الخلاصة في معرفة الحديث

الطيبي

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي، هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن علم الحديث من العلوم التي انفرد بها المسلمون، وجاءوا فيها بما لم تأت بمثله أمة من الأمم إلى يوم الناس هذا، حتى قال قائلهم «ليفتخر

المسلمون بعلم حديثهم ما شاءوا» (¬1)، ولقد شرف هذا العلم؛ لالتصاقه بصاحب الوحي - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا العلم إنما يُعنى بدراسة ما يُنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقوال أو أفعال؛ لأن ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة القرآن في الهَدْي، لأنه هو البيان عن القرآن، فيه تفصيل ما أجَمَل القرآن، وإيضاح ما أَبهم، واستثناء ما استثناه الله، وزيادة ما زاده الله بالوحي إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كل ذلك يتعلق بكل كبيرة وصغيرة في حياة الفرد المسلم، وفي حياة الجماعة، وفي روابط هذه الجماعة، وروابطها بغيرها من الجماعات (¬2). ولذا فقد أفرغ أهل العلم جهدهم ووقتهم في التَّقعِيد والتَّنظِير لهذا العلم الشريف. وكان من بين هؤلاء، الإمام العلامة أبو محمد الحسين بن عبد الله بن محمد الطِّيِبِي الدمشقي، صاحب كتابنا هذا، الذي نحن بصدد تحقيقه والتعليق عليه، وقد جاء كتابه هذا كما يقولون "اسم على مسمى" فهو بحق خلاصة هذا العلم الشريف. فإنه قد أودع فيه عصارة ما صُنِّف في هذا الفن، كما ذكر في مقدمته لهذا الكتاب، ألا وهي مقدمة ابن الصلاح، والتقريب للنووي، والمنهل الروي لابن جماعة، وأضاف إليهم من مقدمة كتاب جامع الأصول لابن الأثير، ¬

(¬1) نقله العلامة المعلمي اليماني، عن المستشرق، مرجليوث، في مقدمة تحقيقه لكتاب الجرح والتعديل. (¬2) اقتباس من كلام أديب العربية الشيخ أبي فهر محمود محمد شاكر رحمه الله في كتابه ... (أباطيل وأسمار، ص 191) بتصرف.

التعريف بالكتاب وأهميته

فجاء بمصنَّف رائع، ليس بالمختصر المخل، ولا بالمسهب الممل، وهو مناسب جدًا لجمهرة طلبة هذا العلم الشريف، على اختلاف طبقاتهم ومراحلهم العلمية. كيف لا؟ وقد عاش المصنف في أقوى فترات التصنيف والإنتاج العلمي ... إنه القرن الثامن، الذي قُدِّر أن تحيى فيه كوكبة عظيمة من أئمة أهل السنة والجماعة. منهم على سبيل المثال: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الفذ ابن قيِّم الجوزية، وابن عبد الهادي، والمِزي، والبِرْزَالي، وابن كثير وشمس الدين الذهبي، وغيرهم، عليهم جميعًا رحمة الله تعالى. التعريف بالكتاب وأهميته: (1) تسمية الكتاب: كتب محقق النسخة المطبوعة على طرة الكتاب "الخلاصة في أصول الحديث". وقد سمَّاهُ مُصَنِّفُهُ "الخلاصة في معرفة الحديث"، كما جاء في مقدمته للكتاب كما في النسخة الأزهرية التي اعتمدناها، ونسخة مركز ودود التي اعتمدناها أيضا، وأيضا في نسخة آيا صوفيا، والتي وضع محقق المطبوعة صورة طرتها وصورة أول صفحة منها - والتي بها مقدمة المصنف - في مقدمته للكتاب، وأيضا العنوان على طرة آيا صوفيا؛ كما ذكرناه، والله أعلم بالصواب

(2) موضوعه ومشتملاته

(2) موضوعه ومشتملاته: ولقد عجبت من عدم شهرة هذا الكتاب في الآونة الأخيرة، على الرغم من أهميته، كما ذكرنا، بل لأهمية هذا الكتاب، استفاد منه المصنفون بعده مابين ناقل، ومختصر، وغير ذلك. فقام بتلخيص هذا الكتاب الإمام أبو الحسن الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816 هـ، في كتابه المعروف؛ بمختصر الجرجاني. وقد طُبع هذا المختصر بتحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم، في دار الدعوة بالإسكندرية. ثم أخرجه في طبعة أخرى؛ الدكتور علي زوين، في دار الرشد بالرياض. وقام بشرح هذا المختصر؛ الإمام أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي المتوفى سنة 1304 هـ سماه "ظَفر الأماني في مختصر الجرجاني". وقام بتحقيقه الدكتور تقي الدين الندوي. ثم حققه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ونقد طبعة الندوي. ومن الذين استفادوا من الخلاصة ونقلوا عنها الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، في كتابه القيم "تدريب الراوي". وأيضا الأمير الصنعاني في كتابه "توضيح الأفكار". كما استفاد منه الإمام اللكنوي ونقل عنه في كتابه "الرفع والتكميل"

وغيرهم. ولعل السبب في عدم شهرة هذا الكتاب وعزوف المتأخرين عنه، هو عدم خروجه في صورة حسنة. فإني قد وقفت على الطبعة التي بين يدي الناس من هذا الكتاب، والتي قام بتحقيقها الشيخ صبحي السامرائي، فوجدت فيها كثيرًا من الأخطاء، ما بين تصحيف وتحريف وسقط، ذلك مما يخل بالمعنى في كثير من المواضع، وربما كان ذلك من أخطاء الطباعة، كما أن كثيرا من نصوصه لم توثق بالعزو إلى مصادرها، التي صرح المصنف بها أو التي لم يصرح بها، وهذا ما حرصت على تلافيه في تحقيقي للكتاب. وقد وقفت على طبعتين لهذا التحقيق؛ الأولى في رئاسة ديوان الأوقاف العراقية، والثانية في دار عالم الكتب، فلم أجد بينهما أي اختلاف يذكر. فاستخرت الله عز وجل على تحقيق هذا الكتاب، وذلك بعد مشاورة شيخنا العلامة الدكتور أحمد معبد عبد الكريم، أمد الله بقاءه في الخير، فشجعني على ذلك وأمدني بما أحتاج من مراجع، ولم يبخل علي بنصيحته وتوجيهه فجزاه الله خيرًا.

وصف النسخ الخطية

وصف النسخ الخطية: اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب: أولا على مخطوطة المكتبة الأزهرية، والتي تُعد من أقيم المخطوطات لهذا الكتاب. وهي نسخة لا تكادُ تخطئ، إلا في النادر، وهي مكتوبة بخط نسخ عادي ومضبوطة بالشكل في مواضع كثيرة من الكتاب. وتقع هذه النسخة في تسع وخمسين ورقة، وجهان في كل ورقة، عدا الأخيرة فوجه واحد، ومسطرتها زهاء خمسة عشر سطرًا، وعدد كلمات السطر زهاء اثنتا عشرة كلمة، هذا وقد كُتِب في حاشية آخر ورقة منها وبخط يختلف عن خط الناسخ "نصف الجمادى الآخر سنة 883"، كذا بالأرقام، وقد جرت عادة ناسخ هذا الكتاب من أوله إلى آخره أن يكتب الأرقام بالحروف العربية، هذا وعلى النسخة كثير من الحواشي والتعليقات، وقد ذكرت منها ما ظننت أنه يفيد القارئ، وهو في صلب الموضوع، وأعرضت عن ذكر كثير منها، مما لم أرى فيه كبير فائدة، وقد اصطلحنا لها الرمز (ز). ثانيا على نسخة أتحفني بها الشيخ الفاضل والمحقق الباذل الشيخ أبو عبد الله حسين بن عكاشة حفظه الله، وهي من مصورات مركز ودود للمخطوطات وتقع ضمن مجموع، من صفحة ثمان وعشرين إلى صفحة اثنين

عملي في الكتاب

وستين، أي في ثلاثة وثلاثين ورقة، وجهان في كل ورقة، ومسطرتها زهاء خمس وعشرين سطرًا، وعدد كلمات السطر؛ زهاء اثنتا عشرة كلمة، وكُتِبت بخط فارسي جميل، وهي موافقة إلى حد كبير لنسخة الأزهرية سالفة الذكر ولا يوجد عليها تاريخ النسخ، وبها كثير من الحواشي، ذكرت منها ما ظننت أنه يفيد القارئ، وأعرضت عن ذكر الكثير منها، ممالا أجد تحته كبير فائدة، وقد اصطلحنا لها الرمز (د). هذا وإتماما للفائدة بقدر الممكن والمستطاع؛ فإني قد استفدت من نسخة آيا صوفيا التي اعتمد عليها محقق المطبوعة، وذلك من الورقتين اللتين أوردهما في مقدمة تحقيقه، وهما الورقة الأولى، والورقة الأخيرة، سيما وهذه النسخة كتبت في حياة المؤلف رحمه الله، فهي من الأهمية بمكان. عملي في الكتاب: قابلت المخطوطتين، على المطبوعة سالفة الذكر، فأثبت الفروق بينهما ... وتركت الإشارة إلى كثير من أخطاء المطبوعة، خشية الملل، إلا أني نبهت على جميع مواضع السقط في أماكنها من الكتاب. بعد ذلك قمت بقراءة النص بعناية، وعزوت كل نقل إلى قائله بقدر الطاقة وطابقت هذا النقل بمصدره لأتأكد من صحته، فإن المصنف رحمه الله كثيرًا ما ينقل بتصرف.

وقمت أيضًا بالترجمة لكثير من الأعلام الذين ذكروا في أثناء الكتاب. هذا وقد عرضت عملي هذا على فضيلة الدكتور أحمد معبد عبد الكريم حفظه الله تعالى، فأثنى عليه خيرًا. وسيجد المطالع لهذا الكتاب أن تعليقاتي قليلة. ولقد وددت أن لا يكون لي تعليقات على الكتاب أصلا، ولكن هذا ما دعت إليه الضرورة. وذلك لما تعلمناه من شيوخنا المحققين: كالعلامة الدكتور أحمد معبد؛ رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، والأستاذ الكبير عصام محمد الشَّنْطِي؛ المدير الأسبق لمعهد المخطوطات العربية، والدكتور أحمد شوقي بنبين؛ رئيس الخزانة العامة الملكية للمخطوطات بالرباط. تعلَّمنا منهم أن التحقيق؛ هو إخراج النص المُحَقَّق كما أراده صاحبه، يوم قام بتأليفه، وأنا كتبت على طرة الكتاب "كتاب فلان بتحقيق وتعليق فلان" ولم أكتب "كتاب فلان بحاشية فلان"، فحين أكتب تحقيق فلان، عليَّ إذن ألا أخرج عن هذا المعنى، ولقد رأيت من حقق كتابًا، كان في طبعته القديمة في مجلد واحد، فحققه؛ فخرج في عشرة مجلدات!!! ولا أريد أن أخوض في هذا الموضوع؛ فإن الكلام فيه ذو شجون، ولعله يكون له موضع آخر إن شاء الله.

وأخيرًا، أعددت فهرسًا علميًا للكتاب. ثم إني لا أنسى في هذا المقام، أن أتقدم بالشكر لكل من عاونني في إخراج هذا الكتاب. وأخص بالذكر منهم وعلى رأسهم؛ فضيلة شيخنا العلامة الدكتور ... أحمد معبد عبد الكريم، والذي كان له الفضل في كل ذلك. وأثني بشيخي الفاضل؛ الشيخ أبو معاذ طارق بن عوض الله، والذي كان له أكبر الفضل علي في فهم هذا العلم الشريف، والذي مارست التحقيق في مكتبه وتحت إشرافه، في أول أمري، مستفيدا من علمه وخبرته الطويلة، فجزاه الله خيرًا. كما أتقدم بالشكر للشيخ عماد الدين عباس والذي أحاطني بنصائحه وإرشاداته. وأيضًا أتقدم بالشكر للحاج المهندس محمد يوسف والذي ما بخل علي أبدًا لا بنصح ولا مراجع، فله عليَّ يَدٌ، يجزيه الله بها. وآخرين يضيق المجال عن ذكرهم جميعًا، أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ولهم، ويتجاوز عنا وعنهم. وإنه لمن نافلة القول، أن أذكر أننِي لا أدعي العصمة لنفسي بل إن الله عز وجل، أبى أن يكون كتابٌ صحيحًا غيرُ كتابه، ولكن حسبي أنِّي قد بذلت الوسع، في إقامة هذا النص.

فإن كان خيرًا، فبتوفيق الله وحده ورأفته بضعف عبده، وإن كان غير ذلك فبذنوبي وتقصيري وجهلي، كيف لا وقد رضعنا هذا العلم بثدي من العجز وثدي من التقصير. فأسأل الله تبارك وتعالى أن يعفو عني، وأن يتجاوز عن زلاتي، وأن يجعل عملي هذا خالصًا لوجه الكريم، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. وكتبه راجي عفو ربه الكريم أبو عاصم الشَّوامي محمد بن محمود بن إبراهيم لست ليال خلت من ذي الحجة من عام تسع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -

ترجمة المصنف

ترجمة المصنف (¬1) هو الإمام العلم، أبو محمد (¬2) الحسين بن محمد بن عبد الله الطِّيْبِي (¬3)، الإمام المشهور، صاحب شرح المشكاة وغيره. قرأت بخط بعض الفضلاء (¬4): وكان ذا ثروة من الإرث والتجارة، فلم يزل ينفق ذلك في وجوه الخيرات إلى أن كان في آخر عمره فقيرًا، قال وكان كريمًا متواضعًا حسن المعتقد شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة، مظهرًا فضائحهم مع استيلائهم في بلاد المسلمين حينئذ، شديد الحب لله ورسوله، كثير الحياء، ملازمًا للجماعة ليلاً ونهارًا شتاءًا وصيفًا، مع ضعف بصره بآخرة، ملازمًا لأشغال الطلبة في العلوم الإسلامية بغير طمع، بل يعينهم، ويعير الكتب النفيسة لأهل بلده، وغيرهم من أهل البلدان ممن يعرف وممن لا يعرف. محبًا لمن عُرف منه تعظيم الشريعة، مقبلاً على نشر العلم، آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن. ¬

(¬1) استقيت جل هذه الترجمة من كتاب الدرر الكامنة لابن حجر، والبدر الطالع للشوكاني وكشف الظنون لحاجي خليفة. (¬2) لم أقف على هذه الكنية عند من ترجموا للإمام الطيبي رحمه الله، وإنما أفدتها من صفحة عنوان نسخة آيا صوفيا والتي كتبت في حياة المصنف رحمه الله. (¬3) هذه النسبة بالطاء المكسورة، والياء الساكنة المنقوطة من تحتها بنقطتين، والباء المنقوطة من تحتها بنقطة إلى " طِيْب " وهي بلدة بين واسط، وكور الأهواز مشهورة، وينظر الأنساب للسمعاني (8/ 289). (¬4) القائل هو ابن حجر، كما في الدرر الكامنة.

مصنفاته

شرح الكشَّاف شرحًا كبيرًا، وأجاب عما خالف مذهب أهل السنة أحسن جواب، يعرف فضله من طالعه، وصنَّف في المعاني والبيان؛ التبيان وشرحه وأمر بعض تلامذته باختصاره، على طريقةٍ نهجها له، وسماه المشكاة وشرحها هو شرحًا حافلاً، ثم شرع في جمع كتاب في التفسير، وعقد مجلسًا عظيمًا لقراءة كتاب البخاري، فكان يشتغل في التفسير من بكرة إلى الظهر، ومن ثَمَّ إلى العصر لإسماع البخاري، إلى أن كان يوم مات فإنه فرغ من وظيفة التفسير، وتوجه إلى مجلس الحديث، فدخل مسجدًا عند بيته فصلى النافلة قاعدًا وجلس ينتظر الإقامة للفريضة؛ فقضى نحبه متوجهًا إلى القبلة وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان سنة 743 هـ. مصنفاته: • "التبيان في المعاني والبيان" وهو مختصر مشهور، أوله: (الحمد لله الذي أشرقت سنا محامده. . . الخ) ثم شرحه: تلميذه: علي بن عيسى وسماه: (حدائق البيان). • "فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب" في ست مجلدات ضخام وهو حاشية على كشاف الزمخشري، وهي من أجل حواشيه كما ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون. قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل الشروع، أنه ناولني قدحًا من اللبن وأشار إلي فأصبت منه ثم ناولته - صلى الله عليه وسلم - فأصاب منه.

• "الكاشف عن حقائق السنن" أوله: (الحمد لله مشيد أركان الدين الحنيف. . . الخ) قال: وكنت قبل قد استشرت الأخ في الدين، بقية الأولياء، قطب الصلحاء، ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب، بِجَمْعٍ، في جمع أصل من الأحاديث فاتفق رأينا على: " تكملة المصابيح " وتهذيبه وتعيين رواته، فما قصر فيما أشرت إليه من جمعه فبذل وسعه، فلما فرغ من إتمامه، شمرت عن ساق الجد في شرح معضله، بعد تتبع الكتب، وسلكت في النقل منها طريق الاختصار، وكان جُل اعتمادي وغاية اهتمامي بشرح مسلم للنووي؛ لأنه كان أجمعها فوائد وأكثرها عوائد. • "كتاب الخلاصة في معرفة الحديث" وهو كتابنا هذا.

صور المخطوطات

صور المخطوطات

أنموذج من مصورة النسخة الأزهرية والمشار إليها بـ (ز)

أنموذج من مصورة مركز ودود والمشار إليها بـ (د)

الخلاصة في معرفة الحديث تصنيف شرف الدين أبي محمد الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي الدمشقي المتوفى 743 هـ حقق وعلق عليه أبو عاصم الشوامي الأثري

بسم الله الرحمن الرحيم رب سهِّل (¬1) الحمدُ لله عَلى أَفضَالِه، ونَسألُه المَزيدَ مِن نعمهِ ونوَالِه، وصلَّى الله على محمدٍ وآله، الَّلهم كما زِدتَنا نِعمًا، فألهِمنا شكرًا، وبعد. فهذه جُمَلٌ في معرفة الحديث، مما لا بُدَّ منه للطَّالب، لا سيَّما مَن تَصدَّى للتَّحديث. لَخصْتهُ من كتاب الإمام مُفتي الشَّام شيخ الإسلام ابن الصَّلاح (¬2)، ومُختَصر الإمام المُتقن مُحيي الدين النَّواوي (¬3)، والقاضي بدر الدين يُعرَف (¬4) بابن جماعة (¬5) - رضي الله عنهم -. ¬

(¬1) قوله "رب سهل" ليس في (د)، وفي (ز) "وبه نستعين"، والمثبت من آيا صوفيا. (¬2) هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشهرزوري تقي الدين المعروف بابن الصلاح، المتوفى سنة 643 هـ ينظر ترجمته في وفيات الأعيان 3/ 243، وكتابه المشهور " بمقدمة ابن الصلاح " طبع مرارًا. (¬3) هو الإمام محيي الدين، أبو زكريا، يحيى بن شرف المُري الحِزَامي النووي الشافعي شيخ المذهب في زمانه المتوفى سنة 676 هـ ينظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى (9/ 395) وكتابه هو المعروف "بالتقريب والتيسير" والذي كان اختصره من كتاب "الإرشاد" له أيضا ... وكلاهما طبع. (¬4) في (ز) المعروف، والمثبت من (د)، ونسخة على (ز)، وآيا صوفيا. (¬5) هو الإمام بدر الدين أبو عبد الله شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الشافعي توفي في سنة 733 هـ ينظر ترجمته في الدرر الكامنة (3/ 367) وكتابه هو المعروف " بالمنهل الروي " طبع.

فهذَّبته تهذيبًا ونقَّحتُه تَنقيحًا ورَصَّفته تَرصِيفًا أَنيقًا. فوضعت كلَّ شيء في مَصبِّه ومَقرِّه، وأَضفتُ إلى ذلك زِيادَاتٍ مُهمَّة من جَامِع الأُصُول (¬1)، وغَيرِه (¬2). وأَسألُ اللهَ أن يَنفعَ الطَّالبينَ بِه، ويَهديَهُم سَبيلَ الرَّشادِ ويجعله خالصًا لِوجهِهِ الكَرِيم. وسَمَّيتُه بـ "الخُلاَصَةِ في مَعرفةِ الحَدِيث"، ورتَّبتهُ على مُقدِّمة ومَقَاصِدْ وخَاتِمَة. ¬

(¬1) "جامع الأصول من أحاديث الرسول " للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير صاحب التصانيف النافعة المتوفى سنة 606 هـ، وكتاب جامع الأصول؛ طبع. (¬2) ينظر فهرس مصادر المصنف الذي أعددناه في آخر الكتاب.

[مقدمة المؤلف]

المقدمة العِلمُ بَحَديثِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورِوَايَته من أشرف العلوم وأفضلها؛ لأنه ثاني أَدِلَّة علوم الإسلام، ومادة علم الأصول والأحكام، لا يرغب في نشره إلا كلُّ صادق تَقيٍّ، ولا يَزهَدُ في نَصرِه إلا كلُّ مُنافق شَقيٍّ. قال أبو نصر بن سلاَّم (¬1): ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سَماع الحديث وروايته وإسناده. ولهذا العلم أُصول وأحكام واصطلاحات وأوضاع، يحتاج طالبه إلى معرفتها ومدار هذه الأمور على المتون والأسانيد والسند (¬2)، وغيرها. الْمَتْنُ: هو ما اكتَنَف الصُّلب من الحيوان، وبه شُبِّه المتن من الأرض ومَتُنَ الشيء قَوِيَ مَتْنُهُ، ومِنه حَبْلٌ مَتِين، فَمَتْنُ كلِّ شيءٍ ما يَتَقَوَّمُ به ذلك الشيء ويَتَقَوَّى به، كما أن الإنسان يَتَقَوَّم بالظَّهر ويَتَقَوَّى به، فَمَتْنُ الحديث ألفاظه التي يَتقوَّم بها المعاني. واختُلِفَ في متن الحديث أهو قول الصَّحابي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا؟ أو هو مَقُولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَسْب؟ والأول أَظْهَر، لِمَا تَقَرَّر أنَّ السُّنة إِما قولٌ أو فعلٌ أو تَقْرِيرٌ، والسَّلف أَطْلَقُوا الحديث على أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان وآثارِهِم وفَتَاواهم. ¬

(¬1) كما في " معرفة علوم الحديث " (ص 35). (¬2) يظهر هنا تفرقة المصنف بين السند والإسناد وكلمة السند سقطت من المطبوعة وأثبتناها من (ز)، (د)، وهي كذلك في نسخة آيا صوفيا التي اعتمد عليها محقق المطبوعة.

والسَّنَدُ: إِخبَارٌ عن طَريقِ المَتنِ، من قولهم فُلانٌ سَنَد أَيْ مُعتَمَد، فسُمِّيَ سَندًا، لاعتماد الحُفَّاظ في صِحةِ الحَديثِ وضَعْفهِ عليه. والإِسنِاد: هو رَفعُ الحديث إلى قائِله. وقال عبد الله بن المبارك (¬1): الإسناد مِن الدِّين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فعلى هذا السَّنَدُ والإسناد، يتقاربان في معنى الاعتماد. والحَدِيثُ: ضِدُّ القَديم، لأنه يَحْدُث شيئًا فَشيئًا، ويُستَعمَل في قليل الكلام وكثيره، والكلام يُعنَى به تارةً القول الدَّال على المعنى، وأخرى المعنى القائم بالنَّفس، وهو قِسمان خَبرٌ وإنشَاء. الإنشاء: إيجاد معنى بلفظ يقارنه في الوجود (¬2). والخبر: هو كلام يُفيد بنفسه نسبة شيء إلى شيء في الخارج، والكلام يَشْمل المفيد وغيره؛ فقوله يفيد بنفسه يُخرج غيره، مثل قَائِمٌ في "زيدٌ قائم" وقولك الغلام الذي لزيد (¬3)، في قولك "الغُلام الَّذي لزيد فعل كذا وكذا"، وقوله في الخارج يخرج الإنشائيات. قال بعض الأُدبَاء: الإنشاءُ كَلامٌ لفظه سببٌ لِنسبةٍ غير مسبوقة بنسبة أخرى، فخرج الخبر، لأن لَفظَهُ وإن كان سببًا لنسبةٍ بها يَحصُل الكلام لكنها ¬

(¬1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 12)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 40). (¬2) هذا التعريف سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز). (¬3) قوله "لزيد" سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

مسبوقة بنسبة أخرى، هي حكاية عنها، فإن طابقتا؛ فالخبر صادق وإلا، فكاذب. والإنشاء ليس له نسبة أخرى، فإن المُتَكلِّم هو الذي يُحْدِث نِسبةً بها يَحْصُل الكلام؛ ولذلك لا يحتمل المطابقة، ولا عدمها؛ لأن المطابقة نسبة، وكل نسبة لا بُدَّ لها من منتسبين سابقين عليها (¬1). ¬

(¬1) اجتهدت فلم أقف على قائل هذا الكلام من الأدباء.

فروع

فروع الأول: الخَبَر إِمَّا صِدقٌ أو كَذِبٌ، ولا ثَالِثَ لهما على المختار، ومرجع الصِّدق والكَذِب إما إلى مطابقة الواقع، أو اعتقاد المُخبِر، أو إليهما جَميعًا كما بيَّن لك حَدَائق البَيَان في شرح التِّبيان (¬1). الثاني: الخبر قد يُعْلَم صِدقُهُ قَطعًا؛ كخبر اللهِ تَعَالى وخبر رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد يُعلم كَذِبه قطعًا؛ كخبر المُخالف لخبر الله تعالى، وقد يُظَنُ صِدقُه؛ كخبر العَدل، وقد يُظن كذبه؛ كخبر الفاسق، وقد يُشَكُ فيه؛ كخبر المجهول. الثالث: الخبر ينقسم إلى مُتَوَاتِر وآحَاد. والمتواتر: هو خَبرٌ بَلَغَت رُواته في الكثرة مَبْلغًا، أحالت العادة تَوَاطُؤهُم على الكذب؛ كالمخبرين عن وجود مكة وغزوة بدر (¬2). وله شرطان: الأول: أن يكون عِلمُهُم ضروريًا مُستَنِدًا إلى مَحسوُس، بأن يكون المُخبَر عنه محسوسًا، إذ لو أخبرونا عن حدوث العالم أو عن صِدْقِ الأنبياء أو عن ظَن لم يَحْصُل لنا العلم. الثاني: أن يستوي طرفاه والوَسَط في عدم تواطئهم على الكذب لِكَثرَتهم ¬

(¬1) هو شرح لكتاب التبيان في المعاني والبيان للمصنف، شرحه تلميذه، علي بن عيسى. (¬2) ينظر الإحكام للآمدي (2/ 26).

ويدوم هذا الحد، فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه؛ نحو القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات، ومقادير الزَّكَوَات، وما أشبه ذلك ولأجل ذلك لم يَحصُل لنا العِلم بِصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم أن مُوسَى - عليه السلام - كذَّبَ كلَّ نَاسِخٍ لِشَرِيعَتِه، ولا يُصدَّق الشِّيعة بنقل النص على إمامة علي - رضي الله عنه -، والبَكْرِيَّة على إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - لأن هذا وَضَعَه الآحاد أولاً، وأَفشُوه، ثم كثر الناقلون في عصره وبعده في الأعصار (¬1). قال ابنُ الصَّلاح (¬2): مَن سُئل عن إِبراز مثال لذلك فيما يُروى من الحديث أعياه طلبه، وحديث "إِنْمِا الأَعْمَالُ بِالنيَّات" ليس من ذلك وإن نقله عدد التواتر وزيادة؛ لأن ذلك طَرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجد في أوائله (¬3). نعم حديث "مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوأ مَقْعَده مِنَ النَّار" نراه مثالا لذلك فإنه نقله من الصحابة - رضي الله عنهم - العددُ الجمُّ. وذكر أبو بكر البزَّار الحافظ الجليل في مسنده (¬4): أنه رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو من أربعين من الصحابة، وذكر بعض الحُفَّاظ (¬5) أنه رواه اثنان وستون صحابيًا وفيهم العشرة المُبَشَّرة. ¬

(¬1) ينظر جامع الأصول لابن الأثير (1/ 121). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 454 - 455). (¬3) في (ز) أوله والمثبت من (د)، ومقدمة ابن الصلاح والمطبوعة. (¬4) مسند البزار، عقب حديث (971). (¬5) لعله يقصد الحافظ الكبير أبا القاسم سليمان بن أحمد الطبراني المتوفى سنة 360 هـ فإن له جزءًا بعنوان "طرق حديث من كذب علي متعمدًا" وهو مطبوع، إلا أن عدد من رواه من الصحابة عنده واحد وستون صحابيًا.

