه السُّلْطَان مَانِعا للاتحاديين من عمل من الْأَعْمَال الَّتِي تهدم الدّين وتمحو أَثَره من الدولة ثمَّ من الْأمة؛ لِأَن الْخلَافَة لم تكن إِلَّا لقبا رسميا لَهُ بعض من التَّأْثِير فِي خَارج الدولة كاحترام الدول لَهُ وَتعلق مُسْلِمِي رعاياها وَمن تَحت نفوذها مِنْهُم بِهِ، أما دَاخل الدولة بل الدولة نَفسهَا، فَلم يكن للخليفة فِيهَا ديوَان خَاص ذُو نظام وتقاليد يَسْتَعِين بِهِ الْخَلِيفَة على شئ من أَعمال الْحُكُومَة فِي إِقَامَة الشَّرْع والمحافظة على الدّين، وَالنَّظَر فِي مصَالح الْمُسلمين. . لم يكن فِي (المابين الهمايوني) مستوى الْخَلِيفَة السُّلْطَان شئ من هَذَا. . وَإِنَّمَا كَانَ يُوجد فِي الوزارة عُضْو يُسمى شيخ الْإِسْلَام، وَله دَار تسمى (بَاب المشيخة الإسلامية) هِيَ مقرّ رجال الْفَتْوَى وإدارة المحاكم الشَّرْعِيَّة وإدارة التَّعْلِيم الديني. . وَلَكِن المشيخة الإسلامية بلغت من الضعْف أَن صَارَت عاجزة عَن حفظ هَذِه الْمصَالح الْخَاصَّة بهَا، فَلم يقدر شيخ الْإِسْلَام أَن يمْنَع الْحُكُومَة الاتحادية من سلب المحاكم الشَّرْعِيَّة مِنْهُ وَجعلهَا تَابِعَة للعدلية (الحقانية) وَلَا من التَّضْيِيق على التَّعْلِيم الديني، فَهَل يقدر على منعهَا من إِبَاحَة الزِّنَا للمسلمات، أَو غَيرهَا من تِلْكَ

ضعف ما عدا العسكرية في الدولة

الموبقات؟ وأهم أَسبَاب هَذَا الضعْف أَن المشيخة لم تكن إِلَّا مصلحَة رسمية لم تعن فِي يَوْم من الْأَيَّام بشئ من خدمَة الدّين الروحية الَّتِي تجْعَل لَهَا سلطة معنوية فِي الشّعب الإسلامي فِي دَاخل المملكة وَلَا خَارِجهَا، ليَكُون لَهَا من قوته الدِّينِيَّة مَا تهابه الْحُكُومَة وتخشاه فتؤيد بِهِ نفوذها، ونفوذ الْخَلِيفَة الَّذِي ترك الْأُمُور الدِّينِيَّة والمصالح الإسلامية لَهَا. . ضعف مَا عدا العسكرية فِي الدولة: الْحق أَقُول إِن الدولة العثمانية، قد بَرحت بهَا الأدواء الاجتماعية، والدسائس والتعاليم الْأَجْنَبِيَّة، حَتَّى أوهنت جَمِيع قواها المادية والمعنوية، فَلم يبْق فِيهَا إِلَّا الْقُوَّة الحربية، المتمتعه بِشَيْء من النظام وَالسِّلَاح العصري، فَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يحدث فِيهَا انقلابا مَا إِلَّا بِقُوَّة الْجَيْش، عرف ذَلِك الاتحاديون فعملوا بِهِ مَا عمِلُوا، وأساءوا بِهِ حَتَّى قضوا على هَذِه السلطة (الإمبراطورية) وَصدق قَوْلنَا فيهم عِنْد سلب حزب الائتلاف السلطة مِنْهُم: " فَإِن عَادوا كرة ثَانِيَة، كَانَت هِيَ القاضية ". . مَا نقترحه على التّرْك فِي مَسْأَلَة الْخلَافَة: هَذَا وَإِن الله تَعَالَى قد وفْق هَذِه الْقُوَّة العسكرية الهادمة، بِمَا كَانَ من تِلْكَ السياسة الجاهلة الظالمة، إِلَى إنقاذ جلّ الْبِلَاد التركية، من براثن الدول الأوروبية، بعد أَن نشبت فِيهَا، وَكَاد يتم يأس الْعَالم كُله مِنْهُ، وألفوا حُكُومَة جمهورية تركية، قررت مَا قررت فِي مَسْأَلَة الْخلَافَة الإسلامية، فَالَّذِي نرَاهُ بعد طول الروية، وَالنَّظَر فِي الْمَسْأَلَة من الوجهتين الإسلامية والاجتماعية أَن مَا قرروه بادئ الرَّأْي يجب أَن يكون تدبيرا مؤقتا، لَا أمرا مبرما مُؤَبَّدًا، وَأَن تتْرك السلطة العسكرية أَمر الْحُكُومَة بعد الصُّلْح، إِلَى مجْلِس منتخب من الشّعب، ينتخبه بحريّة حَقِيقَة، لَا سيطرة عَلَيْهَا للحكومة وَلَا للجندية، وَأَن يتْرك أَمر الْخلَافَة إِلَى الشعوب الإسلامية كلهَا، والحكومات المستقلة وَشبه المستقلة مِنْهَا، وَأَن يؤلف لَهُ لجنة أَو جمعية مختلطة حرَّة مركزها الآستانة، تدرس كل مَا يَكْتُبهُ وَمَا يقترحه أهل الْعلم والرأي فِي الْمَسْأَلَة، وَيكون ذَلِك تمهيدا لعقد مؤتمر إسلامي يعْقد بعد الصُّلْح بِسنة أَو أَكثر من سنة. .

