الخطابة - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 مقدمة في الخطابة.

الدرس: 1 مقدمة في الخطابة. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (مقدمة في الخطابة) مقدمة في تعريف الخطابة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فاعتقد الأقدمون أن للخطابة علمًا له أصول وقوانين من أخذ بها عد خطيبًا، وعرفوا هذا العلم بأنه مجموع قوانين تعرف الدارس طرق التأثير بالكلام وحسن الإقناع بالخطاب، فهو يعنى بدراسة طرق التأثير ووسائل الإقناع، وما يجب أن يكون عليه الخطيب من صفات، وما ينبغي أن يتجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة، وما يجب أن تكون عليه ألفاظ الخطبة وأساليبها وترتيبها. إن علم الخطابة هو العلم الذي يعرف الداعية الخطيب كيف يخاطب الناس ويقنعهم ويجذبهم ويرغبهم ويرهبهم، وكيف يتكلم بتؤدة وتمهل حتى يفهم الناس منه ويعقلوا عنه، وكيف تكون خطبته لمستمعيه بما تتناسب مع عقليتهم وثقافتهم وما تتفق مع أعمارهم ولهجاتهم، حتى يستحوذ على نفوس المخاطبين ومشاعرهم، ويكون له في المجتمع أثر وفي مجال الإصلاح تغيير. كذلك يعرف الدارس كيف يملك قلوب المخاطبين ويشدهم إلى تقبل الحق، ويدفعهم إلى الالتزام ويحرك عزائمهم ويستثير وجدانهم، وذلك باستعمال النداءات الاستعطافية والمخاطبات التشويقية. وهذا العلم الذي يعرف الداعية الخطيب عيوب الخطيب ليتحاشاها ويبتعد عنها؛ كعيوب النطق والحركات الكثيرة والمبالغة في الإشارات، والمواقف التمثيلية المتكلفة، والغلو في رفع الصوت إلى درجة تصك الآذان، والهمس إلى

درجة تجهد السامعين، والسرعة إلى درجة تتطاير معها الحروف وتتآكل معها الكلمات، والبطء إلى درجة تستدعي التثاؤب والنعاس، والعبث باللحية وفتل الأصابع والإكثار من السعال بغير مبرر، والإثارة واضطراب الأعصاب وسوء المظهر، إلى غير ذلك مما يخل بشخصية الداعية ويضعف مهابته، ويجعله محل نقد ومثار سخرية. كما أن علم الخطابة يعرف الخطيب ما ينبغي أن يكون عليه وهو يتكلم، بأن يكون قوي الملاحظة حاضر البديهة طليق اللسان، رابط الجأش مراعيًا مقتضى الحال، قوي الشخصية؛ وذلك ليحرص على التحقق بها ويعمل بمقتضاها؛ ليستمر عطاؤه ويؤثر كلامه ويحقق الخير والعز والسيادة لأمة الإسلام. يضاف إلى هذا أن علم الخطابة يعرف طلاب الدعوة -الذين لم يسبق لهم أن يمارسوا التحدث ولا المحاضرة ولا الخطابة- طرق التحضير وتهيئة الموضوع من جميع نواحيه، ويعد لهم من جميع جوانبه ويشبعه بحثًا ودرسًا وشواهد، حتى يستطيع أن يدلي بحجته فيصيب المرمى وينال السبق، ويبلغ الغاية ويؤثر في الناس بهز المشاعر وتحريك أوتار القلوب، ويبين لهم الخطوات الموصلة إلى الارتجال في الخطابة، والبواعث التي تثير انتباه الجمهور إليه، وتبدد ظلام اليأس في نفوس المخاطبين، ويشرق فيها نور الرجاء والأمل. وعلم الخطابة بهذا ينير الطريق أمام من عنده استعداد للخطابة ليربي ملكاته، وينمي استعداداته، ويخلصه مما عنده من عيوب، ويرشده إلى طريق إصلاح نفسه ليسير في الطريق ويسلك السبيل. فهذا العلم هذه وظيفته أن ينير الطريق للخطيب، ولكنه لا يحمله على السلوك، فهو يرشد دارسه إلى مناهج ومسالك ولا يحمله على السير فيها، وهو يعطيه

تعريف الخطابة.

المصباح ولا يضمن له أن يرى به إذا كان في عينيه رمد، حتى إن أرسطو واضع كتاب (الخطابة) لم يكن خطيبًا. وليس علم الخطابة بدعًا في ذلك، فعلم النحو لا يضمن لمتعلمه أن ينطق بالفصحى ما لم يتمرن عليها، وعلم الأخلاق لا يضمن لعارفه سلوكا قويمًا ما لم يروض نفسه على الأخذ به، وعلم العروض لا يكوِّن شاعرًا، وعلم المنطق يسن قانونًا لاعتصام الذهن، ولا يضمن للعالم به عصمة الذهن ما لم يروض نفسه عليه رياضة كاملة، وهكذا كل العلوم النظرية التي تظهر ثمرتها في العمل، تعطي من يريدها قانونًا يساعده ولا تضمن له العمل إلا إذا راض نفسه على قانونها. تعريف الخطابة الخطابة لغة: مصدر خطب يخطب خطبة وخطابة. جاء في (مختار الصحاح): "خطب الخطب سبب الأمر. تقول: ما خطبك؟ أي ما أمرك، وتقول: هذا خطب جليل وخطب يسير، وجمعه خطوب، قاله الأزهري. وخاطبه بالكلام مخاطبة وخطابًا، وخطب على المنبر خطبة -بضم الخاء- وخطابة، وخطب المرأة في النكاح خطبة -بكسر الخاء- يخطب، بضم الطاء فيهما -في خطبة النكاح وخطبة المنبر- واختطب أيضًا فيهما، وخطب من باب ظرف صار خطيبًا". وقال الراغب في (المفردات في غريب القرآن): "خطب الخطب والمخاطبة والتخاطب المراجعة في الكلام، ومنه: الخُطبة والخِطبة، لكن الخُطبة تختص بالموعظة والخِطبة بطلب المرأة.

قال الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} (البقرة: 235) وأصل الخطبة الحال التي عليها الإنسان إذا خطب نحو: الجلسة والقعدة. ويقال مِن الخُطبة: خاطب وخطيب، ومن الخِطبة: خاطب لا غير، والفعل منهما خطب. والخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب. قال الله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} (طه: 95) وقال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} (الذاريات: 31) وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب". قال الإمام محمد أبو زهرة -رحمة الله عليه- في تعريف الخطابة: "الخطابة مصدر خطب يخطب أي صار خطيبًا، وهي على هذا صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التصرف في فنون القول؛ لمحاولة التأثير في نفوس السامعين، وحملهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم، فالخطابة مرماها التأثير في نفس السامع ومخاطبة وجدانه، وإثارة إحساسه للأمر الذي يراد منه، ليذعن للحكم إذعانًا ويسلم به تسليمًا". وقد قال ابن سينا: "إن الحكماء قد أدخلوا الخطابة والشعر في أقسام المنطق؛ لأن المقصود من المنطق أن يوصل إلى التصديق، فإن أوقع التصديق يقينًا فهو البرهان، وإن أوقع ظنًّا أو محمولًا على الصدق فهو الخطابة، أما الشعر فلا يوقع تصديقًا لكنه لإفادة التخييب الجاري مجرى التصديق، ومن حيث إنه يؤثر في النفس قبضًا أو بسطًا عُد في المُوصِّل إلى التصديق، والتخيل عنده إذعان للتعجب والالتزام تفعله صورة الكلام". وقال الدكتور أحمد الحوفي في تعريف الخطابة: "هي فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته، فلا بد في الخطابة من مشافهة وإلا كانت كتابة أو شعرًا

مدونًا، ولا بد من جمهور يستمع وإلا كان الكلام حديثًا أو وصية، ولا بد من الإقناع، وذلك بأن يوضح الخطيب رأيه للسامعين، ويؤيده بالبراهين ليعتقدوه كما اعتقده. ثم لا بد من الاستمالة، والمراد بها أن يهيج الخطيب نفوس سامعيه أو يهدئها، ويقبض على زمام عواطفهم يتصرف بها كيف شاء سارًّا أو محزنًا مضحكًا أو مبكيًا، داعيًا إلى الثورة أو إلى السكينة". وإذًا فأسس الخطابة هي هذه الأربعة: مشافهة، وجمهور، وإقناع، واستمالة، فالخطابة فن، أي إنها وإن كانت استعدادًا فطريًّا لا يباع ولا يشترى، فهي مع ذلك فن من الفنون يمكن تعلمه بالممارسة. يقول أرسطو: "بعض الناس يمارس الخطابة فطرة وسليقة، وبعضهم يمارسها بالمرانة التي اكتسبها من مقتضيات الحياة، والوسيلتان ممكنتان، فواضح أن تكون هناك طريقة وأن يكون هناك مجال لتطبيقها، ولضرورة النظر في السبب الذي يؤدي إلى نجاح هذا العمل المنساق بالعادة، أو المندفع بالفطرة أو السليقة، لا يشك إنسان في أن مثل هذه الدراسة من خاصة الفن". أما المخاطبة فإذا كان كاتب المقال يسطر أفكاره على الورق، ويغير من أفكاره ما شاء له التغيير، فإن الخطيب مسئول أن يبلغ رسالته مباشرة وأمام الجمهور مواجهة، بكل ما تحمله المواجهة من أخطار، والخطيب لا يواجه فردًا أو اثنين أو ثلاثة ولكنه يلاقي جمهورًا غفيرًا، ومع كثرته فهو متعدد المستويات متنوع الثقافات، ويفرض ذلك على الخطيب أن يكون ذا إرادة قوية وصوت عالٍ وانفعال بما يقول؛ ليستطيع بذلك السيطرة والإمساك بزمام موقف معقد متعدد الجبهات والمفاجآت. ويتميز الخطيب بلون من الأداء، فليس الخطيب بالقاص الذي يسرد الوقائع سردًا، وليس مؤرخًا يحكي أحداث التاريخ بصوت رتيب.

تاريخ علم الخطابة ونشأتها.

تاريخ علم الخطابة ونشأتها الخطابة قديمة العهد والاستعداد لها مخلوق مع الإنسان، إذ لا غنى للإنسان عن الإبانة والتعبير لغيره عما يدور في خلده وضميره من معانٍ وأفكار، وعن إقناعه بصدق مقاله وسداد رأيه. وقد كان للأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في الخطابة الحظ الأوفى والمقام الأعلى، فكل واحد منهم -عليهم الصلاة والسلام- كان داعية خطيبًا إلى توحيد الله تعالى وطاعته وتقواه، وإرشاد الناس إلى طريق الخير وطريق الشر، بحيث من سار في طريق الخير سعد ونجى، ومن سار في طريق الشر هلك وشقى، كما قال رب العالمين سبحانه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123، 124). وهكذا كان كل نبي من لدن آدم إلى محمد -صلى الله عليهم وسلم- كانوا أجمعون يقومون في أقوامهم دعاة خطباء، يدلونهم على الله وما يقربهم منه ويوصلهم إلى طاعته، ويبينون لهم الثمرات الطيبة التي تنعكس عليهم من جراء التوحيد والطاعة في الدنيا والآخرة، كما يبينون لهم الآثار السيئة والعواقب الوخيمة -التي تنتظرهم وتحل بساحتهم- إن أقاموا على التكذيب والجحود والكفران، وأصروا على التمرد والعصيان، كما أخبر الله -عز وجل- عنهم في كتابه الكريم، وأطلعنا على ذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم. وقد بقي من آثار الخطابة على طول الأمد خطب التوراة التي قام بها الأنبياء -عليهم السلام- إلى بني إسرائيل؛ ليحملوهم على الاستقامة ويردوهم عن الشر والغواية. وأول من كتب في هذا العلم اليونان، بل هم مستنبطو قواعده

ومشيدو أركانه ومقيمو بنيانه؛ وذلك لأن أهل "أثينا" في عصر "بركليس" قويت فيهم رغبة القول واشتدت فيهم داعيته، إذ صار يأسرهم القول البليغ دون سواه. يقول المسيو "شارل": "امتازت أثينا أولا ببلاغة خطبائها، فكانت حقًّا بلد الأدب وحسن الإلقاء، فبالخطب في مجلس الأمة يقرر شهر الحروب وعقد السلم، ووضع القطائع والضرائب وكل الشئون العظيمة، وبالخطب التي تلقى في المحاكم يحكم على الوطنيين والرعايا أو يبرئون، فللخطباء السلطة وعلى الأمة أن تعمل بنصائحهم ومواعظهم، وربما عهدت إليهم بإدارة شئون المملكة، فقد عين "كاليون" قائدًا ورأس "ديموستين" الخطيب حرب "فيليب". وللخطباء نفوذ كبير، وكثيرًا ما يُلجئون إلى بلاغة قولهم للنيل من عداتهم في سياستهم، وربما أثروا لأنهم ينالون من المآرب ما يرضيهم من المال ليعاضدوا أحد الأحزاب. فقد أخد "إيشيل" مالًا من ملك "مقدونيا"، وقبض "ديموستين" دنانير من ملك الفرس، ثم إن بعض الخطباء كانوا ينشئون خطبًا ليلقيها غيرهم، إذ لا يسوغ لمن كانت له قضية أن يرفعها بوكالة محام كما هو الحال عندنا، بل تقضي شريعة البلاد أن يتكلم صاحب القضية في قضيته بالذات، فمن ثم كان عليه أن يقصد إلى أحد الخطباء يلتمس منه تأليف خطاب له يحفظه ليتلوه في مجلس القضاء، وكثيرًا ما كان بعض الخطباء يجوبون البلاد اليونانية ويتكلمون في موضوعات توحيها إليهم مخيلتهم، فتحتفل لذلك المحافل وتعقد الأندية والمؤتمرات". وإذا كان التسابق البياني وصل إلى ذلك الحد، فلا عجب إذا رأينا أن من لم يكن قديرًا على فنون القول يحاول أن يتعلمها، ولذا اتجه الناس إلى تعلم الخطابة

والتدريب عليها، والتمرين على الإلقاء وتعويد اللسان النطق الصحيح والبيان الفصيح، لذلك أخذ العلماء يستنبطون قواعد الخطابة وقوانينها، بملاحظة الخطباء وطرق تأثيرهم وأسباب فشل من يفشل منهم، ويظهر أن أول من اتجه إلى استنباط تلك القواعد السوفسطائيون؛ فإنهم كانوا يعلمون الشبان في "أثينا" طرق التغلب على خصومهم في ميدان السبق الكلامي، وكيف يغالطونهم وكيف يلبسون عليهم الحقائق، ويمرنونهم على القول المبين والإلقاء المحكم، وطبعي أن يتجه من نصبوا أنفسهم لذلك إلى استنباط قواعد وقوانين، مَن أخذ بها أَمِنَ العثار وسبق في الخصال. وقد جاء من بعد هؤلاء السوفسطائيين أرسطو، فجمع قواعد علم الخطابة وضم شوارده في كتاب أسماه (الخطابة)، كان أصلًا لذلك العلم ومرجعًا يرجع الخطباء والمؤلفون في الخطابة إليه، وصدرًا يصدرون عنه ويردون موارده. وقد جاء بعد أرسطو عصر نشطت فيه الخطابة عند الرومان نشاطها عند اليونان. يقول مسيو "شارل": "كان الخطباء يأتون إلى ساحات الاجتماع، حيث تلتئم مجالس الأمة في أواخر عهد الجمهورية، يخطبون ويكثرون من الحركات وسط دوي القوم". وإذا تركنا الحديث عن اليونان والرومان وتوجهنا شطر العرب؛ وجدنا أن الخطابة في صدر الإسلام وصلت إلى الذروة وبلغت كمال أوجها، وجاء العصر الأموي فوجدت الخطابة لها غذاء من الفتن والثورات التي أظلت ذلك العصر، وقد أخذ الفتيان والكهول يتبارون في الخطابة ويتسابقون في ميدانها، وكان مكان ذلك الوفادة ومجالس الخلفاء والأمراء والولاة. وقد نشأ من هذا أن وجد أناس يعلمون الشبان الخطابة ويمرنونهم عليها. وقد ظهر ذلك واضحًا كل

الوضوح في العصر العباسي الأول، فقد جاء في (البيان والتبيين) للجاحظ وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه أن بشرًا بن المعتمر مر بإبراهيم بن جبلة وهو يعلم فتيانه الخطابة، فقال بشر: "أضربوا عن ما قال صفحا واطووا عنه كشحا"، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه، وفي هذه الصحيفة وصف جيد لأساليب الخطابة وألفاظها ومعانيها، ويظهر أنهم لم يقتصروا على استنباطاتهم العربية، بل كانوا يستعينون بما في آداب الأمم الأخرى؛ ليعاونهم ذلك في استنباطهم ويمدهم بما ليس عندهم، وينبههم إلى ما عساه يعزب عن خواطرهم. ومن ذلك ما جاء في (البيان والتبيين) و (الصناعتين) قال معمر أبو الأشعث: "قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة، فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث: فلقيت بتلك الصحيفة التراجم فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح ... "، إلى آخر ما جاء في هذه الصحيفة من وصف جيد للخطيب والأسلوب الخطابي. ألا ترى من هذا ما يدل دلالة راجحة على استعانتهم بالآداب الأجنبية وتغذيهم بها، وقد استمر البحث في الخطابة وأصولها ينمو ويكثر ما كانت الخطابة ناهضة، وكان أكثر من يقوم به أئمة المعتزلة الذين احتاجوا إليها؛ ليحتازوا مجالس المناظرات ويتغلبوا على خصومهم من ذوي الجدل، ولذا نبغ فيهم خطباء كثيرون، ومنهم من يعرف بعض أصول الخطابة وقوانينها؛ كعمرو بن

أهمية الخطابة ومكانتها.

عبيد وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس والجاحظ وغيرهم كثيرون، غير أن بحوث أولئك الأدباء لم تجمع في كتاب مستقل، بل كانت متفرقة في الكتب وعلوم اللغة، ولم يعن أحد بتدوينها في كتاب مستقل لتكون علمًا قائمًا بذات، حتى ترجم إسحاق بن حنين كتاب (الخطابة) لأرسطو وشرحه الفارابي. وقد جاء في (الفهرست) لابن النديم في أثناء سرد ما كتبه أرسطو في المنطق: "الكلام على ريطو ريقا ومعناه الخطابة. وقيل: إن إسحاق نقله إلى العربي، ونقله إبراهيم بن عبد الله وفسره الفارابي. رأيت بخط أحمد بن الطيب هذا الكتاب نحو مائة ورقة بنقل قديم، وقد أتى ابن سينا في كتاب (الشفاء) بلب كتاب (الخطابة) لأرسطو مع تصرف غير ضار به". وبنقل كتاب (الخطابة) لأرسطو صار في العربية قواعد للخطابة مدونة في بحث مستقل، وإن كان جزءًا من علم المنطق على ما سبقت الإشارة إليه. أهمية الخطابة ومكانتها إن الإنسان إذا عرف أهمية الشيء ومكانته في الحياة سعى إليه بكل طاقته وجهده؛ ليتحصل عليه وينال شرفه وفضله. والخطابة من أهم الأشياء في حياة الإنسان؛ لأن الإنسان بطبيعته مدني اجتماعي يحب الخلطة ويكره العزلة، فإذا خالط الناس فلا بد أن يحدث بينه وبينهم اختلاف أيًّا كان سبب هذا الاختلاف، وحينئذ فلا بد له ولغيره من محاولة كل منهما بإقناع الآخر برأيه، وهنا تأخذ الخطابة دورها في المعارك الدائرة هجومًا ودفاعًا. ومن هنا عرف الناس الخطابة منذ أن اجتمعوا في مكان واحد واستوطنوه، لأن الطبيعة تقتضي اختلاف الناس متى اجتمعوا سواء كان هذا الاختلاف في رأي

أو في عقيدة، أو كان الاختلاف بسبب تنافس على غنيمة أو متاع أو سلطة، فيحاول المتفوق أن يستميل إليه من يخالفونه وأن يقنعهم، فإذا ما أقنعهم واستمالهم فهو خطيب وقوله خطبة، ثم إنه من الطبيعي أن تنشب أمور تستدعي تعاون المجتمع، وتضافر قواه على اجتلاب نفع عام مشترك أو اتقاء ضرر عام، فيتصدر بعض النابهين من هذا المجتمع لقيادة الجماعة وزعامتها، وعدتهم في ذلك الخطابة، على أن الناس في حياتهم القديمة تسلحوا بأسلحة مادية للدفاع والعدوان، وتسلحوا أيضًا بسلاح معنوي هو اللسان. وما زالت الخطابة إلى الآن سلاحًا مرهفًا تتصاول به الأمم مهما جيشت جيوشها، وتفننت في اختراع القذائف والمدمرات، لذلك لم يخلُ من الخطابة سجل أمة وعى التاريخ ماضيها، فقد حفظها خط أشور المسماري، وقيدها خط الفراعنة الهيروغليفي، ثم رواها تاريخ اليونان السياسي والأدبي منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبها أخضع بوذا الجموع الهندية لتعاليمه، وبها أذاع الدين أنبياء بني إسرائيل، وكان لها مكانها العظيم في مجامع العرب قبل الإسلام وفي أسواقهم الأدبية بنوع خاص. يقول ابن رشد ناقلًا عن أرسطو: "ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معه البرهان في الأشياء النظرية، التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إما لأن الإنسان قد نشأ على مشهورات تخالف الحق، فإذا سلك نحو الأشياء التي نشأ عليها سهل إقناعه، وإما لأن فطرته ليست معدة لقبول البرهان أصلًا، وإما لأنه لا يمكن بيانه له في ذلك الزمان اليسير الذي يراد منه وقوع التصديق فيه، فهذا الصنف الذي لا يجدي معه الاستدلال المنطقي تهديه الخطابة إلى الحق الذي يراد اعتناقه؛ لأنها تسلك من المناهج ما لا يسلك المنطق".

وهذه أول ثمرة من ثمرات الخطابة، وللخطابة فوق ذلك ثمرات كثيرة؛ فهي التي تفض المشاكل وتقطع الخصومات، وهي التي تهدئ النفوس الثائرة، وهي التي تثير حماسة ذوي النفوس الفاترة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وترد المظالم، وهي صوت المظلومين، وهي لسان الهداية، ولأمرٍ ما قال موسى -عليه السلام- عندما بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى إلى فرعون: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 24 - 28). ولا يمكن أن ينتصر صاحب دعاية ومناد بفكرة وصاحب إصلاح إلا بالخطابة، فالخطابة هي الدعامة التي قامت عليها الانقلابات العظيمة والثورات الكبيرة، التي نقضت بنيان الظلم، وهدمت قصور الباطل، فهذه الثورة الفرنسية إنما قامت على الخطابة، وهي التي كانت تؤجج نيرانها وتذكي لهبها. والخطابة قوة تثير حمية الجيوش وتدفعهم إلى لقاء الموت، وتزيد قواهم المعنوية، ولذلك كان قواد الجيوش المنتصرون في القديم والعصور الحديثة خطباء، ومنهم: نابليون، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وطارق بن زياد، كل هؤلاء القواد حملوا معهم سلاحًا معنويًّا بجوار السلاح الحديدي، والخطباء هم المسيطرون على الجماعات، هم الذين يقيمونها ويقعدونها. وفي الحكومات الشورية يكون الخطباء هم الغالبين، تصدع الأمة بإشاراتهم وتخضع لسلطانهم؛ لأن الغلبة في ميدان الكلام والسبق في حلبة البيان لهم، فآراؤهم فوق الآراء؛ لأنهم يستطيعون أن يلحنوا بحجتهم ويسبقوا إلى غاياتهم، وفي ذلك نشر لسلطانهم ورفعة لهم. فالخطابة طريق للمجد الشخصي كما أنها طريق النفع العام، والحق أن الخطابة مظهر اجتماعي للمجتمع الراقي، تحيا برقي الجماعة وتخبو بضعفها.

ولقد قال ابن سينا في فائدة الخطابة: "إن صناعة الخطابة عظيمة النفع جدًّا؛ وذلك لأن الأحكام الصادقة فيما هو عدل وحسن أفضل نفعًا وأعم على الناس من أضدادها فائدة؛ لأن نوع الإنسان يعيش بالتشارك والتشارك محوج إلى التعامل والتحاور، وهما محوجان إلى أحكام صادقة، وهذه الأحكام الصادقة تحتاج إلى أن تكون مقررة في النفوس ممكنة في العقائد، والبرهان قليل الجدوى في حمل الجمهور على الحق، فالخطابة هي المعينة بذلك". وقال في حق الخطيب: "إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له مراسيم لتقويم عيشه والاستعداد لآخرته". إن الخطابة هي سلاح المجتمع الإنساني في سلمه وحربه، وفي ترقيته والإسراع به نحو المثل الأعلى الذي يجب أن يقصد إليه، فليس بدعًا أن كانت بلاغ النبيين إلى أممهم، والراح الذي يسكبه القواد في نفوس جنودهم قبيل المعركة، فيسرعون باسمين إلى قتال أعدائهم، وغصن الزيتون يلوح به دعاة السلام في عالم كربه العداء والخصام، والقوة الساحرة التي يقود بها الزعماء السياسيون والمصلحون الاجتماعيون أممهم، إلى حياة أرقى وأعز وأبقى، ولسان الأحزاب السياسية تنشر به دعوتها وتظفر به على خصومها، ونورًا يهدي القضاة إلى العدالة وتبرئة المظلوم والقصاص من الباغي. ثم هي في العصر الحديث -خاصة- عدة الزعماء والساسة، تستند إليها الديمقراطية وتعتمد عليها الدكتاتورية، ويتسلح بها المؤتمرون في المجامع الدولية، ويصعد عليها النواب إلى قمة الشهرة وذيوع الأحدوثة، ويرتقي بها المحامون إلى الصيت الطائر والثراء الغامر. وحسبنا في إبراز أهمية الخطابة ما ذكره ابن سينا في كتابه (الشفاء) إذ يقول: "إن الخطيب يرشد السامع إلى ما يحتاج إليه من أمور دينه ودنياه، ويقيم له

مراسيم لتقويم عيشه والاستعداد إلى معاده، وحسبها شرفًا أنها وظيفة قادة الأمم من الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ومن على شاكلتهم من العلماء العاملين وعظماء الملوك وكبار الساسة". فالخطابة إذًا ذات أهمية كبرى في حياة الأمم والشعوب والأفراد والجماعات. ومما يوضح ذلك أكثر وأكثر وقوفك على فضلها وعظيم منزلتها وشرفها بين العلوم، فهي سيدة العلوم كلها؛ لأنها لسانها المعرف بها، وصاحبها دائمًا ما يكون صاحب سيادة ومكانة مرموقة، ما إن قام بواجباتها كما ينبغي، ولما كان فضل العلوم والصناعات واستظهار شرفها يتوقف على شرف غايتها؛ فإن الخطابة ذات شأن خطير في غايتها؛ وما ذاك إلا لأن غايتها إرشاد الناس إلى الحقائق، ومواجهة الأباطيل بالتنبيه عليها، وحملهم على ما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم. والخطابة معدودة من وسائل السيادة والريادة والزعامة، وقد كانت من شروط الإمارة، فهي من أساسيات كمال الإنسان، وسبب من أسباب رفعته إلى ذرى المجد، أرأيت كيف أن الخطابة شرفها جسيم وفضلها عظيم، فهلا كنت واحدًا من أرباب هذا المجد الشامخ، في سماء العلوم وذروة سنام الفنون. إن لدراسة علم الخطابة فوائد كثيرة: أن دراسة علم الخطابة توقف الدارس على معرفة كيفية امتلاك القلوب، واستمالة النفوس، وتهييج المشاعر، وإثارة العواطف الكامنة الهادئة نحو مراده من مستمعيه، فبمعارفها تستضيء موارد الدليل، وتتضح مصادر الحجة لإنفاذ كل أمر جلل وجليل، وإدراك كل غاية شريفة، وبقوانينها يترشد الطالب إلى مواطن الضعف وشعب السهو والزلل، فيقوى على دحض حجة المناظر وتزييف سفسفطة المكابر، كما أنها من جانب آخر تثير الحماسة في النفوس الفاترة، وتهدئ النفوس

الثائرة، وهي التي ترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وتدفع المظالم، وهي التي تهدي الضال إلى سواء السبيل، وتقضي على النزاع وتقطع الخصومات. وما من شك في أن الخطيب البارع النابه والعالم المتحدث الفذ هو الذي تبرز قوته ودقته، ومدى استفادته من دراسة علم الخطابة؛ بالتعبير عن ما في نفسه، وقيامه بين ذوي الاتجاهات المختلفة، والأفكار المتضاربة، والآراء المتناحرة، والحكم بينها، فلا يزال يبين لهم النافع من الضار والصواب من الخطأ، حتى يجعل الجميع في قبضة يده. والخطيب البارع يقوم بين طائفتين قد استعرت بينهما نار العداوة والبغضاء، فيذكرهم بعواقب فساد ذات البين والتقاطع، وما يجره عليهما طول أمد الخصومة، ومن ثم فهو يسلك معهم سبيل التحذير والترهيب من مغبة هذا البغض وتلكم العداوة، وما يجر عليهما بسببه من نتائج سيئة، ثم يرغبهما في الصلح وما له من فضل وثواب عند الله تبارك وتعالى، ويراعي في ذلك كله الصبر والمثابرة. إذًا فالمهمة صعبة، والطريق إلى تحقيق المراد شاق ومليء بالأشواك والفتن وذرائع الشيطان، فإذا ما تم ذلك لم تلبث القلوب إلا أن تصفو متألقة والنفوس متآخية صالحة. فماذا لو أدرك الداعية إذًا مسئولية الكلمة التي يوجهها للناس، أو إن أردت صوابًا فقل: يوجه الناس إليها أو بها، ثم ماذا لو وضع في اعتباره جيدًا نوعية من يتحدث إليهم، مِن حيث مستوى التعليم والثقافة والبيئة وتقييم الوضع الاجتماعي والنفسي، وأهم من هذا كله درجة الوعي الديني أو مستوى الوعي الديني والتربية العقدية. إن الخطيب لو فعل ذلك لبانت له أكثر وأكثر ضرورة وقوف من يتصدى لمهمة توجيه الناس على أصول وقواعد وقوانين علم الخطابة، ولبان له فائدة دراستها وثمرة معرفة أصولها.

إن الداعية يخاطب كل الناس والناس مختلفون في دوافعهم وأهدافهم، فلا بد أن يكون الخطيب أعلم منهم، يطل بثقافته الواسعة عليهم جميعًا، ويلاحقهم بمعرفته بطبائع النفوس التي يتمسك بأعرافها وتقاليدها، إلى حد الدفاع عنها ومهاجمة من يحاول النيل منها. ومن ثم فالحكمة تقتضي مسايرة الداعية الخطيب لهذه الطبائع، وملازمتها بالرفق واللين، دون أن ينمع معها، وصولًا بها إلى إعلان شعائر الإسلام، بعد أن تكون النفوس المخاطبة مِن قِبله قد تهيأت للغراس الجديد. فإذا كانت الخطابة لها هذه الأهمية العظيمة، ولها هذا الأثر الكبير في حياة الأمم والجماعات والأفراد؛ فهي إذًا جديرة بأن تدرس، وجديرة بأن توضع لها أصول؛ ذلك أن فن الخطابة يحاول تحليل الخطب، واستنباط الأصول العامة للخطابة الناجحة، ويرسم السبل التي يسلكها الخطيب ليستميل الجمهور ويقنعه، وبهذا تقوى الخطابة، ويتزود الخطباء بتجارب سابقيهم، وتنضج مواهبهم، ويقفون على خصائص الخطباء الكبار، وعلى ما في خطبهم من دقائق كفلت لهم البراعة. ومنذ القدم وضع أرسطو للخطابة أصولًا ما تزال تراعى، وقرر أنها فن في قوله: "إن كل الناس يلجئون للخطابة والجدل بدرجات متفاوتة، وبعض الناس يمارس الخطابة والجدل فطرة وسليقة، وبعضهم الآخر يمارسها بالمرانة التي اكتسبها من مقتضيات الحياة، والوسيلتان ممكنتان، فواضح أن تكون هناك طريقة وأن يكون هناك مجال لتوجيه تطبيقها، ولضرورة النظر في السبب الذي يؤدي إلى إنجاح هذا العمل المنساق بالعادة، أو المندفع بالفطرة والسليقة، ولا يشك إنسان في أن مثل هذه الدراسة من خاصة الفن". هذا، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 2 الغاية من الخطابة.

الدرس: 2 الغاية من الخطابة.

أهمية الخطابة للدعوة الإسلامية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الغاية من الخطابة) أهمية الخطابة للدعوة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن الخطابة كانت ولا تزال من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى باللسان، ولا نتجاوز الحقيقة كثيرًا إن قلنا: إن الخطابة هي أهم وسائل الدعوة الإسلامية، ففي بداية الدعوة كان للخطابة الدور الرئيسي في التبليغ، حيث امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمر ربه له بالدعوة جهرًا {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنْذِرْ} (المدثر: 1، 2)، {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214)، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94). لما نزلت هذه الآيات جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الخطابة سلاحه في التبليغ. روى الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قريشًا فعم وخص؛ فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا معشر عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرًّا ولا نفعًا. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعًا، إن لك رحما وسأبلها ببلالها)) أي: إن لك قرابة وسأصلها كما أمرني الله سبحانه وتعالى. كذلك اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الخطابة وسيلة للدعوة عند استقباله للوفود، التي كانت تتوالى عليه معربة عن قبولها للإسلام دينًا، كما كانت الخطابة منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في توجيه قيادة الجيوش الإسلامية الذاهبة لنشر الإسلام في كافة الأنحاء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر مَن يراه أهلًا للخطابة بأن يخطب بحضرته -صلى الله عليه وسلم.

ويتضح هذا في موقفه -صلى الله عليه وسلم- من وفد بني تميم، حين دخل الوفد إلى المسجد النبوي الشريف ونادوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وراء حجراته: "يا محمد اخرج إلينا، يا محمد اخرج إلينا، فآذى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم؛ فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((قد أذنت لخطيبكم فليقل)) فقام أحدهم فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟! ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وأن لو نشاء لأكثرنا الكلام ولكننا نحيا من الإكثار فيما أعطانا وإنا نُعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس: ((قم فأجب الرجل في خطبته)). فقام ثابت -رضي الله عنه- فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه السموات والأرض، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا، أكرمه نسبًا وأصدقه حديثًا وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين. ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس حسبًا وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كان أول الخلق إجابة واستجاب لله حين دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله -صلى الله عليه وسلم- نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم ورحمة الله".

ثم اتخذ الخلفاء الراشدون وأولو أمر المسلمين من بعدهم -في كل زمان ومكان- الخطابة وسيلة لنشر الإسلام، وتثبيت دولته، إما بأنفسهم مباشرة وإما بتكليفهم من يقوم بها على وجهها، وذلك لاعتقادهم أن الخطابة في الإسلام هي مظهر الحياة المتحركة فيه، الحياة التي تجعل هذا الدين يزحف من قلب إلى قلب ويثب من فكر إلى فكر، وينتقل مع الزمان من جيل إلى جيل ومع المكان من قطر إلى قطر. وذاك هو السر في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب كل أسبوع وكل عيد، ويخطب أو ينيب عنه أميرًا يخطب في وفود الحجيج عند جبل الرحمة، ولأهمية الخطابة ومكانتها في الدعوة الإسلامية جعلها الإسلام الحنيف شعيرة من أهم شعائره، في كافة المناسبات الدينية والدنيوية؛ دعمًا للحق وهدمًا للباطل. ومن أهم هذه المناسبات: مناسبات أسبوعية وأخرى سنوية وثالثة طارئة، ففي كل أسبوع يحتشد المسلمون في المسجد الجامع؛ ليسمعوا داعية إلى الله تعالى يذكر به ويعلم دينه، وفي كل عيد يجتمع الرجال والنساء في الميادين الرحبة، أو في المصليات المحيطة بالقرية ليسمعوا التوجيه المناسب بعد صلاة العيد، وفي كل موسم جامع للحجيج تلتقي وفود الأمة الإسلامية المترامية الأطراف حول عرفة، لتستمع إلى خطاب خطير يتناول شئونها ويشرح قضاياها ومبادئها، وفي الأمور الطارئة كالخسوف والكسوف والجدب يجتمع المسلمون للصلاة والابتهال إلى الله تعالى، ولسماع خطيب يذكرهم بنعم الله تعالى على الناس خاصة، وسننه في خلقه عامة، ويخوفهم بما أراهم الله تبارك وتعالى من الآيات لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا. إن فضل الخطابة عظيم وشرفها جسيم، وفضل العلوم والصناعات وشرفها إنما هو بشرف غاياتها وأهدافها، وللخطابة غاية ذات شأن خطير وهي إرشاد

الناس إلى الحقائق، وحملهم على ما ينفعهم في العاجل والآجل، وفوائد الخطابة جمة؛ فالخطابة تنقل السامع من موقف إلى آخر، ومن عقيدة إلى أخرى باعثة في السامع نزعة للعمل الإيجابي فيما كان يقف موقفًا سلبيًّا، فغاية الخطابة هي تحويل الأفكار الذهنية الجامدة إلى عواطف متحركة. إنها مهمة الأنبياء ووظيفة المرسلين والخلفاء والمصلحين، من قام بها على الوجه الأحسن والأكمل كان من الرابحين الفائزين، وهل كان شغل الأنبياء والمرسلين إلا دلالة الخلق على الله، وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتذكيرهم بين الحين والحين بما يصلحهم في دنياهم، ويسعدهم في عقباهم، وعن طريق الخطابة ترد النفوس إلى باريها، ويوصل المنقطعون بخالقهم، ويهتدي التائه الحيران، ويسكن القلِق ويطمئن المضطرب، ويعرف الناس غايتهم، ويزيد التقي تقًى والمهتدي هدًى، ويقوى الضعيف ويعز الذليل ويجتمع الشتات وتتوحد الصفوف. إنها زاد للأرواح وغذاء للعقول وتربية للأبدان، وبها تزكو النفوس وتعبد بارئها ومولاها، وتفر إليه وتحب طاعته، وتحرص على نيل مرضاته، وتمقت مخالفته، وتكره عصيانه. وبالخطابة تفض المشاكل وتقطع الخصومات، ويرفع الحق ويهدم الباطل، ويقام العدل وترد المظالم، وبالخطابة يتعاون الناس على البر والتقوى، وينصر المظلوم ويغاث المستغيث ويعان المحتاج. إن الخطابة هي لسان الهداية والدعامة الكبيرة التي تهدم الباطل، وتحرر الأرض ومن عليها من رق العبودية لغير الله عز وجل، ولهذه المنزلة للخطابة في الإسلام عدت من شعائره الكبرى.

يقول الدكتور محمود محمد عمارة في بيان أهمية الخطابة: "والخطابة فوق ذلك كله سلاح من أسلحة الدعوة يحق الله به الحق ويبطل الباطل. وعندما يكثر المبطلون في الأرض ويظهر شرهم في البر والبحر؛ فإن الخطيب واحد من الذين يتصدون لهذا الشر كسرًا لشوكته، مع غيره من رفاق السلاح على طريق الحق. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان موضع الخطيب المجاهد بلسانه مع إخوة له: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا ي فعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)). ولو تأملت موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في قضية المرأة المخزومية التي سرقت، وجاء أسامة بن زيد ليشفع لها، لو تأملت هذا الموقف لتبين لك دور الخطبة الرئيسي في التربية. لقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على أسامة -وهو حبه وابن حبه- أنكر عليه شفاعته قائلًا: ((أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فخطب فقال: أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). والناظر في الخطب النبوية يجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا بالخطبة إلى العقيدة الصحيحة، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، ومواجهة الأعداء بالجهاد والنضال، وكذلك فعل الصحابة -رضي الله عنهم- من بعده، وفعل التابعون لهم بإحسان. وبالخطبة أيضًا دافع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحق، وهاجم الباطل، وألزم الخصوم، وأفحم المعاندين ورد كيدهم في نحورهم، وكتب السنة والسيرة فيها ما يثبت ذلك بفضل الله عز وجل".

إعداد الخطبة.

إعداد الخطبة إن الخطيب البارع هو الذي يحدد خطبته ويحضر موضوعها تحضيرًا دقيقًا؛ حتى تكون خطبته مركزة ومنظمة معالجة للمشاكل المعاصرة، وحتى يربط بين الدين والحياة. ويبدأ بتحديد موضوع الخطبة ثم يرتب عناصرها وأفكارها، ثم يشرحها مدعمة بالأدلة النقلية والعقلية، ويستخلص النتائج والدروس التي تناسب الأحداث التي يعيشها الجمهور، وبذلك يشد انتباههم ويقنع عقولهم ويستميل وجدانهم، أما إذا لم يحدد الخطيب موضوعًا بدا وكل الدلائل تشير إلى أنه شارد الذهن، مشتت الفكر يشرق ويغرب، ويأتي بأفكار من هنا ومن هناك، بل ربما يبدو فيها التضارب والتناقض مما يؤدي بالجمهور إلى الملل والانصراف عنه، وكل ذلك نتيجة اعتماد الخطيب على الكلام المرتجل، الذي قد يخطر على بال صاحبه دون سابق تحضير، ولا يستطيع الإنسان أن يشعر بالارتياح حين يواجه مستمعيه إلا بعد أن يفكر مليًّا، ويخطط ويعرف ما الذي سيقوله في خطبته. إنه إن لم يفعل ذلك سيكون كالأعمى الذي يقود أعمى في مثل تلك الظروف، فالواجب على الخطيب أن يكون واعيًا لنفسه وأن يشعر بالندم والخجل لإهماله. كتب "تيدي روزفيلد" في مذكراته يقول: "انتخبت إلى المجلس التشريعي في خريف سنة 1881، وقد وجدت نفسي أصغر رجل في المجلس، ومثل سائر الشبان والأعضاء غير المتمرسين وجدت صعوبة بالغة في تعلم الخطابة، وقد استفدت كثيرًا من نصيحة رجل ريفي عجوز يقول فيها: لا تتكلم حتى تتأكد أن لديك ما تقول، واعرف عما ستتحدث ثم قله واجلس".

كلمة جميلة حكيمة يجب على كل خطيب أن يرددها على مسامعه حتى يحفظها. وهنا نصيحة حكيمة من العميد "براون" في جامعة "بيل"، الذي كان يدرب الآخرين على الخطابة، وكيفية الإلقاء وتحضير الخطبة، وتوزيع بعض النصائح التي تفيد الخطيب إذا كان بائع قماش أو صانع أحذية. يقول "براون" في نصيحته: "احتضن دراستك. احتضنها حتى تصبح يانعة، فمن خلالها تحصل على قطيع كامل من الأفكار الناجحة، مثلما تسبب ذرات الحياة الصغيرة في الانتشار والنمو، ويستحسن أن تستمر هذه العملية فترة طويلة، وحين تنهمك في جمع مادة علمية لإلقاء خطبة في احتفال معين اكتب جميع الأفكار المتعلقة بالمادة التي تخطر ببالك. دَوِّن جميع أفكارك ببضع كلمات كافية لتثبيت الفكرة، ودع عقلك يبحث عن المزيد منها. تلك هي الطريقة التي من خلالها يتدرب العقل على الإنتاج، وبها تبقى عملياتك الذهنية نشطة وبناءة. دَوِّن كل هذه الأفكار التي دَوَّنها تفكيرك من دون أي مساعدة، فهي بالنسبة لتغذيتك الفكرية أثمن من الياقوت. دَوِّنها على قطع من الورق، وستجد من السهل ترتيب هذه القطع حين تنظم مادتك. ثابر على كتابة جميع الأفكار التي ترد إلى تفكيرك. ليس عليك الإسراع في هذه العملية؛ فهي أهم عملية فكرية سيتاح لك الانهماك فيها. إنها الوسيلة التي تدفع العقل للنمو لكي يصبح قوة حقيقية منتجة". إنها نصائح غالية حقًّا، خلاصة هذه النصائح: أن الخطيب لكي ينجح في مهنته لا بد من تحضير موضوع الخطبة، وإعداده إعدادًا دقيقًا. وإعداد الخطبة وتحضيرها ليس عيبًا يشين الخطيب؛ فإن كبار الخطباء ومشهوريهم -في القديم والحديث في الشرق والغرب- كانوا وما زالوا يقضون وقتًا في إعداد خطبهم، قبل أن يخرجوا بها إلى الناس، مع قدرتهم البالغة على الكلام في أي موضوع من واقع تجربتهم، وخبرتهم السابقة في مجال الخطابة والإلقاء.

ومن أشهر خطباء العصر الحديث في الغرب العالم الغربي "دوتلي مودي". كيف حضر هذا العالم خطبه التي جعلته مشهورًا عبر التاريخ؟ قال مجيبًا عن هذا السؤال: "ليس لدي أي سر حين أختار موضوعًا أكتب اسمه على مغلف كبير، لدي الكثير من تلك المغلفات، فإذا وجدت أثناء القراءة شيئًا جيدًا حول الموضوع الذي سأتحدث عنه أنقله إلى المغلف الصحيح وأضعه جانبًا، ودائمًا أحمل معي دفتر ملاحظات، فإذا استمعت إلى عبارات أثناء أي احتفال -تلقي ضوءًا على الموضوع- أسجلها ثم أنقلها إلى المغلف، وربما تركته جانبًا لمدة سنة أو أكثر. وحين أريد أن ألقي خطبة أتناول ما أكون قد جمعته، فأجد مادة كافية مما أجده هناك، إضافة إلى اجتهادي الخاص". ويقول "آدوين جايبس": "إن الخطب المجيدة هي تلك التي تتسلح بمادة احتياطية وافرة وفائضة، وهذه المادة الاحتياطية من المعلومات لا تتم ولا تتوطن عند الخطيب؛ إلا بتحضير موضوع الخطبة تحضيرًا دقيقًا، وإعداده إعدادًا جيدًا قبل مجيء موعد الخطبة بوقت كاف، وهذا التحضير والإعداد لموضوع الخطبة يعطي الخطيب فرصة كبيرة للتأثر بخطبته، والتأثير بها في غيره، كما يعطي الخطبة بهاءً وجمالًا من حيث أسلوبها وكلماتها. أما الأساليب الخطابية المرتجلة فهي أقل بهاء ورونقًا من المُعَدَّة والمحضرة، وكذلك الأفكار المرتجلة فهي فجة مبتسرة، إذا قيست بالأفكار المدروسة الناضجة المختمرة. ثم إن ظهور الخطيب بمظهر المجازف الذي لم يعد الخطبة فيه اعتداد بالنفس، واستهانة بالحاضرين، وتبجح بعدم الاهتمام، ودعوى أن خاطر الخطيب أسرع من خواطر الناس، وهذه كلها صفات لا ترتضيها الجماعات.

ولقد يعسر على المرتجل تفكيرًا وتعبيرًا أن يعالج الموضوع، وأن يصل منه إلى نتيجة، فهو كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح، أو كهائم لا يعرف وجهته ولا المسالك إليها، ويرتجل الكلام وليس فيه سوى الهذيان من حشو الخطيب". وإذا كان الخطباء المعاصرون المشهورون يحضرون خطبهم ويعدونها إعدادًا دقيقًا، فقد كان البلغاء القدامى المشهورون يحضرون خطبهم، ويهذبونها ويتمرنون على إلقائها. هكذا كان يفعل "شيشرون"، وكان "كانتليان" من أساتذة الخطابة عند اللاتين، يرى أن الارتجال لا يتهيأ للمرء إلا في آخر عمره، بعد أن يكون قد تدرب وتمرن. وكتاب (الجمهورية) لأفلاطون يوضح أن جميع خطباء "أثينا" كانوا ينمقون العبارات قبل أن يلقوا خطبهم، لذا تتراءى فيها آثار التعمل والتنقيح والإعداد، وكان محظورًا على غير المتقاضين أن يترافعوا في المحاكم. وقال البعيث الشاعر وكان أخطب الناس: "إني والله ما أرسل الكلام قضيبًا خشيبًا، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك". وأرادوا عبد الله بن وهب الراسبي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة، فقال: "وما أنا والرأي الفطير والكلام القضيب". يريد بالرأي الفطير الأمر المستعجل الذي لم يبلغ نضجه. وقيل لابن التوأم: "تكلم فقال: ما أشتهي الخبز إلا بائتًا". وقال أحد الشعراء لرجل: "أنا أقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك؟ فقال: لأني لا أقبل من شيطاني مثل الذي تقبل من شيطانك". كأنه يقول له: إن المهم ليس هو كثرة القصائد، وإنما المهم هو مدى تجويدها وتحضيرها وإعدادها.

وكان زهير بن أبي سلمى يسمي كبار قصائده الحوليات؛ لأنه كان يمكث حولًا كاملًا في إعدادها وتنقيحها. كذلك فعل خطباء وشعراء العروبة والإسلام؛ لأنهم يدركون أهمية الإعداد والتحضير في الشعر والنثر، ولأنهم يعلمون أن الإعداد والتحضير سمة للإنتاج البليغ. وفي الحقيقة أن الناس لا يسألون عن هذا الإنتاج في كم يوم تم، وإنما يعجبون به ويمتدحون صاحبه، وما من أحد يسأل: كم ساعة أو يومًا كان يقضيها المتنبي وشوقي في نظم القصيدة، أو علي بن أبي طالب والحجاج بن يوسف في تنسيق الخطبة، أو الجاحظ والمنفلوطي في تحضير المقالة، فرب بيت منقح خير من قصيدة ألف بيت، ورب سطر مجيد خير من كتاب. والخطيب البادئ يحتاج إلى مجهود كبير في إعداد خطبته، ولكنه لا يتم تكوينه خطيبًا إلا بهذا المسلك، وبعض الخطباء يرون أنفسهم قد نجحوا غير مرة في خطبهم، فيعتمدون على شهرتهم، ويقصرون في إعداد خطبهم وصيانة نفوسهم، فيسقطون وينصرف عنهم السامعون. فعلى الخطيب أن يعلم أن مجهوده في بناء نفسه أول أمره -مهما كان كبيرًا- أسهل من مجهوده في إعادة بنائه إذا سقط. ومعنى هذا أنه ينبغي أن يكون حذرًا من السقوط مهما كانت رتبته. وعلى هذا فإن من أعظم العوامل لنجاح الخطيب في مهمته، والتي تعلي كعبه وترفع قدره عند مستمعيه، ويتلهفون على لقائه، ويشدون إليه الرحال للاستفادة منه والاستماع إليه في ساعتهم الراهنة، والتحضير الجيد الذي يلم بالموضوع من جميع جوانبه، وأن يراعي ترتيب الموضوع ترتيبًا ويضع كل عنصر في موضعه الذي يناسبه، فلا تجد شيئًا حول الموضوع إلا قد ألم به وأفاده، وأن يكون للخطبة موضوع محدد، كل آية وكل حديث وكل أثر وكل قصة

وكل فكرة وكل بيت شعر وكل كلمة حكمة، تكون لبنة في بناء الموضوع ودعمًا قويًّا للفكرة المراد توصيلها وإقناع الناس بها، ولا يقدم ما ينبغي تأخيره ولا يؤخر ما ينبغي تقديمه، ويبدأ خطبته هادئًا في ثقة بسيطًا في عمق، والإلقاء يكون جيدًا خلابًا يأخذ بتلابيب القلوب ويشنف الآذان، ويستميل المستمعين إلى الخطيب وإلى ما يدعو إليه. إن التخطيط والتحضير الجيد للخطبة من الأهمية بمكان، كما يفهم من تصريح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم السقيفة حيث قال: "لقد زورت كلمات أعجبتني -أي: حضرتها في نفسي وأعددتها- فقال لي أبو بكر: على رِسْلِك يا عمر، فوالله لقد جاء عليها كلها". يقول عمر: لقد جاء أبو بكر على تلك الكلمات التي زورها في نفسه. فهذا عمر الملهم، وعمير سفير في الجاهلية وملهم ومُحَدَّث في الإسلام، يزور كلمات يواجه بها الموقف، فمن لم يبال بهذا العمل فإنه لا يسلم من الفشل. وقد قال الجاحظ: "إنما يجترئ على الخطبة الغر الجاهل الماضي الذي لا يثنيه شيء، أو المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتداره". ثم إن الإعداد والتحضير يؤدي إلى تحسين وتجويد التصوير والتفكير، ولأن تجويد التصوير يستدعي تجويد التفكير في نظر "فلوبير" الكاتب الفرنسي المتفنن، فقد كان لا يكرر صوتًا في كلمة ولا يعيد كلمة في صفحة، وكان يتلو ما كتب بصوت إيقاعي ليؤلف بين الحروف والكلمات، ويوفق بين السكنات والحركات. وإذا كان الارتجال ضروريًّا في بعض الخطب الاضطرارية، فإن الإعداد ضروري في بعضها الآخر، على تفاوت في طريقته والحاجة إليه، فالخطب السياسية لا

مندوحة من إعدادها، وأي خطيب سياسي لا يعد خطبته إيجادًا وتنسيقًا فالإخفاق نصيبه. على أن بعض الخطب السياسية يعوزها الإعداد إيجادًا وتنسيقًا وتعبيرًا؛ لحاجتها إلى دقة التعبير ووزن الألفاظ، كخطب المعاهدات وبعض خطب المؤتمرات الدولية، فهذه تعد إعدادًا كاملًا. والناحية التطبيقية على القانون في الخطبة القضائية لا بد من إعدادها إعدادًا كاملًا أيضًا، تتجلى فيه الثقافة القانونية والثقافة العامة. ومن الخير للخطيب أن يجمع بين الارتجال والتحضير، فيعد موضوعًا ثم لا يتقيد بما أعد، بل يتصرف كما تملي عليه الظروف، وحينئذ تمده ذاكرته بما قد أعده وتسعفه بديهته بالجديد الذي لم يعده. فمتى يحسن التحضير؟ ومتى يحسن الارتجال؟ يقول الإمام محمد أبو زهرة -رحمه الله-: "إن الخطيب يلقي خطبته إما بعد تحضير وإعداد وإما على البديهة والارتجال، ولكل مواضع ومحاسن؛ فالتحضير يحسن -بل يكون لازمًا- إذا كانت معلوماته في الموضوع الذي هو بصدد القول فيه لا تسمح له بالقول على البداهة، وإن تكلم قال كلامًا مبتسرًا لا يقيم حقًّا ولا يخفض باطلًا ولا يجذب نفسًا ولا ينفر من أمر، فهو يدرس الموضوع من كل نواحيه ويقتله بحثًا ودرسًا؛ ليستطيع أن يدلي فيه بحجته فيصيب المحز ويدرك الشأن وينال السبق، وكذلك يعمد إلى التحضير إذا كانت عنده فسحة من الوقت، يستطيع فيها أن يبدي ويعيد وأن يتثبت فيما يقول، ويختار لمعانيه أجود الألفاظ ويتجه إلى أقرب الطرق التي يصل منها إلى النفوس، ويهز بها أوتار القلوب هزًّا رفيقًا أو عنيفًا كما يريد. ويعمد إلى التحضير أيضًا إذا

كان بين قوم يتسقطون هفواته، ويتتبعون سقطاته يحصونها عليه إحصاء، ويحاسبونه عليها حسابًا عسيرًا، فهو يتقدم إليهم بسلاح التحقيق مستندًا على متكأ من الحقائق، فلا يسقط إن حاولوا أن يأخذوا عليه ما يسقط، ولا يعثر ولا يزل ولا تنزلق قدمه في مزالق الخطر ومداحض الزلل. ولذلك كان أكثر خطباء اليونان والرومان يهيئون خطبهم قبل إلقائها، ولا يجرؤ واحد منهم مهما تكن ثقته بنفسه قوية، ومهما يكن صيته ذائعًا ومعروفًا باللسان والبيان على الوقوف من غير سابقة تحضير، وإلمام تام بما يقول؛ خشية أن يأخذ عليه النقاد شيئًا، أو يسقط بين أديب سقطة تذهب برواء قوله وحسن مذهبه وما يدعو إليه. ولا يتوهمن متوهم أن في تحضير الخطبة ما يعيب مقدرته، فإن العيب أن يقول كلامًا مبتذلًا لا قيمة له ومعناه تافه صغير. ولتكن له أسوة حسنة في كثير من كبار الخطباء الأقدمين والمُحْدَثين، فإن كثيرين منهم مع قدرتهم التامة على الارتجال يأخذون للموقف الأهبة ويعدون له العدة، عالمين بأن الخطيب كالمجاهد لا يخوض غمار الحرب من غير أن يتدرع بدروعها، ويتترس بتروسها، ويلبس لها لأمتها، ويتخذ لها شوكتها، وليس ذلك في الخطيب إلا بالتحضير والتهيئة والاستعداد للموقف من كل نواحيه. وإن الذي يتعرض للخطبة من غير سابق تحضير ولا تهيئة، ولم يكن ذا إلمام سابق بالموضوع يجيء كلامه ضعيفًا في معناه ومبناه، بل إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير بما يقول إن لم يراجع نفسه آنًا بعد آنٍ، ويفكر طويلًا فيما يعتزم قوله وقتًا بعد آخر يضعف أسلوبه الخطابي وتلين عباراته، وينحدر إلى منزلق سحيق، وتتجه معانيه اتجاهًا سطحيًّا، وتفقد قوة التأثير في المشاعر والأهواء".

وطرق التحضير كثيرة متشعبة؛ فمن الخطباء من يكتفي في تحضيره بدراسة الموضوع دراسة تامة، ثم يجمع عناصرها في خاطره ويرتبها بينه وبين نفسه، ويستحضر الألفاظ اللائقة بالمقام والعبارات الجديرة بالموضوع. وهذه طريقة لا يتبعها إلا المتمرن على المواقف الخطابية الذي اندرج في سلك الخطباء. وكثير من الأدباء يعد الخطبة التي تحضر وتلقى على هذه الشاكلة مرتجلة، ولكنا نرى الارتجال أن تقال الخطبة على البداهة، من غير أي تحضير للموقف السابق. ومن الخطباء من يدرس الموضوع ويهيئ معاني الخطبة ويرتبها ترتيبًا محكمًا، ثم يكتب عناصرها وأجزاءها في مذكرة يستصحبها عند الخطبة؛ لتكون مرجعًا له وضابطًا وليحفظ المعاني والأفكار، من أن تضيع بضلال الذاكرة، وذلك النوع من الخطباء كثير. وفي الأخذ بهذه الطريقة مزايا كثيرة لما فيها من ضبط للأفكار، وجمع للخواطر وإحكام للمعاني، وهي كسابقتها لا يتجه إليها إلا الخطباء الذين تمرنوا على القول، وعرفوا مقاتله ومواضيع التأثير فيه، وأصبحت لهم طرق خاصة في الإلقاء يتجهون إليها من غير قصد، بل بمقتضى الإلف والاعتياد. ومن الخطباء من يطلع على الموضوع ويدرسه بعناية، ثم يتكلم فيه بينه وبين نفسه بصوت مرتفع في غرفة قد انفرد فيها، أو في مكان خلوي أو يتكلم على بعض الناس، ومثل ذلك النوع من الخطباء مثل المطربين، إذ يلحنون القطع التي هم بصدد ترتيلها والتغريد بها في وسط الناس، ويتمرنون على ذلك أمدا غير قصير، حتى تستقيم لهم النغمات فكذلك هذا النوع من الخطباء. ومن الخطباء من يكتب الخطبة، ويتحرى في الكتابة أبلغ الأساليب التي توصله إلى غايته، وتؤدي به إلى ما يريد ويحكم معانيها، ويحملها كل ما ينبغي من

وسائل التأثير وطرق الإقناع، التي يصوبها نحو هدفه ويرمي بها إلى غرضه، وبعد الكتابة يقرأ ما كتب مرارًا وينقحه في كل مرة، وبهذه القراءة التي يتحرى بها جودة الإلقاء وحسن النطق تعلق معاني الخطبة، مرتبة ترتيبًا تامًّا بذاكرته، ويحفظ كثيرًا من ألفاظها وعباراتها. وهذه الطريقة يتبعها كثير من المحامين، في القضايا ذات الشأن التي تحتاج إلى تحضير كبير، وجمع لعدة نصوص قانونية. ومن الخطباء من يكتبون خطبهم ويحسنون تحبيرها، ثم يحفظونها حفظًا تامًّا، ومنهم من يتحلل أحيانًا مما حفظ إن وجد المقام يدفعه إلى غيره. ومن الناس من يكتب ويحفظ بدون أن يغير شيئًا كما كان يفعل. ومن الناس من يكتب الخطبة ثم يلقيها بالقراءة في الورقة التي كتبها فيها، وهذه الطريقة في الحقيقة لها آفات وعيوب كثيرة، فلن تستحل الأفكار دمًا يجري في عروق الخطيب إلا إذا مارس الحياة، وذاق حلوها ومرها وعاش التجربة التي يحكيها، عندئذٍ يمكنه أن ينقل الأفكار إلى الآخرين بكل ما حولها من انفعالات وإيجابية، تحمله على تنفيذها في دنيا الواقع. أما خطيب الورقة فهو محروم من هذا كله، بعيد عن هذه الساحة الحافلة بالحركة والنشاط. إن اللفظ والصوت والإشارة بل والهيئة كل أولئك عوامل تأثير لا بد منها؛ كي تحول المستمعين من وضع إلى وضع، وتنقلهم من التلقي الرتيب لينهضوا مسارعين إلى ما دعاهم إليه الخطيب. وخطيب الورقة بنبرته الرتيبة ووصفه الآلي لا يصل إلى ما ينبغي أن يكون. إن صوته يمضي بالمستمع على نبرة واحدة، تفرض عليه النوم أحيانًا. إنه مشغول بالنظر إلى ما خطه قلمه في الورقة خشية الزلل، وإذًا فلا تلتقي عينه بالمستمع الذي يحس بأن شخصًا آخر

يحدثه غير هذا الخطيب الذي يراه، فلا رابطة بين الخطيب وبين المستمع، وإذا دعت الضرورة للاختصار فلن يستطيع كاتب الورقة أن يختصر؛ لأنه مرتبط بالنص المكتوب. وقد تكون الضرورة مما لا يمكن التساهل فيه وحينئذٍ تزيد الهوة اتساعًا، وقد تصل هذه الظروف الطارئة إلى حد تغيير موضوع الخطبة بكامله، ولا يستطيع الخطيب أن يغير الموضوع؛ لأنه ليس له إلا ما كتبه. فنصيحتنا للخطباء أن يهتموا بتحضير الخطبة، ولا مانع من كتابتها كتابة عناصر أو كتابتها كاملة، ولكن لا بد من ترديدها وحفظها حتى يرتجلها على المنبر ولا يقرأها من الخطبة. وإذا كنا قد أوجبنا التحضير والتهيئة، فليس معنى ذلك أن الخطيب لا يحتاج إلى الارتجال، إذ القدرة على الارتجال ألزم الصفات للخطيب، بل لا يعد الخطيب خطيبًا ممتازًا إلا إذا كان من القادرين على الارتجال. إن حاجة الخطيب للارتجال واضح، فقد يحضر الخطيب، ثم يرى من وجوه السامعين وحالهم ما يحمله على اتجاه آخر، فإن لم تسعفه بديهة حاضرة وخاطر سريع ومران على الارتجال طويل ضاع هو وما يدعو إليه، واتقاه الناس بالبكاء والتصدية والصفير والسخرية والاستهزاء في كل مكان. وقد يخطب الخطيب فيعترض عليه بعض الناس في خطبته، فإن لم تكن له بديهة حاضرة ترد الاعتراض وتقرعه بالحجة القوية ذهبت الخطبة وآثارها. وقد كان العرب أيام ازدهار الخطابة فيهم من أقوى الناس على الارتجال. قال الجاحظ في وصفهم: "وكل شيء للعرب فهو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة".

ولكن على الخطيب حتى يتعود على الارتجال عليه أن يتربى بسماع الخطباء المرتجلين الممتازين؛ لأن السماع يحفز من عنده استعداد الكلام إليه، ولأن فكر البشر يتغذى بالتقليد والمحاكاة، وبأن يأخذ نفسه من وقت لآخر بالكلام مرتجلًا، ويغشى الجماعات ويتقدم إلى القول؛ ليفك عقدة لسانه ويزيل حبسة الحياء. ومن أمثل الطرق أن يجتهد في أن لا يخطب من ورق، وأن يعرف ملخص ما يقول بعد تحضيره، فإذا دأب على ذلك واتته فطرة قوية واستعداد قويم على القول على البديهة، من غير تحضير عند الاقتضاء. وعلى مريد الخطابة أن يستنصح رفيقا له يدله على عيوبه، كما أن عليه أن يراقب نفسه مراقبة تامة، ويأخذ نفسه بالإصلاح، ولا يترك عادة لا تستحسن تثبت وتنمو، وعليه أن لا يتقيد بعبارات خاصة، ولا أثار سخرية الناس وما التمكين خصومه من العبث بسمعته البيانية. هذا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 3 عناصر الخطبة.

الدرس: 3 عناصر الخطبة.

تركيب الخطبة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (عناصر الخطبة) تركيب الخطبة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: تركيب الخطبة: ف بعض الناس يتصورون أن إلقاء الخطبة عملية سهلة، ويكفي فيها صوت جهير أو رجل جريء، يحفظ القرآن أو بعضًا من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو يحفظ مقاطع من النثر أو أبياتًا من الشعر، يستطيع بها أن يفهم المستمعين أنه يجيد الخطبة ويحسن التعبير، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ فالخطابة لها شروط، والخطبة ليست عملية سهلة هينة، وليست مجرد كلام يقال دون ترتيب أو تبويب أو تنظيم، ولكنها أمر شاق يحتاج إلى وقت وجهد، كما أن الذين يستمعون لها إنما هم بشر لهم عقول تحكم، ولهم أرواح تحس، ولهم نفوس تتذوق، ولذا يتحتم على الخطيب -حين يريد أن يخطب- الاستعداد والإعداد لهذا الكلام الذي لا بد أن يكون له معنى، وأن يقصد من ورائه إقناع الجمهور واستمالتهم إلى مقولته، ولذا كان عليه أن يتصور هذه الخطبة بوجدانه قبل أن يلقيها، وأن يفكر في عناصرها ويركزها بعقله قبل أن ينطق بحرف منها، وأن يقف على الأدلة والبراهين التي سيوردها خلال إلقائها، ويهيئ ويرتب أسلوبه وبيانه الذي سيحدث به المستمعين. فالخطبة لا بد أن تكون متسلسلة منظمة، وأن تكون واضحة البيان في أسلوبها حتى تقنع المستمع، وتستميله بأدلتها. وإذا لم يكن من إعداد الخطبة بد فكيف يعد الخطيب الخطبة؟ أقول: هب أنني مقبل على حديث مع مسئول كبير لي عنده حاجة، فماذا أفعل؟ إنه عليَّ -والحالة هذه- عدة أمور: الأول: أن أستبين الموضوع الذي سأتكلم به إليه، وأحدد غايتي منه تحديدًا كاملًا.