قال ابن الصلاح (¬1): لم يزل عدد رواته في ازدياد وهلم جرًّا على التَّوالي والاستمرار. قال ابن الأثير في جامع الأصول (¬2): العدد على قسمين، كامل وهو أقل عدد يورث العلم، وزائد يحصل العلم ببعضه، وتقع الزيادة فضلة. والكامل ليس معلومًا لنا، لَكِنَّا بحصول العلم الضَّروري، نَستدِّل على كمال العدد، لا أنَّا بِكمَال العدد نستدل على حصول العلم، وأقل عدد يحصل به العلم الضروري مَعلومٌ لله تَعَالى، غير مَعلُومٍ لنا، لأَنَّا لا ندري متى يَحْصُل لنا العلم بوجود مكة عند تواتر الخبر، وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين، ويعز علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها، فسبيله أن نراقب أنفسنا إذا قُتِل رَجُلٌ في السُّوق مثلاً فشاهد جماعة فأخبرونا عن ذلك متوالية، فإن قولَ الأول يُحرِّك الظَّن، وقول الثاني والثالث يؤكده، ولا يزال يتزايد تأكده إلى أن يَصِير ضروريًا (¬3). والآحَاد: كلُّ خَبَرٍ لم يَنْتَه إِلى التَّواتُر، ثم هو قِسمان مُسْتَفِيضٌ وغَيْرُه (¬4). ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 455). (¬2) جامع الأصول لابن الأثير (1/ 122). (¬3) ينظر جامع الأصول لابن الأثير (1/ 122 ـ 123). (¬4) كتب في حاشية (ز) ما نصه "وقيل هو ما يفيد الظن ثم هو قسمان مستفيض وغيره ... فالمستفيض ما زاد نقلته على ثلاثة، وقيل غير ذلك، وغير المستفيض هو خبر الواحد أو الاثنين أو الثلاثة على الخلاف فيه، وأكثر الأحاديث المدونة والمسموعة من هذا القبيل ... والتعبد بها جائز عند جمهور علماء المسلمين والعمل بها واجب عند أكثرهم، ورد بعض الحنفية خبر الواحد فيما يعم به البلوى كالوضوء من مس الذكر والإقامة، ورد بعضهم خبر الواحد في الحدود، ورجح بعض المالكية القياس على خبر الواحد المعارض للقياس، والصحيح الذي عليه أهل الحديث أو جمهورهم أن خبر الواحد العدل المتصل في جميع ذلك مقبول وراجح على القياس المعارض له وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة الحديث والفقه والأصول والله أعلم ".

[ذكر ابن الجوزي في تَلْقِيحِه (¬1): أَنَّ حَصرَ الأحاديث يَبعُد إمكانه غير أن جماعة بالغوا في تَتَبُّعِها وحَصَرُوها في أعداد. قال الإمام أحمد بن حنبل: صَحَّ من الأحاديث سَبْعُمائة أَلف وكَسْر. وقُرِئ عَلَيْه مُسنَدُه فقال: هذا كتاب قد جَمَعتُه وانتقَيتُه من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفًا، فما اختلف المسلمون من الحديث فارجعوا إليه وما لم تجدوا فيه فليس بحجة (¬2). فإن قِيل كل ما يَحْوِيِه مُسندُهُ أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة، فكيف يقول صح سبعمائة ألف وكسر؟ مع هذا فأجيب بأن المراد بهذا العدد؛ الطرق لا المتون] (¬3). ¬

(¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر (ص 361 - 362). (¬2) ينظر خصائص المسند لأبي موسى المديني (ص 4). (¬3) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

المقاصد

المقاصد اعلم أن متن الحديث نفسه لا يدخل في الاعتبار إلا نادرًا، بل يكتسب صفة من القُوة والضَّعف وبَيْن بَيْن بحسب، أوصاف الرواة من العدالة والضبط والحفظ وخلافها، وبين ذلك، أو بحسب الإسناد من الاتصال والانقطاع والإرسال والاضطراب ونحوها، فالحديث على هذا ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف. هذا إذا نُظِر إلى المتنِ، وأَمَّا إذا بُحِثَ عن أوصاف الرواة نفسها فقيل هو ثقة عدل ضابط وغير ثقة أو مُتَّهم أو مجهول أو كذوب، واسمه فلان، وُلِد في سنة كذا، ومات في سنة كذا، ونحو ذلك. وإذا نُظِر إلى حال الطَّالب، كان البحث عن كيفية استفَادَتِه وإفادة الشيخ إياه، وكيفية أخذه من القراءة والسَّماع والإجازة، وغير ذلك وهذا التقرير يستدعي أن يترتب الكلام على أربعة أبواب: الأول: في أقسام الحديث وأنواعه. والثاني: في أوصاف الرواة. والثالث: في تَحمُّل الحديث وطرق نقله. والرابع: في أسماء الرجال وأنسابهم.

الباب الأول في أقسام الحديث

الباب الأول في أقسام الحديث وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في الصحيح الصَّحِيحُ: هو ما اتَّصل سَنَدُه بِنَقل العَدل الضَّابط عن مثله، وسَلِم من شُذُوذ وعِلَّة، وفي هذه الأوصاف احترازٌ عن الحَسَنِ والضَّعِيف، فقوله ما اتَّصل سنده احتراز عن المُنقَطِع، وهو الذي لم يتصل إسناده على أي وجه كان، وقوله بنقل العدل، احتراز عَمَّن هو مَستُور العدالة، أو فيه نوع جرح ونعني بالضابط، من يكون حافظًا متيقظًا، غير مُغفَّلٍ ولا ساهٍ ولا شاك في حالتي التَّحمُل والأداء، فإنَّ النَّاقل إذا كان فيه نَوْعُ قُصُورٍ عن درجة الإتقان، دخل حديثه في حدِّ الحسن، وإذا نزلت درجته عن ذلك ضَعُفَ حَدِيثُهُ. وقوله وسَلِم من شُذُوذٍ، احتراز عن الشَّاذ، وهو الذي يَرويه الثِّقةُ، لكن يُخَالِف ما روى الناس، وقولُه وعِلَّة؛ أي سَلِمَ عمَّا فيه أسباب خفية غامضة قادحة، فإن قيل هذا القّيْد مُستدرَك لأنه لا يَخفَى على الضَّابط الحازِم مِثل تلك القادحة، يقال: الصَّارم قد يَنبُو، والحَازِم قَد يَسهُو، فما اجتمع فيه هذه

القُيُود حُكِم بصحته، وما افتُقِد فيه قيدٌ منها، خرج عن أن يكون صحيحًا وإذا قيل في حديث، إنه صحيح فمعناه ما ذكرنا، ولا يلزم أن يكون مقطوعًا به في نفس الأمر، وكذا إذا قيل إنه غير صحيح، فمعناه أنه لم يصح إسناده على الوجه المُعتبَر، لا أنه كَذِبٌ في نفس الأمر، وتَتَفاوت درجات الصحيح بحسب قوة شروطه. وأولُ من صنَّف في الصحيح المجرَّد الإمام البُخَاري، ثم مُسلِمٌ، وكتابهما أصحُ الكُتُبِ بعد كتابِ الله العزيز، وأما قول الشَّافعي رضي الله عنه: ما أعلم شيئًا بعد كتاب الله تعالى أصحُ من مُوطَّأ مالك، فَقَبْل وجود الكتابين ثم البخاري أصحهما صَحيِحًا عند الجمهور، وفي الجامع قال البخاري خرَّجتُ كتاب الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه حَدِيثًا إلا صَلَّيتُ رَكعَتَين (¬1). وأعلى أقسام الصحيح: ما اتَّفَقَا عليه، ثم ما انفرد به البُخَاري، ثم ما انفَرَد به مسلم، ثم ما هو على شرطِهِما وإن لم يَخَرِّجَاه، ثم على شرط البخاري ثم على شرط مسلم، ثم ما صَحَّحَه غيرُهما من الأئمة، فهذه سبعة أقسام. قال ابن الصلاح (¬2): وأما ما حُذِف سَنَدُهُ أو بَعضُهُ فيهما، وهو كثير في تراجم البخاري، قليل جِدًا في صحيح مسلم، كقوله في التيمم وروى ¬

(¬1) ينظر تاريخ بغداد (2/ 327). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 167).

الليث بن سعد (¬1). فما كان بصيغة الجَزْمِ، مِثل: قال فلان، وفَعَل، وأَمَر وَرَوَى وذَكَر مَعروفًا فهو حُكمٌ بصحته، وما ليس بصيغة الجزم مثل: رُوي عن فلان وذُكِر وحُكِى وقيِل مَجهولاً، فليس حُكمًا بصحته، ولكن إيراده في كتاب الصحيح مُشْعِرٌ بصحة أصله. قال الحاكم أبو عبد الله في المدخل (¬2): الصحيح من الحديث عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها. فالأول من المُتَّفق عليه: اختيار البخاري ومسلم، وهو الدرجة الأولى وهو أن لا يذكر إلا ما رواه الصحابي المشهور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله راويان ثقتان فأكثر، ثم يرويه عنه تابعي مشهور، وله أيضا راويان ثقتان فأكثر، ثم كذلك في كل درجة. قال الشيخ محيي الدِّين (¬3): ليس ذلك من شرط البخاري ومسلم لإخراجهما حديث المسيَّب في وفاة أبي طالب، ولم يرو عنه غير ابنه ... وإخراج البخاري حديث عمرو بن تغلب "إِنِّي لأُعطِي الرَّجَلَ والَّذيِ أَدَعُ أَحَبُّ إِليَّ"، ولم يرو عنه غير الحسن، وحديث قيس بن أبي (¬4) حازم عن مِرْدَاس بن ¬

(¬1) صحيح مسلم (369). (¬2) ينظر تدريب الراوي (1/ 198). (¬3) التقريب مع التدريب (2/ 317). (¬4) قوله أبي ليس في (ز) وأثبتناه من (د)، ولقيس بن أبي حازم ترجمة في تهذيب الكمال (24/ 10)، والحديث أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6510).

الأسلم "يَذْهَبُ الصَّالِحُون" الحديث، لم يرو عنه غير قيس ونظائرها في الصحيحين كثيرة، منها حديث "إِنَمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ". [وقال أبو حاتم بن حِبَّان: حديث الأعمال بالنيَّة، تفرد به أهل المدينة وليس هو عند أهل العراق، ولا عند أهل مكة، واليمن، ولا عند أهل الشام، ومصر، وقال بعضهم: قد أخرَجَتْه الأئمة في كتبهم من طرق وأنا أختصر على طريقٍ واحدٍ لِكُلِّ واحدٍ مِنهُم: فرواه البخاري عن أبي بكر عبد الله الحُمَيْدِي عن "سُفيَان". ورواه مسلم عن محمد بن المُثَنَّى عن "عبد الوَهَّاب الثَقَفِي". ورواه أبو داود عن محمد بن كَثِير عن "الثَّوْرِي". ورواه التِّرمِذِي عن محمد بن المثنى عن "عبد الوهاب الثقفي". ورواه النَّسائي عن عمرو بن منصور عن القَعْنَبِي عن "مالك". ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة عن "يزيد بن هارون". كلُّهُم عن يحيى بن سَعيِد القَطَّان، وهو عن محمد بن إبراهيم التيمي، وهو عن عَلْقَمَة بن وَقَّاص وهو عن عُمَر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -] (¬1). ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

الفصل الثاني في الحسن

الفصل الثاني في الحسن ذُكِرَ عن التِّرمِذِي أنه يُريدُ بالحَسَنِ، أن لا يكون في إسناده متهم ولا يكون شاذًا ويُروَى من غير وجه نحوه (¬1). وقال الخطَّابي (¬2): هو ما عُرِفَ مخرجُهُ، واشتهر رجاله، قال: وعليه مَدَارُ أكثرِ الحَديِث، فالمنقطع ونحوه مما لم يُعرَف مخرجُهُ، وكذلك المدلَّس إذا لم يبيَّن. وقال بعض المتأخرين (¬3): هو الذي فيه ضعف قريب محتمل، ويصلح للعمل به. وقال ابن الصلاح (¬4): هو قِسْمِان، وأَطَال في تَعريفِهِما، بِمَا حَاصِلُه أن أحدهما: ما لم يَخْل رجال إسناده عن مستور، غير مُغَفَّل في روايته، وقد رُوي مثله أو نحوه من وجه آخر. والثاني: ما اشتهر راويه بالصِّدق والأمانة، وقَصُر عن درجة رجال الصحيح حِفظًا وإِتْقَانًا، بحيث لا يُعَدُّ ما انفرد به منكرًا. قال ولا بُدَّ في القِسمين من سلامتهما عن الشذوذ والتَّعليل. ¬

(¬1) علل الترمذي الملحق بآخر الجامع (5/ 559). (¬2) معالم السنن (1/ 6). (¬3) يشير إلى قول ابن الجوزي في كتاب الموضوعات (1/ 14). (¬4) مقدمة ابن الصلاح (ص 175).

ثم قال القاضي بدر الدين ابن جماعة (¬1): وفي كل هذه التعريفات نظر. أما الأول والثاني؛ فلأن الصحيح كله أو أكثره كذلك، فيدخل الصحيح في حدِّ الحسن، ويَرِد على الأول الفرد من الحسن؛ فإنه لم يرو من وجه آخر، ويَرِد على الثاني ضعيف، عُرف مخرجه واشتهر رجاله بالضَّعف. وأما الثالث فيُتَوقف على معرفة الضَّعيف القريب المحتمل، وهو أمر مجهول وأيضا فيه دور؛ لأنه عُرِفَ بِصلاحِيَتِه للعمل به، وذلك يتوقف على معرفة كَوْنِه حسنًا. وأما الأول من القسمين، فَيَرِد عليه الضَّعيف والمُنقطع والمُرسل الذي في رجاله مستور، وروي مثله أو نحوه من وجه آخر. ويرد على الثاني، وهو أقربها: المرسل الذي اشتهر راويه بما ذكر؛ فإنه كذلك وليس بحسن في الاصطلاح. وقال القاضي (¬2): لو قيل الحسن هو كل حديث خالٍ عن العِلَلَ، في سنده المتصل مستور، له به شاهد أو مشهود، قاصر عن درجة الإتقان، لكان لِمَا حدُّوه أجمع وأقرب مما حاولوه وأخصر منه. أقول: اعلم أن هذا المقَام مَقَامٌ صعبٌ مُرتَقَاه، وعقبة كَؤُود، ومن استعلَى ذِروتَها ثم انحدر منها، وقف على أكثر اصطلاحات هذا الفن، وعَثَر على جُلِّ أنواعه بإذن الله تعالى، ولا يمكن الوقوف على الحق إلا ¬

(¬1) المنهل الروي (ص 36). (¬2) المنهل الروي (ص 36).

بتحرير كلام يَفصِل بين الصحيح والسقيم والمُعْوَجِّ والمستقيم، فنحن نَشْرَح الحدود على طريق يندفع عنها النظر. أما قول الترمذي، أن لا يكون في إسناده متهم فيحتمل معنيين؛ أن لا يتوهم الغفلة والكذب والفسق في المُسنِد، فلا يُتَّهم به أو يُتَوهَّم فيه ذلك ولا يُتَّهم به، فهذا هو معنى مستور العدالة، وهو المعنيُّ به في التعريف، وقد قصد بهذا القيد الاحتراز عن الصحيح؛ لأن شرط الصحيح أن يكون مشهور العدالة. وأما قول الخطَّابي، فالمراد به، أن رجاله مشهورون عند أرباب هذه الصناعة بالصدق، وبنقل الحديث ومعرفة أنواعه، وحيث كان مُطلقًا من قيد العدالة والضبط، دل على انحطاطهم عن درجة رجال الصحيح، وهذا هو الجواب أيضًا عن قوله: واشتهر رجاله بالضعف؛ لأن إطلاق الشهرة في عُرفهم، دلَّ على خلاف ما فُهِم من الضَّعف. وأما قوله ويَرِد على الأول أيضا الفرد من الحسن؛ فإنه لم يُرو من وجه آخر. فجوابه أن نقول: إن قولَنا يُروى [من غير وَجه يحتمل وجوهًا؛ أن يُروى الحديث بعينه بإسناد آخر، وأن يُروى] (¬1) معناه بإسناد آخر، أو بهذا الإسناد بلفظ آخر، ولا يَبعُد تسمية القسم الأخير بالفرد الحسن، فهو بالنظر إلى أفراد الإسناد، فَرْد وبالنظر إلى تغيير اللفظ، حسن، إذ بهذا الاعتبار ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

يغلب ظنًا احتمال طريق آخر يَتَقوَّى به، بخلاف الفرد المطلق. وجه آخر، وهو أن يكون الحديث مشهورًا عن صحابي، فيرويه تابعي عن صحابي آخر، ويكون له في الطريق رواة أفراد في جميع المراتب، فظهر من هذا أن الغرض من التقييد بقوله، ويُروى من غير وجه واحد، اعتضاد الحديث المروي بما ينجبر به ضعفه، وإزالة ما به من الوهم السابق والإرسال والانقطاع وغيرهما، فلا يؤتى بالرواية من غير وجه، إلا على وجه يرفع به ذلك الضَّعف وإلا كان عَبثًا. وفي كلام ابن الصلاح إِشعار بذلك، على أن حَدَّ المُعتَرِض يفتقر إلى هذا التأويل، كما سنُقَرِّرُه، وهذا هو الجواب أيضًا عن اعتراضه على أول القسمين لابن الصلاح، وهو قوله فيرد عليه الضعيف والمنقطع والمرسل. وأما قول بعض المتأخرين: هو الذي فيه ضعف قريب محتمل، فَمَبْنيٌّ على أن معرفة الحسن موقوفة على معرفة الصحيح والضعيف؛ لأن الحسن وسط بينهما. فقوله قريب؛ أي قريب مخرجه من الصحيح، محتمل الكذب لكون رجاله مستورين، كما حققناه في تفسير قول الترمذي، أن لا يكون في إسناده متهم. ويُفْهَم من هذا التقرير؛ أنه إذا تحقق الجارح في المعتضِد أو المعتضَد به، لم يَزُل الضعف كما في حديث "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَة".

قال البَيهقيُّ (¬1): هذا حديث متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد رُوي من أوجه كلها ضعيف. فالضعيف: هو الذي بَعُد عن الصحيح مَخرجُه، واحتمل الصدق والكذب أو لا يحتمل الصدق أصلاً، كالموضوع، وإنما عُدِل في الحسن من الوسط أي الذي يحتمل الصدق والكذب إلى الكذب، لأن هذا الراوي لمَّا انحطَّ درجته من درجة رجال الصحيح، وارتفع عن حال من يُعَدّ ما ينفرد به من الحديث مُنكَرًا، وكان مُسلمًا، لا سيَّما مشهورًا بأهل الحديث، وجب حُسن الظن به وترجيح أحد الجانبين على الآخر، وجعل قوله صِدقًا، وإلى هذا المعنى أشار الخطَّابي بقوله: واشتهر رجاله أي بالصدق، كما فسره ابن الصلاح. وأما قوله "ويصلح للعمل به"، فكالخارج عن الحد بيانًا لما يلزم من الحد أي إذا كان معنى الحسن ذلك، صَلُحَ العمل به وعلى هذا يندفع الدور. وأما قوله: "ويَرِد على الثاني"؛ أي على القسم الثاني لابن الصلاح. فجوابه، أن قوله بحيث لا يُعَدّ ما انفرد به مُنكرًا، احتراز مما ذكره؛ لأنه لا يخلو من أنَّ الذي رواه هذا الراوي مما عُرِف متنه أو معناه من غير روايته من غير وجه، أو مما لم يعرف لا من الوجه الذي رواه ولا من وجه آخر. ¬

(¬1) شعب الإيمان (1663).

فالأول أخرج المرسل والمنقطع عن الحد. والثاني هو الذي احترز منه بقوله "لا يُعد ما انفرد به منكرًا". إذا عرفت هذا فلتذكر الآن تفسير حدِّه (¬1) للحسن على ما سنح في خاطرنا والله أعلم بمراده. فقوله "خالٍ عن العِلَل"، احتراز عن دخول الأسباب الخفية الغامضة القادحة في الحديث. وقوله "في سنده المتصل"، احتراز عن المرسل والمنقطع ونحوهما. وقوله "مستور"، مبتدأ وله به شاهد أو مشهود صفته. وقوله "في سنده المتَّصل"، خبره والضَّمير المجرور في "له"، للمستور، وفي "به" للحديث و"أو" فيه، للتَّنْوِيع لا للترديد، والمعنى للرَّاوي المستور العدالة بهذا الحديث شاهد؛ أي حديث آخر مروي بلفظه بغير هذا الإسناد ويشهد له بالقوة، أو لراوي الحديث طريق آخر فيه معنى هذا الحديث، يشهد هذا الحديث أنه منه، ومعناه معناه، ويكون هذا الحديث شاهدًا وذاك مشهودًا بهذا المعنى، وكون المشهود موافقًا له ومقوِّيًا إياه بسندٍ غير سنده، ينقلب المشهود شاهدًا، وسيأتي تمام تحقيقه في نوع الاعتبار. واحتُرِز بهذا الفصل عن الضعيف الذي لم يُعْتَضَد بمثل ذلك الحديث أو آخر بمعناه، وقوله "قاصر عن درجة الإتقان" صفة أخرى للراوي المستور ¬

(¬1) أي الذي حده القاضي بدر الدين ابن جماعة.

العدالة فعُلم من الأول أن عدالة هؤلاء دون عدالة رجال الصحيح، ومن الثاني أن إتقانَهم قاصر عن إتقانِهم، وهذان القَيْدان معًا، فصل واحد يُخرِج الصحيح عن الحسن، وكذا يخرجه عن الانفراد، وكل واحد منهما على الانفراد يصلح لإخراج الضعيف منه، فظهر من هذا أن حدَّه أجمع الحدود. لكن يرد على قوله "في سنده المتصل"، مرسل الثقة الذي اعتضد بالمسند فإن تشبث بأن العمل حينئذ بالمسند لا به، فيُردُّ بما اختاره واختار المحققون كما سنبين في المرسل. والفرق بين حدَّي الصحيح والحسن، أن شرائط الصحيح مُعتَبرة في حدِّ الحسن، لكن العدالة في الصحيح ينبغي أن تكون ظاهرة، والإتقان كاملاً وليس ذلك بشرط في الحسن، ومِن ثَمَّ احتاج إلى قيام شاهد أو مشهود لينجبر به، فلو قيل: هو مُسند مَن قَرُبَ من درجة الثقة، أو مُرسَل ثقة ورُوي كلاهما من غير وجه، وسَلِم عن شُذُوذٍ وعِلَّة، لكان أجمع وأبعد من التعقيد. ونعني بالمسند: ما اتصل إسناده إلى منتهاه، وبالثقة: من جمع بين العدالة والضبط. والتنكير في ثقة للشيوع، كما سيأتي بيانه. فرعان الأول: الحسن حُجَّة كالصحيح، وإن كان دونه. ولذلك أدرجه بعض أهل الحديث فيه، ولم يفرده عنه، وهو ظاهر كلام

الحاكم في تصرفاته. الثاني: قولهم حَسنُ الإسناد أو صحيح الإسناد، دون قولهم حديث صحيح أو حسن، إذ قد يصح إسناده، أو يحسن دون متنه، لشذوذ أو علة، فإن قاله حافظ معتمد ولم يقدح فيه، فالظاهر منه حكمه بصحة المتن أو حُسنه. قال ابن الصلاح (¬1): أمَّا تَسْمية مُحيي السُّنَّة (¬2) في المصابيح، السُّنَن بالحِسَان فتَسَاهُل لأن فيها الصِّحاح والحِسَان، والضِّعاف. وقول الترمذي وغيره: حديث حسن صحيح، أي رُوي بإسنادين أحدهما يقتضي الصحة والآخر يقتضي الحُسن، أو المراد بالحسن، الحُسْن اللغوي وهو ما تميل إليه النفس وتستحسنه. وحديث المُتَأخِّر عن دَرَجة الإتقَان والحِفظ، المَشْهُور بالصدق والسَّتر، إذا رُوي من وجه آخر، تَرقَّى من الحسن إلى الصحيح، لِقُوَّته من الجهتين فينجَبِر أحدهما بالآخر. ومعنى قولِه: "تَرقَّى من الحسن إلى الصحيح"، أنه مُلحقٌ في القوة به، لا أنه عَينُه، فلا يَرِد عليه ما قيل فيه نظر، لأن حَدَّ الصَّحيح لا يَشْمَله فكيف يُسمَّى صحيحًا. ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 182). (¬2) قوله " محيي السنة " هو لقب للإمام أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي صاحب مصابيح السنة المتوفى سنة 516 هـ.

وأما الضَّعيف فَلِكَذِب راويه وفسقه، لا يَنجَبِر بِتَعدُّدِ طُرُقِه، كمَا مرّ.

الفصل الثالث في الضعيف

الفصل الثالث في الضعيف وهو كُلُّ حديثٍ لم يجتمع فيه شروطُ الصحيحِ، ولا شروط الحسن المُتَقدِّم ذكرُها. وتتفاوت درجاته في الضَّعف، بحسب بُعده من شروط الصِّحة، كما تتفاوت درجات الصحيح بحسب تَمَكُّنِهِ منها. ويجوز عند المحدِّثين وغيرهم، التساهل في أسانيد الضعيف. سوى الموضوع وروايته من غير بيان ضعفه، في المواعظ والقصص وفضائل الأعمال، لا في صفات الله تعالى، وأحكام الحلال والحرام. روى ابن الصلاح (¬1)، عن الحَافِظ بن مَنْدَه عن محمد بن سعد (¬2)، يقول: كان مِن مَذْهَبِ النَّسائي، أن يُخرج عن كل من لم يُجمع على تركه. وكذلك أبو دَاوُد، يأخذ مأخذه ويخرج الضعيف، إذا لم يجد في الباب غيره، لأنه أقوى عنده من رأي الرجال. [قال البَزْدَوي (¬3): إن الخَبَرَ يَقينٌ بأصله، وإنما دخلت الشُّبهة في نقله ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 182). (¬2) هو محمد بن سعد الباوردي، وهو من شيوخ أبي أحمد بن عدي صاحب الكامل وممن روى عن قاسم بن مطرز، ولم أقف له على ترجمة. (¬3) أصول البزدوي (ص 159).

والرأي محتمل بأصله في كُلِّ وَصْفٍ على الخصوص، فكان الاحتمال في الرأي أصلاً وفي الحديث عارضًا] (¬1). وروى الدارمي (¬2)، عن الشعبي قال: «ما حدثك هؤلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَخُذ به». وما قالوه بِرأيهِم فألقه في الحُشِّ. قال شُرَيحٌ: إن السُّنة قد سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تَضِل ما أخذت من الأثر (¬3). وقال الشَّعْبيُّ: إنما الرأيُ بمنزلة المَيْتَة، إذا اضطُرِرتَ إليها أكلتها، رواهما في شرح السنة. [وقال الشافعي - رضي الله عنه - مهما قُلتُ من قولٍ أو أَصّلتُ من أصلٍ، فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خِلاف ما قُلت فالقَولُ ما قال - صلى الله عليه وسلم - وهو قولي وجَعَل يُرَدِّده رواه البيهقي في المدخل (¬4)] (¬5) وهَهُنا عدة اعتبارات لمعانٍ شتَّى، منها ما يشترك فيه الأقسام الثلاثة: أعني الصحيح، والحسن، والضعيف، ومنها ما يختص بالضعيف. فمن الضرب الأول (¬6): ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬2) سنن الدارمي (1/ 78). (¬3) أخرجه الدارمي في سننه (1/ 77). (¬4) لم أقف عليه في المدخل إنما أخرجه البيهقي قي مناقب الشافعي (1/ 475). (¬5) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬6) أي ما يشترك فيه الثلاثة (الصحيح والحسن والضعيف).

المُسْنَد: قال الخطيب (¬1): هو ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه، وأكثر ما يُستعمل فيما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره. وقال الحاكم (¬2): هو ما اتصل سنده مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمُتَّصل: ويُسمَّى أيضا الموصول وهو كل ما اتصل إسناده، وكان كلُّ واحدٍ من رواته قد سمعه ممن فوقه سواء كان مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو موقوفًا على غيره. والمَرفُوع: وهو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً، من قول أو فعل أو تقرير، سواء كان متصلاً أو منقطعًا هذا هو المشهور. فقد ظهر من هذا، الفرق بين المسند والمتصل والمرفوع؛ فإن المتصل قد يكون مرفوعًا وغير مرفوع، والمرفوع قد يكون متصلا وغير متصل، وأما المسند على قول الحاكم فينبغي أن يكون متصلاً مرفوعًا. ¬

(¬1) الكفاية (ص 21) بمعناه. (¬2) معرفة علوم الحديث (ص 56) بمعناه.

فرعان الأول: إذا قيل عن الصحابي يرفعه أو يرويه أو ينميه أو يبلغ به، فهو كناية عن رفعه، وحكمه حكم المرفوع صريحًا، كحديث الأعرج عن أبي هريرة " تُقَاتِلُونَ قَومًا صِغَار الأَعْيُن" (¬1). وكحديثه عن أبي هريرة يبلغ به " النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيشٍ " (¬2). الثاني: قول الصحابي "أُمِرنا بكذا أو نُهِينا عن كذا أو من السُنَّة كذا"؛ مرفوع عند أهل الحديث وأكثر أهل العلم، لظهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر، سواء قال الصحابي ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده، وكذا قول الصحابي "كنا لا نرى بأسًا بكذا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا" ونحو ذلك. المُعَنْعَنْ: وهو الذي يقال في سنده: "فلان عن فلان". قال بعض العلماء: هو مرسل، والصحيح الذي عليه جماهير العلماء والمحدثين والفقهاء والأصوليين أنه متصل، إذا أمكن لقاؤه إيَّاه مع براءتهما من التَّدليس، وقد أودعه البخاري ومسلم صحيحيهما، وكذلك غيرهما من مشترطي الصحيح الذين لا يقولون بالمرسل. قال ابن الصلاح (¬3): وكثير في عصرنا وما قاربه استعمال"عن" في ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4/ 238) ومسلم (2912). (¬2) أخرجه البخاري (4/ 219) ومسلم (1818). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 220).