ونرى أَن تؤلف الْحُكُومَة التركية الْعليا لجنة أُخْرَى للبحث فِيمَا يجب أَن تكون عَلَيْهِ علاقتها مَعَ الْأمة الْعَرَبيَّة، وَمَعَ غَيرهَا من الشعوب الإسلامية، وَمَا يُمكن أَن تفيدها وتستفيد مِنْهَا بمكانتها العسكرية والمدنية والدينية، وَأَن يكون أَعْضَاء اللجنتين أَو بعض أعضائهما من أَرْكَان مؤتمر الْخلَافَة هم الَّذين يضعون برنامجه، ويقررون نظامه، بعد تمحيص مَا يجمعونه من الآراء والمعلومات فِي كل مَا يتَعَلَّق بِالْمَسْأَلَة. . وَقد تناقلت الجرائد أَن حُكُومَة أنقرة ستشاور الْعَالم الإسلامي فِي الْخلَافَة , وَلَكِن الشورى الصَّحِيحَة النافعة لَا تتمّ إِلَّا بالنظام، وَحسن الِاخْتِيَار من الْأَفْرَاد والأقوام، فَعَسَى أَن يخْتَار لكل لجنة أَهلهَا من أولي النَّهْي، وَأَن توفق كل مِنْهَا لتحقيق الْحق فِي عَملهَا، وَأَن يَنْتَهِي ذَلِك باقتناع أهل الْحل وَالْعقد من التّرْك، ببذل نفوذهم لإِقَامَة الْإِمَامَة الْحق، لإِصْلَاح مَا أفسدت جَهَالَة الْمُسلمين ومادية الأوربيين فِي الأَرْض، فقد اسْتَدَارَ الزَّمَان، واشتدت حَاجَة الْبشر إِلَى إصْلَاح الْقُرْآن، وضعفت مُعَارضَة المقلدة الجامدين، وَظهر ظرر عصبية الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وضلال الإفرنج والمتفرنجين، فطوبى للمجددين المصلحين \، وويل للمقلدين المغرورين، وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين. {إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} {ولتعلمن نبأه بعد حِين}

§1/1