ثانيًا: أن أرتب مقدمات الحديث وأساليب النقاش، مستعدًا للرد على كل ملاحظة يمكن أن تثار. ثالثًا: أن أكون مرنًا ولبقًا في كل ما يوجه إليَّ من كلمة أو رأي معارض. رابعًا: أن أستعد بالأسلوب الشيق السهل والكلمات ذات المعنى الأكثر تعبيرًا عن الفكرة، وهكذا وعلى ضوء هذا من الممكن أن تعد الخطبة. وعلى الخطيب أن ينظر في ما حوله من الأمور المهمة، والأحداث اليومية التي تشغل الناس في أحاديثهم، وتدور على ألسنتهم ولها آثار بينة بينهم، ثم يتخير من هذه الحوادث أجلها ويجعلها موضوع خطبته ومدار عظته، ثم يستحضر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي اختاره، ويفكر إن كان موضوع التنفير من الرذيلة في الأضرار التي تنشأ عنها، ويتوسع في فهم هذه الأضرار، ويستحضر الألفاظ والأساليب التي تخص موضوع خطبته، فإن كان موضوعه مثلًا: التنفير من شرب الخمر؛ يفكر في الأضرار الصحية والمالية والخلقية والاجتماعية، فوق ما أعد الله تعالى من العقاب لشارب الخمر، وإن كان موضوعه دعوة إلى عمل نافع؛ يفكر في آثاره الجليلة ومنافعه الجزيلة في الدنيا، وما أعده الله في الآخرة من النعيم لفاعله. فإذا أراد الكلام في حث الناس على تكوين جمعية للبر بالفقراء، فكَّر في آثار هذا العمل في نفوس الفقراء وفي معيشتهم وحالتهم الاجتماعية، وفي هذا أيضًا يصرفهم عن التفكير في سلب أموال الناس وإقلاق راحتهم، فتستقر النفوس ويستتب الأمن وتصفو الحياة، ويفكر في الثناء الذي تنطق به الألسن على هؤلاء الخيرين، والذكر للإنسان عمر ثاني، ثم يفكر في أن هذا العمل يجعل الأغنياء والفقراء متحابين، تشيع بينهم المودة والمحبة، متضامنين يشعر كل واحد منهم

بحاجته للآخر، ويتذكر ما أعده الله للمحسنين من جزيل الثواب في الدنيا والآخرة. وليكن تفكيره في جو من الهدوء وصفاء النفس وطهارة القلب، والنية الصادقة والإخلاص في الدعوة إلى الله، وما أجمل قبل التفكير أن يطهر قلبه ولسانه بقراءة ما تيسر من كتاب الله، ويستلهمه المعونة والتوفيق، وما أحسن إذا وقع في قلبه موضوع ما أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويستخير الله -سبحانه وتعالى- على الكلام في هذا الموضوع، أو عدم الكلام فيه، فالله يعلم والخطيب لا يعلم، والله يقدر والخطيب لا يقدر، فعلى الخطيب أن يتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله تبارك وتعالى وقوته، وعليه أن لا ينتظر من الناس ثناء ولا شكرًا، ولا يؤمل منهم أجرًا بل أجره على الله رب العالمين. وبهذا نرى أن هناك أركانًا ثلاثة لا بد للخطيب من رعايتها: الأول: موضوع الخطبة أي عنوانها. ثانيًا: المادة العلمية التي تقوم عليها الخطبة. ثالثًا: صياغتها النهائية. ولتسهيل الأمر على الخطيب عليه أن يقسم الخطبة إلى عناصر وفقرات مترابطة، ثم يستحضر هذه العناصر ويستحضر في نفسه أساليبها والعبارات التي تؤدي بها. يقول الإمام أبو زهرة -رحمه الله-: "لا شك أن من يريد إلقاء خطبة في موضوع يجمع العناصر أولًا، ثم يرتبها ويضع كل عنصر في موضعه اللائق به، ثم يعبر عن ذلك، وقد تحدث منه تلك الأعمال الثلاثة في أسرع وقت وأقصر زمن، كما يكون في الخطب الارتجالية وفي المجاوبات والمناقشات الخطابية، وقد تحدث منه

هذه الأعمال الثلاثة بعد تروية وإمعان وتفكير وفي زمن طويل، وذلك في الخطب التي تهيأ وتحضر وتعد إعدادًا، ومهما يكن من حال الخطيب والخطبة فتلك الأعمال الثلاثة لا بد أن تكون". وقد جاء في كتاب (علم الخطابة) للعالم "لويس شيخو": "قال ابن المعتز والشيباني: إن البلاغة بثلاثة أمور: أن تغوص لحظة القلب في أعماق الفكر، وتتأمل لوجوه العواقب، وتجمع بين ما غاب وما حضر، ثم يعود القلب على ما أعمل الفكر، فيحكم سياق المعاني والأدلة ويحسن تنضيدها، ثم تبديه بألفاظ رشيقة مع تزيين معارضها واستعمال محاسنها. قال بعض الحكماء: العلوم الأدبية مطالعها من ثلاثة أوجه: قلب مفكِّر وبيان مصوِّر ولسان معبِّر، ويسمى العمل الأول: إيجادًا أو اخترعًا، والثاني: التنسيق، والثالث: التعبير، وتلك هي الأركان التي تقوم عليها الخطبة، والعناصر التي تتحد في تكوينها". ونحن نسميها أركانًا للخطبة جريًا على الغالب، ولكنها في الواقع ليست أركانًا حتمية في كل خطبة، بحيث تكون الخطبة التي تخلو من جزء أو ركن منها مختلة ناقصة، أو لا تستحق أن تسمى خطبة، وإنما هو عمل فني يراد به جعل الخطبة أدنى إلى الدقة والكمال، كما يراد منه مساعدة الخطيب وإرشاده إلى ما يكمل به خطبته، ويرفعها ويجعل السامعين أكثر استفادة منها. إذًا فهذا التقسيم ما هو إلا تنظيم لأجزاء الخطبة، وإحكام تركيبها وربط بعضها ببعض، ووضع أدلتها في شكل منتِج، حتى يأخذ بعضها بحَجُز بعض، ويجعل الغرض منها واضحًا، إذ لا يذكر المعنى إلا بعد التمهيد له، فيكون قريبًا مألوفًا وواضحًا مكشوفًا، وإذا أخذ به تمام الأخذ -مع التجنب لعيوبه والتحري

لمحاسنه- ضمن للمتكلم حسن الإصغاء وكمال الانتباه، وعلى هذا يكون الغرض من الحديث عن أجزاء الخطبة أو تنسيقها أو أركانها هو خروجها كاملة، أو قريبة من الكمال. وهذه الأجزاء أو الأركان -التي سنذكرها- ليست ملزمة للخطيب؛ فقد يرى الخطيب أن الموقف لا يحتاج إلى بعض الأجزاء أو الأركان، فيستغني عنه وإنما نذكرها للاستئناس بها، ولأن الخطب في أغلب الأحيان تشتمل عليها، ويكون كمالها وتنسيقها في تحقيق كل أجزائها. ولقد قسم أرسطو الخطبة إلى أربعة أجزاء: المقدمة، والعرض، والتذليل، والخاتمة. أما المقدمة فهي من الخطبة كالمطلع من القصيدة، كل منهما يمهد لما بعده ويعد السامعين إلى الإصغاء. والمقدمة أول ما يطرق الأسماع من الخطبة، فإن كانت جيدة أصغى السامعون وتأهبوا لما بعدها، وتفتحت نفوسهم للخطيب، وإلا كانت نذيرًا بفشله وتفاهة أثره. وكثيرًا ما تتخذ المقدمة وسيلة لأن يسود الصمت بعد هرج حدث إثر خطبة سابقة، أو من جراء مناقشة في موضوع الخطبة قبل سماع الرأي فيها، أو اضطراب لسبب من الأسباب. ولقد تكون المقدمة ضرورية لا يستغني عنها الخطيب، كأن يكون الخطيب مجهولًا لا صلة للسامعين به، فيعتمد على المقدمة لعقد هذه الصلة، أو يكون الموضوع الذي يخطب فيه مجهولًا للسامعين، أو لا يثير اهتمامهم؛ لأنه لا يمس صالحهم. فيعتمد الخطيب على المقدمة لتوضيح أهمية الموضوع وبيان قيمته، حتى يتصل بقلوبهم فيعوا ما يقال عنه، أو يكون الخطيب مبغضًا إلى السامعين لأنه من غير حزبهم، أو لمقالة سوء ذاعت عنه، أو لأنه كان قد حكم فظلم فيلجأ إلى

المقدمة ليخفف من هذه الكراهية ولو مؤقتًا، ويتطلب منهم تناسي الحزازة والحكم البريء. أو تكون الفكرة التي يدعو إليها الخطيب بغيضة إليهم، كأن يدعو إلى تقييد التعليم في جمع من المتعلمين، أو إلى الاشتراكية في جمع من المالكين، أو إلى التحلل من قيود الدين في مجتمع من المتدينين، أو إلى الخضوع لأحكام الدين في جمهور من الماجنين، فيقدم خطبته بكلمة ملطفة لهذه الخصومة، مخففة لما في نفوسهم من عداء سابق لما يدعو إليه؛ إذ يدعو الجمع إلى الخضوع للحق والتجرد من التعصب للهوى ولو فترة من الزمن، وفي غير هذه الأحوال لا حاجة إلى مقدمة. وحتى تكون المقدمة جيدة يشترط لها شروط: الأول: أن تكون متصلة بالموضوع نفسه لتخدمه وتمهد له. ومثال ذلك خطبة أبي بكر -رضي الله عنه- يوم السقيفة، فقد قدم للموضوع -وهو أن المهاجرين أولى بالخلافة من الأنصار- بهذه المقدمة، قال -رضي الله عنه: "إن الله بعث محمدًا رسولًا إلى خلقه وشهيدًا على أمته؛ ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عندهم شافعة ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت وخشب منجور، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه". ثانيًا: أن تكون المقدمة واضحة مناسبة لعقول السامعين، موزونة المعاني دقيقة التعبير؛ لأن السامعين في أول الخطبة أبصر بالنقد وأقرب إلى العناد، حتى إذا بهرهم الخطيب أسلسوا له القياد.

ثالثًا: أن تكون شائقة تجذب السامعين إلى الموضوع، جديدة غير مبتذلة أو مشاعة، صالحة لكل خطبة. جاء في تعريف ابن المقفع للبلاغة: "وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته". وعلق الجاحظ بقوله: "كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التواهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناه، ولا يشير إلى مغزاه، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت". ثانيًا: العرض أو الموضوع: وهذا هو الجزء الذي يلي المقدمة مباشرة، وهو يشمل الفكرة أو المبدأ الذي يدعو إليه الخطيب ويشرحه شرحًا وافيًا بإيضاح، مع التدليل عليه وتأكيده بكافة البراهين النقلية والعقلية التي يستطيعها خطيب، ودفعه ما يمكن أن يوجه إلى هذه الفكرة أو المبدأ من انتقادات وطعون. وتتمثل أهمية هذا الجزء في أنه أساس الخطبة أو عمودها الفقري أو كيانها وصلبها، فالأجزاء الأخرى يمكن الاستغناء عنها أحيانًا، أما هذا الجزء فهو الخطبة نفسها وما عداه من أجزاء فهو من أجله، ولخدمته تمهيدًا وانتهاء، ومهمتها هي إنجاح وتثبيت آثاره. ويشترط لجودة ونجاح الموضوع عدة شروط من أهمها: أولًا: الوحدة العضوية أو الموضوعية؛ بأن يدور الكلام في الخطبة كلها حول فكرة واحدة، ويحللها تحليلًا دقيقا ويؤكدها تأكيدًا قويًّا تدليلًا وتفنيدًا.

ثانيًا: ترتيب الكلام ترتيبًا منطقيًّا يبدأ فيه بالأفكار البسيطة السهلة، ثم يتدرج حتى يصل إلى قمة ما يريده، وفي القمة يبدو انفعاله وقوة صوته وقوة عبارته جميعًا. ثالثًا: الوضوح؛ فلا يُسئم السامع بالتعقيد والغموض، فإن ذلك يصرف الأذهان عن متابعة الخطيب. ثالثًا: الخاتمة أو النتيجة، وهي خلاصة ما يتوصل إليه الخطيب من موضوع الخطبة، والخاتمة لها أهمية كبرى من حيث أن لها الأثر الأكبر والأخير في نفوس السامعين؛ لأنها آخر شيء من الخطبة يبقى في آذانهم وأذهانهم، وفيها تتركز مشاعرهم وتتجمع عواطفهم، وكأن الخطيب يقول لهم فيها: هذه آرائي فما رأيكم فيها، وهذه وجهة نظري فما حكمكم عليها؟ وهي التي يتلوها عادة أخذ الأصوات في الخطب البرلمانية تأييدًا للحكومات أو معارضة لها، وإصدار حكم القضاة في الخطبة القضائية إما بالبراءة أو الإدانة، وخشوع السامعين لخطب الوعظ الديني بتأثرهم أو عدمه، وتقدير السامعين للخطيب والمحتفل به في الخطب الحفلية أو عدمه. إذًا فالخاتمة إن كان وقعها حسنًا انسحب ذلك على الخطبة حسنًا، وإن كان وقعها سيئًا انسحب ذلك على الخطبة كلها، وساء الأثر وضاعت الغاية المنشودة والأمل المرجو والأمر المبغي، لذلك يجب أن يكون في الخاتمة من جمال التعبير وحسن الانسجام، وجودة المعنى وإصابة الغرض، ولطف المقطع وإحكامه ما يبقي أحسن الآثار وأحكم الأفكار.

وأمثل المناهج لحسن الخاتمة في خطب الخطباء منهجان هما: أولًا: أن يلخص الخطيب في الخاتمة آراءه السابقة في العرض أو الموضوع. ثانيهما: أن يحاول اجتذاب عواطف السامعين إلى رأيه، وأحيانًا يجمع الخطيب بين المنهجين، فإذا سلك الخطيب المنهج الأول ينبغي أن يلخص آراءه في دقة وإيجاز، مقتصرًا على أهم ما قال وعلى الأصول دون الفروع، ويحسن أن لا يكرر عبارته السابقة، بل يجدد في التعبير حتى يجدد في نشاط السامع، وأن يكون في تلخيصه موجزًا لا مطنبًا. وإذا سلك الخطيب المنهج الآخر يجب أن يكون خبيرًا بأنفس السامعين عارفًا بطرق استمالتهم، فيستعمل في كل خطبة أهم الوسائل التي تتفق وذوق السامعين ونفسيتهم. ويشترط لجودة الخاتمة أن تكون صدى لما استعمله من عرض وتدليل وتفنيد، وأن تكون قوية، ويستحسن أن تكون أقوى جزء في الخطبة كلها؛ لأنها خلاصة موضوع الخطبة، وبقوتها يبقى أثر الموضوع في آذان وأذهان المستمعين، وأن تكون قصيرة ما أمكن، وأن تكون مثيرة للعواطف في الأمر الذي يريده الخطيب. والهدف من جودة الخاتمة أن يتم إقناع السامعين، حتى لا يبقى للنفوس بعده تطلع، وأن تقوى في المستمعين الرغبة في العمل بما أذعنوا له، وهذان الأمران هما: الإقناع والاستمالة، وهما أكبر ما يعول عليه في الخطابة، ويميزها عن غيرها من فنون القول المختلفة.

مصادر الخطبة.

مصادر الخطبة ينبغي أن يستمد الخطيب عظته ونصحه من النصوص الشرعية والعلوم الكونية والفضائل النفسية. والخطابة الإسلامية الرشيدة هي التي تستمد من القرآن الكريم والسنة المحمدية، والنصوص الصحيحة وتسير في ضوئها. ولنا في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- خير قدوة وأفضل توجيه، فكثيرًا ما كان يخطب بالقرآن الكريم. وفي (صحيح مسلم) عن أم هشام بنت حارثة قالت: ((ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (ق: 1) إلا عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرؤها كل جمعة إذا خطب الناس)) وكان عمر -رضي الله عنه- يخطب أحيانًا بسورة "النحل". فالقرآن الكريم والسنة الشريفة والنصوص الصحيحة وأقوال السلف الصالح؛ هي المصادر التي ينبغي أن تستمد منها الخطابة الإسلامية، وتلك هي الروافد الدافقة التي تمد الخطابة في الإسلام، وهي الينابيع الصافية التي ينبغي أن يجعلها الخطيب مصدر روائه وغذائه. ولا غرو؛ فمن معاني القرآن الكريم تنفجر ينابيع الخطابة الصحيح، والخطابة المستمدة منه هي وقود النهضة الرشيدة، وضياء أمة تريد أن تستقيم على دربها، إذ إن أسلوبه في خلق الضمير الزكي والفكر الراقي وتقويم السلوك المعوج يكفي ويغني، ويشفي ويهدي للتي هي أقوم، كما قال من أنزله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9). كما أن للقرآن قدرة فذة على قيادة الناس إلى الحق، وعلى استثارة أفكارهم، واستضاءة مشاعرهم، والسمو بهم إلى كل ما هو خير. ولم يكن الوعاظ والمذكرون في صدر الإسلام يذهبون إلى أبعد من الكتاب والسنة في توجيهاتهم

ونصائحهم، وكان عماد الخطبة أو العظة في عصرهم: إما القرآن، وإما السنة، وإما كلام مستمد منهما يدور في فلكهما ولا يتجاوز محيطهما. وعندما نتأمل الخطب المروية لنا عن الخلفاء الراشدين نراها محكومة بتلك المعاني التي أشرنا إليها، وهي خطب فتحت لنفسها طريق الخلود والبقاء، فما زالت قائمة يرجع إليها الدعاة حينا بعد حين؛ ليقتبسوا منها ويأتنسوا بهديها ويأخذوا منها القدوة، بل ويتعلموا منها فنون الكلام. وعلى الخطيب أن يحاول جهده في أن تكون خطبته محكومة بهذا الإطار السابق، ولا مانع من الاستئناس ببعض القصص القصيرة والصحيحة، خاصة للعامة التي تحب هذا النوع من القول وتطير وراء أصحابه، وليكن ذلك بحذر وبقدر. وفي القرآن الكريم والسنة المطهرة متسع كبير في هذا المجال، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111). أما القرآن الكريم هو أول مصدر يجب على الخطيب أن يستمد منه مادته، فهو كتاب الله عز وجل، ختم الله به الكتب، وأنزله على نبي ختم به الأنبياء، بدين عام خالد ختم به الأديان، فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض، أنهى إليه منزله كل تشريع، وأودعه كل نهضة، وناط به كل سعادة، وهو حجة الرسول وآياته الكبرى، يقوم في فم الدنيا شاهدًا برسالته ناطقًا بنبوته، دليلًا على صدقة وأمانته، وهو ملاذ الدين الأعلى، يستند الإسلام إليه الدين في عقائده وعباداته وحكمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، وقصصه ومواعظه، وعلومه ومعارفه، وهو عماد لغة العرب الأسمى، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها، وتستمد علومها منه على تنوعها وكثرتها، وتفوق سائر اللغات

العالمية به في أساليبها ومادتها، وهو أولًا وآخرًا القوة المحولة التي غيرت صورة العالم، ونقلت حدود الممالك، وحولت مجرى التاريخ، وأنقذت الإنسانية العاثرة، فكأنما خلقت الوجود خلقًا جديدًا. وما جاء في القرآن الكريم من أساليب الترغيب والترهيب، والتبشير والتحذير، والوعد والوعيد، على الأسلوب البالغ حد الإعجاز، يؤثر في القلوب ويستجيش الوجدان، ويثير العواطف ويأخذ بشكائم النفوس، ويعين على التقنن في أساليب الوعظ الخطابي عند حلول الأزمات، والحاجة إلى تأليف قلوب الجماعات، حتى إن الخطيب البليغ -الذي يحسن استخدام الآيات- يمكنه أن يدفع بالخطبة الواحدة من الملمات ما لا يدفع بالبيض المرهفات، ويملك من قلوب الرجال ما لا يملك بالأموال، كما صنع أبو بكر -رضي الله عنه- في خطبته يوم السقيفة. أما السنة المطهرة فهي أعظم نبع بعد القرآن الكريم، يغترف منه الخطيب غرفًا ويعب منه عبًّا؛ أولًا: ليحيا هو في نفسه بالسنن، وليقيم بيته وأهله وحياته كلها على السنة، فيكون مرآة صافية للناس يرون فيها عيوبهم، ويتعرفون منها على جوانب النقص فيهم، فيقوِّمون العيوب ويستدركون النقص بمحاكاة الإمام والخطيب والاقتداء به. وثانيًا: ليحفظ الكثير من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه في سننه، فيضمه إلى محفوظاته من القرآن الكريم ليستشهد بها في موضوعه، ويدلل بها على صحة فكرته، فهذا أدعى إلى الإذعان وأقوى في التسليم والانقياد، وأنصح للخطيب بعد أن يحفظ كتاب الله عز وجل حفظًا جيدًا أن يهتم بحفظ كتاب (رياض الصالحين)؛

فإن هذا الكتاب المبارك بفضل الله عز وجل قد أحسن الإمام النووي -رحمه الله- في ترتيبه، على الأبواب التي نحن كخطباء نتعايش معها، ونعيشها دائمًا في كل خطبة وفي كل موعظة. ومن شأن الإمام في ذلك الكتاب أنه يصدر الموضوع بالآيات المناسبة من القرآن، ثم يعقب عليها بالأحاديث الصحيحة، فإذا حفظ الخطيب القرآن الكريم، ثم حفظ هذا الكتاب المبارك (رياض الصالحين) كان معه ذخيرة حية قوية كثيرة من القرآن الكريم، ومِن أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- فما عليه في أي خطبة أو في أي موعظة إلا أن يرتب الآية بعد الآية والحديث بعد الحديث، ويصل بين الآية والحديث بكلمة أو كلمات، وإذا به قد خرج بأثر كثير في قلوب الناس؛ لأنه لم يخرج منه إلا قال الله، قال رسول الله، وكلام الله كله بركة ورحمة وكلام رسول الله كله بركة ورحمة، وكلام الله كله نور وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كله نور، ألا ليت شعري متى يعلم الخطباء أن زمان الإنشاء قد انتهى، وأنه يجب علينا أن نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم. كذلك يستمد الخطيب خطبته من دراسة السيرة والتاريخ، وأقصد بالسيرة: أولًا: سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودراسة كل ما يتصل بحياته -صلى الله عليه وسلم- ونشأته وبعثته، ودراسة دعوته ومراحلها المختلفة، وأساليبه في الدعوة ومنهجه في الدعوة والتربية والتعليم، وجهاده في سبيل نشر الدين الذي بعثه الله به، وأخبار هجرته وغزواته ومعاركه، إلى غير ذلك مما يتصل بحياته -صلى الله عليه وسلم- من ميلاده إلى وفاته، والاستفادة من ذلك، والسير بالدعوة والتحرك بهذا الدين في ضوء هذه السيرة. ومن عاش مع هذه السيرة العطرة دراسة وتأملًا واتعظ واعتبر واتبع واقتدى؛ أعانته على طاعة الله -عز وجل- الطاعة المثلى، وأرشدته إلى الكمال الإنساني في أوج

صوره وأبهى حلله، وحسنت أخلاق دارسها، وورثت قلبه الطمأنينة إلى الله، والثقة في منهجه، وأعانته على فهم وتذوق روح ومقاصد كتاب الله عز وجل، واستشعر حلاوة الإيمان ولذة اليقين، وأمدته بقوة البيان الذي يؤثر به في العقول والقلوب، والحجج الساطعة والأمثلة البليغة، التي تعين الخطيب على إثبات ما يريد إثباته من حقائق الإسلام الحنيف. ثانيًا: سيرة السلف الصالح رأس الأولياء وصفوة الأتقياء، وقدوة المؤمنين وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين، جمعوا بين العلم بما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين الجهاد بين يديه، شرفهم الله بمشاهدة خاتم أنبيائه -صلى الله عليه وسلم- وصحبته في السراء والضراء، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى صاروا خيرة الخيرة وأفضل القرون بشهادة المعصوم -صلى الله عليه وسلم- فهم خير الأمم سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم، هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم وشادوا قصور الدين برماحهم، واستباحوا الممالك الكسروية وأطفئوا الملة النصرانية والمجوسية، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركة عربية وعجمية، وأوصلوا دين الإسلام إلى أطراف المعمورة شرقها وغربها ويمينها وشمالها، فاتسعت رقعة الإسلام وطبقت الأرض شرائع الإيمان، وانقطعت علائق الكفر وانفصمت أوصاله، ودان بدين الله سبحانه الأسود والأحمر والوثني والملي. أولئك قوم شيد الله فخرهم ... فما فوقه فخر وإن عظم الفخر سلام من الرحمن نحو جنابهم ... فإن سلامي لا يليق ببابهم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن الله تعالى اطلع في قلوب العباد فاختار محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب العباد بعد فاختار له أصحابًا، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه". فعلى الخطيب أن يعنى بدراسة سيرة الصحابة والتابعين، بعد سيرة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم.

وعلى الخطيب أن يحذر كل الحذر من الإسرائيليات، وهذه هي أهم وصية نوصي الخطيب بها، أن يكون عماد درسه أو خطبته القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة وأقوال السلف الصالح، وعدم الجري وراء القصص المملة والإسرائيليات الموضوعة؛ فإن ذلك موضوع نقد شديد وشكوى كثيرة من الجمهور للخطيب. ثم إنه ينبغي أن لا يغفل جانب الخطورة التي تعود على المسلمين من رواية الإسرائيليات؛ نظرًا لما تحويه من أباطيل وخرافات، نسب بعضها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين، وذلك من حيث إنها تفضي إلى الآتي: أولًا: إن هذه الإسرائيليات تظهر الإسلام بمظهر الدين الذي يهتم بالترهات والأساطير، والأباطيل التي لا أصل لها، كما أنها تظهره في صورة دين خرافي يعشق الخرافات ويطير وراءها، ويعنى بأوهام من صنع الخيال. ثانيًا: إن رواية مثل هذه الإسرائيليات تكاد تصرف الناس عن ما هو أهم في دينهم ودنياهم، وتشغلهم بالتوافه والصغائر عن البحث في الأحكام والتفاصيل المهمة، وعن التدبر في آيات القرآن والانتفاع بعبره وعظاته وقصصه الحق، مع أن شغل الناس بمثل هذه الأمور مضيعة للوقت، فيما لا فائدة من معرفته، وما يعتبر البحث عنه عبثًا محضًا. ثالثًا: أنها تعطي معلومات عن الكون ونظامه وسننه التي يسير عليها، ذلك أن كل ما خلقه الله تعالى قائم على سنن وقوانين شرعها الله تعالى، وجعلها نظامه الذي لا محيص عنه ولا خروج على حدوده، لكن نظرة في ما يرويه بعض المفسرين والواعظين تخيل للشخص أن هناك أمورًا تجري هكذا دون ما سبب أو ما مسبب، كيف والله يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) ويقول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2). رابعًا: إن مثل هذه الروايات لا تذكر هكذا وإنما تنسب إلى بعض الصحابة والتابعين، الأمر الذي يسيء إلى سمعة صحابة أجلاء وتابعين كرام ويهز الثقة فيهم.

الأسلوب الخطابي.

كما أن على الخطيب أن يجتنب الأحاديث الضعيفة والموضوعة. يقول العلامة الألباني -رحمه الله-: "من المصائب العظمى التي نزلت بالمسلمين منذ العصور الأولى: انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم، لا أستثني أحدا منهم ولو كانوا علماءهم، إلا من شاء الله منهم من أئمة الحديث ونقادهم؛ كالبخاري وأحمد وابن معين وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وقد أدى انتشارها إلى مفاسد كثيرة؛ منها ما هو من الأمور الاعتقادية الغيبية ومنها ما هو من الأمور التشريعية". فعلى الخطيب أن يبذل جهده ما استطاع في تحقيق الأحاديث التي سيوردها في خطبته، حتى يخرج من عموم قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). الأسلوب الخطابي التعبير الخطابي أو الأسلوب الخطابي: أسلوب الخطبة وأسلوب المقال يتدرج العمل الفني في ثلاثة أدوار: الإيجاد، والتنسيق، والتعبير، والمراد بالإيجاد التفكير لاستنباط المعاني، والمراد بالتنسيق تنظيم المعاني وترتيبها، أما التعبير فهو إبراز هذه المعاني بأسلوب ملائم لها وللسامعين وللمتكلم، أسلوب ملائم لها لأن الموضوعات تختلف؛ فالخطبة الحربية تلائمها الكلمات القوية الحماسية والصور الخيالية، والخطبة القضائية يلائمها الأسلوب المتزن، وخطبة التأبين يشاكلها الأسلوب المتفجع وهكذا. وملائم للسامعين فيتأنق الخطيب في خطبته للخاصة، ويعدل إلى السذاجة مع العامة، ويطنب في الجمع المستكثر المستزيد، ويوجز في الجمع المؤثر للإقلال وهكذا، وملائم لحال الخطيب نفسه من فرح أو أسى ومن غضب أو رضا ومن انتقام أو رحمة.

والكتابة والخطابة تشتركان في الإجادة والتنسيق ولكنهما تختلفان في التعبير؛ لأن تعبير الخطيب خاضع لذوقه، وما يدعو إليه المقام من تقصير الجمل أو تطويلها، ومن تكرار أو إيماء، وانتقاء للألفاظ الخفيفة على السمع، أو التحليق في سماء الخيال حينًا، وإيثار النكتة حينًا آخر، مع الإشارة والحركة ونبرة الصوت ونفوذ الخطيب، وغيرها مما يتطلبه فن الخطابة، ثم لا بد في أسلوب الخطبة من الوضوح والسهولة. أما تعبير الكاتب ففيه ترو وتأنق وتصعيب أحيانًا؛ لأن للقراء فسحة من الوقت يفكرون فيها في معنى ما استغلق، ويكررون تلاوته، فلا ضير أن يصعب الكاتب ويعلل ويحلل، أما الخطيب فإنه يقذف بكلماته، فيتلقاها الجمع في سرعة لا تيسر له مراجعتها أو التوقف لتفهمها؛ لأنه مضطر إلى متابعة الخطيب وتلقف ما يقول، فإذا توقف للتفهم انقطعت صلته بالخطيب فضاعت قيمة الخطبة. وكثيرًا ما ينزل التعبير الخطابي عن مكانة التعبير الكتابي في جودة المبنى ودقة المعنى، ولكنه يستعيض عن هذا النزول مؤثرات أخر؛ مِن فصاحة النطق، وجهارة الصوت، وإجادة الأداء، وروعة الموقف، ولهذا فإن بعض الخطب مسموعة ذات أثر قوي عميق في نفوس سامعيها، ولكنها مقروءة لا شيء من الامتياز فيها. والكلمات هي اللبنات التي يبني منها الأديب عمله الفني، فهي كالدهان في رسم الرسام، واللآلئ في أنامل اللآء، والأحجار في يد البناء، والصخور في محفر النحات، والأديب يستطيع بمواهبه وسعة حيلته أن يصنع منها صورًا عدة، تمثل العواطف المختلفة تمثيلًا كاملًا، وذلك برصفها وتأليفها في أسلوب خاص، فإن المفردات التي لا ينتظمها أسلوب لا أثر لها في النفس، وإنما يبين أثرها إذا ما صيغت لتصور عاطفة أو تعبر عن فكرة. والخطيب والأديب عامة يتخير الألفاظ المعبرة عن عاطفته، وينتظمها في نسق ملائم للمقام. وللأسلوب في الخطبة قيمته وأهميته، فليست البلاغة أن تفهم المعنى فحسب، وإلا لتساوت الركاكة والتعبير والإشارة والجيد والرديء والعامي والفصيح،

وإنما البلاغة رتبة فوق إفهام المعنى، رتبة سمكها الامتياز في التعبير ومطابقته للحال، وأن يضفي الخطيب من أسلوبه على معانيه حلة من نور؛ ليتسنى للسامعين أن يتملوا معه جمال روائه وبراعة خياله. لكن النقاد قد اختلفوا منذ زمن بعيد في الأصل الذي يرجع إليه جمال الأدب وجلاله، أهو الأسلوب أم المعنى أم هما معًا؟ والحق أن اللفظ والمعنى معًا عنصران من عناصر الأدب، وإنما نقول: عنصرين؛ لأن للنص الأدبي عناصر أخر لم يعرض لها القدماء، ولها في النقد الحديث تقدير وذيوع، وأهمها: العاطفة والخيال ومقوماته لا ينفرد أحدها بالسبق والامتياز، فلكل منها قيمة في جمال النص الأدبي وجلاله، فمن التعسف أن يتحاكم بعض النقاد إلى اللفظ وحده وبعضهم إلى المعنى وحده. فإن تأثرنا بالنص الأدبي لا ينشأ عن ألفاظ من حيث إنها أصوات مسموعة، وحروف مفردة، وكلمات مجردة تتوالى في النطق، وإنما ينشأ عن ما بين المعاني والألفاظ من الاتساق العجيب في لباقة اللفظ بتأدية المعنى، وملاءمة معنى الكلمة للمعنى التي تسبقها والتي تلحقها، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال. وإذًا فإن الصواب في النظر إلى الأسلوب والمعنى على أنهما وحدة لا تتجزأ؛ لأن سر البلاغة يرجع إلى روعة المعنى وسموه وتأثيره وطرافته، وإلى جزالة اللفظ وقوته أو رقته وفصاحته، فليس النص معنى منفصلًا عن اللفظ وليس لفظًا منفصلًا عن المعنى، بل هو مزيج من عناصر عدة؛ مزيج من الفكرة والعاطفة والخيال والتعبير، وليس من المستطاع فصل التعبير عن المعنى أو قطع المعنى عن التعبير؛ لأن النص الأدبي وليد اجتماعهما، كما يتحد الأكسجين والهيدروجين بنسبة 1:2 فيستحيلان إلى ماء، وللماء خواص غير خواص كل منهما منفردًا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 4 محتويات الخطبة.

الدرس: 4 محتويات الخطبة.

افتتاح الخطبة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (محتويات الخطبة) افتتاح الخطبة إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: فإذا أراد الخطيب أن يجعل لخطبته افتتاحًا وجب أن يعنى به تمام العناية، وأن يجمله بكل وسائل التجميل المناسبة التي تجتذب الأفكار إليه، وتهيئ الأسماع له وتجعل النفوس تتقبله بقبول حسن، فإن الفكرة الأولى عن شيء أو عن أمر أو عن شخص تثبت وتقر بالنفس، ومحوها يحتاج إلى عناء شديد، فإن كانت حسنة صعب تهجينها، وإن كانت سيئة صعب تزيينها، والافتتاح هو أول ما يلقى الخطيب به الجماعة، فإن وقع من نفوسهم القبول كانت الخطبة غالبًا على غراره، واستطاع أن يصل إلى قلوبهم، وإن لم يصادف قبولًا صعبت الحال واحتاج الأمر إلى خبير بأحوال النفوس حاذق في طرق العلاج، ووسائل الشفاء من ذلك النفار وهذا الشماس. قال ابن الأثير في كتاب (المثل السائر): "وإنما خصت الابتداءات بالاختيار؛ لأنها أول ما يطرق السامع من الكلام، فإذا كان ذلك الابتداء لائقًا بالمعنى الوارد بعده، توافرت الدعاوي على استماعه، ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن الكريم كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور، وكذلك الابتداءات بالنداء كقوله تعالى في أول سورة "الحج": {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1). فإن هذا الابتداء مما يوقظ السامعين للإصغاء إليه، وللخطباء مذاهب شتى في افتتاحهم، ولا نستطيع حصر طرقها؛ لأن أفضل مناهجها مرجعه إلى حسن تصرف الخطيب وجودة تقديره، ولكننا نذكر بعضها على سبيل المثال لا على طريق الحصر، فمن الخطباء من يفتتح خطبته بما يشير إلى موضوعها، ويلوح بالقصد

منها، وقد كان يستحسن ذلك الجاحظ، وابن المقفع، فقد جاء في (البيان والتبيين) نقلًا عن المقفع وتعليقًا عليه: "وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، فكأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة المواهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناه، ولا يشير إلى مغزاه، وإلى العمود الذي بسطت إليه والغرض الذي نزعت إليه". ومن أبلغ الافتتاحات التي تشير إلى موضوع الخطبة افتتاح الإمام علي -رضي الله عنه- في خطبته بعد اختلاف الحكمين، واستنصار معاوية بقول حكم عمرو بن العاص، فقد قال علي -رضي الله عنه-: "الحمد الله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس معه إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله- أما بعد؛ فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحيرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونقلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... فلم تستبين النصح إلا ضحى الغدِ ومن الخطباء من يبتدئ خطبته بحكمة أو مثل سائر أو ببعض أقوال المتقدمين أو بآية كريمة أو حديث شريف يناسب المقام، فيكون حجة في الاستدلال كخطيب يبتدئ خطبته في تعاون الجماعة في إصلاح حالها، وتقويم الفاسد من أمرها، فيبدأ بقول الله -تبارك وتعالى-: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).

ومن الخطباء من يبتدئ خطبته بذكر كلام خصومه، ودلائلهم والدوافع التي دفعتهم إلى رأيهم ثم يعقب بالنقض كما يكون في الخطب السياسية، وخطب الخصوم في مجالس القضاء ومحال الخلاف، ومن الخطباء من يفاجأ السامعين في مفتتح كلامه بما يزعجهم كما كان يفعل حجاج في ابتداء خطبه. ومن الخطباء من يفتتح خطبته ببيان أنه من الجماعة التي يخاطبها، وأنه في مستواها ليقربها إليه، ويكون لكلامه فضل تأثير فيها، ومن الخطباء من يفتتح خطبته بإحياء آراء قديمة للجماعة ليبني عليها ما يدعوه إليه من جديد كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أنذر عشيرته الأقربين حيث سألهم عن صدق حديثه فقال: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي)) فقالوا: نعم ما جربنا عليك كذبًا، فألقى عليه الصلاة والسلام خطبته. وقد يحيى الخطيب بافتتاحه كلامًا قد قاله؛ ليربط ما بين ما قاله أولًا، وما يقوله الآن فيكون ذلك إيناسًا للمعلومات وتوثيقًا لها، وقد يبتدئ الخطيب خطبته بالثناء على السامعين ليهيئ نفوسهم لتلقى كلامه بالقبول؛ إذ لا شيء يهز أعطاف السامعين كالثناء عليهم، وذلك باب واسع يصح الدخول فيه بشرط الاتزان وضبط النفس. والخطب الدينية يستحسن فيها أن تبدأ بالحمد لله، وببعض الأحاديث النبوية الشريفة أو الآيات القرآنية التي تناسب المقام الديني الذي يتكلم فيه، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفتح خطبته في كل المناسبات بما عرف بخطبة الحاجة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة الحاجة: إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل

فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله يا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71). أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)). هذه الخطبة لما سمعها ضماد حين أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بعد ما سمعها: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات؛ فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام. فهذه الخطبة التي تعرف بخطبة الحاجة هي أحسن ما يفتتح الخطيب به خطبته، ولأهميتها جمعها محدث العصر العلامة الألباني في رسالة خاصة، وذكر في مقدمتها أنه جمعها حتى يذيعها بين الخطباء والوعاظ والمدرسين؛ ليعملوا بها وليحيوا تلك السنة فيكون لهم أجرها كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في (مجموع الفتاوى) أن الخطباء من العصور الأولى كانوا يفتتحون خطبهم ودروسهم ومواعظهم بهذه الخطبة تأسيًا

الغرض من الخطبة

بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، فعلينا نحن الخطباء أن نحرص على إحياء هذه السنة أن نفتتح خطبنا بخطبة الحاجة؛ تأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أمرنا رب العالمين؛ حيث قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). الغرض من الخطبة إن الخطبة الدينية -كما سبق بيانه- وسيلة من أهم وسائل الدعوة إلى الله -عز وجل- والدعوة إلى الله تعالى تعني الدعوة إلى الدخول في الدين الذي ارتضاه وهو الإسلام كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85). ومن خصائص الإسلام الشمول، فالإسلام عقيدة وعبادة، وأخلاق ومعاملة عرف الناس بفاطرهم وبارئهم وأسمائه وصفاته، وعرفهم ما لله عليهم والطريقة التي توصلهم إليه، وما لهم إذا سلكوها ومالهم إذا حادوا عنها، كما شرع الإسلام شرائع تشمل كل نواحي الحياة من حيث السياسة، والاجتماع، والاقتصاد، ونظم العلاقات بين جميع الأفراد العلاقات الأسرية والعائلية والاجتماعية، والدولية، وأمر الله تعالى عباده المؤمنين بقبول كل ما شرع لهم، والدخول في الدين كافة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 208). قال جماعة من السلف: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي: ادخلوا في الإسلام جميعه وكله، ولا تتركوا منه شيئًا، واقبلوا كل ما شرع لكم من العقيدة

والعبادة، والأخلاق والمعاملات، والجهاد والاتصال والسياسة والاجتماع، وغير ذلك من كل ما شرع الله -تبارك وتعالى- لكم، ولقد أنكر الله تعالى على الذين فرقوا دينه، وقبلوا بعضه ورفضوا بعضه، فقال -عز وجل-: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85). فهذه هي حقيقة الدين، والخطبة إنما هي دعوتهم إلى الدين فستكون إذًا متنوعة بحسب ما يقتضيه المقام، فتارة يتكلم الخطيب في العقيدة فيبين لهم أركان الإسلام والإيمان، ويبين لهم أن التوحيد حق الله على العبيد، وأن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وتارة يتكلم عن العبادات، وأحكامها من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج ويراعي الأوقات المناسبة لكل منها، وتارة يتكلم في النكاح، ويبين لجمهوره أهم ما يحتاجون إليه من فقه النكاح، وتارة يتكلم في البيوع، وما يحتاج الناس إلى معرفته من أحكامها، وتارة يتكلم عن الإحسان إلى أفراد المجتمع من الوالدين والأقربين، والجيران واليتامى والمساكين، وهكذا تتنوع الخطب، وتتعدد أغراضها وفق الموضوع الذي يختاره الخطيب، وهكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون يفعلون. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "كان -صلى الله عليه وسلم- يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها، وكان يعلمه أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، وكان يأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي كما الداخل أن يخطب أن يصلي ركعتين". يقول الدكتور صالح بن حميد: "وخطب الجمعة المنبرية خطب أسبوعية دورية تتخذ أغراض عدة، وترمي إلى مقاصد متنوعة يشير في هذا التعريف إلى نماذج

منها إذ من المعلوم أن هذه المقاصد والأغراض تتجدد، وتتنوع حسب حاجات الناس، وتغير الأحوال وتقلب الظروف، ودواعي التذكير من هذه الأغراض: تثبيت العقيدة، وتقوية الإيمان. ثانيًا: الدعوة إلى الإسلام، والدفاع عنه، وبيان مزاياه. ثالثًا: خطب الإصلاح، ومحاربة المنكرات. رابعًا: خطب ذات موضوع خاص أو مسألة مفردة من مسائل الإسلام كالصلاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار وحرمة الزنا والخمر والسرقة، ونحو ذلك مما نقصده التذكير والوعظ والتعليم ونحو ذلك. خامسًا: معالجة القضايا المستجدة بنظرة شرعية دقيقة. وكذلك كانت خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ابن القيم -رحمه الله-: "كان خطبته -صلى الله عليه وسلم- تقريرًا لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولقائه وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملئ القلوب بالخطبة إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه لا كخطب غيره إنما تفيد أمور مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانًا بالله، ولا توحيدًا له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيرًا بأيامه، ولا بعثًا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به". ثم يقول -رحمه الله-: "ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية،

تقسيم الخطبة، وترتيب أفكارها.

والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه؛ فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببه إليهم، فينصرفون السامعون، وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوم تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها وزينوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سنن لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع فنقص بل عدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها". فمما حفظ من خطبه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يكثر أن يخطب بالقرآن، وسورة "ق"، قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ((ما حفظت "ق" إلا من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يخطب بها على المنبر)). فعلى الخطيب أن يحسن اختيار موضوعه، وأن يحدد الهدف منه والأغراض التي يريد أن يخرج بها هو وجمهوره من هذه الخطبة. تقسيم الخطبة، وترتيب أفكارها كل خطبة تتكون من عناصر أيًّا كانت قليلة أو كثيرة، وهذه العناصر ينبغي أن تكون مسلسلة تسلسلًا منطقيًّا، مقبولًا كل عنصرًا يسلم للذي يليه كتسلسل درج السلم، فيبدأ الخطيب بمقدمة ثم يعرض الموضوع شرحًا وتفصيلًا، ثم استدلال عقليًّا ونقليًّا ثم نتيجة أو خاتمة، وكل جزء من هذه الأجزاء مبنيًا على ما قبله، فالمقدمة تلفت انتباه السامع إلى موضوع الخطبة، وعرض الموضوع وشرحه يوحي بأهميته وضرورته، والأدلة النقلية والعقلية تقنع المستمع وتحفزه إلى موضوع الخطبة، وتحرضه على العمل والالتزام به.

ثم بعد ذلك تكون النتيجة فيها تلخيصًا للموضوع واستخلاصًا للعبرة والدروس المستفادة منه وإلزام للمستمع بما في الخطبة بعدما ما اقتنع به، وميزة هذه الطريقة في تقسيم الموضوع وتسلسل أفكاره وعناصره أن الناس إن عجزوا عن استيعاب التفصيلات الجزئية، فلم يعجزوا عن استيعاب العناصر الأساسية التي يعرضها الخطيب في خطبته مقسمة مسلسلة تسلسلًا منطقيًّا، وبإمكان كل فرد من المستمعين أن يفسرها لنفسه تفسيرًا مقبولًا، وبهذا يظل الموضوع حيًّا واضحًا للأذهان باقيًا ببقاء القرينة، وهي التقسيم والتسلسل المنطقي. ومن المعلوم أن عناصر الخطبة ليست كلها سواء في الأهمية؛ فمنها ما هو حتمي وضروري، ومنها ما هو تكميلي فعلى الخطيب أن يختار العناصر ذات الأهمية لموضوعه وأن يلح عليها بالشرح والأمثلة، بينما لا يفعل ذلك بالأجزاء الأخرى التي هي دون تلك في الأهمية، وكل ذلك يتوقف على تقسيم الخطبة وتركيبها، وترتيب أقسامها حتى إذا انتهى الخطيب من خطبته يكون المستمعون قد أدركوا الهدف الذي يرمي إليه الخطيب، وإليك هذا المثال: لو قلنا: أراد خطيب أن يدعو إلى التبرع لبناء ملجأ خيري يأوي الأيتام والفقراء، فكيف يوجه الخطيب خطبته؟ وكيف يعرض موضوعه؟ أقول: أولًا يجب عليه أن يأتي بمقدمة وجيزة تبين أن الإسلام دين التعاون، وأن المسلمين أمة واحدة يجمعهم شعور الإخاء ويؤذيهم أن يكون بينهم جائع أو عارٍ أو محتاج، وأن الدين الإسلامي يأمرهم بتحاشي وجود شيء من ذلك بينهم، ثانيًا ينتقل بعد هذا إلى التعريف بحال الملجأ الذي يدعوا لبنائه وإقامته، ويصف ما يقدمه هذا الملجأ للأيتام والفقراء الذين يؤون إليه،

ثم ينتقل من هذا إلى دعوتهم إلى التبرع، وهذا هو النتيجة ثم يعينه في هذا أمور كثيرة تتوقف على مهارته وثقافته، وعمق تفكيره، كأن يقول أن هؤلاء المساكين قد ينشأ الملجأ منهم نفوسًا صالحة وأشخاصًا نافعين لمجتمعهم، وإذا لم يعنهم الملجأ كانوا جراثيم فساد وكانوا ضررًا على الناس من هؤلاء من أخنى عليهم الدهر، وكانوا قبل ذلك أبناء تجار أثرياء أو زراع موسرين أو عباد صالحين، إن أي واحد من السامعين مهما كان ثريًّا أو صحيحًا لا يأمن أن يصير أولاده إلى هذا المصير، وقد يلح على ذويه المرض والفقر أو يطرأ عليهم سوء السلوك المدمر، فكما يود أن يجد من يعين أولاده عليه أن يساعد هؤلاء. هذه النقطة الأخيرة هي قمة الخطبة، والتي ينبغي أن يتخير لها العبارات المثيرة، وفيها يعلو صوته ويبدو انفعاله وأسفه وحزنه، وهو بهذا قد سار في خطبته سيرًا مرتبًا انتقل فيه من عنصر إلى آخر انتقالًا طبيعيًّا. ولكن كيف يتذكر الخطيب عناصر موضوعه؛ ليكون متسلسلًا؟ أقول لكل خطيب: هناك طريقتان تستطيع من خلالهما تذكر الأشياء: أولًا: بواسطة دافعًا خارجي. وثانيًا: بربط الشيء بشيء موجود في الذهن من قبل. ويعني ذلك بالنسبة للخطب أن باستطاعتك كخطيب أن تتذكر نقاطها بمساعدة دافع خارجي كالملاحظات لكن من يرغب في أن يرى خطيب يستخدم ملاحظات، ثم بإمكانك أن تتذكر نقاطها بربطها بشيء موجود في ذهنك، ويجب أن تنتظم في تسلسل منطقي بحيث تؤدي النقطة الأولى إلى النقطة الثانية إلى الثالثة بشكل طبيعي.

ولكن لنفترض أن خطيب ما وجد نفسه فجأة خالي الذهن، وبدأ يحدق النظر إلى مستمعيه صامتًا وعاجزًا عن الاستمرار، إنه لموقف مرعب، إن كبرياءه يمنعه من الجلوس بارتكاب وخيبة أمل، هو يشعر أنه قادر على التفكير بالنقطة التالية أو بنقطة ما لو أن لديه مهلة عشرة أو خمسة عشر ثانية، لكن خمسة عشر ثانية من الصمت القلق أمام الجمهور لهو أقل بقليل من كارثة، فما الذي يجب القيام به حينئذٍ؟! نقول: عندما وجد أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي نفسه في موقف مماثل من هذا سأل المستمعين بوضوح في مؤخرة الغرفة عما إذا كان صوته مرتفعًا يبلغهم أو لا، وقد كان يعلم أن صوته يبلغهم ولم يكن يبحث عن معلومات بل كان يسعى إلى كسب الوقت وخلال هذا التوقف الضئيل التقط الفكرة وتابع خطابه. لكن ربما يكون أفضل منقذ في مثل هذا المأزق الذهني هو استخدام آخر كلمة أو عبارة أو فكرة في جملتك الأخيرة من أجل البدء بجملة جديدة، فهذا سيولد سلسلة لا متناهية تخيل أن خطيبًا يتحدث عن النجاح في العمل يجد نفسه في مأزق بسبب قوله، إن المستخدم العادي لا يتطور؛ لأنه لا يهتم جديًّا بعمله ولا يتميز بروح المبادرة ربما ليست لديك فكرة عما تقوله أو كيف تنهي الجملة، ولكن مع ذلك ابدأ فالتظاهر الهزيل أفضل من الإخفاق التام، إن روح المبادرة تعني الإبداع والقيام بشيء من تلقاء ذاتك من دون أن تنتظر ليطلب ذلك منك، وهذه ليست ملاحظة مدهشة، ولن تجعل من الخطاب خطابًا تاريخيًّا لكن أليست أفضل من الصمت المؤلم، فماذا كانت آخر فقرة لها تنتظم ليطلب ذلك منك لنبدأ جملة جديدة بهذه الفكرة، إن الطلب المستمر من المستخدمين الذين

يرفضون التفكير المبدع، وإرشادهم وقيادتهم لهو أكثر الأمور مدعاة للسخط حسنًا لنعالج هذا الموضوع، ولنغص ثانية يجب أن نقول الآن شيئًا عن الخيال، فالخيال المطلوب أي الرؤية. هذه الطريقة لتسلسل أفكار الخطبة طريقة مهمة عندما يتذكر الخطيب هذه الجمل البسيطة يجب عليه في الوقت ذاته أن يفكر جيدًا بالنقطة الثانية في خطابه والشيء الذي ينوي قوله. ومن أهم الأمور التي تمكن الخطيب من النفوذ إلى عقل المستمع وعاطفته مقنعًا ومستنيرًا أن يكون واقعيًّا في خطبته، وذلك بأن تنسجم الخطبة مع الواقع الذي يعيشه الناس وذلك بالحديث في أمراض المجتمع وعلله التي يئن منها في حياته. فإذًا إذا أحسن الخطيب اختيار الموضوع المناسب للبيئة التي يعيش فيها، فما عليه إلا أن يهتم بترتيب الخطبة وتقسيمها، فالخطبة تشارك مجمل فنون القول كالمحاضرة والندوة، وغيرها في أنها تشتمل على ثلاثة عناصر هي: المقدمة، وجوهر الموضوع، والخاتمة، ولنفصل القول في هذه العناصر الثلاثة. أما المقدمة: فقد قلنا إنها أول شيء يصل إلى أسماع الحاضرين من خطيبهم، وذكرنا الشروط التي يجب توفرها حتى تكون مهمة تجذب أسماع الحاضرين، ثم على الخطيب بعد المقدمة أن يركز على موضوعه الذي يريد أن يدخل فيه بعد الافتتاح المشوق، والمقدمة المهمة يبدأ مثلًا في ذكر الموضوع الذي سيتحدث عنه، فإذا رأى أن يربط الموضوع بحمد الله والثناء عليه، فله ذلك وإذا رأى أن يبدأ بأسئلة التشويق للسامعين فله ذلك، وإذا رأى أن يبدأ حديثه بذكر خطورة الموضوع الذي سيعالجه في خطبته، فإذا كان مثلًا سيتحدث عن التدخين ومضاره، فيقول حديثي إليكم اليوم عن قاتل خطير قتل خلال عام واحد خمسة

ملايين من البشر، وفوق ذلك أنه سارق كبير سرق أكثر من ستمائة وستين مليون ريال، وضحاياه بنسبة ثمانية وثلاثين في المائة من النساء هل تعلمون ما هو؟! هذا سؤال تشويق، ثم يجيب إنه الدخان، إنه السجائر، وغير ذلك. وقد يختار أن يبدأ بذكر قصة مشوقة تجذب السامعين إليه، وتربطهم به وقد تكون القصة خيالية أو واقعية، والمهم فيها العبرة والفائدة في موضوع أهمية الوقاية من المنكرات مثلًا يقول الخطيب: "لدي اليوم قصة عجيبة وحادثة غريبة لرجل سرق منزله، فإذا به يخلع حديد النوافذ ثم سرق مرة أخرى وكانت المسروقات هذه المرة أكثر وأغلى، وبعد ذلك عمد إلى فتح الأبواب وعدم إغلاقها حتى أصبح منزله مغري بالسرقة لكل غادٍ ورائح، والمتوقع ممن يسرق أن يزيد في الاحتياط ويشدد في إحكام سد المنافذ، ومن هنا فإننا نحكم على هذا الرجل بأنه أحمق أو مجنون، ولكن حال كثير منا مع المعاصي والمنكرات التي تسرق من إيماننا يشبه حال هذا الرجل، فنحن كلما وقعنا في معصية تساهلنا بعد ذلك فيما هو أكبر منها، ولعل إدخال الفضائيات الماجنة إلى البيوت يصور تمامًا بيتًا بلا إقفال، ولا أبواب، ولا نوافذ". وقد يستخدم الخطيب أسلوب الإغراب بإيراد بعض الغرائب والفرائض بأسلوب لفظي جميل يعطي أثرًا قويًّا في شد الانتباه، وربط السامعين؛ لأن النفوس تتعلق بكشف الغموض ومعرفة الغريب، ومن أمثلة ذلك أن يقول مثلًا وهو يتحدث عن استقبال رمضان، وكيف يستقبل الناس رمضان، يقول خطيب: اعذروني اليوم، فلن أتحدث إليكم وأستميحكم عذرًا في أن أتنحى عن مقام الخطابة وأترك المنبر لمن هو أولى بالحديث إليكم؛ لأنه الأقرب إليكم، والأعرف بكم، والآخر لديكم، سأترك الحديث اليوم إلى رمضان؛ ليحدثكم بنفسه، ويبثكم شكواه ويروي لكم تاريخه ويبين لكم أحكامه.

وقد يعمد الخطيب إلى البدء بمدح السامعين، والثناء على الحاضرين بما هم له أهل بلا غلو ولا إطراء استمالة لنفوسهم حتى يشجعهم على ما يريد منهم من الخير الذي يريد أن يفعلوه، كأن يريد أن يحثهم على عيادة المرضى، أو مساعدة المحتاجين، أو كسوة طلاب المدارس في فصل الدراسة، ونحو ذلك، وقد يجعل الخطيب نفسه واحد من الجمهور يعاني ما يعانون من المشكلات التي يتحدث عنها ويواجه تلك الصعوبات التي يصفها، ويحسن أن ينص على ذلك صراحة، وهذا يجعله شديد القرب للمستمعين ويهيئهم للإصغاء والانتباه. من أمثلة ذلك أن يصرح الخطيب مثلًا بقوله: جميعنا يشعر بخطر هذه الشهوات والمغريات، وكلنا بلا استثناء يتعرض لضغطها وتأثيرها، أنا وأنت وهذا وذاك يدرك خطر القنوات الفضائية على أبنائنا وبناتنا، إذًا فنحن في سفينة واحدة. وقد يبدأ الخطيب بذكر موضوع صراحة يقول: إن موضوعنا اليوم هو خطر التبرج والسفور، فنوضح خطرهم من حيث مخالفته لأحكام الشرع، ومن حيث أضراره النفسية والاجتماعية، كما سنذكر ما سيترتب عليه من أخطار الخلقية والأمنية، وسيكون ختام حديثه عن الوقاية من تلك المخاطر وهكذا. ثم على الخطيب أن يمضي إلى تفصيل ما ذكر من خلال هذه النقاط: أولًا: قوة العرض من خلال كثرة الأدلة، والشواهد القرآنية والنبوية، إضافة إلى النقول النصية من أقوال العلماء والفقهاء مع زيادة الإيضاح بإيراد شواهد الواقع المعاصر. ثانيًا: وضوح العرض من حيث سهولة العبارات، وفصاحة الكلمات مع البعد عن الألفاظ الغريبة، والأساليب المعقدة. ثالثًا: جاذبية العرض من خلال تنوع المادة بضرب الأمثال وذكر الأشعار وإيراد القصص، وعرض الحكم.

رابعًا: روعة العرض من خلال الإتيان بالجديد غير المتوقع من الخطيب والخطبة من معلومات متخصصة أو أخبار غير مشتهرة واستنباطات غير شائعة، ونحو ذلك، وعلى الخطيب أن يعتمد في خطبته على الأدلة الثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد أشرنا فيما سبق إلى ضرورة العناية بالأحاديث الصحيحة، واجتناب الأحاديث الضعيفة فضلًا عن الموضوعة، وأن يبتعد عن القصص والأساطير والخرافات، وعليه أن يكون موضوعه مترابطًا متصلًا متجانسًا، ويظهر ذلك من خلال أن يكون الخطيب ملمًّا بجوانب الموضوع المختلفة، ومطلعًا عليه من مراجع متعددة؛ ليكون ذلك معينًا على الاستيعاب التام للموضوع، ومن خلال استيعاب الموضوع، والتمكن منه يحرص الخطيب على تقسيم موضوعه إلى فقرات موضوعية يراعي فيها تقديم الأهم على المهم، ويحسن التقسيم بحيث يستطيع السامعون أن يركزوا في استيعاب الموضوع والخروج منه بفائدة، ويحسن أن لا يكثر من التقسيمات والتفريعات التي تشتت أذهان السامعين خاصة، وأن الخطبة قصيرة الوقت لا تحتمل مثل ذلك. وعليه أن يحرص على الانسياب الموضوعي، وذلك بأن ينتقل من فقرة إلى فقرة بأسلوب سلس، وأن يجعل الانتقال من عنصر إلى عنصر آخر سهلًا، يسيرًا، مبررًا، بحيث يقدم الأسباب ثم النتائج وأهمية الموضوع، ثم عناصره، وهكذا، وينبغي أن يربط بين تلك الفقرات بجمل وأساليب تشويقية ومنطقية بحيث لا يشعر السامعون بشيء من الانقطاع والفجوات بين الفقرات، كما ينبغي العناية بالتناسب في الوقت بين الفقرات، وعدم تطويل بعض الفقرات بشكل كبير. وبعد عرضه موضوعه مقسمًا معنصرًا كما ذكرنا يصل إلى خاتمة الخطبة، والخاتمة تعد خلاصة لموضوع الخطبة، وهي كالثمرة التي تأتي بعد الزراعة، والسقي،

والعناية، ولذا فإن الخاتمة لا تقل أهمية عن الموضوع نفسه فضلًا عن مقدمته، وينبغي أن يجعل الخطيب نصب عينيه عند تفكيره في الخاتمة هذه الأسئلة: هل يغلب على ظنك أيها الخطيب أن السامعين فهموا الموضوع واستوعبوه؟ وما هي الأسئلة التي تتوقع أن تسأل عنها بعد انتهاء موضوع الخطبة؟ ماذا تريد من السامعين أن يعملوا؟ لقد عرفناك أن للخطبة أغراضًا تتنوع هذه الأغراض بتنوع الخطبة، فلا بد أن يكون حاضرًا في ذهنك ماذا تريد من السامعين أن يعملوا، ماذا تريد أن تعلمهم من العقيدة، ماذا تريد أن يقوموا به من عبادات، ماذا تريد أن يصححوه من المعاملات، كيف يمكن أن يبقى لموضوع الخطبة أثر طيب ممتد في نفوس وعقول وسلوك السامعين، إن هذه الأسئلة حين تجعلها في ذهنك ستجعلك في مواجهة أمام نفسك بحيث تستشعر عظمة مسئولية الخطابة، وتدرك عمق أهمية دورها وتأثيرها، وأنها ليست مجرد أقوال مرسلة أو بلاغة جميلة أو حماسة متقدة، بل هي أمانة ورسالة، وتعليم وإرشاد، كما أن العناية بخاتمة تدفع الخطيب لمحاسبة نفسه وتربيتها؛ إذ كيف يطلب من الناس ما لا يعمله، وكيف يدعوهم إلى ما لا يقبله، وفي ضوء هذا يمكن تلخيص أهداف الخاتمة في هذه النقاط. أولًا: الخاتمة تلخيص لأبرز نقاط الموضوع، وأكثرها أهمية. ثانيًا: الخاتمة تركيز على الترجمة العملية المطلوبة للسامعين. ثالثًا: الخاتمة هي العصارة التي تنعكس على شعور وإحساس السامعين، وتبقى في أذهانهم.

ومن حيث الأداء، فإن من المناسب أن يراعي الخطيب في الخاتمة ما يلي: أولًا: الهدوء والبطء النسبي في الإلقاء، وذلك لما في الخلاصة من الثمرة والتركيز على النقاط المهمة. ثانيًا: محاولة الربط بالمقدمة أو بعض العناصر المهمة في الموضوع للإشعار بالترابط من جهة، ولبيان أن الخاتمة نتيجة لما سبق ذكره من جهة أخرى. ثالثًا: استخدام أساليب التوكيد والجزم التي تدفع نحو العمل والالتزام مع التطعيم بأساليب الحث والتشجيع، وتعزيز الثقة التي تحول دون اليأس والإحباط، والشعور بعدم إمكانية العمل والتغيير. رابعًا: استخدام التعداد بالرقم صوتًا وبالأصابع إشارة، وذلك في ذكر نقاط التلخيص أو خطوات العمل المطلوبة. خامسًا: في حالة وجود إكمال لتوابع الموضوع في خطب قادمة، فإنه تحسن الإشارة إلى ذلك والتشويق إليه والربط به. أما من الناحية الشكلية، فإن خاتمة الخطبة ينبغي أن تشتمل على عنصرين أساسيين: الأول: الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. ثانيًا: الدعاء لعموم المسلمين وتخصيص ولاه الأمر والمجاهدين، وضعفة المسلمين بالدعاء، ومن الخطأ أن يجعل الخطيب الخطبة الثانية كلها دعاء يقطعها عن الخطبة الأولى قطعًا ويبترها بترًا، بل -كما سمعنا- ينبغي أن تكون الخطبة الثانية متصلة تمام الاتصال بالخطبة الأولى، وتختم بما ذكرناه من الخاتمة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 5 الخطيب وصفاته.

الدرس: 5 الخطيب وصفاته.