الإجازة وإذا قيل: فلان عن رجل عن فلان ونحوه، فقد سماه بعض المعتبرين في الأصول مُرسَلاً. وقال الحاكم (¬1): لا يسمى مرسلا بل منقطعا. وهذا أقرب. المُعَلَّق: وهو ما حُذِف في مبدأ إسناده واحدٌ فأكثر؛ كقول الشافعي: قال نافع، أو قال مالك: قال ابن عمر أو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه مأخوذ من تعليق الجدار أو الطلاق لاشتراكهما في قطع الاتصال. ولم يستعملوه فيما سقط وسط إسناده أو آخره، لتسميتهما بالمنقطع والمرسل، لأن الحذف إما أن يكون في أول الإسناد وهو المعلَّق، أو في وسطه وهو المنقطع، أو في آخره وهو المرسل. ولا يستعمل أيضا في مثل: يُروَى عن فلان ويُذكَر عنه وشبه ذلك على صيغة المجهول، لأنها لا تستعمل في صيغة الجزم. والبخاري أكثر من التعليق في صحيحه، وليس بخارج من قبيل الصحيح وإن كان على صورة المنقطع، فقد يفعل البخاري ذلك لكون الحديث معروفًا من جهة الثقات الذين علَّق عنهم، أو لكونه ذكره متصلاً في موضع آخر من كتابه، أو لسبب آخر لا يصحبه خلل الانقطاع. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص 70).

الأفراد: وهو قسمان: أحدهما: مفرد عن جميع الرواة، وقد تقدم ذكره في الصحيح. والثاني: مفرد بالنسبة إلى جهته؛ كقولهم تفرد به أهل مكة أو أهل الشام أو تفرد به فلان عن فلان من أهل مكة مثلاً، أو أهل البصرة عن أهل الكوفة، ولا يقتضي شيء من ذلك ضعفًا، إلا أن يراد بتفرد أهل مكة تفرد واحد منهم، فيكون كالقسم الأول. المُدْرَج: وهو أقسام: أحدها: ما أُدرِج في الحديث من كلام بعض رواته، فيرويه مَن بعده متصلاً، يتوهم أنه من الحديث. الثاني: أن يكون عنده متنان بإسنادين. مثاله: رواية سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا ولا تَدَابَرُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانا " الحديث (¬1) فقوله ولا تنافسوا أدرجه ابنُ أبي مريم من متن حديث آخر رواه مالك (¬2)، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1649). (¬2) الموطأ (1650).

وفيه "وَلاَ تَجَسَّسُوا ولاَ تَنَافَسُوا ولا تَحَاسَدُوا ". أو عنده طرق من متن، بسند شيخ غير سند المتن لذلك الشيخ، فيرويهما الراوي عنه بسند واحد، فيلزم إدراج بعض الحديث في بعض من سند واحد والحال أن للحديث إسنادين. الثالث: أن يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في سنده أو متنه، فَيُدرِج روايتهم على الاتفاق، ولا يذكر الاختلاف. وَتَعَمُّد كل واحد من الثلاثة حرام. المَشهُور: وهو ما شاع عند أهل الحديث خاصةً دون غيرهم، بأنْ نَقَلَه رواةٌ كثيرون كحديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قَنَتَ شَهْرًا بَعَدَ الرُّكُوعِ يَدعُو عَلَى رِعلٍ وَذَكْوَان" وهو مخرج في الصحيح (¬1) فإن له رُواةٌ عن أنس غير أبي مِجْلَز ورُواةٌ عن أبي مجلز غير التيمي، ورُوَاةٌ عن التيمي غير الأنصاري، ولا يعلم ذلك إلا أهل الصنعة، أو عندهم وعند غيرهم كحديث "الأعمال بالنيات" أو عند غيرهم خاصة. قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: أربعة أحاديث تدور في الأسواق، ليس لها أصل في الاعتبار " مَنَ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آَذَار (¬2) بَشَّرتُهُ بِالجَنَّة " و" مَنْ آَذَىَ ذِمِّيًا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ " و " يَوْمُ نَحْرِكُم يَوم صَوْمِكُم " و" لِلسَّائِلِ حَقٌّ وإِنْ ¬

(¬1) البخاري (2/ 32)، مسلم (677). (¬2) جاء في حاشية (ز)، (د) " آذار اسم أول شهر من شهور الربيع بالسريانية ".

جَاءَ عَلَىَ فَرَسٍ " انتهى كلامه (¬1). ومن الضعيف المشهور حديث " طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَىَ كُلِّ مُسلِمٍ" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 633)، وعلق محققه قائلا: وتعقبه السيوطي في " اللآلئ " (2/ 118) وقال: قال الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته علي بن الصلاح لا يصح هذا الكلام عن أحمد فإنه أخرج منها حديثا في المسند (1/ 201) وهو حديث "للسائل حق وإن جاء على فرس"، قال وقد ورد من حديث علي وابنه الحسين وابن عباس والهرماس بن زياد وأما حديث علي فأخرجه أبو داود في سننه من رواية زهير عن شيخٍ عن سفيان عن فاطمة بنت حسين عن أبيها عن علي وأما حديث الحسين فأخرجه أحمد وأبو داود من رواية يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة عن أبيها الحسين وهو إسناد جيد رجاله ثقات وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن عدي من رواية إبراهيم بن يزيد عن سليمان الأحول عن طاوس عنه، وأما حديث الهرماس فأخرجه الطبراني من رواية عثمان بن فائد عن عكرمة بن عمار عنه وكذلك حديث من"آذى ذميا" هو معروف أيضا فروى أبو داود من رواية صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم دنية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إلا من ظلم معاهدًا أو أنقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منهم شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " وإسناده جيد وإن كان فيه من لم يسم فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة فقد رويناه في سنن البيهقي الكبرى فقال في روايته عن ثلاثين من أبناء الصحابة وأما الحديثان الآخران فلا أصل لهما، انتهى. (¬2) أخرجه ابن ماجه (224) وقال البوصيري في الزوائد إسناده ضعيف والبيهقي في شعب الإيمان (1663) وقال البيهقي هذا الحديث متنه مشهور وإسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيفة، وقال البزار في مسنده (94) هذا كذب ليس له أصل عن ثابت عن أنس، فأما ما يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم فقد روي عن أنس من غير وجه وكل ما يروى فيها عن أنس، فغير صحيح.

[فائدة: البَزْدَوي في القسم الأول المشهور (¬1): ما كان من الآحاد في الأصل، ثم انتشر، فصار ينقله قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب وهم القرن الثاني والثالث بعد الصحابة ومن بعدهم، فأولئك قوم ثقاة أئمة ولا يُتَّهمون، فصار بشهادتهم وتصديقهم، بمنزلة المتواتر، حُجَّة من حجج الله تعالى. حتى قال الجَصَّاص: إنه أحد قسمي المتواتر، فيمتاز عن المتواتر بأنه يوجب علم طمأنينة، والمتواتر علم يقين.] (¬2) الغَريِب والعَزِيز: قال الحافظ بن مَنْدَهْ: الغريب؛ كحديث الزهري (¬3) وأشباهه، ممن يُجمَعُ حديثُه لعدالته وضبطه، إذا تفرد عنهم بالحديث رجل، سُمي غريبًا (¬4)، فإن رواه عنه اثنان أو ثلاثة؛ سُمي عزيزًا وإن رواه جماعة سُمي مشهورًا. ومن الأفراد ما ليس بغريب [كالأفراد المضافة إلى البلدان، وينقسم الغريب مطلقًا إلى صحيح] (¬5) كالأفراد المُخرَّجة في الصحيح، وإلى غير ¬

(¬1) أصول البزدوي (ص 152). (¬2) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬3) في المطبوعة (الترمذي)، والمثبت من (ز)، (د) وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 456). (¬4) زاد في المطبوعة [فالحاصل أن الغريب: هو الذي انفرد به العدل الضابط ممن يجمع حديثه ويقبل]، والمثبت من (ز)، (د)، بدون هذه الزيادة. (¬5) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

صحيح وهو الغالب على الغرائب. جاء عن أحمد بن حنبل أنه قال غير مرة: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير، وعامة رواتها الضعفاء (¬1). وينقسم أيضًا إلى، غريب متنًا وإسنادًا، وهو ما تفرد برواية متنه واحد. وإلى غريب إسنادًا لا متنًا؛ كالحديث الذي متنه معروف عن جماعة من الصحابة، إذا تفرد به واحد بروايته عن صحابي آخر وهو غريب من هذا الوجه، ومن ذلك؛ غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، وهذا هو الذي يقول به الترمذي: "غريب من هذا الوجه"، ولا يوجد ما هو غريب متنًا لا إسنادًا، إلا إذا اشتهر الحديث المفرد، فرواه عمن تفرد به جماعة كثيرة فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا لا إسنادًا، بالنسبة إلى أحد طرفي الإسناد، فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول، متصف بالشهرة في طرفه الآخر؛ كحديث "الأعمال بالنيات"، وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف ثم اشتهرت. المُصَحَّف: هذا فَنٌّ جَلِيلٌ، إنما ينهض بأعبائه الحُذَّاق من الحُفَّاظ، والدَّاَرَقُطْنِي منهم وله فيه تصنيف مفيد (¬2)، ويكون محسوسًا إما بالبصر أو بالسمع. ¬

(¬1) أخرجه السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص 58). (¬2) لعله يقصد كتاب المؤتلف والمختلف للدارقطني وهو مطبوع في خمسة مجلدات ط. دار الغرب الإسلامي.

والأول إما في الإسناد، كحديث شعبة، عن العوام بن مُرَاجِم بالراء والجيم، صَحَّفَهُ يحيى بن معين، فقال: مزاحم بالزاي والحاء (¬1). وإما في المتن كحديث؛ "مَنْ صَامَ رَمَضَان وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّال" ... فصحف أبو بكر الصولي فقال "شيئًا" بالشين المعجمة. والثاني أيضًا إما في الإسناد كحديث؛ يُروى عن عاصم الأحول رواه بعضهم فقال واصل الأحدب قال الدارقطني (¬2): هذا من تصحيف السَّمْعِ لا من تصحيف البصر، لأنه لا يشتبه في الكتابة. وإما في المتن؛ كحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكُهَّان قر الزجاجة بالزاي وإنما هو الدجاجة بالدال. أو معنى كما حَكَىَ الدارقطني عن أبي موسى محمد بن المثنى العَنَزي أنه قال: نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، صلى إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يريد ما ثبت في الصحيح "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّىَ إلى عَنَزَة"، وهي حربة صغيرة تُنْصَب بين يديه، فتوهم أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى إلى قبيلتهم بني عنزة، وهذا تصحيف عجيب، والله أعلم (¬3). الإسناد العالي: خصيصة هذه الأمة، وسُنَّة من السنن البالغة، وطلب العلو فيه سُنَّة ¬

(¬1) ينظر العلل للدارقطني (3/ 64). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 476). (¬3) أخرجه الخطيب في الجامع (1/ 295).

أيضا ولذلك استحبت الرحلة، وعلوه يُبعد من الخلل المتطرق إلى كل راوٍ ... والعلو المطلوب في الحديث خمسة أقسام: أحدها: القُرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح نظيف كثلاثيات البخاري (¬1). قال محمد بن أسلم الطوسي (¬2): قرب الإسناد، قرب أو قربة إلى الله تعالى. الثاني: القرب من إمام كالبخاري من أئمة الحديث، وإن كثر العدد منه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: العلو بالنسبة إلى رواية صحيح البخاري ومسلم أو أحدهما أو غيرهما من الكتب المعتمدة. الرابع: العلو بتقدم وفاة الراوي، قال ابن الصلاح (¬3): مثاله ما أرويه عن شيخ، أخبرني به عن واحد، عن البيهقي، عن الحاكم، أعلى من روايتي لذلك عن شيخ، أخبرني به، عن واحد، عن أبي بكر بن خلف، عن الحاكم، وإن تساوَى الإسنادان في العدد، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن ¬

(¬1) المقصود بثلاثيات البخاري؛ الأحاديث التي بلغت الواسطة فيها بين البخاري والنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أنفس فقط، وأولها في صحيحه حديث " من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" فقد رواه البخاري، عن شيخه مكي بن إبراهيم، وهو عن يزيد بن أبي عبيد، وهو عن سلمة بن الأكوع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1/ 123) بسنده إلى الطوسي به. (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 446).

خلف بنحو تسع وعشرين سنة. الخامس: العلو بتقدم السماع، وكثير من هذا يدخل في الذي قبله من حيث قُرب الزمان، لا من حيث احتمال حذف الواسطة، لأن الاحتمال في الوفاة أقوى، ومما يمتاز به عنه، أن يسمع شخصان من شيخ، وسماع أحدِهما، من ستين سنة مثلاً، وسماع الآخر من أربعين سنة، هذان وإن تساويا في العدد إليه وعدم الواسطة، فالأول أعلى، لقرب الزمان والله أعلم المُسَلْسَل: وهو ما تتابع فيه رجال الإسناد عند روايته، على صفة أو حالة، أما في الراوي، فصفته قولا؛ كقوله سمعت فلانًا يقول، سمعت فلانًا يقول إلى آخره، ومن ذلك أخبرنا فلان والله قال أخبرنا فلان والله إلى آخره. ومنه حديث"اللَّهُمَّ أّعِنِّي عَلَىَ شُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِباَدَتِكَ"، مسلسل بقولهم "إني أحبك فقل". [وفي رواية أبي داود وأحمد والنسائي (¬1) "أخذ بيدي فقال إني لأحبك" فيكون من النوعين الفعل والقول وفيها ذكرك مقدم على شكرك. اعلم أن المذكورات الثلاثة، غايات والمطلوب هو البدايات المؤدية إليها فذِكر الغايات، تنبيه على أنها هي المطالب الأولية من البدايات، وإن كانت نهايات وتلك وسائل إليها، فقوله أعنِّي على ذكرك، المطلوب منه شرح ¬

(¬1) أبو داود (1522) وأحمد (5/ 244) والنسائي (3/ 53).

الصدر وقذف النور فيه وتيسير الأمر وإطلاق اللسان، وإلى هذا ألمح قول الكليم - عليه السلام - {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلى قوله {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}، وقوله وشكرك المطلوب، من توالي النعم وترادف المِنح المستجلبة لتوالي الشكر، وإنما طلب المعاونة عليه لأنه، عَسِرٌ جدًا ولذلك قال الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، وقوله وحُسن عبادتك المطلوب منه التجرد عما يشغله عن الله تعالى وعبادته، ليتفرغ لمناجاة الله تعالى ومناغاته كما، أشار إليه سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه بقوله: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، ثم إذا نظرت إلى القرائن الثلاث وترتيبها، وجدتها منتظمة على البدايات والأحوال والمقامات، فحق لذلك أن يقول المرشد عند مصافحة المريد إني لأحبك فقل ربي أعني إلى آخره] (¬1) ومنه المسلسل الذي ينقطع تسلسله في أواخره؛ كالمسلسل بأول حديث سمعته، أي يقول الصحابي أول حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا، ويقول التابعي أول حديث سمعته من الصحابي هذا، وهو يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهلم جرَّا، ولا يسلم هذا القيد في الأواخر. أو فعلاً كحديث التَّشبِيك باليد، وحديث العَدّ في اليد وأشباههما (¬2). وأما في الرواية؛ كالمسلسل باتفاق أسماء الرواة، وأسماء آبائهم، أوكُنَاهُم أو أنسابهم، أو بلدانهم. ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬2) أخرجهما الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 33).

قال الشيخ محيي الدين النواوي (¬1): وأنا أروي ثلاثة أحاديث مُسَلْسَلَة بالدِّمَشقِيين، وكالمسلسل باتفاق الصفة، كحديث الفقهاء فقيه عن فقيه "المتبايعان بالخيار". قال ومن القسمين حديث أبي ذر: "يَا عِبَادِي كَلُّكُم ضَالٌّ إِلاَّ مَن هَدَيْته" الحديث مخرج في صحيح مسلم (¬2)، وقع لي مسلسلاً باليد، ورويناه بإسناد كلهم دِمَشقيُون وأنا دِمَشْقِي، وهذا نادر في هذه الأزمان، وأفضل ذلك ما كان فيه دلالة على اتصال السماع، ومن فضيلة التَّسلسُل؛ اشتماله على مزيد الضبط. زيادة الثقة: معرفتها فَنٌ لطيف، قال ابن الصلاح (¬3): ما انفرد به الثقة ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقع مخالفًا منافيًا لما رواه سائر الثقات، فهذا حكمه الرد كالشَّاذ وثانيها: أن لا يكون فيه منافاة ولا مخالفة أصلاً لما رواه غيره؛ كالحديث الذي تفرد برواية جملته ثقةٌ، ولم يتعرض فيه لِما رواه الغير بمخالفة أصلاً فهذا مقبول، وقد ادَّعى الخطيب (¬4) فيه اتفاق العلماء عليه. وثالثها: ما يقع بين هاتين المرتبتين؛ مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها ¬

(¬1) ينظر التقريب مع التدريب (2/ 189). (¬2) مسلم (2577). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 251). (¬4) الكفاية (ص 424 - 425).

سائر من روى ذلك الحديث؛ مثاله حديث "وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ مَسجِدًا وجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا " (¬1)، فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي وسائر الروايات لفظها "وجُعِلَت لَنَا الأرضُ مَسجِدًا وطَهُورًا " (¬2). فهذا وما أشبهه، يشبه القسم الأول، من حيث إن ما رواه الجماعة عام أي يتناول الحَجَر والرَّمل والتُّراب، وما رواه المنفرد بالزِّيادة مخصوص، وفي ذلك مغايرة في الصفة ونوع من المخالفة، يختلف به الحكم ويشبه أيضا القسم الثاني، من حيث إنه لا منافاة بينهما. قال الخطيب (¬3): مذهب الجمهور من الفقهاء وأهل الحديث أن الزيادة من الثقة مقبولة، إذا انفرد بها، سواءٌ كانت من شخص واحد، بأن رواه مرة ناقصًا وأخرى زائدًا، أم كانت من غير من رواه ناقصًا خِلافًا لمن ردَّ ذلك مُطلَقًا من أهل الحديث، ولمن ردَّها منه وقَبِلَها من غيره، وإذا أسنده وأرسلوه أو وصَله وقطعوه أو رفعه ووَقَفُوه، فهو كالزيادة. وقيل: الإرسال نَوعُ قَدحٍ في حديث الواصل، فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل، ويُجاب عنه؛ بأن الجرح قُدِّم لما فيه من زيادة العلم، والزيادة ههنا مع مَن وَصَل. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (522) من حديث أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة به. (¬2) أخرجه البخاري (1/ 91،119) ومسلم (521) وأحمد (3/ 304) والنسائي (1/ 209) وغيرهم. (¬3) الكفاية (ص 424 - 425).

الاعتِبَار: وهو النظر في حال الحديث، هل تفرد به راويَه أم لا؟ وهل هو معروف أم لا؟ وطريق الاعتبار في الأخبار أن يُقال مثلاً: روى حمَّادُ بن سَلمةَ عن أيوب عن ابن سِيِرين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا نُظِر أنَّ حمَّادًا رواه، ولم يُتَابَع عليه، فيُنظر هل روى ذلك ثقةٌ غير أيوب عن ابن سيرين؟ فإن لم يوجد ذلك، فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة، رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأيُّ ذلك وُجِد، يُعلَم به أن للحديث أصلاً يُرجع إليه، وتُسَمَّى هذه متابعة غير تامة. وإذا نُظِر أن هذا الحديث بعينه، رواه أحدٌ عن أيوب غير حماد، قيل هذه متابعة تامة، وقد تُسَمَّى الأولى بالشاهد أيضا، فإن لم يرو ذلك الحديث أصلاً من وجه من الوجوه المذكورة، لكن رُوي حديث آخر بمعناه، فذلك الشاهد من غير متابعة، فإن لم يرو أيضا بمعناه حديث آخر، فقد تحقق فيه التفرد المطلق حينئذ (¬1). مثال المتابعة، والشاهد: حديث سُفيان بن عُيَيْنة، عن عمرو بن دينار عن عطاء، عن ابن عباس، في حديث الإهاب، "لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانتَفَعُوا بِهِ" ورواه ابن جريج عن عمرو، ولم يذكر الدِّبَاغ، فذكر البيهقي (¬2) لحديث ابن عيينة متابعًا وشاهدًا، فالمُتابع أسامة بن ¬

(¬1) أصل هذا الكلام للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي، ينظر الإحسان (1/ 86). (¬2) السنن الكبير (1/ 16).

زيد (¬1) تابع عَمْرًا عن عطاء عن ابن عباس "أَلاَ نَزَعْتُم جِلْدَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَاسْتَمْتَعتُم بِهِ". والشاهد حديث عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... "أيُّمَا إهابٍ دُبغ فقد طَهُر". ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يُحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودًا في الضعفاء، وفي كتاب البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء، ذَكَراهم في المتابعات والشواهد. وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به. مُخْتَلِف الحديث: وهو أن يوجد حديثان متضادان في المعنى في الظاهر، فيُجمع بينهما أو يُرجَّح أحدهما، وهو فن مهم يضطر إليه جميع طوائف العلماء، وإنما يملك القيام به الأئمة من أهل الحديث والفقه والأصول الغواصون على المعاني والبيان، وقد صنف الإمام الشافعي رحمه الله فيه كتابه المعروف به (¬2) ولم يقصد استيعابه، بل ذكر جملةً تُنبِّه العارف على طريق الجمع بين الأحاديث في غير ما ذكره، ثم صَنَّف فيه ابنُ قُتَيبة فأحسن في بعضٍ. ¬

(¬1) هو أسامة بن زيد الليثي مولاهم، أبو زيد المدني، من كبار أتباع التابعين توفي سنة 153 هـ ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (2/ 347). (¬2) لعله يقصد كتاب الأم فإن كتاب اختلاف الحديث جزء منه.

ومن جمع الأوصاف المذكورة لم يشكل عليه شيء من ذلك. قال ابن خُزَيمة: لا أعرف حديثين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأتني لأؤلِّف بينهما (¬1). والمختلِفُ قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما فَيَتَعيَّن المصير إلى ذلك، ويجب العمل بهما كحديث "لا عَدوَى" وحديث "لا يورِد مُمرِضٌ على مُصِح". ووجه الجمع؛ أنه - صلى الله عليه وسلم - نَفَى في الأوَّلِ ما كان يعتقده الجاهلي، من أنَّ ذلك يُعدِي بِطَبعِه، ولهذا قال "فَمَنْ أَعْدَىَ الأَوَّل". وفي الثاني، أَعلَم بأن الله جعل ذلك سببًا لذلك، وحذَّر من الضَّرر الذي يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله. والثاني لا يمكن الجمع بينهما. فإن علِمنا أن أحدهما نَاسِخٌ قدَّمناه، وإلا عَمِلنا بالرَّاجح منهما؛ كالتَّرجيح بصفات الرواة وكَثرتِهم في خمسين وجهًا من أنواع الترجيح، جمعها الحافظ الإمام أبو بكر الحازمي، في كتابه الناسخ والمنسوخ (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في الكفاية (ص 432 - 433) بسنده إلى ابن خزيمة. (¬2) هو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني، توفي في سنة 584 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (21/ 167)، وكتابه هو "الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار"، وهو مطبوع في دائرة المعارف العثمانية بالهند.

النَّاسِخ وَالمَنْسُوخ: الناسخ، كل حديث دلَّ على رفع حُكم شرعي سابق، ومنسوخه كل حديث رُفِع حُكمُه الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، وهذا فن صعب مهم كان للشافعي رحمه الله فيه يَدٌ طُولَى، وسَابِقَةٌ أُولى. وأدخل بعض أهل الحديث فيه ما ليس منه، لخفاء معناه [وقد تكلم الناس في حدِّ النَّسخ، ومن أجود حدٍّ فيه؛ قولهم: رفع حُكمٍ شَرعي بِدَليلٍ شَرعي مُتأخِر] (¬1). وهذا النَّوعُ منه ما يُعرف بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل "كُنْتُ نَهَيتُكُم عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ، فَزُورُوهَا" (¬2). ومنه ما عُرف بقول الصحابي مثل "كَانَ آَخِر الأَمْرَينِ مِنْ رسوُلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَركُ الوضُوءِ مِمَّا مَسَّتهُ النَّار" (¬3). ومنه ما عُرف بالتاريخ كحديث "أَفْطَرَ الحَاجِم وَالمحجُوم" (¬4). وحديث "احْتَجَمَ وَهُو صَائِمٌ" (¬5)، بيَّن الشافعي رحمه الله أن الأول كان ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز). (¬2) أخرجه مسلم (977) وأبو داود (3235) والنسائي (4/ 89)، وغيرهم. (¬3) أخرجه أبو داود (192) والنسائي (1/ 108) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري. (¬4) أخرجه أبو داود (2369) وابن ماجه (1750) وغيرهما من حديث ثوبان - رضي الله عنه -، وفي الباب عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) أخرجه أبو داود (2374) وابن ماجه (3199) وغيرهما من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.

سنة ثمان والثاني سنة عشر. ومنه ما عُرِف بالإجماع كحديث "قتل شارب الخمر في الرابعة" (¬1) عُرِف نسخهُ بالإجماع على خلافه، والإجماع لا ينسخ، وإنما يدل على النسخ. غَرِيبُ اللَّفْظِ وفِقهِهِ: أما غريبه: فهو ما جاء في المتن من لفظ غامض بعيد الفَهم، لقلة استعماله وهو فن مُهم يجب أن نَتَثَبَّت فيه أشد تَثبُّت. وقد أكثر العلماء التصنيف فيه، قيل أول من صنَّف فيه: النَّضر بن شُمَيل (¬2) وقيل أبو عبيدة معمر (¬3) وبعدهما أبو عُبيد القاسم بن سلاَّم (¬4) ثم ابن قتيبة (¬5) ما فاته المصنفات. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4486) وأحمد (2/ 280) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) هو العلامة الإمام الحافظ أبو الحسن المازني البصري النحوي، نزيل مرو وعالمها توفي في سنة 203 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 328)، وفيات الأعيان (5/ 397) وإنباه الرواة (3/ 348). (¬3) هو معمر بن المثنى التيمي، مولاهم البصري، النحوي، صاحب التصانيف توفي في سنة 209 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 445)، إنباه الراوة (3/ 276). (¬4) الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون، أبو عبيد، القاسم بن سلام بن عبد الله الهروي توفي في سنة 224 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (10/ 490)، إنباه الراوة (3/ 12). (¬5) هو العلامة الكبير، ذو الفنون، أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري توفي في سنة 270 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (13/ 296)، إنباه الراوة (2/ 143).

ثم الخطَّابي (¬1) ما فاتهما، فهذه أمهاته، ثم تبعهم غيرهم بزوائد وفوائد كالنهاية لابن الأثير فإنه بلغ النهاية والفائق للزمخشري فإنه فائق على كل غاية ونرجو أن يكون الكشف عن حقائق السنن (¬2) قد أجاد في القبيلين الغريب والفقه، وأنعم في المعاني والدَّقائق، وينبغي ألا يقلد فيه إلا مصنف إمام جليل، وأجود ما جاء منه مفسرًا في رواية أخرى. وأما فقهه: فهو ما تضمنه من الأحكام والآداب المستنبطة منه وهذه آداب الفقهاء الأعلام كالأئمة الأربعة - رضي الله عنهم -. وفي هذا الفن مصنفات كثيرة؛ كمعالم السُّنَن للخطابي (¬3) والتَّمهيد (¬4) لابن عبد البر فذلك ثمانية عشر نوعًا. ¬

(¬1) الإمام العلامة، الحافظ اللغوي، أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي توفي في سنة 388 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 23)، إنباه الراوة (1/ 125). (¬2) هو إحدى مصنفات المصنف الجليلة. (¬3) وهو شرح لكتاب سنن أبي داود السجستاني وهو مطبوع. (¬4) هو شرح لموطأ الإمام مالك رتبه ابن عبد البر على شيوخ الإمام مالك وهو مطبوع في المغرب، وقد طبع طبعة جديدة في دار الفاروق ورتبه محققه على الأبواب.

والضرب الثاني (¬1)، فيما يختص بالضعيف: المَوْقُوف: وهو عند الإطلاق: ما رُوي عن الصحابي من قول أو فعل، أو نحو ذلك متصلاً كان السند أو منقطعًا. وقد يستعمل في غير الصحابي مقيَّدًا مثل: وَقَفَهُ مَعْمَرٌ عَلَىَ هَمَّام، وَوَقَفَهُ مَالِكٌ عَلَىَ نَافِعٍ، وبعض الفقهاء يُسمي الموقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر وأما أهل الحديث فيطلقون الأثر عليهما. قال ابن الأثير في الجامع (¬2): الموقوف على الصحابي، قَلَّ ما يخفى على أهل العلم، وذلك أن يُروى الحديث مُسنَدًا إلى الصحابي، فإذا بلغ إلى الصحابي قال: إنه كان يقول كذا وكذا أو كان يفعل كذا وكذا أو كان يأمر بكذا وكذا، ونحو ذلك. فروع الأول: قَولُ الصَّحابي كُنَّا نَفعَلُ كذا، إن أضافه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالصحيح أنه مرفوع، وبه قطع الحاكم (¬3) والجمهور، لأن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - اطَّلع عليه وقَرَّره فإن لم يُضِفْهُ إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو موقوف. ¬

(¬1) ينظر (ص 24). (¬2) جامع الأصول (1/ 119). (¬3) معرفة علوم الحديث (ص 59).

وقول الحاكم والخطيب (¬1) في حديث المغيرة "كان أصحابُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَعُون بَابَه بِالأَظَافِير"، إنه موقوف، ليس كذلك، بل هو مرفوع في المعنى ولعل مرادهما أنه ليس مرفوعًا لفظًا (¬2). الثاني: تفسير الصحابي موقوفٌ، ومن قال مرفوع فهو في تفسيرٍ يتعلق بسبب نزول آية؛ كقول جابر كانت اليهود تقول كذا فأنزل الله كذا ونحو ذلك (¬3). الثالث: الموقوف وإن اتصل سنده ليس بحجة عند الشافعي رحمه الله وطائفة من العلماء، وحجة عند طائفة. المَقْطُوع: وهو ما جاء من التابعين من أقوالهم وأفعالهم موقوفًا عليهم. واستعمله الشافعي رحمه الله، وأبو القاسم الطبراني في المنقطع، وسيأتي ¬

(¬1) الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 59) من حديث المغيرة، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1/ 161) من حديث أنس، وينظر النكت لابن حجر (2/ 518). (¬2) قوله "لفظا" في (ز)،"مطلقًا"، والمثبت من (د)، ونسخة على (ز) وكتب في حاشية (ز) (بل مرفوع بحسب المعنى). (¬3) يشير هنا إلى حديث جابر بن عبد الله الذي أخرجه مسلم (1435) وغيره " أن يهود كانت تقول: إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت، كان ولدها أحول، قال فأنزلت، {نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَكُم فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ".

بيانه وكلاهما ضعيف ليس بحجة. المُرْسَل: وهو قول التابعي الكبير قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا أو فعل كذا، فهو مرسل باتِّفاقٍ. وأمَّا قَولُ مَن دون التابعي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختلفوا في تسميته مرسلاً فقال الحاكم (¬1)، وغيره من أهل الحديث: لا يسمى مرسلاً. قالوا والمرسل مختص بالتابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان الساقط واحدًا سُمي منقطعًا، وإن كان اثنين فأكثر سُمي مُعْضَلاً ومنقطعًا أيضا. والمعروف في الفقه وأصوله أن كلَّ ذلك يُسمى مُرسَلاً وبه قطع الخطيب (¬2) قال: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال، رواية التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فروع الأول: قيل يُحتج بالمرسل مطلقًا، وردَّه قومٌ مطلقًا، والأَوْلى إن صح مخرجه لمجيئه من وجه آخر مُسندًا عن غير رجال الأول، فهو حُجَّةٌ وعليه جماهير العلماء والمحدثين. ولذلك احتج الشافعي بمراسيل ابن المسيب لَمَّا وُجدت مسانيد من ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص 67). (¬2) الكفاية (ص 21).

وجوه أُخَر، لا يختص ذلك عنده بمراسيل سعيد كما يتوهمه بعض الفقهاء من أصحابنا، فإن قيل إذا وُجد المسند فالعمل به لا بالمرسل، قلنا المرسل الذي يُعمل به، ما كان راويه ثقة متقِنًا، ليس فيه إلا الإرسال، بخلاف المسند فإن راويَه ليس كراوِيِه، فَجَعْلُ الأول أصلاً والثاني تابعًا أولى من عكسه. ونقل البيهقي وغيره عن الشافعي أن المرسل إن أسنده حافظ بذلك الإسناد غير مرسل وأرسله عن غير شيوخ الحديث الأول أو عضده قول الصحابي أو فتوى أكثر العلماء أو عُرِف أنه لا يرسل إلا عن عدلٍ، قُبِل (¬1). قال البيهقي أيضًا (¬2): الشافعي - رضي الله عنه - يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها، ولا يقبلها إذا لم ينضم إليها ما يؤكدها، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره. والثاني: إذا روى ثقةٌ حديثًا مرسلاً، ورواه غيره متصلاً؛ كحديث ... "لا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَليٍّ" (¬3). رواه إِسرائيلُ وجماعةٌ [عن أبي إسحاق] (¬4) عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، [ورواه الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي ¬

(¬1) الرسالة للإمام الشافعي (ص 462 - 463). (¬2) مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 32). (¬3) أخرجه أبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجه (1881). (¬4) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

- صلى الله عليه وسلم -] (¬1) فقد حكى الخطيب (¬2) عن أكثرهم: أن الحكم للمرسل وهذا لا يقدح في عدالة الواصل وأهليته على الأصح، وقيل يقدح فيهما. والثالث: مرسل الصحابي، وهو ما رواه ابنُ عباس وابنُ الزبير وشبههما من أحداث الصحابة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمعوه منه، فحكمه حكم المتصل، لأن الظاهر أن يكون روايتهم ذلك من الصحابة، والصحابة كلهم عدول، وحكى الخطيب وغيره عن بعض العلماء، أنه لا يحتج به كمرسل غيرهم، إلا أن يقول: لا أروي إلا ما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي، لأنه قد يروي عن غير صحابي، وهذا مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (¬3)، والصواب المشهور، أنه يُحتَج به مطلقًا، لأن روايتهم عن غير الصحابة نادرة، وإذا رووا عن التابعي بينوها (¬4). المُنْقَطِع: الصحيح عند الجمهور، هو الذي لم يتصل إسناده على أي وجه كان سواء ترك ذكر الراوي من أول الإسناد أو وسطه أو آخره. ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬2) الكفاية (ص 411). (¬3) هو الإمام العلامة الأوحد، الأستاذ، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإسفراييني الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره وصاحب المصنفات الباهرة، توفي في سنة 418 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 353). (¬4) ينظر الكفاية (ص 385)، المجموع للنووي (1/ 103).

إلا أن أكثر ما يُوصَف بالانقطاع في الاستعمال، رواية مَن دون التابعي عن الصحابي؛ كمالك عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الحاكم (¬1): هو ما اختل فيه قبل الوصول إلى التابعي رجل سواء كان محذوفًا [كالشافعي عن نافع عن ابن عمر أسقط مالكًا] (¬2). أو مذكورًا مبهمًا كمالك عن رجلٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما. وحَكى الخطيب (¬3)، عن بعض العلماء: أن المنقطع هو ما رُوي عن التابعي أو ما دونه موقُوفًا عليه من قول أو فعل وهذا غريب بعيد. ويعرف الانقطاع لمجيئه من وجه آخر بزيادة رجل أو أكثر. صورته، حديث واحد له إسنادان في أحدهما زيادة رجل أو أكثر، فإن عرف أن ذلك الحديث لا يتم إسناده إلا مع تلك الزيادة فالآخر منقطع وإن لم يعرف فيُحتمل أن يكون متصلاً. المُعْضَل: يقال أعضله فهو مُعضَل بفتح الضاد، وهو ما سقط من سنده اثنان فصاعدًا كقول مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكقول الشافعي: قال ابن عمر رضي الله عنهما. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص 70). (¬2) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز). (¬3) الكفاية (ص 21).

وعن الحافظ أبي النصر السِّجْزِي (¬1)، أن قول الراوي بَلَغَنِي، يُسمى معضلاً كقول مالك: بلغني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). فرع إذا وقف تابعُ التابعيِّ حديثًا على التابعي وهو مرفوع متصل عند ذلك التابعي، فقد جعله الحاكم (¬3) نوعًا من المعضل. نحو قول الأعمش عن الشعبي "يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا" الحديث فقد رواه الشعبي عن أنس (¬4)، وأعضله الأعمش لأن التابعي أسقط اثنين، الصحابي والرسول - صلى الله عليه وسلم -. قلت: لا يجوز أن يُنسَب هذا القول إلى التابعي ويُوقَف عليه لأن مثل هذا لا يَصدُر عن التابعي استقلالاً، بل لا بد فيه من السَّماع من صاحب الوحي - عليه السلام -. الشَّاذ والمُنْكَر: قال الشافعي: هو ما رواه الثقة مخالفا لما رواه الناس (¬5). ¬

(¬1) الإمام العالم الحافظ المجود شيخ السنة، أبو نصر، عبيد الله بن سعيد بن حاتم بن أحمد الوائلي البكري السجستاني، شيخ الحرم، المتوفى في سنة 444 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 654). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 217). (¬3) معرفة علوم الحديث (ص 80). (¬4) أخرجه مسلم مرفوعًا (2969). (¬5) أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 183)، عن الشافعي به.

وقال الخليلي (¬1): هو ما ليس له إلا إسنادٌ واحد، شذَّ به شيخٌ ثقة كان، أو غير ثقة، فما كان من غير ثقة فمتروك، وما كان عن ثقة فَيُوقَف فيه ولا يحتج به. وهذا يشكل بحديث الأعمال بالنيات إذ تفرد به يحيى عن التيمي، والتيمي عن علقمة، وعلقمة عن عُمر، وعُمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخرجٌ في الصحيحين قال ابن الصلاح (¬2): ما حاصله أن الأَوْلى التفصيل، فما خالف مُفرِدُه أحفظَ منه وأضبط، فشاذٌّ مَردُود، وإن لم يخالف وهو عدل ضابط، فصحيح. أو غير ضابط ولا يَبعُد عن درجة الضَّابط، فحسن، وإن بعد فشاذ مُنكَر. قال القاضي ابن جماعة (¬3):هذا التَّفصِيلُ حَسَنٌ، لكن أخلَّ في التقسيم الحاصِر أحد الأقسام، وهو حُكمُ الثِّقةِ الذي خالفَه ثِقةٌ مِثلُه فإنَّهُ مَا بَيَّن ما حُكمُهُ. أقول: قوله أحفظ منه وأضبط على صيغة التفضيل، يدل على أن المخالف إن كان مثله لا يكون مردودًا، وقد عُلِم من هذا التقسيم أن المنكر ¬

(¬1) الإرشاد (1/ 176). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 243). (¬3) المنهل الروي (ص 51).

ما هو. المُعَلَّلُ: اعلم أن معرفة عِلل الحديث من أجلِّ علومِه وأدقِّها، وإنما يتمكن من ذلك أهل الحفظ والخبرة والفَهم الثاقب، وهو عبارة عن أسبابٍ خفية غامضة قادحة فيه، فالحديث المُعَلَّل: هو الذي اطُّلِع فيه على ما يقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منه، ويَتَطَرق ذلك إلى الإسناد الجامع لشروط الصحة ظاهرًا، ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تُنِبّه العارف على إرسالٍ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهمِ واهم، أو غير ذلك بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه، فكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وُجِد ذلك فيه من الحديث. والطريق في معرفة عِلة الحديث؛ أن نجمع طُرُقَه فننظر في اختلاف رواته وحفظهم وإتقانهم، وكثيرًا ما يُعلِّلُون الموصول بالمرسل، بأن يجيء الحديث بإسناد موصولاً وبإسناد أقوى منه مرسلاً، فَيُوهم أن الواصل غير ضابط. وقد تقع العلة في الإسناد والمتن، والأول أكثر، فما وقع في الإسناد يقدح في المتن، وما وقع في المتن يقدح في الإسناد والمتن جميعًا؛ كالتَّعليل بالإرسال والوقف. وقد يقدح في الإسناد خاصة؛ كحديث يَعْلَى بن عُبَيد عن الثوري عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " البَيِّعان بالخيار" (¬1)، وهذا إسناد ¬

(¬1) أخرجه هكذا الخليلي في الإرشاد (1/ 341).

متصل عن العدل الضابط، فهو مُعلَّل غير صحيح والمتن صحيح، والعِلَّة في قوله عمرو بن دينار، إنما هو أخوه عبد الله بن دينار، هكذا رواه الأئمة من أصحاب الثوري عنه (¬1). فوهِمَ يَعْلَى، وابنا دينار ثقتان. ومثال العلة في المتن ما انفرد مسلمٌ بإخراجه في حديث أنس، من اللفظ المُصرِّح بنفي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (¬2). فعلَّل قومٌ هذه الرواية، بأن نَفيَ مسلم البسملة صريحًا، إنما نشأ من قوله [كانوا يفتتحون بالحمد، فذهب مسلم إلى المفهوم وأخطأ، وإنما معنى الحديث] (¬3) أنهم كانوا يفتتحون بسورة يُذكر فيها الحمد لله، كما يقال قرأت البقرة، ثم انضم إلى هذا أمور منها، أنه ثبت عن أنس أنه سُئِل عن الافتتاح بالبسملة؟ فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أقول: في قول ابن الصلاح (¬4) فعلل قوم هذه الرواية، إشارة إلى أنه غير راضٍ عن تخطئتهم مُسْلِمًا، وذلك أن المذكور في المتفق عليه عن أنس قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" وفي رواية "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما ¬

(¬1) كما رواه البخاري (3/ 84)، البيهقي (5/ 269) وابن عبد البر في التمهيد (14/ 22). (¬2) مسلم (399). (¬3) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬4) مقدمة ابن الصلاح (ص 261).

كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها". وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه (¬1) عن عبد الله بن مُغَفَّل قال:" سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني مُحدَث إيَّاك والحَدَث وقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان - رضي الله عنهم - فلم أسمع منهم أحدًا يقولها فلا تَقُلها، إذا أنت صلَّيت فقل الحمد لله رب العالمين " فأين العِلة، ولَعلَّ المُعَلِّل مالَ إلى مذهبه، والإِذعانُ للحقِّ أحقُّ من المراء. واعلم أنه قد يُطلق اسمُ العلة على غير ما قدمناه؛ كالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحوها، وقد سَمَّى الترمذي النسخ علة. وأطلق بعضهم اسم العلة على مخالفةٍ لا تقدح؛ كإرسال ما وصله الثقة الضابط، حتى قال من الصحيح ما هو صحيح مُعلَّل كما قال آخر من الصحيح ما هو صحيح شاذ والله أعلم. المُدَلَّس: ما أُخفِيَ عَيْبُه. هو قسمان: أحدهما: ما يقع في الإسناد وهو: أن يَروي عمَّن لقيه أو عاصره ما لم ¬

(¬1) الترمذي (244)، والنسائي (2/ 135)، وابن ماجه (815).

يسمعه منه مُوهِمًا أنه سمعه منه، ومن شأن من هو كذلك أن لا يقول في ذلك: حدثنا ولا أخبرنا وما أشبههما حتى يكون مُدلِسًا بل يقول: قال فلان أو عن فلان أو نحو ذلك، ثم قد يكون بينهما واحد فأكثر. قال الخطيب (¬1): وربما لم يُسقِط المُدلس شيخَه لكن يُسقِط من بعده رجُلاً ضعيفًا أو صغير السن، يُحسِّن الحديث بذلك، وكان الأعمش والثوري وغيرهما يفعلون هذا النوع. والثاني: ما يقع في الشيوخ وهو: أن يروي عن شيخ حديثًا سمعه فيُسميه أو يُكَنِّيه أو ينسبه أو يَصِفَهُ بما لا يُعرف به كي لا يُعرف. أما القسم الأول فمكروه جدًا، ذمَّه أكثر العلماء وكان شعبة من أشدهم ذمًّا له. ثم اختلفوا في قَبُول رواية من عُرف بهذا التدليس، فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحًا بذلك، وقالوا لا تُقبَل روايته، بيَّن السماع أولم يبيِّن. والصحيح التفصيل فما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع فحكمه حكم المرسل وأنواعه، وما رواه بلفظ مُبيِّن للاتصال كسمعت وأخبرنا وحدثنا وأشباهها فهو مقبول محتج به، وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جدًا كقتادة (¬2)، ¬

(¬1) الكفاية (ص 364). (¬2) هو الثقة الثبت؛ قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري ينظر تهذيب الكمال (23/ 498).

والأعمش (¬1)، والسفيانين (¬2) وهُشَيمٍ (¬3)، وغيرهم، وهذا لأن التدليس ليس كَذِبًا. ثم الحكم بأنه لا يُقبل من المدلس حتى يبيِّن، أجراه الشافعي رحمه الله فيمن عرفناه دلَّس مرة (¬4). قال الشيخ محيي الدين (¬5): ما كان في الصحيحين وغيرهما من الكتب الصحيحة من التدليس بعن، فمحمول على ثبوت سماعه من جهةٍ أخرى. وأما القسم الثاني فأمره أخف، وفيه تضييع للمروي عنه، وتوعير لطريق معرفة حاله، ويختلف الحال في كراهيته بحسب الغرض الحامل عليه، فقد يحمله كون شيخه الذي غيَّر سِمَته غير ثقة، أو أصغر من الراوي عنه، أو كونه كثير الرواية عنه، فلا يحب الإكثار من ذكر شخص واحد على صورة واحدة. ¬

(¬1) هو الإمام العلم والثقة الحافظ أبو محمد الكوفي سليمان بن مهران الأعمش ينظر تهذيب الكمال (12/ 76). (¬2) هما الإمامان الجليلان الحافظان أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (11/ 154)، وأبو محمد الهلالي سفيان بن عيينة، ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (11/ 177). (¬3) هو الإمام الثقة أبو معاوية الواسطي هشيم بن بشير بن القاسم ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (30/ 272). (¬4) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 235). (¬5) التقريب مع التدريب (1/ 360).

وتَسَمَّح بهذا القِسم الخطيب أبو بكر (¬1)، وغيره من المصنفين. المُضْطَّرِب: وهو الذي تختلف الرواية فيه، فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجهٍ آخر مخالفٍ له، وإنما نُسمِّيه مضطربًا؛ إذا تساوت الروايتان، فإن ترجَّحَت إحديهما على الأخرى بوجه من وجوه الترجيح، بأن يكون راويها أحفظ أو أكثر صحبة للمروي عنه، أو غير ذلك، فالحكم للراجح ولا يكون حينئذٍ مضطربًا. والاضطراب قد يقع في السند أو المتن، إما من راوٍ أو من رُواةٍ. المَقْلُوب: وهو نحو حديث مشهور، عَن سَالِمٍ، جُعِل عن نافع، ليصيرَ بذلك غريبًا مرغوبًا فيه. روِّينا أن البخاري قدم بغداد، فاجتمع قومٌ من أصحاب الحديث، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ثم حضروا مجلسه وألقوها عليه، فلمَّا فرغوا من إلقائها، التفت إليهم، فردَّ كلَّ متن إلى إسناده، وكلَّ إسناد إلى متنه، فأذعنوا له بالفضل (¬2). ¬

(¬1) الكفاية (ص 365). (¬2) أخرج هذه القصة الخطيب في تاريخ بغداد (2/ 340).

المَوْضُوع: وهو المُخْتَلَق. اعلم أن الخبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يجب تصديقه، وهو ما نصَّ الأئمة على صحته. وقسم يجب تكذيبه، وهو ما نصُّوا على وضعه. وقسم يجب التوقف فيه، لاحتماله الصدق والكذب، كسائر الأخبار فإنه لا يجوز أن يكون كله كذبًا، لأن العادة تمنع في الأخبار الكثيرة أن تكون كلها كذبًا مع كثرة رواتِها واختلافهم، ولا أن تكون كلها صدقًا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال سَيُكذَبُ عليَّ بعدي، ولأن الأئمة كذَّبُوا جماعة من الرواة وحذفوا أحاديث كثيرة علموا كذبها، فلم يعملوا بها فلا يَحِلُّ رواية الموضوع لأحد عَلِم حاله في أي معنى كان، إلا مقرونًا ببيان وضعه بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقها في الباطن، حيث جاز روايتها في الترغيب والترهيب على ما مر. وإنما يُعرف كون الحديث موضوعًا بإقرار واضعه (¬1)، أو ما ينزل منزلة إقراره ويفهم الوضع من قرينة حال الراوي أو المروي، فقد وُضِعت أحاديث طويلة تشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها. ¬

(¬1) كما ذكر البخاري في التاريخ الصغير (2/ 192) قال: حدثني اليشكري عن على بن جرير قال سمعت عمر بن صبح يقول أنا وضعت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن الصلاح (¬1): ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين، فأودع فيهما كثيرًا، مما لا دليل على وضعه، وإنما حقه أن يذكر في مطلق الأحاديث الضعيفة. قال الشيح محيي الدين (¬2): وهذا المذكور هو أبو الفرج ابن الجوزي والواضعون للحديث أصناف وأعظمهم ضررًا قوم منتسبون إلى الزهد وضعوا الحديث احتسابًا لزعمهم الباطل فَيَقْبَلُ الناسُ موضوعاتهم ثقة بهم وركونًا إليهم. ووضعت الزنادقة أيضًا جُملاً من الحديث، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عَوَارِهَا ومَحْوِ عَارِهَا والحمد لله، وقد ذهبت الكرَّاميَّة والطائفة المبتدعة إلى جواز وضع الحديث في الترغيب والترهيب وهو خلاف إجماع المسلمين الذين يُعتَدُّ بهم في الإجماع. ثم إن الواضع ربما صنع كلامًا من عند نفسه فروى مسندًا، وربما أخذ كلام بعض الحكماء فرواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربما غلط إنسان فوقع في شبه الوضع من غير تعمُّد. كما وقع لثابت بن موسى الزاهد في حديث "من كثُرَت صلاته بالليل حَسُنَ وجْهُهُ بالنهار" (¬3) قيل كان شيخ يحدث في جماعة فدخل رجل حسن ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 279). (¬2) التقريب مع التدريب (1/ 471). (¬3) رواه ابن ماجه (1333).

الوجه فقال الشيخ في أثناء حديثه من كثرت صلاته بالليل إلى آخره فوقع لثابت بن موسى أنه من الحديث فرواه. ما روينا عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم (¬1) أنه قيل له من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورةً فسورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة رحمه الله، ومغازي محمد بن إسحاق، فَوَضعتُ هذه الأحاديث حِسبةً. وهكذا حال الحديث الطويل الذي يُروى عن أُبيِّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل القرآن سورة فسورة، بَحَثَ بَاحِثٌ عن مَخرَجِهِ حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع لَبيِّنٌ عليه (¬2). ولقد أخطأ الواحدي المُفَسِّر، وغيره من المفسرين في إيداعهم تفاسيرهم. [ومما أودعوه فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - لما بلغ في قراءته إلى قوله تعالى: ... {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (¬3) ألقى الشيطان في أُمنيتِه إلى أن قال: تِلْكَ الغَرَانيِق العُلى وإنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى. قال الإمام في تفسيره (¬4) رُوي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أن هذه ¬

(¬1) قال البخاري في ترجمته من التاريخ الكبير (8/ 111)،ذاهب الحديث جداً، وينظر أيضا تهذيب التهذيب (10/ 433). (¬2) أخرج القصة الخطيب في الكفاية (ص 401). (¬3) النجم (20). (¬4) أي الواحدي.

القصة من وضع الزنادقة وطعن فيها البيهقي أيضًا. وروى الشيخ محيي الدين (¬1): عن القاضي عِيَاض أنها باطلة لا تصح عقلاً ولا نقلاً. وذكر أبو منصور المَاتُرِيدِي: أنها من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين أرقَّاء الدين ليرتابوا في صحة الدين القويم، وقيل إنها من مفتريات ابن الزِّبَعْرَى.] (¬2) وروى مسلم في صحيحه (¬3) بإسناده عن الأعمش عن أبي إسحاق قال لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي - رضي الله عنه - قال رجل من أصحاب علي - رضي الله عنه - قاتلهم الله أيّ علمٍ أفسدوا. قال الشيخ محيي الدين (¬4): أشار بذلك إلى ما أدخله الشيعة في علم عَليٍّ وحديثه، وتقوَّلُوا عليه من الأباطيل، وأضافوا إليه من الروايات المفتعلة والأقاويل المختلقة، وخلطوها فلم يتميز صحيحه عن فاسده. قال ابن الأثير في الجامع (¬5): من الواضعين جماعة وضعوا الحديث تَقَرُّباً إلى الملوك مثل: غياث بن إبراهيم، دخل على المهدي بن المنصور وكان يعجبه الحمام الطيَّارة الواردة من الأماكن البعيدة، فروى حديثًا عن النبي ¬

(¬1) شرح مسلم (5/ 75). (¬2) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/ 12). (¬4) شرح مسلم (1/ 83). (¬5) جامع الأصول (1/ 137).

- صلى الله عليه وسلم - أنه قال "لا سبق إلا في خُفٍّ أو حَافِرٍ أو نَصْلٍ أو جَنَاحٍ" قال فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما خرج قال المهدي: أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جناح ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا. ومنهم قوم من السُؤَّال والمُكدِّين يقفون في الأسواق والمساجد فيضعون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث بأسانيد صحيحة قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد. قال جعفر بن محمد بن الطيالسي: صلَّى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرُصَافة ببغداد، فقام بين أيديهما قاصٌّ فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من قال لا إله إلا الله يُخلق من كل كلمة منها طائر، منقاره من ذَهَبٍ وريشه مرجان وأخذ في قِصته من نحو عشرين ورقة ". فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال أنت حدثته بهذا فقال والله ما سمعت به إلا هذه الساعة، قال فسكتا جميعًا حتى فرغ فقال يحيى بيده أن تعال متوهمًا لنوال يجيزه فقال له يحيى: من حدثك بهذا فقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان ولابد لك من الكذب فعلى غيرنا، فقال له أنت يحيى بن معين؟ قال نعم قال لم أزل أسمع

أن يحيى بن معين أحمق، وما علمته إلا هذه الساعة، قال له يحيى وكيف علمت أني أحمق؟ قال كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا، قال فوضع أحمد كُمَّه على وجهه، وقال دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما (¬1). فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يجري مجراهم. [وذكر ابن الأثير أيضا أن حديث صلاة الرغائب مطعون. وقال الشيح محيي الدين في شرح صحيح مسلم (¬2): واحتج العلماء بحديث النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام، على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى بالرغائب، فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة] (¬3). وقال الشيخ الحسن بن محمد بن الحسن الصَّغَاني (¬4) في كتابه الدر الملتقط في تبيين الغلط: وقد وقع في كتاب الشهاب للقُضَاعي كثير من الأحاديث الموضوعة ما هو ظاهر، فمن ذلك: • الصُبحة تمنع الرزق. ¬

(¬1) أخرجها الخطيب في الجامع (2/ 166). (¬2) شرح مسلم (8/ 20). (¬3) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬4) هو الشيخ الإمام العلامة المحدث إمام اللغة رضي الدين أبو الفضائل الصَّغَاني المتوفى سنة 650 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (23/ 282).

• السعيد من وُعظ بغيره. • الشَّقيُّ من شقِي في بطن أمه. • الحج جهاد كل ضعيف. • الجنة دار الأسخياء. • المؤمن يسير المؤنة. • شرف المؤمن قيامه بالليل وعزُّه استغناؤه عن الناس. • اليقين الإيمان كله. • الموت كفارة لكل مسلم. • المرء كثير بأخيه. • الناس كأسنان المشط. • الغِنى، اليأس مما في أيدي الناس. • حُبُّك الشيء يعمي ويصم. • طاعة الناس ندامة. • البلاء موكل بالقول. • دفن البنات من المَكرُمَات. • السلام تحية لملَّتِنا، وأمان لذمتنا. • النظر إلى الخُضرة تزيد البصر، والنظر إلى المرأة الحسناء يزيد البصر.

• الأنبياء قادة والفقهاء سادة، ومجالسهم زيادة. • الوضوء قبل الطعام، ينفي الفقر، وبعده، ينفي اللمم ويصح البصر. • من كِنزِ البر، ويُروى من كُنُوزِ البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة. • القاصُّ ينتظر المقت والمستمع إليه ينتظر الرحمة والتاجر ينتظر الرزق والمحتكر ينتظر اللعنة. • من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار لهى عن الشهوات، ومن ترقب الموت لهى عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. • من أيقن بالخُلف جاد بالعطية. • من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به. • من عزَّى مُصابًا فله مثل أجره. • من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه في النهار. • من أخلص الله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. • من أسلم على يديه رجل وجبت له الجنة. • من نزل على قوم فلا يصومنَّ تَطوعاً إلا بإذنهم. • ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا.

• رحم الله امرءًا أصلح من لسانه. • أَبىَ الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم. • كأنَّ الحق فيها على غيرنا وَجَب، وكأنَّ الموت فيها على غيرنا كُتِب وكأنَّ اللذين نُشَيِّع من الأموات سفرٌ عما قليل إلينا عائدون، نُبَوِئهُم أَجدَاثَهم ونأكل تراثهم كأنَّا مُخَلَّدُون بعدهم قد نسينا كلَّ واعظة وأَمِنَّا كلَّ جائحةٍ طُوبَى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مالٍ اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكمة وجانب أهل الذُلِّ والمعصية طوبى لمن ذلَّ نفسه وحسُنَت خليقتُه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السُنَّة ولم يَعْدُها إلى بدعة. • زُرْ غِبًّا تزدد حبًّا. • أخبر تقله. • اسمح يُسمَح لك. • اطلبوا الخير عند حِسان الوجوه. • اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. • اعتمُّوا تزدادوا حِلماً. • أغروا النساء يلزمن الحجاب. • ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام. • اطلبوا الفضل عند الرحماء من أمتي تعيشوا في أكنافهم.

• استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان لها. • تَجَافَوا عن ذنب السَّخي فإن الله آخِذ بيده كلما عثر. • أكرموا الشهود فإن الله يستخرج بهم الحقوق ويرفع بهم الظلم. • ارحموا ثلاثة غني قوم افتقر، وعزيزاً ذل، وعالماً يلعب به الحمقى والجهَّال. • تعشُّوا ولو بكفٍّ من حَشَف فإن ترك العشاء مهرمة. • أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك يومًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما. • عِش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، وأعمل ما شئت فإنك مجزي به. • إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه. • لا همَّ إلا همَّ الدَّيْن، ولا وجع إلا وجع العين. • لا يصلح الصنيعة إلا عند ذي حَسب أو دِين كما لا يصلح الرياضة إلا في النجيب. • لا مهدي إلا عيسى بن مريم. • لا خير في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل الذي ترى له. • لا تُظهِر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك.