أهمية الخطيب ومكانته في الإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الخطيب وصفاته) أهمية الخطيب ومكانته في الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فكما تنطلق الشحنة الكهربائية عبر الأسلاك فيضيء المصباح، وكما تتسلل خيوط الفجر في غسق الليل فيسرق الصباح يمضي الخطيب إلى النفوس فيخرجها من الظلمات إلى النور، وإذا كان العاملون في كل موقع يسهمون بجهودهم في إحداث التغيير النفسي والاجتماعي لدى الأفراد، فإن الخطيب يأخذ حظه الوافي من هذا التغيير بما يملك من سلاح أمضى، وقدر أشمل. إن المهندس والطيار أو البحار يتعاملون مع الجماد، وإذًا فما أيسر المهمة بيد أن الخطيب يتعامل مع كائن حي له مشاعره، وله كذلك فكره، بل إنه لا يواجه من البشر نوعًا واحدًا، بل يواجه مستويات متعددة متفاوتة، وهو مع هذا مطالب بأن يجمعها كلها على الصراط السوي، وأن يحوز رضاهم جميعًا، وحتى رفيقيه على طريق التوجيه المعلم والأديب كلاهما لا يمارس نفس المعاناة، فبينما المعلم يتجه أساسًا للعقل؛ تزويدًا له بالمعرفة، وبينما يخاطب كاتب المقال مستوٍ واحد إلى حد ما فإن الخطيب يتفرد بمسئولية امتلاك أقطار النفس كلها إقناعها، واستمالة تفضي للالتزام وفي الوقت ذاته تتسع قاعدته العريضة وتتسع؛ لتستوعب حتى الأميين الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، فهو يتعاون معهم بينما لا يمثل بين يدي المعلم والأديب إلا المثقف القادر على الفهم والحوار. ومع أن الخطيب كالمربي فلا بد أن تتوفر فيه متطلبات عديدة، وهي أكثر وأشد مما هي في المربي؛ لأن هذا الأخير محدود التأثير في عدد قليل، وإذا كان ذا مسئولية عظمى بخلاف الإمام الخطيب، فإنه غير محدود التأثير في مثل ذلك العدد بل العدد أنمى وأكثر، ثم إنه غير منقطع الصلة، فإن التلميذ في القسم يمر بأساتذة

متعددين، بخلاف الإمام الخطيب فإنه مستمر الاتصال بجمهوره الذي يؤم مسجده دائمًا، وهذا الاتصال كائن من المهد إلى اللحد، ولا مرية أن الاتصال بالغ التأثير في العقول، وشديد المفعول في النفوس، والرأي العام رهين أن يكون أئمته في ميزان الكفر، حتى لا يفقدوا صلتهم بالرأي العام. إن هناك فجوة تحصل بين الأئمة وبين جمهورهم حين ينقدح في عقول المنصتين إليهم أنهم قطعوا الصلة بين خطبهم والحياة، والأنكى من ذلك أن يكون المستمعون غير مطمئنين لما يسمعون منهم بما يؤدي إليه ذلك من فتور ثم انقطاع الصلة بين الجمهور وإمامه، فالحاضرون يجلسون تلك الحصة وهم يستمعون وقلوبهم لاهية، وآذانهم صاغية، وليست بصاغية لعدم إقبالهم الكلي على الاستماع الصحيح والإنصات والانصراف إلى تفهم ما يلقى عليهم، وللحفاظ على هذا المعنى الذي ضيع في بعض المساجد. عن سعيد بن المسيب قال: إن أبا هريرة -رضي الله عنه- أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب فقد لغوت)) جاء الحديث في الإنصات بأدق ما يكون حفاظًا عليه، حتى أن الأمر بالمعروف وقت الخطبة منهي عنه مع أنه ضروري وملتزم به، ولو أدى إلى لحوق الأذى بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وما ذاك إلا ترغيب إيجابي للجمهور أن يكونوا عند الاستماع إلى الخطبة على المستوى المطلوب، فلا يلهيهم شاغل عن التنبه لكل دقيق وجليل يصدر عن الخطيب فهم في إنصات محكم في حضورهم الجمعة. وتنبع خطورة رسالة الخطيب من خطورة دور المسجد في المجتمع، ومدى قدرته على الإصلاح، فالمسجد ركيزة للإصلاح وقطب الرحى في عملية التوجيه، لقد كان المسجد ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت

بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وفضائل هي لباب الإسلام، أي: إن المسجد كان حلقة الاتصال التي يتم به التعارف والتآلف، وتحت سقفه مارست الدولة الإسلامية مختلف نشاطاتها في مجالات القضاء والإفتاء، كما كان المسجد موئلًا للإغاثة، والخدمة الصحية، والاجتماعية، ومنطلقًا للجيوش، ودارًا للضيافة يستقبل الوفود القادمة. إذًا فمهمة الخطيب المؤسسة على المسجد وقيمه تأخذ نفس الأهمية القصوى، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيام ة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلَّا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)). حينما نتأمل هذا الحديث ندرك أن استنزال السكينة والرحمة من السموات العلا، وأن الفوز بصحبة الملائكة لا يتم بمجرد اجتماع بل إنه الاجتماع المحكوم أولًا بالنوايا المخلصة، والمحكوم ثانيًا برائد المسجد الذي لا يكذب أهله، والذي يتحمل مع المجتمعين مسئولية هذه المدارسة التي تجعل لهذا الاجتماع قيمة عملية، وذلك هو الإمام والخطيب. ولعلنا ندرك أيضًا سر هذه المهمة مهمة الخطيب فيما حكي عن عبد الملك بن مروان قال: "شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن، وقيل له يومًا: قد عجل الشيب إليك، فقال: كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة مرة أو

مرتين، أولئك الخطباء الذين يقدرون للخطبة حق قدرها، الذين يعدون خطبة الجمعة بعد خطبة الجمعة، أما أولئك الذين لا يقدرون أنفسهم حق قدرها، ولا يقدرون جمهورهم حق قدره لا يبالون بالخطبة، ولا بالإعداد لها وينشغلون طول الأسبوع عن تحضيرها حتى إذا كان صباح الجمعة جلسوا يفكرون ماذا يقولون، فلا يهتدون سبيلًا، فأخيرًا يصعدون المنبر لتأدية الواجب حتى لا يصلي الناس ظهرًا. أولئك الخطباء يجب عليهم أن يتقوا الله -تبارك وتعالى- في أنفسهم، وأن يتقوا الله في المنبر الذي يرتقونه وأن يتقوا الله في الجمهور الذي يواجهونه، ولنعد هذه الكلمة عن عبد الملك بن مروان قال: "شيبني ارتقاء المنابر، وتوقع اللحن"، خوف أن يلحن في خطبته فيفتضح بين جمهوره، وقيل له يومًا: قد عجل الشيب إليك، فقال: "كيف لا يعجل، وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة مرة أو مرتين". ومن هنا يظهر الفرق واضحًا بين الخطبة والمقالة وبين الخطيب، وكاتب المقالة من حيث كان الخطيب أكبر مسئولية، والخطابة أشق تناولًا، والبصراء بأساليب البيان يقررون أن العمل الفني لا بد أن يتخطى مراحل ثلاث قبل أن يكتمل هي الإيجاد، والتنسيق، والتعبير يعنون بذلك استنباط المعاني، ثم ترتيبها، والتنسيق بينها لتصير وحدة متكاملة ثم يجيء التعبير عنها كمرحلة أخيرة. وكاتب المقال والخطيب يشتركان في المرحلة الأولى والثانية ثم يختلف بهما الطريق في لون التعبير، فالخطيب يختار ألفاظه وتراكيبه على نحو جميل أخاذ يساعده على تحويل مستمع من موقف إلى موقف وينتقل به من الإقناع إلى الاستمالة، ثم يلف الجميع شعور واحد يحقق في النهاية الأثر المطلوب، وربما

وضح الفرق بينهما إذا لاحظنا صعوبة مهمة الخطيب دون الكاتب، فإذا كان الكاتب يملأ الذهن بالأفكار، فإن الخطيب فوق ذلك يشعل هذه الأفكار، ويفجر العواطف خلال النفس تفجيرًا تتحول به الأفكار إلى قذائف للحق تحرق وتنير في نفس الوقت، ومن السهل على كاتب أن يجلس في الظل بعيدًا عن أعين الجمهور الراصدة، وفي الوقت الذي تتوفر له إمكانات الكتابة من مزاج معتدل، ومراجع حاضرة، ونزوة من النقد المباشر أو السخرية يواجه الخطيب قومًا يرونه ويسمعونه بل ويسجلون حديثه. وبمناسبة ذكر تسجيل الحاضرين حديث الخطيب أذكر الخطيب بتسجيل ملائكة رب العالمين للخطبة، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 16 - 18). فهذان الملكان لا يغادران لفظًا من ألفاظ الإنسان عمومًا إلا ويسجلانه، ومن هذه الألفاظ ألفاظ الخطبة، فكن على حذر أيها الخطيب احذر أن تسجل عليك الملائكة في خطبة ألفاظًا تكون عليك لا لك، واعلم أنه فضلًا عن تسجيل الملائكة لأقوالك وألفاظك في الخطبة، فإن رب العالمين يسمعك من فوق سبع سموات يقول الله -تبارك وتعالى-: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى -يعني: بلى نسمع - وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف: 79، 80)، فالله يسمعه والملائكة تكتب خطبتك، والله سائلك يوم القيامة عن أغراض الخطبة، وأهدافها وعن كل لفظ قلته في هذه الخطبة، فهلا أعددت للسؤال جوابًا. أعود بعد هذا الاستطراد، فأقول: شتان بين الخطيب والكاتب، فمن السهل أن يجلس الكاتب في الظل بعيد عن أعين الجمهور الراصدة، وفي الوقت الذي تتوفر

له إمكانات الكتابة من مزاج معتدل ومراجع حاضرة، ونجوة من النقد المباشر أو السخرية في الوقت الآخر يواجه الخطيب قوم يرونه ويسمعونه بل ويسجلون حديثه، وهم لن يجلسوا بين يديه منصتين حتى يكون قبل ذلك صورة حية لما يدعوهم إليه بقدر ما يتاح للكاتب من ضمانات الفرار من هذه المسئولية؛ لأنه يكتب ولا يراه الناس ولا يتابعونه. ثم إن الخطيب يواجه إناس لا يمهلونه حتى يرتب معانيه، ويجهز أفكاره المندفعة وقد يورطه ذلك في خطأ أو يحمله على إبداء رأي خطير لا يلق به، وهذا هو الذي حدا بالعلماء أن موقفه عكس الكاتب الذي قد لا يغفلون له زلت هـ لما توفر له ضمانات الإجادة بحيث لا يتوقع منه الخطأ، فإذا وقع فهو موضع المسائلة والعتاب. إذًا مكانة الخطيب مكانة عظيمة ومسئوليته مسئولية خطيرة؛ لذلك يجب علينا أن نهتم بإعداد الخطيب الداعية، وهذا من أهم موضوعات الخطابة، موضوع إعداد الخطيب الداعية هذا المرسل للرسالة كما يقول علماء الاتصال أو المرسل للرسالة له أهميته وخطورته في تبليغ الرسالة إن أحسن إعداده كان مبلغًا ناجحًا، وإن أسيء إعداده كان ضرره أكثر من نفعه، ولعلك تلحظ أنني أقول الخطيب الداعية بهذا التحديد، ذلك لأن هناك الكثير من الخطباء الذين تتوافر فيهم مقومات الخطيب لم تكن لخطبته ثمرة مرجوة كما هو مطلوب للخطيب الذي يحمل الرسالة بصدق وإخلاص، لهذا أردت بتحديد الخطيب الداعية، أي الخطيب الذي تجري الدعوة في عروقه ودمه كما كان الأنبياء والمرسلون، والدعاة المخلصون لأمة الإسلام. يقول أحد العلماء: إن الداعية غير الخطيب؛ الخطيب خطيب وكفى، والداعية مؤمن بفكرة يدعو إليها بالكتابة والخطابة والحديث العالي، والعمل الجاد في

سيرته الخاصة والعامة وبكل ما يستطيع من وسائل الداعية هو كاتب وخطيب ومحدث وقدوة يؤثر في الناس بعمله وشخصه، والداعية قائد في محيطه، وسياسي في بيئته، وزعيم لفكرته ومن يتبعه في ناحيته، وكل هذا لا تنهض الخطابة وحدها بحقوقه، فلا بد له من التأثير النفسي، والهيمنة الروحية، والاتصال بالله تعالى واستعانة العقل بما حصل من تجارب التاريخ وأحوال الناس، هذا هو الداعية الصادق. تخص إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة كما كان يفعل مصعب بن الزبير، وفي السمة التي تختلط بماء وجهه وهو الداعية الذي ينقض كلامه إلى قلوب الجماهير، فيحرك عواطفهم إلى ما يريد من أمر دعوته، وإذا كان هذا لازمًا للرسالات الأرضية على ما فيها من باطل هو ألزم للإسلام؛ لأنه رسالة الحق الخالص، وبين الحق وفطرة الإنسان نسب فكلاهما من عند الله تعالى يقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 83). لذلك يجب أن نهتم بتكوين الخطباء الدعاة، وإعدادهم وتربيتهم، وتنشئتهم على الأخلاق والمبادئ والقيم، والصفات التي يجب أن يتحلى بها. يقول الشيخ علي محفوظ -رحمه الله- في آداب الإمام والخطيب والداعي: إن الدعوة إلى الله تعالى في الأصل عمل الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والسادة العلماء نواب عن الأنبياء في هذا الأمر الخطير فهم أمناء الله تعالى على شرعه، والحافظون لدينه القويم والقائمون على حدود الله، والعارفون بما يجب له تعالى من كمال وتنزيه؛ لذلك كانوا أئمة الناس، وقادة الخلق، يسيرون بهم نحو السعادة بما يعلمونه من أمور دينهم، وبما يرشدونه إليه

من التحلي بالفضيلة والتخلي عن الرذيلة، اعتقد الناس فيهم ذلك وأملوهم له، فأحلوهم من أنفسهم محلًّا لما يبلغه سواهم من البشر حتى اكتسبوا في قلوبهم مكانة يغبطون عليها، وربحوا منزلة تصبوا إليها نفوس ذوي الهمة والفضل، وناهيك بقوم إذا فعلوا لحظتهم العيون، وإذا قالوا أصغت إليهم الآذان، ووعت القلوب وحكت الألسن، فهم مطمح الأنظار وموضع الثقة والحجة البالغة، والبرهان القاطع، والنور الساطع للناس أجمعين، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33)، {دَعَا إِلَى اللَّهِ} أي: دعا إلى توحيده وطاعته، وعمل صالحًا فيما بينه وبين ربه، واتخذ الإسلام دينًا ونحلة، حقًا ليس أحد أعظم شأنًا، وأسعد حالًا ممن جمع بين هذه الفضائل الثلاث، فكان موحدًا لله تعالى عارفًا به عاملًا داعيًا إليه، وما هم إلا طبقة العالمين العاملين الدعاة إلى الله عز وجل من ذوي القلوب الحية، والإيمان الصادق، والإخلاص الصحيح. ولا ريب أن الله تعالى ربط سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة بالوقوف عند حدوده، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأنه بمقدار وقوف العبد عند حد الأدب مع مولاه يكون حظه من تلك السعادة وغني عن البيان أن السادة العلماء قد انفردوا بفهم الأوامر والنواهي، وبثها للناس وبقدر قيامهم على حدود الله تعالى وإتباعهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه يكون إتباع الأمة واجتنابها، فإذًا سعادة الأمة في قبضه السادة العلماء إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، ومن هنا كانت وظيفتهم خطيرة ومسئوليتهم عظيمة، وتزداد وظيفتهم خطرًا ومسئوليتهم عظمًا إذا هم تصدوا للدعوة والإرشاد.

صفات الخطيب في الإسلام.

صفات الخطيب في الإسلام كان لزامًا على الخطباء أن يتحلوا بمكارم الأخلاق، وأن يتصفوا بجميل الصفات وقد كتب العلماء في الصفات التي يجب على الخطيب أن يتحلى بها، وأطالوا في ذلك، وسنحاول -إن شاء الله تعالى- أن نلم بأهم ما ذكروه فيما كتبوه. فمن أهم صفات التي يجب على الخطيب أن يتحلى بها: أولًا: العلم بالقرآن: إن أول واجب على الداعي الخطيب العلم بالقرآن، والمراد به النظر فيه قبل كل شيء على أنه هدى وموعظة وعبرة، وكذلك السنة، وما صح من أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته، وسيرة الخلفاء الراشدين، والسلف الصالح، والعلم بالقدر الكافي من الأحكام وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها. فإن مرتبة التبليغ عن الله تعالى لم تكن إلا لمن اتصف بالعلم مع الصدق، والمرشد وارث لهذه المرتبة، وليتمكن من تعليم ذلك على الوجه الصحيح، فلا يزيد في عقيدة، ولا يخطئ في حكم، ولا يعجز عن إقناع النفوس المتطلعة إلى معرفة أسرار الأحكام الشرعية، وحينئذٍ يكون الإذعان له أتم والقبول منه أكمل، فأما الخطيب الجاهل فضال مضل، وضره أقرب من نفعه، وما يفسده أكثر مما يصلحه، بل هو لا يصلح أصلًا، إذ لا تمييز لجاهل بين الحق والباطل، ولا معرفة عنده ترشده إلى إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس. يقول الحسن البصري رحمه الله-: "العامل على غير علم كالسائر على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح" وفي الحِكَم: "من سلك طريقًا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل زل".

ثم إن الخطيب داعية لله عز وجل، والدعوة إلى الله يشترط لها البصيرة، والبصيرة هي العلم كما قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)، والبصيرة لا تأتي في قلب الداعية إلا من العلم، ثم إن الله -تبارك وتعالى- جعل القول عليه بغير علم عملًا من عمل الشيطان فقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 168، 169). فلما كان القول على الله بغير علم عملًا من عمل الشيطان لا جرم كان من أصول المحرمات كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33). والقول على الله بغير علم يشمل القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته، وأفعاله، ودينه وشرعه، وقد قلنا: أن الدعوة إنما هي إلى هذا، الدعوة هي تعريف الله -تبارك وتعالى- إلى عباده بأسمائه وصفاته وأفعاله، تعريفهم بدين الله، تعريفهم بشرع الله عز وجل، وهذا كله يحتاج إلى أصل، ودليل، وبرهان من كتاب أو صحيح سنة، فإذا لم يكن عند الخطيب أصل ولا دليل ولا برهان، وقع في القول على الله بغير علم، فصد عن سبيل الله من حيث ظن أنه يدعو إلى الله -عز وجل- والله -تبارك وتعالى- يقول: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116، 117). فعلى الخطيب أن يحذر كل الحذر أن يقول لشيء حلال، وليس معه على حله برهان، أو يقول لشيء حرام وليس معه على حرمته برهان، وليحذر الخطيب

أن يصف الله -تبارك وتعالى- بشيء دون برهان أن يسميه باسم دون حجة ولا برهان. وعلى الخطيب أن يحاول جهده أن يتفرغ للعلم، فإنه قديمًا قيل: لا يعطيك العلم بعضه حتى تعطيه كلك، وأكبر شاهدًا من حياتك العملية للخطيب على صحة هذا القول أنك لو كنت صادقًا مع نفسك، ومقدرًا وظيفتك حق قدرها أنك تحضر خطبتك في ثلاثة أيام أو أربعة، ثم إذا كان يوم الجمعة خطبتها في نصف ساعة، فمحصلة ثلاثة أيام أو أربعة خرج منك في نصف ساعة، فهذا الواقع العملي الذي تعيشه كخطيب أكبر دليل على صحة هذا القول: "لا يعطيك من بعضه حتى تعطيه كلك"، فاحرص -أيها الخطيب- على أن تتفرغ للعلم حتى تنال منه ما تعلمه للآخرين. فإذا تعلمت فاعلم أن العلم إنما منح من أجل العمل به، فعليك أن تتصف بالصفة الثانية، وهي العمل بالعلم، فلا يكذب فعلك قولك، ولا يخالف ظاهرك باطنك، ولا تأمر بشيء لست مؤتمرًا به، ولا تنهَ عن شيء أنت مرتكبه، كن دائمًا أول من يأتمر، وأول من ينتهي؛ ليفيد وعظك، ويثمر إرشادك، أما إذا كان الخطيب يأمر بالخير، ولا يفعله، وينهى عن الشر وهو واقع فيه، فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الإصلاح، وهيهات هيهات أن ينتفع به، فإنه فاقد الرشد في نفسه، فكيف يرشد غيره؟ قال مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، فإن من حث عن التحلي بفضيلة وهو عاطل منها أو أمر بالتخلي عن نقيصة وهو ملوث بها لا يقابل قوله إلا بالرد، ولا يعامل إلا بالإعراض والإهمال، بل يكون موضع حيرة البسطاء، ومحل سخرية في نظر

العقلاء، فإن من تناول شيئًا وقال للناس: لا تتناولوه، فإنه سم مهلك سخر الناس منه، واستهزئوا به واتهموه في دينه وعلمه وورعه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه؛ فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها ما كان يستأثر به، كذلك الداعي إذا خالف فعله قوله. والله -سبحانه وتعالى- قد أنكر على هؤلاء الخطباء، فقال -عز وجل-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44)، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم؛ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون)). وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقطاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع أهل النار إليه، فيقولون: يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنه عن المنكر وآتيه)). فتعلم أيها الخطيب، فإن العلم سلاحك في الدعوة إلى الله -عز وجل- واعمل حتى تكون أسوة حسنة لمن تعلمهم. الصفة الثالثة من صفات الخطيب: سعة الصدر، فكمال العلم في الحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب؛ فيستطيع أن يعالج أمراض النفوس وهو هادئ النفس مطمئن القلب لا يستفزه الغضب، ولا يسثتيره الحمق، فتنفر منه القلوب، وتشمئز منه النفوس، وحسبك في هذا قول الله تعالى لإمام الدعاة محمد -صلى الله عليه وسلم-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، فلو كان

الداعي سيئ الخلق جافيًا قاسي القلب فأغلظ للدعاة أو المدعوين في القول تفرقوا عنه، وانصرفوا من حوله، فحرموا الهداية بأنوار دينهم فعاشوا وماتوا جهلاء، وذلك هو الشقاء، وذلك الخطيب القاسي الجاهل هو سبب ذلك وعلته. الصفة الرابعة: الشجاعة، أن يكون الخطيب شجاعًا حتى لا يهاب أحدًا في الجهر بالحق، ولا تأخذه في نصرة الله لومة لائم، ففي الحديث عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: ((أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بخصال من الخير؛ أوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرًّا)). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أن لله عليه مقالًا ثم لا يقول فيه، فيقول الله -عز وجل- يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس؛ فيقول الله -عز وجل-: فإياي كنت أحق أن تخشاه)). إلَّا أنه يجب التنبيه على أنه شتان بين الحماسة وبين الشجاعة، فليس من الشجاعة أن تحرص على أن تقول ما تريد مهما ترتب من النتائج، ليس من الشجاعة أن تقول كلمة واحدة تكون هي آخر كلمة تقولها على المنبر، وتحرم نفسك من منبرك وتحرم جمهورك من منبرك، ولكن كن جريئًا شجاعًا تعلم الناس الدين بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق واللين، شريطة أن تعلم متى تتكلم، ومتى تسكت فقد تكون المصلحة في السكوت، وقد تكون في الكلام، فإذا كانت المصلحة في الكلام فلا تسكت، وإذا كانت المصلحة في السكوت فلا تتكلم، والسعيد الموفق من نظر في عواقب الأمور.

الصفة الخامسة: العفة واليأس مما في أيدي الناس، على الخطيب أن يكون عفيفًا نزيهًا لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، فإن الله -تبارك وتعالى- قال لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131)، فعلى الخطيب ألا يتطلع إلى ما في أيدي الناس، وأن ييأس منه، فمن يأس مما عند الناس استغنى عنه فيبقى سيدًا محبوبًا جليلًا مهيبًا ينتفع به كما حكي أن رجلًا دخل البصرة، فقال: من سيد هذا البلد؟ قالوا: الحسن قال: وبم سادهم؟ قالوا: "احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم". والنبي -عليه الصلاة والس لام- قد قال لرجل قال: يا رسول الله أوصني وأوجز، فقال: ((عليك اليأس بما في أيدي الناس، فإنه الغنى، وإياك والطمع، فإنه الفقر الحاضر، وصلِّ صلاتك وأنت مودع وإياك مما يعتذر منه)). وقال أبو سعيد الحسن البصري -رحمه الله-: "لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه". وبالجملة فواجب على الخطيب أن يكون نزيه النفس، وأن ينأى عن شبه المكاسب، وأن يكتفي باليسير القليل وأن يستعز بعزة القناعة: هي القناعة فاحفظها تكن ملكًا ... لو لم يكن لك منها إلا راحة البدن وانظر إلى من ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير الطيب والكفن ومن الصفات الواجبة في حق الخطيب أن يكون قوي البيان، فصيح اللسان، وإلا كان النفع منه بعيدًا، بل كان ما مثال الخزي والعار على الإرشاد وأهله، فإن مدار الأمر على البيان والتبيين والإفهام والتفهيم، وكلما كان اللسان أبين كان أقوى وأجمل، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد وأكمل، وقد سأل موسى -عليه السلام-

ربه -عز وجل- الفصاحة والبلاغة وطلاقه اللسان حين كلفه بالذهاب إلى فرعون: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (النازعات: 17)، فذكر العقدة التي في لسانه، والتي تحول بينه وبين كمال البيان وتوصيل الرسالة فاستعان بالله -عز وجل- وسأله قائلًا: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25 - 28)، ولم يكتفِ بذلك حتى قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (القصص: 34). ومن الصفات التي يجب على الداعية الخطيب أن يتحلى بها: الإلمام بالعلوم والأحوال، العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شئونهم واستعدادهم، وطبائع بلادهم، وأخلاقهم أو ما يعبر عنه بالعرف بحالهم الاجتماعية، إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن عرفه بحال المرسل إليهم قال: ((إنك تأتي قوم أهل كتاب))، فعرفه البيئة وأحوالها حتى يستعد للقائها. كذلك علم التاريخ العام يجب على الداعية الخطيب أن يلم به قدر استطاعته ليعرف الفساد في العقائد والأخلاق والعادات، فيبني دعوته على أساس صحيح، ويعرف كيف تنهض الحجة ويبلغ الكلام غايته من التأثير، وكيف يمكن نقل هؤلاء المدعوين من حال إلى حال ولهذا كان القرآن الحكيم مملوءًا بعبر التاريخ والجاهل به لا يصلح أن يكون خطيبًا داعية للإسلام، ولا مرشدًا في الأمور العامة على الوجه الذي يرجى قبوله ونفعه. ثالثًا: علم النفس الباحث عن قوى النفس، وخواطرها، وميولها، وتصرفها في علومها، وتأثير علومها في أعمالها الإرادية. رابعًا: علم تقويم البلاد ليعد الداعي لكل بلد عدته إذا أراد السفر إليه، ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- أعلم أهل زمانهم بالتاريخ، والذي يسمى الآن بتقويم البلاد

والجغرافيا، وإذا أقدموا على الفتوحات ومحاربة الأمم، فانتصروا عليهم بالعلم لا بالجهل، فلو كان يجهلون مسالك بلادهم وطرقها ومواقع المياه وما يصلح موقع القتال فيها، لهلكوا وكان الجهل أو أسباب هلاكهم ومن درس ما حفظ من خطبهم، وكتبهم التي كانوا يتراسلون بها ومحاورتهم في تدبير الأعمال يظهر ذلك جليًّا. خامسًا: علم الأخلاق الذي يبحث فيه عن الفضائل النفسية وكيفية تربية المرء عليها، وعن النقائص وطرق توقيه منها وهو لازم لرجال الدين وللدعاة ألزم كي يستطيعوا معالجة النفوس وتهذيبها، وما ورد فيه من الآيات والأحاديث الصحيحة، وأفاد الصحابة والتابعين يغني بشهرته واستفاضته عن إطالة الكلام فيه. سادسًا: معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم فيها؛ ليتيسر للداعي بيان ما فيها من الباطل فإن لم يتبين له بطلان ما هو عليه لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه، ومن لم يقف على ما عند الناس من المذاهب والتقاليد الدينية لا يستطيع أن يخاطبهم على قدر عقولهم كما كان شأن سادة الدعاة عليهم الصلاة والسلام. سابعًا: العلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها، وقد ورد في (صحيح البخاري) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بعض الصحابة بتعلم اللغة العبرانية لأجل اليهود الذين كانوا مجاورين له، عن زيد بن ثابت: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- كتبه وأقرأته كتبه إذا كتبوا إليه"، وقال أبو حمزة: كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس على أنهم قد استعربوا فيما كان معرفة لغتهم الأصلية إلا ما زيد الكلام في الفهم عنهم ومعرفة حقيقة شأنهم.

ثامنًا: علم الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في دعوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها وتأخرها وتقدمها على نحو ما في مقدمة ابن خلدون. الصفة التاسعة الصفات التي يجب على الداعية الخطيب أن يتحلى بها: قوة الثقة بالله تعالى، ليكون الخطيب قوي الثقة في وعد الله، كامل الرجاء في حصول الفائدة من دعوته مهما طال العلاج وعظمت المصاعب، فإنه متى تمكن ذلك من نفسه انبعثت همته وقوي نشاطه، وتنبه إلى انتهاز كل فرصة بما يناسبها موقنًا بأنه إن لم يظهر تأثيره اليوم فغدًا يظهر مؤمنًا بأن الباطل زهوق، ولا بد لمن يوم يتغلب فيه الحق على الباطل، فإن دولة الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها، ودولة الحق هي الثابتة بذاتها فلا يغلب أنصار الحق ما داموا معتصمين به مجتمعين عليه، قال الإمام علي -رضي الله عنه-: "لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق". الصفة العاشرة: التواضع ومجانبة العجب، فذلك بالدعاة المرشدين أليق ولهم ألزم؛ لأن التواضع عطوف والعجب منفر، هو بكل أحد قبيح وبالمرشدين أقبح؛ لأن الناس بالخطباء يهتدون ويقتدون وكثيرًا ما يداخلهم الإعجاب لتميزهم بفضيلة العلم، ولو أنهم نظروا حق النظر وعملوا بموجب العلم لكان التواضع بهم أولى ومجانبة العجب بهم أحرى؛ لأن العجب نقص ينافي الفضل. الصفة الحادية عشرة: أن لا يبخل بتعليم الناس ما يحتاجونه مما يحسن علمه ولا يمتنع من إفادة من يريد أن يستفيد، فإن البخل بالعلم ظلم ولؤم، والمنع منه حسد وإثم، وكيف يسوغ للخطيب أن يبخل بما علمه الله -تبارك وتعالى- وآتاه من

فضله، وكيف يسوغ له أن يكتب ما تعلم والله تعالى يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187)، وقال متوعدًا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة: 159). وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يأمر بالتبليغ يقول: ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) وكان يحذر من كتمان العلم فيقول: ((من سأل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار)). ومن أهم الصفات التي يجب على الخطيب أن يتحلى بها: الصبر، فالصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى مهم جدًّا للداعية الخطيب، ولقد قرن الله -تبارك وتعالى- الأمر بالصبر بالأمر بالدعوى لنبيه -عليه الصلاة والسلام- حين كلفه لأول مرة بالدعوة قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 1 - 7)، ونهى الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن الاستعجال فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35). ولا يختص الصبر بعدم استعجال الفائدة بل الصبر على الأذى الذي قد يبتلى به الخطيب، فإن الله تعالى قال على سبيل المدح حاكيًا عن لقمان الحكيم وهو يقول لأبنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17)، يعني إذا كملت نفسك بعبادة الله فكمل غيرك واصبر على ما ينزل بك من الشدائد والمحن، لا سيما فيما أمرت به؛ إذ كل ما ذكر مما عزمه الله وقطعه وأوجبه على عباده من الأمور، ومع هذا فهي من مكارم أهل الأخلاق الفاضلة وعزائم أهل الحزم السالكين طريق

الفلاح {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام: 34)، ما يسكن به قلبك، ولقد احتمل صلى الله عليه وسلم في دعوته للحق الكثير الكثير من الشدائد والأذى، وما كان شيء من ذلك يضعف من عزيمته أو يثبطه في دعوته، فكذلك الداعية الخطيب يجب عليه أن يوطن نفسه على احتمال المكاره وأن يواصل السير في سبيل دعوته مهما لاقى من صعاب وناله من أذى، وعليه أن يصبر على تأخر الثمرة وتأخر الفائدة، فإن الله قال لنبيه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (غافر: 77)، لقد كتب الله ولا مبدل لكلماته {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21)، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171 - 173)، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 250). هذا، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 6 تابع: الخطيب وصفاته.

الدرس: 6 تابع: الخطيب وصفاته.

صفات الخطيب الفطرية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (تابع: الخطيب وصفاته) صفات الخطيب الفطرية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فلكل خطيب متميز خصوصيته؛ مهما كانت الأفكار بديعة والابتكارات متميزة، والاختيارات قوية، والأسلوب رصينًا، والإلقاء عاليًا؛ فلنْ تَتَحَقّق المثالية للخُطبة بهذه العناصر وحدها؛ لأنّ هُناك عَاملًا مُهِمًّا لا يجوز إغفاله إنه: "خصوصية الخطيب وانفراديته" وبعبارة أخرى: انصهارية هذه العناصر وانسجامها. وهذا لا يتأتى إلّا من خِلال الخَطيب وشخصيته، وتَكامُل مَوهِبَتِهِ وخصائصه العلمية والفنية. إنّ الخُطبة كاللباس المفصل على القامة؛ لا يظهر جماله ولا يتكامل بناؤه، إلّا بقدر انسجامه على بدن اللابس؛ إنّ جَودَة اللباس وحسن لونِهِ ونَوعَ خِياطَتِهِ ودِقّة تفصيله لا تكفي في إعطاء الملبس الحَسن إلا بعد اتساق ذلك مع قامة اللابس وبدنه، ولهذا فإنّ الخُطبة الجيدة مستوفية العناصر لو ألقاها غير صَاحِبها لما ظهرت بذات القوة والتأثير والجمال والتأثر. إذا كان الأمرُ كذلك فيَنْبَغي للخَطِيبِ المُتطلع للنُّبوغ والإبْدَاع أنْ يَعْرِف مَواهِبَهُ الخَاصّة، ويُحْسِن صقلها وتنميتها، ويَسْتَقِلّ بالابتكار والاختيار والأسلوب والإلقاء؛ لأنّ المُدَاوَمة على التّقليد والمُحاكاة، وإطالة الاقتباس لا تُنتج خَطيبًا متميزًا ذا خطب مثالية، وهذا عرض لما ينبغي أن يكون عليه الخطيب من صفات، وما يتحلى به من آداب، وصفات الخطيب تنقسم إلى نوعين: صفات فطرية: وصفات مكتسبة. أما الصفات الفِطرية: فيُقصد بها الصفات الذاتية لدى الخطيب؛ من الاستعداد الفطري، والسليقة الطبيعية، من طلاقة اللسان وفصاحة المنطق، وثَبات الجَنَان، وصَوتٍ جَهُوري، وأداء مُتَوثّب، ولسان مُبين سليم من عيوب الكلام كالفأفأة والتأتأة؛ لتكون مَخَارج الحروف عنده صحيحة.

فليست الدعوة فنًّا مُكتسبًا من الفنون التي تشيع بين الأفراد والجماعات، ولو كانت كذلك لما عَرفَ النّاسُ شَيئًا عن الدعوة، ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- قادة الدعاة وسادتهم، وبهم وعلى أيديهم انتشرت الدعوة في آفاق الأرض وظلت رايتها تخفق فوق ربوعها ردحًا طويلًا من الزمن. وهذا شيء لا يَعْلَمُه إلا الله تعالى وحده في سرائر الناس؛ فإذا علمه أظهره بتيسير كل سبيل إلى إظهاره؛ فيكون الاصطفاء منه للداعية، وأعظم الدعاة هم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا- وهم الصّفوة المُختارة المُجتباة، الذين هَيّأهم اللهُ لحَمْل رِسَالاته والدعوة إليها، وفي هذا يقول رَبُّنَا سُبحانه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} (آل عمران: 179). وتوكيدًا لهذا المعنى يجعل مَناطَ الرِّسَالَة المُكَلّف بإبْلَاغِهَا والدّعْوة إليها ممّا اخْتَصّ نَفْسَه الشّريفة بعلمه؛ فَلا يُطْلِعُ على ذلك أحدًا من خلقه؛ إلا بعد أن يُرى الداعية حقيقة ماثلة أمام الناس جميعًا، وفي هذا يقول ربنا سبحانه: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) وهذه الموهبة لا تظهر للناس إلا بإذن ربها؛ فإذا كان اختيار الله للداعية إن كان نبيًّا مرسلًا من عنده كان الإذن بإبلاغ الرّسَالة التي أمر بإبلاغها: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} (الرعد: 38). فتظهر المَوهبة ويتداعى النّاسُ الذين تسقط الغشاوة عن قلوبهم إليها، في رجاء وصدق. أمّا الذين يُمسكون على غَشاوة قلوبهم بأيديهم؛ فإنهم يَظَلُّون في منأى عنها، ومشيئة الله -عز وجل- تقضي أن تقع الخلائق كلها في قبضتها، ومنها موهبة الداعية؛ فلا تسلك الناس في نظامها إلا إذا شاءت، وهذه الموهبة تظل منتظرة الإذن من ربها أن يظهرها أو يلهمها أن تظهر، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} (الفرقان: 51).

إعداد الخطيب الداعية عقليا.

فالخطابة من المواهب الفِطرية؛ فبَعْضُ النّاس يُخْلَقُ خَطيبًا بفطرته، وهذه الطبيعة توفر عليه جهدًا كبيرًا في حصوله على كمال هذه الصفة، ومن النّاس من يُحْسِنُ الكِتَابة وتشقيق الكلام؛ فيمَا يُعَبّر عنه من المعاني، ولكنه لا يحسن إلقاءه ولا مواجهة الناس به، ومنهم من يرتج عليه إذا وقف خطيبًا، وإذا تحدث في مجلس أجاد الحديث، ومنهم من لا يستطيع هذا ولا ذاك، وهذا النوع يتجنب الخطابة أصلًا، أما الآخرون فيحتاجون إلى تدريب وتكوين عام حتى يحسن الخطابة. والشخص الموهوب أقوى وأقدر على أي حال، ولا يعني هذا أن الخطيب الموهوب يستغني عن مؤهلات الخطابة ومعرفة قواعدها وطرق إلقائها؛ فهناك أمور خاصة لا يكون الخطيب خطيبًا بغيرها، وليس الإلقاء الجيد كافيًا في جعل الخطبة ناجحة مقبولة؛ حتى تقترن به الصفات الأخرى الآتية. ومما لا شك فيه أن الهِبةَ الطّبيعية تنميها المرانة، وتزكيها المزاولة مثل البِذْرَة الحَيّة التي تَنْبُت وتَزكُو إذا بذرت في تربة خصبة وجو صالح؛ فإذا كان الخطيبُ موهوبًا هذا الفن؛ فهو بإذن اللهِ يَصْعَدُ عاليًا لما آتاه الله من فضله، وأمّا إذا كان الخطيبُ مُكتسبًا لها غير موهوب؛ فإنه يجد نصيبًا ولكن البون شاسعًا بينه وبين الموهوب، إلّا إذا كان الجدُّ حليف المكتسب، والكسل والخمول ضجيع الموهوب؛ فإنّه لا محالة من السبق للمكتسب في الميدان. إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا ثانيًا: إعدادُ الخطيب الداعية عقليًّا: لا شك أنّ الخطيب في أمس الحاجة إلى الإعداد العقلي، وأهم مظهر لذلك هو الذكاء العام أو الحكمة؛ معنى هذا أن يكون لديه الاستعداد لحُسن التّصرف حينما يُواجه بأي أمر من الأمور، خاصة الحرجة منها، والخَطيبُ النّاجح يحتاج إلى الذكاء بكل أنواعه، سواء أكان نظريًّا أو عمليًّا أو اجتماعيًّا، طالما أنه يتعامل مع مسائل وقضايا نظرية، ومع مواقف وأمور عملية حسية، ومع مواقف ومشكلات اجتماعية.

ومما يزيد من حالة الخطيب إلى الذكاء بأنواعه الثلاثة كما ذكرنا هو: اشتغاله بأمور علمية ونظرية، وتعرضه لكثير من الأسئلة، وتوقع الناس منه أن يكون مصدرًا موثوقًا منه للإجابة على أسئلتهم، وأن يكون سريع البديهة، لبقًا في حديثه؛ كيسًا فطنًا، حذرًا، حسن التدبير يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويدعو إلى ربه على أساس من الحكمة والبصيرة والعلم، امتثالًا لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِي لِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108) ويتوقع المُجتمع منه بالإضافة إلى كل هذا أن يُساهم في إثراء الفكر، وبث الوعي، وتجديد الثقافة. وهو لا يستطيعُ أن يفوزَ بكل هذا بدون درجة عالية من الذكاء الفِطري والمُكتسب. ومِمّا يَدُلّ على أهمية الناحية العقلية عند إعداد الخطيب: ما قاله أحدُ البَاحِثين: "إنّ الإيمان بالله ليس غريزة فطرية فحسب بل هو ضرورة عقلية كذلك، وبدون هذا الإيمان سيظل هذا السؤال الذي أثاره القرآن قلقًا حائرًا بغير جواب: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (الطور: 35، 36) وليس لهذا السؤال إلّا جَوابٌ واحد لا يَمْلِكُ الإنسان إذا ترك ونفسه إلّا أن يجيب به كما فعل المشركون أنفسهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيم} (الزُّخرُف: 9). ولقد عَلّم القرآن الكريم الخطيب الداعية كيف يستدل على وجود الله عز وجل. وكيف أنه دعا العقل إلى التفكير والبحث والتأمل في الكون وكشف أسراره، قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَت * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت} (الغاشية: 17 - 20)

وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون} (البقرة: 164). ليس هذا فقط؛ بل إن القرآن الكريم كرر لفظة "الألباب" ست عشرة مرة، ولفظة "العقل" وما يشتق منها تسعًا وأربعين مرة، ولفظة "الفكر" وما يتعلق بها ثمانية عشر مرة. يقول العقاد: "وفريضة التفكير في القرآن، تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف، بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ فهو يُخاطب العقل الوازع، والعقل المُدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرّشيد، ولا يذكر العقل عرضًا مقتضبًا، بل يذكره مفصلًا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان". ويَزيدُ العَقّاد الأمر وضوحًا في قوله: "ولكنّ القرآنَ الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه". أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يعمل على إعداد العقل وتنميته في الجيل المثالي، الذي رباه لحمل الرسالة الإسلامية إلى البشر، ومن ذلك: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يلقي بالسؤال على من حضر عنده، فينتبه الجميع إليه، ويُفكرون فيه ويشغلون عقولهم في الجواب، ثم بعد ذلك يُجيب النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما سأل عنه؛ فتقع الإجابة في قلوبهم ولا ينسوها أبدًا. روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وأنها مثل المسلم؛ فحَدّثوني، فوقع الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر: ووقع في نفسي أنها النّخلة؛ فاستحييتُ، ثم قالوا: حدثنا ما هي رسول الله؟ قال: هي النخلة)) فهذا اللون من التعليم النبوي يربي العقل وينميه.

صفات الداعية النفسية.

صفات الداعية النفسية ثالثًا: صفات الداعية النفسية: وهذه الصفات تقوم على أصول ثوابت لا بد منها، وهي: الإيمان: فمن المعلوم يقينًا أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد حين يتغلغل في النفوس، ويُخالط بشاشة القلوب، هو أولُ سِلاحٍ يَتَسّلح به المؤمن الداعية في مواجهة صراع الحياة؛ وفي مُجابهة مغريات الدنيا، سواء أكان الداعية متقهقرًا أو متقدمًا، وسواء أكان مهاجمًا أو مدافعًا، وسواء أكان منتصرًا أو ممتحنًا؛ فبدون الإيمان يبطل كل سلاح، ويبطل كل إعداد وتبطل كل ذخيرة. وأعني بالإيمان أنْ يعتقد الداعية من قرارة وجدانه: أن الآجال بيد الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وأنّ الأُمّة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء، لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الله الحق سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} (التوبة: 51). وعليه أن يردد صباح مساء قول الله -جل جلاله-: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون} (النحل: 61). فبهذا الاعتقاد وبهذا الشُّعور يتحرر المؤمن من الخوف والجبن والجزع، ويتحلى بالصبر والشجاعة والإقدام؛ كما أعني بالإيمان أيضًا: أنْ يعتقد المؤمن من سويداء قلبه: أنّ الأرزاق بيد الله -عز وجل- وأنّ ما بسطه الله على العبد لم يكن لأحد

أن يَمْنعه، وأن ما أمسكه عليه لم يكن لأحد أن يعطيه، وأنّ ما قُدّر لا بد أن يمضي، وأن نفسًا لن تَموتَ حتى تستوفي رزقها وأجلها، وعلى المُؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 30)، وأن يردد صباح مساء قول الله سبحانه: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (المُلك: 21). فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرر المؤمن من الحرص الزائد على الدنيا، والإلحاح في الطلب؛ ويتحرر أيضًا من الشُّح النفسي، والتقتير المزري، والإمساك الشائن، ويتحَلّى بمعاني الكرم والإيثار والعطاء، بل يرى السعادة في القناعة، وعيش الكَفاف؛ فإذا قنعت النفوس رضيت بالقليل وكفاها اليسير. وأعني بالإيمان كذلك: أن يعتقد المؤمن من أعماق أحاسيسه ومشاعره أن الله سبحانه معه، يسمعه ويراه، ويَعْلَمُ سِرّه ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق سبحانه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: 7)، {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} أي: بصفاته بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته. أما هو -سبحانه وتعالى- فعلى العرش استوى كما أخبر عن نفسه سبحانه وتعالى. وعلى المؤمن أن يردد صباح مساء قول الله سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} (الأنعام: 59). فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرر المؤمن من ربقة الهوى، ونزغات النفس الأمارة بالسوء، وهمزات الشياطين؛ وفِتنة المال والنساء ويتحلى بالمراقبة لله

والإخلاص له، والاستعانة به، والتّسليمِ لجَنابه ويندفع بكليته إلى العمل بكل أمانة وجدية وإتقان، بل يَكُون إذا مشى في الناس إنسانًا سويًّا وبرًّا تقيًّا، وريحانة طيبة الشذى، وشامة في المجتمع يُشار إليه بالبنان. بل يتمثل ما تمثل به شاعرنا الإسلامي حيث قال: إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَومًا فَلا تَقُل ... خَلَوتُ وَلكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَلُ ساعَةً ... وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ يَغيبُ فعَلى هَذه المَعاني من الإيمان؛ يَنْبَغِي أن يتكونَ الدّاعية ويُواجه بها صراع الحياة. الصفة الثانية: الإخلاص: والإخلاص في حقيقته قوة إيمانية، وصراع نفسي يدفع صاحبه بعد جذب وشد إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية، وأن يترفع من الغايات الذاتية، وأنْ يَقْصِدَ مِن عمله وجه الله -عز وجل- لا يَبْغِي من ورائه جزاء ولا شُكورًا، وإذا استمر المخلص على هذه الحالة من المجاهدة والتغلب على وساوس الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء؛ يصبح الإخلاص في أعماله كلها خلقًا وعادة، بل تصبح الأعمال التي تصدر عنه خالصة لله رب العالمين، دون أن يجد في ذلك أي تكلف أو مجاهدة، يقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين} (الزُّمَر: 2) ويقول سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (غافر: 65) ويقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (البيِّنة: 5) ويقول سبحانه: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110). والعمل الصالح هو ما وافق السنّة، والنّهيُ عن الشرك أمر بضده، وهو الإخلاص لله عز وجل، ومُوافقة السُّنة والإخْلَاصُ لله شرطان أساسان في قبول

الأعمال، ولذلك قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قول الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (المُلك: 2) قال: يعني أخلصه وأصوبه؛ فإذا كان العمل خالصًا وليس صوابًا لم يكن مقبولًا، وإذا كان صوابًا وليس خالصًا لم يكن مقبولًا حتى يكون خالصًا وصوابًا. قيل: يا أبا علي، ما الخالص؟ وما الصواب؟ قال: الخالص ما ابتغي به وجه الله، والصّوابُ ما وافق هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- لا يَقْبَلُ منَ العَمَلِ إلّا ما كان له خالصًا وابْتُغي به وجهه))، وحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) من الأحاديث المشهورة: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دُينا يُصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). ولكن ما هي مواصفات المُخْلصين الدعاة؟ يجبُ على الدعاة أن يدركوا هذه الحقائق: أولًا: أن يقصدوا من دعوتهم وجه الله. ثانيًا: أنْ تكون جميع تصرفاتهم وأعمالهم وسلوكهم الاجتماعي على وفق شريعة الله. ثالثًا: أن يُحاسبوا أنفسهم بشكل دائم، وأن يتساءلوا ماذا يريدون من تبليغ الدعوة؟ وماذا يقصدون من دعوة الناس؟. رابعًا: أن ينظروا إلى أفعالهم؛ هل هي مطابقة لأقوالهم ولسان حالهم؟.

خامسًا: أن يحذروا مكائد الشيطان، ووساوس النفس والهوى وفتنة العجب ومزالق الرياء. فبتقديري أنّ الدعاة إلى الله إذا أدركوا هذه الحقائق واتصفوا بهذه المواصفات، ساروا صادقين في درب الإخلاص؛ ومَضوا مُخْلِصين في طريق الدعوة، وحقّق اللهُ -سبحانه- على أيديهم إصلاح البشر، وهِدَاية الشعوب، بل النّاسُ يتأثرون بهم، ويَسْتَجِيبُون لدعوتهم، ويَقْبَلونَ هُدى الله -عز وجل- طائعين مختارين. ثالثًا: الصّبر: والصبر قوة نفسية إيجابية فعالة؛ تَدْفَعُ المُتحلي بها إلى مقاومة كل أسباب الخور والضعف، والاستكانة والاستسلام، وتَحْمِلُه على الصمود والثبات أمام الفتن والمُغريات، وأمامَ المحن والمكاره والأحداث، إلى أن يَأذنَ الله له بالنصر، أو أن يلقى الله -عز وجل- وهو عنه راضٍ. لقد سَلَك المُشركون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مسالك شتى في الأذى، وأساليبَ مُتنوعة في الاضطهاد؛ ليَصُدّوه عن دعوته؛ ويُثنوه عن أداء رسالته؛ فمَا استَكَانَ وما خضع؛ حتى بعد أن أذن الله له بالهجرة، حاربوه بحملات مُتعددة، وحروبٍ طاحنة؛ ليستأصلوا دعوته وأتباعه، فما كان ذلك يرده عن تبليغ الدعوة ونشرها في الأرض، وظل -صلى الله عليه وسلم- صابرًا داعيًا مجاهدًا محتسبًا، ماضيًا في طريق إعزاز دين الله؛ حتى جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا. ألا فليتخذ الدُّعاة من مواقف صاحب الدعوة -صلى الله عليه وسلم- قدوة وأسوة، إن أرادوا أن يبنوا لأمّتهم مجدًا، ولبلاد الإسلام عزًّا وللمسلمين وحدة وقوة ومكانة، فإن الله -تبارك وتعالى- أمر المؤمنين بالتأسي بالنبي الأمين؛ فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21).

إنّ الابتلاء سُنّة من سُننِ اللهِ الكونية، التي لا تتبدل ولا تتغير؛ ولكنها يَعْقُبها دائمًا النصر والتأييد والتمكين. ولذلك سُئلَ الإمام الشّافعي -رضي الله عنه-: أيهما أحب إليك أن يبتلى الرجل ثم يُمكن، أم يُمكن ثم يبتلى؟ فقال: لا يُمكن حتى يبتلى، ثم قرأ قول الله -عز وجل-: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين} (العنكبوت: 2، 3) ولقد كان من وصايا لُقْمَان الحكيم لابنه وهو يَعظه: أنه وصاه بالصبر بعد أن أمره بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومدحه الله تَعالى على هذه الوصية، وسَجّلها في كتابه؛ فهي تُتْلَى ويتقرب بتلاوتها إلى الله إلى يوم الدين: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} (لقمان: 17). والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتلاه الله على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)). ولقد أوذي المؤمنون الأولون من المهاجرين أيما إيذاء، فصبروا واحتسبوا ولما جاءوا يشكون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما زاد على أن ذكرهم بما كان يُصيب المُؤمنين من السابقين من الأذى، وكيف صبروا حتى أتاهم نصر الله، يقول الخباب بن الأرت -رضي الله عنه-: ((شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتوسد بُردة له في ظل الكعبة؛ فقلنا: يا رسول الله، ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: قد كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يُؤتى بالمِنْشَار؛ فيوضع على مفرق

رأسه، فيُفْرَق فرقتين؛ ثم يُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحديد ما لحمه وعظمه؛ ما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتِمّن الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)). رابعًا: الصدق: لقد أمر الله -تبارك وتعالى- بالصِّدْقِ ومَدَح أهْلَه وبَيّنَ جَزاءهم؛ فقال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين} (التوبة: 119) وبين -سبحانه وتعالى- أنه في يوم القيامة ينفع الصادقين صدقهم، وأنهم سيفوزون برضوان الله والجنة: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} (المائدة: 119). وحقيقة الصّدق حصولُ الشّيءِ وتَمَامُه، وكَمَالُ قُوّتِهِ واجْتِمَاعُ أجزائه، هكذا قال ابن قيم الجوزية في "مدارجه"، ويكون الصدق في القصد والقول والعمل، ومعناه في القصد: كمال العزم، وقُوّةُ الإرَادِةِ على السير إلى الله، وتَجَوّز العَوائق؛ ويكون ذلك بالمُبادرة إلى أداء ما افترضه الله عليه، وفي مقدمته الجهاد في سبيله، ومن الجَهاد في سبيل الله: الدَّعْوَةُ إلى الله -عز وجل. أما صدق القول فمعناه نطق اللسان بالحق والصواب، فلا ينطق بالباطل أي باطل كان، ويَكُونُ الصِّدْقُ في الأعمال بأنْ تَكُونَ وِفْقَ المَناهج الشرعية، والمُتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا ما تحقق للمُسلم الصدق في القول والقصد والعمل، أدّى به ذلك إلى درجة أخرى في الصديقية، وهي التي أمر الله عباده المؤمنين بطلبها؛ موجهًا -جل جلاله- خطابه إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (الإسراء: 80).

خامسًا: الرحمة: وهي من الصفات الضرورية للداعية؛ وبها يُقبل الناس عليه، وبغلظته وفظاظته ينصرفون عنه، ولذلك كان رسل الله أرحم خلق الله بخلق الله، ولقد قال الله تعالى عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيم} (التوبة: 128) وامتن عليه بهذه الرحمة التي فطره عليها فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159). فالداعية لا بُدّ أنْ يَكونَ ذا قلبٍ يَنْبِضُ بِالرّحمة والشفقة على الناس، وإرادة الخير لهم والنصح لهم، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام، لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار، وفوزهم بالجنة. إنّ الداعيةَ يُحِبّ للناس ما يحب لنفسه، وأعظم ما يحب لنفسه الإيمان والهدى؛ فهو يحبُ ذلك للناس أيضًا. إن الوالد من شفقته على أولاده يحرص على إبعادهم عن الهلكة، ويُتْعب نفسه في سبيل ذلك، وأي هَلكة أعظم من الضلال والتمرد على الله، والدّاعي بدعوته إنما يسعى لتخليص المُتمردين العُصاة من الهلاك المحقق والخسران المبين. ومنْ أهَمّ الصفات النفسية للداعية: قوة الملاحظة؛ ليدرك أحوال السامعين عند إلقاء خطبته؛ أهم مقبلون عليه؟ فيسترسل في قوله، أم هم مُعرضون عنه فيَتّجه إلى ناحية أخرى، وحُضور البديهة لتُسعفه بالعلاج المطلوب، إنْ وَجَد مِنَ القَوْمِ إعراضًا، والدواء الشافي إن وجد منهم اعتراضًا، وقد يُلقي الخطيبُ خُطبته فيعقب بعض السامعين معترضًا أو طالبًا الإجابة عن

آداب تتعلق بالخطيب أثناء خطبته.

مسألة؛ فإذا لم تقدم البديهة الحاضرة كلامًا فيما يسد به الخلة، ويدفع به الزلة ضاعت الخطبة آثارها. وطلاقة اللسان فاللسانُ أداة الخطيب الأولى؛ فلا بُد أن تكون الأداة سليمة كاملة؛ ليتسنى له استعمالها على أكمل وجه وأتمه، ورَباطة الجأش؛ فيَجِبُ أنْ يَقِفَ الخَطِيبُ مُطمئن النفس، غير مضطرب ولا وجل، وإلّا لم يستطع ملاحظة السامعين، وأثر كلامه فيهم، وهم إن أحسوا بضعفه واضطرابه صَغُر في نظرهم، وهان هو وكلامه في أعينهم. آداب تتعلق بالخطيب أثناء خطبته وهناك آداب تتعلق بالخطيب أثناء خطبته وهي: سداد الرأي، وصدق اللهجة، والتودد للسامعين؛ فعلى الخَطيبِ أنْ يُراعي أحوال الجمهور، وأن يَتودد إليهم، وأن يتقرب منهم، وأن يُخاطبهم على قدر عقولهم؛ وأن يُراعي أحوالهم، وآداب الخطيب مع الجمهور كثيرة؛ من أهمها: أن يصرف من يريد إرشاده عن الرذيلة إلى الفضيلة بتلويح في المقال، وتعريض في الخطاب ما أمكن؛ فالتعريض في ذلك أبلغ من التصريح، فإنّ التّأمُّل فيه إذا أداه إلى الشعور بالمقصود منه، كان أوقع في نفسه، وأعظم تأثيرًا في قلبه، وأدعى إلى التنبيه للخطأ، مع ما فيه من مراعاة حُرمة المُخَاطَب بترك المُجاهرة بالتوبيخ؛ وأيضًا التعريض لا تنتهك به سجف الهيبة، ولا يرتفع معه ستر الحشمة. أما صريح التوبيخ والتقريع الشديد العنيف؛ فقد يورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويُهَيّجُ الحِرْصَ على الإصرار، والبقاء على ما هو عليه، ولا سيما

النفوس المُنطوية على الكِبْر، ألا ترى قول الله تعالى في شأن ذلك الرجل الغيور على دين الله والدعاة إليه: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُون * وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُون * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} (يس: 20 - 24). ألا ترى أنّ هذا الرجل قد وجه الإنكار إلى نفسه، في حين أنه يريد القول أنه لا يتّخِذُ من دون الله آلهة يعبدها، ويترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطره مبينًا حال هذه الأصنام التي يَعْبُدها القوم من دون الله سبحانه، إنكارًا عليهم، وبيانًا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم؛ ثُمّ يُبين أنه إذا فعل ذلك كان في ضلال مُبين. ومن آداب الداعية مع السامعين: التلطف في القول، والرفق في المعاملة، مع تحري الإقناع. فلهذا شأنه في نجاح المرشد في مقام الدعوة إلى الخير، والقرآن الحكيم يرشد إلى ذلك في مواضع كثيرة؛ تأمل قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) أي: أحسن طُرق المُناظرة والمُجادلة من الرفق واللين؛ ليَسْكُن شَغبهم وتلين عريكتهم، وهذا بالنسبة للمعاندين المجادلين بالباطل. وتأمل قول الله تعالى: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} (سبأ: 25) وَهَذا أبلغُ في الإنصاف، وأبعد من الجدل والاعتساف، حيث أسند فيه الإجرام إلى أنفسهم، ومُطلق العمل إلى المخاطبين؛ مع أنّ أعْمَالَهُم أكْبَرُ الكبائر؛ فما بعد هذا التطلف طريق يُسار فيه، ولا وراء هذا الرفق غاية ينتهى إليها.

إعداد الخطيب علميا وثقافيا.

ومنها أن يذكر الداعية من يريد نصحه وتذكيره بخير، ويصفه بالجميل؛ كأن يُبَيّن له ما له من حسب، وما فيه من فضل؛ وما عليه من نعمة؛ ليَجْذِب قلبه إليه، ويعده بذلك لقبول الموعظة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِين * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُون} (البقرة: 47، 48). إعداد الخطيب علميًّا وثقافيًّا خامسًا: إعداد الخطيب علميًّا وثقافيًّا: من الصفات الهامة للخطيب التي يَجِبُ أن يَتحلّى بها، ونَعمل على إعداده من خلالها: أن يكون لديه القدر الكبير من العلم والثقافة الواسعة، التي تُدَعّم رسالتها، وتُكسبه وعيًا من مشكلات مجتمعه، وقضايا عصره، وبالواقع المحيط به من جميع نواحيه الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إذ بقدر سعة ثقافة الخطيب والداعية يكون نجاحه في تبليغ رسالة ربه، وتأدية أمانته، ويكون التأثير فيمن حوله أمرًا ملحوظًا؛ فهو إذا ناقشهم أقنعهم، وأثّر فيهم بسعة ثقافته ووعيه؛ وأجابَ على أسئلتهم، وعلى ما يَشْغَلُ بالهم إجابة الواعي الواسع في علمه واطلاعه، وإذا تكلم في أمر من أمور الدين تكلم بلغة العصر الذي يعيشه، وعن وعي بشمولية تعليم الدين ومرونتها، وقدرتها على الاستجابة لمقتضيات الزمان والمكان في كل عصر، وعن وعي بالواقع الذي يعيش فيه ومشكلات هذا الواقع. من أجل هذا نادى المربون الذين لم يألوا جهدًا في الحث على طلب العلم، والتوسع فيه على مدى الحياة.

وفي بيان أنجح الوسائل والطرق لاستكمال التعليم وتوسيع الوعي والثقافة العامة، قال الله تعالى في أول ما أنزل على رسوله من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} (العلق: 1 - 5). ولَقد أمَرَ اللهُ تَعالى رَسُوله -صلى الله عليه وسلم- أن يطلب منه الزيادة من العلم فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) وقد استجاب -صلى الله عليه وسلم- فكانَ إذا انصرف من صلاة الصبح قال: ((اللهم إني أسالك علمًا نافعًا وعملًا متقبلًا ورزقًا طيبًا)). وأكثر -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه من الترغيب في طلب العلم وحضور مجالسه، من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهل الله له طريقًا إلى الجنة)). ((نضر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه؛ فرب مبلغ أوعى من سامع)). ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)). ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله تعالى، ويتدارسونه فيما بينهم؛ إلّا نَزَلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)). من هذا المُنطَلق يَجِبُ أنْ نُعِدّ الخطيبَ علميًّا وثقافيًّا على أسس علمية رشيدة منها: أن يحفظ كتاب الله عز وجل؛ فإن حفظ القرآن الكريم أول خطوة في طريق طلب العلم، على هذا سار السلف حتى ذكر الخطيب البغدادي -رحمه الله- وغيره من العلماء أن الطالب كان إذا أتى العالِم فقال: علمني. سأله: أحفظت القرآن؟ فإن قال: لا، رده وإن قال: نعم امتحنه. ثانيًا: أن يحفظ الخطيب الداعية ما يمكنه حفظه من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وننصح بحفظ كتاب رياض الصالحين، واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان.

ثالثًا: أن يَهْتَمّ بدراسة العقيدة، حتى يقدمها لجمهوره خالصة وننصح بدراسة هذه الكتب، كتاب (الشريعة) للآجري، (عقيدة السلف أصحاب الحديث) للصابوني، (العقيدة الواسطية) لابن تيمية، كتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لابن خزيمة، (شرح العقيدة الطحاوية)، (معارج القبول) للشيخ حافظ الحكمي. رابعًا: أن يهتم الخطيب الداعية بدراسة علوم القرآن، وننصح بدراسة هذه الكتب (مقدمة أصول التفسير) لابن تيمية، (القواعد الحسان في تفسير القرآن) للسعدي، (مباحث في علوم القرآن) لمناع القطان، (تفسير الجزائري)، (تفسير السعدي)، (مختصر ابن كثير) للرفاعي. خامسًا: أن يهتم بدراسة الفقه، وننصح بدراسة هذه الكتب (الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز)، (الروضة الندية شرح الدرر البهية) صديق حسن خان، (سبل السلام شرح بلوغ المرام) للصنعاني، (زاد المعاد) لابن القيم. سادسًا: أن يهتم بدراسة هذه الكتب من أجل ثقافته العلمية الشرعية: (مختصر منهاج القاصدين)، (إغاثة اللهفان)، (مفتاح دار السعادة)، (اجتماع الجيوش الإسلامية)، (الإبداع في مضال الابتداع)، (هداية المرشدين)، (الاعتصام). فإن نَحْنُ أخذنا أنفسنا بهذه الأسس والأصول في إعداد الداعية؛ وفّقنا بإذن الله -عز وجل- لتخريج كم هائل من الدعاة المخلصين الذين تربوا على الكتاب والسنة، فنفعوا أنفسهم ونفع الله -تبارك وتعالى- بهم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 7 الخطابة في الجاهلية والإسلام.

الدرس: 7 الخطابة في الجاهلية والإسلام.

الخطابة في العصر الجاهلي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الخطابة في الجاهلية والإسلام) الخطابة في العصر الجاهلي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: أولًا: الخَطَابَةُ في العَصر الجَاهلي: كل ظاهرة في الأمة ترجع إلى عاملين: عنصرها، والبيئة التي أظلتها، ولذلك يَجِبُ أنْ نُلِمّ إلمامَة مُوجزة في هذا المقام بمزاج العربي وبيئته؛ لنَعْرِفَ هل فيهما ما يدعو إلى الخطابة والبيان؟ فنقول: البلاد العربية كان أكثرها صحراء جرداء، يندر فيها النبات والماء، وتكثر الجبال والوهاد والرمال ورمضاؤها، ولذلك كان سكان هذه الصحراء في شظف من العيش، وقلة من الزاد، واكتفوا من الحياة بالكَفَاف، ورَضُوا بالقَنَاعة، واطمئنوا إلى الخشونة مع العزة. ولعدم المواصلات في الصحراء، وتقطع أسباب الاتصال لم تكن عند سكانها جامعة تجمعهم تحت حكم دولة واحدة؛ بل كانت كل قبيلة كأنها أمة وحدها، تَخْضَعُ لزَعيمها، وتُقَدّم له الطاعة، وله فيها الكلمة النّافذة، وما كان اختيارهم زعيمًا لهم إلا تنفيذًا لقانون الانتخاب الطبيعي، إذ يرأس القبيلة أقواها عقلًا، أو أشدها في الهيجاء بطشًا، أو أكثرها تمرسًا بتجارب الحياة وفنونها. وعَلاقة القبيلة بمن سواها من تنازع على مواقع المطر، ومواطن الكلأ أو احتكاك صغير قد يؤرث عداوة، ويَخْضِبُ الأرضَ بالدماء. وأطراف الأرض العَربية كانت مَسْكُونة بقبائل عربية من الشام؛ فيها خَصْبٌ عَظيم، ولذا تكونت بها حكومات، ولكن هذه الحُكُومات قبيل الإسلام، كانت واقعة تحت سلطان فارس والروم، ولا بُدّ أن نتصور أن الخضوع للأجنبي ليس من طبع العربي، ولا يلائم فطرته؛ لذلك كان ألئك العرب الواقعون تحت سلطان الأجنبي في تململ راغبين في الانسلاخ من سلطانه.