• لا تجعلوني كقدح الراكب. • إن لجواب الكتاب حقاً كرد السلام. • إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. • إن لكل شيء معدنًا، ومعدن التقوى قلوب العارفين. • يُحَبُّ السماحة ولو على تمرات، ويُحَبُّ الشجاعة ولو على قتل حية. • إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل. • ما من عمل أفضل من إشباع كبد جائع. • حبَّذا المتخللون من أمتي. • لولا أن السُوَّال يَكذِبُون ما قُدِّس مَن ردَّهم. • يا دنيا اخدمي من خدمني واتعبي يا دنيا من خدمك. ووقع في كتاب"النجم المُذيَّل على الشهاب" للإقليشي: • من مات في طريق مكة حاجًّا لم يعرضه الله ولم يحاسبه. • من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني. • من قاد أعمى أربعين خطوة غفر له ما تقدم من ذنبه. • ومن عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله. • إن الأذانَ سهل سمح فإن كان أذانُك سهلاً سمحاً وإلا فلا تُؤذِّن. • لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

• أربع ملاحِم من ملاحِم الجنة: بدر وأُحد والخندق وحُنين. • الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان. • ردُّ دَانِقٍ حرام يَعدِل عند الله سبعين حجة مبرورة. • القرآن كلام الله غير مخلوق. • يُحشر أولاد الزنا في صورة القردة والخنازير. • صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب القدرية والمرجئة. • الأربعاء يوم نحس مستمر. هذا آخر ما جاء في الكتابين المذكورين. ومما يجري في كلام الناس معزُوًّا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم: "إذا رويتم عني حديثًا فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فردوه" (¬1). قال الخطَّابي في كتاب معالم السنن (¬2): هذا حديث وضعته الزنادقة، ويدفعه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني قد أوتيت الكتاب وما يعدله، ويُروى أوتيت الكتاب ومثله معه" (¬3). ¬

(¬1) أخرج هذا الحديث بمعناه العقيلي في الضعفاء (1/ 123) ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (500). (¬2) معالم السنن (4/ 299). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 130) وأبو داود في سننه (4606) بإسناد صحيح من حديث المقدام بن معدي كرب.

ومنه قولهم: • عليكم بدِين العجائز. • وكنت نبياً وآدم بين الماء والطين. • وعليكم بحُسن الخطِّ فإنه من مفاتيح الرزق. • المستحق محروم. • العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان. • العنب دُودُو (¬1). • ومن بَشَّرني بخروج صفر بشرته بالجنة. • لا تسافروا والقمر في العقرب. • سِراج أمَّتي أبو حنيفة. • من صام يوم الشك فقد عصا أبا القاسم، (هذا كلام عمار بن ياسر). ومن الموضوع: •خير خَلِّكم خلّ خَمْرِكم. • عالم قريش يملأ الأرض عِلماً، يعنون به الشافعي محمد بن إدريس - رضي الله عنه -. ¬

(¬1) يعني مثنى مثنى، وكتب في حاشية (د) " وهو من الكلمات التي تنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفارسية"

• والحديث الذي يُروى عن أُبَيِّ بن كعب وهو منه بريء في فضائل القرآن سورةً سورةً، وقل تفسير خلا منها إلا من عصمه الله تعالى (¬1). قولهم: في حق علي - رضي الله عنه -: • إنه لا يحل أن يَجنُب في هذا المسجد غيري وغيرك. وفي حق أبي بكر - رضي الله عنه -: • ما صبَّ الله في صدري شيئًا إلا وصببته في صدر أبي بكر. قال الشيخ: وقد صُنِّف كتُبٌ في الحديث، وجميع ما احتوت عليه موضوع منها الأربعون المُسمَّاة الوَدعانيَّة (¬2). ومنها الوصايا المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أوصى بها عَليًّا - رضي الله عنه - كلها موضوع ما خلا الحديث الأول وهو: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي" (¬3). قال الشيخ تقي الدين ابنُ تيميَّة (¬4): (¬5) ما يُروَى أن "أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، فقال له أدبر فأدبر فقال: وعزتي ما خلقت خلقًا أكرم ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص 57). (¬2) للشيخ أبي نصر محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان الموصلي، المتوفى سنة 494 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (19/ 164). (¬3) أخرجه البخاري (6/ 3)، من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬4) في (ز) التيمية بزيادة ألف ولام، والمثبت من (د). (¬5) منهاج السنة النبوية (8/ 15 - 16).

منك، فَبِك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب". ويسمونه أيضاً القلم؛ موضوع، كما ذكر أبو جعفر العقيلي (¬1)، وأبو حاتم البُسْتِي (¬2)، وأبو الحسن الدارقطني، وابن الجوزي (¬3)، وغيرهم. فذلك اثنا عشر نوعًا يختص بالضعيف. ¬

(¬1) الضعفاء الكبير (4/ 166). (¬2) لم أقف على كلام ابن حبان بشأن هذا الحديث لكن قال في المجروحين (1/ 259) في ترجمة حفص بن عمر قاضي حلب وهو أحد رواة هذا الحديث: شيخ يروي الأشياء الموضوعات لا يحل الاحتجاج به. (¬3) أخرجه في الموضوعات (366) من طريق الدارقطني.

الباب الثاني معرفة أوصاف الرواة ومن يقبل روايته ومن لا يقبل

الباب الثاني معرفة أوصاف الرواة ومن يُقبَل رِوايتُه ومن لا يُقبَل وهي من أجلِّ أنواع علوم الحديث وأهمها، وهي التي تميز بين الصحيح والضعيف. وفيها تصانيف كثيرة منها ما أُفرِدَ في الضُّعفاء ككتاب البُخاري، والنَّسائي والدارقُطنِي (¬1). وما أُفرِد في الثقات ككتاب الثقات لابن حبان (¬2). ومنها ما اشترك كتاريخ البخاري وابن أبي خيثمة وابن أبي حاتم (¬3). وَجُوِّزَ الجرحُ والتعديل صيانة للشريعة، ويجب على المتكلم التثبت فيه فقد أخطأ غير واحد بجرحهم بما لا يُجرِّح. ¬

(¬1) طبع كتاب الضعفاء الصغير للبخاري والضعفاء والمتروكين للنسائي معًا في مجلد واحد بتحقيق محمود إبراهيم زايد، وطبع الضعفاء والمتروكين للدارقطني بتحقيق صبحي السامرائي. (¬2) طبع في تسع مجلدات بحيدر آباد الدكن. (¬3) طبع التاريخ الكبير للبخاري في ثمان مجلدات بحيدر آبا الدكن، وطبع تاريخ ابن أبي خيثمة حديثا بدار الفاروق وطبع الجرح والتعديل لابن أبي حاتم في تسع مجلدات بحيدر آباد الدكن.

وفيه فصول

وفيه فصول: الأول: أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه والأصول على أنه يشترط فيمن يحتج بحديثه العدالة والضبط. فالعدالة فيه أن يكون مُسلِمًا بالغًا عاقلاً سليمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة. والضبط أن يكون مُتَيقِّظًا حافظًا، إن حدَّث من حفظه، ضابطًا لكتابه إن حدَّث منه، عارفاً بما يختل به المعنى إن روى به. ولا يشترط الذكورة ولا الحُريَّة (¬1)، ولا العلم بفقهه وغريبه ولا البصر ولا العدد. الثاني: تعرف العدالة بتنصيص عدلين عليها، أو بالاستفاضة. فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو غيرهم من العلماء، وشاع الثناء عليه بها كفي، كمالك والسفيانين والأوزاعي والشافعي وأحمد وأشباههم. ويقبل تعديل العبد والمرأة، إذا كانا عارفين به كما يقبل خبرهما قاله الخطيب (¬2). ويعرف ضَبطُه بأن يعتبر روايته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان فإن وافقهم غالباً وكانت مخالفته نادرة، عرفنا كونه ضابطًا ثَبْتًا، ¬

(¬1) قوله ولا الحرية سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬2) الكفاية (ص 98).

الثالث: التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها.

وإن وجدناه كثير المخالفة لهم، عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه (¬1). الثالث: التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها. وأما الجرح فلا يُقبَل إلا مُفسَّرًا مُبَيَّن السبب، لاختلاف الناس فيما يوجب الجرح. ولهذا احتج البخاري في صحيحه بعكرمة مولى ابن عباس (¬2)، وإسماعيل بن أبي أويس (¬3)، وعاصم بن علي (¬4)، وغيرهم. ومسلم بسويد بن سعيد (¬5)، وغيره، وكل هؤلاء سبق الطعن فيهم، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا مفسر السبب. فإن قيل إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على كتب الجرح والتعديل، وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب بل يقتصرون على قولهم: فلان ضعيف، فلان ليس بشيء، ونحوه، وهذا حديث ضعيف أو غير ثابت، ونحو ذلك. فاشتراط بيان السبب يُفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في ¬

(¬1) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 290). (¬2) ترجمته في تهذيب الكمال (20/ 264). (¬3) ترجمته في تهذيب الكمال (3/ 124). (¬4) ترجمته في تهذيب الكمال (13/ 508). (¬5) ترجمته في تهذيب الكمال (12/ 247).

الرابع: يثبت الجرح والتعديل في الرواة بقول واحد على الصحيح؛ لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر فلم يشترط في جرح راويه وتعديله.

الأغلب. والجواب أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في توقف قبول حديث من قالوا فيه ذلك؛ لأن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبةً قوية، ثم من انزاحت عنه تلك الرِّيبة بحثنا عن حاله بحثًا أوجب الثقة بعدالته فقبِلنا روايته ولم نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين، وغيرهما ممن تقدم فيهم الجرح. الرابع: يثبت الجرح والتعديل في الرواة بقول واحد على الصحيح؛ لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر فلم يشترط في جرح راويه وتعديله. وإن اجتمع في شخصٍ جَرحٌ وتَعديل، فالجرح مُقدَّم، وإن تعدد المعدل على الأصح، لأن المُعدِّل يُخبِر عمَّا ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خَفِيَ على المعدِّل. الخامس: إذا قال حدثني ثقة، إن قصد به التعديل، لا يُجزئ إذ لا بد من تعيين المعدَّل وتسميته، وذلك لأنه قد يكون ثقةً عنده، وغيره قد اطَّلع على جرحه بما هو جارحٌ عنده، بل إِضرابُه عن تَسميتهِ مُريبٌ في القلوب. وإن قصد به مجرد الإخبار من غير تعديل وسمَّاه، لم يجعل روايته عنه تعديلاً منه له؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل. نعم إذا قال العالم: كل من رَويت عنه فهو ثقة، ثم روى عمَّن لم يُسمِّه فإنه يكون مُزكيًا له، غير أنَّا لا نعمل بتزكيته هذه، لما مر آنفًا. وليس عمل العالم أو فُتياه على وفق حديث، حُكمًا بصحته، ولا مخالفته له جرحًا في رواته.

السادس: الألفاظ المستعملة في الجرح والتعديل.

قال القاضي (¬1): العالم الذي من شأنه اشتراط العدالة في الرواية، إذا عمل بخبر رجل لا شاهد له ولا متابع، يكون تعديلاً له إذا لم يكن عمله من باب الاحتياط، وذلك أن يعمل بالحديث الضعيف مخافة أن يكون صحيحًا في نفس الأمر يجب العمل به. السادس: الألفاظ المستعملة في الجرح والتعديل. أما ألفاظ التعديل ففي مراتب: الأولى: أن يُقال هو ثقة، أو مُتقِن، أو ثَبْت، أو حُجة، أو يقال في العدل حافظ، أو ضابط، فهو ممن يحتج بحديثه. الثانية: صدوق، أو مَحِلُّه الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يُكتب حديثُه ويُنظر فيه، لأن هذه العبارات لا تُشْعِر بالضبط، فيُنظر ليُعرف ضبطه، وقد تقدم بيان الاعتبار. وعن ابن مهدي (¬2): قال حدثنا أبو خَلدة، فقيل له كان ثقة؟ قال: كان صدوقًا، وكان مأمونًا، وكان خير، الثقة: شعبة وسفيان. الثالثة: إذا قيل "هو شيخ"، فهو يُكتب حديثه ويُنظر فيه، قيل وقريب منه "روى عنه الناس". الرابعة: "صالح الحديث"، فإنه يكتب حديثه للاعتبار، قيل ومثله "هو ¬

(¬1) المنهل الروي (ص 65). (¬2) كما أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 264) ومن طريقه الخطيب في الكفاية (ص 22).

السابع: لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث، أو إسماعه كمن ينام حالة السماع أو يشتغل عنه، أو يحدث لا من أصل

وسط". وسمع ابن مهدي في حق رجل ضعيف الحديث، هو رجل صدوق فقال: رجل صالح الحديث (¬1). وألفاظ الجرح أيضاً على مراتب: أولها: هو ليّن الحديث، فهذا يُكتب حديثه ويُنظر اعتبارًا. قال الدارقطني (¬2): إذا قُلتُ ليَّن الحديث، فلا يكون ساقطًا، ولكن مجروحًا بشيء لا يُسقِط العدالة. قيل ومثله مُقارِب الحديث، أو مضطرب الحديث، أو لا يُحتج به، أو مجهول. الثانية: هو ليس بقوي، فهو بمنزلة الأُولى في كَتْبِ حديثِه، إلا أنه دونه في القوة، قيل ومثله، "ليس بذاك" أو "ليس بذاك القوي". الثالثة: ضعيف الحديث: هو دون الثاني لا يُطرَح بل يُعتبَر. الرابعة: هو متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو كذَّاب: فهو ساقط لا يُكتَب حَديثُه. السابع: لا تُقبَل رواية من عُرِف بالتَّساهُل في سماع الحديث، أو إِسماعه كمن ينام حالة السَّماع أو يشتغل عنه، أو يُحدِّث لا من أصل ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في الكفاية (ص 22). (¬2) سؤالات حمزة السهمي للدارقطني (ص 72).

الثامن: من خلط لخرفه أو ذهاب بصره أو لغير ذلك، فيقبل ما روي عنه قبل الاختلاط ويرد ما بعده وما شك فيه أيضا.

مُصَحَّح، أو من عُرِف بِقَبول التَّلقين في الحديث من غير كتب وحفظ، أو بكثرة السهو في رواياته إذا لم يُحدِّث من أصل مُصحَّح، أو من كَثُرَت الشواذ والمناكير في حديثه. قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحُمَيدي وغيرهم: من غلط في حديثه فبُيِّنَ له غلطُه فلم يرجع وأصرَّ على غلطه سقطت روايته. قال ابن الصلاح (¬1): هذا الذي قالوه لعله إذا ظهر منه ذلك على وجه العناد. فإن لم يكن عنادًا بأن يكون على وجه التنفير في البحث ففيه نظر، ولا بأس بأدنى نُعاس، ولا يختل معه فهم الكلام، وكان بعضهم إذا كتب طبقة السماع كتب، وفلان وهو ينعس وفلان وهو يكتب. الثامن: من خلَّط لخَرفهِ أو ذَهاب بصره أو لغير ذلك، فيُقبل ما رُويَ عنه قبل الاختلاط ويُرَدُّ ما بعده وما شك فيه أيضًا. فمنهم عطاء بن السائب (¬2)، احتجوا برواية الأكابر عنه؛ كالثوري وشعبة. قال القطان (¬3): إلا حديثين سمعهما شعبة بأَخَرةٍ عن زاذان. ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 306). (¬2) ترجمته في تهذيب الكمال (20/ 86). (¬3) الإمام يحيى بن سعيد بن فروخ القطان أبو سعيد البصري الأحول الحافظ ترجمته في تهذيب الكمال (31/ 329).

التاسع: في رواية المجهول الحال

ومنهم عبد الرحمن بن عتبة بن عبد الله بن مسعود (¬1) في أيام المهدي. ومنهم ربيعة الرأي (¬2) شيخ مالك في آخر عمره. ومنهم سفيان بن عُيينة قبل موته بسنتين. التاسع: في رواية المجهول الحال. وهو أقسام ثلاثة:- أحدها: مجهول العدالة ظاهرًا وباطنًا، فلا يقبل عند الجماهير. وثانيها: مجهول العدالة باطنًا لا ظاهرًا، وهو المستور. والمختار قبوله، وقطع به سليم الرازي (¬3)، وعليه العمل في أكثر كتب الحديث المشهورة فيمن تقادم عهدهم وتعذَّرت معرفتهم؛ لأن أمر الإخبار مبنيٌّ على حسن الظن بالراوي المسلم، ونشر الأحاديث مطلوبُ كل واحد ومعرفة الباطن مُتعذِّر، بخلاف الشهادة فإنها تكون عند الحُكَّام ولا يتعذَّر عليهم ذلك، فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن. وثالثها: مجهول العين، وهو كل من لم يعرفه العلماء، ولم يُعرف حديثُه إلا من جهة راوٍ واحد، قاله الخطيب (¬4). ¬

(¬1) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ترجمته في تهذيب الكمال (17/ 219). (¬2) هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن القرشي التيمي ترجمته في تهذيب الكمال (9/ 123). (¬3) هو أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 645)، وفيات الأعيان (2/ 397) وإنباه الرواة (2/ 69). (¬4) الكفاية (ص 88).

[قال ابن الصلاح (¬1): من يقبل رواية المجهول العدالة لا يقبل رواية المجهول العين] (¬2). وقال ابن عبد البر (¬3): من لم يرو عنه إلا واحدًا فهو مجهول عندهم إلا أن يكون مشهورًا بغير حمل العلم، كمالك بن دينار في الزهد، وعمرو بن مَعدِي كَرِب بالنجدة. قال الخطيب (¬4): وأقلُّ ما يرفع الجهالة أن يروي عنه اثنان من المشهورين بالعلم. قال ابن الصلاح ردًّا على الخطيب (¬5): قد خرَّج البخاري في صحيحه عن مرداس الأسلمي، ولم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم (¬6). ومسلم، عن ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير أبي سلمة (¬7). وذلك مصير منهما (¬8) إلى خروجه عن هذه الجهالة برواية واحد، ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 296). (¬2) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬3) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 556). (¬4) الكفاية (ص 88). (¬5) مقدمة ابن الصلاح (ص 296). (¬6) أخرج البخاري له حديث " يذهب الصالحون الأول فالأول" الحديث ... (5/ 157) و (8/ 114). (¬7) أخرج له مسلم حديث " أسألك مرافقتك الجنة" الحديث (489). (¬8) قوله مصير منهما في (ز) مصير بينهما، والمثبت من (د)، مقدمة ابن الصلاح (ص 296) وتدريب الراوي (1/ 532).

العاشر: المبتدع الذي لم يكفر ببدعته

والخلاف في ذلك كالخلاف في الاكتفاء بتعديل واحد. قال الشيخ محي الدين مجيبًا عنه (¬1): الصواب ما ذكره الخطيب فهو لم يَقُلْه عن اجتهاده بل نقله عن أهل الحديث. وردُّ الشيخِ عليه بما ذكره عجب؛ لأنه شرط في المجهول أن لا يعرفه العلماء وهذان معروفان عند أهل العلم بل مشهوران. فمرداس، من أهل بيعة الرضوان، وربيعة، من أهل الصفة، والصحابة كلهم عدول، فلا يَضرُّ الجهالة بأعيانهم لو ثبتت. أقول: هذا الجواب مسلَّم في حق الصحابة، وليت شعري كيف يَدفع قوله والخلاف في ذلك كالخلاف في الاكتفاء بتعديل واحد، وقد تقرر أن العدد لم يُشترَط في قبول الخبر ولا في جرح الراوي وتعديله على المذهب الصحيح فكذلك لا يشترط في رفع الجهالة. فرع يُقبَل من عُرِفَت عينُه وعدالتُه وإن جُهِل اسمُه ونسبُه. العاشر: المُبتَدِع الذي لم يُكَفًّر ببدعته فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يُقبَل روايته مُطلقًا لفسقه، فكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغيره. وقيل: إن لم يَسْتَحلّ الكذب لنصرة مذهبه، قُبل، وإن استحلَّه كالخطَّابية ¬

(¬1) التقريب مع التدريب (1/ 531).

الحادي عشر: التائب من الكذب،

من الروافض لم يُقبَل، ويُعزى هذا إلى الشافعي - رضي الله عنه - (¬1). وقيل: إن كان داعيةً لمذهبه لم يُقبَل، وإلا قُبِل، وهذا الذي عليه الأكثر. وقال بعض أصحاب الشافعي: اختلف أصحابنا في غير الداعية واتفقوا على عدم قبول رواية الداعية. قال أبو حاتم بن حبان (¬2): لا يجوز الاحتجاج بالدَّاعية عند أئمتنا قاطبة، لا خلاف بينهم في ذلك. والمذهب الأول ضعيف جدًا. ففي الصحيحين، وغيرهما من كتب أئمة الحديث، الاحتجاج بكثير من المبتدعة، غير الدعاة. الحادي عشر: التائب من الكذب، وغيره من أسباب الفسق يُقبل روايته، إلا التائب من الكذب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلا يُقبل روايته أبدًا وإن حَسُنت توبته. كذا قال أحمد بن حنبل والحُميدي (¬3) شيخ البخاري (¬4)، والصَّيْرَفي الفقيه ¬

(¬1) حكاه عن الشافعي أبو بكر الخطيب في الكفاية (ص 120). (¬2) ينظر الثقات (6/ 140 - 141)، والمجروحين (1/ 81). (¬3) الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي الحافظ صاحب المسند المتوفى قي سنة 219 هـ. ينظر تهذيب الكمال (14/ 512). (¬4) أخرج هذا القول عنهما الخطيب في الكفاية (ص 117 - 118).

الثاني عشر: إذا روى ثقة عن ثقة حديثا وروجع

الشافعي (¬1)، وأطلق الصيرفي فقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نَعُد لقبوله بتوبة يُظهرها، ومن ضعَّفنَا نقله لم نجعله قوياً بعد ذلك. قال: وذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة (¬2). الثاني عشر: إذا روى ثقةٌ عن ثقةٍ حديثًا وروجع (¬3) المروي عنه فنفاه، فإن كان جازمًا بنفيه بأن قال: ما رَويته، أو كُذِبَ عليَّ، أو نحو ذلك وجب ردّ ذلك الحديث، ولا يقدح ذلك في باقي رواياته. وإن قال: لا أعرفه ولا أذكره أو نحوه، لم يقدح ذلك في هذا الحديث أيضاً على المختار. ومن روى حديثًا ثم نسيه، لم يسقط العمل به عند جهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: يجب إسقاطه وبنوا عليه ردَّهم حديث "إِذَا نُكِحَتِ المَرأَةُ بِغَيرِ إِذنِ وَليِّها فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ" (¬4). ¬

(¬1) هو الإمام الجليل الأصولي محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي توفي سنة 330 هـ ينظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى (3/ 186). (¬2) ذكر السيوطي في التدريب (1/ 554) أن قول الصيرفي هذا في كتاب شرح الرسالة للصيرفي ولم أقف عليه وهو مذكور ضمن مصنفاته ينظر طبقات الشافعية (3/ 186). (¬3) في المطبوعة ورجع والمثبت من (ز)، (د). (¬4) أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1102).

الثالث عشر: اختلفوا فيمن أخذ على التحديث أجرا.

وحديث أبي هريرة: في "القضاء بالشاهد واليمين" (¬1). والصحيح قول الجمهور؛ لأن المروي عنه بصدد النسيان، والراوي عنه ثقة جازم فلا تُرد روايته بالاحتمال. وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها، فحدثوا بها عمن سمعها منهم فيقول أحدهم: حدثني فلان عنِّي، أني حدثته. وجمع الخطيب ذلك في كتابه المعروف (¬2). ولهذا كَرِه الشافعي وغيره من العلماء الرواية عن الأحياء. الثالث عشر: اختلفوا فيمن أخذ على التحديث أجرًا. فقال قوم: لا يقبل روايته، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن رَاهَوَيه وأبي حاتم الرازي؛ لأن ذلك يَخرِمُ المروءة عُرفًا ويُتَطرَّق إليه تهمة. ورخص في ذلك أبو نُعيم الفضل بن دُكَيْن وعلي بن عبد العزيز المكي وآخرون قياسًا على أجرة تعليم القرآن (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3612) وابن ماجه (2458) وينظر علل ابن أبي حاتم (2/ 173). (¬2) يقصد جزء (من حدث ونسي)، ذكره الذهبي ضمن مصنفات الخطيب في ترجمته من السير (18/ 290) ولم أقف عليه وقد لخصه الحافظ السيوطي في كتابه (تذكرة المؤتسي في من حدث ونسي) وهو مطبوع. (¬3) أخرج هذه الأقوال الخطيب في الكفاية (ص 153 - 157).

الرابع عشر: أعرض الناس في هذه الأعصار

وكان أبو الحسين بن النقور (¬1) يأخذ الأجرة على الحديث لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجوازها، لكون أصحاب الحديث كانوا يمنعونه الكسب لعياله (¬2). الرابع عشر: أعرض الناس في هذه الأعصار عن مجموع الشرائط المذكورة واكتفوا من عدالة الراوي بكونه مستورًا، ومِن ضبطه بوجود سماعه مُثبتًا بخط مُوثَقٍ به، وروايته من أصل موافق لأصل شيخه. واحتج البيهقي لذلك بأن الحديث الصحيح وغيره قد جُمِعَ في كتب أئمة الحديث، فلا يذهب شيء منه عن جميعهم، وإن جاز ذلك في بعض (¬3). أقول: إن البخاري جمع في كتابه الأحاديث الصحيحة ولم يَستوعبها فذكر بعده مسلمٌ ما صحَّ عنده وزاد عليه، ثم بعده أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه، ذكروا من الصحيح والضعيف ما ذهب عنهما. وذلك أن أئمة الحديث محفوظون أن يذهب شيء من الاحتياط عن جميعهم لضمان صاحب الشَّريعة حِفظها. والقصد بالسَّماع بقاء سلسلة السَّند المخصوص بهذه الأمة حرسها الله تعالى. ¬

(¬1) الشيخ الجليل مسند العراق، أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن النقور البغدادي، البزاز، توفي سنة 470 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 372). (¬2) أخرجه ابن الصلاح في المقدمة (ص 305). (¬3) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 307).

الباب الثالث في تحمل الحديث وطرق نقله وضبطه وروايته

الباب الثالث في تَحمُّلِ الحديثِ وطُرُقِ نَقِلِه وضَبطِهِ ورِوَايَتِهِ وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في أَهليَّةِ التَّحَمُّلِ يصح التَّحمل قبل الإسلام وقبل البُلوغ، ومنع الثاني قومٌ وأخطئوا لاتفاق الناس على قبول رواية الحسن والحُسين وابن عبَّاس وابن الزُّبير والنُّعمان بن بَشير، وغيرِهم، ولم يزل الناس يُسمِعون الصِّبيان. واختُلِف في الزمن الذي يصح فيه سماع الصبي. فقال القاضي عِيَاض (¬1): حدَّدَ أهل الصنعة في ذلك خمس سنين وهو سن محمود بن الربيع (¬2)، الذي ترجم البخاري فيه "باب متى يصح سماع الصغير" وقيل كان ابن أربع سنين، وهذا الذي استقر عليه عمل المتأخرين يكتبون لابن خمس، سمع ولمن دونه، حَضرَ أو أُحضر. وقيل الصواب أن يُعتبر كل صغير بحاله، فمتى كان فَهِمًا للخطاب وردَّ ¬

(¬1) الإلماع (ص 62). (¬2) أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس أو أربع سنين ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (27/ 301).

الجواب صحَّحنا سماعه، وإن كان له دون خمس. ونُقِل نحو ذلك عن أحمد بن حنبل وموسى الحمَّال (¬1). وإن لم يكن كذلك لم يصح سماعه وإن كان ابن خمسين (¬2). وقد نقل أنَّ صبيًّا ابن أربع سنين حُمِل إلى المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الرأي غير أنه إذا جاع يبكي (¬3). وحاصله أن القاضي اعتبر تحديد السن وبعضهم اعتبر الحالة، وهو الصحيح فلا يُردّ حديث محمود إشكالاً على القول الصحيح؛ لأنه يدل على إثبات سماع من هو مثله في السن والذكاء ولا يدل على نفي سماع من كان دونه في العمر وله ذكاء وفطنة. قال أبو عبد الله الزبيري (¬4): يُستحب كَتْب الحديث بعد عشرين سنة لأنها مجتمع العقل (¬5). وقال موسى بن هارون (¬6): أهل البصرة يكتبون لعشر سنين وأهل ¬

(¬1) هو موسى بن هارون بن عبد الله بن مروان الحمال البغدادي البزاز الإمام الحجة المتوفى في سنة 294 هـ وينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 116) والنقلان أخرجهما الخطيب في الكفاية (ص 61، 65). (¬2) في المطبوعة خمس سنين والمثبت من (ز)، (د). (¬3) ينظر الكفاية (ص 64)، ومقدمة ابن الصلاح (ص 315). (¬4) هو الزبير بن أحمد بن سليمان الشافعي البصري توفي في سنة 317 هـ ينظر ترجمته في تاريخ بغداد (9/ 492) وسير أعلام النبلاء (15/ 57). (¬5) ينظر الكفاية (ص 55). (¬6) المصدر السابق.

الكوفة لعشرين، وأهل الشام لثلاثين. والصواب في هذه الأزمان: أن يُستكثر سماع الحديث بإسماع الصغير من أول زمان يصح فيه سماعه لأن الملحوظ الآن إبقاء سلسلة الإسناد فَحسْب. وأن يشتغل بكتب الحديث وتقييده من حين تأهله لذلك، ولا ينحصر التأهل في سن مخصوص، لاختلاف ذلك باختلاف الأشخاص.

فرع

فرع تجوز رواية الأكابر عن الأصاغر، فلا يُتوهم كون المرويّ عنه أكبر وأفضل لأنه الأغلب، وهو على أقسام: الأول: أن يكون الرَّاوي أكبر سِنًّا، وأقدم طبقة، كالزهري عن مالك وكالأزهري (¬1)، عن الخطيب. والثاني: أن يكون أكبر قدرًا عن المرويِّ عنه بأن يكون حافظًا عالمًا والمروي عنه شيخًا راويًا، كمالك، عن عبد الله بن دينار. والثالث: أن يروي العالم الشيخ عن صاحبه أو تلميذه، كعبد الغني (¬2)، عن الصوري (¬3)، وكالبرقاني (¬4)، عن الخطيب. ومنه رواية الصحابة عن التابعين، كالعبادلة وغيرهم عن كعب الأحبار. ¬

(¬1) هو المحدث الحجة المقرئ أبو القاسم عبيد الله بن أحمد المعروف بابن السَّوَادي توفي في سنة 435 هـ وترجمته في تاريخ بغداد (12/ 120). (¬2) هو عبد الغني بن سعيد أبو محمد الأزدي المصري محدث الديار المصرية، صاحب كتاب " المؤتلف والمختلف " توفي في سنة 409 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 268). (¬3) هو الإمام محمد بن علي الشَّامي السَّاحلي الصوري توفي سنة 441 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 627). (¬4) هو الإمام العلامة الفقيه أبو بكر أحمد بن محمد البرقاني الخوارزمي ثم البغدادي توفي سنة 425 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 464).

الفصل الثاني في طرق تحمل الحديث

الفصل الثاني في طُرُق تَحَمُّل الحَدِيث وهي سبعة: الطريق الأول: السَّماع من لفظ الشيخ سواء كان إملاءًا أم تحديثًا، وسواء كان من حفظه أو من كتابه، وهذا أرفع الطرق عند الجماهير. قال الخطيب (¬1): أرفع العبارات في ذلك "سمعت" ثم "حدثنا" و"حدثني" فإنه لا يكاد أحد يقول سمعت في أحاديث الإجازة والمكاتبة ولا في تدليس ما لم يسمعه، وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له حدثنا. وروى عن الحسن أنه كان يقول: حدثنا أبو هريرة ويتأول أنه حدث أهل المدينة، وكان الحسن إذ ذاك بها إلا أنه لم يسمع منه شيئًا (¬2). ثم يتلو ذلك، أخبرنا وهو كثير في استعمال الحفاظ حتى أن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يستعملون فيما سمعوه من لفظ مَن حدثهم إلا أخبرنا (¬3). وذكر الخطيب (¬4): كان عبد الرزاق يقول: أخبرنا فيما سمع حتى قدم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فقالا له: قل حدثنا. ¬

(¬1) الكفاية (ص 284). (¬2) ينظر المصدر السابق، ومقدمة ابن الصلاح (ص 316). (¬3) ينظر الكفاية (ص 284)، ومقدمة ابن الصلاح (ص 317). (¬4) الكفاية (ص 286).

وقال ابن الصلاح (¬1): هذا الاختلاف كله قبل أن يَشيع تخصيص أخبرنا بما قُرِئ على الشيخ. فحينئذ يكون فوق حدثنا. قال الخطيب (¬2): ثم يتلو "أخبرنا" "أنبأنا" "ونبأنا"،وهو قليل في الاستعمال. قال القاضي ابن جماعة (¬3): لا سيَّما بعد غلبته في الإجازة. قال ابن الصلاح (¬4): "حدثنا وأخبرنا" أرفع من "سمعت" من جهة أخرى وهي أنه ليس في "سمعت" دلالة على أن الشيخ روى الحديث وخاطبه به وفي "حدثنا وأخبرنا" دلالة على أنه خاطبه به ورواه له. قال القاضي ابن جماعة (¬5): وقد يُردّ هذا، بأن سمعت صريح في سماعه بخلاف أخبرنا لاستعماله في الإجازة عند بعضهم. أقول: يُردُّ هذا الردّ بأن مقصود الشَّيخ من قوله من جهة أخرى ليس ما عليه اصطلاح أهل الحديث، بل بحسب اللغة والعُرف ألا ترى إلى قوله (¬6) ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 317). (¬2) الكفاية (ص 286). (¬3) المنهل الروي (ص 80). (¬4) مقدمة ابن الصلاح (ص 317). (¬5) المنهل الروي (ص 80). (¬6) في مقدمة ابن الصلاح (ص 317 - 318)، وأصل الكلام في الكفاية (ص 287).

كان أبو القاسم (¬1) مع ثقته وصلاحه عسِراً في الرواية، وكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضوره، فيسمع منه ما يحدث به غيرَه فلذلك يقول: سمعت، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا لأن قصدَه بالرواية غيرُه، وأما قال لنا فلان، أو ذكر لنا، فمن قبيل حدثنا لكنه بما سمع في المذاكرة في المجالس والمناظرة بين الخصمين أشبه وأليق من حدثنا. وأوضع (¬2) العبارات: "قال فلان"، ولم يقل "لي" أو "لنا". ومع ذلك فهو محمول على السَّماع إذا تحقق لقاؤه لا سيَّما ممن عُرِف أنه لا يقول ذلك إلا فيما سمعه. وخصَّص الخطيب (¬3) حَمْل ذلك على السماع بمن عُرف من عادته أنه لا يقول ذلك إلا فيما سمعه، والمحفوظ المعروف أنه ليس بشرط والله أعلم. ¬

(¬1) هو الإمام الحافظ أبو القاسم، عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الجرجاني الآبندوني توفي في سنة 368 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 261). (¬2) في المطبوعة " أوضح" والمثبت من (ز)، ومقدمة ابن الصلاح (ص 318). (¬3) في الكفاية (ص 318).

الطريق الثاني: القراءة على الشيخ

الطريق الثاني: القراءة على الشيخ: ويُسمِّيها أكثر قدماء المحدِّثين عرْضًا؛ لأن القارئ يعرضه على الشيخ سواء قرأ هو أم غيره وهو يسمع، وسواء قرأ من كتاب أو من حفظ، وسواء كان الشيخ يحفظه أم لا، إذا كان يمسك أصله هو أو ثقة غيره وهي رواية صحيحة باتفاق، خلافًا لبعض من لا يعتد به (¬1). واختلفوا في أن القراءة على الشيخ مثل السَّماع من لفظه في المرتبة أو فوقه أو دونه. فنُقِل عن أبي حنيفة ومالك وغيرهما ترجيح القراءة على الشيخ، ويروى عن مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة أنهما سواء وهو مذهب مُعْظَم علماء الحجاز والكوفة والبخاري (¬2). والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ وهو مذهب الجمهور من أهل المشرق (¬3). أقول: لعل الوجه فيه، أن الشَّيخ حينئذٍ خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسفيره إلى أمته، والأخذ منه كالأخذ منه صلوات الله وسلامه عليه. ¬

(¬1) ينظر محاسن الاصطلاح (ص 319). (¬2) ينظر المحدث الفاصل (ص 426)، الكفاية (305 - 309). (¬3) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 320).

فرع الأول: العبارة في الرواية بهذا الطريق على مراتب أحوطها أن يقول: قرأت على فلان، أو قُرئ عليه وأنا أسمع فأقر الشيخ به. ويتلوه قول: حدثنا أو أخبرنا مقيّدًا بقيد قراءًة عليه ونحو ذلك. واختلفوا في جواز استعمال حدثنا وأخبرنا مُطلَقَيْن، فمنع ابن المبارك وأحمد بن حنبل والنسائي وغيرهم، وجوَّزها الزُّهري ومالك وسفيان بن عيينة وغيرهم (¬1)، وهو مذهب البخاري. والمذهب الثالث: أنه يجوز إطلاق أخبرنا ولا يجوز إطلاق حدثنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه (¬2)، ومسلم وجمهور أهل المشرق وهو الشائع الغالب الآن لأن فيه إشعار بالنطق والمشافهة بخلاف أخبرنا. ومِن أحسن ما يُحكَي فيه أن أبا حاتم (¬3) قرأ على بعض الشيوخ ممن سمِع من الفَرَبْري (¬4) قراءًة عليه صحيح البخاري، وكان يقول له في كل حديث "حدثكم الفَرَبْري"، فلما فرغ من الكتاب، سمع الشيخ يذكر أنه ¬

(¬1) ينظر المحدث الفاصل (ص 432 - 433). (¬2) ينظر الكفاية (ص 296). (¬3) أبو حاتم هذا هو محمد بن يعقوب الهروي، أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان. ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 323). (¬4) هو الإمام المحدث الثقة العالم، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري، راوي " الجامع الصحيح " عن أبي عبد الله البخاري، توفي سنة 320 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 10).

إنما سمع الكتاب من الفَرَبْري قراءًة عليه، لا سماعًا منه، فأعاد أبو حاتم قراءة الكتاب كله وقال له في جميعه "أخبركم الفَرَبْري" (¬1). الثاني: يستحب أن يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ "حدثني"، وفيما سمعه مع غيره "حدثنا"، وفيما قرأ عليه بنفسه "أخبرني" وفيما قُرِئَ عليه وهو يسمع "أخبرنا". ورُوي نحوه عن ابن وهب، واختاره الحاكم، وحكاه عن أكثر مشايخه وأئمة عصره (¬2). فإن شك فالمختار أنه يقول: حدثني أو أخبرني. ونُقِل عن يحيى القطان ما يقتضي جواز حدثنا وأخبرنا، فإن قال لِمَا سمع وحده، حدثنا وأخبرنا، ولِما سَمِع في جماعة حدثني وأخبرني جاز (¬3). الثالث: إذا قرأت على الشيخ وقلت أخبرك فلان، أو قلت أخبرنا فلان وهو مُصْغٍ فاهِم غير مُنكِرٍ ولا مُتَكَرِّهٍ، صحَّ السماع وجازت الرواية به، وإن لم ينطق الشيخ على الصحيح. وشرط بعض الشافعية كسُليم (¬4)، وأبي إسحاق الشِّيرازي وابن الصبَّاغ وبعض الظاهرية نُطقه، وشرط بعض الظاهرية إقراره به عند تمام السماع. ¬

(¬1) ينظر تعليق البلقيني على هذه القصة، محا سن الاصطلاح (323). (¬2) أخرجه القاضي عياض في الإلماع (ص 126 - 127). (¬3) ينظر مقدمة ابن الصلاح (325). (¬4) تقدمت ترجمته (ص 79).

قال ابن الصبَّاغ (¬1): وله أن يعمل به وأن يرويه قائلاً: قُرئ عليه وهو يسمع وليس له أن يقول حدثني (¬2). وإذا كان أصل الشيخ حالة السماع في يَدِ مَوثُوقٍ به مُراعٍ لما يقرأ أهلٌ لذلك كان كإمساك الشيخ، سواءٌ كان الشيخ يحفظ ما يقرأ أم لا، هذا هو الصحيح. وقيل إن لم يحفظه الشيخ لم يصح السماع، وهو مردود لعمل المحدثين على خلافه، فإن كان الأصل بيد القارئ وهو موثوق بدينه ومعرفته فأولى بالصحة، وإن لم يكن الأصل بيد موثوق به ولم يحفظه الشيخ لم يصح السماع (¬3). الرابع: لا يجوز في الكُتُب المؤلفة إذا رُويت إبدال "حدثنا" "بأخبرنا" ولا عكسه ولا سمعت بأحدهما ولا عكسه، لاحتمال أن يكون من قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما، وإن كان يرى ذلك فالإبدال عند التسوية مبنيٌّ على الخلاف المشهور في رواية الحديث، هل يجب أداء ألفاظه؟ أو يجوز نقل معناه فمن جَوَّز أداء المعنى من غير نقل اللفظ يُجَوِّز إبدال حدثنا بأخبرنا، وعكسه ومن لم يُجَوِّز لم يُجوز (¬4) الإبدال وعلى هذا التفصيل ما ¬

(¬1) ابن الصباغ هو الإمام، العلامة، شيخ الشافعية، أبو نصر، عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر البغدادي، الفقيه توفي في سنة 477 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 464). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 325). (¬3) قوله لم يصح السماع سقطت من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬4) قوله لم يجوز سقطت من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د).

سمعه من لفظ الشيخ. الخامس: يُستحب للشيخ أن يُجيز للسامعين رواية جميع الكتاب الذي سمعوه وإن كتب لأحدهم خطه كتب: «سمعه منِّي وأجزت له روايته عني كما كان بعض الشيوخ يفعل». قال ابن عتَّاب الأندلسي (¬1): لا غِنَى في السماع عن الإجازة لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ أو يغلط الشيخ إن كان القارئ، ويغفل السامع فينجبر (¬2) له ما فاته بالإجازة (¬3). وإذا عظم مجلس المحدث، فبلَّغ عنه المُسْتَملِي فهل يجوز لمن سمع المُبَلِّغ دون المُمْلي أن يروي ذلك عن المُمْلي؟ ذهب جماعة من المتقدمين وغيرهم إلى جواز ذلك ومنع ذلك المحققون وهذا هو الصواب. السادس: يصح ممن هو وراء حجاب، إذا عُرف صوته إن حدَّث بلفظه أو عُرف حضوره إن قرئ عليه، ويكفي في تعريف ذلك خبر ثقة، هذا هو الصواب، وقد كانوا يَسْمعون من عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء حجاب ويروونه عنهن اعتمادًا على الصَّوت واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب مفتي قرطبة توفي سنة 462 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 328). (¬2) في المطبوعة فيخبر والمثبت من (ز)، (د)، والإلماع. (¬3) أخرجه القاضي عياض في الإلماع (ص 92).

«إن بِلالاً ينادي بِلَيلٍ فكُلوا واشربوا حتَّى يُنادي ابنُ أمِّ مَكْتُوم» (¬1). السابع: إذا قال الشيخ بعد السماع لا ترو عنِّي أو رجعت عن إخبارك به أو نحو ذلك، ولم يُسنده إلى خطأ، أو شك أو نحوه، بل منعه من روايته عنه مع جزمه بأنه حديثه وروايته، فذلك غير مُبطِل لسماعه، ولا مانع له من روايته عنه، [ولو خص بالسماع قومًا فسمع غيرهم بغير علمه جاز له أن يرويه عنه] (¬2)، وعن النسائي ما يؤذن بالتَّحَرُّز (¬3) منه. ولو قال الشيخ: أُخبِركم ولا أُخبِر فلانًا لم يضره وجاز له روايته. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3/ 37). (¬2) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز)، (د). (¬3) في (ز) التجوز، والمثبت من (د)، ونسخة على (ز).

الطريق الثالث: الإجازة

الطريق الثالث: الإجازة: قال ابن فارس (¬1): الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه استجزت فلانًا فأجازني إذا سقاك ماء لماشيتك أو أرضك، فكذا طالب العلم يستجيز العالم علمه فيُجيزه له. فعلى هذا يجوز أن يُعدَّى الفعل بغير حرف جر ولا ذكر رواية ... فيقول: أجزت فلانًا مسموعاتي. وقيل الإجازة إذن، فَعَلىَ هذا يقول: أجزت له رواية مسموعاتي، وإذا قال أجزت له مسموعاتي فهو على حذف المضاف. والإجازة أنواع: الأول: إجازة مُعَيَّنٍ لمعين. كأجزتك كتاب البخاري مثلاً، أو أجزت فلانًا جميع ما اشتمَلت عليه فَهرَستي، ونحو ذلك. فهذا على أنواع الإجازة المُجرَّدة عن مناولة كتاب والصحيح عند الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء، جواز الرواية بالإجازة مطلقًا، وادَّعى أبو الوليد الباجي (¬2) الاتفاق عليه. ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس "مادة جوز". (¬2) هو الإمام العلامة سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي، الأندلسي الباجي القرطبي، توفي في سنة 474 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (18/ 535).

وحكى الخلاف في العمل بها (¬1)، وغُلِّط فيما حكاه من الاتفاق لما منعه جماعة من أهل الحديث والفقه والأصول، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي وقطع به من أصحابه القاضيان حُسين (¬2) والماوردي، ومن المحدثين إبراهيم الحربي وأبو الشيخ الأصفهاني. واحتج المُجِيز بأنها إخبار بمروياته جملةً، فصح كما لو أخبر به تفصيلاً وإخباره لا يفتقر إلى النطق صريحًا كالقراءة عليه. وقال بعض أهل الظاهر: هو كالمرسل، يجوز الرواية بها ولا يجوز العمل به وهو مردود عليهم. الثاني: إجازة مُعَيَّن في غَيْرِ مُعَيَّن، كقول الشيخ أجزتك مسموعاتي أو مروياتي، والجمهور على جواز الرواية بها ووجوب العمل. الثالث: إجازة العُموم. كقوله: أجزت للمسلمين أو لمن أدرك زماني وما أشبهه واختلفوا في هذه فجوزها الخطيب مطلقًا (¬3). فإن قُيِّدت بوصف خاص فأولى بالجواز، وجوزها القاضي أبو الطيب لجميع المسلمين الموجودين عند الإجازة (¬4). ¬

(¬1) ينظر الإلماع (ص 89). (¬2) هو القاضي أبو علي حسين بن محمد المروروذي نسبة إلى "مرو الروذ" توفي سنة 462 هـ ينظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 164). (¬3) الكفاية (ص 325). (¬4) حكاه عنه الخطيب، المصدر السابق.

الرابع: إجازة المَعْدُوم. كقوله: أجزت لمن يُولَد لفلان، وفيها خلاف، فأجازه الخطيب وحكاه عن ابن الفرَّاء الحنبلي وابن عمروس المالكي لأنها إِذْن. وأبطلها القاضي أبو الطَّيب، وابن الصباغ وهو الصحيح لأنها في حكم الإخبار، ولا يصح إخبار معدوم (¬1). وقولهم: إنها إِذْن، وإن سلمناه فلا يصح أيضًا كما لا يصح الوكالة للمعدوم، أما لو عطفه على الموجود فقال: أجزت لفلان ولمن يُولد له أو أجزت لك ولعقبك ونسلك فقد جوَّزه ابن أبي داود (¬2)، وهو أولى بالجواز من المعدوم المجرد عند من أجازه. وأجاز أبو حنيفة ومالك في الوقف القسمين، وأجاز الشافعي الثاني دون الأول. والإجازة للطفل الذي لا يُمَيِّز صحيحة، قطع به القاضي أبو الطيب. قال الخطيب (¬3): وعليه عَهِدْنَا شيوخنا يجيزون الأطفال الغُيَّب ولا يسألون عن أسنانهم وتميزهم ولأنها إباحة للرواية، والإباحة تصح للعاقل ولغير العاقل ¬

(¬1) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 340). (¬2) أخرجه الخطيب في الكفاية (ص 325). (¬3) المصدر السابق.

الخامس: إجازة المُجَاز. كقول الشيخ: أجزت لك مُجازاتي، أو أَجزت لك ما أُجيز لي. والصحيح الذي عليه العمل جوازُه وبه قطع الحفاظ الأعلام. وكان أبو الفتح (¬1) يروي بالإجازة وربما والَى بين إجازات ثلاث (¬2). وينبغي لمن يَروي بها أن يتأمل كيفية إجازة شيخِ شيخِه لِئلاَّ يروي ما لم يندرج تحتها. فإذا كان صورة إجازة شيخِ شيخِه (أجزت له ما صح عنده من سماعي) فرأى شيئًا من سماع شيخ شيخه، فليس له أن يرويه عن شيخه عنه حتى يستبين أنه مما قد صح عند شيخه، كونه من مسموعات شيخه الذي تلك إجازته، وهذه دقيقة حسنه، والله أعلم. فرعان: الأول: إنما يُستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالمًا بما يجيزه، والمجاز له من أهل العلم؛ لأنها توسُّع يحتاج إليه أهل العلم وشَرَطه بعضهم، وحُكى ذلك عن مالك. وقال ابن عبد البر (¬3): الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر في الصناعة وفي ¬

(¬1) هو الإمام المحدث، مفيد الشام، شيخ الإسلام، أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود النابلسي المقدسي الفقيه الشافعي، توفي في سنة 490 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (19/ 136). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 343). (¬3) جامع بيان العلم (2/ 1160).

الطريق الرابع: المناولة

معيّن لا يشكل إسناده. الثاني: ينبغي للمُجيز بالكتابة أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة صَحَّت، كما أن سكوته عند القراءة عليه إخبار وإن لم يتلفظ لكنها دون الملفوظ بها. الطريق الرابع: المُنَاوَلَة: وهي نوعان: أحدهما: المقرونة بالإجازة. وهي أعلى أنواع الإجازة كما تقدم، ثم لها صورٌ. منها: أن يَدفَع إليه أَصلَ سماعِه أو فرعًا مقابَلاً به، ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني، أو أجزت لك روايته ثم يبقيه في يديه تمليكًا أو إلى أن ينسخه. ومنها: أن يناول الطالبُ الشيخَ سماعَه فيتأمله (¬1)، وهو عارف مُتيقظ ثم يناوله الطالب ويقول: هو حديثي أو سماعي أو روايتي فاروه عني، وسمَّي غيرُ واحدٍ من أئمة الحديث هذا عَرضًا، وقد تقدم أن القراءة على الشيخ تسمى عرضًا أيضًا، فليُسم هذا عرض مناولة، وذاك عرض القراءة. وهذه المناولة كالسَّماع في القوة عند الزهري وطائفة. ¬

(¬1) في المطبوعة فيقابله والمثبت من (ز)، (د)، وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 346).

وقال الثوري وجماعة: إنها منحطة عن السماع وهو الصحيح. وقال الحاكم (¬1): وعليه عَهِدْنَا أئِمَّتنا وإليه نذهب. ومنها: أن يناوله الشيخ سماعه ويجيزه (¬2)، ثم يمسكه الشيخ، وهو دون ما سبق فإذا وجد ذلك الأصل أو مقابَلاً به موثوقًا بموافقته، جاز له روايته، ولا يظهر في هذه كثير مزيَّة على الإجازة المجردة في معيَّن، وصرح بذلك جماعة من أهل الفقه والأصول، وأما شيوخ الحديث قديمًا وحديثًا، فيرون لها مزية معتبرة. ومنها: أن يأتيه الطالب بنسخة ويقول هذه روايتك فناولنيه وأَجِزني روايته فيجيب إليه من غير نظرٍ وتحققٍ لروايته فهذا باطل، فإن وُثِق بخبر الطالب ومعرفته اعتمده وصحَّت الإجازة كما يعتمد قراءته. ولو قال له حدِّث عني بما فيه، إن كان روايتي، مع براءتي من الغلط، كان جائزًا حسنًا. الثاني: المجرَّدة عن الإجازة. وهو أن يناوله كتابًا ويقول هذا سماعي مقتصرًا عليه (¬3)، فالصحيح أنه لا يجوز له الرواية بها، وبه قال الفقهاء وأهل الأصول وعابوا من جوَّزه من المحدثين. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص 260). (¬2) في المطبوعة "وغيره" والمثبت من (ز)، (د). (¬3) أي: لا يقول له الشيخ اروه عني أو أجزت لك روايته عني أو نحو ذلك.

فرع: جوَّز الزهري ومالك إطلاق حدثنا وأخبرنا في المناولة وهو لائق بمذهب من يجعل عرض المناولة المقرونة بالإجازة سَماعًا. وعن أبي نُعَيم الأصفهاني والمرزباني (¬1)، وغيرهما جوازه في الإجازة المجردة عن المناولة (¬2). والصحيح الذي عليه الجمهور وأهل التَّحرِّي، المنع من ذلك وتخصيص ذلك بعبارة تُشعِر بالإجازة؛ "كحدثنا إجازةً" أو "مناولةً" أو "إذنًا" أو "ناولني" وشبه ذلك. واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق أنبأنا في الإجازة، واختاره قوم ومال إليه البيهقي (¬3). وقال ابن حمدان (¬4): كل قول البخاري قال لي فهو عرض أو مناولة. ¬

(¬1) المرزباني أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى الكاتب صاحب معجم الشعراء المتوفى سنة 384 هـ ينظر ترجمته في إنباه الرواة (3/ 180)، تاريخ بغداد (4/ 227). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 351 - 352). (¬3) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 353). (¬4) هو أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان بن علي بن سنان الحيري النيسابوري الإمام المحدث الثقة مسنِد خراسان توفي في سنة 376 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 356).

الطريق الخامس: المكاتبة

الطريق الخامس: المكاتبة: وهو أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطه أو يأذن بِكَتْبِه (¬1) له وهي أيضاً ضربان: مقرونة بالإجازة: بأن يكتب إليه أجزت لك ما كتبته إليك أو لك أو كتب به إليك، ونحوه من العبارات، وهذه في الصحة والقوة كالمناولة المقرونة بالإجازة. ومجردة عنها: بأن يكتب إليه الشيخ قال حدثنا فلان، وقد منع الرواية بها قوم، وأجازها كثير من المتقدمين والمتأخرين، وهو الصحيح المشهور وذلك عندهم معدود في المسند الموصول، وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة، فهي وإن لم تقرن بالإجازة لفظًا، فقد تضمنت معنى، ويكفي في معرفته خط الكاتب، وشرط بعضهم البينة، وهو ضعيف (¬2). الطريق السادس: الإعلام: وهو أن يُعلِم الشيخُ الطالبَ أن هذا الكتاب روايته أو سماعه مقتصرًا عليه غير قائل اروه أو شبهه، فجوَّز الرواية به كثيرٌ من أهل الحديث والفقه والأصول وأهل الظاهر؛ منهم ابن جريج وابن الصباغ حتى زاد بعض الظاهرية فقال: لو قال له الشيخ هذه روايتي لا تروها عني جاز له روايتها عنه كما تقدم في السماع. ¬

(¬1) قوله يأذن بكتبه، تصحفت في المطبوعة، بإذن يكتبه، والمثبت من (ز)، (د). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 354).

الطريق السابع: الوجادة

والصحيح أنه لا يجوز الرواية لمجرد الإعلام، وبه قطع بعض الشافعية واختاره المحققون لأنه قد يكون الكتاب سماعه، ولا يأذن في روايته لخلل يعرفه، لكن يصح العمل به إذا صح سنده عنده. الطريق السابع: الوِجَادَة: وهي مصدر وَجَدَ يَجِد، مولَّد غيرُ مسموعٍ عن العرب. ومثالها: أن تقف على كتاب بخط شخص (¬1) فيه أحاديث يرويها ذلك الشخص ولم يسمعها منه هذا الواجد ولا له منه إجازة ولا نحوها فله أن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتاب فلان بخطه حدثنا فلان ويسوق باقي الإسناد والمتن أو يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان عن فلان ويذكر الباقين. هذا الذي استمر عليه العمل قديمًا وحديثًا، وهو من باب المُرسل غير أنه أخذ شَوْبًا من الاتصال بقوله وجدت بخط فلان، وربما دلَّس بعضهم فذكر الذي وجد بخطه، وقال فيه: عن فلان أو قال فلان وذلك تدليس قبيح إن أوهم سماعه منه، وجازف بعضهم فأطلق في هذا حدثنا وأخبرنا وأُنكِر هذا على فاعله. فرعان: الأول: إذا وجد حديثًا في تأليف شخص وليس بخطه فله أن يقول، ذكر فلان أو قال فلان: أخبرنا فلان. ¬

(¬1) في نسخة على (ز) شيخ.

وهذا منقطع لم يأخذ شَوْبًا من الاتصال. هذا كله إذا وُثق بأنه خط المذكور أو كتابه. فإن لم يكن كذلك فليقل: بلغني عن فلان، أو وجدت عن فلان، أو قرأت في كتاب: أخبرني فلان أنه بخط فلان أو في كتاب ظننت أنه بخط فلان. وإذا أراد أن ينقل من كتاب منسوب إلى مصنف، فلا يقل قال فلان كذا إلا إذا وثق بصحة النسخة، بأن قابلها هو أو ثقة بأصول متعددة، كما تقدم في النوع الأول. فإن لم يوجد ذلك ولا نحوه فليقل: بلغني عن فلان كذا أو وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه. وقد تسامح أكثر الناس في هذه الأعصار بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تَحرٍّ وتثبت. فيطالع أحدهم كتابًا منسوبًا إلى مصنف وينقل عنه من غير أن يثق بصحة النسخة قائلاً: قال فلان كذا. فإن كان المطالع عالماً فَطِناً لا يخفى عليه في الغالب الساقط والمحوَّل عن جهته؛ رَجوْنا أن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم في هذا، وإلى هذا استروح كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب الناس. الثاني: العمل اعتمادًا على الوِجَادَة. نُقِل عن معظم المحدثين والفقهاء المالكيين وغيرهم أنه لا يجوز.

وعن الشافعي وطائفة من نُظَّار أصحابه جوازه، وقطع بعض المحققين من الشافعيين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة. وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره؛ لأنه لو وقف العمل على الرواية، لا نَسدّ بابه لتعذر شرط الرواية.

الفصل الثالث في كيفية رواية الحديث

الفصل الثالث في كيفية رواية الحديث وفيه أنواع: الأول: شدَّدَ (¬1) قوم في الرواية فأفرطوا، وتساهل آخرون فَفرَّطوا فقال بعض المشدِّدين لا حجة إلا فيما رواه من حفظه، روي ذلك عن أبي حنيفة ومالك والصيدلاني. وقال بعضهم: يجوز من كتابه إلا إذا خرج من يده. وقال بعض المتساهلين: يجوز الرواية من نسخ غير مقابلة بأصولهم فجعلهم الحاكم مجروحين (¬2). وهذا كثير، وتعاطاه قوم من أكابر العلماء والصلحاء، والصواب ما عليه الجمهور وهو التوسط بين الإفراط والتفريط، فإذا قام في التحمل والضبط والمقابلة بما تقدم جازت الرواية منه، وكذا إن غاب عنه الكتاب إذا كان الغالب سلامته من التغيير ولا سيَّما إن كان ممن لا يخفى عليه تغييره غالبًا. الثاني: الضَّرير إذا لم يحفظ ما سمعه، فاستعان بثقة في ضبطه وحِفظ كتابه واحتاط عند القراءة عليه بحيث يغلب على ظنه سلامته من التغيير ¬

(¬1) في المطبوعة شذ والمثبت من (ز)، (د)، وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 390). (¬2) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 390).