ومكّة المُكرمة وما حولها للخصب القليل بها، ولِمَا كَانَ يَفِدُ به الحجيج عليها من خيرات وثمار، ولِوُقوعِهَا في الطريق الموصل بين اليمن والشام، وتُجّارِ قُريش؛ لهذا كُلّه كان بها ثروة وسلطان، وشِبه حكومة الرياسة فيها لأكبر بيت في قريش، وكان بمكة المكرمة دار ندوة يجتمع فيها زعماء العرب، وإقبالهم من كل نواحي البلاد. هذه إلمامة موجزة أشد الإيجاز لبيئة العرب وأحوالها. أما العربي: فعَصَبِيُّ حاد يَثُور لأتْفَهِ الأسباب، ويَحْمِلُ السّيف عند أول نداء، إذا استولت على رأسه فكرة نفذها من غير تدبر لعواقب، أي لا يرضى ضيمًا، ولا يَسْكُن إلى ذل، جوادٌ كريم، يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة وفقر، يرعى حرمة الجوار ويفي بعهده، قال فيه بعض الفرنجة: إنه نبيل بفطرته، وقد مكنته صحراؤه وضعف السلطان فيها من أن يعيش عيشة فروسية، اعتماده في الحماية على سيفه، لا على حكومة تحميه، ولا على دولة ترعاها. ولقد كان فيه بعض المساوئ سببها له جهله وأميته، أو فقره وإدقاعه؛ كقتل الأولاد خشية الإملاق والحاجة. هذا هو العربي وتلك حياته وبيئته، وهي لعمري حافزة للخطابة مستثِيرة البيان الرائع. وإذا علمت أنّ العرب كانت لهم دَار نَدْوة يَجْتَمِعون فيها ويتشاورون ويساجلون ويقررون ما يرون صالحًا، ولهم أسواق هي شبيهة بالمنتديات الأدبية؛ كانت منابر عامة تروج فيها بضاعة الكلام البليغ، وتُزْجَى فيها غَيْرُها كانت في العرب مساوئ -كما أسلفنا- وكانت بالغة الحد الأعلى من الشناعة، وقد نعاها القرآن الكريم عليهم، وكان بعضهم يستنكرها عليهم قُبيل الإسلام، لذلك تصدى هؤلاء للدعوة بخطب رائعة إلى الفضيلة والحث عليها، ونبذ العادات السيئة والخرافات الباطلة. وربما كان أظهر هؤلاء الدعاة أكثم بن صيفي، وقس بن ساعدة.

وقد كانت قوة إحساس العربي وشدة حميته واندفاعه، ومن عيشته في الصحراء صَافية السماء، ومن أعظم الدواعي للخطابة والاتجاه إليها؛ فإنّ قُوّة العَاطِفَة تَدْفَعُ ذا البيانِ إلى تبيانها. وفي الجُملة: إنّ حَياةَ العَرَبيّ في الصّحَرَاء كانَتْ حَياة فرُوسِيّة وقوة شكيمة، دَفعته إلى البيان دفعًا، وكانت الخطابَةُ في الجاهلية لها موضوعاتها التي تعرض لها، من أهم هذه الموضوعات التي كان يَخطب بها الخطباء في الجاهلية: إثارة الحمية، وإيقاظ الحماسة، وتثبيت القلوب. وفي الواقع أنّ العرب قد قاموا في هذا أبلغ كلامهم، وأصدق عبارات دالة على قوة شكيمتهم، وإقْبَالِهم على المَوتِ بنَفْسٍ قَويّة وبأس وحمية، وطَبَعي أن يكون الحث على القتال، والحض على اللقاء، أعظم أغراض القول في أمة تعمد القبيلة فيها السيف فيه الذود عن حياضها، والدفاع عن شرفها، ولا حاكم يَرْدَعُ المعتدي، ويَزْجُر الطّاغِي، بل طبعي أن يكون البأس فخار العربي، والشجاعة شَرَفُه، وأنْ يَكُونَ كُلّ قولٍ خِطابي يتعلق بالشجاعة والقتال أروع بيانهم؛ لأنّ البَدَوي أخَصُّ صفاته البأس والقوة والبطش؛ فلا غرابة في أن تكون أعظم موضوعاته بلاغته. ثانيًا: الصلح: فكثيرًا ما كانت الحربُ تنتهي بالصلح بين المتحاربين؛ يَنْهَضُ به ذووا الرأي والحزم؛ فيحسمون الداء، ويقضون على العداوة التي كانت موجودة بين المُتقاتلين. ومن أعظم الخطباء الذين امتازوا في بالقول في هذا المقام: أكثم بن صيفي، فكثيرًا ما كانت ترد على لسانه في خطبه التي تُشْبِهُ الدُّرّ المَنْثُور مَضَارّ الحَرْبِ ومساوئها الوبيئة، ونفع الصلح وعواقبه المرئية.

ثالثًا: المُفَاخَرة والمُنَاثرة: قد يتَحَدّثُ رَجُلان في أمر صغير أو كبير؛ فيَتَلاحَيانِ ويَشْتَدُّ فخر كل منهما على صاحبه؛ فيَتَحَاكَمان إلى شخص أو جماعة، وكُلٌّ يَتَقَدَّمُ بفخره ومكان شرفه؛ فيُدلي به على مسمع من ذويه، ومن ارتضاه حكمًا، وتُسمى هذه منافرة، وقد كانت كثيرة لدى العرب، ومن ذلك منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، تحادثا ثم تهاجيا ثم تنافرا على مائة من الإبل، يعطيها للحكم أيهما نفر عليه صاحبه، وكانت منافرتهما إلى هرم بن قطبة؛ فألقى كل منهما من بليغ القول ما رأى فيه فخارًا له على ملئ من قومهما. وفي المنافرات كهذه المنافرة ميدان متسع للخطابة والبيان الرائع. رابعًا: الدعوة إلى الفضيلة، ونبذ الخرافات: وقد كان هذا من ميادين القول؛ إذ وُجِدَ من العربِ مُصْلِحُون حُكَمَاء، رأوا ما عليه أقوامهم من انحدار في بعض الشروط، وامتلاء رءوسهم بالخرافات والأوهام الصادرة عن الجهل الموبق، وقد كانت دعوتهم تجري نفوسًا مصغية وقلوبًا صاغية، ومن هؤلاء قس بن ساعدة، وجمع من خطباء عبد القيس، وإياد، أكثم بن صيفي، وكعب بن لؤي جد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكان هذه الدعوة الأسواق التي كانت تعد منتديات العرب الأدبية كما ذكرنا. خامسًا: الدعوة إلى الوحدة العربية: وكثيرًا ما كان ذلك في دار الندوة، وفي وفود العرب على رؤساء القبائل وزعمائها، والملوك من العرب، ورُبّما كان يَقَعُ منها شيء في الأسواق، التي

كانت فُرصة اجتماع، تتلاقى القلوب المتنافرة، وقد اشتدت الدعوة إلى الوحدة العربية قبيل البعث النبوي، عندما اشتد طمع الأجنبي فيهم، وهاجَمَهُم في موضع تقديسهم. وانظر إلى خُطْبَة عبد المُطّلب جَدُّ النّبي -صلى الله عليه وسلم- أمام سيف بن ذي زين، عندما ذهب إليه في وفد من قريش بعد أن أجلى الحبشة عن بلاد العرب، انظر إلى هذه الخطبة ترى فيها دعوة جريئة للوحدة العربية، جاءت في ثنايا المدح والثناء. سادسًا: الرثاء والعزاء: لقَد كانَ العَربِيُّ حساسًا؛ يدْفَعُه ألمُ الفقد فينطق اللسان ببيان محامد من فقده، ومَوْضِع الآلام في نفسه، والرّثاء ميدان واسع للقول البليغ، يَكْشِفُ فيه اللسان عن ألم اللوعة، وحزها في النفس؛ إذ ينفتق بما انفطر به القلب، وانشقت المرائي، وقد يجيء العزاء بالسلوان وتصغير الدنيا وآلامها. كما قال أكثم بن صيفي معزيًا عمرو ابن هند في أخيه: "أيها الملك، إنّ أهلَ هذه الدنيا سفر، لا يحلون عقد الترحال إلا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، ورحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن عنك ويدعك، إنّ الدنيا ثلاثة أيام: فأمس عظة وشاهد عبْل؛ فجعك بنفسه، وأبْقَى لك وعليك حُكْمَه، واليومُ غَنِيمَة، وصديق أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، ومتسرع عنك رحلته. وغدًا لا تدري من أهله، وسيأتيك إنْ وُجِد، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر، وقد مَضتْ لنا أصولٌ نحنُ فُروعُها، فما بقاء الفروع بعد أصولها، واعلم أنه أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله".

سابعًا: الوصايا: قد يُشارف العظم في قومه على الموت؛ فيحس بالمنية فيوصي بنيه وعشيرته، بما يجب أن يكونوا عليه، وقد يرى زعيم القبيلة أن الموت يدب في جسمه دبيبًا، فيجمع قومه وخاصته، ويُلقي إليهم بما يكون كعهد بينه وبينهم، وقد حفظت الآداب العربية للعصر الجاهلي كثيرًا من الخطب في الوصايا، بلغتْ قِمّة البَيان؛ من ذلك وصية ذي الأصبع العدواني لابنه وأوس بن حارثة، ووصية أكتم بن صيفي لقومه. ثامنًا: خُطب الزواج: لقد تَعَوّد الأشْرَافُ عند زواج ذويهم، أن يتقدم ولي الزوج إلى وليها، بخطبة يطلب فيها يد موليته؛ ويُبين مزايا الزوج، ويرد عليه وليها بخطبة كذلك، ويُسمى هذا النوع من الخطب "خطب الأملاك" ومن ذلك خطبة أبي طالب عندما تقدم يطلب يد السيدة خديجة بنت خويلد للنبي -صلى الله عليه وسلم. وهكذا كانت للخطابة في الجاهلية مواقف كثيرة، أهمها ما ذكرنا من اجتماع القوم للتشاور في أمر من أمورهم؛ كالقيام بحرب، أو الإصلاح بين متنازعين، ويأتي في هذه المواقف خطب ومحاورات، ويتبع ذلك الوصايا التي يقدمها رَئيسُ القوم أو حكيمهم لقومه أو لأولاده، وفي أسواقهم كانت تقوم بينهم منافرات والمفاخرات، ويتعالى كل شخص أو قبيلة على الآخر، وكانت هذه تتناول كل شيء، حتى إن الخنساء وهند بنت عتبة تنافرتا في المصائب، وكل ادعت أنها أصيبت أكثر من الأخرى.

خصائص ومميزات الخطابة في الجاهلية.

خصائص ومميزات الخطابة في الجاهلية تظهر قوة البديهة العربية، والقدرة البليغة على الارتجال، وأكثر ما تجد في هذه الخطب أو الوصايا: اتّسَامُها بقِصر الجُمل، وسَرْد الحِكم؛ حتى تَكاد تنقطع الصلة بين جملة وأخرى، وهي في جُملتها خُلاصة تجاربهم وخبرتهم بشئون الناس وأحداث الحياة، وليس في حكمهم بنايات فلسفية عميقة؛ لقلة ثقافتهم وعدم دراستهم، ولكن لهم نظرات صائبة، وآراء حكيمة، لا نزال نحتاج إليها، ونَسْتَعِينُ بها فيما يطرأ لنا من أحداث تُشبه ما طرأ لهم. وكثيرًا ما يأتي السجع في عباراتهم عفوًا؛ فإن لم تكن العبارة مسجوعة كانت الجمل مقسمة متوازنة. وخطب الأعراب وأدعيتهم من أبلغ وأجمل ما في أساليب اللغة العربية، وخطب الجاهليين وأدعيتهم ومحاوراتهم ووصاياهم كلها مما يستعين به الخطيب الحديث، ويَجِدُ فيها مددًا واسعًا بالرأي والفكر؛ وبالتعبير والبلاغة، وعلى الراغبين أن يرجعوا إلى المصادر التي تضمنت تلك الخطب ليستفيدوا منها. وأول ما يلاحظه القارئ للمأثور من خُطَبِ العَرَب في الجاهلية على ألفاظها: قوة وجزالة: تَصِلُ أحيانًا إلى الخشونة، ولعل السبب في ذلك: قُوّة نفوسهم، وشِدّة بأسهم، واندفاعهم في حماسة؛ فإن الكلمات صورة حية لنفس قائلها، تجيش صدورهم بالبأس؛ فتندفع ألسنتهم بكلمات هي الصورة لتلك القلوب القوية الجريئة، ومعيشتهم في الصحراء ببأسائها ولأوائها وشدتها؛ فأصبحوا لا يَرون إلا ما فيها من جبال وآكام ووهاد، فيكون كل ما يصدر عنهم مناسبًا لتلك المناظر؛ مأخوذًا من تلك المشاهد.

ومناسبة تلك الكلمات الجاسية الشديدة، من الموضوعات التي قيلت فيها؛ فأكثرها قيل في دعوة إلى قتال، أو في مُفاخرة بنزال، أو في وصف يوم كريه، أو نحو ذلك. وأنْسَبُ الكلام لهذه الموضوعات ما كان شديدًا قوي الأسر؛ فخمًا ضخمًا؛ ليُقرع الحِسّ ويدفع النفوس إلى حيث تترخص الأرواح، وقد كان في كلماتهم الكلمات الحشوية الغريبة؛ ولعل هذه كانت من لغة حِمير، التي طغت عليها لغة قريش حتى أخذت في الاندثار، وبقي في الخطب والشعر منها كلمات نابية؛ لأنها تعيش في غير بيئتها منفردة عن أخواتها. ونَجِدُ في خطبهم سوق الحقيقة قائمًا وسوق المجانة كاسدًا؛ فألفاظهم إلا قليلًا مُستعملة في ما وضعت له، وذلك لإحاطتهم الكاملة بلغتهم، وعلمهم علمًا صحيحًا بمَدْلُولات الألفاظ، ووجه دلالتها عليها؛ وقِلّة حاجاتهم إلى استعمال لفظهم في مدلول آخر؛ لعدم وجود طوائف من المعاني ليس في العربية ما يدل عليها، وهذا لا يمنع من أن يكون في كلامهم الكنايات الرائعة، والأمثال السائرة، والتشبيهات المُحكمة؛ فإنّ ذلك كان عندهم، ولكن لم يكن كثيرًا في خطبهم لإرسالهم القول ارتجالًا من غير تحضير وتهيئة. أما معاني خُطب الجاهلية؛ فهي فطرية تنشأ عن اللمحة العارضة، والفِكْرَة الطّارِئة، وعفو الخاطِر من غير كدٍّ للفكر، ولا تَعَمّق في النظر، لأنهم لم يكونوا أهل علوم يسودهم التفكير المنظم، والتقسيم المستقري، والتّتبُع لكل أشتات الموضوع؛ ليَجْمَع شَمْلَها في خطبة، ويَضم مُتفرقها في بيان، ولِذَلك جاءت خُطبهم غير متماسكة الأجزاء، وغير مُسلسلة الأفكار؛ لا يَأخُذ المعنى بحجز الآخر في فكر رتيب؛ لتستوفي الموضوع كله.

وأصدق الخطب التي تدل على هذه الحال فيهم: خطب أكثم بن صيفي؛ فإنها حِكَمٌ مُتناثرة بل هي در منثور غير منتظم في عقد، ولكن إذا اتحد الغرض في الخطبة جاء التماسك في الجملة في أجزائها؛ وكثيرًا ما تكونُ الخُطب التي على هذه الشاكلة موجزة كل الإيجاز؛ كخطبة أبي طالب في زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من السيدة خديجة -رضي الله عنها. وقد كانت عدم تماسك أفكارهم من دواعي كثرة الحكم والأمثال في خطبهم، حتى لقد رأيت أن أكثم -كما بينا- كانت خطبته كلها حكمًا، وقد يَسْتَشْهِدُ بَعْضُهم بحكمة عالية لغيره؛ أو بمَثَلٍ سَائِرٍ يضربه؛ ليقايس بين حال من يخاطبهم، وحالِ من قبل من قيل المثل فيهم؛ وأخص ما تمثل به المعاني الخطابية عند العرب صدقها، وعدم وجود الإغراق والمبالغة فيها، وذلك لما فيه من صراحة وحب للصدق والحقيقة. وقد ترى في نصائحهم ووصاياهم معاني اجتماعية، وخُلُقية عالية؛ ولكنها في جملتها ليست مبنية على دراسة وبَحث؛ بل هي صورة لتجارب الحياة، تجيء على ألسنة من غير كد للذهن، ولا تعمق في الدرس. أما أسلوب الخطابة في الجاهلية: فأول ما تلقاه في المأثور من الخطب العربية، أنك لا تجد الخطب قد لوحظ فيها حسن الافتتاح، وتنسيق الموضوع وتجزئته، ثُمّ حُسن اختتامه؛ فإنّ ذلك شأن الخطيب الذي يحبر خطبته، ويزور كلامه ويهيئه ويعده، ولم يكن أكثر خطباء الجاهلية كذلك، بل كانوا يرتجلون الكلام ارتجالًا؛ لذلك لم تكن خطبهم منسقة مجزأة؛ بل كانت في الجملة غير متماسكة لعدم تماسك معانيها. وأسلوبهم الكلامي لا تكلف فيه ولا صناعة، لعدم عنايتهم بتهيئة القول، ولذلك خلا من كل المحسنات اللفظية، كالجناس والتورية؛ وما إلى ذلك مما نص عليه في علم البديع، وكانوا أحيانًا يُسجعون في خطبهم؛ كما نرى في سجع

الكهان، وأحيانًا يأتون بجمل مزدوجة كما نرى في خطب الوفد العربي لدى كسرى، وأحيانًا يُرسلِونَ القَوْلَ أرسالًا، ولكن أيها كان أكثر وأشيع؟! لقد اختلف الأدباء في الإجابة عن هذا السؤال، ففريق يقول: إن السجع والازدواج كان أكثر شيوعًا على ألسنة الخطباء من الأرسال؛ لأنّ المَروي من خطب الجاهلية أكثره مسجوع أو مزدوج، وإنك لا تقرأ ما رواه (الأمالي) و (العقد الفريد) وغيرهم من كتب الأدب منسوبًا إلى العصر الجاهلي؛ فترى أن أوضح ما يظهر في ديباجته السجع والازدواج، ولا يطعن في هذا بالشك في صحة النسبة، أو بالرواية بالمعنى؛ لأن من يقول قولًا على لسان غيره ولو كان كاذبًا يجتهد في أن يكون كلامه صورة قريبة مما يجري على ألسنة من ينحلهم قولًا. فالرواة الذين نحلوا الجاهليين تلك الخُطب لا بد أن يأتوا بكلامهم على النحو الذي يعرفه الناس من العصر الجاهلي، فإذا أتوا بذلك الكلام مسجوعًا؛ فهو يَدُلّ على أنّ الناس في عصر الرواة ما كانوا يعرفون عن خطب العرب إلّا أنّ أكثرها مسجوع، وحَسْبُك هذا دليلًا على شيوع السجع عند الجاهليين. ويَرى آخرون أنّ الأرسال هو الأكثر شيوعًا على ألسنة الخُطباء؛ لأنّه هو الذي يتفق مع الارتجال والقول على البديهة اللذين عُرِفَا في العرب؛ ولأنه هو الذي يساوق الفطرة، ولأنّ أكثر كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ثبتت صحته، وأكثر خطب الصحابة التي لا مجال للطعن في صدقها مرسل قليل السجع والازدواج، وأكثر أولئك أدرك العصر الجاهلي؛ فلو كان السجعُ طَريقًا خطابيًّا معروفًا مألوفًا لهم ما خالفوه، ولا نَعرف أنّ من أوامر الشّرع ما يَدْعُوهم إلى المخالفة والابتعاد عن أمر معروف عند الجاهليين أنهم من طرائق التأثير البياني. ولأنه قد تواتر عن العرب: أنّ الكُهّان كان لهم كلام متمايز بدباجته يخالف مألوف العرب، وامتاز ذلك الكلام بالسّجع المُلتزم؛ فلو كان السجع أمرًا شائعًا

الخطابة في عصر الإسلام.

يَشْمَلُ الجزء الأكبر من خطب الخطباء، ما امتاز كلام الكهان عن سواه، وما صار له لون يغير بقية الكلام. وقَبْلَ أن نختم الكلام في الأساليب العربية نتكلم على الإيجاز والإطناب في خطبهم فنقول: لم نجد في المأثور عن العرب خطبة طويلة، بل كلها موجز، ولعل الذي بين أيدينا جزء من خطبة طويلة علق بالقلوب، وذهب أكثرها في ضلال نسيان الراوي، أو لخُطب قصار حفظها الرواة لقصرها، وعجزوا عن ضبط الطوال لطولها، وذلك لأنّ أخبار العلماء والأدباء والرواة، تَدُلّنا على أن العرب كانت لهم خطب طوال، وأخرى قصار، ولكل حال تقتضيه في نظرهم؛ ففي خطب النكاح مثلًا يُطيل خاطب ويقصر المجيب، وفي خُطَب الصُّلح كانوا يطيلون. وقد كانوا في إطالتهم وإيجازهم بلغاء أقوالهم محكمة. وقد قال الحافظ في وصف الطوال منها: "ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان، والنُّتف الجياد". وقال في وصف العرب بشكل عام: "ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظًا مسخوطة، ولا معاني مدخولة، ولا طبعًا رديًّا، ولا قولًا مُستكرهًا". الخطابة في عصر الإسلام ثانيًا: الخطابة في عصر الإسلام: كانَ ظُهور الإسلام إيذانًا بتطور واسع في الخطابة؛ إذ اتخذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أداة للدعوة إلى الدين الحنيف، طُوالَ مقامه بمكة قبل الهجرة؛ حيثُ ظَلّ ثلاثة عشر عامًا يعرضُ على قومه من قريش، وكُلّ من يلقاه في الأسواق آيات القرآن الكريم.

وهو في أثناء ذلك يخطب في الناس داعيًا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ محاولًا بكل طاقته أن يوقظ ضميرهم بما يصور لهم من قوة الكائن الأعلى، مُدبر الكون ومنظمه، الذي لم يخلقهم عبثًا، وإنما خلقهم ليعبدوه حق عبادته، وليستشعروا كل ما يمكن من الكمالات الروحية والاجتماعية والإنسانية؛ حتى تتم لهم السعادة في الدنيا والآخرة. وهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فاتصلت خطابته، واتسعت جنباتها بما أخذ يشرع للمسلمين ويرسم لهم حدود دولتهم ونظم حياتهم؛ التِي يَنْبَغي أن تقوم على الإخاء والمساواة والتعاون في سبيل الحق والخير، وهو في تضاعيف ذلك يأخذهم بآداب رفيعة من السلوك السامي، مبينًا لهم مَعاني الإسلام الرُّوحية، التي تقوم على معرفة الله الواحد الأحد والصلة به، كما تقوم على معرفة العمل الصالح وأن وراء هذه الحياة حياة أخرى، يُحاسب فيها الإنسان على ما قدمت يداه، ولو كان مثقال ذرة. وما يزال يعرض أوامر الدين ونواهيه، واضعًا الحُلول لكثير من المشاكل الدنيوية؛ كمشكلة الرقيق، ومشكلة توزيع الثروة، ومشكلة العلاقات بين الرجل والمرأة، وغير ذلك من مشاكل حُلّت بما يحقق سعادة الجنس البشري وهناءته. وعلى هذا النحو كانت خطابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- متممة للذكر الحكيم، ومن ثم كانت فرضًا مكتوبًا في صلاة الجُمَع والأعياد، ثم في الحج. وتحتفظ كتب الحديث بما اتخذه فيها من سنن وتقاليد، ثبتت إلى اليوم؛ بينما كانت تسبق خطابة الصلاة في الجُمع كانت الصلاة تسبقها في الأعياد، وهي تتوزع على خطبتين يقف فيهما الخطيب على منبر، أو أرض عالية؛ وقد اعتمد على قوس أو عصا ويُقبل على الناس مسلمًا.

وتبدأ الخطبة الأولى في الجُمع بحمد الله تعالى، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويُؤثر عن الرّسول أنّه كانَ يقولُ في فاتحة هذه الخطبة: "الحمد لله نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له". وعادة يتلو الخطيب من الخطبة الأولى لصلاة الجمعة بعض آي القرآن الكريم؛ حتى يستلهمها في موعظته، وإذا انتهى منها جلس. ثم يقوم للخطبة الثانية، وفيها يكثر من الدعاء، ويقال: إنه كان آخر دعاء أبي بكر في الخطبة الثانية: "اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك". وطبيعي أنْ تقضي هذه الخطابة على كل لون قديم من خطابة الجاهلية، لا يَتّفِقُ ورُوحَ الإسلام، ولا نَقْصِدُ سَجع الكُهّان، الذي كان يرتبط بدينهم الوثني فحسب، بل نقصد أيضًا خطابة المنافرات؛ فقد نهى الإسلام عن التكاثر بالآباء والأحساب والأنساب، وإن ظلت لذلك بقية في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين كانت تفد عليه وفود العرب. وحتى نعرف ما طرأ للخطابة من تغيير في الدواعي والأغراض في عصر الإسلام يجبُ أن نعرف ما طرأ على النفس العربية؛ من تغيّر في مظاهرها وأحوالها الدينية والاجتماعية والسياسية: أما أحوال العرب الدينية؛ فلقد كانوا يعبدون الأوثان، ويكاد يكون لكل قبيلة إله تعبده، فلما جاء الإسلام جمَعهم على عبادة الله وحده لا شريك له؛ فالإسْلَامُ -كما ترى- كلُّ فَضَائِلِه لتربية النّفس وتزكيتها، وجَعَل العربي وكل مسلم صالحًا للائتلاف مع غيره، وبعد أنْ كانت كل فضائله في الجاهلية

شخصية، وجّهَه الإسلام إلى الفضائل الاجتماعية، ليلتئم مع سواه. وبعد أن كانت الشجاعة في المبارزة والمناضلة للمفاخرة، صارت في الجهاد في سبيل الله لرفع كلمة الله. تغلغل الدينُ في كل شيء في هذا العصر؛ فصاروا لا يَصدرون في عمل إلا عنه، وكانوا كُلّما جدّ شَأن أخذوا حُكْمَه من الدين. أما الأحوال الاجتماعية؛ فقد قُلنا: إنّ الدّين كان يَسود في كل شيء، ولذلك ساد في أكثر نواحي الحياة الاجتماعية، وما لم يسده كان واقعًا تحت تأثير اجتماعي تقليدي؛ تنتقل فيه الأخلاق بالعدوى لا بالفكر والإرادة، ومهما يكن من شيء فقد امتازت الحياة الإسلامية الأولى في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكْثَر زمن الخلفاء الرائدين بمظاهر اجتماعية؛ منها محو العصبية، أو سترها إلى حين، وانتقال العرب من البداوة إلى الحضارة. كذلك الأحوال السياسية قد تغيرت في الإسلام عنها في الجاهلية؛ فقد اجتمع العرب تحت لواء واحد، لا يُسَيطر عليهم إلا الدين، وذهبوا إلى الممالك واستولوا عليها، وورثوا سلطان الفرس وسلطان الروم في الشرق، وصاروا حُكّام هذه الأمم، يتضافرون في إدارة شئونها، ويتآزرون في هدايتها؛ فوَحّدوا أمرهم، وجمعوا أشتاتهم، وجعلوا الحكم ليس مظهرًا عصبيًّا، ولكن مظهر لوحدة دينية. أما موضوعات الخطابة في الإسلام: فلقد كان الإسلام نهضة عامة شاملة لم يعهد لها من قبل في العالم مثيل؛ وكانت الخطابة ولون من الشعر أخذ طابعها، ونحا منحاها عماد هذه النهضة؛ وأداة فعالة من أدواتها، لقد كانَتْ هَذه النّهضة دينية في رُوحها وأساسها،

والدين فيض من النور الإلهي والرحمة الربانية، يمتدُّ من السماء إلى الأرض ليضيء ظُلُمَاتِها، ويُبَدّد غياهب الجهالة فيها، ويؤدي رسالة الأولى في إصلاح المجتمع البشري، وتحقيق أسباب السعادة له. فكانت هُناك الخُطَبُ المُتنوعة في الإسلام، كانت هناك خطب في الجهاد والحض على القتال، ولئن كان العربُ عَرفوا هذا النوع من الخطابة في الجاهلية، إلا أنه كان قتال ظلم وعدوان، أما في الإسلام فقد كان الجهاد والقتال لنشر الدعوة الإسلامية؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عباة رب العباد، كذلك كانت في الإسلام خُطب الأملاك، وهي خطبُ النّكاح، وخطب المَحَافل والوفود. وكان في الإسلام الخطب الدينية في الجُمعة والأعياد وغيرها، وامتازت الخطابة في عصر الإسلام عن عصر الجاهلية بعدة أمور، أهمها ما يلي: الأعياد والحَجّ وغير ذلك أخذها وجهة دينية في مثل خطب الجمع، واتباعها خطة سياسية تعمل على رأب الصدع وجمع الشمل، وتوحيد الكلمة، والتحريض على الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، وتأسيس الملك بحالة تغاير ما كانت عليه العرب في الجاهلية. صفاء ألفاظها وسهولة عباراتها، ومتانة أساليبها، وتجنبها سجعَ الكُهّان. قوة تأثيرها ووصولها إلى سويداء القلوب، وامتلاكها الوجدان والشعور بما يرقق القلوب القاسية، ويسيل الأعين الجامدة. مُحاكاتها أسلوب القرآن الحكيم في الإقناع، واستمدادها من آياته، حتى اشترط بعض الأئمة اشتمال الخطبة على شيء من القرآن، بداءتها بحمد الله -عز وجل- والثناء عليه -سبحانه- والصلاة والسلام على النبي وآله وصحبه. ولم يخرج الخطباء في عهد الإسلام في مألوفهم فيها قبل الإسلام؛ من الاعتماد على العصا ونحوها، والوقوف في أثناء الخطبة إلى غير ذلك.

مقارنة بين الخطابة في الجاهلية، والخطابة في الإسلام.

مقارنة بين الخطابة في الجاهلية، والخطابة في الإسلام وإذا عرفنا موضوعات الخطابة في الجاهلية وموضوعاتها في الإسلام، ومميزات الخطابة في الجاهلية ومميزاتها في الإسلام. إليك هذه المقارنة بين الخطابة في الجاهلية، والخطابة في الإسلام، كيف حرر الإسلام الخطابة من حمية الجاهلية؟ نقول: تعبير الإنسان خط بارزٌ من خُطوط شخصيته، والعالمون بطبيعة الإنسان يقررون أن العقل المنضبط في تصوراته يستتبع بالضرورة انضباط اللسان في أدائه، ولكي يصل المتكلم إلى ما يريد، لا بد من الأمرين معًا: عقل سليم، وتعبير سليم. ولا بد من الوعي بهذه الحقيقة، هذا الوعي الذي يفرض علينا وزن الكلمة قبل استعمالها من حيث كانت دليلًا علينا. والأديب والخطيب أحد صناعي الأمة، والمُعبرون عن آمالها وآلامها، وإذ تمضي الأحداث وتنصرم الأيام؛ فإن قلم الأديب ولسان الخطيب يستبقيها ويجليها، وكلاهما مرآة تنعكس عليها أحداث الحياة، وتبقى ماثلة في ضمير الأمة، ما دام فيها خطيب وأديب، ولكن لن تكون للكلمة وصناعتها تلك القيمة إلا إذا ارتبطت بهدف سام، وخلق نبيل، وعبرت عن الفضائل، بل وحَشرت ملكات النفوس؛ للتّعلق بها، والاستشهاد في سبيلها، وكذلك كان الإسلام في مجال الخطابة التي حررها من حمية الجاهلية؛ لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسير بالحياة والأحياء في الاتجاه الصحيح. وتلك هي نقطة الخلاف بين الإسلام والاتجاهات المُلحدة قديمًا وحديثًا. وقد عقد "جولد زيهر" فصلًا بعنوان "الدين المروءة" وهو يتلخص في: "إن الإسلام رسم للحياة مثلًا أعلى غير المثل الأعلى للحياة في الجاهلية، وهذان

المَثَلان لا يتشابهان، وكثيرًا ما يتناقضان؛ فالشَّجاعة الشخصية، والشّهَامَةُ التي لا حد لها، والجَزم إلى حد الإسراف، والإخلاص التام للقبيلة، والقسوة في الانتقام، والأخذ بالثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب أو على قبيلة، بقول أو فعل؛ هذه هي أصول الفضائل عن العرب الوثنين في الجاهلية. أما في الإسلام فالخضوع لله والانقياد لأمره والصبر وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين، والقناعة وعدم التفاخر والتكاثر وتجنب الكبر، والعظمة هي المثل الأعلى للإنسان في الحياة. وقد كانت الخطابة أصدق معبر عن هذا المثل الأعلى، وكان لها دورها البارز في تعميق هذه المفاهيم، في ضمائر المؤمنين؛ وإليك هذا المثل: "قدم وفد تَميم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فنادوه من رواء الحُجرات أن اخرج إلينا يا محمد، فلما خرج قالوا: يا محمد، قد جئنا نفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: ((قد أذنت لخطيبكم فليقل)) فقام فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس! ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا من الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا". إنّ هذا الخطيب يُمَثّل وجهة نظر الجاهلية المدفوعة بعامل التفاخر، والمكاثرة بالمال؛ هذا التفاخر الذي وصل به إلى مرتبة تحدى الناس جميعًا أن يكونوا مثلهم في قوله منكرًا: "فمن مثلنا في الناس".

دواعي الخطاب في عصر الإسلام.

فلمّا انتهى هذا الخطيب من خطبته، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس، أن يجيب الرجل؛ فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيها أمره، ووسع كرسيه عمله، ولم يكن شيء قط إلّا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا، أكرمهم نسبًا وأصدقهم حديثًا، وأفضله حسبًا؛ فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا النّاس إلى الإيمان، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أناسبًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كان أول الخلق استجابة لله حين دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحن، فنحن أنصار الله وزراء رسوله، فقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله؛ فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهرناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم". والفرق واضح جدًّا بين خُطبة خطيب ذلك الوفد، وبين خطبة خطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. دواعي الخطاب في عصر الإسلام وأخيرًا إليك دواعي الخطاب في عصر الإسلام: كانت دواعي الخطابة في ذلك العصر تتفق مع ما عرض لهم، وما سادهم من الحياة، وما طرأ عليهم من أحوال وشئون سياسية واجتماعية، وكان بدهيًّا أنْ تَكُون أولى الدواعي للخطابة هي الدعوة المحمدية، والرّدّ عليها؛ فقد جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- بذلك الدين الجديد، في قوم القول صناعتهم، والبَلاغة جل عنايتهم؛ فناداهم بأبلغ القول، وخاطبهم بأروع الكلام، وخطب في مجامعهم مؤيدًا رسالته، ناشرًا دعايته، حتى ضاقت صدورهم عن سماع قوله، بعد أن عجزوا مجادلته ومقارعته الحُجّة بالحجة، فامتشقوا الحسام، وتكلموا بالسنان بدل اللسان. فالخطابة كانت الأداة الأولى للدعوة المحمدية، وكانت السلاح الذي يرفعه خصومه في الرد عليه؛ فكانت تلك الدعوة سببًا في انتشار الخطابة، ورفع درجة البيان.

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَلقى الناس في مواسم الحج، وفي المجامع وفي المنتديات، ويدعوهم إلى الإسلام، ويأتي في ذلك بأبلغ الكلام. انظر إلى خطبته الموجزة يوم صدع بأمر ربه وأنذر عشيرته الأقربين، إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعًا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتُموتن كما تنامون، ولتُبعَثُنّ كما تستيقظون، ولتُجْزَونّ بالإحسان إحسانًا، وبالسوء سوءًا، وإنها لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا، وإنكم لأول من أنذر بين يدي عذاب شديد)). كذلك الأحكام الشرعية؛ فلما دخل الناس في هذا الدين أفواجًا أفواجًا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُبين لهم أحكام دينهم، ويعرفهم ذلك الشرع الشريف، وذلك الهدي القويم، ويُبين تفصيل ما أجمل القرآن الكريم، كما قال الله تعالى له: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} (النحل: 44) ويُوَضّح لهم ما أشكل عليهم فهمه، أو ما التبس من أمر هذا الدين. وذلك البيان كان بأقوال محكمة، فيها وحي النبوة وقبس من نور الرحمن؛ كما قال رب العالمين في حق النبي الأمين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4). وانظر إلى خطبته -صلى الله عليه وسلم- التي مطلعها ((أيها الناس، إن لكم معالم؛ فانتهوا إلى معالمكم)) وخطبته -صلى الله عليه وسلم- التي مطلعها: ((كأن الموت فيها على غيرها قد كتب)) وخُطبته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، انظر إلى تلك الخطب، ترى فيها الترغيب مع الترهيب، والموعظة الحسنة والإيجاز الذي وفى وجمع فأوعى؛ فكانت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- والشرع الحكيم الذي جاء به من عند رب العالمين، من أكبر دواعي نهوض الخطابة في صدر الإسلام. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 8 عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام.

الدرس: 8 عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام.

العوامل التي أدت إلى نمو الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (عوامل رقي الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام) العوامل التي أدت إلى نمو الكتابة وازدهارها في صدر الإسلام إنّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: فلقد اتّضح من كُلِّ ما قَدّمنا كيفَ نمت الخطابة، في صدر الإسلام نموًّا سريعًا بتأثير إسلامي من جهة، وبتكاثر الأحداث وتتابعها من جهة ثانية، وليس هذا كُلُّه ما يُلاحظ فيها؛ فقد دارت حول معاني القرآن الكريم، وخطابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه، وهي معان جديدة لم يكن للعربية بها عهد؛ معاني هذا الدين الحنيف، الذي بعثَ لُغتنا ونشرها بعثًا جديد، والذي مرنها ودَلّلها لكي يَحُلّ قبسًا من هذه التعاليم والمواعظ، يستضيء بها في كل ما يخاطب به الناس، ابتغاء التأثير عليهم وبلوغ ما يريد من أداء الخطبة الدينية الخالصة في أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج. والخطب التي تدعو إلى الجهاد وتحض على القتال. ولعله من أجل ذلك أصبح التّحميد سنة في كل خطبة، حتى الخطبة السياسية؛ وكانوا يسمون كل خطبة تخلو من الحمد "الخطبة البتراء" كما كانوا يُسمون كل خطبة تخلو من اقتباس آي القرآن الكريم والصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- "شوهاء". وهُناك أخبار كثيرة تدُلّ على أنّ الخُطَباء كانوا يُزَوّرون كلامهم، ويُعِدّونهم على أنفسهم إعدادًا طويلًا، ثُمّ يُلْقُونه على الناس؛ حتّى لقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك، وكان الخطيب يستشهد أحيانًا ببعض الأمثال، أو ببعض أبيات من الشعر؛ تُؤَكّد المعنى الذي يُريد أن يَصُبّه في نفوس سامعيه صبًّا، على نحو ما نجد في خطبة لأبي بكر في الأنصار. وإذا كنا قد لاحظنا من تاريخ الأدب العربي غلبة السجع على خطباء الجاهلية؛ فإننا نلاحظ في عصر الإسلام أنه كاد ينحسر تمامًا من الخطابة، إلا بقايا ضلت في خطابة الوفود، حين كانت تقدم على الخلفاء.

ونستطيع أن نقول: إن السّجع في خطابة هذا العصر كان شيئًا عارضًا؛ إذ كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يستعمله في خطابته، وكان ينفرُ منه حين يلهج به أحد محدثيه، كراهية للتشبه بالكهان في سجعهم، وعلى ذلك صار الخلفاء الراشدون والصحابة من بعدهم. وأخرى تُلاحظ على الخطابة في عصر الإسلام، بالقياس إلى الخطابة في الجاهلية؛ فإنّ الخَطَابةَ في الجَاهلية لم تكن ذات موضوع مُحدد، ومن ثَمّ كانت تأخذ شكل أقوال متنافرة، لا رابط بينها، أما في الإسلام فقد أصبح للخطابة موضوع واحد، يجول فيه الخطيب ويَصُول، إذا يُحَدّث الناس واعظًا، أو يعرض عليهم حدثًا محدد من أحداث الإسلام، بحيث نستطيع أن نقول: إن الخُطبة أصبحت ذات موضوع، تلم بأطرافه وتفاصيله. وبذلك كله نهضت الخطابة، ونهض معها النثر نهضة واسعة، فقد أخذ الخطباء يوسعون طاقته بما يحملون من معاني الإسلام، وما يبسطون في هذه المعاني ويولدون ويفرِّعون. وإذا كانت الخطابة تستمد قوتها من النفس فلا بُدّ أن نذكر الأمور التي كانت في تلك الحياة، وغذت النفوس غذاء نمت به الخطابة وازدهرت وقويت ونهضت، وأعظم تلك الأمور شأنًا وأجَلُّها في حياة العرب خطرًا وفي الخطابة أثرًا "القرآن الكريم". لقد جاء القرآن الكريم فهزّ النّفْسَ العَربية وأصاب شِغَافَها، وقد تَحَدّى أعَاظِمَ البُلَغَاءِ فيهم أن يأتوا بسورة منه، أو مثله، أو من مثله؛ فعجزوا عن ذلك كله، وقد قال الجاحظ في إعجازه: "بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في زمن أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة. فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالاته فدعاهم بالحُجّة.

فلمّا قطَعَ العُذْرَ وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحِيرة، حملهم على حضهم بالسيف، فنصب لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعمامهم وبني أعمامهم وفي ذلك يحتج عليهم بالقرآن الكريم، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى معارضته إن كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة؛ فكُلّما ازداد تحديًّا لهم بها، وتقريعًا بعجزهم عنها قالوا: أن تعرف من أخبار الأمم ما لنا نعرف؛ فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يقصد ذلك خطيبًا منهم، ولا طمع فيه شاعر ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجديه ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أن قد عارض وناقض؛ ف دل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، وسهولة ذلك عليهم. وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجَاهُ مِنهم، وعارض الشُّعراء من أصحابه، والخُطَباء من أمته؛ لأنّ سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج عن الأوطان، وإنفاق الأموال. وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والفضل بطبقات، ولهم القَصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة. ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم، بعد أن ظهر عجز أدناهم، ومُحَالٌ أنْ يَجْتَمِع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخِطَابِ المَكْشُوف البين مع التقريع بالتقصير، والتوقيف على العجز. وهم أشد الخَلْقِ أنفَة وأكثرهم مُفاخرة، والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض؛ فكيف بالظّاهر الجليل

المنفعة، وكما أنّهم مُحالٌ أن يُطيقوه ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر كما تعرف، فكذلك مُحَالٌ أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل، وهم يبذلون أكثر منه. وإذا كان أثرُ القُرآن الكريم في مناوئيه، وهم قوم خصوم، وما علمت من تحير ودهشة وعجز، بل إعجاب يخفيه الغرض، ومرض النفس بالشرك والعناد والمخالفة؛ فيكيف يكون أثره بالآخذين بهديه المقتبسين من نوره؟. لقد أثر القرآن الكريم فيهم أبلغ تأثير، وأفادت الخطابة أعظم فائدة، وجنت منه أكبر الثمرات، وقد كانت استِفَادة الخطابة من القرآن الكريم من ناحتين: إحداهما: مما اكتسبه اللغة من القرآن الكريم: لقد أكسبها سعة في المعنى، إذ قد أتى بمعانٍ لم يَتوارد العرب من قبل مواردها، كانوا قومًا حسيين، ولُغَتهم حِسّية؛ فجاء القرآنُ الكَريم وحدث عن النفوس، ووصفها فأحسن وصفها، حَلّل نفس الضال، وعلة ضلالة، ونفس المهتدي وعريض اهتدائه. صور تقلبات القلوب وخلجات النفوس، وما يؤثر في المشاعر؛ فدعا ذلك المسلمين إلى الاغتراف من منهله العذب، وشاعت بينهم الأقوال في الأمور المعنوية، وسمت اللغة العربية إلى مستوى ما كان يتهيأ لها بغير القرآن الكريم. وأثر القول في الأمور المعنوية وحسن تصويرها في الخطابة جلي لا يحتاج إلى بيان، وقد جاء القرآن القرآن الكريم بلفظ سهل متين خالٍ من الألفاظ الخشنة الجافة، يصل إلى الأغراض من أسهل مسالكها، فأعجب بذلك قارئوه وسامعوه؛ فحاكوه في نهجه، وإن لم يُساموه في قدره، وتَهَذّبت به اللغة أتم تهذيب، فسَهُلت عباراتها، ورَقّت أسَالِيبُها، واستأنست ألفاظها، إذ سن لها نوعًا من التعبير لم تنتهجه، فكان فتحًا جديدًا بألفاظه وأساليبه، كما كان فتحًا

جديدًا في العالم كله بهديه وتقويمه وتأديبه، وأثر ذلك في ألفاظ الخطابة واضح غير خفي. ثاني الناحتين: أنّ الخُطباء قد أخذوا ينتهجون منهج القرآن الكريم في الاستلال؛ إذ وَجَدوا فيه أبلغ طرق الإقناع الخطابي، لقد اجتمع في أدلة القرآن الكريم ما لا يُمكن أن يجتمع في أدلة سواها، إذ تَجِدُ فيها استقامة المعنى، إذا قسته بمقياس المنطق فتجد المقدمات قد تلاءمت مع نتائجها، وتوافرت فيها شروط الإنتاج كما تجد فيها جمال اللفظ وجودة الأسلوب، ومخاطبة الإحساس وإثارة الرغبة، اقرأ قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22). تَجِدُ الدقة المنطقية، وجمال اللفظ ومخاطبة الوجدان قد اجتمعت مع حسن الإيجاز فتعالت كلمات الله سبحانه وتعالى. وجد الخطباء في القرآن الكريم ذلك، فوجدوا فيه معلمًا لطريق الإقناع والاستدلال، لا يُقاضيهم أجرًا؛ فتأثروا بطريقته، واقتبسوا من عبارته، وشاع بينهم الاقتباس منه، حتى كان من مزايا الخطبة أن تكون مشتملة على شيء من القرآن الكريم. أما الحديث النبوي الشريف فهو كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يلي منزلة القرآن الكريم في الاحترام والإجلال، وقد اجتمعت فيه أيضًا فصاحة اللفظ، وجودة المعنى وحسن الأداء. وبلغ من البلاغة الذروة ووصل من الروعة إلى القِمّة، هو جوامع الكلم، وفيه روائع الحكم، هو القول الفصل لا فضول فيه ولا تزيد، أخذ من القرآن الكريم وأوحى إليه به الرحمن لكلامه جلال لا تجده في سواه، وتحيط به هالة روحية تحس منها بشعاع النبوة، ولو أنّ كلامه عرض عليك منسوبًا لغيره؛ لأنكرت النسبة ورددت الحق إلى نصابه.

وقد أثار ذلك روح العُجب والإعجاب في أصحابه، حتى قال له أبو بكر -رضي الله عنه-: لقد طُفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)). وقد كان للحديث أثران في الخطابة: أحدهما: من ناحية تأثيره في اللغة؛ لأنّ الحَدِيثَ أضاف إلى اللغة ثروة من المعاني، وثَروة من الأساليب التي كانت تُعد من النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتداعًا وابتكارًا، مثل قوله: ((حمي الوطيس)). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الضعيف أمير الركب)) وقوله: ((مات حتف أنفه)) وقوله: ((هدنة على دخن)) وقوله: ((لا ينتطح فيه عنزان)) وقوله لمن ساق إبل بعنف وعليها نساء: ((رويدك رفقك بالقوارير)) ولأن الحديث هذب اللغة تذهيبًا قريبًا من تهذيب القرآن الكريم، إذ سهل ألفاظها، ورَقّق أساليبها، وذهب بالغريب منها؛ فكان لكل هذا أثره في الكتابة؛ لأنّها شُعبة الأدب الأولى في هذا العصر بل أعظم شعبه وأظهر مظاهره. ثانيهما: أنّ كثيرًا من الخُطباء كان يرطب لسانه في خطبه بشيء مما أُثر عَن الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- تيمنًا بقوله، واسترواحًا للسامعين، وليكسبوا كلامهم روعة وليستشهدوا بكَلام الرّسُول -صلى الله عليه وسلم- على صِحّة ما يَدْعُونَ، وإذا عَلمت أنّ أكْثَر الخُطب في ذلك العصر كانت تدور على مبادئ الدّين قوامها، عَلمت مقدار عنايتهم برواية أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاستشهاد بها في خطبهم. ثالثًا: الحَضارة: أخذت الحضارة تغزو نفوس أولئك البدو، ولكنها لم تستول عليهم استيلاء تامًّا كما علمت، فاجتمعت فيهم قوة البدوي ونخوته، وبعض دماثة الحضري ورقته، ولقد علمت أسباب ذلك فيما بيناه من شرح أحوالهم

الاجتماعية، وبقي أن تعرف أثر ذلك في خُطَبهم، أكسبتهم تلك الحضارة سهولة في التعبير لم تكن فيهم؛ إذ هَذّبت من طباعهم، وقَلّلت من جفوتهم وخشونتهم، فلانت من غير ضعف، وابتذال عبارتهم كما أكسبتهم سعة الخيال وغزارة في المعاني وعِرْفَانًا تامًّا بما تقضيه الأحوال. وقد أكبسهم اختلاطهم بالأمم، وهم ذووا الذكاء الفطري والفراسة، معرفة كثيرة بأحوال النفوس؛ فاستخدموا كل ذلك في خطبهم، وبدت غزيرة المعاني، متنوعة الموضوعات وافية فيما يقصد إليه الخطيب من غرض، وما يتجه من هدف ومرمى. رابعًا: تَكْوينُ حكومة نظامية: كان تكوين الحكومة الإسلامية عاملًا عظيمًا من عوامل اتساع موضوعات الخطابة، فقد كانت هي أداة اتصال الحاكمين بالمحكومين، بها اتصل الحُكماء بالشعب في خُطبهم العامة، وبها اتصل الولاة بالأقاليم بمن يحكمونهم، ويُبين هؤلاء وأولئك ما يُريدون أن يكون المَحْكومون عليه من طاعة في الحق، وإرشاد للحاكم من غير تمرد أو عصيان. وكذلك الوعظ الديني كان له الشأن الأول؛ لأنّ الدين كان أساس وحدتهم، وجامع كلمتهم، ومُكَوّن دولتهم، ولذلك كان له الاعتبار الأول، وقد حَثّ الإسلامُ على الأمر بالمعروف، والنّهي عن المُنكر، وجعله قوام هذه الأمة، ومَنَاط عِزّها، وطريق ارتقائها، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110). وقد كانت الخُطبة فرضًا في الجُمعة لذلك الغرض، فكان للخطابة من ذلك المبدأ الديني السامي، مبدأ التواصي بالحق والتناهي عن الشر، رقي -أي رقي- وسمو عظيم، إذ جُعِلَت من شَعَائر الدين ومظاهر القوية.

أما ألْفَاظُ الخَطَابَة وأساليبها ومعانيها في صدر الإسلام: فقد صفت ألفاظ الخطابة وسهلت، ورقت وعذبت، وذلك لتأثر الخطباء بالقرآن الكريم، واقتفائهم طريقه وسلوكهم سبيله، إذ رأوه المثل الأعلى للكلام فحاكوه وإن لم يتساموا إليه، ولأنّ نُفوسهم هُذِّبَت، وألان الإسلامُ من جفوتها، وأرَقّ من شِدّتها، وبدلها مكان القسوة رحمة، ومكان العنف رفقًا حتى إن الرجل الذي كان يئد ابنته فلا ينشق قلبه لها بعطف، أصبح بالإسلام يسمع كلمة الحق؛ فتنحدر عبرته وتذوب نفسه حسرات. وإذا رقت النفس وسهلت لا يصدر عنها إلا العذب السهل من الألفاظ؛ فإن الكلمات صورة حية للنفس التي تجيش بها، ولأنّ الله سبحانه أورثهم ملك كسرى وقيصر، فجاءتهم الغنائم وأصبحوا فاكهين في نعيم، بعد أن كانوا في شظف من العيش، وخُشونة من الحَياة. ولقد قال خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متنبأ بما يكون: "واللهِ لتَألَمَنّ النوم على الصوف الأزربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان". وقد كان أن نال العرب من نعيم الحياة أشرًا بعد أن ذاقوا من الشقوة بؤسًا، وتلك الحال التي تنبأ بها الإمام العظيم لو لم تتم في ذلك العصر وإن أخذت خطواتها فيه. وإذا كان العربي قد ذاق هذا النعيم ورأى مناظر الطرف وعاش في مظاهره، فلا بُدّ أنّ تلين ألفاظه، وتَسْهُل عِبَاراته لأنّ الألفاظ صورة لما يألفه القائل، ويعرفه المُتكلم. ولقد ذهب من الألفاظ الكثير من الحشو؛ لاجتماع العرب على لغة واحدة هي لغة قريش، وذهاب اللغات الأُخرى؛ فلم يبقَ مِنها إلا النادر من الألفاظ والأساليب؛ ولأنّ الخطَابة كان عمادها في الإسلام المألوف المكشوف، لأن الغاية

كانت إما إفهام السنن والأحكام والشرائع، وإما الحث على الجهاد، وإما المشاورة وإبداء الرأي والنصيحة للإمام. وكل هذا يقتضي الوضوح والسهولة. وكان بمقتضى تعاليم الإسلام، أبعد الناس عن الإغراب والتوعر، والتفيهق والتشدق؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((أبغضكم إليّ الثرثارون المُتفيهقون)) لذلك كان المسلمون يَمِيلُون إلى التكلف في خطبهم بكلام يشبه الكلام العادي في سهولته، وعدم تكلفه لولا انسجام في التعبير، ولولا التحميد والبسملة والثناء على النبي -صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك من الأمور التي اختصت به الخطبة في الإسلام. أما معاني الخطابة في الإسلام: فإنّ المَعاني الخطابية سلكت مسلكًا يتفق مع الحياة الإسلامية في مظاهرها التي سبق بيانُها؛ إذ أنّ تلك الحياة هي التي وجَهّت الخطاب وجهتها، وهي التي استوحت الخطابة منها معانيها، وقد كانت المعاني دينية، فخطبهم في الحروب دعوة إلى مرضاة الله -سبحانه وتعالى- وإعلاء لكلمته ورفع لدينه، ونشر لدعوته. وخطبهم في الشورى صورة لفهمهم الدين كلٌ يدلي بالرأي، ويربط دعواه بالمبادئ الدينية. وخطبهم في الاجتماع والألفة أدلتهم فيها القرآن الكريم والسنة النبوية، والمبادئ الإسلامية المعروفة من الدين بالضرورة، وهكذا كل أغراضهم الخطابية الدين فيها قطب الرحى، وعليه يدور كلامهم وفيه يختلفون به يتفقون، وذلك لأنّ الدين قد تغلل في كل مظاهر حياتهم، وكان هو المسيطر على ضمائرهم، والقانون الخلقي الذي إليه يحتكمون، والشرع الذي على مقتضاه يسيرون؛ ولأنّ كِتَاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كانا ينبوع المعرفة، الذي إليه يريدون وعنه يصدرون. فلم يكن لهم علم إلا علم الكتاب، ولا معرفة إلا من سنة الرسول عليه السلام فلا عجب إذا صارت معالم الخطابة كلها دينية خالصة.

وقد كان الخطباء يسلكون في الاستدلال الخطابي الطريق المنطقي، والطريق الوجداني، وذلك لتأثرهم طريق القرآن الكريم في الاستدلال، وأخذهم من معانيه، ونيلهم من هديه؛ إذ كان المثال الذي يحتذونه والمنار الذي يهتدون به. واقرأ خطبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في ثقيفة بني ساعدة ترى فيها الدّليل المَنْطقي قد التقى مع الدليل الوجداني، وأحكمت الأواصر بينهما من غير أن يطغى أحدهما على الآخر، واقرأ خطب الفاروق عمر -رضي الله عنه- في شوراه، وخطب من يوافقونه، أو يردون عليه ترى الحقائق المنطقية قد صيغت في قالب دِيني يُثير الوجدان، ويوقد العاطفة، ويلهب الحمية، وهكذا في كل أغراضهم البيانية؛ لأنّ حماسة الدين تجتمع مع الحقيقة فتمُدّها بِحَرارة الإيمان ويقظة الوجدان، وقوة الإحساس. وكانَتْ المَعَاني لما سبق قوية التأثير فيمن يُخاطبون؛ إذا توفرت فيها شروطه وتكاملت أسبابه، وهُما الدِّقّة في الفكر والاستنباط، وإثارة العاطفة وإنهاض العزيمة، وكانت المعاني مسلسلة متصلة الأجزاء محكمة الأواصر، ولم تكن مفككة متناثرة كما كانت في العصر الجاهلي، ولعل السبب في ذلك اجتهادهم في صوغ كلامهم صياغة استدلالية؛ لينتج النتائج التي يريدونها، واتساع معلوماتهم بسبب ذلك الدين الجديد ووحدة الغرض الذي جعلوه هدفًا لكلامهم يصوبنه إليهم لينالوه. وإنك لتضع ذلك الإحكام وهذا التماسك واضحًا في أكثر خطب ذلك العصر، وخصوصًا خُطب الإمام علي -رضي الله عنه- واقرأ خطبته عندما استشار الفاروق عمر الصحابة في غزوه فارس بنفسه، ترى التماسك بني أجزاء القول وأخذ بعضه بحجز بعض واضحًا كل الوضوح، وعَدَمُ المُبَالَاةِ والإغْرَاق واضح كل الوضوح

في الخطابة الإسلامية، ذلك لأنّ الخُطَباء الإسلاميين من عرب الذين امتازوا بالصراحة والصدق، وهما صفتان تتنافيان مع المبالغة والإغراق. ثم هم قد امتازوا باستقامة الفكر وسلامة النفس، والإغراق ليس إلا مظهرًا للشطط الفكري، ومُجاوزة حد الاعتدال البياني، وهو من نوع التفيهق الذي نهى عنه الدين، ولهذا باعدوه وتجافوا عنه؛ لأنّه لا يتفق مع الهدي القويم، والسُّنن المُستقيمة. أما أُسلوب الخطابة في عصر الإسلام؛ فإن الأسلوب الخطابي في العصر الإسلامي بلغ من الإحكام مبلغًا، سما أن عن أن يحاكيه عصر من عصور اللغة، أو ينهج إليه خطباء أي زمن سابق أو لاحق لذلك العصر، وأول ما يلاحظه القارئ لخُطَب ذلك العصر أنّ الخُطبة صارت مجزئة ومقسمة، كل قِسم يَلحق سَابقه. تبتدأ بمُقَدّمة فيها يحمد الخطيب الله -سبحانه وتعالى- ويثني عليه بما هو أهله، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يهجم على الموضوع فيقدم ما يراه دليلًا لدعواه، وبُرهانًا لما يراه، وبعد أن يتم القول فيه، ويوفي على الغرض يتوجه إلى الله -سبحانه وتعالى- يدعوه أن يوفقه إلى الرّشاد ويُلهمه السداد، ولبعض الخُطَباء صيغة دعاء يَختم بها قوله، قال ابن عبد ربه: كان آخر كلام أبي بكر الذي إذا تكلم به عُرف أنه قد فرغ من خطبته: "اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتيمه، وخيرُ أيّامي يوم ألقاك"، وكان آخر كلام عمر الذي إذا تَكَلّم به عُرف أنه فرغ من خطبته: "اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تجعلني من الغافلين". وقد أكثر الخطباء من الاقتباس من القرآن الكريم الاستشهاد به والاستدلال بالمأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمدون إلى الحديث؛ فينهلون منه، ويتجهون إلى الآية

الكريمة ويرطبون كلامهم بها؛ فيكون فيها فصل الخطاب وقطع كل جواب واعتراض، وإذا علمت أن كل خطبهم دينية، عملت مقدار قوة الحديث الشّريف والقرآن الكريم في استدلالهم وفصلهم في خصوماتهم، ففيهما فيصل التفرقة بين الحق والباطل، وصحيح الآراء وسيقيمها. وفوق ذلك الكتاب الكريم والحديث النبوي الشريف؛ فيهما من البلاغة والفصاحة والروعة واللفظ الجزل، والأسلوب الرّائع والمُحكم من المعاني ما علمت؛ فاتجهوا إلى الاقتباس منهما؛ ليَكْسِبُوا كلامَهُم طلاوة، وليُعطوه حلاوة، وليَقتبسوا من القرآن الكريم والحديث الشريف قُوّة في التأثير، ورنينًا في الآذان، ورَهْبَة في القلوب، وجَمالًا في الأنفس، وبهجة في المشاعر. وقد تعلو الآية القرآنية بالخطبة فتجعلها من الذروة في البيان والقمة من التأثير وبلوغ المقصد من أقصر طريق، وأقرب منيع، ولذا أكثر الخطباء من الاستشهاد بالقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف حتى صار ذلك عرفًا شائعًا. وقد قلّ السّجْعُ في ذلك العصر؛ لأنّ النّفس العَربية الأمية كانت تميل إلى عدم التكلف والصنعة، وزاد الخطباء ابتعادًا عن السجع نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سجع الكهان. أما من حيثُ الطّول والقِصر في الخُطبة: فأكثر الخطب المروية في هذا العصر قصير لا طويل؛ فيه الإيجاز أظهر من الإطناب، ولعل هذا الموجز جزء من خطبة طويلة حفظ هذا الجزء، وتُبَعْثِر الباقي في الأسماع، أو لعل المُوجز من الخُطب هو الذي استَطَاعَ أن يحفظه الراوي لسهولة حفظه وجودته أكثر من سواه؛ لأنّ رِوايَة الخَطيب في هذا العصر كسابقه، كان المُعَوّل فيها على الرواية السّماعية لا على الكِتابة، إذ لم تكن الكتابة قد انتشرت، ولأنّ الخُطَباء لم يعمدوا إلى كتابة خطبهم. ولم يعمد الناس إلى كتابتها لعدم اعتاديهم ذلك.

خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، ونماذج أخرى.

ومع هذا ففي المروي خطب طويلة، كخطبة حجة الوادع المنسوبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وككثير من خطب الإمام علي -رضي الله عنه- وكبَعض خُطب الشّهيد المَقتول -رضي الله عنه- عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وكخطب الفاروق عمر -رضي الله عنه- وكل هذا يثبت أن الخطب كانت في ذلك العصر فيها القصير وفيها الطويل، وقد كانوا يضعون الأمور في موضعها؛ فلا يُطيلون في غير موضع الطول، ولا يجوزون في غير موضع الإيجاز. وهم في الحقيقة أميل إلى الإيجاز أخذًا بأهداب الدين وتَمسُّكًا بأوامره، ولا يطيلون إلا عندما تطرهم الحاجة إلى الإطالة، ويحمله الموضوع والمقام على الإطناب فيطنبون غير مختالين، لأنهم كانوا يخشون أن يكون التطويل من باب احتياز المجالس، والتشادق والتفيهق والثرثرة المنهي عنها؛ ولأنّ الإنسان كلما كثر لغطه كثر سقطه، ويخافون السقط؛ لأنهم من ذوي القلوب النيرة والنفوس المطمئنة. يُروى أن عمار بن ياسر تكلم يومًا فأوجز؛ فقيل له: لو زدتنا؟ فقال: ((أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإطالة الصلاة وقصر الخُطبة)). وورد في وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان حين وجهه لبعث الشام قال: إذا وعظت جندك فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا. خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، ونماذج أخرى والآن وقد عرفنا عوامل رقي الخطابة وازدهارها في صدر الإسلام، إليكم خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: قال ابن إسحاق، وهو يسرد حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حَجّه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم

قال: ((أَيّهَا النّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا؛ أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلِيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنّ كُلّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ. قَضَى اللهُ أَنّهُ لَا رِبَا، وَإِنّ رِبَا عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ وَأَنّ كُلّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنّ أَوّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ فَهُوَ أَوّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ. أَمّا بَعْدُ: أَيّهَا النّاسُ، فَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ. أَيّهَا النّاسُ {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَي ُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37)، ويحرموا ما أحل الله، وَإِنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمّا بَعْدُ: أَيّهَا النّاسُ، فَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ حَقًّا، لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ وَعَلَيْهِنّ أَنْ لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةِ مُبَيّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكُسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنّهُنّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا، وَإِنّكُمْ إنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَاتِ اللهِ، فَاعْقِلُوا أَيّهَا النّاسُ قَوْلِي، فَإِنّي قَدْ بَلّغْت، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا أَبَدًا، أَمْرًا بَيّنًا، كِتَابَ اللهِ وَسُنّةَ

نَبِيّهِ. أَيّهَا النّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ، تَعَلّمُنّ أَنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخٌ الْمُسْلِمِ وَأَنّ الْمُسْلِمِينَ إخْوَةٌ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ مِنْ أَخِيهِ إلّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَلَا تَظْلِمُنّ أَنَفْسَكُمْ اللهُمّ هَلْ بَلّغْت؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: اللهُمّ اشْهَدْ)). وهكذا وجه -صلى الله عليه وسلم- هذه الخطبة في حجة الوداع، وحرص على افتتاحها بمقدمة وجيزة، "اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد هذا أبدًا بهذا الموقف". ومن شأن هذه المقدمة أن تجمع انتباه الناس ليركزوا حول ما يسمعون من النبي -صلى الله عليه وسلم. ثم إنه لا يستدعي المؤمنون فحسب، لكنه يستدعي الناس جميعًا "أيها الناس" فما تحويل الخطبة من قواعد إنما يؤسس حياة الإنسان حيثما كان ذلك الإنسان، وتتأكد بذلك عالمية الدين القاضية بالتمسك بآدابه، بقدر ما ترفض استيراد المبادئ من هنا وهناك، من أُنَاسٍ هُم أساسًا مَدْعُوّن مِثْلُنا ليقيموا حياتهم على هذه المبادئ الشاملة الكاملة. ومسك الختام ذلك الإصرار منه -صلى الله عليه وسلم- على أن يستشهدهم على أنفسهم أنه بلغهم رسالة ربهم "ألا هل بلغت" فيجيبون بملء قلوبهم نشهد أنك بلغت، وأديت ونصحت، صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إليكم بعدما سمعتم خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع إليكم نماذج من الخطب في عصور الإسلام المختلفة: جاء في (البيان والتبيين) قال أبو الحسن المدائني عن مسلمة بن محارب، وعن أبي بكر الهزلي: "قدم زياد البصرة واليًا لمعاوية بن أبي سفيان، وضَمّ إليه خراسان، وسجستان، والفُسق بالبَصرة كثير فاش ظاهر، قالا: فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها. وقال غيرهما: بل قال: "الحمد الله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمة وإكرامه، اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرًا. أما بعد؛ فان الجهالة

الجهلاء والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته؛ والعَذَاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا، وسَدّت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية. ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله، هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل، ألم تكن منكم نهاة عن دلج الليل، قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغضون عن المختلس؛ كل امرئ منكم يذب عن سفيه صنيع من لا يخاف عاقبة، ولا يرجو معادًا ما أنتم بالحُلَمَاء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسًا في مكانس الرّيب، حَرامٌ عليّ الطّعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإنّي أُقْسِم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمُقْبِلَ بالمُدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم؛ حتى يلقى الرجل منكم أخاه؛ فيقول: انج سعد، فقد هلك سعيد، أو تستقيم قناتكم. إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، واعلموا إن عندي أمثالها من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه؛ فإياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكُوفة، ويَرْجِع إليكم وإياي ودعوى الجاهلية؛ فاني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثًا لم

تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة؛ فمن غرق قومًا غرقناه ومن حرق قومًا حرقناه، ومن نقب بيتًا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه حيًّا فيه، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني؛ ولا تظهر على أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان منكم مُسيئًا فلينزع من إساءته، إني والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم اكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا حتى يبدي لي صفحته. فإذا فعل ذلك لم أناظره فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم؛ فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سييأس. أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم زاد، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا؛ فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت فلن أُقَصّر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم، ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاء ولا رزقًا عن إنائه ولا مجمرًا لكم بعثًا. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم؛ فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم، أسأل الله أن يعين كلًّا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله، وايم الله إن لي فيكم لصرعى، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي". هذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 9 نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين.