صحَّت روايته، قال الخطيب (¬1): والبصير الأمي كالضرير. الثالث: لو وجد في كتابه خلاف حفظه، فإن حَفِظ منه رجع إليه، وإن حفظ من فم الشيخ اعتمد على حفظه، وإن لم يتشكَّل فحسن (¬2) ... أن يذكرهما معًا فيقول: حفظي كذا وفي كتابي كذا. وإن خالفه فيه غيره قال: حفظي كذا، وقال فلان كذا. ولو وجد سماعه في كتاب ولم يذكره، فعن أبي حنيفة وبعض الشافعية لا يجوز له روايته، ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه وأبي يوسف ومحمد جوازها، وهو الصحيح بشرط أن يكون السماع بخطه أو بخط من يوثق به والكتاب مصون يغلب على الظن سلامته من التغيير، بحيث تسكن إليه نفسه، والله أعلم. الرابع: قال في شرح السنة: ذهب قوم إلى إتباع لفظ الحديث منهم ابن عُمر وهو قول القاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حَيْوَة ومالك بن أنس وابن عينية وعبد الوارث ويزيد بن زريع ووهيب، وبه قال أحمد ويحيى وذهب جماعة إلى الرخصة في نقله بالمعنى منهم الحسن والشعبي والنخعي. قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة اللفظ مختلف والمعنى واحد. ¬

(¬1) الكفاية (ص 228). (¬2) في نسخة على (ز)، "إن لم يتشكك وحسن"، وفي (د) "وإن لم تشكك فحسن"، والمثبت من (ز).

وقال سفيان الثوري: إن قلت أنا حدثتكم كما سمعت فلا تصدقون فإنما هو المعنى. وقال وكيع: إن لم يكن المعنى واسعًا فقد هلك الناس. وقال ابن الصلاح: من ليس عالما بالألفاظ، ومقاصدها، ولا خبيرًا بما يخل بمعانيها، لا يجوز له الرواية بالمعنى بالإجماع، بل يتعين اللفظ الذي سمعه وإذا كان عالما بذلك فقد منعه قوم من أصحاب الحديث والفقه والأصول وقالوا لا يجوز إلا بلفظه (¬1). وقال قوم: لا يجوز في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجوز في غيره. وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف يجوز في الجميع إذا قطع بأداء المعنى وهذا في غير المصنفات، أما المصنف فلا يجوز تغيير لفظه أصلاً، وإن كان بمعناه. أقول: قول من ذهب إلى التفصيل هو الصحيح، لأنه صلوات الله وسلامه عليه أفصح من نطق بالضاد وفي تراكيبه أسرار ودقائق لا يوقف عليها إلا بها كما هي، فإن لكل تركيب من التراكيب معنى بحسب الفصل والوصل والتقديم والتأخير. لو لم يُراع ذلك لذهب مقاصدها، بل لكل كلمة مع صاحبتها خاصية مستقلة، كالتخصيص والاهتمام وغيرهما، وكذا الألفاظ التي تُرى مشتركة أو مترادفة إذ لو وضع كل موضع الآخر لفات المعنى الذي قصد به. ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 394).

ومن ثم قال صلوات الله وسلامه عليه «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وأدَّاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ، ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ». رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود (¬1)، وكفى بهذا الحديث لفظًا ومعنى، شاهدُ صدقٍ على ما نحن بصدده، فإنك إذا أقمت مقام كل لفظةٍ ما يُشاكِلها أو يُرادفها اختل المعنى وفسد. فإنك لو وضعت موضع نضَّر الله، رحم الله، أو غفر الله، وما شاكلهما أبعدت المَرمَى فإن من حَفِظ ما سَمِعه وأدَّاه من غير تغيير فإنه جعل المعنى غضًّا طريًّا، ومن بدَّل وغيَّر فقد جعله مُبتذلاً ذاويًا. وكذا لو أنبت امرءًا مناب العبد فات المعنى لأن العبودية الاستكانة والمُضيُّ لأمر الله ورسوله بلا امتناع ولا استنكاف من أداء ما سمع إلى مَن هو أعلم منه، وخُصَّت المقالة بالذِّكر من بين الكلام والخبر، لأن حقيقة المقالة هي المركبة من الحروف المُبرزة ليدُلَّ على وجوب أداء اللفظ المسموع. وإرداف وعاها حَفِظها مُشعر بمزيد التقرير، لأن الوعيَ إدامة الحفظ وعدم النسيان وفي رواية أخرى فأدَّاها كما سمعها، أُوثر أدَّاها على رواها وبلَّغها ونحوهما دلالة على أن تلك المقالة مستودعة عنده واجب أدائها إلى من هو أحق بها وأهلها، غير مُغيَّرة ولا مُتَصرَف فيها، وكذا تخصيص ذكر الفقه دون العلم للإيذان بأن الحامل غير عارٍ عن العلم، إذ الفقه علم بدقائق مستنبطة من الأقيسة والنصوص، ولو غَيَّر عالم لزم جهله، وكذا تكرير رُبَّ ¬

(¬1) الترمذي (2657) ولم أقف عليه عند أبي داود من حديث ابن مسعود إنما من حديث زيد بن ثابت (3662).

وإناطة كلٍ بمعنًى يخصها فإن السامع أحد رجلين إما أن لا يكون فقيهًا فيجب عليه أن لا يغيره، لأنه غير عارف بالألفاظ المتشاكلة فيخطئ فيه أو يكون عارفًا بها لكنه غير بليغ فربما يضع أحد المترادفين موضع الآخر ولا يقف على رعاية المناسبات بين لفظ ولفظ، فإن المناسبة لها خواص ومعان لا يقف عليها إلا ذو دُربةٍ بأساليب النَّظْم كما قررناه في شرح التبيان في قسم الفصاحة. قال ابن الصلاح (¬1): وقد روينا أن بعض أصحاب الحديث رأي في المنام كأنه قد مر من شفته أو لسانه شيء فقيل له في ذلك فقال لفظةٌ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيَّرتُها برأيي فَفُعِل بي هذا. فرع إذا جوَّزنا الرواية بالمعنى فينبغي للمحدث أن يفرق بين "مثله" و"نحوه" فلا يحل له أن يقول مثله إلا بعد علمه أن الحديثين اتفقا لفظًا، ويحل له أن يقول نحوه إذا كان بمعناه، قاله أبو حاتم (¬2). الخامس: ينبغي لمن روى حديثًا بالمعنى إذا اشتبه عليه اللفظ أن يُتبعه بلفظة "أو كما قال"، "أو نحو هذا" أو ما أشبه ذلك من الألفاظ، روي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأنس - رضي الله عنهم -. ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 401). (¬2) ذكره ابن الصلاح في المقدمة (ص 414) وعزاه للحاكم، ولم أجد من عزاه لأبي حاتم.

قال الخطيب (¬1): والصحابة أرباب اللسان وأعلم الخلق بمعاني الكلام ولم يكونوا يقولون ذلك إلا تخوّفًا من الزلل لمعرفتهم بما في الرواية على المعنى من الخطر. قال ابن الصلاح (¬2): وإذا اشتبه على القارئ فيما يقرأه لفظة، فقرأها على وجه شك فيه، ثم قال "أو كما قال" فهذا حسن، وهو الصواب في مثله لأن "أو كما قال" يتضمن إجازة من الراوي وإذنًا للطالب في رِوَايَةِ صَوَابِهَا عنه إذا بَان. السادس: اختلف في جواز اختصار الحديث الواحد ورواية بعضه، فمنهم من منعه مطلقًا بناءًا على منع الرواية بالمعنى، ومنهم من منعه مع تجويز الرواية بالمعنى إذا لم يكن قد رواه هو أو غيره على التَّمام، ومنهم من جوَّزه مطلقاً. قال مجاهد: انقُص من الحديث ما شئت ولا تزد فيه. والصحيح التفصيل وأنه يجوز ذلك من العالم العارف إذا كان ما تركه غير مُتعلِّق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه فيجوز هذا، وإن لم يجز الرواية بالمعنى لأن المرويُّ والمتروك كخبرين منفصلين (¬3) ولا فرق بين أن يكون قد رواه قبلُ على التَّمام، أو لم يروه. هذا ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 34). (¬2) المصدر السابق. (¬3) قوله كخبرين منفصلين في المطبوعة لخبرين متصلين! وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 397 - 398).

إذا كان رفيع المنزلة بحيث لا يُتَّهم [فأما من روى حديثا على التَّمام فخاف إن رواه ثانيًا ناقصًا أن يُتَّهم] (¬1)، بزيادة أولاً أو نسيان ثانيًا لقلة ضبطه وغفلته، فلا يجوز له النقص، والله أعلم. وأما تقطيع المصنف الحديث في الأبواب للاحتجاج، فهو إلى الجواز أقرب ... وقد فعله مالك والبخاري، ومن لا يُحصَى من الأئمة. قال ابن الصلاح (¬2): ولا يخلو من كراهة. قال الشيخ محي الدين (¬3): وما أظنه يُوافَقُ عليه. أقول: أي لا يوافِقُهُ أحد في هذه الكراهة، لأنه قد استمر في جميع الاحتجاجات في العلوم، إيراد بعض الحديث احتجاجًا واستشهادًا، سواء كان مستقلاً أو لا، كاستشهاد النحويين وغيرهم. السابع: لا يُروَي بقراءة لحَّان أو مُصحِّف، وطريق السلامة من التصحيف الأخذ من أفواه أهل المعرفة والتحقيق، فإن وقع في الرواية لحن أو تحريف ... قال ابن سيرين وغيره (¬4): يرويه كما سمعه. والصواب تقريره في الأصل على حاله مع التضبيب (¬5) عليه وبيان ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من المطبوعة وأثبتناه من (ز). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (399). (¬3) التقريب مع التدريب (2/ 63). (¬4) نقله عنه وعن غيره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 351). (¬5) التضبيب: هو أن يرسم صادًا ممدودة هكذا "صـ" فوق الكلمة الخطأ إشارة منه أنها هكذا رُويَت، قال السيوطي في ألفيته وهو يُعرِّف التَّضْبِيب: أَوْصَحَّ نَقْلاً وَهْوَ فِي الْمَعْنَى فَسَدْ ... ضَبِّبْ وَمَرِّضْ فَوْقَهُ صَادٌ تُمَدْ

صوابه في الحاشية إذا كان التحريف في الكتاب. وأما في السماع فالأَولى أن يقرأه على الصواب ثم يقول: وفي روايتنا أو عند شيخنا أو في طريق فلان كذا، وله أن يقرأ ما في الأصل ثم يذكر الصواب، وأحسن الإصلاح إصلاحه بما جاء في رواية أخرى أو حديث آخر، وإذا كان الإصلاح بزيادة شيء قد سقط، فإن لم يغاير معنى الأصل فعلى ما سبق، وإن كان الإصلاح بزيادة تشتمل على معنى مغاير لِما وقع في الأصل، تأكد فيه الحكم بأن يَذكرَ ما في الأصل مقرونًا بالتَّنبيه على ما سقط، ليسْلَم من مَعرَّة الخطأ، ومن أن يقول على شيخه ما لم يقل. وإن علم أن بعض الرواة أسقطه وإنَّ مَن فوقه أتى به، ألحق الساقط في نفس الكتاب مع كلمة "يعني". مثاله: عن عروة، عن عمرة أنها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُدني إلىَّ رأسه فأُرَجِّله». أسقط الراوي "عن عائشة" ولا بُدَّ من ذكرها لما علِمنا أن المحاملي كذلك رواه فإذا ألحقنا الساقط قلنا: عن عمرة يعني عن عائشة أنها قالت (¬1). هذا إن علم أن شيخه رواه على الخطأ فإن رآه في كتابه وغلب على ظنه أنه من كتابه لا من شيخه اتجه إصلاحه في كتابه وروايته أيضًا، كما لو اندرس من كتابه بعض الإسناد أو المتن، فإنه يجوز إصلاحه من كتاب غيره إذا عرف صحته ووثق به. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في الكفاية (ص 252) من طريق المحاملي به.

كذا قاله أهل التحقيق، ومنعه بعضهم وهذا الحكم في استثبات الحافظ ما شك فيه من كتابِ غيرهِ أو حفظه، وإذا وجد كلمة من غريب العربية أو غيرها وهي غير مضبوطة وأشكلت عليه، جاز أن يسأل عنها أهل العلم بها ويرويها على ما يخبرونه، رُوي ذلك عن أحمد وإسحاق (¬1). فائدة: عن الأصمعي يقول: إنَّ أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النَّحو أن يَدْخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار»؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يَلحن فمهما رَوَيت عنه ولحنت فيه كذبت عليه. الثامن: إذا كان الحديث عنده عن اثنين أو أكثر، وبين روايتهما تفاوت في اللفظ، والمعنى واحد فله جمعهما في الإسناد، ثم يسوق الحديث على لفظ أحدِهما ويقول: أخبرنا فلان وفلان، واللفظ لفلان. أو هذا لفظ فلان قال، أو قالا: أخبرنا فلان وما أشبه هذا من العبارات. ولمسلم في صحيحه عبارة أخرى حسنة كقوله: حدثنا أبو بكر وأبو سعيد كلاهما عن أبي خالد، قال أبو بكر حدثنا أبو خالد الأحمر عن الأعمش وساق الحديث (¬2)، فإعادته ذِكر أحدهما إشعار بأن اللفظ له، وأما إذا لم يخص بل خلط اللفظين فقال: أخبرنا فلان وفلان وتقاربا في اللفظ قالا: ¬

(¬1) أخرجه الخطيب عنهما في الكفاية (ص 255 - 256). (¬2) صحيح مسلم (673).

أخبرنا فلان، فهو جائز على تجويز الرواية بالمعنى. وأما قول أبي داود في السنن (¬1): حدثنا مُسدَّد وأبو توبة - المعنى - قالا: حدثنا أبو الأحوص، مع أشباه له في كتابه فيحتمل أن يكون من قبيل الأول فيكون اللفظ لمسدد، ويوافقه أبو توبة في المعنى، ويحتمل أن يكون من قبيل الثاني فيكون اللفظ لهما جميعًا بالمعنى. وأما إذا جمع بين رواةٍ اتفقوا في المعنى، وليس ما أورده لفظ واحد منهم وسكت عن بيان ذلك، فقد عِيب بهذا البخاري وغيره، ولا بأس به على تجويز الرواية بالمعنى والله أعلم. التاسع: جرت العادة بحذف "قال" ونحوه فيما بين رجال الإسناد خطًّا، ولا بُدّ من اللفظ به حال القراءة، وإذا كان في أثناء الإسناد قُرئ على فلان أخبرك فلان، أو فيه قُرئ على فلان حدثنا فلان، فينبغي للقارئ في الأول أن يقول قيل له أخبرك فلان، وفي الثاني قُرئ على فلان قال حدثنا فلان. وإذ تكررت كلمة "قال" كقوله في كتاب البخاري: حدثنا صالح بن حيان قال: قال عامر الشعبي فإنهم يحذفون أحدهما في الخط وعلى القارئ أن يلفظ بهما. وسئل الشيخ في فتاواه (¬2)، عن ترك القارئ "قال"؟ فقال: هذا خطأ من ¬

(¬1) السنن (375). (¬2) فتاوى ابن الصلاح (45 - 46).

فاعله والأظهر أنه لا يبطل السماع به؛ لأن حذف القول جائز اختصارًا وقد جاء به القرآن العظيم، والله أعلم. العاشر: قال ابن الصلاح: أنه لا يجوز تغيير قال" النبي" إلى قال "رسول الله" ولا عكسه، وإن جوَّزنا الرواية بالمعنى لاختلاف معناهما. وقال غيره: الصواب أنه يجوز؛ لأن معناهما هنا واحد وهو مذهب أحمد وحماد بن سلمة والخطيب (¬1). قال القاضي ابن جماعة (¬2): ولو قيل يجوز تغيير النبي إلى الرسول، ولا يجوز عكسه، لَمَا بَعُد لأن في الرسول معنى زائدًا على النبي وهو الرسالة، فإنَّ كلَّ رسول نبي، وليس كلُّ نبي رسول. أقول: وفيه بحث، لما روى البخاري (¬3) عن البرَاء بن عازِب أنه حين دعا "ورسولك الذي أرسلت" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا، "ونبيك الذي أرسلت" لأنه أراد الجمع بين الوصفين النباوة والرسالة، كذا عن ابن الأثير. الحادي عشر: إذا كان في سماعه بعض الوهن فعليه بيانه حالة الرواية، ومنه ما إذا حدثه من حفظه في المذاكرة فيقول حدثنا مذاكرة. ومنع جماعة التَّحمل عنهم حال المذاكرة. ¬

(¬1) الكفاية (244). (¬2) المنهل الروي (ص 104). (¬3) البخاري (1/ 71).

وإذا كان الحديث عن ثقة ومجروح، أو ثقتين فالأَوْلى أن يذكرهما لاحتمال انفراد أحدهما بشيء، فإن اقتصر على ثقة واحد في الصورتين، جاز لأن الظاهر اتفاقهما. الثاني عشر: إذا سمع بعض حديث من شيخ وبعضه من آخر فخلطه ورواه جملةً عنهما، وبيَّن أن بعضه من أحدهما وبعضه من الآخر جاز، كما فعله الزهري في حديث الإفك؛ فإنه رواه عن ابن المسيب وعروة وعبيد الله ... وعلقمة وقال: وكلٌ حدثني طائفةً من حديثها، قالوا: قالت عائشة وساق الحديث إلى آخره. ثم ما من شيء من ذلك الحديث إلا وهو في الحكم كأنه رواه عن أحد الرجلين على الإبهام، حتى لو كان أحدهما مجروحًا، لم يجز الاحتجاج بشيء منه، ما لم يبيِّن أنه من الثقة. ولا يجوز أن يُسقط أحدَ الراويين، بل يجب ذكرهما مبيِّنًا أن بعضه عن أحدهما وبعضه عن الآخر، والله أعلم.

الباب الرابع في أسماء الرجال وطبقات العلماء وما يتصل بذلك

الباب الرابع في أَسْمَاءِ الرِّجال وطَبَقَاتِ العُلَمَاءِ ومَا يَتَّصِلُ بِذَلِك هذا فن مهم عظيم الفائدة يُعرف به المرسل والمتَّصل وفيه فصول: الفصل الأول في معرفة الصحابة - رضي الله عنهم -: وأجود ما صُنِّف فيها الاستيعاب لابن عبد البر (¬1)، لولا أنه ذكر فيما شجر بين الصحابة وما حكي عنهم على طريق الأخباريين، وقد جمع فيها ابن الأثير كتابًا حسنًا جامعًا وضبط وأجاد فيه (¬2). وفي هذا النوع فروع: الأول: الصَّحابي عند المحدثين هو كل مسلم رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعند بعض الأصوليين، من طالت مجالسته على طريق التَّتَبع والأخذ عنه وعند سعيد بن المسيَّب، هو من صَحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - سَنَةً أو غزا غزوةً، وهو ضعيف لما يقتضي أن لا يكون جريرٌ وأضرابه صحابيًا. وتعرف الصُّحبة بالتواتر والاستفاضة أو قول صحابي أو قوله إذا كان ¬

(¬1) مطبوع في أربع مجلدات بتحقيق الشيخ علي البجاوي رحمه الله. (¬2) يقصد كتاب أسد الغابة وهو مطبوع أيضا في دار الشعب.

عدلاً. الثاني: الصحابة كلهم عُدول سواء لابَسوا الفتن أم لا، بإجماع من يُعتد بهم. قال أبو زُرعة الرازي: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مائة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصحابة ممن سمع منه وروى عنه من أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما والأعراب ومن شهد معه حجة الوداع (¬1). واختلف في عدد طبقاتهم. والنظر في ذلك إلى السبق بالإسلام والهجرة وشهود المشاهد الفاضلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجعلهم الحاكم اثني عشرة طبقة (¬2)، وأفضلهم عند أهل السُّنة الخلفاء الأربع على الترتيب ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أحد، ثم أهل بيعة الرِّضوان وممن له مزية أهل العقبتين. الثالث: أولهم إسلامًا من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال - رضي الله عنهم -. الرابع: أكثرهم حديثًا أبو هريرة، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس وجابر، وأنس. ¬

(¬1) أخرجه الخطيب بسنده إلى أبي زرعة في الجامع (2/ 293). (¬2) كما في معرفة علو م الحديث له.

وقال مسروق (¬1): انتهى علم الصحابة إلى عُمر، وعلي، وأُبَيّ، وزيد ... وأبي الدَّردَاء، وابن مسعود. وأكثرهم فُتيا: ابن عباس، ومنهم العبادلة: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير وابن عمرو بن العاص، وليس ابن مسعود منهم. قال البيهقي: لأنه مقدم موته، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم وكذا سائر من يسمى عبد الله وهم نحو مائتين وعشرين (¬2). ¬

(¬1) ينظر علل ابن المديني (ص 41). (¬2) لم أقف عليه في كتب البيهقي وينظر المنهل الروي (ص 113)، وتدريب الراوي (2/ 240).

الفصل الثاني في معرفة التابعي

الفصل الثاني في معرفة التابعي: وهو كل مسلم صَحِب صحابيًا، وقيل من لقيه وهو الأظهر. قال الحاكم (¬1): هم خمس عشرة طبقة. الأولى: من أدرك العشرة: قيس ابن أبي حازم وابن المسيب وغيرهما ... وغُلِّط في ابن المسيب فإنه ولد في خلافة عمر - رضي الله عنه -، ولم يسمع من أكثر العشرة، وقيل لم يصح سماعه من غير سعد. وأما قيسٌ فسمعهم، وروى عنهم، ولم يشاركه في هذا رجل، وقيل لم يسمع عبد الرحمن. ويليهم: الذين وُلدوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أولاد الصحابة ومن التابعين المخضرمون، واحده مُخضرَم بفتح الراء، وهو الذي أدرك الجاهلية وزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره. وعدَّهم مسلم (¬2) عشرين نفسًا وهم أكثر، وممن لم يذكره، أبو مسلم الخولاني والأحنف، ومن أكابر التابعين الفقهاء السبعة: ابن المسيَّب والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص 42). (¬2) الطبقات للإمام مسلم (1/ 227 - 228).

وأنشدنا الشيخ فخر الدين المالكي التِّلمساني: أَلاَ كُلُّ من لا يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ ... فَقِسْمَتُهُ ضِيْزَىَ عنِ الدِّينِ خَارِجَة فَخُذْهُمْ عُبَيدُ اللهِ عُروَةُ قَاسِمٌ ... سَعيِدٌ أبُو بَكرٍ سُلَيْمانُ خَارِجَة وجعل ابن المبارك سالم بن عبد الله بدل أبي سلمة. وجعل أبو الزناد بدلهما: أبا بكر بن عبد الرحمن. وعن أحمد بن حنبل قال (¬1): أفضل التابعين ابن المسيَّب، قيل: فعلقمة والأسود؟ فقال: هو وهما. وعنه: لا أعلم فيهم مثل أبي عثمان النَّهدي، وقيس. وعنه: أفضلهم قيس، وأبو عثمان، وعلقمة، ومسروق. وقال أبو عبد الله بن خفيف (¬2): أهل المدينة يقولون أفضل التابعين ابن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أُوَيس، وأهل البصرة: الحسن. وقال ابن أبي داود (¬3): سيدتا التابعيات حفصة بنت سيرين وعَمرة بنت عبد الرحمن وتليهما أم الدرداء. وقد عدَّ قوم طبقة في التابعين ولم يلقوا الصحابة، وطبقة هم الصحابة فليتفطن لذلك (¬4). ¬

(¬1) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 516)، وتهذيب الكمال (11/ 73). (¬2) أبو عبد الله محمد بن خفيف بن اسفكشار الضبي الفارسي الشيرازي، شيخ الصوفية المتوفى سنة 371 هـ ينظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 342). (¬3) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 517). (¬4) ينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 515 - 519).

الفصل الثالث في الأسماء والكنى والألقاب

الفصل الثالث في الأسماء والكُنَى والألقاب وفيه أنواع: النوع الأول في الأسماء: وهو أقسام: الأول: معرفة من ذُكر بأسماء مختلفة أو نُعوت متعدِّدة وهو فن عويصٌ تمسُّ الحاجة إليه لمعرفة التدليس مثاله: "محمد بن السائب الكلبي" هو: "أبو النضر" المروي عنه حديث تميم الداريِّ وعَديِّ بن بدَّاء، وهو "حماد بن السائب" المروي عنه ذكاة كل مَسْك دباغه، وهو "أبو سعيد" الذي يروي عنه عطية العَوْفي التفسير ويدلس به مُوهمًا أنه أبو سعيد الخدري. الثاني: معرفة الأسماء المفردة، وهو فن حسن. فمن الصحابي: أجمد: بالجيم. جُبَيْب: بالجيم على التصغير. شَكَل: بفتحتين والشين المعجمة. سَنْدر: فتح السين.

شمعون: بالشين المعجمة والعين المهملة ويقال بالغين المعجمة. صُدَى: بضم الصاد المهملة مصغر. صُنابح: بضم الصاد والنون والباء الموحدة. قال ابن الصلاح (¬1): ومن قال فيه صنابحي فقد أخطأ. كَلَدة: بفتحهما. وابِصَة: بفتح الصاد المهملة. نُبَيشَة الخير: بالنون والشين المعجمة مصغرًا. هُبَيب: مصغرًا بالباء الموحدة. لُبَيُّ: باللام على وزن أُبَيّ. ومن غير الصحابة: أوسط. وتَدُوم: بفتح المُثنَّاة من فوق وقيل من تحت وضم الدال. جِيلان: بكسر الجيم، أبو الجَلَد (¬2): بفتحهما. الدُجَين: بالجيم مصغر. ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 564). (¬2) في (ز) الخلدة والمثبت من مقدمة ابن الصلاح (ص 564)، تدريب الراوي (2/ 331) وينظر الأسامي والكنى للإمام أحمد (ص 77). وصنيع محقق المطبوعة في الترتيب يقتضي أنهما اثنان، وكذلك محقق تدريب الراوي، فلينتبه.

زِر (¬1): بكسر الزاي. شُعَير: بالشين مصغرًا. وفِردان: بالفاء المكسورة. ومُستمر. وعَزوان: بفتح العين المهملة وإسكان الزاي. نوفٌ البِكالي: بكسر الباء وتخفيف الكاف، وغلب على ألسنتهم الفتح والتشديد. ضُرَيب وشُمَير: مصغران. هَمَذان: بَرِيدُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالذال المعجمة وفتح الميم، كالبلدة وقيل بالدال المهملة، وإسكان الميم كالقبيلة. الثالث: المؤتلف والمختلف وهو ما يتفق في الخط دون اللفظ، يجب للمحدث معرفته وإلا فيكثر خطأه وأكمل ما صُنِّف فيه الإكمال لابن ماكولا (¬2)، وفيه إعواز. وما ضُبط قسمان: أحدهما: على العموم كسَلاَّم، كله مشدد إلا خمسة: ¬

(¬1) في المطبوعة (زِبَّ) والمثبت من (ز)، (د)، وهو زر بن حبيش التابعي الكبير، وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 564). (¬2) مطبوع في سبع مجلدات بتحقيق العلامة المعلمي اليماني رحمه الله.

والد عبد الله بن سَلاَم الصحابي. محمد بن سَلاَم شيخ البخاري. وسَلاَم بن محمد بن ناهض المقدسي. وسلاَم جد محمد بن عبد الوهَّاب بن سلاَم المُتكلِّم الجُبَّائي أبي علي المعتزلي. وسلاَم ابن أبي الحُقَيق. وعُمارة ليس فيهم بكسر العين، إلا أُبي بن عِمارة الصحابي، ومنهم من ضَمَّهُ، ومن عداه جمهورهم بالضم، وفيهم جماعة بالفتح وتشديد الميم. والقسم الثاني: ما في الصحيحين، أو الموطأ على الخصوص: (يسار) كلهم بالمثناة ثم المهملة، إلا محمد بن بشار، فبالموحدة والمعجمة وفيهما يسار بن سلامة، وابن أبي سيَّار بتقديم السين، وغير ذلك. الرابع: المتفق والمفترق وهو متفق خطًا ولفظًا، وللخطيب فيه كتاب نفيس (¬1). وهو أقسام: الأول: اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم؛ كالخليل بن أحمد، ستة. الثاني: اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم؛ كأحمد بن جعفر بن ¬

(¬1) وهو مطبوع في ثلاث مجلدات.

حمدان. الثالث: اتفقت الكنية والنسبة معًا؛ كأبي عمران الجوني (¬1). الخامس: المتشابهون في الاسم والنسب، المتمايزون بالتقديم والتأخير؛ كيزيد بن الأسود الخزاعي الصحابي القرشي المخضرم، المشتهر بالصلاح وهو الذي استسقى به معاوية، والأسود بن يزيد النخعي التابعي الفاضل. السادس: معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم، هم أقسام: الأول: من نُسِب إلى أمه؛ كمُعاذ ومعوِّذ وعوذٍ بنو عفراء، هي أمهم وأبوهم حارث بن رفاعة الأنصاري. وبلال بن حَمَامة، وأبوه رَبَاح. الثاني: إلى جَدته؛ كيعلَى بن مُنية، وأبوه أُمية. الثالث: إلى جده؛ كأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، هو عامر بن عبد الله بن الجراح. الرابع: إلى أجنبي لسبب؛ كالمقداد بن عمرو الكندي، يقال له ابن الأسود لأنه كان في حِجْرِ الأسود بن عبد يغوث فتبنَّاه. السابع: النِّسَب التي على خلاف ظاهِرِها: ¬

(¬1) زاد هنا في المطبوعة " الرابع: عكسه كصالح بن أبي صالح" وهذا القسم ليس في (ز)، (د)، وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 617).