الدرس: 9 نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين.

نماذج من خطب الخلفاء الراشدين الأربعة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (نماذج من خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين) نماذج من خطب الخلفاء الراشدين الأربعة إنّ الحَمْدَ لله، نحْمده ونستَعينه ونستغفره، وأشهد أنّ لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: ف كان الخلفاء الراشدون الأربعة -أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين- في الذروة من الفصاحة والبلاغة، إذ سرى في نفوسهم بيان القرآن بترغيبه وترهيبه، وبيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمواعظه وتشريعاته، وتَسَرّب هذا البيانُ إلى أجزاء نفوسهم، وأخذ بمجامع قلوبهم، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- أول من أسلم من الرجال وكان أحب رفيق إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وألصق أصحابه به، وقد نوه القرآن الكريم بذكره -رضي الله عنه- قال الله -تبارك وتعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5 - 7). وفي أبي بكر -رضي الله عنه- قال قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40)، وفيه -رضي الله عنه- قال الله -تبارك وتعالى-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22). وأبو بَكرٍ -رَضي اللهُ عَنه- كان خيرَ مَنْ يُمَثّل المُسلم بأخلاقه وفضائله، وحميته للدين وتأثره بهدي القرآن الكريم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأثرًا استحوذ على كل نفسه؛ فإذا لِسَانُه يتدفق تدفق السيل، بما اسْتَشْعَر من معاني الإسلام وقيمه الروحية، وقد أُثِرَت عنه -رضي الله عنه- خطب كثيرة تدل دلالة واضحة على شدة شكيمته في الدين، ويقظته وصدق حسه، وأنه حقًّا كان أجدر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخلافته. فمن ذلك أنه لما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى اضطرب الناس وماجوا وقالوا وقال معهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم جميعًا-: إنّ الرسول لم يمت. أقبل أبو بكر -رضي الله عنه-

فكشف عن وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعَلِمَ أنّه قد مات، فقَبّله وقال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا"، ثم خَرَجَ فبَدر الصّحابة بخطبته المشهورة التي قال فيها: "من كان يعبد محمدًّا؛ فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت. ثم أخذ في بيان غلط من كذبوا موته محتجًّا عليهم بقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30). وقوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران: 185) وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَا لِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ} (القصص: 88). فثاب من كذبوا موته -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أصحابه أجميع- إلى رُشدهم، بعدما سَمِعُوا من أبي بكر -رضي الله عنه- وكأنّهم لم يسمعوا هذه الآيات قبل هذه الساعة. ولم يَلْبَث -رضي الله عنه- أنْ عَرَف أنّ الأنصار قد اجتمعوا إلى سعد بن عبادة في ثقيفة بني ساعدة، يقولون: منا أمير ومن قريش أمير. فراعه ذلك وخشي على الأمة من الفرقة والطمع في الملك، فبادر إليهم قبل أن يستفحل الشر، وتبعه عمر وأبو عبيدة في نفر من المهاجرين، وهناك خطب في الأنصار، فأقنعهم أن يجتمعوا على رجل من قريش، وكان مما قاله في خطبته، بعد أن سَكت عمر عن الكلام، وكان عمر يريد أن يتكلم لأنه قد زور في نفسه كلامًا يخشى أن لا يبلغه أبو بكر، لكنه سكت لما سكته أبو بكر. ثم حمد الله -عز وجل- وأثنى عليه، ثم قال -رضي الله عنه-: "أيها الناس، نحن المُهاجرون أوّلُ الناس إسلامًا، وأكرمهم أحسابًا، وأوسطّهم دارًا، وأحسنُهم وجوهًا، وأكثر الناس وِلادةً في العرب، وأمسّهم رَحِمًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمنا في

القرآن الكريم عليكم، فقال -تبارك وتعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (التوبة: 100). فنحنُ المهاجرون وأنتم الأنصار، إخواننا في الدًين، وشركاؤنا في الفَيْء، وأنصارُنا على العدوّ، آويتم وواسيتم، فجزاكم اللهّ خيرًا، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تَدِين العرب إلّا لهذا الحيّ من قُرَيش، فلا تنْفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم اللهّ من فضله". فلما اتفقوا على بيعته -رضي الله عنه- قام فخطب في الناس؛ فحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم، ولستُ بخيركم، فإن رأيتُموني على حق فأَعينوني، وإن رأيتُموني على باطل فسدِّدوني، أَطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه لا طاعة لي عليكم، ألاَ إن أقواكم عندي الضَّعيفُ حتى آخذَ الحقَّ له، وأَضعفَكم عندي القوي حتى آخذَ الحق منه. أقول قولي هذا وأَستغفر الله لي ولكم". ولما ارتد مَن ارتد من العرب ومنع بعضهم الزكاة عزم -رضي الله عنه- على قتالهم وراجعه عمر في ذلك فقال: "والله لو منعوني عناقًا كانوا يوأدونها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه". وخطب الناس فقال: "أيها الناس، من كان يعبُد محمدًا؛ فإنّ مُحمّدًا قد مات، ومن كان يَعْبُد اللهَ؛ فإنّ الله حيُّ لا يموت، أيها الناس، أن كَثُر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون قوله الحق ووعده الصدق: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18)، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249).

أيها الناس؛ والله لو أفردت من جمعكم، لجاهدتم في الله حق جهاده؛ حتى أبْلُغ من نفسي عذرًا، أو أقتل مقتلًا. أيها الناس؛ والله لو منعوني عقالًا لجاهدتم عليه، واستعنت بالله إنه خير معين". وإذا أخذنا نقرأ في خطبه -رضي الله عنه- وجدنا جمهورها وعظًا يستمد مادته من القرآن الكريم وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذلك قوله في خطبة له: "إنّ الله -عز وجل- لا يَقْبَلُ من الأعمال إلّا ما أُريد به وجهه؛ فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أنّ مَا أخْلَصْتُم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها وحظ ظفرتم به وضرائب أديتموها، وقدمتم من أيامكم الفانية لأخراكم الباقية، اعتبروا يا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم؛ أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون؟ أين الذين بنوا المدائن وحصنوا بالحوائط، وجَعَلُوا فيها الأعاجيب قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مَساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور هل تحس منهم من أحد أو تسمع له ركزًا. ألَا إنّ اللهَ لا شريك له، ليس بنيه وبين أحد من خلقه سببٌ يُعطِيه به خيرًا، ولا يَصْرِفُ عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأنّ ما عِنْدَه لا يُدرك إلا بطاعته، أمّا أنّه لا خَيْرَ بِخير بعده النار، ولا شَرّ بِشَرٍّ بعده الجنة". واستن بجانب مثل هذه الموعظة سنة الوصية للجيوش الفاتحة، وهو في وصاياه يصدر عن روح الإسلام السمحة، وتعاليمه السامية في معاملة المسلمين فيمن يغلبون عليهم؛ إذ يطلب إليهم ألا يخونوا ولا يغدروا، ولا يُمثلوا ولا يَقْتُلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا يفسد زرعًا، ولا يستحلُّوا مالًا، ولا يتعرضوا لرُهْبَان النّصارى. وتصور ذلك كله وصيته لجيشِ أسامة بن زيد حين سيره إلى مشارف الشام، وفيها يقول: "يأيّها الناس، قِفُوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي: لا تخونوا ولا

تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلًا، ولا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمأكل، وسوف تمرون بأقوامٍ قد فرغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". وواضِحٌ فيما تمثلنا من خطابة أبي بكر -رضي الله عنه- أنه لم يكن يلهج بسجع، إنما كان يلهج بكلام فصيح جزل واضح الدلالة عما في نفسه، وكان يتخير لفظه؛ ورُبّما كان من الأدلة على ذلك ما يُروى من أنّه عرض لرجل معه ثوب؛ فقال له: أتبيعُ الثّوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله. فتأذى أبو بكر بما يوهمه ظاهر اللفظ؛ إذا قد يُظَنُّ أنّ النفي مُسَلّط على الدعاء، فقال له: لقد عُلّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله. وكان من صواب رأيه وصحة فراسته -رضي الله عنه- اختياره عُمر خليفة من بعده، وكان على شاكلته نَفَاذُ بَصِيرة وصِدْقُ عَزم، وبلاغة لسان؛ كما كان صفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أعز الله به الإسلام في مكة حين أعلن ولاءه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما زال منقطعًا إليه، والرسول يقربه منه ويتخذه موضع مشورته؛ حتى تُوفي وخلفه أبو بكر -رضي الله عنه- فكان له نعم الظهير والمعين. ولما أسندت إليه مقاليد الخلافة نهض بها في راجحة عقل، حتى إن أحدًا لم يرد عليه رأيًا واحدًا ولا عملًا واحدًا، وما زال يوطئ الأمر بسعة حلم وشدة عزم، مُجندًا الأجناد حتى فُتِحَتْ فارس، وتَمّ فتح الشام، وفتحت مصر وهو على ذلك كله نعم الكالئ والحافظ لرعيته. وكان بيانه في مِقْدَارِ عَقْلِه قوة وسداد، إذ كانَ في مَرتبة رفيعة من البلاغة والفصاحة؛ حتى قالوا: إنه كان يستطيع أن يخرج "الضاد" من أي شدقيه شاء،

فما هو إلا أن يقف بين الناس واعظًا، أو يقوم في الجنود ناصحًا؛ حتى يهدر بكلامه، وحتى تنصاع له القلوب انصياعًا. ومن خطبه -رضي الله عنه- بعد أن ولي الخلافة، أنه قام في الناس خطيبًا فقال: "إن الله -عز وجل- قد ولاني أمركم، وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يُلهمني العَدْلَ في قَسْمِكُم كالذي أمرني به، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله -عز وجل- ولن يُغير الذي وليت خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله، إنما العظمة لله -عز وجل- وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إنّ عُمَرَ تَغَيّر منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأُبَيّن لكم أمْرِي؛ فأيُّما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، أو عتب علينا في خُلق فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم. فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم، وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي؛ فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيبٌ إليّ صلاحُكُم، عزيز عليّ عنتكم، وأنْتُم أناسٌ عامّتكم حضر في بلاد الله، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه، وإن الله -عز وجل- قد وعدكم كرامة كثيرة، وأنا مسئولٌ عن أمانتي، وما أنا فيه، ومُطّلعٌ على ما بحضرتي بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله تعالى". ومن مواعظه -رضي الله عنه- أنه قال ذات يوم: "إنّ الله -سبحانه وبحمده- قد استوجب عليكم الشكر، واتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا من غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه؛ فخَلَقكم -تبارك وتعالى- ولم تكونوا

شيئًا؛ خَلَقَكُم لعِبَادَته، وسَخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وحملكم في البر والبحر ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. ثم جعل لكم سمعًا وبصرًا. ومن نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم، ومنها نعم اختص بها أهل دينكم؛ ثم صارت تلك النعم خواصها وعوامها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم، وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلّا لو قُسِمَ ما وصل إليه منها بين الناس كلهم، أتعبهم شُكْرُها، وفَدَحهم حَقُّهَا إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله. فأنتم مُسْتَخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم والله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد؛ فنَسْأَلُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته، والمسارعة إلى مرضاته". وسار عمر -رضي الله عنه- في خلافته سيرة أبي بكر -رضي الله عنه- في تشييع الجيوش بالخطابة محرضًا على الجهاد، حتى ينتشر الدين الحنيف في أقطار الأرض، وهو لا ينتشر إلّا بالقُوّة التي تُعِزّ الحَقّ وتعلي سلطانه، إنّها معركة الإسلام، معركة النفوس المؤمنة التي وعدها الله أن ترث الأرض ومن عليها. وما زال عُمرُ -رضي الله عنه- يبرز هذه المعاني محاولًا أن يرتفع العرب في جهادهم عن ضعف المخلوق، ويصبحوا قوة من قوات الخالق يقول -رضي الله عنه- في بعض هذه الخطب: "أين الفقراء المهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنّ اللهَ سُبحانه قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33)، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولى أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون. ولما اجتمع الجيش أمّر عليه أول من أجابه حينئذ إلى الجهاد؛ وهو أبو عُبيد ابن مسعود، وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشركهم في الأمر، ولا

تَجْتَهد مُسرعًا حتى تتبين؛ فإنّها الحرب، والحرب لا يُصلحها إلّا الرّجُل المكيث الذي يَعرف الفُرصة والكف". وتوفي عُمر -رضي الله عنه- وخلفه عثمان -رضي الله عنه- وكان يهبط درجة عنه، وعن أبي بكر في الفصاحة والبيان، ويروى أنه -رضي الله عنه- ارتج عليه يومًا، وقد أراد الخطابة في الناس فقال: "إنّ أبا بكر وعمر كان يعدان لهذا المقام مقالًا، وأنتم إلى إمام عادل، أحوج منكم إلى إمام خطيب". وليس معنى ذلك أن عثمان -رضي الله عنه- كان يرتج عليه دائمًا؛ فقط كان يخطب أحيانًا فيملأ النّفس بمواعظه، على شاكلة قوله حين بايعه أهل الشورى والناس: "إنّكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أوتيتم صبحتم أو مسيتم ألا وإن الدنيا طويت على الغرور؛ فلا تَغُرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا؛ فإنه لا يغفل عنكم أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها، ومُتّعوا بها طويلًا ألم تلفظهم! ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلًا فقال -عز وجل-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 45، 46). وامْتُحن عثمان -رضي الله عنه- في آخر أيامه بالثّورة عليه؛ فلم تنحرف نفسه بل ظل صابرًا يتلو القرآن، ويدعو الناس إلى ألا يُحدثوا فتق هذه الفرقة، وهو في أثناء ذلك يعظهم ألا تبطرهم الدُّنيا، وأن يؤثروا ما بقي على ما يفنى؛ فيلزموا الجماعة، ولا يتخاذلوا فيصبحوا أحزابًا. وولي علي -رضي الله عنه- الخلافة بعد عثمان، والفتنة تموج بالناس وطلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم جميعًا- يؤلبون عليه أهل البصرة، ومعاوية يؤلب أهل الشام، فاصطدم

بهم جميعًا، وانتقل إلى الكوفة يجمع الناس ويحاربهم، وانتصر على الثلاثة الأولين؛ ودَخَل مع معاوية في حروب صفين؛ ثم كانت خدعة التحكيم. وخرج عليه فريق من جيشه فاضطر إلى حربه، وهو في كل ذلك يخطب واعظًا حينًا وداعيًا إلى جهاد خصومه حينًا آخر، وكان علي -رضي الله عنه- خطيبًا مفوهًا لا يُشَقُّ غباره. ومن مواعظه -رضي الله عنه- قوله: "إنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوَداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم والسِّباق غدًا. ألا وِإنكم في أيام أمل، ومِن وراثة أجل، فمن أخْلَص في أيام أمله، قبل حُضور أجله، نفعه عملُه، ولم يَضره أملُه؛ ومن قَصر في أيام أمله، قبل حُضور أجله، خَسِر عملُه، وضَره أمله. ألا فاعملوا الله في الرغْبة، كما تَعملون له في الرَّهبة؛ ألا وإني لم أرَ كالجنَة نام طالبها، ولا كالنَار نام هاربها". وطبعي أن تكثر خطب عليه في حروب خصومه؛ فقد ظَلّ نحو أربع سنوات يجاهدهم، ويَخْطُب في أصحابه حاثًّا على الجهاد، ومن قوله في خطبة له بآخرة من أيامه وقد تقاعس بعض جنوده، وأخذ جنود معاوية تغير على أطراف العراق فقد خطب -رضي الله عنه- فقال: "إنّ الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء ولزمه الصغار، وسيم الخسف ومنع النصف؛ ألَا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم فوالله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريًّا حتى شنت عليكم الغارات، فيا عجبًا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! حتى صرتم غرضًا يُرمى، وفيئًا ينتهبْ يُغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، قد ملئتم صدري غيظًا وجرّعتموني الموت أنفاسًا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان".

نماذج من خطب الصحابة والتابعين.

وقد خلف علي -رضي الله عنه- خطبًا كثيرة نجد منها أطرافًا في (البيان والتبيين) و (عيون الأخبار) والطبري على أنه ينبغي أن نقف موقفًا الحذر مما يُنسب إلى علي -رضي الله عنه- من خطب في الكتب المتأخرة، وخاصة (نهج البلاغة) فإن كثرته وضعت عليه وضعًا، وقد تنبه إلى ذلك السابقون فنبهوا منه وحذروا. ومن خطبه -رضي الله عنه- حين التقى جيشه بجيش معاوية في صفين خطب فقال: "الحمدُ لله الذي لا يُبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة، ولا من خلقه، ولا تنازع البشر في شيء من أمره؛ ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار حتى لفت بيننا في هذا الموضع، ونحن من ربنا بمرأى ومسمع، ولو شاء لعجل النقمة ولو شاء لكان منه النصر، متى يكذب الله الظالم ويعلم المحق أين مصيره! ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال والآخرة دار الجزاء والقرار: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31). ألا إنكم لاقوا العدو غدًا إن شاء الله؛ فاطلبوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالحد والحزم وكونوا صادقين". نماذج من خطب الصحابة والتابعين ومن خطبة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ينهى الحسين بن علي عن الخروج إلى العراق، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- للحُسين: "يا ابن عم، إنّي أتصبر ولا أصبر، وإني أتخوف عليك من هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم، فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم. فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن؛ فإن بها حصونًا وشعابًا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها

شيعة، وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وتُرسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب فى عافية". ومن خطبة ال ح سين -رضي الله عنه - وقد أحس بغدر أهل العراق قال: "أيها الناس، إنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من رأى سلطانًا جائرًا مُستحلًّا لحُرم الله، ناكثًا لعهد الله، مُخالفًا لسُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعْمَلُ في عباد الله بالإثم والعدوان؛ فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله)). ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير وقد أتتني كتبكم؛ وقدمت على رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني؛ فإن تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم. وأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم؛ فلكم في أسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم؛ فلعمري ما هي لكم بنُكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي، والمغرور من اغتر بِكم فحَظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". ومن خطبة المُسيب بن نجبة الفزاري يُعلن التوبة عن التقصير في نصرة الحسين، حَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "أما بعد؛ فإنّا قد ابْتُلينا بطول العُمر، والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى رَبّنا ألا يجعلنا ممن يقول له غدًا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر: 37). فإنّ أمير المؤمنين قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا حتى بلا الله

أخيارنا؛ فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه. وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره؛ عودًا وبدءًا وعلانية وسرًّا. فبخلنا عنه بأنْفُسنا؛ حتى قُتل إلى جانبنا، لا نَحْنُ نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قَوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا فما عُذْرُنا إلى رَبّنا، وعند لقاء نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد قُتِلَ فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله، لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك؛ فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك وما أنا بعد لقائه بعقوبته بآمن. أيها القوم، ولوا عليكم رجلًا منكم؛ فإنه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفون بها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". ومن خطبة لعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- خطب -رضي الله عنه- الناس فقال: "أيها الناس، لا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عنكم يوم القيامة؛ فإنّ من وافته منيته فقد قامت قيامته، ولا يستعتب من سيئ، ولا يَزِيدُ في حُسن، ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيًا، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم. ألا وإني أعالج أمرًا لا يُعين عليه إلا الله؛ فقد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وأفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره؛ ثم قال: إنه لحبيب إليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها، ولا قوة إلا بالله". ومن خُطبة لقطري بن الفجاءة قال: "أما بعد، فإني أحَذِّركم الدُّنيا، فإنها حُلوة خضِرة، حُفت بالشَّهوات، وراقت بالقليل، لا تَعْدو إذا هي تَنَاهت إلى أمنية أهل الرغْبة فيها والرِّضا عنها أن تكون كما قال الله -عز وجلَّ-: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (الكهف: 45). مع أنَّ امرأً لم يكن منها في حَبْرة إلا أعْقبته بعدها عَبْرة،

ولم يَلْق من سَرِّائها بَطْنًا إلا مَنَحته من ضَرَائها ظَهْرًا، ولم تَطُلّه منها دِيمة رَخاء، إلّا هَطلت عليه مُزْنة بَلاء؛ وحَرِيّة إذا أصبحتْ له مُنتصرة أنْ تُمْسي له خاذلة مُتَنَكِّرة، وإنْ جانبٌ منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه جانب فأوْبى، وإن لَبِس امرؤ من غَضَارتها ورفاهِيتها نِعمًا، أرْهَقَتْه من نوائبها غمًّا. ولم يُمْس امرؤ منها في جَناح أمْن، إلا أصْبح منها على قوادم خَوْف. غرارة عُرُور ما فيها، فانية فانٍ من عليها، لا خيْرَ في شيء من زادها إلاّ التّقوى، مَن أقلّ منها اسَتكثر مما يؤمّنه، ومن استكثر منها استكثر مما يُوبقه. كم واثق بها قد فَجَعَته، وذي طُمأنينة إليها قد صَرَعَته، وكم من مختال بها قد خَدَعَته، وكم ذي أبهة فيها قد صيَرَّته حَقيرًا، وذي نخْوَة فيها قد ردَّته ذليلًا، وذي تاجٍ قد كَبَّتْه لليدين والفم. سُلطانها دُوَل، وعيشها رَنْق، وعذْبُها أجَاج، وحُلْوًها مُرّ وغِذاؤها سِمَام، وأسبابها زحام، وقِطَافها سَلَع. حَيُّها بعَرَض مَوْت، وصَحيحها بعَرَض سُقْم، ومَنيعها بعَرَض اهتضام. مَلِيكها مَسْلوب، وعزيزها مَغْلوب وسَليمها مَنْكوب، وجامعُها مَحْروب، مع أنَ مِن وَرَاء ذلك سَكراتِ الموت وزَفَرَاته، وهَوْل المُطّلع، والوُقوف بين يَدَي الحَكَم العَدْل، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31). ألستُم في مساكن منْ كان منكم أطولَ أعمارًا، وأوْضَح آثارًا، وأعدَ عديدًا، وأكْثَفَ جُنُودًا، وأعمَد عَتَادًا، وأصول عِمَادًا! تعبدو تُعَبِّدُوها أيِّ تَعَبُّد، وآثروها أيَ إيثار، وظَعنوا عنها بالكُرْه والصَغار! فهل بَلَغكم أنَّ الدُّنيا سَمَحَتْ لهم نَفْسًا بِفِدْية، وأغنَتْ عنهم مما قد أملتهم به! بل أثقلتهم بالفَوَادح، وضعْضَعتهم بالنوائب، وعَفرتهم للمناخر، وأعانَت عليهم رَيْبَ المَنون. وقد رأيتم تنكُّرها لمن دانَ لها وآثرها وأَخْلَد إليها، حتى ظَعَنوا عنها لِفِراق الأبد، إلى آخِر الأمَد. هل زوَدَتهم إلا الشقاء، وأحلتهم إلا الضَّنْك، أو نوَّرَت لهم إلا بالظلمة، وأعْقَبتهم إلا النَّدامة! أفهذه تؤْثِرون، أو على هذه تَحْرصون، أو إليها

تَطْمَئِنّون! والله -تبارك وتعالى-: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15، 16). فبئست الدَّار لمن لم يتَهمْها، ولم يكن فيها على وَجَل منها. اعلموا، وأنتم تعلمون، أنكم تاركوها لا بُدَّ، فإنما هي كما نَعَتَ الله -عزِّ وجلَّ-: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} (الحديد: 20) فاتَّعِظُوا فيها بالذين يبنون بكل رِيعٍ آيةً، وبالذين قالوا: مَنْ أشَدُّ مِنا قوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حُمِلُوا إلى قُبورهم، فلا يُدْعون رُكْبانًا، وانْزلوا الأجداث فلا يُدْعون ضِيفانًا، وجُعِل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرًّفات جِيران، فهم جيرة لا يُجيبون داعِيًا، ولا يمنعون ضَيمًا. يُزارون ولا يستزارون، حُلماء قد ذَهَبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادُهم، لا يُخْشى فَجْعهم، ولا يُرْجي دَفْعهم، وهم! كمن لم يكن. كما قال الله تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 58). استبدلوا بظَهْر الأرْض بَطْنًا، وبالسَّعة ضيقًا، وبالآل غُرْبة، وبالنُّور ظُلْمة، فجاءوها حُفاةً عُراةً فرَادى، وظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، إلى خُلُود الأبد. يقول الله -تبارك وتعالى-: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104). فاحذروا ما حَذّرَكم الله، وانتفعوا بمواعظه، واعتصموا بِحَبْلِهِ، عَصَمنا الله وإياكم بطاعته، ورَزَقنا وإياكم أداء حقه". ومن خُطبة للمأمون في يوم الجمعة أنه قال: "الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبه على خلقه أحمده وأستعينه، أومن به وأتوكل عليه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربه بالهُدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجز لوعده، والخوف لوعيده؛ فإنه لا

يسلم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه. فاتقوا الله وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول ويفنى، وترحلوا عن الدنيا، فقد جُدّ بكم، واستعدوا للموت فقد أظلكم، وكونوا كقوم صيح فيهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا فانٍ، فإن الله -عز وجل- لم يخلقكم عبثًا، ولم يَتْرُككم سُدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلّا المَوْت أنْ يَنْزِلَ به؛ وإنّ غَاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة الواحدة، بقصر المدة. وإن غائبًا يحدوه الجديدان الليل والنهار؛ لجَديرٌ بسرعة الأوبة، وإن قادمًا يحل بالفوز أو بالشقوة لمستحق لأفضل العدة. فاتقى عبد ربه، ونصح نفسه، وقدم توبته، وغلب شهوته؛ فإنّ أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها، ويمنيه التوبة ليسوقها؛ حتى تهجم عليه منيته، أغفل ما يكون عنها. فيا لها حسرة على كل ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤديه منيته إلى شقوة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غفلة، ولا يحصل به بعد الموت فزعة، إنه سميع الدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير". ومن خُطبة للمأمون في عيد الأضحى قال بعد افتتح خطبته بالتكبير: "إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله، وأوجب تشريفه، وعظم حرمته، ووفق له من خلقه صفوته، وابتلى فيه خليله. وفدى فيه بالذبح العظيم نبيه، وجعله خاتم الأيام المعلومات من العشر، ومقدم الأيام المعدودات من النفر، يوم حرام، من أيام عظام، في شهر حرام، يوم الحج الأكبر، يوم دعا الله فيه إلى مشهده، ونزل القرآن العظيم بتعظيمه، قال الله -عز وجل-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27). فتقربوا إلى الله في هذا اليوم

بذبائحكم، وعظموا شعائر الله، واجعلوها من طيب أموالكم، ومن تقوى قلوبكم، فإن الله تبارك وتعالى قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37). الله الله، فوالله إنه الجد لا اللعب، والحق لا الكذب، وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والصراط والقصاص والثواب والعقاب. فمن نجا يومئذ فقد فاز، ومن هوى يومئذ فقد خاب، الخير كله في الجنة. والشر كله في النار". ومن خطبة للحسن البصري -رحمه الله-: خرج الحسن البصري يومًا على أصحابه وهم مجتمعون فقال: "والله لو أن رجلًا مِنْكُم أدرك من أدركت من القرن الأول، ورأى من رأيت من السلف الصالح؛ لأصبحَ مَهْمُومًا، وأمسى مغمومًا، وعلم أن المجد منكم كاللاعب، والمجتهد كالتارك ولو كنت راضيًا عن نفسي لوعظتكم، ولكنّ الله يعلم أني غير راضٍ عنها؛ ولذا أبغضتها وأبغضتكم. أيها الناس، إنّ للناس عبادًا قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة وأنفسهم عفيفة، صَبّروا الأيام القلائل لما رجوه في الدهور الأطاول، أما الليل فقائمون على أقدامهم، يتضرعون إلى ربهم؛ ويَسْعَونَ في فكاك رقابهم، تجري من الخشية دموعهم، وتخفق من الخوف قلوبهم. وأما النهار فحلماء أتقياء أخفياء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تخالهم من الخشية مرضى وما بهم من مرض، ولكنهم اختصوا بذكر النار وأهوالها، لقد كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم، وكانوا أبصر بقلوبهم لدينهم منكم لدنياكم بأبصاركم، ولهم كانوا لحسناتهم أن ترد عليهم أخوف منكم أن تعذبوا على سيئاتكم أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون". وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 10 الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة.

الدرس: 10 الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة.

الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (الدرس الديني: شروطه، فوائده، الفرق بينه وبين الخطبة) الدعوة أو التبليغ بالقول، وضوابطه، وآدابه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فتبليغ الدعوة إلى الله تعالى يكون بالقول وبالعمل، وبسيرة الدّاعي التي تجعله قدوة حسنة لغيره؛ فتَجْذِبَهم إلى الإسلام. وسنَتَكَلّمُ -إن شاء الله تعالى- عن الوسيلة الأولى وهي الدعوة بالقول أو التبليغ بالقول. القول: هو الأصل في تبليغ الدعوة إلى الله، فالقرآن الكريم وفيه معاني الدعوة إلى الله هو: "قول رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون به التبليغ" كما أمره الله -عز وجل- أن يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَه} (التوبة: 6). وكان تبليغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرسالة ربه للناس بالقول، قال الله تعالى مخاطبًا رسوله -صلى الله عليه وسلم- وآمرًا له أن يقول للناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} (يونس: 108) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وكذلك أمر اللهُ رُسلَه أجمعين بتبليغ أقوامهم رسالة ربهم بالقول المُبين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون: 23). فلا يجوز للداعي أن يُغفل مكانة القول في تبليغ الدعوة، ولا أثر الكلمة الطبية في النفوس؛ فالقول إذًا هو الوَسِيلَةُ الأصيلة في إيصال الحقِّ للناس. والقول في مجال التبليغ أنواع؛ منها: الخُطْبَةُ، والدرس، والمحاضرة، والمناظرة، والتحديث أمرًا بمعروف أو نهيًّا عن منكر، والكتابة فإنها أيضًا من القول

باعتبارها أداة من أدوات التبليغ، وتُؤدي ما يؤدي إليه القول بالنسبة لمَن لا يمكن للداعي مشافهتهم. ويَحْسُن قبل أن أخوض في تفصيلات هذه المواقف التعبيرية، أنْ نُبَيّن ما يَجِبُ عَلَى الدّاعِيةِ أنْ يَلتَزِمَ به في قوله سواء كان مدرسًا أو محدثًا، محاضرًا أو خطيبًا، مناقشًا أو واعظًا؛ باعتبارها أساسيات وضوابطَ يجبُ أنْ يتقيّد بها، ويَسير في جميع أقواله عليها. فنقول: من الضوابط العامة التي يجب على الداعية أن يتلزم بها في قوله أن يكون القول واضحًا بينًا، لا غموضَ فيه ولا إبهام، مفهومًا عند السامع؛ لأنّ الغَرَض من الكلام إيصال المعاني المطلوبة إلى مَن يكلمه الداعي؛ فيَجِبُ أنْ يَكون الكلامُ واضحًا غايةَ الوضوح، ولهذا أرسل الله رسله بألسنة أقوامهم؛ حتى يفهموا ما يدعونهم إليه ويستطيعون بيانه إليهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وجعل الله تعالى وظيفة الرسل الكرام التبليغ المبين الواضح، لتقوم الحُجّةُ على المُخاطبين، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور: 54) ومِقْيَاسُ الوُضوح ليسَ نَفْسَ الدّاعي وفهمه؛ فقد يكون الكلام واضحًا بالنِّسبة له غامضًا بالنسبة إليهم، وكذلك ليس مقياس وضوح القول بذاته؛ فقد يكون الكلام واضحًا بنفسه، ولكنه غير واضح بالنسبة إليهم. فالمِقْيَاسُ إذًا هو أن يكون الكلام واضحًا عند المدعوين، وهذا هو الذي يشير إليه قوله رب العالمين سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} فالبيان للمدعوين لا للداعي، ولا للكلام بذاته، وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "كان كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلاما فصلًا" أي: بينًا ظاهرًا "يفهمه كل مَن يسمعه".

ويجبُ أن يَكونَ الكَلامُ خاليًا من الألفاظ المستحدثة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، وخطأً وصوابًا، وعلى الدّاعي أن يَحْرِصَ على استعمال الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسُّنة، وعند علماء المسلمين؛ لأنّ هذه الألفاظ تكون مُحَدّدة المعنى، واضحة المفهوم؛ خالية من أي معنى باطل، قد يَعْلق في ذهن المدعو. وقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة هذا النهج في الكلام، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (البقرة: 104) لأن في كلمة: {رَاعِنَا} في لسان اليهود معنى باطلًا كانوا يقصدونه عند مخاطبتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة؛ فأمر الله تعالى المسلمين أن يتركوها ويستعملوا مكانها: {انْظُرْنَا} بدلًا من: {رَاعِنَا} حتى لا يتحجج اليهود بهم فيستعملوا كلمة: {رَاعِنَا} يريدون بها الشتيمة والتنقيص. وإذا اضطر الداعي إلى استعمال بعض الألفاظ المُستحدثة؛ فعليه أن يبين مقصوده منها، حتى لا يتبادر إلى الأذهان المَعَاني البَاطِلَةُ التي تحملها هذه الألفاظ، أو التي يفهمها الناس منها. ويجبُ على الداعية أن يكون كلامه باللغة العربية الفصحى؛ لأنها لغة القرآن، وشِعَارُ الإسلام وهذا ما أكده النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن كثير عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه: ((ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان)). فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلى الداعية إذا وُجِدَ بينَ قومٍ يُحسنون فهم اللغة العربية، ألا يعدل إلى لغة أخرى، أو لغة عامية محلية؛ لا تَمتُّ إلى العربية الأصلية بصلة ولا نسب. ولكن ماذا يصنع الداعية إذا كان في بيئة لا تعرف التفاهم بالفصحى؟

نقول في جواب هذا السؤال: إذا استطاع الداعية أن يبسط حديثه بشكل يفهمُ النّاسُ عنه فليفعل؛ وإنْ لَم يستطع، قد يجد نفسه مضطرًّا أن يتكلم معهم باللهجة أو باللغة التي يفهمونها؛ فلا بأس، فهذا من باب: ((أُمرت أن خاطب الناس على قدر عقولهم)). وعلى الداعية في قوله أن يتأنَّى في الكلام؛ فلا يُسرع بل يتمهل حتى يستوعبَ السامع كلامه ويفهمَه؛ فقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري: ((أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تفهم عنه)). وعلى الداعية أن يبتعد عن التفاصح والتعاظم والتكلف في نطقه، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثًا. والتنطع في الكلام التفاصح فيه والتعمق. وفي حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة؛ الثرثارون والمتشدقون والمُتَفَيهقون)) والمُتفيهق هو الذي يملئ فمه بالكلام، ويَتوسُّع فيه ويُغَرّب به؛ تكبرًا وارتفاعًا وإظهارًا للفضيلة على غيره. وعلى الدّاعية أن يبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره، وتحديه وإظهار فضله عليه، وإنّما عليه أن يكلمه بروح الناصح الشفيق الملخص المتواضع، الذي يَدل غيره على ما ينفعه ويعرفه به، على الداعي أن يُكَلّمه كمبلغ له معاني رسالة الله، لا أن يكلمه كمبلغ له فضله وعلمه. إنّ ملاحظة هذه الأمور ضرورية جدًّا للداعي، وإذا لم يراعها انقطع ما بين قوله وبين قلب المدعو؛ فلا يتأثر بشيء مما يسمع، بل ينفر المدعو ولا يطيق سماع قول الداعي وإن كان حقًّا.

وعلى الداعية أن يتلطف بالقول؛ فيَسْتَعملَ في كلامه وخطابه ما يُثِيرُ رغبة المدعو إلى السماع، ويُقمع فيه نوازع الجهل والنُّفور، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذا التلطف المفيد، قال الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم: 41، 42) فذكر إبراهيم -عليه السلام- في خطابه لأبيه رابطة الأبوة التي من شأنها أن تجعل الابن حريصًا على مصلحة الأب، وتجعل الأب جديرًا بأن يُصغي إلى خطاب ابنه. وقال الله تعالى عن هود -عليه السلام-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الأعراف: 65) فهود -عليه السلام- خاطبهم بكلمة: {يَا قَوْم} لأنّ هذا الخطاب أدعَى إلى استجابتهم وإلى تحسيسهم بأنّ من يُخاطبهم هو منهم في النسب، وأنّه يُريدُ الخَيرَ لهم. وفي السُّنة النّبوية ما يَدُلّ أيضًا على ما قلناه، وقد ذكر ابن هشام في سيرته: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى إلى بطن من بطون كلب في منازلهم، يقال لهم: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله، وعَرَض عليهم نفسه؛ حتى أنه كان يقول لهم: ((يا بني عبد الله إن الله -عز وجل- قد أحسن اسم أبيكم)) أي: فأحسنوا الإجابة، واقبلوا الدعوة؛ وآمنوا بالله ورسوله. وعلى هذا؛ يجوز للداعية أن يستثير في خطابه همم المدعوين بما يذكرهم به من طيب أصلهم، وكرم عائلتهم وشرف نسبهم، وأن ذلك لا يتفق وجريهم مع العصاة، وانغماسهم في الرذائل والشهوات، وأنّ اللائق بهم أن يكون مع الأخيار المطيعين لله؛ فهذا ونحوه سائغ -إن شاء الله تعالى- لا نرى فيه شيئًا، على أن لا يُسرف فيه الداعي، وأن يكون قصده منه التشويق والحمل على

الطاعة، لا المُدَاهنة والنِّفاق: ((وإنّما الأعمال بالنيات))، والتلطف في القول لا يعني المداهنة والنفاق، ولا إخفاء الحق أو تحسين الباطل أو الرضا به، وإنما هو تشويق للمدعو لقبول الحق وإعانته على هذا القبول، وليس فيه إخفاء مرض المدعو، فإن الداعي كالطبيب، فكما أن الطبيب لا يخفي على المريض علته وضرورة العلاج له فكذلك الداعي. قال الله تعالى حكايةً عن بعض رسله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) وقال تعالى عن صالح -عليه السلام-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 150 - 152). وعلى الداعية أن يكون مقتصدًا في حديثه، معتدلًا في خُطبه ومواعظه؛ ليكونَ كلامُه دائمًا أوقعَ في نفوس مستمعيه، وأشوقَ إلى قلوبهم وأسماعهم؛ فقد روى الإمام أحمد وأبو داود من حديث حكيم بن حِزام -رضي الله عنه- قال: ((شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمعة، فقام متوكئًا على عصا، فكانت كلمات خفيفات مباركات)). ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه- كما جاء في الصحيحين: ((إني أتخولكم بالموعظة -أي: أتعهدكم- كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا)). نعم، قد يحتاج الداعية إلى التطوال، وأن يُكثر من الشواهد ويكرر في الأفكار، كأن يُلقي الدّاعِيةُ مُحاضرة ثقافية عامة، أو يكون في بيئة عامية جاهلة؛ فلا بأسَ في التطوال في المحاضرة لتعارف الناس على طولها، ولا بأسَ بالإطناب والتكرار، وكثرة الشواهد في البيئة الجاهلة؛ من أجل تثقيفها وتعليمها، على أن لا يطيل كثيرًا حتى لا ينفر الناس منه وينفضوا عنه.

وخيرٌ للداعية أنْ ينتهي حديثه والناس في شوق إليه، وحرص على أن يزيد في حديثه، وأنْ يُطيل في وقته، هذا خير له من أن يطيل فيملوه ويتمنوا أن ينهي حديثه. وعلى الدّاعية حين يتكلم أن يكون حديثه لمستمعيه بما يتناسب مع عقليتهم وثقافتهم، وما يتفق مع أعمارهم ولهجاتهم؛ لما روى الديلمي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أُمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم)). وقد يكونُ الدّاعِيةُ غيرَ مُسَدّد حين يكون في بيئة لا يؤمن أهْلُها بكروية الأرض مثلًا، وكم يكون فاشلًا حين يُسَفّه رأي أهلها ويَرْمِهم بالجهل المُطبق والضلال المبين؛ بل عليه في مثل هذه الحالة أن يتحدث فيما هو أهم كقضايا التوحيد ومكارم الأخلاق وأحكام العبادات، ثم بعد هذا يتدرج مع أهلها شيئًا فشيئًا؛ حتى يصل معهم في نهاية الشوط إلى الإقرار بحقائق العلم، وأنها لا تتعارض مع نصوص القرآن الكريم، وكيف يكون التعارض والمنظمُ للكون واحد والمنزل للقرآن واحد وهو الله -عز وجل-؟! من أجل هذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون التحدث للناس بما تتحمله عقولهم؛ حتى لا يكون لبعضهم فتنة، ففي مقدمة (صحيح مسلم) عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)). ومن أدب الداعية: أن يُقبل في أحاديث على جلسائه جميعًا في كل شيء؛ في النظرات، في توجيه الأسئلة، في الإجابة عليها، في البشر والابتسامة، حيث يشعر كل واحدٍ منَ الحَاضِرين أنه يعنيه، ويَخُصّه ويقبل عليه. وبهذا الخلق يستطيع أن يَمْلِك قلوبهم، ويتفاعل معهم، ويُعمق آصرة المحبة والثقة بينه وبينهم، ويكون في

الوقت نفسه قد تأسَّى بصاحب الخلق العظيم -صلى الله عليه وسلم- في إقباله بوجه وحديثه على كل مَن يجتمع بهم، ويتحدث إليهم، حتى إن الرجل كان يظن نفسه في المجلس أنه خير القوم. ولذلك قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه: ((إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يُقبل بوجهه وحديثه على شرّ القَوم يتألفه بذلك)). وهذا أدب كريم في الدعاة، عليهم أن يتنبهوا له، ويقوموا على تنفيذه؛ لجذب الناس وتأليفهم وشدهم إلى الإسلام. ومن أدب الداعية في حديثه: مُلاطفة الجُلساء في المجلس، وإدخال السرور عليهم؛ حَتّى لا يشعروا بالسأم، ولا يُداخلهم المَلل، ولا ينتابهم الفتور، وكم يُسَرّ الجُلساء حين يروا داعيتهم إلى الخير لا تفارق الابتسامة ثغه، ولا تجافي الملاطفة حديثه، وكم يتشوقون للحضور والاستماع حين يرونه يمزج الحديث بالطرائف، ويطعم المواعظ بالملائح. روى الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه (الأذكياء) عن محمد بن معين الغفاري، قال: أتت امرأةٌ عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ زوجي يصومُ النهار ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه هو يعمل بطاعة الله، فقال لها عمر: "نِعم الزوج زوجك". فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب، فقال له كعب الأسدي: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها على الفراش؛ فقال عمر: "كما فهمتَ كلامها، فاقضِ بينهما". فقال كعب: عليّ بزوجها، فأُتي به، فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك قال: أفي طعام أو شراب؟ قال: لا، فأنشدت المرأة هذه الأبيات: يا أيها القاضي الحكيم رشده ... ألهَى خليلي عن فراشي مسجده نهاره وليله ما يرقده ... ولست في أمر النساء أحمده زهدني في مضجعه تعبده ... فاقض القضايا كعب لا تردده

فقال زوجها على الفور: زهدتُ في فراشها وفي الحجل ... أني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النمل وفي السبع الطول ... وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إن لها عليك حقًّا يا رجل ... تصيبها في أربع لمن عقل قضية من ربنا عز وجل ... فأعطها ذاك ودَعْ عنك العلل فإن خير القاضيين من عدل ... وقد قضى بالحق جهرًا أو فصل ثم قال: إنّ الله -عز وجل- قد أحلّ لك من النساء مثنى وثلاث ورباع؛ فلك ثلاث أيام ولياليهن تعبد فيها ربك، ولها يومٌ وليلة. فقال عمر لكعب: "والله ما أدري من أي أمريك أعجبُ؟ أفَمِن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما؟! اذهب يا كعب، فقد وُليتك قضاءَ البصرة". فهذه الطُّرفة جَميلة تُدخل الفرح والسرور وترفه عن أحوال الناس والسامعين، تُناسب أن تذكر في حديث الداعية عن النكاح والحقوق الزوجية، وما يكون بين الزوجين. وعلى الداعية في حَدِيثِه أنْ يَتَرَفّع عن الغِلظة في القول والبذاءة في اللسان؛ فإذا كان الإسلامُ حَرّمَ على المُسلم أن يسب مسلمًا أو يحتقره، أو يتطاول عليه بلسانه؛ فالدّاعية هو أولى من غيره في اجتنابه تطاول اللسان، وبَذاءة الكلام، وغلاظة القول؛ لكونه المقتفي أثر النبوة في اللين، والمتأسي بسيرة السلف في الملاطفة، والمتحلي بمكارم الأخلاق في التعامل مع الناس. استمع أيها الخطيب الداعية إلى ما يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الإيذاء والتحذير من بذاءة اللسان، روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمُهَاجِرُ من هَجَر ما نهى الله عنه)). وروى الشيخان أيضًا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سِبابُ المُسلم فسوق وقتاله كفر)). وغَني عن التعريف أنّ الفُسوق هُنا ليس المراد به الخروج من الإيمان إلى الكفر؛ وإنّما هو الخروج من الطاعة إلى المعصية، كما أنّ الكُفْرَ المذكور في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((وقتاله كفر)) ليس هو الكفر الأكبر المُخرج من الملة؛ بل هو الكفر الأصغر أو الكفر العملي؛ لأنّ الله -تبارك وتعالى- جعل قاتل المؤمن أخًا لولي المقتول فقال -عز وجل- وقد فرض القصاص في القتل العمد، ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 178) فجعل ولي المقتول عمدًا أخًا للقاتل ومعناه أنه لم يكفر بقتله. كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 9، 10) فسمى الله تعالى الطائفتين المتقاتلتين مؤمنين، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فلم يكفروا بالقتال، وجعلهم أخوة للمؤمنين قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ولو كان الكفر في قوله -صلى الله عليه وسلم: ((وقتاله كفر)) هو المُخرج من الملة ما صحت هذه التسمية، ولا صحت هذه الأخوة. وإنما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) من باب المبالغة في الزجر عن سب المسلم وقتله. ورَوى مُسْلِمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)). وروى

الترمذي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)). فعلى الداعية إذًا حين يجلس في الناس ويتحدث إليهم، ويقوم على إصلاح أحوالهم وأوضاعهم، أن ينظر إلى من حوله بروح الناصح الشفيق، وبعطف الأب المخلص الرحيم؛ فإنْ لم يكن بهذه الأخلاق السمحة الرضية حين يتحدث أو يخطب أو يحاضر أو يدرس؛ فسُرعان ما ينفر الناس منه وينفضون عنه، ولو كان الذي يقوله حقًّا. وهذه النظرة التعاطفية التواضعية من الداعية في الاهتمام بالمدعو، وإرادة الخير له، وبذل أقصى الجهد في إصلاحه وهدايته واستشعاره روح المحبة والرحمة هي نظرة سيد الدعاة -صلوات الله وسلامه عليه- كما حكى لنا القرآن الكريم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (الأحزاب: 6). أي: هو كما دلت عليه الآية أرأف بهم، وأعطف عليهم، وأحقُّ بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا. وكما ذكر لنا القرآن في سورة أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- كبير القدر، كريم الأصل، عظيم الشرف، يشق عليه جدًّا أنْ يرى الناس في عنت ومَشَقّة وحَرَج، بل هو الحريص على هداية البشر، بل هو الرءوف الرحيم بالمؤمنين جميعًا، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128). فعلى الداعية أن يتأسى بصاحب الخلق العظيم -صلوات الله وسلامه عليه- في حرصه واهتمامه، ورأفته ورحمته، وتواضعه وتياسره، وليأخذ ما أنزل الله عليه وعلى أمته في تعامل الناس بالرحمة وأخذهم باللين، ومقابلتهم بالعفو، والابتعاد عن كل ما يسوءهم من الكلمات الجارحة، والعبارات القارعة، قال

الدرس وشروطه وفوائده.

الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159). فهذه ضوابط عامة تشمل القول والقائل وهو الداعية في درسه ومحاضرته ومناظرته وفي حديثه في كل مكان. الدرس وشروطه وفوائده والآن نتحدث عن الدرس وشروطه وفوائده: دَرْس الداعية غير درس الأستاذ في المعهد أو المدرسة؛ فالداعية لا تَعنيه مثلًا دروس الجغرافيا والكيمياء والنحو إلى آخر ذلك. وطَريقَةُ الدرس لدى كلٍّ منهما تختلف عن الأخرى، فدرس المدرسة يهتم له المدرس باستيعاب التفاصيل والجزئيات، وإلا عُدّ مُقصرًّا؛ لأن مهمته إفادة دقائق الباب. أما دَرْسُ الدّاعية فيهتم له بالرقائق والقواعد والمعاني العامة؛ فالدرس في الصيام مثلًا يَعْرِضُ له أستاذ المعهد من ناحية الأحكام الفقهية؛ فيتكلم عن تقرير وجوبه، وعلى مَن يَجِبُ وعلى رؤية الهلال، وعدم رؤيته وعلى النية، وما يفطر وما لا يفطر إلى آخر ذلك. أما الداعية فيعرض في درسه عن الصيام من ناحية أنه سر بين العبد وربه، يَسْتَعِينُ به العبد بمراقبة الله تعالى على إتمام صومه، وأثر ذلك في تنبيه مشاعر النفس لها أثرها في ترقية خصائص الإنسان، ويستطرد منه إلى معنى الأمانة في الصيام، وأثرها في ضبط سلوك الفرد وتصرفاته، وفي توثيق روابط المجتمع؛ فإن كلًّا من

السمع والبصر واللسان واليد أمانة، وعلى كل جارحة من هذه صيام معروف، ما هو؟ قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36). وقال بعض السلف: إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانُك وجوارحك، ولا تَجْعَل يوم صومك ويوم فطرك سواء. ويتعرض الداعية في حديثه عن الصيام إلى ذكر ما ورد في فضائله وآدابه، وما ينبغي أن يأخذ الصائم نفسه أثناء صيامه. والدرس في صناعة التدريس له عنوان أو ما يسمونه رأس الموضوع، أما درس الداعية فيدور عادةً حول آية كريمة، أو حديث نبوي. ومراعاةً للفارق السابق يجتنب الداعية الأسلوب الفني المختص بحجج الدرس، فلا إعراب ولا نظر للأسلوب التقليدي في التفسير، ولا استيعاب لما تتضمن الآية أو الحديث من أحكام ودقائق المعاني، بل يكون المعنى العام الآية أو للحديث محورًا تتجمع حوله خواطر الداعية المتصلة، ويَكُون هذا المعنى هو الطرف الذي يتناوله الداعية ليبدأ منه الحديث في هُوينة. فإذا ذكر أنه داعٍ إلى الله وأذاب قلبه في معنى الآية أو في الحديث، أحسّ حِكْمَة النّص القُدسي رحيقَ من العلم بين جنبيه، فاختار منه ما يعطيه لمن يستمع إليه في حديثه، وفي الحديث: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأ ما نوى)). وعلى الداعية أن يراعي في الدرس الربط الدائم بين مادته -أعني: خواطره وعناصره- وبين واقع أحوال الناس وقضاياهم.

وعلى الداعية أن يلاحظ في الدرس الدعوي العام الأمور التالية: أولًا: أنْ يَكُونَ تَحْضِيره للآية أو للحديث، أو لتقرير الموضوع أو لمعالجة المشكلة، تحضيرًا مُرَكّزًا ملموسًا؛ حتى يستشعر الحضور أنه فعلًا يرتقون روحًا، ويكتملون سلوكًا، ويزدادون ثقافةً معرفةً، وبهذا يكونون أكثر ملازمة للداعية وأعظم إقبالًا عليه وأقوى تعلقًا به. ثانيًا: أن يعتمد الداعية على الارتجال في إلقاء درسه، ولا بأسَ أن يصحب معه مذكرة تكونُ بجانبه يستعين بها في تسلسل الأفكار وضبط الآيات، واستحضار الشواهد إذا نسي شيئًا أو خانته الذاكرة. ولا شك أن الارتجال هو أدعى لثقة الحضور به ومحبتهم له وتفاعلهم معه، كما أنه من أعظم العوامل في استيعاب الداعية يقظة الحضور، وتقديره مدى الاستفادة منه والانتباه إليه. ثالثًا: أن يَهْتَمّ الداعية في درسه بالدقائق، وإصلاح آفات النفوس، وتقويم انحراف السلوك في كل ما يقرره وما يستنتجه، وما يعالجه؛ لأنّ مُهِمّة الداعية في الدرجة الأولى تهذيبية وتربوية قبل أن تكون ثقافية وتعليمية. رابعًا: أن لا يخوض الداعية كثيرًا في فلسفة التشريع، والتعليلات المنطقية لأحكام هذا الدين؛ لأن أكثر أولئك الذين يحضرون حلقة الدرس هم مَن حضروا عن رغبة واختيار بدافع من إيمانهم، ووحي من فِطرتهم، وبتالي هم على الأغلب ممن صلحت أحوالهم، وآمنوا بالإسلام على أنه نظام حكم، ومنهج حياة؛ فحاجتهم إلى الترقية في السلوك والاستزادة من المعرفة أكثر من حاجتهم إلى الإقناع العقلي والمنطق الفلسفي وأسرار التشريع. خامسًا: والدّرْسُ العَام في ذاته أكثر فائدةً دعوية، وأحسنُ وسيلة تكوينية وتربوية من المحاضرة والخُطبة، والحديثُ المُفَاجئ العادي؛ ذلك لأنه ميسور

متحقق في كل حين، فبِمُجَرّد أنْ يَجْلِسَ الدّاعية في النادي أو المسجد أو الجمعية يتحلق حوله مَن يريد العلم، ويرغب في التوجيه والتربية، وفي الوقت نفسه ينشئ بينه وبين مستمعيه صلاتٍ روحيةً، وروابطَ دعوية؛ وعلاقات أخوية، لقلة العدد وتَكرار الدرس وطواعية الحضور واستيعاب التعارف. وبالتالي يستطيع أن يكيف درسه لما يتفق مع حاجة الموجودين، ويتلاءم مع عقليتهم وثقافتهم، ويُحقق الخير والمصلحة لهم. وأُريد هنا أن أُنَبّه إلى أمر وهو أنّه لا يكفي الداعية أن يكون ذا يقظة تامة في تقرير درسه، وعرض أفكاره، وسرد شواهده، بل عليه أن يتنبه إلى يقظة سامعيه، هل هم مقبلون عليه؟ هل هم متفاعلون معه؟ فإذا عرَف أن اليقظة ضعيفة، والانتباه معدوم، والسأم مُخيم، فعليه أن يثير شعورهم بقصة، أو يذهب سأمهم بطرفة، أو يحرك اهتمامهم بمثل. وإليك هذا النموذج من سيد الدعاة -صلى الله عليه وسلم-: حدّث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: ((كنتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة، فأخذ منها غصنًا يابسًا فهزه، حتى تحات ورقه -أي: سقط- فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا سَلمان، ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: لم تفعله يا رسول الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: إن المُسْلِمَ إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس، تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق)) ثم قرأ -صلى الله عليه وسلم- قول الله -عز وجل-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114). بعد هذا الفعل من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- كانت نفس سلمان أكثر تنبهًا وتَقَبُّلًا، وأعظم حَيوية وانشراحًا بما مازجها من أنوار الآية، وحُسن توجيهها، ومن روعة التمثيل وجمال أدائه.

فعلى الدعاة أن يتأسوا بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- في إثارة الاهتمام، وتنبيه يقظة الشعور لدى الحضور؛ حتى لا يدركهم المَلل، ولا تنتابهم الغفلة، ولا تخمد في أعماقهم أحاسيس الشعور. ومما يثير الانتباه لدى السامعين، ويحرك فيهم كوامن اليقظة والاهتمام، تشويقهم إلى أمر مهم قد يجدون فيه عجبًا واستغرابًا بادئ ذي بدئ. وإليك أيها الداعية المدرس هذا النموذج المشوق العجيب: سأل أحد الدعاة سامعيه هذا السؤال: مَن منكم يحب أن يستوطن الجنة وهو في الدنيا؟ فكلهم استغربوا هذا السؤال، وعجبوا منه لعلمهم أن الجنة هي موعد المتقين في الآخرة، فكيف يستوطنها في الدنيا؟! ولما رأى الداعية عجبهم واستغرابهم، انتهزها فرصةً؛ ليوجههم إلى ما يريد؛ فمما قاله لهم: إنْ أرَدْتُم رياض الجنة والتنعم فيها في الدنيا، فعليكم بالتزام مجالس العلم، ثم استشهد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر)). قال عطاء: مجالس الذكر هي حِلق العلم: كيف تتوضأ؟ كيف تصلي؟ كيف تصوم؟ كيف تحج؟ كيف تبيع؟ كيف تشتري؟ كيف تنكح؟ كيف تطلق؟ وقد ينقدح في ذهن الداعية الحصيف وسيلة أخرى من وسائل التشويق في إثارة انتباه السامعين، وتحريك كوامن استشرافهم ويقظتهم؛ فيؤديها خير أداء حين يجد الحاجة الماسة لها، ولفت أنظار السامعين إليها. والذي أخلص إليه بعدما قلته: أنّ الدّاعية لا يصلُ إلى قمة التوفيق وذِروة النجاح في دروسه الخاصة والعامة، إلّا أن يأخذ بأصول التدريس الدعوي، ومبادئ

الفرق بين الخطبة والدرس.

الأسلوب التبليغي، إن أراد أن يكون له في الأمة أثر، وفي مجال الإصلاح تغيير، وفي إعداد الدعاة قدوة؛ فاحرص أخي الداعية المدرس على أن تسير على نهجها، وتأخذ بأحسنها، والله يتولى العاملين المخلصين؛ جعلنا الله -تبارك وتعالى- وإياكم جميعًا من العاملين المخلصين. الفرق بين الخطبة والدرس وأخيرًا ما الفرق بين الخطبة والدرس؟ والجواب: أنّ الحقيقة أن الدرس أصعب بكثير من الخُطبة، وذلك لأنّ الخُطبة منحصرة في موضوع واحد لا تتعداه، أو المفروض أن تكون الخطبة هكذا؛ وأدلة الخُطْبَةُ تُجمع وتُرتب وتنظم، وتُخْتَار بما يتناسب مع الخطبة، وما يؤيد وجهة النظر المرادة، ولا تتعدى الموضوع. أما الدرس فقد يتعدى موضوعه، فيستطرد المدرس بسبب ما يوجه إليه من أسئلة من هنا ومن هناك، حتى ينجح الدرس ويؤتي ثماره المرجوة. فلابد أن يكون المدرس قديرًا على إدارة الكلام، وتركيز الأدلة، وإيضاح المعنى بوسائل الإيضاح المختلفة. ثانيًا: فائدة الدرس للمستمع أكثر من فائدة الخطبة؛ حيث يستطيع مَن حضر الدرس أن يسأل المدرس ويستفسر عن كل ما يجول في خاطره، وبذلك تكون فائدة الدرس أعمق وأدق. ثالثًا: قد يَضّطر الناس لسماع خطبة الجمعة مرغمين، وهم غير راضين عن الخطيب، حيث حتمت عليهم فرضية الجمعة أن يصلوها ويستمعوا إلى هذا الخطيب،

أما الدرس فلا يُقبل عليه إلا الراغب فيه المتيقن من فائدته، وإن كنتُ أنصح عامة المسلمين بضرورة الاهتمام باختيار الخطباء الذين يستمعون إليهم في يوم الجمعة، ويُصلون معهم؛ فإنّ خُطبة الجمعة هي الوجبة الغذائية الدسمة التي يأخذونها كل أسبوع، فلا يليق بمسلم أن يغفل الاهتمام باختيار خطيبه الذي يستمع إليه في يوم الجمعة، ويصلي في أقرب مسجد له أو في أقرب زاوية لمجرد أن يؤدي الجمعة ويسقط الفريضة. فإن الخطبة لها مكانتها في الإسلام، حتى إن الله -سبحانه وتعالى- سماها ذكرًا، وأمر بالسعي إليها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (الجمعة: 9) والذكر هو الخطبة، كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إذا كان يوم الجمعة قامت الملائكة على أبواب المسجد -أو المساجد- يكتبون الداخل الأول فالأول؛ حتى إذا خرج الخطيب طوت الملائكة صحفها، وجلسوا يستمعون الذكر)) أي: الخطبة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 11 المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام.

الدرس: 11 المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام.

كيف يحضر المحاضر محاضرته؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (المحاضرة والمناظرة، وآدابهما في الإسلام) كيف يحضر المحاضر محاضرته؟ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن نتحدث عن المحاضرة والمناظرة. محاضرة أستاذ الدعوة غير محاضرة أستاذ الجامعة؛ من حيث إن الداعية لا تعنيه محاضرات الفلك والطب والاقتصاد ونحوها، وأستاذ الدعوة كأستاذ الجامعة لا بد له من الرجوع إلى المصادر العلمية؛ لجمع ما تفرق فيها من مادة موضوعه، لكنهما يفترقان بأن أستاذ الجامعة يهتم بالجزئيات والتفاصيل، أما الداعية فبعد الإحاطة بمادة الموضوع يكتفي بالقواعد والأحكام العامة؛ حرصًا على انتباه سامعيه واستمرار نشاطهم، ومن هنا قد ينتهي أستاذ الدعوة من موضوعه في محاضرة واحدة، وأستاذ الجامعة يحتاج للانتهاء منه إلى عدة محاضرات. يبتعد محاضر الدعوة عن الصبغة المدنية البحتة، كما يبتعد عن الأسلوب الأكاديمي، فلن يحمد له الناس أنه مدني الأسلوب، بل إنه يفجؤهم بغير ما يتوقعون وبغير ما يريدون، إلى أن ذلك يعتبر إخفاقًا له في مهمته، إذ هو داعية إلى الله عن طريق العلم، فإذا خلا أسلوبه من لون الدعوة فقد خرج من زمرة الدعاة، دون أن يلحقه ذلك بزمرة الجامعيين أو سواهم. فعلى أستاذ الدعوة أن يذكر دائمًا أنه يأمر بمعروف وينهى عن منكر، ومَن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد قام بما أوجب الله -تبارك وتعالى- عليه ورسوله -صلى الله عليه وسلم. والأمر بالمعروف هو في الحقيقة تعريف بالإسلام في شتى موضوعاته، والنهي عن المنكر هو نقد لبِق لسير المجتمع وعيوبه، وذلك كفيل بتحقيق الصبغة الربانية لمحاضرة الداعية ما دام يلتزم استمداد الكتاب والسنة، مشيرًا إلى وفائهما وغزارة وعمق حكمة الله فيهما، إلى أن ذلك يكفل له دوام انتباه السامع؛ لأنه سيكون معه دائم التنقل بين مثالية العلم ولمحات النقد لسير المجتمع، أو لخطئه في

التطبيق، ويتحقق له بذلك كله اقتناع السامع تلقائيًّا دون إملاء بسداد ما شرع الله، وتلك هي غاية غايات الداعية. والمحاضرة بالنسبة للداعية تفترق عن درسه في أن لموضوعها عنوانًا يدل عليه، والدرس موضوعه عادةً آية كريمة أو حديث نبوي، ذلك إلى أن الخط العلمي في المحاضرة أبين منه في الدرس، فإن المحاضر إذ يعود من شتى المصادر يجد نفسه مكلفًا بتصفية ما حصَّل من معلومات، وجمع ما استخلصه من قواعدَ وأحكام عامة، ثم يرتبه في نسق يربط المقدمات بالنتائج، ويؤلف من الأشباه والنظائر باقة منسقة المنطق. وقد يكون موضوعه اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا، كما قد يكون من شئون المعتقدات والعبادة، فيلتزم فيه هذا الخط العلمي الذي تنتظم فيه عناصر البحث وأحكامه العامة في منطق تتكامل فيه وحدة الموضوع. أما الدرس فالعناية به تتركز حول تجميع الخواطر على محور معنى الآية أو الحديث، واستدعاء الآيات والأحاديث ذات الصلة بهذا المحور، مع الإشارة إلى نماذج للسلوك الشعبي التي تتصل سلبًا أو إيجابًا بلب الدرس، ومن ثم يكون لكل من الدرس والمحاضرة طابعه كما أن لكل منهما مقامه. كيف يعد المحاضر محاضرته: على مَن أراد إلقاء المحاضرة أن يختار موضوعها من صميم ما تجري به الحياة، وهذا يقتضي الداعية أن يكون متصلًا بهذه الدنيا، منفعلًا بما يجري فيها من خير وشر، وحلو ومر، ومعروف ومنكر، فما كان من صالح رضي به وحمد الله عليه، وما كان من فاسد قام له وأخذ في علاجه وتغييره بوسائله الحكيمة، وموعظته الحسنة. ومعنى هذا: أن الداعية يختار موضوعه مما يعرض

له من قضايا الحياة، أو مما تمليه الحياة عليه، ومثل هذه الموضوعات يجعله أقرب إلى قلوب الناس، وأملك لزمام انتباههم وعواطفهم، فلا يجعل الموضوع يعرض نفسه عليه فيهرب منه، أو يقعد عن الاستجابة له، فالحياة في هذه الحال هي التي تختار له واختيارها أصدق اختيار؛ لأنه إلهام الله وصوت القضاء، وصدى ما جرى به القلم في أم الكتاب، ولأمر ما نزل القرآن الكريم منجمًا على حسب الحوادث ومقتضيات الأحوال. وطبيعي أن الموضوعات التي يوحيها محيط الزراع غير التي يوحيها محيط الطبقات المظلومة من العمال، وللطلاب آلام وآمال، تلهم موضوعات غير التي تجري في المحيطين السابقين، وللصغار الموظفين مشكلات وأزمات نفسية ومالية لا يتبينها إلا من يصغي إلى شكواهم، ويقف على أحوالهم، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، وفي المعاملات التي يلقاها بعض الطوائف من بعض، وفي طبيعة السلوك الاجتماعي الذي تجري عليه حياة بعض الطوائف أو الطبقات، وفي اختلال الموازين التي يزن بها الناس خلق الرجل وشخصيته ونجاحه، وفي نظام الدواوين والتعليم والمحيط التجاري والإداري والسياسي؛ في هذا وفي غيره موضوعاتٌ الداعية في غِنًى عن بيانها؛ لأنها شاخصة مستعلنة تفرض نفسها وحوادثها على المحاضر. ثانيًا: يجب أن يكون الموضوع مدروسًا دراسة وافية مستفيضة، محللًا إلى عناصر بارزة، وخطوات واضحة، مرتبة ترتيبًا طبيعيًّا ينتقل بالسامع من حلقة إلى حلقة، ويفضي في النهاية إلى خاتمة يحسن السكوت عليها، فإذا كنت أيها الداعية المحاضِر تريد التحدث إلى طائفة من الشباب المثقف -مثلًا- عن مقومات الإنسان الفاضل، الذي ينشدونه وينشده معه المسلمون، كان من السهل عليك أن

تفترض في هذا الإنسان وجوب وجود عنصر علوي باطن يمده بأسباب العزة، وكرائم القيم والمبادئ، أما الذليل التافه فليس لنا به حاجة، ثم يجب أن يكون لهذا الإنسان رسالة في الحياة يعمل جاهدًا لتحقيقها، أما الرجل الذي يعيش بلا غاية معينة ولا مبدأ معروف فهو من السوائم الهمل. وأخيرًا لا بد له بعد العزة والرسالة من العلم؛ ليكون من أمره على هدى وبصيرة، ومن لا علم له لا بصيرة له، فدعائم البناء إذًا عزة ورسالة وعلم، فإذا أوضحتَ ذلك أقنعت سامعيك بما تريد، أما الكلام المرسل بغير نظام فخيره غير متحقق. ثالثًا: عليك أن تستحضر لكل عنصر ما يؤكده ويوضحه مِن كتاب الله -عز وجل- وسيرة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولًا وعملًا، أو سيرة صحابته، أو عَبْر التاريخ، أو حوادث مما تسمع وتقرأ وتشاهد على نحو ما ذكرناك به. فإذا كنت بصدد شرح العزة في الموضوع السابق -مثلًا- وجدت طبيعة العنصر تلهمك أن العزة معناها ألا يذل المرء لمخلوق مثله، وهو يذل في هذه الحياة لغرض من اثنين: ليدرك منفعة شخصية أو ليدفع ما قد يؤذيه في رزقه أو نفسه، وحينئذٍ يزدحم حولك نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- تؤكد لسامعك أن الإسلام يغرس العزة في نفس المسلم، ويذهب بأصولها إلى أبعد الأعما. فهو من ناحية ابتغاء المنافع والخوف على الأرزاق قد علم أن رزقه في السماء، وما كان في السماء فهو مضمون مصون، بعيدٌ عن أن تتطاول إليه يد عابث من أهل الأرض، ويعلم كذلك أن الله قد فرغ من قسمة الأرزاق بين الناس قبل أن يخلقهم، وقد جفت الأقلام وطويت الصحف على ذلك، فليس للحوادث بعده أن تجري على خلافه.

والقرآن والسنة حافلان بما يشبع رغبتك في هذا الباب، ولا بد من الحملة طبعًا على أولئك الذين يذلون أنفسهم ويبذلون أخلاقهم وأعراضهم؛ زعمًا أن ذلك هو سبيلهم إلى ما يصبون إليه من جلب المنافع أو درء المفاسد. وما أحراك أن تفرد حملة خاصة على أولئك الذين يتعبدون بالمثل السائر: إن كان لك عند الكلب حاجة قل له: يا سيدي. أما الاستكانة إلى الذل تخوفًا على النفس مما يصيبها من أذى القتل أو الضرب أو السجن أو نحوه، فالمسلم قد ربي على قول الله -عز وجل-: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد: 22) وإذا أقدم المسلم في جرأة وشجاعة، فلامه اللائمون من الجبناء، وحذره المحذرون من الضعفاء؛ ألقى الله على لسانه ردًّا حاسمًا: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (آل عمران: 145) وإذا اعتراه في موقف من مواقف البأس ذبذبة أو تردد ناداه هاتف العقيدة من أعماق نفسه: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 16). وسيجتمع عليك الكثير من نصوص القرآن والسنة، وكل منها يعرض نفسه عليك، فَسُقْ ما تختار منها مرتبًا واضحًا على قدر ما تراه وافيًا بأداء غرضك. ويجب أن يتحكم في الاختيار وفي ترتيب العناصر وفي جمع الشواهد وفي سوق الحديث، يجب أن تتحكم في ذلك كله العقلية العملية، ممثلةً في مظاهرها التي تقدمت في بيان مزاج الداعية، حتى لا تكون غامضًا ولا نظريًّا. واحذَرْ في تقسيم موضوعك أو بيان حقيقة عنصرك أن تنحو نحو التقسيمات الفلسفية، أو التعمق النظري. ففي موضوع مقومات الإنسان الفاضل الذي ننشده لم نذكر لك كل شيء، وقد يأتي غيرنا بغير ذلك؛ لأنه لم يكن من همنا الاستقصاء الفلسفي، الذي يغوص وراء الفروض والعلل، وإنما أخذنا ثلاث لمحات أضاءت لنا من محيط الفطرة في بساطة ووضوح، ولو أننا أردنا الاستقصاء

لما فرغنا من البحث إلا بعد عناء، بل ولا بعد العناء، فقط لا نخرج إلا بالخلافات التي يضرب بعضها بعضًا، والنظريات التي لم ينته أصحابها من التدليل على صحتها بعد. كان همنا حين الاختيار أن نسوق كلامًا تقبله فطرة السامع وعقله، وكفى، أما أنه جامع مانع فَلَا، ومع أننا نقصد أن يكون كذلك فهو في الحقيقة جامع؛ لأن الخير في الإسلام وإن تعددت صوره يرجع إلى معين واحد، فإذا نشَّأت طفلًا -مثلًا- على فضيلة ما ألفيت ذلك يعود بالتربية والتنمية على الفضائل الأخرى، وذلك من أسرار الله في شريعته. رابعًا: يجب على المحاضِر أن يعد في عناصر المحاضرة ما يفهم منه أن الناس يجنون في الدنيا -لا في الآخرة فحسب- ثمرَ ما يبذلون في سبيل الإصلاح من عمل صالح، وتضحيات لوجه الله وثبات على المبادئ الفاضلة، وصبر على مقاومة الفساد، يجب العناية بإبراز هذا المعنى، لا لأنه يشرح الصدور ويشحذ العزائم ويجدد الآمال والهمم فحسب، بل لأنه هو منطق الحياة، وقانون الوجود الذي لا يتخلف، فلكل شيء ثمن ولكل عمل أجر، ولكل جهد بدني ونفسي ثمر من جنسه في الدنيا والآخرة، وعاقبة كل أمر ليست إلا نيتك التي بدأته بها، وهو من قوانين الله التي لا تتخلف في حياة الأفراد ولا في حياة الجماعات والأمم، والكسل لا يهب إلا الحرمان، والفوضى لا تورث إلا الخيبة، والأنانية لا تعقب إلا التنازع والتفكك والفشل. خامسًا: يجب أن يكون غرض الداعية من كل ذلك إحياء المشاعر الإلهية، وبث خواطر الخير والتقوى في القلوب، فكل موضوع يجب أن يعالج على هذا الأساس، وبعبارة أخرى: يجب أن يكون للداعية في موقف المحاضرة هدفان

أساسيان؛ الأول: علاج موضوعه الخاص، والثاني: إحياء هذه المشاعر القلبية إحياءً ربانيًّا، على أن يكون الغرض الأول مقصودًا لذاته، ومقصودًا كوسيلة للغرض الثاني، ويجب لهذا أن يساق للسامع ما يشعره بأنه مسئول ومحاسب، وبأن عين الله ساهرة تطلع عليه، وتحيط بظاهره وخفي سريرته، وأن الإنسان قادر على أن يجعل ما يدور في هذه السرائر خيرًا محضًا، يرضي الله ويسعد العباد، والسعيد من جعل نفسه ذكية مطهرة. اجعل ذلك في عنصر واحد إن اقتضاه المقام، أو اجعله شائعًا في العناصر كلها إذا أوجبته المناسبة، أو اجعله في بعض العناصر دون بعض. اخضع في ذلك لذوق الموضوع وذوق عقليتك العملية. سادسًا: وأرى أن تحدث بينك وبين جمهورك تعارفًا عاطفيًّا قبل أن تبدأ في حديث محاضرتك، فإن مطالعة الجمهور بالموضوع مباشرة يفاجئ مشاعره بأمر لم يتهيأ له. إن المشاعر بيوت مغلقة، وقد نهانا القرآن عن أن ندخل بيوتًا غير بيوتنا حتى نستأنس ونسلم على أهلها، فلا بد من هذا الاستئناس أو التعارف العاطفي، ويكون هذا على صورة استفتاح سهل مبسط، يتناول أمرًا هينًا مما تدركه الأذهان في يسر، بل مما لا يحتاج في إدراكه إلى أقل جهد عقلي، كأن يذكر حادثة خاصة وقعت له، أو رآها وهو في طريقه، أو نبأً قرأه أو سمعه، أو ملاحظة لاحظها في الحفل أو في كلمة خطيب سابق إلى آخر ذلك. على أن يكون هذا كله ذا صلة بالحفل وبالدعوة التي تعمل لها صلة مباشرة أو غير مباشرة، ثم يعلق على استفتاحه تعليقًا يسيرًا ملونًا بلون المزاح إذا اقتضى المقام المزاح، بلون الاستبشار إذا أوجب المقام إزجاء البشرى، أو بلون آخر من ألوان العواطف والمشاعر التي يقتضيها الحال، فإذا أقبلتْ عليك القلوب

وتفتحت لك النفوس فقد تحول تيارها إليك، وألقت بأزمتها بين يديك، فبادر في الحال بالتقاطها وصل خيوطك بخيوطها، ثم اخلص إلى موضوعك بما لا يغير عليك أنس جمهورك بك، ولا تطالبني بضرب مثل؛ فإن هذا ليس من القواعد التي تعلم، بل من وحي الذوق وإلهام الطبع اليقظ ويكتفى فيه بالتنبيه إليه. وعلى الداعية -بعد الذي سردناه- أن لا يقتصر في محاضراته على الأسلوب العلمي الأكاديمي الموضوعي البحت؛ لكونه جافًّا في طبعه ومملًا في ذاته، وإنما عليه أن يمزج فيما يحاضر فيه بين الموضوعية والعاطفة، وأن يجمع بين قناعة الفكر واستثارة الوجدان، بل عليه على العموم أن يخاطب الروح والعقل في آن واحد، فبهذه المعاني وهاتيك المواصفات يكون الداعية محاضراً موفقًا ومتكلمًا ناجحًا بارعًا. وعلى الداعية حين يحاضر أن يرتبط موضوعه بهدف سام يحقق للجيل الحاضر هدايته، وللشباب المسلم إسلاميته، وللأمة المحمدية عزتها. وفي هذا المجال تظهر للعيان براعة المحاضر وحصافة الداعية في توجيه محاضرته نحو الهدف المنشود، وتصريف أفكارها نحو الغاية المرجوة، حتى المواضيع التي تعتبر من طرف الحياة، يستطيع الداعية الموفق أن يحولها بلباقته ونباهته إلى هدف نبيل يخدم هداية الإنسان، ويوضح مبادئ الإسلام ويأخذ بيد الشباب نحو العزة والكرامة. ولنضرب على ذلك مثلًا: قد يكلف الداعية من قبل هيئة ثقافية معينة أن يحاضر في موضوع، قد يراه الناس تافهًا لا وزن له، فليكن الموضوع الذي كلف فيه يدور حول الترفيه والفراغ، قد يتبادر للذهن من أول وهلة أن الموضوع تافه، وأنه من الترف الفكري، وأنه من المواضيع التي لا تستحق بحثًا ولا تستأهل محاضرة، ولكن لو تعمقنا في الأمر لرأينا المفهوم غير هذا، بل في استطاعة المحاضر

النبيه الذكي الحاذق أن يلبي الدعوة، وأن يحول الموضوع مِن لا هدف إلى هدف، ومِن ترف فكري إلى نفع عام، ومن تسيب في المفاهيم إلى تقرير للمبادئ، وهذا لا يقدر عليه إلا مَن أوتي علمًا، ورزقه الله حصافةً ومَلَكةً وفهمًا. كيف يكون ذلك؟ يستطيع الداعية أن يبين لسامعيه قيمة الوقت وأهميته، وأن الإنسان ما خُلق في هذه الحياة عبثًا، وإنما خلق لأداء رسالة وتبليغ أمانة وتحقيق غاية، ثم يعرج إلى أن الإسلام دين الواقع والحياة، يعامل الناس على أنهم بشر لهم حظوظهم النفسية وأشواقهم القلبية وغرائزهم البشرية، فلم يفترض منهم أن يكون كل كلامهم ذكرًا وكل صمتهم فكرًا، وكل تأملاتهم عبرة وكل فراغهم عبادة، وإنما اعترف الإسلام بكل ما تتطلبه الفطرة البشرية؛ مِن سرور وفرح ولعب ومرح ومزاح ومداعبة، بشرط أن يكون ذلك في حدود ما شرعه الله وفي نطاق أدب الإسلام. وبعد هذا الدخول في الموضوع يسرد الداعية ألوانًا من الترفيه الحلال، واللهو المباح؛ كمسابقة العدو والمصارعة، واللعب بالسهام والحِراب، وكالسباحة والرمي وركوب الخيل والصيد، وبعد سرد هذه الألوان والاستشهاد بأدلتها يشرع الداعية في تبيان الهدف منها، ولماذا شرعها الإسلام، فلا يجد بُدًّا إلا أن يقول: إن الهدف من هذه الوسائل الترفيهية هو تكوين المسلم جسميًّا، وإعداده جهاديًّا، ليقوم في المستقبل بمسئوليته الكبرى في دحر أعداء الله، والدفاع عن أرض الإسلام، ونشر دين الله في مجاهل الأرض وأصقاع المعمورة، تنفيذًا لأمر الله سبحانه حيث قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) واستجابةً لندائه حيث قال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة: 38) إلى أن قال ربنا سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41). وبعد هذا الاستعراض يعرج الداعية إلى ذكر مخططات أعداء الإسلام في إفساد المجتمعات الإسلامية، عن طريق الإعلام والمسرح والسينما والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ودور الملاهي وأوكار الدعارة وصالات الرقص والفجور، وأن الهدف من هذا الإفساد انغماس جيل الإسلام في حمأة الميوعة والانحلال، وصرفه عن الجبهات المرسومة للكفاح الإسلامي والجهاد في سبيل الله. وبعد سرد هذه الحقائق يختم الداعية محاضرته في التركيز على النية الصالحة، وأنها -كما قرر العلماء- تقلب العادة إلى عبادة، فبمجرد أن ينوي المسلم حين يأكل أو يشرب وينام ويستيقظ، ويترفه ويتنزه، ويسبح ويصارع، ويسابق ويرمي، ويلعب بالحراب، ويصطاد، وسائر الحظوظ الحيوية والمتع الجسدية، بمجرد أن ينوي أنه يفعل ذلك بقصد الامتثال لأمر الله، أو التعفف عن الحرام وإعداد نفسه للجهاد والأخذ بأسباب القوة في الحياة؛ تنقلب هذه الأعمال الحيوية التي قام بها إلى عمل صالح يقربه إلى الله زلفى. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك)) حتى اللقمة يضعها الرجل بيده في فم امرأته يداعبها فله بذلك أجر، بل أعظم من ذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم إذا وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وضعها في الحلال كان له أجره)).

هل عرفتَ أيها الداعية المحاضر كيف تربط محاضرتك بهدف الإسلام، وهداية الإنسان، ودفع طموحات الجمهور نحو العزة وصناعة الأمجاد؟ إذا عرفتَ ذلك فقم بواجب التطبيق، واحرص على التنفيذ ما استطعت إلى ذلك سبيلًا؛ لكونك صاحب رسالة، ورجلَ دعوة، والله -سبحانه وتعالى- يتولى العاملين المخلصين. وإذا كنا قد سبق أن بينا أن المدرس ينبغي أن يعتمد على الارتجال في درسه، فكذلك الأمر في المحاضرة، على المحاضر أن يعتمد كل الاعتماد على الارتجال؛ ليستطيع الإشراف بنظراته على السامعين، فيحرك اجتذابهم إليه، ويشد أنظارهم إليه، ويثير أشواقهم نحوه، ويقوي ثقتهم به، ويقطع دابر الملل والسأم من نفوسهم، ويستأصل ظاهرة الشرود وتوارد الأفكار من عقولهم، بل تكون شخصية المحاضر أقوى وتعلق الجمهور به أعظم، واستيعاب الحضور منه أشمل وأفضل. وإذا اضطر الداعية إلى أن يلقي المحاضرة مكتوبة على الورق لسبب من الأسباب، فعليه في هذه الحال أن لا يديم النظر في محاضرته على الورق طويلًا، بل عليه أثناء القراءة أن يبدأ بأول الجملة ونظره في القرطاس، وينتهي منها ونظره إلى السامعين، ويفعل هذا في كل جملة يلقيها. وإذا استطاع أن يأتي بتعبير من عنده في توضيح أو يعتمد على ذاكرته في إيراد شاهد فليفعل؛ من أجل أن يمنع من الجمهور سأمهم، ويحرك على الدوام انتباههم. فاحرص أيها المحاضر على أن تمارس الارتجال في جميع محاضراتك وخطبك وإرشاداتك؛ ليكون تأثيرك في الناس أقوى، واتصالك بالسامعين أفضلَ، وجذب الجمهور إليك أعظم، والله يتولاك محاضرًا وخطيبًا ومرشدًا ومدرسًا.

وعلى المحاضر أن يقلل من حركاته وإشاراته أثناء إلقاء المحاضرة، ولا يأتي بها إلا إذا دعت الحاجة إليها، كأن يشير بأصابعه على عدد معين في معرض تقسيم الأفكار، أو تعداد العناصر، أو يومئ بيده؛ لتوضيح فكرة يريد تثبيتها في ذهن الجمهور؛ لأن الإقلال من الحركات يدل على اتزان المحاضر ورجاحة عقله وقوة شخصيته، بل تكون المحاضرة أقرب إلى الكمال وأجدر بالاحترام والاهتمام. وكم يعيب الداعية حين يقف في الناس محاضرًا وقد أقام الدنيا وأقعدها بجهورية صوته، وقوة لهجته، وثورة انفعاله، وكثرة حركاته وإشاراته، وكم تسقط مهابة الداعية أمام الجمهور حين تكثر حركات جسمه ورأسه ويديه وهو على منبر المحاضرة، كأنه يمثل على خشبة مسرح، أو يعطي الأوامر في جبهة حرب. ألا فليحذر الداعية في محاضراته هذه الانفعالات والحماس، وهاتيك الحركات والإشارات التي تتنافَى مع طبيعة المحاضرة وأصولها؛ ليظهر أمام سامعيه أكثر هدوءًا وأكمل اتزانًا وأقوى شخصيةً، وفي هذا نجاحه وتوفيقه في مجال التبليغ والدعوة إلى الله، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وعلى الداعية أن يكون غرضه من كل محاضرة يلقيها -أو موضوع يعالجه- إحياء المشاعر الإلهية في النفوس، وبث معاني الخير والتقوى في القلوب، بل يجب على الداعية أن يكون له في مواقف المحاضرة أو الخطبة أو الدرس أو في أي موقف تبليغي دعوي هدفان أساسيان؛ الأول: علاج الموضوع الذي هو بصدده علاجًا شاملًا مستوعبًا، والثاني: إحياء المشاعر الربانية في نفوس المستمعين، على أن يكون الهدف الأول هو الوسيلة والثاني هو المقصود والغاية. ولا شك أن الداعية حين يشعر السامع أن الله سبحانه معه ويراه ويعلم سره ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه مسئول أمام الله -عز وجل- عن

جميع تصرفاته وأعماله، وأنه خلق في الحياة من أجل غاية العبودية لله، والانقياد له والاستعانة به والإنابة إليه والتسليم بجنابه، وأنه مكلف في هذه الدنيا من أجل أن يبلغ رسالة، ويؤدي أمانة، ويجاهد في الله حق جهاده، وأن الله خلق الموت والحياة ليبلوا عباده أيهم أحسن عملًا، وأنه سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه، وأنه -جل جلاله- يدخل النار من طغى ويدخل الجنة مَن اهتدَى. إن الداعية حين يشعر السامع -من خلال المحاضرة التي يلقيها- كل هذا، ويربطه بالعقيدة روحًا وفكرًا، ويصله بالإسلام منهاجًا وتشريعًا، ويركز في ذهنه أمجاد الجدود وعظمة التاريخ، فيكون قد أحيا في نفسه مشاعرَ الربانية، وفجر في قلبه ينابيعَ التقوى، وأشبع طموحه بروح البطولة والجهاد. ولا بد أن يهتف في نهاية المطاف بهذه المعاني ويقول: نحن أمة الإسلام، لم ندخل التاريخ بأبي جهل وأبي لهب وأُبي بن خلف، ولكن دخلناه بالرسول العربي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر، ولم نفتح الفتوح بحرب السوس وداحس والغبراء، ولكن فتحناها ببدر والقادسية واليرموك، ولم نحكم الدنيا بالمعلقات السبع، ولكن حكمناها بالقرآن المجيد، ولم نحمل إلى الناس رسالة اللات والعزى، ولكن حملنا إليهم رسالة الإسلام، ولا بد أن يقول للطواغيت في كل مكان: ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام. فاجتهد أيها المحاضر أن يكون الغرض من محاضراتك كلها إحياء المشاعر الربانية في نفوس سامعيك، وتفجير طاقات الجهاد والعمل في بؤرة شعورهم، عسى أن يتحقق على يديك تكوين المجتمع الفاضل، القائم على الإسلام والمرتكز على التقوى، وما ذلك على الله بعزيز.

فهل عرفتَ أخي الداعية الخطوات العملية التي تجعل منك محاضرًا موفقًا؛ بحسن اختيارك للموضوع، تتفهم أحوال الناس وتعالج مشاكلهم، وبإحكامك تحضير المحاضرة تنفع الجمهور وترجو الخير لهم، وباستحضارك شواهد الأفكار يتفاعل سامعوك وتحرك مشاعرهم، وبمزجك بين الموضوعية والعاطفة في المحاضرة تشبع في الحضور عقولهم وأرواحهم، وبربطك الموضوع بالهدف الإسلامي تؤثر في الحاضرين وتصلحهم، وباعتمادك في المواقف على الارتجال تتعرف على أحوال المسلمين وتجذبهم، وبإقلالك من الحركات والإشارات تحظى باحترام الموجودين وتكسب ثقتهم، وبإحيائك المشاعر الربانية في أبناء الجيل تضمن تقواهم وانطلاقتهم. فاحرص أخي الداعية على أن تخطو في محاضراتك كلها هذه الخطوات، وتتروض على هذه المراحل؛ لتكون بإذن الله الداعية الناجح والمحاضر الموفق، والله سبحانه يتولاك محاضرًا وخطيبًا وداعيةً، ويحقق مجد الإسلام على يديك، ويقيم عز المسلمين على ساعديك إنه خير مسئول وبالإجابة جدير. الفرق بين المحاضرة والخطبة: نستطيع أن نلمح فروقًا اصطلاحية بين المحاضرة والخطبة فيما يأتي: أولًا: يغلب على المحاضرة صبغة تقرير الحقائق وتثبيت المعاني، أما الخطبة فيغلب عليها صبغة إثارة العواطف والمشاعر والوعظ. ثانيًا: عناصر المحاضرة أشبه بالقواعد والأصول والأحكام، أما عناصر الخطبة فأشبه بالخواطر العارضة والمعاني الطارئة. ثالثًا: تحتاج عناصر المحاضرة إلى الشرح والاستشهاد، أما الخطبة فشأنها الاسترسال مع ما يحضر من الخواطر والمعاني.

الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة، وآدابها في الإسلام.

الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة، وآدابها في الإسلام ننتقل إلى الحديث عن المناظرة والمجادلة والمناقشة وآدابها في الإسلام. جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بدين يخالف كل الأديان، التي كانت في البلاد العربية، في عقائده وعباداته وشرائعه الاجتماعية وآدابه الخلقية، من بعد أن كان يسود البلاد العربية عبادة الأوثان، جاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- بعبادة إله واحد، هو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، ولكل إنسان أن يدعو الله فيجيبه من غير وساطة كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) وأن يفهم الدين كتابًا وسنةً من غير توسيط أحد، فليس لأحد كائنًا مَن كان سلطة على الناس في عقائدهم، وبذلك خالف دين محمد -صلى الله عليه وسلم- اليهود والنصارى، الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله. وقد آمَن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتَابعوه كما أمرهم بذلك الدين الحنيف، آمنوا بالأنبياء السابقين فخالفوا بذلك اليهود والنصارى أيضًا، الذين يريدون أن لا يعترفوا بغير اليهودية أو النصرانية، قال الله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا} يعني: أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمشركين {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 135 - 137). دعا ذلك الدين الجديد إلى الإيمان بحياة أخرى، فيها يجزى الإنسان بالخير خيرًا وبالشر شرًّا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8)، وبذلك خالف ما كان عليه بعض

المشركين من إنكار البعث والنشور، فقد قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: 3) خالف ذلك الدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- في آدابه وشرائعه كثيرًا مما كان عليه المشركون في الجاهلية، وحرم الدعوة إلى العصبية الجاهلية فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا من دعا عصبية، أو قاتل على عصبية)). وإن شئتَ أن تعرف خلاصة ما جاء به ذلك الدين مخالفًا ما كان عليه العرب في جاهليتهم، فاستمع إلى ما روي عن جعفر بن أبي طالب، إذ قال مخاطبًا النجاشي ملك الحبشة: "أيها الملك، كنا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، فعَدَى علينا قومُنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى أرضك". جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- فخالف العرب قاطبةً في كل ما كانت عليه من عبادة، فكان طبيعيًّا أن تحدث دعوته هذه حركة فكرية جدلية واسعة النطاق، وأن تكون شاغلًا للذهن العربي حقبةً طويلةً من الزمان، بل إن الإنسان لا يعدو الحقيقة إذا قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمجرد أن دوى صوته الرهيب في الجزيرة العربية، مناديًا العرب

عامة وقريش خاصة قائلًا: ((إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم، ولو غررت الناس ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتجزون بالإحسان إحسانًا، وبالشر شرًّا، وإنها لجنة أبدًا، أو لنار أبدًا، وإنكم لأول مَن أنذِر بين يدي عذاب شديد)). بمجرد أن نادَى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك النداء صارت الجزيرة العربية كلها تتحدث في شأنه، وتتجادل في أمره بين حائر مضطرب، بين قديم قد ألفه، وجديد قد عرفه، ومنكر صلاح؛ لأنه رأى في الجديد ما يناقض غاياته ومآربه، وميال إلى ما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه رأى فيه وضح الحق المبين، بل إن الجدل في شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاوز في عصره ربوع البلاد العربية إلى الروم والفرس والحبشة، كما رأيت من كلام جعفر بن أبي طالب السابق للنجاشي. ولأجل أن نحصر الجدل في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- نقول: إن الجدل في عصره -صلى الله عليه وسلم- كان من نواح ثلاث: الأولى: جدل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين. والثانية: جدله -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود والنصارى. والثالثة: جدل العرب والروم والحبشة مع بعض القرشيين. أما جدل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المشركين فقد قال ابن جرير الطبري في تاريخه: صدع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله ونادى قومه بالإسلام، فلما فعل ذلك لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه بعض الرد فيما بلغني، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.

ويفهم من هذا أن المشركين عندما ناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة أعرضوا ونفروا، ولكن لم يُظهروا له عداوة، ويظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لاحظ ذلك الإعراض، فأراد أن يجذبهم إلى مناقشة، والمناقشة بين الأكفاء محك الصواب وإخبار الحقيقة، فذكر آلهتهم وبين بطلان عبادتها، فأقبلوا مجادلين، ولكن الجدل باللسان أعجزهم وهم القوم الخصمون، فعمدوا إلى الاستهزاء والسخرية وأغروا السفهاء به -صلى الله عليه وسلم- ثم انتقل الأمر من جدل ومقارعة بالحجة إلى اضطهاد ومقاطعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما تدل عليه الأخبار الواردة في سيرته -صلى الله عليه وسلم-. وهنا نذكر لك شيئًا من جدلهم له -عليه الصلاة والسلام- يصور لك حالهم، ويبين مآلهم: جاء في (سيرة ابن هشام) أن المشركين عندما ضاقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وذهبت معه كل حيلة لهم، وبعثوا إليه ليكلموه ويخاصموه، فأجاء إليهم -عليه الصلاة والسلام- فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه فقد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا للشرف فيكم، ولا للملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)).

فقالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل منا شيئًا مما عرضنا عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا ولا أقل مالًا ولا أشد عيشًا مِنَّا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولًا كما تقول. فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم)). قالوا: فإذا لم تفعل فسل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة؛ يعينك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك عند ربك إن كنت رسولًا كما تزعم، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم)). هذا ما ذكره ابن هشام، وقد رأينا في القرآن الكريم ردًّا على كل ما قالوه، وقد كانوا يتلوه بين ظهرانيهم صباح مساء ويعلمهم آيةً آيةً، ويبين لهم الرد على ما سألوا في سور مختلفة. ونحن نرى من هذا النقاش والحوار والمناظرة التي كانت بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين قومه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتصم في مجادلة قومه ومناظرتهم بالحلم والصبر،

وخفض الجناح، والرفق وحسن المعاملة، كما أمره ربه سبحانه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). وكما جادل -صلى الله عليه وسلم- قومه من مشركي العرب بالتي هي أحسن، كذلك جادل اليهود والنصارى كما أمره الله -سبحانه وتعالى- حيث قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46). هذه هي المناقشة والمجادلة والمناظرة وآدابها في الإسلام، فتحلوا بهذه الآداب، وتخلقوا بأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- في المناظرة والمناقشة والمحاورة والمجادلة، وإذا جادلتم فأصر الطرف الآخر على ما هو عليه من الباطل، فاتركوه وما هو عليه؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا)) أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-. هذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 12 ضوابط الخطاب الدعوي، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر.

الدرس: 12 ضوابط الخطاب الدعوي، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر.

ضوابط الخطاب الدعوي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (ضوابط الخطاب الدعوي، ورسالة الخطاب الدعوي المعاصر) ضوابط الخطاب الدعوي إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فإن الدعوة الإسلامية دعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى العمل بدينه الحنيف، كما أن هذه الدعوة هي العملُ الأساسي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكل أتباعه في كل زمان ومكان، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) هذا بالإضافة إلى أن هذه الدعوة الإسلامية هي أحسن ما يقوم به المسلم في كل زمان ومكان كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33). ومدام هذا هو شأن الدعوة الإسلامية فيجب أن تكون هذه الدعوة منطلقة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في كل ما يتعلق بها من قريب أو من بعيد، من حيث أصولها ومناهجها وأساليبها ووسائلها ... إلى آخر ذلك. وذلك لأن الإسلام لا يفصل في أحكامه بين الأصول والمناهج والأساليب والوسائل والغايات، كما أن الإسلام لا يقر بأن الغاية تبرر الوسيلة كما يقولون. فالوسائل لها حكم الغايات، والغايات لها حكم الوسائل، ويشرف كل منهما بشرف الآخر ويدنو بدونه، يضاف إلى ذلك أن أي جهل أو تجاهل لحكم الإسلام فيما يتعلق بأصول الدعوة أو مناهجها أو أساليبها أو وسائلها يعتبر انحرافًا بالدعوة عن مسارها الحقيقي التي كانت عليه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وخروجًا بها عن مصادرها الأساسية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. إذًا، نحن ندرس هذه الضوابط؛ لنكون على بينةٍ وبصيرةٍ بهدي ديننا الإسلامي الحنيف وتنظيماته لكل شئوننا القولية والفعلية، الدينية والدنيوية، النظرية والتطبيقية.

ونحن ندرس هذه الضوابط لغموضها وخفائها عن بعض الدعاة، حتى خرج بعضهم أو أكثرهم عن هذه الضوابط، فلم تؤتِ دعوتهم ثمارها. لذا كانت دراستنا للضوابط الشرعية للخطاب الدعوي ضرورية لدفع هذا الغموض وما يترتب عليه من إفراط وتفريط. إن الخطاب الديني هو أشرف خطاب يتبادله الناس فيما بينهم؛ لأنه خطاب الأنبياء والرسل الكرام مع أقوامهم في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولأنه خطاب المصلحين مع غيرهم؛ ولأنه خطاب العقلاء الأخيار فيما بينهم. إن الخطاب الدعوي هو الخطاب الذي مَدَح الله تعالى مَن يتعاملون به، فقال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ {(الحج: 24) أي: وهدى الله تعالى عباده الصادقين في إيمانهم إلى القول الطيب وإلى المنطق القويم، كما هداهم سبحانه كذلك إلى الطريق المحمود الذي يؤدي بهم إلى السعادة في دنياهم وآخرتهم؛ لأنهم عمروا دنياهم بالإيمان الخالص، وبالعمل الصالح، وبالسلوك الحميد. والخطاب الدعوي له مقوماته السامية وضوابطه العظيمة وآثاره العميقة في النفوس، ومكانته الراسخة في القلوب، ومنزلته التي تهز المشاعر وتحرك العواطف نحو الخير. إن هذا الخطاب الديني إنما تتحقق له هذه المقومات وهذه الآثار متى كان مستمدًّا من القرآن الكريم ومستشهدًا بهداياته وبتشريعاته وبأحكامه وبآدابه؛ وذلك لأن القرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- لإخراج الناس من الظلمات إلى النور كما قال سبحانه:} الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {(إبراهيم: 1).

والقرآن الكريم هو الكتاب الذي حدد للناس ما يجب عليهم نحو خالقهم -سبحانه وتعالى- وما يجب نحو أنفسهم، وما يجب عليهم نحو غيرهم، وهو الذي نظم علاقات الأفراد والجماعات والأمم تنظيمًا حكيمًا، وبيّن للجميع ما هو حلال وما هو حرام، وما هو خير وما هو شر، وما هو حق وما هو باطل. ومن الآيات القرآنية التي جمعت كل هذه الحقائق وكل هذه التوجيهات قول ربنا -سبحانه وتعالى-:} قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {(الأنعام: 151 - 153). والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها قد رسمت للإنسان علاقة بربه ينال بها السعادة والثواب، ورسمت له علاقته بأسرته التي تقوم على المودة والرحمة، ورسمت له علاقته بغير أسرته التي تقوم على التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض. هذه الآيات عندما سمعها بعض زعماء العرب من النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا له: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق وإلى محاسن الأعمال، وقد أفِك قوم كذبوك وظاهروا عليك، ووالله ما هذا الذي سمعناه منك من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.

إن الخطاب الدعوي إذا كان مشتملًا على هذه الوصايا التي جاء بها القرآن الكريم، ومشتملًا علي غيرها مما لا يحصى من هدايا حكيمة، ومن أمثال بليغة، ومن أحكام قويمة، ومن آداب فاضلة، ومن قصص زاخرة بالعظات، ومن توجيهات سامية تحبب الناس في مكارم الأخلاق وتنفرهم من رذائلها، إذا كان الخطاب الدعوي مشتملًا على هذا الفيض القرآني الزاخر بكل ما يُسعد الناسَ في دنياهم وأخراهم، كان خطابًا له آثاره الطيبة، وله ثماره الحسنة التي تجعل أبناء الأمة يصلحون في الأرض ولا يفسدون، ويبنون ولا يهدمون، ويجمعون ولا يفرقون، ويتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. إن لله تعالى سننًا في خلقه لا تتغير ولا تتبدل قررها القرآن الكريم في مواطن كثيرة، منها قول ربنا سبحانه:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ {(الرعد: 11)، ومنها قوله سبحانه:} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا {(الكهف: 30)، ومنها قوله -عز وجل-:} فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {(الزلزلة: 7، 8). فأول ضابط من ضوابط الخطاب الدعوي: أن يكون مشتملًا على كم هائل من كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى. كذلك من ضوابط الخطاب الديني الدعوي: اشتماله على الأحاديث النبوية الشريفة التي فيها ما فيها من التوجيهات القويمة، ومن الأحكام الجليلة، ومن الآداب الرفيعة، ومن الفضائل العظيمة التي يؤدي الالتزام بها إلى السعادة في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم للشريعة الإسلامية، والسنة النبوية المطهرة هي ما صدَرَ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير.

فأما القول: فمثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)). وأما الفعل: فكأفعاله -صلى الله عليه وسلم- في وضوئه وصلاته وفي حجه، وفي غير ذلك من العبادات. ومن الأفعال التي واظب عليها فأفادت وجوب اقتدائنا به، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه)) وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وقوله -صلى الله عليه وسلم- حين أراد الحج: ((خذوا عني مناسككم)). وأما التقرير: فمعناه أن يفعل بعض الصحابة فعلًا، فيقرهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا ينكره عليهم، ومن ذلك: إقراره في أعقاب غزوة الخندق لمن صلى العصر في الطريق قبل أن يصل إلى ديار بني قريظة، ولمن صلاها في ديارهم. ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم الأحزاب: ((لا يصلين أحدًا العصر إلا في بني قريظة، فأدركهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتي ديار بني قريظة، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لأن الشمس أوشكت على الغروب، فذُكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأقر كل فريق على ما فعله)). ومن ذلك أيضًا: إقراره -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل وقد سأله: ((بم تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ -وكان ذلك عند إرساله إلى اليمن - فقال معاذ: أقضي بكتاب الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو)) أي: لا أقصر في الاجتهاد. ومن المعلوم عند أولي العلم أن السنة وحي من الله تعالى كالقرآن، إلا أن القرآن وحي من الله تعالى بألفاظه ومعانيه، أما السنة النبوية فهي وحي من الله تعالى بمعناها، أما ألفاظه فبإلهام من الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم.

والسنة النبوية المطهرة أصل من أصول الدين، وحجة على جميع المكلفين، متى نقلت إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح، وتأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم في حجيتها وفي وجوب العمل بها، أي: أن الأحكام الواردة عن طريق السنة النبوية تكون مع الأحكام الواردة في القرآن الكريم واجبة الاتباع بالنسبة لكل مسلم أو مسلمة، ولا يخالف في ذلك مكلف عاقل. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤيد ذلك كثيرة ومتنوعة؛ أما الآيات القرآنية فمنها: قول الله تعالى:} وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {(الحشر: 7)، وقوله سبحانه:} مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا {(النساء: 80)، وقوله -عز وجل-:} قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {(آل عمران: 31). وأما الأحاديث النبوية؛ فمنها: ما جاء في (صحيح البخاري) -رحمه الله-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى، قيل: يا رسول الله، ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى)). وجاء في (سنن أبي داود) و (الترمذي): عن العِرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: ((وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظةً بليغةً، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصِنا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه مَن يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).

وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ)) أي: فهو مردود عليه، وليس مقبولًا منه عند الله تعالى. وفى (المسند) الإمام أحم د بن حنبل -رحمه الله- عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله)). فهذه النصوص المتعددة تدل دلالةً واضحةً على أن السنة النبوية كالقرآن الكريم في وجوب اتباع ما اشتملت عليه من أحكام، وأن مَن خالفها فقد خالف أمر الله تعالى وعصى شريعته. وللسنة النبوية المطهرة بالنسبة للقرآن الكريم وظائف متعددة من أهمها: أنها تارةً تكون مؤكدةً لما جاء في القرآن الكريم من أمر أو نهي أو غيرهما. ومن أمثلة ذلك: أن القرآن الكريم أمر بالتحلي بفضيلة الصدق، ونهى عن رذيلة الكذب، قال الله تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ {(التوبة: 119) وقال سبحانه:} إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ {(النحل: 105) فجاءت الأحاديث النبوية المطهرة فأكدت ذلك وقررته. ومنها: ما جاء في الصحيحين عن عبد الله المسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)).

وبناءً على ذلك يكون الحكم الشرعي له دليلان؛ أحدهما: من القرآن الكريم، والثاني: من السنة النبوية. الأحكام الشرعية التي يتوفر فيها ذلك ما أكثرها، كالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، والتحلي بمكارم الأخلاق، وكالنهي عن التقصير في عبادة من العبادات، وعن ارتكاب ما نهى الله عنه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وتارةً تكون السنة النبوية المطهرة منشئةً لحكم شرعي جديد سكت عنه القرآن الكريم دون أن يعارضه، فيكون هذا الحكم واجبَ الاتباع؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نطق به، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها في الزواج، وتحريم لُبس الذهب أو الحرير بالنسبة للرجال، وبيان أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي شُرِعت عن طريق ما نطق به الرسول -صلى الله عليه وسلم. وتارةً تأتي السنة النبوية المطهرة مفصلةً ومفسرةً لِمَا جاء مجملًا في القرآن الكريم من أحكام، فالقرآن الكريم حدثنا عن الصلاة، وعن الزكاة، وعن الصيام، وعن الحج، في كثير من آياته، إلا أنه بالنسبة للصلاة لم يبين لنا عدد ركعاتها أو كيفياتها أو أركانها، وبالنسبة للزكاة لم يبين لنا القرآن الكريم مقاديرها، وبالنسبة للصيام لم يفصل لنا القرآن الكريم جميعَ أحكامه، وبالنسبة للحج لم يبين لنا القرآن الكريم جميع مناسكه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وقال: ((خذوا عني مناسككم)) وبين لنا الأصناف التي تجب فيها الزكاة، وقَدْر النصاب الذي لا تجب الزكاة حتي يبلغه المال، والقدر الواجب إخراجه من المال الذي بلغ النصاب، وتوفرت فيه سائر الشروط الأخرى كما هو معروف في كتب الفقه.

وقد تأتي السنة النبوية مقيدةً لما جاء مطلقًا في القرآن الكريم؛ فمثلًا: يقول الله تعالى:} وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ {(الحج: 29) فالأمر بالطواف هنا مطلق، فجاءت السنة النبوية فقيدت ذلك بوجوب أن يكون الطواف على طهارة. وقد تأتي السنة النبوية مخصصةً لما جاء عامًّا في القرآن الكريم؛ فمثلًا: يقول الله تعالى:} يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ {(النساء: 11) أي: أن الأولاد يرثون الآباء بهذه الطريقة التي بينها الله تعالى بهذا الحكم العام، فجاءت السنة النبوية فخصصت هذا الحكم العام بأن قصرت الميراثَ على الشخص الذي لم يعتدِ على مورثه بالقتل، وبينت أنه لا ميراث لقاتل. وهكذا، نرى أن للسنة النبوية وظائفَ متعددةً بالنسبة للقرآن الكريم، وأن تفصيل ما جاء مجملًا في القرآن يمثل معظم هذه الوظائف، وأن مَن يقول: لسنا في حاجة إلى السنة النبوية ويكفينا القرآن!! هو إنسان جاهل، لا يُلتفت إلى سفاهاته أو جهالته؛ إذ السنة النبوية لا غِنَى عنها في تفسير وتوضيح ما جاء مجملًا أو مطلقًا أو عامًّا في القرآن الكريم، وصدق الله العظيم إذ يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم-:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {(النحل: 44) أي: وأنزلنا إليك يا نبينا القرآن الكريم؛ لتعرف الناس بحقائق وأسرار ما أنزل لهداياتهم في هذا القرآن من تشريعات، ومن آداب وأحكام، ولعلهم بهذا التعريف والتبيين يتفكرون فيما أرشدتهم إليه. فالآية الكريمة وضحت وصرحت بأن مِن وظيفة النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسير وشرح ما خفي معناه على الناس من آيات القرآن، ولقد سأل رجل عِمران بنَ الحصين -رضي الله عنه- عن مسألة فأجابه عنها بما يؤيدها من السنة، فقال الرجل: حدِّثونا بكتاب الله ولا تحدثونا بغيره، فقال له عمران: "أنت رجل أحمق، أتجد في كتاب الله صلاة

الظهر أربع ركعات لا يجهر بها؟ أتجد في كتاب الله أن نِصاب الزكاة مقداره كذا؟ ". وبعد أن عدد له أنواعًا من العبادات التي جاءت مجملة في القرآن الكريم قال له: "كتاب الله قد أجمل ذلك، والسنة النبوية تفسيره". والخلاصة: أن الأحكام الشرعية التي وردت عن طريق السنة النبوية قد تكون مؤكدةً لما جاء في القرآن الكريم، وقد تكون منشأةً لأحكام سكت عنها القرآن الكريم، أو مفسرةً لما أجمله، أو مقيدةً لما أطلقه، أو مخصصةً لما عممه. وإن الخطاب الدعوي إذا كان زاخرًا بالأحاديث النبوية الشريفة ازداد قبولًا عند الناس، وازداد إقناعًا للعقول، وإرضاءً للمشاعر، وشرحًا للصدور؛ لأنها أحاديث مَن لا ينطق عن الهوى، وأحاديث مَن أعطاه الله تعالى جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم. ويكفيك -أيها الداعية- في تحري الحلال وفي الابتعاد عن الحرام، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمَن اتق الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) ويكفيك في شرف المقصد قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ويكفيك في الابتعاد عن اللغو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حسن إيمان المرء تركه ما لا يعنيه)) ويكفيك في الشعور بما هو بِر وما هو إثم وبما هو خير وبما هو شر قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)). ويكفيك في معرفة إجماع الخير قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((قل آمنت بالله، ثم استقم)) يكفيك في الحض على تعمير هذه الدنيا بما ينفع قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها)) يكفيك في بيان كثرة طرق الخير قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الكلمة الطيبة صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة)) يكفيك في معرفة رسالتك في هذه الحياة قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه)).

فعليك -أيها الداعية- أن تهتم اهتمامًا بأن يكون خطابك الدعوي زاخرًا بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي العظيم -صلى الله عليه وسلم- فإن القرآن الكريم والحديث النبوي العظيم بركة ورحمة وشفاءٌ لما في الصدور، كلما أكثرتَ منهما كلما ملكت قلوب المدعوين وأثرت فيهم بفضل الله -عز وجل. كذلك من ضوابط الخطاب الدعوي، بل ومن أهم ما ينبغيأن يحفظه الداعية في خطابه: أن يكون الخطاب الدعوي مواكبًا للأحداث، ومتأثرًا بها، ومعلقًا عليها، ومؤيدًا لما هو حق منها، ونقصد بالأحداث تلك الأقوال والأفعال والقضايا والصراعات والمَسرات والأحزان التي تتعاقب بتعاقب الليل والنهار، والتي أشار إليها ربنا سبحانه في قوله:} إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ {(آل عمران: 140) ولفظ "القرح" يُطلق على الجرح الذي يصيب الإنسان، وعلى الآلام التي تترتب على ذلك، ولفظ: {نُدَاوِلُها} من المداولة، وهي نقل الشيء أو الحديث من شخص إلى آخر، يقال: هذا الشيء تداولته الأيدي، أو هذا الحديث تداولته الألسنة، أي: انتقل من يد إلى أخرى ومن لسان إلى آخر. ومعنى الآية: لا تجزعوا أيها المؤمنون لِمَا أصابكم من جراح وآلام في غزوة أُحد على أيدي المشركين أعدائكم، فهم قد أصيبوا منكم بمثل ذلك في غزوة بدر، وإن أيام الدنيا هي دول بين الناس بحيث لا يدوم سرورها ولا حزنها لأحد، فمَن سره زمن ساءته أزمان، ومن أمثال العرب: الحرب سِجال، أي: لا تدوم على حال واحدة، والأيام تتقلب؛ فهي تارةً لهؤلاء، وتارةً لأولئك. ومن ضوابط الخطاب الدعوي: أن يراعي الخطيب أحوال مستمعيه، فإذا كانوا في حالة سرور ونعمة ساق لهم من الآيات القرآنية ومن الأحاديث النبوية

ومن توجيهات الإسلام ما يجعلهم يحافظون على هذه النعم، ويشكرون الله خالقهم عليها؛ لكي يزيدهم منها، وإن نزلت بهم بعض المصائب والأحزان والمتاعب الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها، ركَّزَ حديثه أو كتابته على ألوان العلاج الناجح، والدواء السليم، الذي من شأنه أن يعمل على تخفيف تلك المصائب أو إزالتها، فما من داء إلا وله دواء، وما من عسر إلا يعقبه يسر، ما دام هناك اعتماد على الله -سبحانه وتعالى- وعلى أداء تكاليفه، وعلى مباشرة الأسباب التي شرعها سبحانه للنجاح. ولقد وضح لنا الخالق -عز وجل- سنةً من سننه التي لا تتخلف، فقال:} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {(الشرح: 5، 6) ففي هاتين الآيتين ما فيهما من التسلية لكل ذي عقل سليم؛ لأنه ما من شدة إلا ويعقبها الفرج، وما من هم أو غم إلا وينكشف، وتحل محله المسرة، وما من عسر إلا ويأتي بعده اليسر، متى توكل الإنسان على خالقه، وأدى ما أمره به، وابتعد عما نهى عنه، وصبر الصبر الجميل، وتسلح بالعزيمة القوية، وبالإيمان العميق بقضاء الله وقدره، وسلك المسالك التي تؤدي إلى النجاح في أقواله وفي أفعاله وفي تفكيره، وفي كل شأن من شئونه. لقد أكد الله -سبحانه وتعالى- هاتين الآيتين بأداة التأكيد، وهي حرف "إنَّ" {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} لأن هذه القضية قد تكون موضع شك خصوصًا بالنسبة لمن تكاثرت عليهم الهموم وألوان المتاعب، فأراد -سبحانه وتعالى- أن يؤكد للناس في كل زمان ومكان أن العسر اليسر لا محالةَ، وأن الفرج يأتي بعد الضيق لا شك في ذلك، فعليهم أن يقابلوا المصائب والنوازل بثبات لا اضطراب معه، وبأمل كبير في تيسير الله وفرجه ونصره.

وقد ساق الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لهاتين الآيتين بعض الآثار؛ منها: ما جاء عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا وأمامه حفرة، فقال: لو جاء العسر فدخل هذه الحفرة، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه)) وعن الحسن البصري -رحمه الله- قال: " لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين". ومعنى هذا: أن العسر معرف في الحالين فهو مفرد، وأن اليسر منكر فهو متعدد. والذي يتدبر القرآن الكريم يرى أن مئات الآيات قد نزلت في أعقاب أحداث معينة؛ لتبين حكم الله فيها، ولتحق منها ما هو حق، ولتثبت المؤمنين، ولتدفع الشبهات والتهم الكاذبة التي ألصقها الجاحدون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبأتباعه، ولترشيد المؤمنين إلى أخطائهم حتى لا يعودا إليها، ولتحكم في قضايا معينة التبس فيها الحق بالباطل، ولتساير الحوادث والطوارئ في تجددها وفي تفرقها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. ومنها: أن المشركين عندما وصفوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنون وبغير ذلك من التهم الباطلة، نزَلَ القرآن الكريم؛ ليدحض هذه التهم، وليصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأسمى الصفات وأفضلها، قال الله تعالى:} ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ {(القلم: 4). ونزل القرآن الكريم ليؤكد أن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، قال الله تعالى:} أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {(يس: 77 - 83).

نزلت هذه الآيات لترد على واحد من المشركين أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي يده قطعة من العظم قديمة بالية ضعيفة، فوضعها بين كفيه، ففركها، ثم ذرَّها في الهواء، ثم قال: يا محمد، تزعم أن ربك يحيي هذا العظم بعدما رم؟!! فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم، ويبعثك ويدخلك جهنم)) فأنزل الله -سبحانه وتعالى- هذه الآيات. وعندما جاء بعض المشركين وقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، أرِنا مَن يشهد لك أنك رسول الله، فإنَّا لا نرى أحدًا نصدقه، ولقد سألنا عنك أهل الكتاب، فقالوا: إنه ليس لك عندهم شيء في كتبهم، فأنزل الله تعالى في الرد عليهم قوله:} قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {(الأنعام: 19). وعندما اندس بين المسلمين من قبيلتي الأوس والخزرج يهودي حاقد، وأخذ يذكرهم بالحروب التي كانت بينهم في الجاهلية، وأنشدهم بعضَ ما قالوه من أشعار خلال تلك الحروب، وكاد بعضهم أن يعرض القتال على غيره، بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم مسرعًا ومعه بعض أصحابه، فكان مما قاله لهم: ((يا معشر المسلمين، اللهَ اللهَ!! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى إسلامه، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه في الجاهلية؟!!)) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من أعدائهم اليهود، فألقوا السلاح من أيديهم، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا. وأنزل الله -تبارك وتعالى- في ذلك قوله:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ

مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {(آل عمران: 100 - 103). وعندما زعم اليهود عند مجادلتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أن الجنة لن يدخلها إلا مَن كان على مِلتهم، وأخذوا يتفاخرون بذلك، لقن الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- الجواب الذي يخرس به ألسنتهم، وأمره أن يتحداهم بأن ينطقوا أمامه بأنهم يتمنون الموت إن كانوا صادقين في دعواهم، قال الله تعالى:} قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {(البقرة: 94 - 96). وهكذا، نرى في عشرات المواطن من القرآن الكريم مئات الآيات القرآنية تواكب الأحداث التي صاحبت الدعوة الإسلامية في مدة تصل إلى ثلاث وعشرين سنةً، فتقصها بأمانة، وتحكم فيها بالحُكم العادل الحكيم، وتحكي شبهات المشركين وأقوال المنافقين، وتلقن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الرد الذي يخرس ألسنة المارقين، وترشد المؤمنين إلى الطريق المستقيم الذي يجب عليهم أن يسلكوه؛ حتى ينالوا رضا الله تعالى، ويظفروا بحسن العاقبة وبالنصر على الذين استحوذ عليهم الشيطان. وإن الخطاب الدعوي عندما يكون متأثرًا بالأحداث والقضايا والمشكلات والأحوال والهموم التي لا تخلو منها أمة، فيعلق عليها الداعية بأسلوبه الحكيم، ويعالجها

رسالة الخطاب الدعوي.

بالطريق القويم، ويأتي بالأدلة المتنوعة من شريعة الإسلام التي تهدي الأمةَ إلى ما ينشر فيها الأمن والرخاء، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. إن الخطاب الدعوي عندما تتوفر فيه هذه الضوابط، ويلتزمها الداعية في خطابه، يكون له أثره العظيم في الإصلاح وفي رقي الأمة وسعادتها. وإن الخطاب الدعوي يجب أن يكون مستمدًّا من هدي القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة؛ لأنهما الأصلان اللذان تقوم عليهما شريعة الإسلام، كما يجب أن يكون مسيرًا للأحداث، ومتأثرًا فيها. فإنه أيضًا يجب أن يكون مبنيًّا على الصدق الذي لا تحوم حوله شبهة، ولا يقاربه ما يخالف الحقيقة، وذلك الصدق هو الإخبار بالحق، وهو لون من القوة التي هي على رأس الصفات التي يحبها الله تعالى؛ لأنها صفة من صفاته، واسم من أسمائه. هذه هي ضوابط الخطاب الدعوي. رسالة الخطاب الدعوي أما رسالة الخطاب الدعوي، فنقول فيها: للدعوة الإسلامية أهداف تدور حول ثلاثة محاور أو جوانب: الأول: جانب الصلة بالله تعالى، وهذا الجانب يتحقق بالعبادة الخالصة لله سبحانه عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا؛ امتثالًا لقوله سبحانه:} يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {(البقرة: 21). الجانب الثاني: جانب الصلة بالنفس الإنسانية، ويتحقق هذا الجانب بالمحافظة على النفس وعدم تعريضها للمخاطر والمفاسد؛ امتثالًا لقول ربنا سبحانه:} وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ {(البقرة: 195) وقوله:} وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ {(النساء: 29)} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا {(الشمس: 7 - 10).

الجانب الثالث: جانب الصلة بالناس، وهذا الجانب يتحقق بالتآخي والتعاون والتعاطف؛ امتثالًا لقول ربنا سبحانه:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ {(الحجرات: 10). وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الجوانب الثلاثة بقوله: ((اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). أهداف الجوانب الثلاثة للدعوة الإسلامية: تهدف هذه الجوانب الثلاثة إلى السمو بالإنسان، واحترام عقله وفكره، حينما تحقق الصلة بالله تعالى إيمانًا وإسلامًا وإحسانًا. ثانيًا: تطهير النفس وتزكيتها حينما تتحقق الصلة بالنفس محافظة عليها وصيانة لها. الثالث: استقامة السلوك الإنساني حينما تتحقق الصلة بالآخرين حبًّا وإخاءً. والنتيجة العامة لهذه الجوانب أهدافها تكمن أو تتحقق في الوصول إلى أسمى درجات الكمال الإنساني الممكنة في مجال العقل والخلق والسلوك، وهي جوانب وأهداف تسمو بالإنسان في تفكيره وسلوكه وأخلاقه وتعاونه، ولا ترمي إلى نفع ذاتي، ولا إلى مصلحة خاصة، وإنما هدفها الخير العام للناس جميعًا. هذه هي المحاور الثلاثة التي تهدف إليها الدعوة، وتعمل من أجلها، والتي يسعى الداعية بخطابه الدعوي إلى تحقيقها. وبالتأمل الدقيق في آية واحدة من كتاب ربنا -سبحانه وتعالى- وهي الآية التي سبقت الإشارة إليها من سورة "الإنعام":} قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيْكُمْْ {إلى آخر الآيات. إن المتأمل في هذه الآيات يراها تدعو إلى:

إخلاص العبادة لله الواحد القهار؛ لأن الإشراك بالله هو أعظم المحرمات وأكبرها إفسادًا للفطرة، ولأنه الجريمةُ التي لا تقبل المغفرة من الله، بينما غيره قد يقبل المغفرة منه سبحانه كما قال -عز وجل-:} إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا {(النساء: 48). ثانيًا: إلى الإحسان إلى الوالدين؛ لأنهما هما السبب المباشر في وجود الإنسان في هذه الحياة. ثالثًا: إلى رعاية الأولاد والعطف عليهم؛ لأن الحياة حق لهؤلاء الصغار، كما أنها حق لغيرهم من الكبار. رابعًا: إلى عدم الاقتراب من الأقوال القبيحة والأفعال الذميمة سواء ما كان منها ظاهرًا وما كان منها خافيًا؛ لأن المجتمع الفاضل الطهور هو الذي يؤمن بأن هناك فضائلَ يجب أن تعتنق، وأن هناك رذائلَ يجب أن تجتنب، أما المجتمع الذي يسوي بين القبيح والحسن فلا بد أن يكون مصيره إلى التعاسة والضعف والخسران. خامسًا: إلى المحافظة على النفس الإنسانية، وعدم التعرض لها بالأذى أو بالقتل، إلا إذا ارتكبت ما يوجب عقابها أو قتلها. سادسًا: إلى عدم الاقتراب من مال اليتيم الذي فقد الأب الحاني إلا بالحق، ونهت عن التعرض لما هو من حقه إلا بالوجه الذي ينفعه في الحال، أو في المآل. سابعًا: إلى الوفاء في الكيل والوزن وسائر المعاملات، بحيث يعطَى صاحب الحق حقه دون نقصان أو بخس، ويأخذ صاحب الحق حقه دون زيادةٍ أو طمعٍ. ثامنًا: إلى العدل في القول كما قال تعالى:} وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى {(الأنعام: 152) أي: وإذا قلتم قولًا فاعدلوا فيه ولو كان المقول له أو

عليه صاحب قرابة منكم، إذ هذا هو أساس الحكم السليم: العدل في القول، والعدل في الحكم، والعدل في الشهادة، والعدل عند الإصلاح بين الناس، والعدل مع العدو، ومع الصديق، مع القريب، ومع البعيد. والقرآن عندما قال:} وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى {أراد أن يرتفع بالضمير الإنساني إلى مستوى سامق رفيع يتحرى فيه الإنسان العدالة في كل أحواله ولو إيذاء أقرب الأقربين إليه. تاسعًا: إلى الوفاء بالعهود كما قال تعالى:} وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا {(الأنعام: 152). عاشرًا: إلى اتباع الصراط المستقيم الذي يدعو المسلم خالقه -عز وجل- في اليوم الواحد سبع عشر مرةً في صلاته المفروضة بالثبات عليه والزيادة منه:} اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {(الفاتحة: 6). هذه هي الوصايا العشر التي جاءت بها هذه الآيات الكريمة من سورة "الأنعام"، والمتدبر فيها يراها قد وضعت أساس العقيدة السليمة في إخلاص العبادة لله تعالى وحده، وبنت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان إلى الوالدين والرحمة بالأولاد، وصانت المجتمع من التصدع عن طريق تحريمها الانتهاك: الأنفس والأموال والأعراض، ونهت عن الاقتراب من مال اليتيم إلا في دائرة الأحسن والأنفع له، وحرضت على الوفاء بالعهود؛ لأن هذا الوفاء صفة من صفات الله، وصفة من صفات الأنبياء والمرسلين. هذه هي أهداف الخطاب الدعوي، وهذه هي الرسالة التي يريد الداعية أن يبلغها للمدعوين من خلال خطابه الدعوي. هذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 13 مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها.

الدرس: 13 مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها.

مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإذا عرفنا ضوابط الخطاب الدعوي، فإننا نستطيع أن نقول: إن عدم الالتزام بهذه الضوابط يعد من مثالب الخطاب الدعوي، ونستطيع القول: بأن من مثالب الخطاب الدعوي إهمال التحضير، عدم حسن الاختيار، خلو الخطاب من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأقوال سلف الأمة، عدم حسن الإلقاء، الإخلال بقواعد اللغة العربية، التطويل الممل، التقصير المخل، عدم وحدة الموضوع، عدم التمييز بين الصحيح المقبول والضعيف المردود، الجري وراء الشواذ والغرائب والموضوعات والإسرائيليات؛ حرصًا على رضا الجمهور. فهذه بعض مثالب الخطاب الدعوي، وقد حذر منها العلماء، وأرشدوا إلى طرق علاجها. وإليك -أيها الداعية المجد الحريص على أن يهدي الله بك- بعض ما قاله العلماء في مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها. يقول الدكتور حسن عبد الرءوف: لا شك أن الخطبة وسيلة قوية وفعَّالة في تبليغ الدعوة، وهي ليست عملية سهلة وليست مجرد كلام يقال دون ترتيب أو تبويب أو تنظيم، حيث إنه يتحتم على الخطيب حين يريد أن يخطب الاستعداد والإعداد لهذا الكلام الذي لا بد وأن يكون له معنى، وأن يقصد من ورائه إقناع الجمهور، واستمالتهم إلي مقولته، وأن يتصور الخطبة بوجدانه قبل أن يلقيها، وأن يفكر في عناصرها، وأن يقف على الأدلة والبراهين التي سيوردها خلال إلقائها، ويهيئ ويرتب أسلوبه وبيانه الذي سيحدث به المستمعين. ولكي تنجح الخطبة ويحقق الخطاب الدعوي الغرض منه لا بد أن يراعي الداعية الخطيب في خطابه الدعوي ما يلي:

أولًا: إعداد الخطبة إعدادًا علميًّا سليمًا: فلا بد للخطيب أن يبذل جهده ووقته في إعداد خطبته إذا أراد لها النجاح، فلا نجاحَ دون الأخذ بأسبابه، ومن أسباب نجاح الخطبة: أن تكون معدة ومحضرة ومهيأةً؛ حتى مع مَن يسهل عليه إلقاء الخطب، ولعل السبب في ضعف الخطبة وقصورها في هذا العصر هو هذا الإهمال من جانب الخطباء في إعداد وتهيئة الخطبة وعدم تحضيرها، ولن ينجح الدعاة في خطبهم إلا إذا أعدوها واهتموا بها، وتخيروا موضوعاتها بدقة. وإعداد الخطبة يمر بمراحل متعددة حتى تظهر بصورتها اللائقة بها، وهذا الإعداد يبدأ: أولًا: باختيار الموضوع وتحديده في العقل والاقتناع به. ثانيًا: تحليل الموضوع الذي وقع الاختيار عليه لعناصره الأساسية. ثالثًا: اختيار أدلته وتنسيق هذه الأدلة. رابعًا: صياغة المعاني في قالب بياني فصيح، وأسلوب بليغ يتناسب مع المستمعين. وهذه المراحل العلمية لإعداد الخطبة ضرورية، وجميعها يؤدي في النهاية إلى خطبة جميلة مؤثرة متماسكة ناجحة، يرضَى عنها صاحبها ويرضى عنها كل مَن يستمع إليها. ثانيًا: يجب أن يراعي الخطيب عند اختياره لموضوع الخطبة ما يلي: أولًا: عقلية المدعوين. ثانيًا: نفسياتهم.

ثالثًا: المناسبة. ثالثًا: الاستشهاد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والتطبيقات العملية لها من قِبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- والرسل الكرام. فإن ذكر التطبيق يجعل معنى الآية والحديث مشهودًا محسوسًا. رابعًا: الاستعانة بالقصص الواردة في الكتاب والسنة، ولا بأس من تصوير المعاني بشكل قصصي، ولا بأس أيضًا بضرب الأمثال. خامسًا: ألا يطيل الخطبة، فعن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقِصر خطبته مئمةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)). سادسًا: اختيار الأسلوب البسيط الواضح؛ لأن الذين يسمعونه ليسوا في مستوى واحد من العلم والقدرة على فهم الخطاب. سابعًا: اعتدال الصوت، وموافقته للأحوال، بحيث يجعله مطابقًا للمعاني التي يصدرها بالألفاظ ويمثلها بالصوت، ويكيف الصوت بكيفيات خاصة وانفعالاتٍ تتناسب مع المعني الذي يقصده. ثامنًا: على الخطيب أن يكون حاضر الذهن، سريعَ البديهة، بحيث إذا أحس بملل المستمعين أو بعضهم عرف كيف يغير الحديث، وينتقل إلى فكرة جديدة بحيث يدفع عنهم هذا الملل. تاسعًا: على الخطيب أن يكون ذا صدر رحب لا يضيق إذا هُوجم، وإذا استداره أحد من المستمعين لا يستولي عليه الغضب.