أبو مسعود البدري، لم يشهدها (¬1) في قول الأكثر بل نزلها. وسليمان التيمي، نزل فيهم وليس منهم. الثامن: المُبهمات. صنف فيها عبد الغني، ثم الخطيب، ثم غيرهما. وهو أقسام: الأول أبهَمُها: رجل أو امرأة كحديث ابن عباس: أن رجلاً قال: يا رسول الله الحج كل عام؟ وهو الأقرع بن حابس، وحديث السائلة عن غسل الحيض، فقال - صلى الله عليه وسلم -: خُذي فرصة، هي أسماء بنت يزيد بن السَّكن. الثاني: الابن والبنت؛ كحديث أم عطية في غسل بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء وسدر، وهي زينب رضي الله عنها. الثالث: العم والعمة؛ كرافع بن خَدِيج عن عمه، وهو ظهير بن رافع ... وزياد بن عِلاقَة عن عمه، وهو قطبة بن مالك. وعمة جابر التي بكت أباه يوم أحد، وهي فاطمة بنت عمرو، وقيل هند. الرابع: الزوج والزوجة: زوج سُبَيعة؛ سعد بن خَوَلَة، وزوج بَروع بفتح الباء، وعند المحدثين بالكسر؛ هلال بن مرة. ¬

(¬1) يعني لم يشهد غزوة بدر.

النوع الثاني في الكنى

النوع الثاني في الكُنَى وهو أقسام: الأول: من سُمي بالكنية، ولا اسم له غيرها، وهم ضربان: أحدهما: من له كنية غير اسمه؛ كأبي بكر بن عبد الرحمن، أحد الفقهاء السبعة، اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن. والثاني: لا كنية له غير الكنية التي هي اسمه؛ كأبي بلال، عن شريك ... وأبي حَصِين بفتح الحاء، عن أبي حاتم الرازي. الثاني: من عُرف بكنيته، ولم يُعرف، ألَهُ اسمٌ غيرها، أم لا؟ (¬1) كأبي أناس بالنون صحابي، وأبي مُوَيْهبة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: من لُقِّب بكنية، وله اسم وكنية غيرها؛ كأبي تراب؛ علي بن أبي طالب وأبي الحسن - رضي الله عنه -. الرابع: من له كنيتان أو أكثر؛ كابن جُرَيج: أبي الوليد وأبي خالد. ومنصور الفَراوي: أبي بكر وأبي الفتح وأبي القاسم. ¬

(¬1) في المطبوعة (من عرف بكنية ولم يعرف له اسم أم)!، والمثبت من (ز)، (د)، وينظر مقدمة ابن الصلاح (ص 572).

النوع الثالث في الألقاب

النوع الثالث في الألقاب هي كثيرة، ومن لا يعرفها، قد يظنها أسامي، فيجعل من ذُكر باسمه في موضع، ولَقَبٍ في موضع آخر، شخصين. وألَّفَ فيه جماعة، وما كَرِهَهُ المُلقَّب فلا يجوز، وما لا، فيجوز. كمعاوية الضَّال (¬1)، ضَلَّ في طريق مكة فلُقِّب ضَالاً. وعبد الله بن محمد بن الضَّعيف، كان ضعيفاً في جسمه. غُنْدَر: لَقَبُ جماعة كل منهم محمد بن جعفر، أولهم محمد بن جعفر (¬2) صحاب شعبة. ¬

(¬1) معاوية بن عبد الكريم الضال ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (28/ 199). (¬2) هو الإمام محمد بن جعفر الهذلي البصري ربيب شعبة ينظر ترجمته في تهذيب الكمال (25/ 5).

الفصل الرابع في أنواع شتى

الفصل الرابع في أنواع شتَّى النوع الأول: في معرفة الموالي: أهم ذلك معرفة الموالي المنسوبين إلى القبائل مطلقًا. كفلان القرشي ويكون مولى لهم. ثم منهم من يقال مولى فلان، ويراد مولى عَتاقة وهو الغالب. ومنهم مولى الإسلام؛ كالبخاري الإمام مولى الجعفيين، لأن جَدَّه كان مجوسيًا فأسلم على يد اليمان الجُعفي. ومنهم مولى الحلف؛ كمالك بن أنس الإمام ونفره، هم أَصبَحيون وحِميَرِيُّون صَليِبَةً، موالي لتيم قريش بالحِلف. النوع الثاني: في معرفة مواطن الرواة: وقد كانت العرب إنما تُنسب إلى قبائلها، فلما جاء الإسلام وغلب عليهم سُكنى القرى، انتسبوا إلى القُرى كالعجم، ثم من كان ناقلة من بلد إلى بلد وأراد الانتساب إليها، فليُبدأ بالأول، فنقول في الناقلة من مِصر إلى دِمَشق: المصري ثم الدِّمَشقي.

النوع الثالث: في التواريخ والوفيات

ومن كان من أهل قرية بلدة، فيجوز أن ينسب إلى القرية وإلى البلدة وإلى الناحية وإلى الإقليم، فيقال في من هو من داريَّا: الدَّاراني والدِّمَشْقي والشامي. قال عبد الله بن المبارك وغيره: من أقام في بَلدة أربع سنين نُسِب إليها (¬1). النوع الثالث: في التواريخ والوفيات: وهو فن مهم به يُعرف اتصال الحديث وانقطاعه، وقد ادَّعى قوم الرواية عن قوم، فنُظِر في التاريخ فظهر أنهم زعموا الرواية عنهم بعد وفاتهم بسنين. فروع: الأول: الصحيح في سِن سيِّد البشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثلاث وستون سنة. قُبِض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضُحى الاثنين لاثني عشر خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومنها التاريخ. وأبو بكر - رضي الله عنه - في جمادى الأول سنة ثلاث عشرة. وعمر - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وعثمان - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، ابن اثنين وثمانين سنة وقيل ابن تسعين سنة وقيل غيره. وعلي - رضي الله عنه - في شهر رمضان سنة أربعين، ابن ثلاث وستين، وقيل أربع ¬

(¬1) ينظر التقريب مع التدريب (2/ 524).

وقيل خمس. وطلحة والزبير في جمادى الأول سنة ست وثلاثين. قال الحاكم (¬1): كانا ابني أربع وستين، وقيل غيره. وسعد بن أبي وَقَّاص سنة خمس وخمسين على الأصح، ابن ثلاث وسبعين. وسعيد بن زيد سنة إحدى وخمسين، ابن ثلاث أو أربع وسبعين. وعبد الرحمن بن عوف سنة اثنين وثلاثين، ابن خمس وسبعين. وأبو عبيدة عامر سنة ثماني عشرة ابن ثمان وخمسين، وفي بعض هذا خلاف. الثاني: صحابيان عاشا ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، وماتا بالمدينة سنة أربع وخمسين: حكيم بن حزام وحسَّان بن ثابت بن المنذر بن حزام. قال ابن إسحاق (¬2): عاش حسان وآباؤه الثلاثة كل واحد منهم مائة وعشرين سنة، ولا يعرف لغيرهم من العرب مثله، وقيل مات حسان سنة خمسين. الثالث: أصحاب المذاهب المتبوعة. ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص 203). (¬2) لم أقف عليه في سيرة ابن إسحاق ولا في من نقل عنه، وينظر التقريب مع التدريب (2/ 479).

سفيان الثوري، مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة مولده سنة سبع وتسعين. مالك بن أنس، مات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، قيل ولد سنة ثلاث وتسعين، وقيل إحدى، وقيل أربع، وقيل سبع. أبو حنيفة النُّعمان بن ثابت، مات ببغداد سنة خمسين ومائة، وكان ابن سبعين. أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، مات بمصر، آخر رجب سنة أربع ومائتين، وولد سنة خمسين ومائة. أبو عبد الله أحمد بن حنبل، مات ببغداد في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، وولد سنة أربع وستين ومائة. الرابع: أصحاب كتب الحديث المعتمدة. أبو عبد الله البخاري: ولد يوم الجمعة لثلاث عشر خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات بسمرقند ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومائتين. ومسلم: مات بنَيْسابور لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ابن خمس وخمسين. وأبو داود السجستاني: مات بالبصرة في شوال سنة سبع وسبعين ومائتين. وأبو عيسى التِّرمذي مات بتِرْمِذ لثلاث عشرة مضت من رجب سنة

تسع وسبعين ومائتين. وأبو عبد الرحمن النَّسائي: مات سنة ثلاث وثلاثمائة بمكة وقيل بالرملة. ثم سبعة من الحفاظ بعدهم أحسنوا التصنيف وعظم النفع بتصانيفهم: أبو الحسن الدارقطني: مات ببغداد في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وولد فيها سنة ست وثلاثمائة. ثم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، مات بها في صفر سنة خمس وأربعمائة وولد بها في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. ثم أبو محمد عبد الغني بن سعيد، حافظ مصر، ولد في ذي القعدة سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة، ومات بمصر في صفر سنة تسع وأربعمائة. ثم أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني: ولد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ومات في صفر سنة ثلاثين وأربعمائة بأصفهان. وبعدهم: أبو عمر بن عبد البر، حافظ المغرب، ولد في ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وتوفي بشاطبة في سنة ثلاث وستين وأربعمائة. ثم أبو بكر البيهقي، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ومات بنيسابور في جمادى الأول سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. ثم أبو بكر الخطيب البغدادي، ولد في جمادى الآخر سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة، ومات ببغداد في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربعمائة.

خاتمة في آداب الشيخ والطالب والكاتب

خاتمة في آداب الشيخ والطالب والكاتب اعلم: أن علم الحديث علم شريف يُناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشِّيَم ويُنافي مساوئ الأخلاق ومشاين الشيم، وهو من علوم الآخرة، لا من علوم الدنيا، فمن أراد التَّصدي لإسماع الحديث أو لاستماعه أو لإفادة شيء من علومه، أو لاستفادته فليقدم تصحيح النية وإخلاصها وليُطَهِّر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها، وليحذر بلية حب الرياسة ورُعُوناتها وطلب مال، وغير ذلك مما لا يراد به وجه الله تعالى، وفيها فصول: الفصل الأول: في أدب الشيخ: يستحب للمُتَصدي لإسماع الحديث أن يَبْلغ أربعين لأنها انتهاء الكهولة وفيه مجتمع الأشُد. نُبِّئ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربعين. وقال ابن الصلاح (¬1): هذا محمول على من تصدى للتحديث بنفسه من غير براعة في العلم، والحق أنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لنشره في أي سن كان، كمالك فإنه تصدى له، وله نيف وعشرون سنة، ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 419).

وقيل سبع عشرة. والشافعي أُخِذَ عنه العلم وهو في سن الحداثة. وعمر بن عبد العزيز لم يبلغ الأربعين. وغيرهم ممن نشروا عُلومًا لا تحصى، ولم يبلغوا ذلك. ومتى خُشي عليه الهرم والخرف والتخليط أمسك عن التحديث، ويختلف ذلك باختلاف الناس. فقد حَدَّث خلق بعد مجاوزة الثمانين لَمَّا ساعدهم التوفيق وصحبتهم السلامة كأنس ابن مالك، وسهل بن سعد، وعبد الله بن أبي أوفىَ من الصحابة. وكمالك، وابن عيينة، والليث، وابن الجعد. وحدَّث قوم بعد المائة كالحسن بن عرفة وأبي القاسم البغوي وغيرهما. وينبغي أن لا يُحَدِّث بحضرة من هو أولى منه، لِسنِّه أو علمه أو غير ذلك وقيل لا يحدث في بلد فيه من هو أولى منه، وإذا طُلِب منه ما يعلمه عند من هو أولى منه أرشد إليه لأن الدِّينَ النصيحة، ولا يمتنع من تحديث أحد لعدم صحة نيته، فإنه يُرجى له تصحيحها وليحرص على نشره وليبتغ جزيل أجره وإذا أراد حضور مجلس التحديث فليقتدِ بالإمام مالك - رضي الله عنه -، فإنه إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرَّح لحيته وتَطيَّب وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة وحدَّث وقال: أُحِبُّ أن أُعظِّم حديثَ رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يكره أن يُحدِّث في الطريق أو هو قائم أو مستعجل، فإن رَفَع أحدٌ صوته في مجلسه زَجَره، ويستحب له أن يُقبِل على الحاضرين كلهم ولا يسرد الحديث سَرْدًا، يمنع السامع من إدراك بعضه وليفتح مجلسه بقراءة قارئ حسن الصوت، فإذا فرغ استنصت المستملي أهلَ المجلس ثم الشيخ يُبَسمِل ويدعو ويقول: الحمد لله رب العالمين أكمل الحمد على كل حال، والصلاة والسلام الأَتمَّان على سيد المرسلين، كلما ذكره الذاكرون، وكُلَّما غفل عنه الغافلون، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وسائر النبيين، وآل كلٍّ وسائرِ الصالحين، نهايةَ ما ينبغي أن يسأله السائلون. ويستحب له الثناء على شيخه في حالة الرواية عنه بما هو أهل له فقد فعل ذلك غير واحد من السلف. ولا بأس أن يذكره بما يُعرَفُ به من لقبٍ أو نسبةٍ، ولو إلى أُمٍّ أو صنعة أو وصفٍ في بدنه. وحَسَنٌ أن يجمع في إملائه جمعًا من شيوخه، مُقدِّمًا أفضلهم ويُملي عن كل شيخ حديثًا، ويختار ما علا سنده وقَصُر متنه، ويُنبِّه على ما فيه من علوٍ وفائدةٍ وضبط مشكل. ويتجنب ما لا يحتمله عقول الحاضرين، أو يخاف عليهم الوهم في فَهمه ويستحب أن يتخذ مُستمليًا مُحصِّلاً مُتيقظًا، يُبلِّغ عنه إذا كثر الجمع ويستملي مُرتفعًا على مكانٍ، كالكرسي ونحوه، وإلا قائمًا. وعليه تبليغ لفظه على وجهه، ثم يختم إملاءه بشيء من الحكايات

والنوادر والإنشادات في الزهد والآداب ومكارم الأخلاق. وإذا قصر المحدث عن التخريج، أو اشتغل عنه، استعان ببعض الحفاظ في التخريج له، فإذا فرغ من الإملاء قابل ما أملاه.

الفصل الثاني في أدب الطالب

الفصل الثاني في أدب الطالب: ينبغي في طلبه أن يبتهل إلى الله تعالى في التوفيق والتيسير، ويأخذ نفسه بالآداب السَّنِيَّة والأخلاق المرضية، وقد تقدم الكلام في السِّن الذي يبتدئ فيه بسماع الحديث، وليغتنم مدة إمكانه، ويفرغ جهده في تحصيله، وليبدأ بسماع أرجح شيوخ بلده إسنادًا وعلمًا ودينًا وشهرة، فإذا فرغ من مهمات بلده، رحل في الطلب، فإن الرحلة من عادة الحفاظ المبرَّزين، ولا يحمله الشره في الطلب على التساهل في السماع والتحمل، فيخل بشيء من شروطه، وليعمل بما يمكنه العمل به مما يسمعه من الحديث في أنواع العبادات والآداب؛ فذلك زكاة الحديث كما قال بشر الحافي: يا أصحاب الحديث! أدُّوا زكاة هذا الحديث؛ اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، وهو سبب حفظه. وليُعَظِّم شيخه وكل من يسمع منه؛ فإن ذلك من إجلال العلم، وليَتَحرَّ رضاه ولا يُطيل عليه، بحيث يضجره، فربما كان ذلك سبب حرمانه. وعن الزهري قال (¬1): إذا طال المجلس، كان للشيطان فيه نصيب. وليستشر شيخه في أموره، وكيفية ما يعتمده من أشغاله، وما يشتغل فيه وإذا فاز بفائدة؛ أرشد غيره من الطلبة إليها، فإنَّ كتمان ذلك لومٌ يُخاف ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في الجامع (2/ 128)، بسنده إلى الزهري.

على فاعله عدم النفع، فإن بركة الحديث أفادته، وبنشره ينمو. ولا يمنعه الحياء والكِبر من السَّعي في التحصيل، وأَخْذِ العلم ممن دونه في سنٍّ أو نَسبٍ أو منزلةٍ، وليصبر على جفاء شيخه، وليتعنّ بالمهم، ولا يضيع زمانه في الإكثار من الشيوخ بمجرد الكثرة. وليكتب وليسمع ما يقع له من كتاب أو جزء بكماله، ولا ينتخب منه لغير ضرورة، فإن احتاج إليه تولاَّه بنفسه، فإن قصر عنه، استعان بحافظ. ولا يقتصر على مجرد سماعه وكَتْبه دون معرفته وفَهمه، بل يتعرف صحته وضعفه ومعانيه وفقهه وإعرابه ولغته وأسماء رجاله، ويحقق كل ذلك ... ويعتني بإتقان مشكله حفظًا وكتابة. ويقدم في ذلك كله الصحيحين، ثم بقية كتب الأئمة، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، ثم كتاب السنن الكبير للبيهقي؛ فإنَّا لا نعلم مثله في بابه، ثم من المسانيد؛ كمسند الإمام أحمد بن حنبل، وغيره ثم من كتب العِلَل؛ كتابه (¬1)، وكتاب الدارقطني. ومن التواريخ؛ تاريخ البخاري، وابن أبي خيثمة. ومن كتب الجرح والتعديل؛ كتاب ابن أبي حاتم. ومن مشكل الأسماء؛ كتاب ابن ماكولا. ويعتني بكتب غريب الحديث وشروحه، كلما مر به مشكل بحث عنه ¬

(¬1) يعني كتاب العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد.

وأتقنه ثم حفظه وكتبه. ويتحفظ الحديث قليلاً قليلاً، ويشتغل بالتَّخريج والتصنيف، إذا تأهل له مُعتنيًا بشرحه وبيان مشكله وإتقانه، فقلَّ ما تَمَهَّر في علم الحديث من لم يفعله. ولعلماء الحديث في تصنيفه طريقان: أجودهما: على الأبواب؛ كما فعله البخاري ومسلم، فيذكر في كل باب ما عنده فيه. الثاني: على المسانيد؛ فيجمع في ترجمة كل صحابي ما عنده من حديثه صحيحه وضعيفه، وعلى هذه الطريقة يرتب على الحروف أو على القبائل فيقدم بنو هاشم، ثم الأقرب، فالأقرب، وقد يرتب بالسابقة، فيقدم العشرة ثم أهل بدر، ثم الحديبية، ثم من هاجر بينها وبين الفتح، ثم أصاغر الصحابة ثم النساء، يبدأ بأمهات المؤمنين.

الفصل الثالث في أدب الكاتب

الفصل الثالث في أدب الكاتب: اختلف السلف في كتابة الحديث، فكرهها طائفة وأباحها أخرى. ثم أجمع أتباع التابعين على جوازه، فقيل أول من صنَّف فيها ابن جُرَيج وقيل مالك، وقيل الربيع بن صُبيح، ثم انتشر تدوينه وجمعه، وظهرت فوائد ذلك ونفعه. وعلى كَاتِبهِ صرف الهمة إلى ضبطه، وتحقيقه شَكلاً ونَقطًا، بحيث يُؤمَن اللبس معه، ولا يشتغل بتقييد الواضح، ثم قيل يشكل الجميع لأجل المبتدئ وغير المتبحر، ويكون اعتناؤه بضبط الملتبس من أسماء الرجال أكثر، لأنه نَقْلي مَحض، ويُستحب ضبط المُشكِل في المتن وبيانه في الحاشية، لأنه أبلغ ويحقق حروف الخطِّ ولا يعلقه تعليقًا، ولا يُدققه لتخفيف حمله في السفر فإن الخط علامة، فأحسنه أبينه. قال بعضهم: أكتب ما ينفعك وقت حاجتك إليه، أي وقت الكبر وضعف البصر. ولا يصطلح مع نفسه برمز لا يعرفه الناس، إلا أن يبين مراده في أول الكتاب ليعرفه من يقف عليه، ويعتني بضبط مختلف الروايات وتمييزها فيجعل كتابه على رواية، ثم ما كان في غيرها من زيادة ألحقها في الحاشية أو نقص أَعلَم عليه، أو خلاف نبَّه عليه، ويُسمي روايةً مبينًا.

فروع: الأول: يجعل بين كل حديثين دارةً، واستحب الخطيبُ (¬1) أن يكون غَفْلاً أي بلا علامة فإذا قابل، نَقَطَ وسطها. ولا يكتب المضاف في آخِر سطر والمضاف إليه في أول الآَخر، وإذا كتب اسم الله تعالى، اتبعه بالتعظيم، كعز وجل ونحوه، ويحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّما كتبه، ولا يسأم من تكراره ... وإن لم يكن في الأصل، ومن أغفل ذلك حُرِم حظًّا عظيمًا، ويصلي بلسانه على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما كتبه أيضًا، وكذلك التَّرضِّي والترحم على الصحابة والعلماء ويكره الاقتصار على الصلاة دون التسليم وبالعكس. روى ابن الصلاح عن حمزة الكِناني (¬2): قال كنت أكتب الحديث وأكتفي بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي مالك لا تُتِم الصلاة عليَّ؟ قال: فما كتبت بعد ذلك الصلاة إلا مع التسليم. ويكره الرمز بالصلاة، والترضي في الكتابة، بل يكتب ذلك بكماله. وعليه مقابلة كتابه بأصل شيخه، وإن كان إجازة، ويكفي مقابلة ثقة ... ولو بفرع قُوبِل بأصل الشيخ، فإن لم يُقابَل به وكان الناقل صحيح النقل قليل السقط ونقل من الأصل، فقد جوَّز الرواية منه الأستاذ أبو إسحاق والخطيب (¬3)، وغيرهما. ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي (1/ 273). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 374 - 375). (¬3) الكفاية (ص 239).

وإذا خرج الساقط وهو اللَّحَق بفتح اللام والحاء، فَلْيَخُط من موضع سقوطه في السطر خطًّا صاعدًا قليلاً معطوفًا بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة اللحق، ثم يكتب اللحق قبالة العطفةِ في الحاشية، وجهة اليمين إن اتَّسعت أَولَى، إلا أن يسقط في آخر السطر، وليكتبه صاعدًا إلى أعلى الورقة، ثم إن زاد اللحق على سطر، ابتدأ سطوره من جهة طرف الورقة إن كان في عين الورقة، بحيث ينتهي سطوره إلى أسطر الكتاب، وإن كان في الشِّمال ابتدأ بالأسطر من جهة أسطر الكتاب، ثم يكتب في انتهاء اللحق "صح" ولا بأس بكتابة الفوائد المهمة على حواشي كتاب يملكه، لا بين الأسطر. الثاني: التصحيح والتمريض والتضبيب، من شأن المتقنين، فالتصحيح كتابة "صح" فيما عرضة الشك أو الخلاف، ليدل على صحته روايةً ومعنًى. والتَّضْبِيبُ، وقد يسمى التمريض: أن يمُد خطًّا أوَّله كرأس الضاد، على ثابتٍ نقلاً فاسد لفظًا أو معنى، أو على ضعيف أو ناقص. ومن الناقص موضع الإرسال أو الانقطاع، وربما اقتصر بعضهم على الصاد المجردة في علامة التصحيح فأشبهت الضبة، وإذا وقع في الكتاب خطأ وحققه، كتب عليه "كذا" صغيرة، وكتب في الحاشية صوابه كذا إن تحققه وإن وقع فيه ما ليس منه، نُفِي بالضرب أو الحكِّ. وإذا ضرب، يَخُطّ فوقه خطًّا بيِّنًا مُختَلِطًا به، ويتركه ممكن القراءة، فإن كان الضرب على مكرر، فقيل على الثاني، وقيل يُبقى أحسنهما

وأبينهما صورة. وفصَّل القاضي عِياض رحمه الله فقال (¬1): إن كان المتكرران في أول السطر ضرب على الثاني، وإن كان في آخره، ضرب على أولهما، صيانة لأوائل الأسطر وأواخرها، فإن كان أحدهما في أول سطر والآخَر آخِره، ضرب على ما في آخِره لأن أول السطر أولى بالمراعاة. وأما الحك والكشط، فكرهما أهل العلم للتهمة. والثالث: غلب على كَتَبَةِ الحديث، الاقتصار على الرمز في حدثنا وأخبرنا وشاع بحيث لا يخفى، فيكتبون مِن حدثنا: (ثنا) أو (نا) أو (دنا). ومن أخبرنا (أنا) أو (بنا) أو (رنا). وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد مُسمى "حاء" مفردة مهملة صورة (ح) لأن حاء اسم ومُسمَّاه (ح) كما أن الصاد اسم ومسماه (ص). قال ابن الصلاح (¬2): ولم يأتنا عن أحد ممن يُعتَمَد، بيان لأمرها، غير أني وجدت بخط جماعة من الحفاظ في مكانها بدلاً عنها "صح" صريحه وهذا يشعر بكونها رمز إلى صح، وحَسُن إثباته لِئَلاَّ يُتَوَهم أن حديث هذا الإسناد سقط، ولِئلا يُركَّب الإسناد الثاني على الإسناد الأول فيُجعَلا إسنادًا واحدًا. وعن بعض الأصبهانيين، أنها من التَّحَول من إسناد إلى إسناد، وقيل ¬

(¬1) الإلماع (ص 172). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 385).

من حائل، أي تَحُولُ بين الإسنادين، وليست من الحديث، فلا يُتَلفظ بشيء عند الانتهاء إليها في القراءة. وقال بعض المتأخرين: هي إشارة إلى قولنا "الحديث". وحُكِى عن جميع أهل المغرب أنهم يقولون إذا وصلوا إليها في القراءة "الحديث". وقال بعض البغداديين: من العلماء من يقول إذا انتهى إليه في القراءة (حا) مقصورة ويَمرّ، هذا هو المختار الأحوط الأعدل، والله أعلم. الرابع: قال الخطيب (¬1): ينبغي للطالب أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ الذي سمع الكتاب منه وكنيته ونسبه، ثم يسوق ما سمعه منه على لفظه، ويكتب فوق سطر التسمية أسماء من سمع معه، وتاريخ السماع، وإن أحب كتب ذلك في حاشية أول ورقة من الكتاب، كذا فعله الشيوخ. ولا بأس بكتبه آخر الكتاب، وحيث لا يخفى منه، وينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به معروف الخط، ولا بأس عند ذلك في أن لا يكتب المستمع خطه بالتصحيح، ولا بأس على صاحب الكتاب إذا كان موثوقًا به أن يقتصر على إثبات سماعه بخط نفسه، فقد فعله الثقات، وعلى كاتب السماع التحرِّي في ذلك، وبيان السامع والمستمع والمسموع، بلفظ بيِّن واضح، وعليه تجنب التساهل فيمن ثَبت اسمه، والحذر من ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي (1/ 268).

إسقاط بعض السامعين لغرض فاسد، وإذا لم يحضر مُثبِت السَّماع مجلسًا، فله أن يعتمد في حضورهم خبر الشيخ أو خبر ثقة حضره، ومن أثبت سماع غيره في كتابه قَبُح منه كتمانه أو منعه نسخه أو نقل سماعه، وإذا أعاره إياه فلا يبطئ به وإن منعه الكتاب، فإن كان سماع المستعير قد أُثبِت في كتابه بخطه، لزمه إعارته إياه وإلا فلا يلزمه، لأن خطه يدل على رضاه. روى الخطيب (¬1) عن قاضٍ تُحُوكِمَ إليه في ذلك، قال للمدَّعى عليه: إن كان سماعه في كتابك بخطك يلزمك أن تعيره، وإن كان بغير خطك فأنت أعلم. هكذا قال الأئمة الأجلة، حفص بن غياث القاضي الحنفي، وإسماعيل القاضي المالكي، وأبو عبد الله الزبيري الشافعي. ولا ينبغي لأحد أن يكتب السماع في كتاب لم يصحح تصحيحًا مرضيًا كيلا يغير بصحته، إلا أن يبين كون النسخة غير مقابلة، وإذا قابل كتابه أَعْلَمَ على مواضع وقُوِفِه وإن كان في السَّماع كتب: بلغ في المجلس الأول والثاني إلى آخرها. ولنَخْتِم الخَاتِمِة بِخِتَام خَاتَم الأنبيَاءِ وسَيدِ المُرسَليِن - صلى الله عليه وسلم -، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:" يَحْمِلُ هذَا العِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه يَنْفُوُنَ عنهُ تَحرِيفَ الغَالِين وانتِحَالَ المُبطِلِين وَتَأويِلَ الجَاهِلِين" (¬2). ¬

(¬1) الجامع (ص 241). (¬2) أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 273)، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبير (10/ 209).

رواه محيي السنة في المصابيح (¬1). "مِن" في الحديث كما في التنزيل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر} (¬2) جرد من الخلف الصالح، العدول النُقَّاب الثقات (¬3)، وهم هم، تفخيمًا لأمرهم وتعظيمًا لشأنهم، وينفون استئناف كأنه قيل: لم خُص هؤلاء بهذه المَنْقَبة العَليَّة؟ فأجيب لأنهم يَحمُون مَشَارِع الشَّريعة، ومتون الروايات، من تحريف الغالين، والأسانيد من الانتحال والقلب، وتولي الكاذبين، والمتشابه من تأويل الزائغين، بنقل النصوص المحكمة، لرد المتشابه إليها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيِه مَنْ يَشَاء وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيم. تَمَّ المُختَصَر في عِلمِ الحَدِيثِ والحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وصلَّى اللهُ علَى سَيِّدِنَا محمَّدٍ وآلهِ وصَحبِه وسَلَّم وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلْ ¬

(¬1) ينظر مشكاة المصابيح (248). (¬2) سورة آل عمران (104). (¬3) قوله "النقاب الثقات" في المطبوعة "الثقات الثقات" والمثبت من آيا صوفيا، و (د).

§1/1