عاشرًا: الإلمام بالكثير من العلوم الإنسانية كالتاريخ والجغرافيا، وعلم النفس وعلم الاجتماع، وعلم الأخلاق، ومعرفة الملل والنحل، ومذاهب الأمم فيها، والعلم بلغات الأمم التي يراد دعوتها. حادي عشر: لا بد أن يظهر الخطيب بمظهر لائق به وبمركزه؛ لأن مظهر الخطيب من الأشياء التي يجب الاعتناء بها. ثاني عشر: أن لا يتعمد الخطيب تجريح الأشخاص أو الجماعات، فَلَمْ تُشرع خطبة الجمعة للسب والشتم. ثالث عشر: على الخطيب أن يعرف أن التركيز والتلخيص من أسباب نجاح خطبته، ويتم ذلك بعرض المعلومات التي يتناولها الموضوع، ثم يعيدها بشكل موجز مختصر. رابع عشر: إتقان تلاوة القرآن الكريم، والإلمام بمصطلح الحديث؛ وذلك ليتمكن الخطيب من تمييز الصحيح المقبول من الضعيف المردود. وهناك أمور أخرى يجب أن يراعيها الخطيب؛ حتى تؤدي خطبته دورها، ولكننا نكتفي بما ذكرناه. ويقول الشيخ عبد الله ناصح علوان: الداعية إلى الله لا يكون موفقًا في دعوته وتبليغه، مالكًا للب محدثه وجليسه، قائمًا بمسئولية إصلاحه وتقويمه، إلا أن يتأسى بسيد الدعاة -صلى الله عليه وسلم- في تحدثه وحواره، ويأخذ بأصوله ومنهجه -صلوات الله وسلامه عليه- في تبليغ الناس ودعوتهم، والتحدث إليهم.

أصول ومنهج وأساليب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديثه وحواره.

أصول ومنهج وأساليب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديثه وحواره وإليك أهم أصول منهجه -صلى الله عليه وسلم- في التحدث والحوار: أولًا: التحدث باللغة التي يفهمها المخاطبون: تحقيقًا للمبدأ الذي ذكره رب العالمين -سبحانه وتعالى- حيث قال:} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ {(إبراهيم: 4) ولا يمكن للداعية أن يؤثر في البيئة التي وجد فيها حتى يكون متقنًا للغة أهلها، فاهمًا للهجات قبائلها، عالمًا بما يخاطب به عوامها أو مثقفيها، فإن لم يكن الداعية الخطيب على هذا المستوى من إتقان اللغة وفَهم اللهجات والعلم بحقيقة المخاطبين، فتأثيره في الناس يكون ضعيفًا، والإقبال عليه يكون ضئيلًا، وربما يخفق في تبليغه ويفشل في دعوته دون أن يصل في القوم إلى فائدة أو جدوى. نعم، في حال جهل الداعية بلغة البلد يمكن أن يغني عنها الترجمة، ولكن هذه الترجمة لا تغني عن اللغة الأصلية في إيصال فكر الداعية إلى الجمهور مهما كانت الترجمة دقيقة، ولا يمكن للجمهور أن يتفاعل مع الداعية مهما كان المترجم لهم فصيحًا بليغًا، فالتخاطب على أساس لغة البلد إذًا هو عامل كبير من عوامل نجاح الداعية، ومن مقومات تأثيره في البيئة التي يدعو إلى الله فيها، ألا فليعلم الداعية هذه الحقيقة إن أراد أن يحدث في الأمة تأثيرًا، وفي المجتمعات الإنسانية تغييرًا. ثم ماذا عن التكلم باللغة العربية الفصحى في بلد يتكلم أهله بالعربية؟

الأصل في الداعية المسلم -بغض النظر عن لونه أو جنسه أو لغته- أن يتكلم باللغة العربية الفصحى، باعتبار أن هذه اللغة هي شِعار الإسلام، ولغةُ القرآن، وباعتبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عربي، وكلام أهل الجنة عربي، والأمة التي حملت إلى الدنيا رسالة الإسلام في الصدر الأول كانت تتكلم العربية. وقد قال معاذ بن جبل أو قد ألمح إلى ذلك الحافظ ابن عساكر عن مالك حيث قال: "يا أيها الناس، إن الرب واحد، وإن الأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية من أحدكم بأب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمَن تكلم بالعربية فهو عربي". فإذا كان الأمر كذلك، فعلى الداعية المسلم إذا وُجِد بين قوم يحسنون اللغة العربية ويفهمونها فهمًا تامًّا، أن يتكلم اللغة العربية الفصحى، وعليه ألا يعدل عنها إلى لغة أخرى ولو كان القوم الذين يدعوهم يتكلمون بلغة غير العربية؛ لأن اللغة العربية -كما أشرنا- هي شعار الإسلام ولغة القرآن، فلا يجوز أن يتخذ الداعية غيرها بديلًا في غير ضرورة. فمن الجحود للغة القرآن أن يعدل القادر على النطق بها إلى لغة أخرى، أو يتكلم مَن يحسن الفصحى بلغة عامية محلية لا تمت إلى العربية الأصلية بصلة ولا نسب، وزينة المسلم فصاحة لسانه، وجماله حلاوة منطقه، ولا تتأتى هذه الفصاحة وهذا الجمال إلا بهذه اللغة الأصيلة الخالدة التي اختارها الله لأمة الإسلام، وحملة القرن. فعلى الخطيب أن يحرص على لغته، وسلامة منطقه، وأن يبتعد عن اللحن، وأن يعلم أن كثيرًا من جمهوره ينقدونه في أخطائه اللغوية وإن كانوا لا يعرفون القواعد، فقد قالوا: الأذن مجاجة. وعلى الخطيب أن يتذكر أن جمهوره لا يخلو وإن قل من أساتذة في اللغة يضيقون ذرعًا بلحن الخطيب وهو يخطب وهم جالسون.

ولكن ماذا يصنع الداعية إذا كان في بيئة لا تعرف التفاهم بالفصحى، ولا تفهم التخاطب بالعربية الأصيلة؟ نقول: إذا استطاع الداعية أن يبسط حديثه ويوضح أسلوبه بشكل يعي الناس منه ويفهموا عنه فليفعل، وإن لم يستطع فيجد نفسه مضطرًّا إلى أن يتكلم بالأسلوب الذي يناسبهم واللغة التي يفهمونها واللهجة التي يدركون مغزاها، فلا بأسَ، فهذا من باب: أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم. ثانيًا: التمهل بالكلام أثناء الحديث: من أدب الداعية حين يريد التحدث أن يتحدث بتؤدة وتمهل حتى يفهم الناس عنه، ويعقلوا ما سمعوا منه، وهذا ما كان يفعله الداعية الأكبر -صلوات الله وسلامه عليه- تعليمًا للدعاة، وإرشادًا لمن يتصدون لتعليم الناس. روى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد الحديث كسردكم هذا، يحدث حديثًا لو عده العادُ لأحصاه)) ولكن هناك فرق كبير بين تحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين تحدث الداعية، والفرق ملحوظ في أمرين هامين: أحدهما: الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أوتي جوامع الكلم، وأكثر أحاديثه كلمات معدودات، والداعية مهما كان بليغًا على خلاف ذلك تمامًا. ثانيهما: النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، بل كل أقواله وأحاديثه تشريع لأمة الإسلام، والداعية مهما كان حكيمًا ليس كذلك. وإذا كان هذا هو الفرق فبِود الداعية أن يطنب في كلامه، وأن يتعجل في حديثه، ولا سيما في المواقف التي فيها تفاعل وإطناب، كالحث على الجهاد، أو التحدث في مناسبات الشدائد والأزمات، ولكن على الداعية أن لا يسرع كثيرًا في خطبته

أو حديثه؛ حتى لا يأكل الكلام بعضه بعضًا، وحتى لا تختلط على المستمعين الحقائق والأفهام. ثالثًا: النهي عن التكلف في الفصاحة: فمن أدب الداعية في التحدث أن يبتعد عن التنطع في الكلام، والتكلف في الفصاحة، والتشدق بالحديث، والثرثرة باللسان. فقد روى أبو داود والترمذي بسند جيد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها)) وإذا تحقق الداعية بهذا الأدب فيكون قد تأسَّى بسيد الدعاة -صلى الله عليه وسلم- فقد روى الشيخان عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم سلَّم عليهم، وكان -صلى الله عليه وسلم- يتكلم بكلام الفصل، لا هزر ولا نزغ، ويكره الثرثرة في الكلام، والتشدق به)) أي: التكلف. وكم يكون الداعية محجوبًا لدى سامعيه حين يتحدث عليه أمرات التشدق وظواهر الثرثرة، وكأنه يقول للناس: هل عرفتم من حديثي كم أنا خطيب؟!! هل عرفتم من كلامي كم أنا بليغ؟!! هل عرفتم من أسلوبي كم أنا فصيح؟!! فإذا لم يكن هذا رياء، فما هو الرياء؟ نعوذ بالله. ألا فليحذر الدعاة من مزالق الشيطان ودبيب الرياء، وليتركوا الحديث ينطلق من ألسنتهم على سجيته وطبيعته بدون تنطع ولا تكلف إن أرادوا أن يكونوا في أعمالهم من المخلصين، وفي أحاديثهم من المقبولين المؤثرين. رابعًا: التحدث بالحديث الذي ليس بالطويل ولا بالقصير: فمن أدب الداعية في التحدث أن يكون في حديثه مقتصدًا معتدلًا بحيث لا يصل الأمر في التحدث إلى الاختصار المخل، ولا إلى التطوال الممل؛ ليكون الحديث

أوقعَ في نفوس السامعين، وأشوقَ إلى قلوبهم، وأحب إلى أسماعهم. ولو تأملنا مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواقف أصحابه مع الجمهور الذين يستمعون إليهم ويستفيدون منهم، لرأيناها مقتصدة معتدلة ليتأسى الدعاة بهم، وليأخذوا عنهم. روى مسلم عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: ((كنت أصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا)) أي: وسطًا. وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: ((شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمعة فكان متوكئًا على عصا، فحمِد الله وأثنى عليه، فكانت كلمات خفيفات، طيبات مباركات)). وفي الصحيحين: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكَّرتنا كل يوم، فقال: ((أَمَا أنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم -أي: أتعهدكم- بموعظة كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا مخافةَ السآمة علينا)). ولا شك أن الداعية إذا ابتعد عن الثرثرة اللسانية، وتجنب الحشو في الكلام، ولم يلجأ في شواهده وأفكاره إلي التكرار، وتكلم في لُب الموضوع دون مقدمات طويلة مملة، وجاء حديثه مقتصدًا معتدلًا مقبولًا لدى مستمعيه، بل أعطى المثل الأعلى في وسطية أحاديثه، واقتصاد مواعظه، اللهم إلا في بعض الحالات الخاصة وجد من المصلحة أن يطنب في الحديث، ويكرر في الكلام، ويؤكد بالشواهد. كأن يكون مثلًا في بيئة عامية جاهلة، يشرف على توجيهها ويقوم على تعليمها، فلا بأس من الإطناب والتكرار على أن لا يطيل كثيرًا حتى لا ينفر الناس منه ويعرضوا عنه.

خامسًا: المخاطبة على قدر الفهم: فمن أدب الداعية في حديثه أن يحدث جليسه بما يتناسب مع عقليته وثقافته، وبما يتفق مع عمره وفهمه، فقد أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، وكم يعيب الداعية أن يحدث قومًا عن الذَّرة وأسرارها، والكواكب وأبراجها، والأرض ودورانها، والعلوم ومعارفها، والقوم الذين يجالسهم لا يقرءون ولا يكتبون، وفي غَمرات الجهالة سادرون. وكم يكون الداعية فاشلًا حين يكون في بيئة لا تؤمن بدوران الأرض ولا بحركتها، بل تعتبر مَن يقول هذا كافرًا خارجًا عن ملة الإسلام. كم يكون فاشلًا حين يسفه رأي أهلها، ويرميهم بالجهل المطبق، والضلال المبين. من أجل هذا أمر نبي الإسلام -صلوات الله وسلامه عليه- الدعاة والعلماء والمرشدين في كل زمان ومكان، أن يحدثوا الناس بما تحمله عقولهم؛ حتى لا يقعوا في الفتنة. في مقدمة (صحيح ومسلم): عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة". وكم يكون الداعية غير موفق حين يجلس مع القوم من الملاحدة الماديين ويحدثهم عن الروح، وسؤال الملكين، والبعث والحساب، والجنة والنار، وهم لا يؤمنون أصلًا إلا بما تراه حواسهم، ولا يعتقدون إلا ما كان خاضعًا للتجربة والحس، وداخلًا في نطاق المشاهدة والواقع. فمن الطبيعي أن يهزءوا به ويستهتروا به ويتولوا عنه. وكم يكون الداعية غير مسدد حين يجلس مع طبقة من المثقفين الذين لم يخالط الإيمان بَشاشة قلوبهم، وذهب يحدثهم عن كرامات الأولياء، وعن وظائف الملائكة، وعن أخبار الجن، وهم ليسوا من الوعي الناضج، والإيمان المكين،

والثقافة الإسلامية الشاملة، حتى يسلموا بما يحدثهم، ويصدقوا أخبار الوحي فيها. ومن أجل هذا أمر نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- كل مَن يتصدى للتعليم والدعوة والإرشاد أن يحدث الناس بما يعرفون ويفهمون حتى لا يكذب الله ورسوله. روى البخاري في صحيحه عن علي -رضي الله عنه- موقوفًا: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ". فما على الداعية الموفق إلا أن يأخذ بهذا المبدأ العظيم: "أمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم" إن أراد ذلك الداعية أن يكون من الدعاة المرموقين، ومن رجال الدعوة المعدودين، ومن يؤتَى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. ومن أهم ما يجب على الداعية أن يراعيه في خطابه الدعوي: البدء بالأهم قبل المهم إن الداعية لا ينجح في دع وته ولا يكون موفقًا في تبليغه، حتى يعرف مَن يدعوهم، وكيف يدعوهم؟ وماذا يقدم معهم؟ وماذا يؤخر؟ وما القضايا التي يعطيها أهميةً وأولويةً قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟ هذه الطريقة في الدعوة -طريقة البدء بالأهم قبل المهم- هي طريقةُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- والذين اتبعوه بإحسان، فلقد مكَثَ -صلى الله عليه وسلم- في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى "لا إله إلا الله" وحينما هاجر إلى المدينة وأخذ في إيفاد رسله إلى الدول والبلاد المجاورة للدعوة، أمرهم كذلك أن يبدءوا بما بدأ به. أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: ((إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك،

فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوك بها فخذ منهم، وتوقَّ كرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). من هذا الحديث يتبين لنا: أن على الداعية أن يبدأ بالأهم ثم المهم، أن يبدأ في الدعوة بالعقيدة قبل العبادة، وبالعبادة قبل مناهج الحياة، وبالكليات قبل الجزئيات، وبالتكوين الفردي قبل الخوض في الأمور العامة. ومما يؤكد هذه الأهمية دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ما هو أهم عما هو مهم في الفترة المكية، ففي هذه الفترة بالذات كان -صلى الله عليه وسلم- يركز في الدعوة إلى الله على الإيمان بالله ووحدانيته، والتعرف على الله عن طريق الظواهر والآثار، ويركز أيضًا في الرد على مزاعم الدهريين، وإقامة الحجة عليهم، ومنكري البعث، ودحض مفترياتهم، ويركز كذلك على إثبات الرسالة، وإظهار خصائصها، وفضح الجاهلية، وتجسيد عوارها ومفاسدها. ولو لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- عالمًا بمعتقدات القوم، بصيرًا بأحوال الجاهلية، خبيرًا بعادات البيئة، لَمَا بدأ معهم بإصلاح العقيدة التي هي في نظره الأهم، ولَمَا ركز في دعوته على هذه القضايا التي تصل بالإيمان بالله ووحدانية الخالق، وترتبط بالاعتقاد بالمغيبات، حتى إذا دخل القوم حظيرة الإسلام وخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، جاءت مرحلة المهم، ألا وهي التزام القوم الإسلام على أنه أصول معاملة، ومبادئ حكم، ومناهج حياة. فهذا ما ركز عليه -صلى الله عليه وسلم- في الفترة المدنية حين أقام معالم المجتمع الفاضل في المدينة المنورة بعد أن صلحت عقيدة الأمة، وترسَّخ في أبنائها الإيمان بالمغيبات. ويخطئ الداعية حين يكون في مجتمع يدين أهله بالشيوعية، ويذهب يحدثهم عن العبادة أو مناهج الحياة، أو أخلاق الإسلام، يحدثهم بهذا وقد ترك التحدث

بالأهم، ألا وهو التكلم عن الآثار والظواهر التي تدل على الله، والتحدث عن البراهين العقلية والأدلة العملية التي توصل الإنسان إلى معرفة الله ووحدانيته، ويمكن أن يستقرئها الداعية من آيات الكون الباهرة، وظواهر الحياة المبدعة، ومعالم التكوين الدقيق في خلق الإنسان، وما أكثرها في العالم السفلي والعالم العلوي وعالم الحياة. ورحم الله أبا العتاهية حين قال: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد ويخطئ الداعية حين يكون في بيئة يدين أهلها بالإسلام ولكن يغلب عليهم الطابع الأمي، والمظهر الفطري، والاتجاه السليم، ويذهب يحدثهم عن الفلسفات الفكرية العالمية ونقدها، والنظريات العلمية الحديثة، وموقف الإسلام منها، والمذاهب الاجتماعية الحاضرة وتناقضها مع بعضها، يذهب يحدثهم بهذا وقد ترك التحدث بالأهم، ألا وهو العلم والتعلم، والأخلاق والتخلق، والإيمان وأثره، والعبادة ومفهومها، والمعاملة وحقيقتها. وبود الداعية أن يصنف المواضيع التي يطرحها في بيئة كهذه على حسب أهميتها؛ ليتناول واحدةً بعد واحدةٍ في الوقت المناسب حتى ينتهي منها. ويخطئ الداعية حين يكون بين طبقة مثقفة آمنت بإسلام عظيم عقيدةً ونظامًا، وتحققت به سلوكًا ومعاملةً، وحملته إلى الناس تبليغًا ودعوةً، وذهب يحدثهم عن أبسط مبادئ الإسلام وأظهر أركان الإيمان، كالإيمان بالله والرسل، والاهتمام بالصلاة والصيام، وهذه الأمور من المسلمات، بل من البديهيات المعلومة من الدين بالضرورة، يذهب يحدثهم بهذا وقد ترك التحدث إليهم بالأهم، ألا وهو مسئولية الشباب في حمل رسالة الإسلام، والشباب وأثرهم في

ضرورة توافر النطق الجيد لدى الخطيب، وحسن الصوته وتمرينه.

الإصلاح والتغيير، كيف يتكون الدعاة؟ مؤامرات الأعداء على الإسلام وأهله، هل للداعية أن يرتبط بجماعة إسلامية؟ وما مواصفات الجماعة التي يرتبط بها الداعية؟ ما العقبات التي تواجه الدعاة؟ وبإمكان الداعية أن يصنف هذه المواضيع الهامة ليتناولها واحدةً بعد واحدةٍ في الوقت المناسب، وهكذا حتى ينتهي منها، ويطمئن أنه قد أدى رسالته، وأن دعوته قد آتت أكلها بفضل الله -عز وجل- ثم بفضل التزامه بضوابط الخطاب الدعوي، وابتعاده عن مثالب الخطاب الدعوي. ضرورة توافر النطق الجيد لدى الخطيب، وحسن الصوته وتمرينه أما الإمام محمد أبو زهرة -رحمه الله- فقد حدثنا عن مثالب الدعوة أو مثالب الخطاب الدعوي وطرق علاجها، فقال -رحمه الله- عما يجب على الداعية أن يلتزمه أثناء خطابه، قال: النطق الحسن هو الدعامة الأولى للإلقاء الجيد، وإذا اعترى النطق ما يفسده ضاع الإلقاء، فضاعت معه الخطبة وأثرها، وفقد الخطيب ما يسمو إليه من وراء البيان، ولا شيء يذهب بالمعنى الجيد أكثر من النطق الرديء، وكثيرًا ما يفهم المعنى على غير وجهه؛ لأن النطق قلبه، ولم يصوره تصويرًا صادقًا. والنطق الجيد يحتاج إلى عناصر أربعة لا بد من توافرها، فإذا فقد أحدها ذهب أحد أركانه فاختل بنيانه، وها هي: أولًا: تجويد النطق: بأن يخرج الحروف من مخارجها الصحيحة، فلا ينطق بالثاء سينًا، ولا بالذال زايًا، ولا بالجيم كما ينطق العامة "جيمًا" وهكذا كل مخارج الحروف.

فيجب أن يهتم الخطيب بأن يكون الحرف خارجًا من ينبوعه، صادرًا عن مخرجه الذي عُرِف عن العربي النطق به منه، وإن العناية بنطق الحروف نطقًا صحيحًا وإخراجها من مخارجها، ليس معناها أن يتشادق الإنسان ذلك التشادق الذي يقع فيه بعض المتكلمين أو الخطباء، فيكسو النطق تكلفًا يثير سخريةَ السامعينِ، أو يثقل القول عليهم، بل معناه أن ينطق بالحرف من مخرجه من غير تكلف ولا تشادق ولا توعر، بل في يسر ورفق وسهولة؛ لأن ذلك التشادق يوقع أولئك المتكلمين في نقيض ما يرغبون، فينطقون بالحروف من غير مخارجها الصحيحة، كبعض الخطباء الذين يدفعهم غلوهم إلى النطق بالجيم بما يقرب من الشين؛ فرارًا من نطق العامة، فيدفعهم فرارهم هذا من نطق العامة إلى عيب آخر، لا يقل عن الأول خروجًا عن جادة الفصحى. وقد قال بعد الأدباء: إن التشادق من غير أهل البادية عيب؛ لأن أهل البادية في الزمن الأول كان نطقهم هو الصورة الصحيحة للنطق العربي القويم. ثانيًا: مجانبة اللحن وتحري عدم الوقوع فيه: يجب على الخطيب أن يهتم بتصحيح الكلام الذي ينطق به، وأن يلاحظ ذلك في مفرداته وعباراته، أن يلاحظ بنية الكلمات ملاحظةً تامةً، فلا ينطق مثلًا بكلمة "سَوَقَ" بفتحتين كبعض الخطباء، فيذهب ذلك بروعة القول وبهائه، ولا ينطق بغير ما توجبه قواعد النحو في آخر الكلمات، فإن ذلك يفسد المعنى وقد يقلبه. فعلى الداعية أن يهتم بقواعد النحو اهتمامًا، وأن يراعي أن في جمهوره مَن قد يكون أعلمَ بقواعد اللغة منه، فعليه أن ينتبه إليهم وهم يستمعون إليه وينظرون إليه، وعليه أن يتفحص نظراتهم؛ ليرى ما وراء هذه النظرة، فينتبه إلى أنه قد لحن، أو وقع في خطأ لغوي أثناء خطابه الدعوي.

ثالثًا: تصوير النطق للمعاني تصويرًا صادقًا: بأن يعطي الخطيب كل كلمة وكل عبارة حقها، ويظهرها بشكل تتميز به عن سواها، فالجملة المؤكِّدة -أو الجملة المؤكَّدة- ينطقها بشكل يدل على التوكيد في النغم كما دل، والجمل الاستفهامية ينطق بها بشكل يتبين منه الاستفهام، والمراد منه في طريق النطق كما دل عليه بالأداة الدالة على الاستفهام. رابعًا: التمهل في الإلقاء: وهو ألزم الأمور للخطيب، وليس بصحيح ما يزعمه بعض الناس من أن الخطيب اللبق هو من يتدفق بيانه تدفقًا، وتنحدر عباراته في سرعة ومن غير تمهل، فإن ذلك -فيما أرى- عيب يجب التخلي عنه والاحتراز منه، إذ النطق السريع المتعجل حيث تجب الأناة ينتج منه تشويه المخارج، وخَلْط الحروف بعضها ببعض؛ لأن عضلات الفم واللسان لا تأخذ الوقت الكافي للانتقال من لفظ إلى لفظ، والإسراع المفرط يجعل الخطيب يهمل الوقوف عند المقاطع الحسنة، والمقاطع لها الأثر الحسن كما علمتَ فيما مضى. والخطيب السريع في نطقه لا يعطي السامع الفرصة الكافية لفهم ما يسمع، وتذوق ما فيه من صقل اللفظ وجودة المعنى وحسن الخيال، فإذا قرعت أذنه عبارة قبل أن يتذوق ما في الأولى من جمال، يَعْرُه التعب، ويسكن قلبه السأم، وينصرف عن الإصغاء. والتمهل فوق ذلك يجعل الصوت يسري إلى السامعين جميعًا بأيسر مجهود متناسب مع المكان والعدد، بينما الإسراع يجعل الكلمات تحتاج إلى مجهود صوتي أكبر؛ ليصل الكلام إلى الآذان.

وقد كان النقاد الأقدمون يعدون بحق من أمارات رباطة جأش الخطيب التمهل في النطق، فقد قال أبو هلال العسكري في (الصناعتين): وعلامة سكون الخطيب ورباطة جأشه، هدوؤه في كلامه وتمهله في منطقه. قال ثُمامة: كان جعفر بن يحيي أنطق، قد جمع الهدوء والتمهل، والجزالة والحلاوة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني عن الإشارة لكان. وقبل أن نترك الكلام في هذا المقام نشير إلى نقطتين: إحداهما: أن الكلام يجب أن يسوده التمهل في الجملة؛ لما بينا، ولكن يصح أن يتفاوت في الجمل بعضها عن بعض، فالجمل الدالة على الفرح والسرور يستحسن أن ينطق بها الخطيب بسرعة نسبية، وكذلك الجمل الدالة على على الغضب؛ ليكون النطق مصورًا للمعنى الروحي لهاتين الحالتين تمام التصوير. ثانيهما: أن لا يظن ظان أن التمهل معناه أن يكون النطق هادئًا هدوءًا تامًّا، فتعدم الخطبة الحياة والقوة، بل يجب أن يكون في نغمات الصوت ورنانه، وملامح الخطيب ونظراته، والتغيير النسبي في التمهل والسرعة، ما يعطي الخطبة الحرارة والقوة والحياة. أما الصوت فمن الناس مَن يسمع الإنسان صوته محدثًا أو قارئًا أو خطيبًا، فيشعر بنغماته تثير ارتياحه، وبرنينه يهز إحساسه، وبعمقه يصل إلى أبعد غور في نفسه، وبأشكال مختلفة يتضح المعنى، وينكشف المبهم. ومن الناس مَن تُسمع منه أجمل العبارات وأجودُ الألفاظ الدالة على المعاني، فترى العبارات قد فَقدت جزءًا كبيرًا من بهجتها، وذهب من المعاني أكثر روعتها، فدل ذلك على أن للأصوات أثرًا كبيرًا في حسن وقوع الكلام أو قبحه، وليس المرجع في ذلك جمالها وقبحها، ولكن عمقها وركوزها ورياضتها

على تصوير المعاني، وجودة نقل الخواطر، فإن الألفاظ والأصوات تتعاون في الدلالة على المعاني النفسية، فألفاظ التألم والحزن والغم مثلًا إذا سمعتَها مجردةً ما أثارت في نفسك شيئًا، فإذا سمعتها من متألم واشترك صوت متأثر بالآلام مع اللفظ، أثارت في نفسك خواطر الأسى، ومواضع الحزن، وأحسست بالألم العميق تشترك فيه مع مَن حكى لك آلام نفسه في نغمات صوته. لذلك يجب على الخطيب أن يروض نفسه على تصوير المعاني، وأن يجعل من نغمات صوته وارتفاعه وانخفاضه دلالات أخرى فوق دلالة الألفاظ، وليعمل على أن يكون صوته ناقلًا صادقَ النقل لمشاعر نفسه، وليمرنه التمرين الكافي على أن يكون حاكيًا صادقَ الحكاية لمعاني الوجدان، وخواطر الجنان، وليعلم أنه لا شيء كالصوت يعطي الألفاظ قوة حياة، وأنه إذا أحسن استخدامه خلق به جوًّا عاطفيًّا، يظل السامعين وبه يستولي عليهم. وإذا كان لنا أن نوصي مريد الخطابة بشي فإنا نوصيه بهذين الأمرين: أولهما: أن يجعل صوته مناسبًا لسعة المكان ولعدد السامعين، فلا ينخفض حتى يصير في آذانهم همسًا، ولا يعلو حتى يكون صياحًا، بل يكون بين هذا وذاك، وبين المرتبتين متسع لفنون القول ودرجات الكلام وأنواعه وغاياته، وعند الابتداء يبتدئ منخفضًا، ثم يعلو شيئًا فشيئًا، فإن العلو بعد الانخفاض سهل، وَوَقْعُه على السامعين مقبول، أما الخفض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه. ولذا يجب على الخطيب أن يوازن بين طاقته وبين الزمن الذي تستغرقه خطبته والمجهود الصوتي الذي يجب بذله، وليجعل هاذين على قدر تلك، وإلا أصابه الإعياء قبل الوصول إلى الغاية، فكان كالمنبت لا أرضَا قطَعَ ولا ظهرَا أبقَى. ثانيهما: أن لا يجعل صوته نمطيًّا يسير على وتيرة واحدة وبشكل واحد لا تغير فيه ولا تبديل، فإن ذلك يلقي في نفس السامع سآمةً وملالًا، ووراءهما النفور والانصراف.

ضرورة الابتعاد عن الإسرائيليات والموضوعات والمنكرات، والضعيف.

إن الخطيب المتصرف المجيد لا يضل في تمييز هذه الأصو ات إذا جعل دليله ما يشعر به من هذه المعاني، وما ير اه من الناس في محادثاتهم المعتادة في رفع أصواتهم أو خفضها، فإن المحادثات المعتادة هي الحاكية الصادقة الحكاية للأمر المألوف والذوق المعروف، فليكن في تغيير صوته صورة مكبرة، مزينة، مجملة بجيد التعابير لما يجري بين الناس، فإنه إن فعل ذلك كان صادرًا في نغماته عن إحساسهم ومشاعرهم وذوقهم العام. ضرورة الابتعاد عن الإسرائيليات والموضوعات والمنكرات، والضعيف أما الدكتور عبد المنعم أبو شعيشع فقد حدثنا وحذَّرنا عن الإسرائيليات والموضوعات والمنكرات التي ابتُلي بها كثيرٌ من الخطباء في خطابهم الدعوي، فقال: ينبغي أن تكون الموعظة ثابتة الأصول، باسقة الفروع، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وسبيل ذلك التمسك بالصحيح، وترك الأحاديث الواهية والمنكرة والموضوعة والروايات الضعيفة، ففي مجال التفسير يجب على الداعية أن يعرض عن الإسرائيليات. يقول الدكتور: لما عجز اليهود عن مقاومة الإسلام عسكريًّا لجئوا إلى الغزو الثقافي، ودس الإسرائيليات المنكرة في كتب التفسير حتى امتلأت بها، وذلك -أي: تحريف الكلم- من أخلاقهم السيئة كما وصفهم الله تعالى. والذي دعا المسلمين عن الأخذ عن بني إسرائيل ما فهموه من حديث البخاري عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)).

قال الدكتور يوسف القرضاوي: وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أذن بالتحدث عنهم أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم، فأي تصديق لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله، ونضعها منه موضع التفسير أو البيان؟ اللهم غفرانك. ولابن كثير -رحمه الله- في تفسيره تعقيبات كثيرة من هذا النوع على الإسرائيليات تتضمن إنكاره عليها ورفضه لها وإن كان يذكرها تبعًا لمن قبله، وفي بعض الأحيان يرفض ذكرها بالكلية مبقيًا القرآن على إجماله دون الخوض في تفصيلات لم يأتِ بها حديث ثابت عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم. كذلك مما يجب على الخطيب أن يحذره ويحذر الوقوع فيه في خطابه الدعوي الأحاديث الضعيفة والأحاديث الموضوعة. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: سواء من ذلك ما كان مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وما كان موقوفًا على بعض الصحابة مثل علي وابن عباس وغيرهما، وما كان منسوبًا إلى بعض التابعين مثل مجاهد وعكرمة والحسن وغيرهم، أو منسوبًا إلى مَن بعدهم من أهل العلم. يجب على الخطيب أن يتفحص الروايات التي يرويها، والأحاديث التي يستشهد بها، وعليه أن يبذل جهده في محاولة تحقيق الحديث الذي يرويه؛ حتى لا يقع في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من كذَب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). لقد حذَّر علماء الحديث من رواية الحديث الموضوع في مقام الأحكام والقصص والترغيب وغيرها، إلا مع التنبيه عليه، وبيان أنه حديث موضوع؛ وذلك ليحذر منه القارئ والمستمع. لذا ينبغي على الخطيب الداعية أن لا يأخذ الحديث النبوي الشريف من كتب الوعظ والإرشاد والتصوف والتربية والتاريخ والتفسير ونحوها؛ وذلك لأنها

ليست من كتب السنة المعتمدة، ولا تعنَى بانتقاء الأحاديث التي توردها وغربلتها، ولا تعزوها إلى مَن خرَّجها من أصحاب الكتب الحديثية حتى لو كان مؤلفه من حفاظ الحديث. يقول الدكتور يوسف القرضاوي: حتى حفاظ الحديث الناقدون، إذا ألفوا في الوعظ وما يتعلق به تلخصوا وتساهلوا إلى حد التفريط فيما يروونه في بعض الأحيان، حتى وجدنا الإمام ابن الجوزي صاحب (الموضوعات) و (العلل المتناهية) وغيرها يرخي لنفسه العنان في كتاب (ذم الهوى) وغلبت فيه عاطفة الواعظ على عقلية الناقد الحافظ، وكذلك الحافظ الذهبي رأيناه يتساهل في كتابه (الكبائر). واليوم يشهد العالم الإسلامي نهضة كبرى في تحقيق وتخريج وتبويب كتب الحديث، وتم تسجيلها على شاشات الكمبيوتر، ومن هنا سَهُل على كل خطيب أن يعرف درجة الحديث الذي يريد أن يستشهد به في خطبته، هل هو حديث صحيح مقبول يصلح للاحتجاج به؟ أو هو ضعيف مردود لا ينتهض الاحتجاج به؟ أو هو حديث موضوع مكذوب يجب تركه، بل يجب التحذير منه؟ هكذا، أرشدنا العلماء إلى مثالب الخطاب الدعوي وحذرونا منها، وأرشدونا إلى طرق علاجها، فعلى الخطيب الداعية أن يحرص على اجتناب هذه المثالب، وأن يحذرها، وأن يحذر الوقوع فيها؛ لأنها تصرف الناس عنه، وتجعل جهده لا يؤتي ثماره، ولا يصل إلى غايته. هذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 14 الندوة والمؤتمر، وخصائص كل منهما، وفوائده.

الدرس: 14 الندوة والمؤتمر، وخصائص كل منهما، وفوائده.

الندوة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الندوة والمؤتمر، وخصائص كل منهما، وفوائده) الندوة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد: فالندوة لغةً: الجماعة، ونادَى الرجل: جالسه في النادي، وتنادوا أي: تجالسوا في النادي، ويقال: ندوت القوم أندوهم: إذا جمعتهم في النادي، وبه سُميت "دار الندوة" بمكة التي بناها قصي، سميت بذلك؛ لاجتماعهم فيها. قال الجوهري: الندي: مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدَى. وقد جاء في القرآن الكريم قول رب العالمين سبحانه عن قوم لوط -عليه السلام-:} وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ {(العنكبوت: 29) قيل: كانوا يحذفون الناس في مجالسهم، فأعلم الله سبحانه أن فعلهم هذا من المنكر، وأنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس عليه ولا يجتمعوا علي الهزؤ والتلهي، وأن لا يجتمعوا إلا فيما قرب من الله -عز وجل- ورضوانه، وباعد من سخطه وعذابه. وجاء في القرآن الكريم أيضًا قول ربنا -سبحانه وتعالى-:} فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ {(العلق: 17) يريد عشيرته، وإنما هم أهل النادي، والنادي مكانه ومجلسه، فسماه به. أما الندوة في اصطلاح العلماء: فهي اجتماع مجموعة من المتخصصين أو المهتمين بأمر معين في مكان محدد وزمان محدد؛ لمناقشة موضوع محدد سلفًا، يتناوله كل واحد من المجتمعين من زاوية معينة من زواياه، ويبين كل منهم رأيه وما يعود على الناس من الخير في هذا الموضوع، وقد يُفتح بعد ذلك باب التعليق والمناقشة والسؤال من جانب جمهور المستمعين. والندوة أسلوب من أساليب الدعوة له أهميته، وذلك أن هذا النوع من الوسائل -وسائل الدعوة، وهو الندوة- أقرب إلى النفوس، والندوة لها أهمية كبرى في

توضيح الفكرة المعروضة على العلماء؛ حيث إن كثرة المتكلمين تبعث على النشاط وتفض الملل والكسل؛ لأن المتحدثين يتناولونها من جميع الجهات، كل منه يعطى عُصارة فكره وقصارة مجهوده، وما نسيه واحد يذكره الآخر، وما لم يستطع أن يبين ما يريد بينه الآخر. وهكذا من خلال تعريف الندوة وأهميتها، نستطيع أن نفرق بينها وبين الخطبة وغيرها من الوسائل القولية. وللندوة أهدافها، وهي: الخروج بواجبات عملية تنفذ وليست للإثراء الثقافي فقط. ثانيًا: تكوين وعي ثقافي حول قضية معينة. ثالثًا: تكوين رأي موحد وفكر مشترك حول موضوع معين. رابعًا: تنمية قدرة الأفراد على المناقشة وإبداء الرأي. خامسًا: التعايش والاحتكاك بأفراد جدد. سادسًا: تبادل الخبرات والتجارب. سابعًا: اكتشاف المواهب والعمل على توظيفها. ثامنًا: استثمار طاقات المحاضرين والأساتذة؛ لتوريث الدعوة. هذه هي الأهداف التي يحرص المجتمعون في الندوة على تحقيقها. وللندوة عناصر، وعناصرها هي: موضوع الندوة. ثانيًا: مدير الندوة أو المقرر لها.

ثالثًا: المحاضرون. رابعًا: الجمهور. خامسًا: الحوار والمناقشة. سادسًا: الزمان. سابعًا: المكان. وأخيرًا من عناصر الندوة: الوسائل المعينة لاستخدامها في هذه الندوة. وحتى تؤتي الندوة أكلها وثمارها وتحقق أهدافها، لا بد أن يراعي المحاضرون في الندوة أسباب النجاح التي يتوصلون بها إلى تحقيق أهداف الندوة ونجاحها، ونستطيع أن نقيس نجاح ندوة أو عدم نجاحها من خلال هذه العناصر، فأي خلل في واحد منها يؤدي إلى ضعف في الندوة. أما بالنسبة للمدير أو مقرر الندوة: فينبغي أن يكون ذا خبرة في تقديم إدارة الندوات. ثانيًا: أن يكون على اطلاع جيد على الموضوع الذي سيديره في الندوة. ثالثًا: تحضير الربط بين فقرات الندوة. رابعًا: ضبط الوقت منه ومن المحاضرين؛ حتى يكون كل محاضر على علم بالوقت المتاح له في هذه الندوة، لا يقصر عنه ولا يزيد عليه. خامسًا: حِرص المقرر للندوة حرصه الدائم على تحقيق أهداف الندوة. سادسًا: إعطاؤه الحرية في إبداء الآراء.

سابعًا: رد الحاضرين إلى صُلب الموضوع كلما ابتعدوا عنه، فربما لو أعطيت الفرصة للحاضرين للسؤال وإبداء الرأي، ربما خرج بعضهم بسؤاله أو رأيه عن الموضوع الذي تدور حوله الندوة، وهذا من أسباب فشل الندوة، وتضييع وقت الحاضرين والمحاضرين، فعلى مدير الندوة أن يرد الحاضرين إلى صلب الموضوع كلما خرج أحدهم بسؤال خارج الموضوع أو برأي لا يمت إلى الموضوع بصلة. ثامنًا: أن يكون مقرر الندوة قادرًا على التلخيص واستخلاص النتائج، بحيث يعطي الحاضرين خلاصةَ ما قاله كل محاضر عقب محاضرته، أو خلاصةَ ما أُلقي في هذه المحاضرة كلها في نهايتها. تاسعًا: أن يحسن تجهيز المكان والوسائل المعينة للاستخدام في هذه الندوة. عاشرًا: على مقرر الندوة ومديرها أن يعد العدةَ، ويجهز كل ما يحتاجه للندوة مع المحاضرين فيها قبل موعدها بزمن كافٍ. وأخيرًا على مقرر الندوة أو مديرها: أن يتسم بسعة الصدر، والحلم، وجميل الأخلاق، ولين القول، وبَشاشة الوجه؛ حتى يستطيع أن يستميل جمهور الحاضرين إليه، وإلى المشاركين معه في هذه الندوة. أما المحاضِر في الندوة فيُشترط فيه حتى تحقق الندوة أهدافها، وتكون ندوة ناجحةً بإذن الله -عز وجل- يشترط في المحاضر أو يلزم المحاضر: - تقسيم المحتوى إلى عناصر تخدم الأهداف، أن يقسم المحاضر ما أعده للإلقاء في هذه الندوة إلى عناصر تخدم أهداف الندوة، وتحقق أغراضها. - تحديد الزمن وعدم تخطيه، فالندوة -كما قلنا- يشترك فيها أكثر من عالم، فينبغي للمحاضِر أن يلتزم بالزمن الذي حدده له مقرر الندوة ومديرها؛ لأن في

تخطي المحاضر الوقت المحدد له تعد على إخوانه، وقد يلجئهم إلى عدم استيفاء ما أعدوه للمحاضرة، وما أعدوه للإلقاء في هذه الندوة، فلا تتم الأغراض ولا تتحقق الأهداف. ثالثًا: إبراز النقاط المهمة: على المحاضر أن يبرز أهم النقاط التي يراها في محاضرته. ورابعًا: ترك الدخول في التفاصيل لأسئلة الجمهور؛ لأنه حين يُفتح باب الأسئلة على مصراعيه للجمهور الحاضر، فإنهم بذلك سيضيعون الوقت، ويحولون بين المحاضر وبين إلقاء ما أعده للإلقاء عليهم. خامسًا: مراعاة مستوى الحضور ومرحلتهم العلمية، بمعنى: أن نُخاطِب الناس على قدر عقولهم، وأن يكون المحاضر على دراية وبينة وعلم بِمَن يحاضرهم في هذه الندوة، أن يكون على علم بمستواهم الثقافي، ومراحلهم التعليمية؛ حتى لا ينزل عن مستواهم ولا يصعد إلى ما هو أعلى من مستواهم، وبذلك لا تؤت المحاضرة أكلها، ولا تحقق الندوة أهدافها. سادسًا: أن يتوفر في المحاضر مهارات الأداء في محاضرته الحيوية، والتفاعل، والتعايش مع ما يلقيه على الحاضرين حتى يؤثر فيهم، فإنه إن لم يتعايش ويتفاعل هو مع ما يقوله فلن يتعايش الحاضرون معه ولن يتفاعلوا مع محاضرته. أما الجمهور: فحتى تنجح الندوة وتحقق أهدافها، فيلزمهم أثناء الندوة: - أن يكونوا قد درسوا موضوع الندوة دراسةً جيدةً؛ حتى يستطيعوا التداخل مع المحاضر، والاستفهام والسؤال.

- وعلى الحاضرين أن لا يقاطعوا المحاضر أثناء محاضرته، بل إذا بَدَا لأحدهم سؤال أثناء المحاضرة كتبه، فإذا انتهى المحاضر من محاضرته وفتح باب السؤال، سأل مَن أراد السؤال. ثالثًا: أن لا يخرج الجمهور بأسئلتهم عن موضوع الندوة. رابعًا: على الجمهور التفاعل والحيوية أثناء الندوة، فينبغي لكل مَن حضر الندوة أن يكون حاضرًا بقلبه لا ببدنه فقط، وأن يلقي السمع ويحسن الاستماع، ويحرص على الفهم والتدبر والانتفاع بما يلقى في هذه المحاضرة، فلا ينشغل عما يلقى عليه بأي شاغل آخر يشغله، ويجعله لا يسمع ولا يعي ولا يستفيد من حضوره، والله -سبحانه وتعالى- قد قال:} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {(ق: 37). فهذه شروط الانتفاع من الحاضرين للندوة أن يحضروا بقلوبهم، وأن يلقوا أسماعهم، وأن يقطعوا الشواغل التي تشغل سمعهم وأبصارهم وقلوبهم عن المحاضر أثناء الندوة, وقد ذم الله -تبارك وتعالى- المشركين على تشاغلهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء حديثه، فقال -عز وجل-:} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى {(الإسراء: 47) حاضرون لا يستمعون لمن يحاضرهم ولا من يعظهم، وإنما يتناجون أي: يتحدثون سرًّا أثناء المحاضرة وأثناء الندوة وأثناء الموعظة، فأنَّى لهم أن يعوا وأن يستفيدوا وأن ينتفعوا؛ ولذلك قال الله تعالى:} وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا {(محمد: 16) فهم لم يدروا ماذا قال؟ ولم يعوا ماذا قال؟ لأنهم لم يحسنوا الحضور ولم يحسنوا الاستماع، لم يتفاعلوا ويتعايشوا مع المحاضر أثناء الندوة. خامسًا: على الجمهور أن يتجنب تَكرار طرح الأسئلة التي سُئِلت من قبل ولو بأسلوب آخر، وهذا داء وآفة قد انتشرت في الجمهور في كل مكان، إلا مَن رحم

ربك وقليل ما هم، فأكثر الناس دأب على أنه كلما جاء محاضر أو حضر محاضرة أو حضر ندوة، أن يسأل سؤالًا، والسؤال هو هو لا يتغير، ولو حضر في اليوم خمس محاضرات أو خمس ندوات هو سؤاله الذي يسأله لهذا، ويسأله لهذا، ويسأله لهذا، وهذا من الأسئلة التي نُهينا عنها. فمن آداب السؤال أن يكون سؤالَ تفقهٍ لا تفكه وتندرٍ، ولا لإعجاز المسئول، فحتى تنجح الندوة وتحقق أهدافها على الجمهور الحاضر أن يجتنب طرح الأسئلة المقررة ولو كان يغيرها بأسلوب آخر. وأخيرًا على الجمهور: أن يقصد بحضوره تلك الندوة أن يترجم ما سمِعَ إلى حياته العملية، أو واقعه العملي، وأن يعمل بما سمع، وأن يستجيب لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما سمعه أثناء تلك الندوة أو أثناء تلك المحاضرة، أو من ذلك الواعظ وذلك المدرس، المقصود من التعلم هو العمل، فإذا حضر إنسان مجالس العلم على اختلاف أساليبها من الخطبة والدرس والندوة وغير ذلك ولم يكن له رغبة في العمل، فإنه إنما يستزيد من حجة الله عليه. كما روي: أن رجلًا كان كلما لقي أبا الدرداء سأله سؤالًا، فقال له أبو الدرداء: "يا هذا، أكل ما تسأل عنه تعمل به؟ فقال: لا، فقال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ ". فيجب على الجمهور إذا حضر الندوة أو الموعظة أو الخطبة أو المحاضرة أو الدرس أو غير ذلك، إذا حضر مجلس علم مهما اختلفت أساليبه، يجب على مَن حضر أن يكون حريصًا على أن يتعلم ليعمل، وأن يبادر عقب التعلم بالعمل؛ استجابةً لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن الجمهور حين يحرص على العمل بما

يسمع إنما يكون من الذين قال الله -تبارك وتعالى- فيهم:} فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ {(الزمر: 17، 18). فهذه أسباب نجاح الندوة وتحقيقها أهدافها، والأسباب -كما بينا- منها أسباب تتعلق بمدير الندوة، ومنها أسباب تتعلق بالمحاضر، ومنها أسباب تتعلق بالجمهور الحاضر. أما كيف تجرى الندوة وتُدار؟ فنقول: ينبغي الإعداد للندوة قبل انعقادها بزمن كافٍ، وذلك الإعداد يكون: بترتيب المحاضرين وإبلاغهم قبل الموعد بوقت كافٍ. ثانيًا: تجهيز المكان وإعداده إعدادًا مناسبًا. ثالثًا: تجهيز الوسائل المعينة. رابعًا: إعلام الجمهور بموعد وموضوع الندوة بوقت كاف. وينبغي الحرص على كثرة الإعلام والإعلان عن هذه الندوة والدعوة إليها، وأن يغطي مساحةً واسعةً من المدينة أو من الأحياء أو من القرية؛ حتى تبلغ الدعوة لتلك الندوة أكبر قدر ممكن من الجمهور. هذا ما ينبغي إعداده للندوة قبل انعقادها. أما أثناء الانعقاد: فتتم الندوة على النحو التالي: أولًا: افتتاح الندوة بكلمة موجزة وهادفة يلقيها مدير الندوة، يعرف الحاضرين بالموضوع الذي سيتناوله المحاضرون في هذه الندوة، والأهداف المقصودة من هذه

الندوة والأغراض التي يسعى الذين أعدوا هذه الندوة إلى تحقيقها من خلال هذه الندوة. ثانيًا: تقديم كل مشارك في الندوة تقديمًا مناسبًا، أن يكون مدير الندوة على علم بالمحاضرين الذين دعاهم للاشتراك في هذه الندوة، وأن ينزل الناس منازلهم، وأن يكون قد قسَّم المحاور الرئيسية التي تدور حولها الندوة على المحاضرين، ويبدأ بالأهم فالمهم، ثم يقوم كل محاضر بتقديم الجزء المخصص له في الوقت المحدد، ولا يتخطاه -كما سبق بيانه- ثم التعليق من المشاركين، وينبغي أن يكون تعليقًا مدروسًا موجزًا هادفًا، وينبغي عدم الخروج عن الموضوع المطروح كما نبهنا. ويخصص ثلثُ الوقت المتفق عليه سلفًا للمحاضرين، والثلثين للحوار والمناقشة أو العكس، كما يراه مقرر الندوة ومديرها، ويبدأ الحوار والمناقشة بين المحاضرين والجمهور بآداب الحوار بالتي هي أحسن، وبالكلمة الطيبة، وبالروح التي يسودها المحبة والألفة والأخوة، والحرص على الانتفاع وإصابة الأهداف وتحقيق الأغراض، فإن الله -تبارك وتعالى- قال:} وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {(العنكبوت: 46) وقال:} وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا {(البقرة: 83). فينبغي على الحاضرين إذا فُتِح لهم باب النقاش والسؤال ولو كان الحاضر يخالف الفكرة المطروحة، عليه أن يطرح أسئلته بكل أدب وإخاء، وكذلك على المحاضِر أن يرد على مَن يسأله ولو خالفه في فكرته التي طرحها بكل أدب ومحبة وإخاء. وفي النهاية يتم تسجيل النتائج والواجبات العملية التي نتجت من الحوار والمناقشة أثناء تلك الندوة.

فإذا انتهت الندوة وانصرف الجمهور، فإن على المسئولين عن عَقْد هذه الندوة أن يقيموا الندوة وينظروا فيها، ويقدروا نسبة النجاح فيها، فدراسة مدى نجاح الندوة في تحقيق أهدافها لا بد منه؛ حتى نعلم هل وُفقنا في هذه الندوة؟ وكم نسبة التوفيق؟ هل نجحنا إلى تبليغ الغرض الذي سعينا إلى تبليغه للناس أم لا؟ وما نسبة النجاح؟ حتى نتلاشى التقصير والخلل والزلل إذا كان في الندوة، نتلاشاه في الندوة التي بعدها. وهذه الدراسة التي تقدر وتقيم الندوة تتم من خلال: - ملاحظة سلوك الأفراد، ومدى ما حدث فيها من تغيير بعدما سمعوا ما سمعوا من المحاضرين في هذه الندوة. - ثانيًا: استبيان يوزع على الأفراد؛ لمعرفة مدى التغيير الذي أحدثته الندوة في مفاهيمهم. - العمل الحثيث على تنفيذ الواجبات العملية التي تم الاتفاق عليها في الندوة، فلا بد من المتابعة، فإذا اتخذت قرارات في الندوة فلا بد أن تكون هناك لجنة متابعة تتابع هذه القرارات وكيفية تنفيذها، وما الذي تم تنفيذه منها وما الذي لم يتم. - متابعة الموهوبين والمتميزين الذين أفرزتهم اللجنة، هذا الجمهور الذي حضر تلك الندوة ظهر من خلال مشاركة بعض الحاضرين أفراد مميزون في أخلاقهم، مميزون في سلوكهم، مميزون في أدبهم، مميزون في أفكارهم وآرائهم، ومداخلتهم ومناقشتهم ومحاورتهم، فهؤلاء ينبغي أن يتابَعوا ليستغلوا ويرشدوا، ويُستعملوا بعد ذلك في الدعوة لله -عز وجل.

ثم علاج السلبية التي ظهرت عند بعض الأفراد أثناء الندوة، فإذا رأى القائمون على الندوة تصرفات مخلة أو تصرفات غير منضبطة بالضوابط الشرعية، من خلال قول بذيء، أو عمل قبيح، أو تصرف أساء إلى الحاضرين، أو سؤال خرج عن المعتاد، أو خرج عن محاضرة الندوة، فينبغي العناية بهؤلاء الأفراد بعد الندوة، والتركيز على توجيههم، والتركيز على تعليمهم الآداب والأخلاق التي أرشدنا ربنا -سبحانه وتعالى- إليها أثناء مثل هذه المجالس، مجالس العلم. وأخيرًا: تسجيل أوجه الخلل التي حدثت في الندوة؛ لتلافي الوقوع فيها مستقبلًا، فلا بد من حصر ما حدث في هذه الندوة من سلبيات؛ حتى لا نقع فيها مرة ثانية. هذه هي الندوة، وأهميتها، وعناصرها، وأسباب نجاحها، وأهدافها. والندوة أنواع: من أنواع الندوة: الندوة المغلقة: التي تقتصر على الأعضاء المشاركين، ويكون لها مدير خاص يتولى إدارة الحوار بين الأعضاء، والندوة المغلقة قسمان: الأول: الندوة البحثية: التي يقدم كل عضو من الأعضاء فيها بحثًا يخضع للمناقشة بعد إلقائه، وفي هذه الحالة يكون كل بحث معدًّا سلفًا قبل موعد الندوة بوقت طويل، ويقتصر دور مدير الندوة في هذه الحالة على تنظيم إلقاء البحوث وإدارة الحوار، ويكون موضوع الندوة تخصصيًا يقتصر على المتخصصين تخصصًا دقيقًا في موضوع الندوة، وفي الغالب فإن الذي يدعو إلى الندوة يكون جهة علمية أكاديمية، أو مؤسسة ثقافية، أو منظمة دولية متخصصة، ويتم نشر الأبحاث عادةً بعد انتهاء الندوة.

النوع الثاني من الندوة المغلقة: الندوة الاستجوابية: التي تقوم على طرح الأسئلة، ومن ثم الإجابة عليها، وفي مثل هذا النوع من الندوات يقوم مدير الندوة بدور رئيسي مشارك، فهو الذي يختار الأسئلة ويصوغها، ويختار أسئلة جديدة، وهو الذي يثير المشكلات التي تحتاج إلى استضاح، ولهذا فإن المفترض في مدير الندوة أن يكون ممن لهم علاقة تخصصية بموضوع الندوة، ممن تتوافر فيهم مهارة خاصة في إدارة الحوار، والسيطرة عليه. وغالبًا ما تكون الندوة في موضوعات عامة تهم الجمهور، ومن هذه الندوات: الندوات التليفزيونية والإذاعية التي تنتشر في هذه الأيام. النوع الثاني من أنواع الندوات: الندوة المفتوحة: وتتميز هذه الندوة بالمشاركة الواسعة من جمهور الحضور الذين لا يقتصر دورهم على طرح الأسئلة فقط، ولكن يتعدى ذلك إلى التعليق، وطرح وجهات النظر المختلفة ولكن في حدود، وبعض أن ينتهي الأعضاء من طرح وجهات نظرهم حول القضية -قضية موضوع الندوة. أما عن كيفية إدارة الندوة: - فإذا كانت الندوة بحثيةً: فلا بد من اختيار أعضائها من بين الأعلام البارزين ومن ذوي الاختصاص المعروفين، وإبلاغهم قبلها بوقت كافٍ؛ حتى يعدوا أبحاثهم إعدادًا كافيًا، كذلك لا بد من اختيار موضوع الندوة بعناية فائقة، بحيث يكون ذا أهمية خاصة للإسهام في حل قضية علمية أو طبية أو إشكالية فلسفية أو أدبية نقدية، ولا بد من إعداد العدة لنشر النتائج وإذاعتها في الأوساط المختصة، وتوزيعها على المعاهد العلمية ذات الاهتمام بهذا الموضوع.

المؤتمر.

وإذا كانت الندوة استجوابيةً: فلا بد من إعداد المحاور الأساسية للأسئلة التي ستطرح في الندوة، وتوزيعها على الأعضاء المشاركين؛ حتى يهيئوا أنفسهم للإجابة عليها، ويكشفوا عن دقائقها، فلا يفاجئون بأسئلة دقيقة لا يملكون الإجابة عنها، وبالتالي يكون ذلك سببًا في إحراجهم، ولا بد لمدير الندوة من إعداد أسئلته بعناية ودقة، وبأسلوب لا يحتمل التأويل، أو يخلو من اللياقة؛ إذ لا بد من توفر الذوق والأدب، ونبذ التعالم، ومحاولة إظهار المقدرة العلمية، والاستبداد بالحديث، أو التركيز على مشارك دون آخر، أو تعمد إحراج أحد المشاركين أو إهماله، ولا بد من تحديد الوقت وتوزيعه بشكل عادل، وعدم مقاطعة المنتدين، أو تفريع الموضوع، والدخول في متاهات تؤدي إلى تمييع القضية التي هي موضوع الندوة. وفي الندوات المفتوحة: لا بد من السيطرة على زمام الموقف وضبط الأمور لاتساع دائرة الحوار، والمحافظة على النظام، ومراعاة أساليب الذوق واللياقة في التخاطب، وإيقاف المتحدثين الذين يجنحون للإساءة إلى أحد المشاركين، أو تسفيه رأيه، أو السخرية به. هذه هي الندوة وما يتعلق بها. المؤتمر أما المؤتمر: فهو عبارة عن مجموعة محاضرات مكثفة، ذات موضوع مترابط، تلقَى في وقت محدد، لا يتجاوز في الغالب أيامًا معدودة، وفيها يتبادل المحاضرون وجهات النظر حول الموضوع المطروح. وقد كثرت هذه الوسيلة الدعوية في الآونة الأخيرة، وعليها إقبال كبير من الشباب والمثقفين، وقد كان لكثير من هذه المؤتمرات أثر دعوي واجتماعي بين

المسلمين، وبخاصة تلك التي تُعقد في ديار الغرب بين غير المسلمين، الذين هم بحاجة ماسة إلى تعريفهم بالإسلام، وإظهار الدين الحنيف بمظهره الذي هو عليه. وهذه المؤتمرات لها إيجابياتها وإن كان فيها سلبيات: أما الإيجابيات: فمنها: تبادل وجهات النظر والتعاون الفكري بين المسلمين بعامة وبين المحاضرين بخاصة. الثانية: أثر هذه المحاضرات دعويًّا وعلميًّا على المدعوين وغيرهم فيما بعد. الثالثة: الأثر الروحاني والاجتماعي الذي يعيشه المسلمون الحاضرون أثناء المؤتمر وبعده. الرابعة: التعارف بين المسلمين في أفكارهم وأشخاصهم. الخامسة: الظهور بمظهر القوة للإسلام والمسلمين. ففي هذه المؤتمرات يستشعر المسلمون وغيرهم بقوة الإسلام، وبخاصة القوة العلمية، كما يستشعرون إقبال الناس على الإسلام في الوقت الذي يُدبر الناس عن أديانهم، وهذا من القوة الذاتية لدين الإسلام بفضل الله -عز وجل. فالإسلام ينتشر بقوته الذاتية بين غير المسلمين، بينما كثير من أهل الأديان الأخرى يرجعون عن أديانهم ويتركونها؛ لأنهم لم يجدوا فيها ما يبغون، وما تطمئن به قلوبهم، وما يغذي أرواحهم. السادسة: من إيجابيات المؤتمرات العلمية: الخروج بحلول لكثير من قضايا الإسلام العالقة، أو التفكير في حلها، وما أكثرَ القضايا التي تقع بين المسلمين

ويحتاجون إلى إظهار الحل لها، أو تقع بين غير المسلمين ويريدون أن يعرفوا ما هي الحلول التي في دين الإسلام لهذه القضايا؟ فيأتي المؤتمرون ويعقدون مؤتمرهم؛ لبحث هذه القضية التي شغلت بال الناس من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، فيدرسونها، ويطرحون الحلول التي يرونها مناسبة لهذه القضية. كذلك من إيجابيات المؤتمرات: إنقاذ كثير من المسلمين دينيًّا واجتماعيًّا مما حل بهم من الضياع والفساد وبخاصة في ديار الغرب. إلا أن هذه المؤتمرات لم تخلو أيضًا من سلبيات، ونذكر هذه السلبيات من أجل تلاشيها؛ حتى تؤدي المؤتمرات غرضها وتحقق أهدافها. من السلبيات التي تقع في بعض المؤتمرات: قلة المادة العلمية التي تُعرض فيها، وما يترتب على ذلك من ضعف في التأصيل والمنهج، فعلى الذين يشاركون في مثل هذه المؤتمرات أن يبذلوا جهدهم في دراسة الموضوع أو القضية التي ستناقش في هذا المؤتمر، ويؤصلونها تأصيلًا علميًّا يعتمد على كتاب الله، وسنة رسول الله، وأقوال الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم أجمعين- فإن عدم اهتمام المشارك في المؤتمر بتحضير مادته العلمية؛ أولًا يعرضه هو بالظهور بمظهر الضعف، ولا يلقى القبول بين أخوانه ولا بين الحاضرين، وضعفه هو سيؤدي بالطبع إلى ضعف هذا المؤتمر، والإخلال به، وعدم تحقيق أهدافه التي عُقِد من أجلها. كذلك من سلبيات المؤتمرات: عدم التركيز على القضايا العملية، مما يجعل المؤتمرات نظرية وبخاصة في الجانب الدعوي، فينبغي للذين يعدون هذه المؤتمرات أن يهتموا باختيار القضية التي سيناقشونها في أبحاثهم من خلال هذا

المؤتمر، وأن تكون ذا غرض عملي يترجم في حياة الحاضرين إلى واقع عملي، يعني: يسمعون من هؤلاء المحاضرين في هذا المؤتمر أشياء يحتاجون إلى العمل بها، فيخرجون من هذا المؤتمر فيطبقون ما سمعوا ويعملون به، وبذلك يستمر انتفاعهم بما سمعوا في هذا المؤتمر إذا هم عملوا بما سمعوا، أما إذا كان المؤتمر مجرد أقوال نظرية لا تتعلق بالناحية العملية، فإنه سُرعان ما ينساها الناس، ولا يذكرونها، فضلًا عن أن يعملوا بها وينتفعوا، وقد كان السلف يقولون: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به. فمن سلبيات المؤتمرات عدم التركيز على القضايا العملية. كذلك من سلبياتها: عدم الالتزام في كثير من الأحايين بمقررات المؤتمرات، مما يجعلها حبرًا على ورق، إن المشاركين في المؤتمر بعد مناقشة البحوث التي عرضت من المشاركين، خرجوا بقرارات وتوصيات، ينبغي أن تكون هناك لجنة تتابع هذه القرارات، وما نفذ منها وما لم ينفذ، وما هي المعوقات التي حالت دون تنفيذ ما لم ينفذ؟ فإن هذه المتابعة أمر ضروري جدًّا؛ حتى لا تكون هذه القرارات -كما سبق قوله- حبرًا على ورق، نأتمر ونجتمع ونقدم بحوثًا، ونعرض آراءً وحلولًا لقضايا، ونقرأ القرارات والتوصيات، ثم لا يُعمل بها بعد ذلك، فهذه من السلبيات. كذلك من سلبيات المؤتمرات: عدم ضبط ما يلقَى فيها بما يوافق الدليل من الكتاب والسنة، مما يسبب تناقضات في المطروح، واضطرابات لدى المدعوين، وانحرافات منهجية خطيرة في صفوف الصحوة المرتبطة بها. إن العلم كما قال ابن القيم -رحمه الله-: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة، ليس بالتمويه.

فلا بد أن تكون البحوث والتي تُطرح في هذه المؤتمرات منضبطة بضابط الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ولا بد أن تكون الحلول المطروحة لتلك القضية التي يعالجها المؤتمر حلولًا مستمدةً من كتاب الله وصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الله -تبارك وتعالى- قال:} إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ {(الإسراء: 9) يهدي للتي هي أقوم في كل قضية من القضايا، في كل مشكلة من المشاكل، في كل واقعة من الوقائع، في كل حادثة من الحوادث التي تحدث في بلاد المسلمين وفي غير بلاد المسلمين. إن هذا القرآن هو الحل الأوحد للخروج بالناس من المآزق التي دخلوا فيها، ولا يعرفون الخروج منها، وهو الحل الأمثل لكل المشكلات والأزمات التي يعاني منها الناس مسلمين وغير مسلمين على حد سواء؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال في القرآن الكريم:} وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى {(طه: 124 - 127). فينبغي للمؤتمرين أن يحرصوا على أن يكونوا منضبطين في أبحاثهم التي يعالجون بها القضايا والوقائع والأحداث، يكونوا منضبطين بالكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، وإلا فإن كل الحلول التي تُطرح بعيدةً عن ذلك تجعل المدعوين في اضطراب، وتصيب تلك الصحوة المرتبطة بهذا المؤتمر بانحراف كثير عن المنهج. كذلك من سلبيات المؤتمرات: الاهتمام البالغ في الشكليات، مما يؤدي إلى الإسراف وعدم ظهور الدعاة بمظهر التواضع، مما يثير مشاعر الفقراء وغيرهم بذلك، فيبغي في المؤتمرين والقائمين على إعداد المؤتمر أن يبتعدوا عن مظاهر

الترف والسرف والبذخ، وأن يقتصدوا فيما ينفقون في هذه المؤتمرات؛ حتى لا يقال فيهم ما يقال، وما أكثرَ ما يقال. والسعيد الموفق مَن ذب الغيبة عن نفسه. كذلك من سلبيات المؤتمرات: نَحْو كثير من المؤتمرات منحًا سياسيًّا بحتًا، وغلبة التحليلات الواقعة عليها، وهذا منزلق خطير، ينبغي أن نهتم بقضايانا العقائدية والتعبدية والتعاملية، وما ينفع المسلمين وما يردهم إلى دينهم ردًّا جميلًا بإذن الله -عز وجل. كذلك من السلبيات: تتبع الأحداث بعيدًا عن مضامين الشرع ومنهج الكتاب والسنة، وانطلاق بعضها انطلاقاتٍ حزبيةً، مما يعطل شموليتها، ويحجر واسعها، ويقطع في كثير من الأحيان سيرها. إن الحزبية أمر خطير، فَرَّق المسلمين، وأضعف قوتهم، وأصابهم في مقتل، فعلى المسلمين أن يتحرروا من هذه الحزبية، وأن يجتمعوا على كتاب الله وعلى صحيح سنة رسول الله، وأن يستجيبوا لرب العالمين حيث قال:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا {(آل عمران: 103) وأن يستجيبوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث أوصَى أصحابه وكل مَن بلغهم في آخر أيام حياته -صلى الله عليه وسلم. يقول العِرباض بن سارية -رضي الله عنه-: ((وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظةً بليغةً، وجلت من القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي، فإنه مَن يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) أو كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 15 قواعد في الأسلوب الدعوي.

الدرس: 15 قواعد في الأسلوب الدعوي.

قاعدة القول الحسن والكلمة الطيبة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (قواعد في الأسلوب الدعوي) قاعدة القول الحسن والكلمة الطيبة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فبعدما انتهينا من دراسة الأساليب الدعوية؛ نتبعها بقواعد ينبغي على الداعية خطيبًا كان أو مدرسًا أو محاضرًا، أن ينضبط ويلتزم بهذه القواعد؛ حتى ينجح في دعوته، وتُؤتي دعوته أكلها بإذن ربها. من هذه القواعد التي ينبغي للداعية أن يلتزمها في أسلوبه الدعوي القول الحسن: فإن لحسن أسلوب والكلمة الطيبة وطِيب العشرة الأثر الطيب والثمر اليانع في حياة الناس بعامة، ولذلك حثّ اللهُ -عَزّ وجل- الأنبياء والدعاة والناسَ أجمعين على هذا القول الحسن، قال الله تعالى مادحًا عباده المؤمنين: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} (الحج: 24)، وقال آمرًا بالقول الحسن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83). فإذا كان هذا الأمر بعامة ولعامة الناس؛ فمن باب أولى أن يكون للداعية منه نصيب وافر وبخاصة في مقام الدعوة، ولذلك أكد الله -عز وجل- على حُسْنِ الأُسلُوب في مَقَام الدّعوة بغض النّظر عن حال المدعو؛ أيًّا كان في مقامه أو في دينه أو في كفره، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). ومع ما اتصف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرفق واللين وحسن العشرة بشهادة الله -عز وجل- له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، مع هذا كله حذَّر الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- من عواقب سوء الأسلوب وغِلظة العشرة، فقال سبحانه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159).

وجاءت السُّنة لتُؤَكّد حُسْنَ الأُسلوب بصورة أشمل، وبتعبيرٍ أعَمّ يَشْمَلُ كل مخلوق، ويعم كل معاملة. قال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، وما نُزِع من شيءٍ إلّا شانه)) فتنكير كلمة "شيء" تفيد العموم في كل قضية، ومع كل مخلوق، إنسانًا كان أو حيوانًا. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الكلمة الطيبة صدقة)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة)). ومن عظم ما يسطر ها هنا من خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أشد الناس عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، مما يُبرز سماحة هذا الدين وقصده الإصلاح: عن عائشة -رضي الله عنها-: ((أنّ يهود أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم، فقال -صلى الله عليه وسلم: مهلًا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحشَ، قالت -رضي الله عنها-: أَوَلَمْ تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما قلتُ؟! رددت عليهم فيستجاب لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فيَّ)). وحَذّرَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- من تَنْفِير الناس من الدعوة؛ بالتصرفات السيئة والأسلوب الفَظّ، والكَلِمات القاسية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن منكم منفرين)) وصدق والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن المشهور أن هذا القول إنما قاله -صلى الله عليه وسلم- لمن أطال الصلاة، أطال إمام الصلاة بالمصلين، فشكوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إن منكم منفرين)). فإذا كان هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن أطال الصلاة، فما عساه أن يقول لمن يُطيل الخطاب ويسيء الأسلوب، وقد جاء أكثر من وفد من كفار قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يتغير أسلوب خطابه، تأثرًا بما كان منهم من قبل من التعذيب والفجور والصد عن سبيل الله.

الرفق واللين والتيسير.

وخَشْيَة أنْ يَتأثر موسى -عليه السلام- بِمَا كَانَ عَليه فِرْعَون من الكفر الشديد، والظلم الكبير والعناد والخُبث، ذكره الله تعالى بأن لا يتجاوز الأسلوب الحسن في خطابه، وأن لا يلتفت إلى سوابق فرعون من كفر وظلم، وإلى تصرفاته السابقة من بطش وإجرام، ويظهر هذا في قول ربنا -عز وجل- مخاطبًا موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام-: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43 - 44) ويظهر كذلك في المحاورة التي جرت بين موسى وفرعون مما ذكره الله -عز وجل- في القرآن الكريم في أكثر من موضع. فإذا كان الأسلوب الحسن واجبًا في أحق أكثر الكافرين، وأضَل الضالين؛ فكيف بمؤمن مخطئ أو مسلم منحرف؟! لذلك كان من الأمور التي يجب على الداعية أن يلتزمها في دعوته طاعة لله ومصلحة لدعوته، حسن الأسلوب وثباته على هذا في كُلّ زمان ومكان، ومع كل مدعو ومدعوين، بما النظر إلى ما عليه المدعو من الأحوال الإيمانية والعدوانية والخُلقية، ومهما تصرف من تصرف حيال الدعوة أو الداعي؛ لأنّ حسن الأسلوب أمر شرعي مفروض على الداعية لا يتغير بتغير حال المدعو وتصرفاته، فلا يجوز في الدعوة إلا رفقًا بالأفعال ورقة في التعبير وعطفًا في التصرف. الرِّفْقُ واللين والتّيسير القاعدة الثانية: الرِّفْقُ واللين والتّيسير لا القساوة والغلظة والتعسير. إن من أعظم مُميزات الأسلوب الحسن ومعالمه هو الرفق في المعاملة والكلمات الطيبة، والعِبَارَاتُ اللّينَة والبَشاشَةُ حين اللقاء، والبُعد عن الجفاء، والتجافي عن الفظاظة، والترفع عن الرد.

فقد مر سابقًا من النصوص ما يغني عن إعادتها من أهمها قول ربنا -عز وجل- لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} مع طغيانه وجبروته: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} وقد مدح الله -تبارك وتعالى- عبادَه الذين شرّفهم بالنسبة إليه؛ فسماهم عباد الرحمن مدحهم على القول الهين اللين، فقال -عز وجل-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 63)، وقال سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34). وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من يُحرم الرفق يحرم الخير كله))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أُخبركم بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هين سهل)). فإذا كان هذا هو الواجب في أسلوب المسلم في حياته العامة؛ فمن باب أولى أن يتأكد هذا في أسلوب الدعاة؛ لِمَا سبق من بيان أهمية الأسلوب في الدعوة إلى الله تعالى. ولذلك جاءت النصوص مؤكدةً على ذلك قال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)). وفي رواية قالت -رضي الله عنها-: ((كنت على بعير صعب فجعلت أضربه، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عليك بالرفق)). وبتعبير تأصيلي بديع وذكر للسر في ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه)) ومعنى: ((زانه)) أي: إذا كان

الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح.

الرفق في شيء جَعَله جَميلًا ومحبوبًا، ويكون ذلك بالمُعاملة الحسنة والكلمة الطيبة، والصفح الجميل، وهذا هو الذي يُصْلِحُ الأسلوب، ويَجْعَله مقبولًا لدى المدعوين. ومعنى قوله: ((شانه)) أي: جعله مقبوحًا ومكروهًا، ويكون بالألفاظ القاسية والأسلوب الجاف، والتجهم بالوجه، والتأفف من المدعو وأفعاله؛ مِمّا يُؤدي إلى إفساده وإفساد الدعوة ونفور المدعوين. وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عاتبه ربه إذ عبَس في وجه أحد المدعوين، وهو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، وقد كان جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله أن يُعلمه مما علمه الله، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوقت مجتهدًا في مناقشة ومحاورة ودعوة أكابر قريش إلى الله -عز وجل- فانشغل بهم عن عبد الله بن أم مكتوم، وعبس في وجهه أن أراد أو حاولَ أنْ يَقْطَع حَديثه مع أكابر القوم ويصرفه عنهم، ونزلت سورة عبس كما هو مشهور. فإذا عوتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فما حال بعض الدعاة الذين يتجهمون في وجوه الناس وكأن بينهم وبين المدعوين حربًا ضروسًا، وعداءً مستحكمًا. فحري بالداعية أن يراجع أسلوبه فهو نصف النجاح إن لم يكن معظمه. الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح القاعدة الثالثة من قواعد الأسلوب الدعوي: الشفقة والنصح لا التوبيخ والفضح. إن المدعوين مرضَى، والداعية هو الطبيب، والطبيب الناصح يكون شفيقًا بالمرضى؛ همه معالجتهم والأخذ بأيديهم إلى طريق الصحة، وإنقاذهم مما هم فيه، ولا يَجُوز له إلقاء اللوم ولا فضيحة المريض، ولا التشفي منه؛ فإنّ هذا يزيدهم مرضًا على مرض، وضياعًا على ضياع، وهمًّا على هم؛ لأجْلِ هذا وجب أن يكون أسلوب الداعية أسلوب الشفيق بمدعويه الرحيم بهم.

قال الله تعالى عن رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدينُ النصيحةُ)) فجعل محور الدين النصيحة لا الفضيحة؛ فإن للنصيحة أسلوبها؛ وللفضيحة طريقها، وشَتّان بين الطريقين أسلوبًا وأثرًا. ومن الخطأ الواضح ما يفعله بعض الدعاة من تتبع عثرات المسلمين، وكشف عوراتهم، بدعوى ظاهرها زين وباطنها شين، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((يا معشر مَن آمَنَ بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومَن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)). بلى على العكس من ذلك أمر الإسلام بستر المسلمين، وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة))، ولذلك كان من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أحس من أحد خطأً، قام بواجب النصح في الأمر مع ستر عين الفاعل؛ فكان يقول على المنبر: ((ما بال أقوام يقولون كذا))، ((ما بال أقوامًا يفعلون كذا)). فبهذا يؤدي واجب النصح ويؤدي في الوقت نفسه واجب الستر، وهي موازنة يجب أن يراعيها الدعاة إلى الله -عز وجل-. فمِنَ الخَطأ تَسميةُ النّاسِ بأسمائهم في الأسلوب الدعوي على اختلاف أنواعه؛ فعل فعلان، وقال فلان، لا فَرْق في ذلك بين كبير القوم وصغيرهم، وأعلاهم وأدناهم، وكم لهذا الأسلوب من مساوئ، وكم حال هذا الأسلوب بين الداعية وبين جمهوره، وكم حال هذا الأسلوب السيئ القبيح المخالف للهدي النبوي الغير المنضبط بالقواعد الدعوية، كم جر هذا الأسلوب على الداعية نفسه من ويلات ونكبات.

سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل.

سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل القاعدة الرابعة من قواعد الأسلوب الدعوي، التي يجب على الداعية أن يلتزم بها وينضبط: سهولة الأسلوب وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل. فالمقصود من الدعوة إلى الله -عز وجل- تبليغ أَمْر الله -سبحانه وتعالى- إلى المدعوين؛ وفهم المدعوين لهذا الأمر، وليس المقصود بلاغة الداعية في خطابه، وتَنْمِيقَ عِباراته، وسَجع ألفاظه، وضربه أمثالًا خيالية لا تُفهم، وسبكه تراكيبَ ومصطلحات لا تدرك، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم: 4). فلم يكتفِ سُبحانه بِذِكْر أنّ الإرسال كان بلسان قومهم؛ بل ذكر العلة في ذلك وهو البيان والتوضيح، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} لماذا؟ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، لقد جاء القرآن الكريم سهل الأسلوب، واضحَ البيان، متنوع الطرح، ليس فيه تعقيد ولا فلسفة ولا خيال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17). وإنما أوتي من لم يفهم القرآن من جهة ما حل من العرب من عُجمة، وبعدًا عن لغتهم الأساس، وإلّا فأيُّ عربي لا يفهمُ قول الله -عز وجل-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1)، وقوله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1)، فهذا من سهولة ووضوح بيانه ووضوحها. ولا يغمض سياق القرآن ومقاصده على عربي، وإنما الذي يغمض بعض الألفاظ التي هجر استعمالها العرب. وأما بشأن الأسلوب فيتنوع أسلوب القرآن؛ فتجد فيه التقرير الصارم، والأمر الجازم في الوقت الذي تستمتع فيه بالقصص المؤثرة، والأمثال المعبرة، وتسمع

منه الأخبار الماضية والأحكام المحكمة، والأنباء القادمة. ثم يفاجئك بفتح ناظريك على المشاهد المستقبلة، من صور يوم القيامة ومناظر من الجنة والنار كأنك تراهما رأي العين؛ لتسمع لقطات لما يجري فيهما بين أهليهما: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (الزخرف: 77)، وقال أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (الزمر: 74). وتلقَى فيه الحوار الممتع، والمناظرة المُفحِمَة في الوقت الذي يَعُجّ بالحجج العقلية، والمُؤثرات العاطفية؛ كل ذلك بأسلوب يتلمس الناظر فيه رقة التعبير عند الترغيب، وقوة التأثير عند الترهيب، ويَلْمَحُ فيه كلمات الأنس التي يناجي بها القلوب اللينة؛ فيُبْقِي عليها شعورًا من الأنس، وطمأنينةً بعد القلق، في الوقت الذي تلتفت فيه عبارات التذكير؛ لتحرك الوجدان وتغذي الشعور، ثم تنعطف قوارع الترهيب، فتُهدد كيان النفس وتقذف الرُّعب في القلب. وترى فيه المحكم والمتشابه، وتلقَى فيه المجمل والمفصل، كل ذلك وهو يتدفق بكلمات حانية ووعد صادق: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} (النساء: 147)، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى: 27)، ويهدد بألفاظ قارعة وعيد شديد: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 227). كل ذلك بأسلوب آخاذ، وعبارات جذابة، وإيقاعٍ يتناسب مع كل موضوع ومع كل ذي روح ونَفَس، كل ذلك حتى يكون الخطاب شاملًا للخلق، مؤثرًا في النفس، مقيمًا للحجة؛ فمن لم يتأثر بالترغيب تأثر بالترهيب، ومن لم يتحرك قلبه تحرك عقله بالاستجابة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 23).

وفي مقام التمثيل: انظر إلى أمثال القرآن الكريم، ما أروعها في المقصود! وما أيسرها في الفهم! وما أوقعها في النفس! وما أسهلها في التعبير! وما أنسبها لجميع الخلق ذكورهم وإناثهم عربهم وعجمهم، بدوهم وحضريهم، وهَكذا كان القُرآن الكَريم في بيانه سهل الأسلوب، واضح الطّرح، واقعي التمثيل؛ يتناسب والناس جميعًا على اختلاف ثقافتهم وأجناسهم. كذلك كانَ أُسلوب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله -عز وجل- وما يُقال في هذا الباب عن القرآن الكريم، يُقال عن النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- فهو سيّدُ البُلَغاء، وأفضل مَن نطق بالضاد، يتكلم بأسلوب يفهمه طبقات الناس جميعًا؛ حتى بعد أربعة عشر قرنًا فمَن ذا الذي لا يفهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) من ذا الذي لا يعي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمُه ولا يَحْقِرُه))، ((كُلُّ المسلم على المسلم حرام))، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)). وإنّمَا أوتي المسلمون من بُعدهم عن لغتهم العربية. وكان من أسلوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم الكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتُفهم عنه، وكان يفصِّل في كلامه، ويتأنَّى في إلقائه. عن عائشة -رضي الله عنها-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه)). وكان -صلى الله عليه وسلم- يضرب لأصحابه الأمثلة الجميلة من واقعهم، فيفهمونها ويدركون مدلولها؛ فضرب لهم مثلًا عن المؤمن بالسنبلة تستقيم مرة وتخيب مرة؛ وقال -صلى الله عليه وسلم: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك ونافخ الكير)) وقال -صلى الله عليه وسلم: ((مثل المُنَافِق مَثَلُ الشّاة العائِرة بين الغنمين)) فمن من الصحابة ومِنّا نحنُ بعد ألف وأربعمائة سنة لا يعرف السُّنبلة ولا يعرف بائع المسك ولا يعرف الغنم.

التحدث بلغة الجمع، وتعميم الخطاب عامة دون قصد أفراد أو تعيين أشخاص.

وغير ذلك من الأمثلة البديعة التي لا تكاد تحصى في السنة، كل ذلك كان بأسلوب ممتع وعبارات سهلة وتعبير مفهوم، وعرض حسن ونطق جميل. فأين نحن اليوم معشر الدُّعاة من هذا؟! لقد خَالفَ كثيرٌ من الدُّعاة هذه القواعد وخرجوا في أساليبهم عن هذه الضوابط؛ فصِرْتَ تَحْضُر لكثير من الخطباء، وتَستَمِعُ إلى خُطبهم، ولا تكاد تخرج من الخطبة بكثير ينفعك، وكذلك من الدروس لا تكاد تخرج منها بفائدة تذكر؛ لأنّ هَمّ الخطيب أو المدرس كان سرد المعلومات، وليس تبسيطها والإكثار منها. إنّ سهولة الأسلوب وبساطة الطرح وعذوبة الألفاظ، تدفع الناس إلى الاستماع فالتعلم فالتأثر فالعمل، وإن صعوبة الأسلوب وتعقيد الطرح يدفع الناس للإعراض، ولا يخفى ما يترتب على ذلك. وأسوأ من هذا ما كتب باسم العقيدة بألفاظ أفلاطونية، وعبارات فلسفية؛ فضلًا عما فيها من مخالفات شَرْعِيّة، وتَكَلُّف ما لم يأمرنا به الله ولا رسوله، بعيدين عن هدي الكتاب والسنة في العقيدة، وما فهمه الصحابة -رضوان الله عليهم- والأئمة الأربعة -رحمهم الله- مما يُسمى بالعقيدة السلفية الصافية. التحدث بلُغة الجمع، وتعميم الخطاب عامةً دون قصد أفراد أو تعيين أشخاص ومن أهم ما ينبغي للداعية أن يلتزم به في أسلوبه: التحدث بلُغة الجمع، الخطاب بصورة الجمع باستعمال "نا" المتكلمين وبضمائر المخاطبة؛ فلا يقُل الداعية مثلًا في حال النصح وتصحيح الخطأ "أنت" أو "أنتم" فعلتم، وأنتم قصرتم، وانهزتم، وعليكم أن تتوبوا إلى الله، وأن تتبعوا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وهذا الذي أصابكم إنما أصابكم من ذنوبكم وأفعالكم، لا يقل هذا؛ فيُخرج نَفْسَه من جمهوره الذي يذكر عيوبه ويذكره بها، ويدعوهم إلى التوبة منها. بل يدخل نفسه مع المخاطبين والحاضرين فيقول: نحن المسلمين قصرنا، ولو أننا فعلنا، لو أننا تبنا، أو يخاطبهم بأداة الشرط، من فعل كذا، كان له كذا وكذا، أو مَنْ فعل كذا فكان عليه كذا وكذا، أو يُخاطِبَهُم بصيغة مطلقة، لو تَاب المُسلم أو لو تاب المسلمون، لو أنّ المسلمين فعلوا وفعلوا؛ لأنّ في صيغة المُخاطب أنتم نوعًا من الاتهام للمدعوين، وتزكيةً لنفس المخاطب، مما يدفع بعض المدعوين لعدم الإنصات، بل وربما تكلم مع الداعية مما كان في غنى عن سماعه. وأما في الصيغة الثانية صيغة المُتكلم، وفي الصيغة المُطلقة؛ فإنّ المُخاطبين يستشعرون بتواضع الداعية، وأنّه منهم ومعهم يصيبهم ما يصيبه، ويناله ما ينالهم؛ مِمّا يدفعهم للتفاعل معه، كذلك لا يحتج ببعض الآيات التي خاطبت الناس بميم الجمع؛ لأنّ المُخاطب هو الله -سبحانه وتعالى- وفَرْق كبير بين خطاب الرب العظيم وخطاب عبد غير معصوم، ولا يمكن أن يجتمع الله سبحانه مع خلقه في كائن أو ضمير في سياق التكليف أو التأديب. ومع ذلك نجد الخطاب المُطلق والمُشروط بالأفعال والأقوال في كتاب الله -عز وجل- كثيرًا دون تعيين يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (الأعراف: 96)، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى}، لم يسمّ القرية {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِه} (النساء: 66) لم يُسمهم. كذلك من المستحسن الداعية أن يعمم في خطابه، وأن يُطلق في عباراته، دون أن يخصص أقوام أو يعين أفرادًا، ولو كانوا قائمين على الخطأ، أو مستمرين في العصيان؛ ويُمكنه عند الحاجة أن يُعَلّق الأحكام بالأفعال، وأن يُنِيطَها بالأقوال،

وهذا أسلوبٌ دَأبَ عليه القرآن الكريم، قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18)، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 73)، وقال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (التوبة: 75 - 7 7). وبالمناسبة ينبغي -معشر الطلاب- أن تعلموا أن كثيرًا من كتب التفسير أوردت في تفسيرها هذه الآيات من سورة التوبة قصة مشهورة، تتردد على ألسنة الوعاظ والقصاص والمدرسين والخطباء، وهي معروفة بقصة حمامة المسجد، ونُسبت زورًا وبهتانًا وعدوانًا إلى صحابي جليل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثَعْلَبة بن أبي حاطب. ثعلبة بن أبي حاطب -رضي الله عنه- من الصحابة الكرام، شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا، واستُشهد في أحد فنسبت هذه القصة إليه التي جعلوها سببًا نزول الآيات، يُعَدّ ظلمًا له -رضي الله عنه- وعدوانًا عليه. ثم إنّ القصة أصلًا باطلة سندًا ومتنًا، لا يَصِحُّ سنَدُها، ومَتنها مُخالف بصريح القرآن الكريم. الله -تبارك وتعالى- فتح باب التوبة أمام كل من أراد أن يتوب وإن كان كافرًا، والقصة تقول: أن هذا الرجل الذي نُسبت إليه القصة لما نزلت الآيات خَافَ وجاء بصدقة لرسول الله فلم يقبلها وجاء إلى أبي بكر فلم يقبلها ... إلى آخره. ثم إنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال في الزكاة: ((من أعطاها متجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات رَبّنا)) فكيف ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

ذلك الرجل الذي منع الزكاة؟ ولم يأخذها منه كما قال: ((فإنا آخذوها وشطر ماله)). فعليكم معشر الطلاب أن تحذروا من ذكر هذه القصة، وسائر الإسرائيليات والضعيف والموضوع، احذروا من ذكرها، وذكروا الناس ببطلانها. والشاهد: أنّك تلحظ في هذه الآيات أن الله -عز وجل- علق الأحكام بالأفعال والأقوال، ولم يذكر أسماء أصحابها؛ "ومنهم" "ومنهم" وكذلك مضت السنة المطهرة -على صاحبها أزكى الصلاة والسلام- بعدم ذكر اسم المخالف أو المنصوح إلا بالتعريض والعموم، فما أكثر ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما بال أقوامًا فعلوا كذا))، ((ما بال أقوامًا قالوا كذا))، ((ما بال أقوامًا بلغني عنهم كذا)). مع أنّ المقصود خطاب أقوام قاموا بالمخالفة التي دعت النبي -صلى الله عليه وسلم- لتوجيه خطابه إليهم، ومع ذلك لم يذكر أسماءهم. من ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله))، ((ما بالُ رجال يحضرون الصلاة معنا بغير طهور))، ((ما بال أقوام))، ((ما بال رجال)) لم يسمهم: ((ما بال رجال كلما نفرنا في سبيل الله تخلف أحدهم عندهن؟)) ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقوام لا يحسنون الوضوء ويَدعون مواضع من أرجلهم لا يصيبها الماء، فقال: ((ويل للأعقاب من النار)) فلم يحكم عليهم ولا على أعقابهم بل لم يذكر أسماءهم، ولم يقل: ويل لكم، أو ويل لأعقابكم، مستعملًا كاف الخطاب. وكان -صلى الله عليه وسلم- يتكلم أحيانًا بنا المتكلمين هو لم يفعل الفعل كما في خطبة الوداع قال: ((وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب))

فانظر -أيها الداعية- إلى عِظم هذه الأفعال التي فعلها هؤلاء المخطئون، وما يفعله المنافقون من الصلاة بغير طهور، ومن تركهم الجهاد واقترافهم لبعض الذنوب؛ فضلًا عن أذية بعضهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- ومع هذا كله لم يذكر أسماءهم ولم يحذر من أعيانهم. ولكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحكم على الأعمال ويصححها. فمن هذا وغيره تستنبط القاعدة "نصحح ولا نجرح"، "ننصح ولا نفضح" فهل من مُدّكر! أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهدينا وجميع إخواننا الدعاة سواء السبيل. فعلى هذا لا يجوز ذكر الأسماء بالسوء في المجالس العامة؛ فضلًا عن ذكرها على عامة الناس إنما كان منهم في الضرورة القصوى، كدفع مفسدة جلية أو جلب مصلحة كبيرة، وهذا الكلام عام يشمل العامة والخاصة الكبراء والأصاغر، فما بال أقوام لا يتورعون عن ذكر كبرائهم وأمرائهم على منابرهم بالاسم الصريح، ولا يسكتون عن ذكر مثالبهم ومساويهم، بل يُشهرون بهم كلما قاموا وكلما قعدوا، كم أجلب هذا الأسلوب على الدعاة من شر وحال بينهم وبين الدعوة إلى الله -عز وجل-. ومنه يُدْرِكُ المُسلم الواعي خطأ هذا الأسلوب خطر ذكر الأسماء على المنابر، والتشهير بهم في المجالس ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله. وفي الوقت الذي نجد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يسمي الذين يخطئون، نجده -صلى الله عليه وسلم- يسمي أهل الفضل والعلم على الملأ عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمرهم، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)). وحديث العشرة المبشرين بالجنة حديث مشهور؛ فعن سعيد بن زيد قال: أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني سمعته وهو يقول: ((عشرة في الجنة: النبي في الجنة،

الحث والإكثار من استخدام عبارت الاستفهام.

وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت العاشر قال: فقالوا: مَن هو؟ فسكت، قال: قالوا: مَن هو؟ قال: سعيد بن زيد)). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن جموح))، فعلينا أن نفطن إلى هذا الأسلوب الدعوي الجميل، إذا أردنا التحذير من منكر ارتكب بعض الناس لا نذكر أسماءهم، وإذا أردنا تذكير الناس بعمل حسن فعله بعض الناس ليقتدوا به، فنذكر الفاعل تكريمًا له وتشريفًا، وليكون أسوة حسنة لغيره. الحث والإكثار من استخدام عبارت الاستفهام كذلك ينْبَغِي على الدّاعِية أن يَغْلِبَ على عباراته الاستفهام؛ سواء كان تقريريًّا أو استنكاريًّا أو تعجبيًّا، وأن يُكثر من ألفاظ الترجي: "لعل" "أرأيت"، و"رب" بدل الخطاب التقريري والاستنكاري المباشرين، ذلك لأن استعمال أساليب الاستفهام وألفاظ الترجي في الخطاب أبلغ تأثيرًا، وأقل أثرًا سلبيًّا، ولو كان يتضمن نقدًا مُباشرًا؛ لعدم استساغة الخطاب الاستنكاري والتقريري المُباشرين. فبدل أن يقول: لا يَجُوز للمسلم أن يُدَخّن، أو يحرم انتهاك حرمات الله في رمضان. يقول الداعية: أيليق بالمسلم أن يدخن؟ أيجوز انتهاك حرمات الله وفي رمضان؟ وبدل أن يقول: ستلقى الله على هذه الحالة الآثمة، أو ستكون سيئاتكم تغلب حسناتكم؛ ينبغي أن يقول: كيف سنلقى ربنا ونحن على هذه الحال، أو يقول:

هل ستكون حسناتنا أرجح من سيئاتنا؟ وبدل أن يقول: أنتم لا تحبون الله ورسوله، أو يقول: يَجِبُ أنْ تُحِبّوا الله ورسوله، يقول: ألَا تُحِبّون الله ورسوله؟ أو هل يفعل هذه المخالفة من يحب الله ورسوله؟ أو يقول: لعلنا نتوب إلى الله، أو أرأيتم لو تبنا إلى الله؟ وهكذا. وتأمل أيها الداعية -رحمك الله- قول الخليل إبراهيم -عليه السلام- لأبيه الكافر بعد أن استنفذ كافة أساليب الخطاب الدعوي، من استفهامات وترجي وإثارة للعاطفة والعقل، قال مرهبًا بأسلوب مفعوم بالشفقة والخوف على أبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 45)، فانظر إلى كلمة: {أَخَافُ} وكلمة: {يَمَسَّكَ} اللتين تقطران شفافيةً وتخوفًا. ومثله قول أخيه هود -عليه الصلاة والسلام- لقومه الذين أذاقوه ما أذاقوه من صنوف الأذى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 135). والمقصود أن يضع الداعية أداة الاستفهام قبل خطابه، وكلمات الرجاء والترجي في كلامه، وما شابه ذلك حتى يُحَلّي أسلوبه؛ فلا يكون مرًّا، ويرطب خطابه حتى لا يكون جافًّا. والمُتأمل لأسلوب القرآن الكريم يجده مشحونًا بهذا الأسلوب الهادف، والتعبير الممتع، حتى مع الكافرين ومع أشد الناس عداوةً لله ولرسوله وللمؤمنين، اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم: 35 - 3 6)، استفهامان مُتتاليان: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يَهُزّان الضمير، ويُحَرّضان العقل، ويُقرران الحقّ بأسلوب مقبول، وتعبير مثير، يدفع العاقل للإقرار والتسليم. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الطور: 43)، وقال سبحانه: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (مريم: 67)،

وتكرر قول ربنا سبحانه: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 60)، كما تكرر قوله: {أَرَأَيْتَ} (الفرقان: 43)، {أَرَأَيْتُمْ} (القصص: 71)، {لَعَلَّ} (الطلاق: 1)، {لَعَلَّهُمْ} (السجدة: 21). وفي هذه التعابير ما لا يخفَى من التأثير النفسي على السامع أو القارئ؛ لأنّ النفس تكره التقريع المباشر والاتهام الصريح، ولو كانت مذنبةً ومقرةً بذلك في نفسها. لذلك جاء هذا الأسلوب مقررًا الحقائق مراعيًا حال المخاطبين؛ فجمع بين قول الحق وحسن العرض. كذلك سلك الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في خطابهم هذا المسلك، قال الله -تبارك وتعالى-: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (إبراهيم: 10)، وقال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52)، وقال لهم أيضًا: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات: 86)، وقال موسى -صلى الله عليه وسلم- لقومه: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} (يونس: 77)، وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الصف: 5). فانظر -رحمني الله وإياك- ما أعظمَ هذا التقريرَ، وما أبدع هذا العرض! قول الحق بأسلوب مقبول، وطرح مؤثر، وقال مؤمن "يس": {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يس: 23 - 24)، وقال النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه-: ((كيف أنت وقوم كذا وكذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم؟!)). وقال -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!)) وفي رواية: ((أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!)) وقال -صلى الله عليه وسلم- لعلي وفاطمة -رضي الله عنهما- وقد طرقهما ليلًا فوجدهما نائمين، فقال: ((ألا تصليان؟))، أسلوب عرض، بدل أن يقول: "قومَا فصليا"، بصيغة الأمر. وقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من الأنصار أرسل إليه، فخرج ورأسه يقطر من الماء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لعلنا أعجلناك، قال: نعم يا رسول الله، قال: إذا أُعْجِلْتَ أو أقحطت؛ فلا

غُسْلَ عَليك وعليك الوضوء)). وقال -صلى الله عليه وسلم- لمن رمى ماعزًا بوضيح حمار فصرعه، حين فر من ألم الرّجم: ((هَلّا تركتموه لعله أن يتوب؛ فيتوب الله عليه؟)). فليتأمل الداعية قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((هلا تركتموه؟)) وقوله -صلى الله عليه وسلم: ((لعله يتوب؟)) وذلك بعدما ارتكب ماعز الخطيئة وجاء يطلب إقامة الحد عليه، حتى يطهره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإقامة الحد من ذنبه حتى يلقَى الله تائبًا، فلما بدأ التنفيذ ووجد أثر الحجارة في بدنه ولَّى مُدبرًا؛ فتبعوه حتى رماه أحدهم بوضيح حمار فصرعه، فلما رجعوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال مقولته: ((هلَّا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه؟)) يقول هذا كله بعدما فعل ماعز ما فعل لعله يتوب. وكم من حديث قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لعل" و"أرأيتم" مما لا يكاد يحصى. وخلاصة هذه القواعد -قواعد الأسلوب الدعوي-: أن عليك أخي الداعية وعلى جميع الدعاة أن يَختاروا الأسلوب الحسن في خطابهم الدعوي، فإن الله -تبارك وتعالى- قال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (الإسراء: 53). فعلى الداعية أن يحسن من أسلوبه، وذلك باستعمال الضمائر التي تفيد اشتراكه هو مع المدعوين، وذلك أيضًا بتعليم الخطاب لا بتعيين المخاطبين. وأن يكثِرَ من استعمال أدوات الاستفهام، وألفاظ الرقة واللين وكلمات الترجي والرفق؛ مما يُضفي على أسلوبه لذة في السماع، وقبولًا من المدعوين. فاللهم اهدنا لمُخاطبة الناس بالتي هي أحسن واجعلنا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا، وقال إنني من المسلمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس: 16 بعض الآفات التي قد يصاب بها الداعية.

الدرس: 16 بعض الآفات التي قد يصاب بها الداعية.

من الآفات التي قد تصيب بعض الدعاة: "الرياء".

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (بعض الآفات التي قد يصاب بها الداعية) من الآفات التي قد تُصيب بعض الدعاة: "الرياء" إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فختم دروس هذه المادة إن شاء الله تعالى بتذكير الداعية ببعض الآفات التي قد يصاب بها، فتحول بينه وبين النجاح في دعوته، وتخرجه من دائرة الدعاة. من المؤكد يقينًا أن الداعية إلى الله -عز وجل- حين يلتزم بالقواعد التي بيناها، وينضبط بالضوابط الشرعية التي ذكرناها، ويتحلَّى بمكارم الأخلاق التي يجبُ على الدَّاعِيَةِ أن يَتّصِفَ بِهَا، لا شَكّ أنّه سيكون -بتوفيق الله عز وجل- في مأمن من كل مرض باطني، ومزلق شيطاني، وآفة نفسية بل يتدرج دائمًا نحو الكمال، ويرتقي بتقدم مضطرد سلم المعالي. ولكن قد يُصاب الدّاعية وهو على طريق البناء والإصلاح بشيء من الضعف البشري؛ فيتعرض لمرض من أمراض القلب، أو آفة من آفآت النفس، أو نزغة من نزغات الشيطان؛ فيزل بعد نهوض، أو يَضِلُّ بعد هدًى، أو يرائي بعد إخلاص، أو يفتر بعد عزيمة، أو يبخل بعد كرم، أو يتشاءم بعد تفاؤل، أو يسكت بعد جرأة، أو يَجْبُن بعد شجاعة، أو يعجز بعد صبر، أو يتعاظم بعد تواضع. فإذا أُصِيبَ الدّاعية -عافانا الله وإياك- بهذه الآفات أو ببعضها، ولم يسارع إلى التخلص منها ومعالجتها؛ فإنه أشد ما يخشَى عليه أن تزل قدمه بعد ثبوتها، أو أن يتساقط على طريق الدعوة، أو أن ينحرف عن جادة الإسلام، هو يحسب أنه يحسن صنعًا.

ومن أهم الأمراض والآفات التي قد تُصيب بعض الدعاة: "الرياء": والرياء: هو طلب المنزلة والتّعظيم عند الناس، بعملِ الآخِرَةِ، كالذي يُصَلّي ويصوم ويتصدق ويحج ويُجاهدُ، ويقرأ القرآن ويُعلّم العِلْم، ويدعو إلى الله -عز وجل- ليُعَظّمه الناس لذلك، ويثنوا عليه ويعتقدوا به، ويقوموا على إكرامه والإغداق عليه؛ فذلك هو المرائي، وقد سَمّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرياء الشرك الأصغر؛ فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((أخوفُ ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر؛ قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء)). واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرياء من المُهلكات التي تحبط العمل. والدّاعية الذي اعتنق التوحيد وآمن بالربوبية، يربأ بنفسه أن يصيبه مرض الرياء؛ ذلك لأنّ المُرائي حين يَفْعَلُ الطاعات ويتعبد كأنه يتعبد للناس لا لله، وكأنه يريد بطاعته العباد لا رب العباد داعية على شفا حفرة من النار. من أجل هذا والداعية الذي اعتنق التوحيد وآمن بالربوبية، يربأ بنفسه أن يصيبه مرض الرياء؛ ذلك لأنّ المُرائي حين يفعل الطاعات، ويتعبد كأنه يتعبد للناس لا لله، وكأنه يريد بطاعته العباد لا رب العباد، من أجل هذا جاءت النصوص الشرعية تحذر من الرياء، وتبين مآل المرائين الذين لا يقصدون بأعمالهم وجه الله تعالى. يقول الله -تبارك وتعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110)، وقال -جل جلاله-: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون: 4 - 7). وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها؛ قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فيك حتى استشهدت؛ قال: كذَبْت، ولكِنّك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل. ثُمّ أُمِرَ به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن؛ فأوتي به

فعرفه نعمه فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وتعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأوتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت لك فيها، قال: كذَبت، ولكنك فعلت ليُقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجه، ثم ألقي في النار)). وروى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((مَن تَعَلّم علمًا مما يُبتغَى به وجه الله لا يَتَعَلّمه إلا ليُصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجَنّة يوم القيامة)) يعني: ريحها. وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قال الله -تبارك وتعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معه غيري تركته وشركه)). إلى غير ذلك من هذه النصوص التي تحذر من الرياء وتبين مصير المرائين المشئوم. فالرياءُ إذًا كما دلت عليه النصوص من الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي، بل هو من الأعمال القبيحة التي تُحْبِطُ العمل، وتُخَيّب السعي، وتخرج المُرائي من دائرة الإسلام؛ وتَطْرُده من رحمة الله. فقد روى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله -عز وجل- يوم القيامة إذا جازَى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟)). فإذا عرفت هذا أيها الداعية إذا عرفت الرياء وخطره وضرره؛ فما هو علاجه؟

علاج الرياء في نظر الإسلام يكون في وسيلتين هامتين أساسيتين: الأولى: في اقتلاع جذوره من النفوس. والثانية: في دفع ما يخطر له في الحال. أما في اقتلاع جذوره من النفوس فاعلم -أخي الداعية- أن أصل الرياء -كما ألمحنا- هو حب لذة الحمد، والفرار من الذم، ومراضاة الناس، ويَشهد لذلك ما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال: ((جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيتَ الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويُقاتل رياءً؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). فمعنى قول الرجل: "يقاتل شجاعة" أي: ليُذكر ويُحمد، ومعنى قوله: "يُقاتل حمية" أي: يأنف أن يُقْهَر ويُذَمّ، ومعنى قوله: "يُقاتل رياء" أي: ليُرى مَكانه، وهذا معناه حب الجاه والمنزلة ولذة الحمد، والفرار من الذنب ومراضاة الناس. وقد لا يشتهي الإنسان الحمد، ولكنه يحذر من الذم، كالجبان بين الشجعان؛ فإنه يثبت ولا يفر لئلا يُذَمّ، أو المتعالم الذي يفتي الناس بغير علم؛ خوفًا من الذم والاتهام بالجهل؛ فهذه الأمور هي التي تُحرك إلى المراءاة وتدفع إلى المصانعة. ومعالجة الرياء تكون في اتباع الخطوات التالية: أولًا: تعميق مراقبة الله -عز وجل- في نفسية الداعية: وذلك أن يضع الداعية في تصوره قول الله -تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء: 217 - 219)،

يراك حين تقوم في الصلاة، ويراك وأنت تتقلب بين الساجدين، وليضع كذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام- حين سئل عن الإحسان قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). وكيفية المُراقبة: أن يُراقب الداعية نفسه قبل البدء بالعمل، وفي أثنائه، هل كان تحركه لتبليغ دعوة الله من أجل حظوظ النفس، وابتغاء الثناء والذكر؟ أم كان المحرك مرضاة اللهِ -عَزّ وجل- وابتغاء ثوابه؟ فإذا كان لله -عز وجل- مشَى في العمل وأمضاه، وإن كان بقصد المراءاة أحجم عنه وحرر نيته، وعقَد العزم على أنه يستأنف عمله فيما بعد على أفضل ما يكون من التجرد والإخلاص، وابتغاء رضوان الله وإسلام الوجه لرب العالمين. ثانيًا: أن يتصور دائمًا مآل المُرائين ومصيرهم: فحين يتصوّر الداعية أن الرياء مضر له في الحال وفي المآل، وأنه خطر عليه في دينه ودنياه، وأنه مُحبط في عمله وكده ومسعاه، يَسْهُل عليه اجتنابه والتحرر منه، يقطع عنه الميل إليه والرغبة فيه، كمن يتصور أن العسل لو وُضِعَ أمامه فيه سم قاتل، كيف يفعل؟ لا شك أنه يعرض عنه، وينفر منه؛ تحسبًا من الخطر، وتوقيًا من الهلاك. وهل يَغيبُ عن ذهن الداعية ما يفعله الرياء، وما يتعرض له المُرائي في الآخرة من العذاب والمقت، والخِزي والفضيحة، وما يُفَوّتُه على نفسه من صلاح النفس، وإرضاء الرّب، وإشْرَاقَة الرُّوح والفوز بالجنة، والنجاة من النار، هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من زيادة في الهم، واستشراف للنفس، ونصب في المراءاة، وحرص على الدنيا، وتطلع إلى الذكر والجاه؟!

فإذا وَقَر في نفس الداعية كل هذا، فترت رغبته عن الرياء، وأقبل على الله بقلبه، وحرّر النّيةَ في كُلّ أعْمَالِهِ، وسَعَى جاهدًا ليحظَى برضوان الله -عز وجل- حتى إذا أتى ربه كان في مجمع من النبيين والشهداء والصالحين، وَحَسُن أولئك رفيقًا. ثالثًا: أنْ يُطَبّع نفسه على إخفاء الأعمال: وذلك في الأعمال التي يمكن أن يُسِرّ بها، ويَفْعَلها بعيدًا عن أعين الناس؛ كصلاة النافلة، والتصدق وتلاوة القرآن، وذكر الله وغير ذلك، وإخْفَاءُ هذه الأعمال، أو ما يُشابهها أسلم لنفسه، وأحوط لدينه؛ وأبعد له عن المراءاة، اللهم إلا إذا كان العمل ما لا يتمكن صاحبه أن يفعله إلا ظاهرًا، وأمام أعين الناس؛ كتعلم العلم وتعليمه، والصلاة مع الجماعة في المسجد، والخروج لأداء فريضة الحج، أو الجهاد لإعلاء كلمة الله، ونحو ذلك. فمَن خاف من الرياء في حال فعل شيء من هذا؛ فلا يجوز له شرعًا أن يتركه بحجة المراءاة، بل واجب عليه أن يفعله، ثم يجتهد مخلصًا في دفع الرياء عن نفسه، وذلك بتحرير النّية، والتوجه إلى الله، والاستعانة به، في أن يسير في طريق الإخلاص والاستقامة، ومعاهدته على ذلك، واللهُ سبحانه لا يُخيبُ داعيًا، ولا يرُدّ سَائلًا، ولا يَتَخَلّى عن عبد مُنيب، مُقبل إليه، معتمد عليه. تلكم أخوة الدعاة، أهم الخطوات في اقتلاع الرياء من القلوب، واجتثاثه من النفوس، فعلينا جميعًا أن نأخذ بأحسنها؛ لنكون بتوفيق الله من الذين إذا مسهم طائف من الشيطان، تذكروا فإذا هم مبصرون. أما دفع ما يخْطُر للدّاعية في الحال؛ فاعلم -بارك الله فيك- أنّك إذا جاهدت نفسك في اقتلاع مغارس الرياء من قلبك، ووضعتَ مصير المرائين ومآلهم في تصورك، وظللت تُراقب الله -عز وجل- في جهرك وسرك، وعودت نفسك على إخفاء الطاعة فيما يمكن

إخفاؤه من أعمالك؛ فلا شَكّ أن الرياء ينفصل منك، وتتقطع خواطره عنك، وتُصْبِحُ عند الله من المتقين الأبرار، والمخلصين الأخيار. ولكن عليك -أخي الداعية- أن تَعْلَم الشيطان -أخزاه الله- متربص لك بالمرصاد، وأن نزغات النفس الأمّارة قد تعاودك؛ فترةً بعد فترةٍ، وأن شهوة حمد الناس وثنائهم قد تعتريك حينًا بعد حين؛ فما العمل إذًا إذا عرَض لك عارض الرياء والخطرات؟ العملُ أنْ تَدْفَعَ ما يَحْلُو لك في الحال، وذلك بتساؤلك بهذا التساؤل: الله وحده عالم بحالي، ومطلع على أعمالي، ما لي وللخلق علموا بعملي أم لم يعلموا، ما لي وللعباد اطلعوا على طاعاتي أم لم يطلعوا، ما دمت أعمل لله وأبتغي مرضاته، وأطمع في جنته وثوابه. فإذا هاجت الرّغْبَةُ فيك إلى آفة الحَمْد، واستشرفت في نفسك ثناء الناس، ذَكّرها آفات الرّياء، ومصير المُرائين، وأحوالهم في جهنم، وافتضاحهم يوم العرض على الله، إن كُنْتَ مُؤمنًا مُتحسسًا متيقظًا؛ فسُرعان ما تنقلب الرّغبة إلى كراهية، والاستسراف إلى نفور، وسرعان ما تندثر عنك خطرات الرّياء ونزغات النفس الأمَّارة، والله المستعان وهو الموفق للإخلاص، والمثبت على الإيمان. وهنا يتساءل البعض: هل للداعية أن يترك تبليغ الدعوة، ويستنكف عن العمل الإسلامي إذا لم يأنس من نفسه الإخلاص؟ والجواب: سبق أن ذكرنا قبل قليل أن هناك من الأعمال ما لا يمكن الإسرار بها، كتعلم العلم وتعليمه، وصلاة الجماعة وتبليغ الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله. فهذه الأعمال ونحوها يؤديها المسلم كما هو

معلوم جهرًا لا سرًّا، ويُمَارِسُها علنًا لا خفيةً، وأحيانًا يأتي الشيطان ويتلبس الداعية ليصرفه بوسوسته عن القيام بمسؤولياته في تبليغ الدعوة، وأداء رسالة الإسلام؛ بِحُجّة أنه معرَّض فيما يدعو إلى خطرات الرياء، واستشراف شهوة الحمد والثناء في جميع لقاءاته واجتماعاته، وخطبه ومحاضراته، وحله وترحاله. وهنا نقول: إذا قعد الدعاة عن مسؤولية الدعوة، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفريضة العمل لعزة الإسلام، بهذه الحُجّة الواهية، بأنهم معرضون لآفات الرياء، واستشراف الحمد والثناء؛ مَن يبقى ليجمع الناس على الخير، ومَن يتَصَدّى لتحديات الأعداء، ومن يجاهد بلسانه ونفسه لإعزاز دين الله؟ حتمًا لا يبقى أحد؛ لأنّ كُلّ داعية معرض بحكم أنه بشر لخطرات النفس الأمارة، ووساوس الشيطان الآثمة، وحتمًا أنّ كُلّ مَن يتصدَّى للعمل الإسلامي، قد يقوى حينًا، ويَضْعُف أحيانًا. وهذه الظاهرة من الخطرات هي من طبيعة البشر؛ فما دام الداعية من البشر فهو ليس مَلَكًا مبرءًا ولا نبيًّا معصومًا، بل هو معرض للخطأ، ومحتمل منه الوقوع في المعصية، ولكن حين يقع في الخطأ ويتعرض للمعصية، ينبغي عليه أن يُبادر التوبة الصادقة النصوح؛ ليَخْرُج من ذنوبه كما ولدته أمه، وصدَق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: ((كل بني آدم خطاء، وخيرُ الخطائين التوابون)). فامضِ أيها الداعية على بركة الله، في تبليغ دعوة الله والعمل لدينه؛ ولا يقعدنك عن أداء مسؤوليتك خطرات النفس، وشهوة الحمد، ووساوس الشيطان، ولكن عليك أن تُحَرّر النية قبل البدء بالعمل، وتراقب المولى سبحانه في أثنائه، ثم بعد أن تفرغ من عملك تكون لك خلوات بينك وبين الله، ففي هذه الخلوات تتأمل

من الآفات التي يتعرض لها بعض الدعاة: "العجب".

في كل ما قمتَ به من عمل، وتسائل نفسك: هل كان عملي لله؟ هل أسلمت وجهي لرب العالمين؟ هل كنت مخلصًا فيما دعوت الناس إليه؟ فإن وجدت خيرًا فاحمد الله، واطلب منه المزيد، وأن رأيت خلاف ذلك فتب إلى الله وجاهد نفسك وأنت مستمر في الدعوة إلى الله؛ حتى تصل في نهاية المطاف إلى منازل الدعاة المخلصين، والعُلَماء العاملين المتقين. من الآفات التي يتعرض لها بعض الدعاة: "العُجْب" يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) في تعريف العُجْب: العجب: هو استعظام النعمة، والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المُنعم. فبناء على هذا التعريف نقول: إن المُعْجَب بنفسه هو مَن أعطاه الله تعالى علمًا أو جاهًا، أو قوةً، أو جمالَ هيئةٍ أو نسبًا أو مالًا، أو كثرة أولاد، أو عقلًا وفطانة، أعطاه الله تعالى هذا أو بعض منه، ثم لا يخاف ما أعطاه الله من نعمة زوالها، ولا يَنْسب هذه النعمة إلا موهبها وهو الله -عز وجل- بل ينظر إلى كونها كمالًا له يفرح به، ويَطْمَئنُّ إليه؛ كأنّه يرى أنه شيء يستحقه، ولا فضلَ لله عليه، بل هو كمالٌ لا يزول عنه، وهذا هو الإنسان المعجب بنفسه. وقد جاء ذم المُعجب في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأقوال السلف الصالح: أما القرآن الكريم: فقد قال الله -تبارك وتعالى-: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة: 25). قال

الله تعالى ذلك في معرض إنكاره على إعجابهم بالكثرة حين قال قائلهم: "لن نغلب اليوم عن قلة" وكانوا اثني عشر ألفًا أو أكثرَ؛ فلمّا نظروا إلى كثرتهم وأعجبوا بها ركنوا إليها، فجاءهم ما يكرهون من الهزيمة، حتى إذا فاءوا إلى الله، وتجردوا لله -عز وجل- وأيقنوا أنه النصر من عند الله -عز وجل- أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ونصرهم بعد هزيمة. ومنه قول الله تعالى عن بني النضير: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواِ} (الحشر: 2)، فعاقبَ اللهُ اليهود لإعجابهم بحصونهم وبشوكتهم، وقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103 - 104). وهذا أيضًا مرده إلى العُجْبِ بالعمل: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. وأما السُّنة النبوية: فالنّبي -صلى الله عليه وسلم- ذمّ العُجْبَ في أكثر من حديث: فقد روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما رجل يتبختر في بُردته -أي: ثوبه الجميل- إذ أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) وهذا هو الإعجاب بالثوب والمال. وروى أبو داود والترمذي عن أبي ثعلبةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًّا مطاعًا وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة؛ وإعْجَابَ كُلّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام)). وهذا هو الإعجاب بالرأي. ومما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) وهذا هو الإعجاب بالنفس.

وأما أقوال السلف في ذم العُجْب: فقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الهلاك في شيئين: العُجب والقنوط". وقال مُطَرّف -رحمه الله-: لئن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا، أحَبّ إليَّ من أن أبيت قائمًا -أي: مصليًا- وأصبح معجبًا. لأنّ أبيت نائمًا: يعني: لا يقوم الليل، ويُصبح نادمًا على أنه نام ولم يصلِ بالليل في جوف الليل، فهذا يكون أحب إليه من أن يقوم الليل ثم يصبح فينظر إلى نفسه نظر إعجاب، ويمن على ربه ويستكثر ما صلى من تلك الليلة. وقيل في الحكم: لأن تضحك وأنت معترف بذنبك، خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك. فظهر مما أوردناه أن العجب مذموم في القرآن والسنة وأقوال الأئمة، فكيف يدخل العجب على الدعاة؟ قد يدخل العجب على نفس الداعية من حيث لم يحتسب، ومن مداخل العجب أن يعجب الداعية كل العجب ببلاغته، وجمال منطقه، وطلاقة لسانه، ومن مداخله: أن يَغْتَبِطَ ويُسَرّ ويفْرَح حين يتحدث الناس عن أعماله ونشاطه، ومدى أثره وتأثيره، ومن مداخله: أن يَعْتَقِدَ أنّه أصبح ذا شهرة علمية، وشَخْصِيّة دعوية عالمية، ومن مداخله: أن يقتنع أنه إذا عالج في المجتمع مشكلة، أو أصدر في مجال العمل الإسلامي رأيًا، لا يستطيع أحدًا أن ينحو نحوه، أو يعمل مثله. ومن مداخله: أن يرى الناس يعظمونه ويثنون عليه، ويقومون على خدمته، ومن مداخله: أن يَجِدَ المَدْعُويّن قد ازدحموا على درسه، ووثقوا به، وتجمعوا حوله. ولذلك رُوي عن بعض علماء السلف: أنه كان إذا كثر العدد في حَلقته أنهى درسه.

إلى غير ذلك من هذه المداخل الشيطانية التي تدخل على نفوس الدعاة، وتجعل منهم أناسًا يغترون بمواهبهم ويعجبون بأنفسهم. نعم؛ يقع الداعية في العجب إذا استعظم ذلك كله، ونسبه إلى نفسه، ونسي أن المنعم المتفضل هو الله -عز وجل-. إن الله -سبحانه وتعالى- حين كلف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقيام بالدعوة في قومه، نهاه من أول لحظة عن العُجب الذي يفضي به إلى استكثار عمله، والمنّ به على ربه، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 1 - 6). إنّك ستُقدم لهذه الدعوة الكثير من جهدك والكثير من وقتك والكثير من مالك، ستُقدم للدعوة الكثير؛ فإيّاك أن تستكثره وتعجب به، وتَمُنّ به على ربك -سبحانه وتعالى-. فقد يَقع الداعية العجب إذا استعظم ما يقدمه للدعوة، وينسَى أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي تفضل عليه، واستخدمه للدعوة، ووفقه فيها وأعانه عليها، أما إذا كان الداعية مرتاحًا لما كلفه الله به من أعباء ومسؤوليات، وراضيًا بما أوجبه عليه من تبليغ الدعوة، وحمل رسالة الإسلام، ونسب كل ما حققه في المجتمع من أثر وتأثير وإصلاح وتغيير، وكل ما وهبه الله إياه من سداد الرأي، وسعة العلم وطلاقة اللسان وقوة الحُجة، ومظهر إكرام، نسب ذلك كله إلى رب العزة والجلال، فهذا كله ليس من العجب في شيء، ولو وجد في نفسه نشوة وغبطة وسرور. ولكن ما هو علاج العجب في الدعاة؟ الجواب على ضوء ما ذكرنا من تعريف العجب ومن مداخله على نفوس الدعاة: على الداعية إذا أحسّ من نفسه أنه إذا اعتراه شيء من العجب، فليسارع إلى معالجته، واستئصال شأفته من نفسه؛ خشيةَ أن يقع فيما هو أدهى وأمر، ألَاَ وهو زهو الكبر، وغطرسة الخيلاء.

أما علاج العجب فهو كما يلي: أولًا: على الداعية أن يعلم أن الله -عز وجل- هو المنعم عليه بوجوده في الحياة أولًا وأصلًا وأساسًا. ثم بمنحه القدرة والذكاء والعلم والمعرفة، والصحة والجمال، والغِنى والجاه، والتوفيق والهداية؛ فلا معنى لئن يُعْجَب الدّاعِيَةُ بقوته وذكائه، ولا بعلمه ومعرفته، ولا بأثره وتأثيره، ولا بغناه وجاهه، إذ كل ذلك من فضل الله عليه وتوفيق الله إياه؛ فإن سلبه العقل؛ فكيف يتعلم ويتفقه؟ وإن سلبه الصحة والقدرة فكيف يتحرك ويعمل؟ وإن سلبه التوفيق والهداية فكيف يصلح ويغير؟ فعلى الداعية إذًا: أن لّا ينسب شيئًا من الفضل والخير إلى نفسه، بل ينسبه إلى مسببه وموجبه وهو الله -عز وجل- إنّ الله -تبارك وتعالى- قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} (الأنعام: 46)، وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشورى: 24). فإذا أعجبت بخطبة خطبتها، أو محاضرة ألقيتها؛ فاحمد الله على توفيقه، وتذكر فإن يشأ الله أن يختم على قلبك، ولا شَكّ أنك إن صدقتَ نفسك ستذكر أنك كثيرًا ما قمت على المنبر، وقد حضرت خطبتك وحفظتها وراجعتها وتدارستها وذاكرتها، ثم لم تجد منها شيئًا على المنبر، كل ذلك من قلة التوفيق؛ إذًا فإذا وفقت فاعلم أن ذلك من الله، فانسب الفضل إلى أهله، واحمد الله -عز وجل- عليه. والرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هُو القدوة لأمته؛ كان يُقَرّر أنّ العبدَ مهما سَمَا عملُه الصالح، لا يَدْخُل الجنة أبدًا بعمله، بل بفضل الله تعالى ورحمته؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).

من الآفات التي تصيب بعض الدعاة: "الغرور".

فعليك أن تجتهد في العمل، وأن تحمد الله الذي هداك ووفقك كما هو حال أهل الجنة بعد دخولها، كما حكى عنهم رب العالمين سبحانه: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف: 43)، ولقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعملون في الخندق في غزوة الأحزاب، وهم يقولون: ((اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا)). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يردد ذلك معهم. ثانيًا: على الداعية أن يَعْلَم أنه إذا تمادَى في العجب واستمر عليه فإنه يتدرج في الكبر لا محالة، ولا يخفى أن الكبر هو من أعظم الآفات النفسية التي تحلق الدين، وتَقْتُل المروءة وتميع الشخصية وتدخل صاحبها النار. ثالثًا: على الداعية حين يخْلُو بعد مضي العمل لنفسه يسائلها ويقول: هل وقعتِ يا نفسُ في آفة العجب في قول أو فعل؟ هل أخذك الغرور في علم أو جاه؟ هل داخلك الزهو في إصلاح أو هداية؟ هل كذا؟ هل كذا؟ فإنْ وَجَدَ في نفسه شيئًا بعد هذه المُسائلة والمُحاسبة فليتب إلى الله -عز وجل- وليَنْدَم على ما فعل، وليُعاهد الله على أن لا يعود، والله سبحانه يتقبل من التائبين المستغفرين. نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجنبنا جميعًا العجبَ ومداخلَه المفضية إلى الكبر. من الآفات التي تصيب بعض الدعاة: "الغرور" وهو أن يُلَبّس الإنسان على نفسه الحقائق، ويُريها الأمور على خلاف ما هي عليه، ويُعطيها من المقام الأرفع والمنزلة العُليا ما لا تستحقه، وهو يحسب أنه بذلك يحسن صنعًا. وما ذاك إلا لضعف في البصيرة، وجهل بمكائد الشيطان، واستشراف للأنانية، وعدم الاكتراث بأقدار الناس، والتمادي في الهوى ونزعات النفس الأمارة.

والفرق بين العُجْبِ والغُرور فرق دَقِيقٌ مُتباين؛ فالعُجْب هو استعظام النعمة الموجودة في المُعجب، ثم نِسْبَتُها إلى نفسه دون أن ينسبها إلى موهبها وخالقها، وهو الله -عز وجل-. وأما الغرور: فهو ادعاء قضايا وتلبيس حقائق غير موجودة في المغرور، ونسبتها إلى نفسه وإعطاء نفسه من العظمة والأماني الكاذبة العريضة بما لا يستحقه مع الاسترسال في بحر الأوهام والأحلام، ولقد جاء ذم الغرور في القرآن والسنة. يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر: 5). ويوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ} -أي: ينادي المنافقون المؤمنين- {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد: 12 - 1 4). ويقول -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6 - 8). وفي الحديث هو فيه ضعف عند المحدثين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الكَيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجِزُ مَن أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني)) فهذا الحديث تنديد واضح بالذين يتبعون أنفسهم هواها، ويغترون بالرُّكون إلى أمانيها وخدعها الكاذبة.

وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما ضَلّ قوم بعد هدًى كانوا عليه، إلّا أوتوا الجدل)) ثم قرأ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} (الزخرف: 58)، فهذا الحديث تقبيح ظاهر بالذين اغتروا بعملهم وبَنَوا جدلهم على غير علم وهدى وكتاب منير. وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ أبغضَ الرّجال إلى الله الألد الخَصم)) فهذا الحديث ذم واضح، للذين اغتروا بقُوّة حجتهم في مُخاصمة خصومهم بنية الغلبة عليهم، ولو كان الخُصوم على حق. فيتبين من هذه النصوص أن الغرور مستقبح شرعًا، وأنه من الآفات التي تُوقع الإنسان في الكذب، وتؤدي به إلى الكِبْر، وتَجْعَله مغضوبًا مذمومًا عند الله وعند الناس. وكيف يدخل الغرور على الدعاة؟ الداعية الذي لا يمر في تكوينه وإعداده على مرحلة التربية الروحية، والتهذيب التربوي؛ لم يتربّ على المراقبة لله والمُحاسبة للنفس، والاستمرار على العمل الصالح، والاستقامة على منهج الله؛ فسرعان ما ينساق مع الهوى، وسرعان ما يركب صهوة الغرور، وسرعان ما ينزلق مع الشيطان. بل تجد منه أعمالًا ومواقفَ وإدعاءاتٍ يستهجنها المسلم العادي، فضلًا عن الرجل المؤمن الواعي الحصيف. وإليك -أخي الداعية- أظهر هذه الإدعاءات والمواقف التي وقع في حبائلها بعض الدعاة:

من هذه المواقف: أن ينظر إلى نفسه بأنه بلغ مرتبة الدعاة الكِبار في النضج، وسداد الرأي، وسعة العلم، وانتشار الصيد؛ وفضل السابقة، وهو شابٌ حدث لم يكتمل بعد علمًا، ولم ينضج رأيًّا، ولم يتأهل داعية؛ اللهم أنه قد يُحْسِنُ الكلام، ويجيد التحدث والإلقاء. وهل تكوين الدعاة مقصور على إتقان فن الكلام وطلاقة الحديث، وغرابة اللسان؟ ومن هذه المواقف: أن يدعي أنه أوتي ذكاء وطاقة ومواهب وسياسة، مما يؤهله أن يكون قائدًا للدعوة، وإمامًا على المسلمين، ومرشدًا كبيرًا من المرشدين الربانيين، وهو في الواقع لا يصلح أن يكون رئيسًا على عشرة، وإمامًا في مسجد، واعظًا في قرية. وهل الدعاوَى العريضة المَنْقُوشة تجعل من أصحابها دعاة ورجالًا، أم الإخْلَاص وتزيين المواقف ولغة الأعمال؟ ومن هذه المواقف: أن يدعي لنفسه أنه أصبح عالمًا بأحكام الشريعة، فقيهًا في مسائل الدين والفتوى، بل أصبح مؤهلًا لئن يجيب على كل معضلة فقهية، لو عرضت إحداها على الخليفة الراشد عمر الفاروق لجمع لها أهل بدر. وهذا التجرأ على الفتيا بدون علم هو الجهل بعينه، والغرور بذاته، وهو من موجبات دخول النار، كما روي: ((أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار)). وهل يجوز للداعية شرعًا أن يتصدى لكل فتوى وهو غير عالم بحكمها ودليلها وهل يَجُوز للداعية شرعًا أن يُجيب عن سؤال فقهي، وهو جاهل به غير مطلع على أقوال الأئمة فيه؟ بالطبع لا يجوز له ذلك، وإذا فعل فيكون آثمًا ومسئولًا عن فتواه أمام الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من أُفتي بغير علم؛ فإنما إثمه على مَن أفتاه)). ومن هذه المواقف التي تَدُلّ على الغرور: أن يُعلن الداعية أمام الملأ أن جماعته التي يعمل معها ويَنْتَمي إليها، هي خير الجماعات وأفضلها، وأن طريقتها في

التبليغ والدعوة هي خير الطرائق وأحسنها، ولو كانت هذه الجماعة عفوية في تنظيمها، محدودة في أهدافها، جامدة في طريقتها، قاصرة في وسائلها، مقتصرة في الدعوة على بعض ما جاء في هدي نبيها -صلى الله عليه وسلم-. علمًا بأن الدعوة الإسلامية حينما قامت في القرون الماضية قامت على النظام، وحين انطلقت انطلقت على الشمول، وحين انتشرت في الآفاق انتشرت على الأسلوب الحكيم، والوسائل المتطورة بل حققت الدعوة الإسلامية خلال العصور وعلى مدار التاريخ أعظم الأهداف السياسية، وأسمى الأمجاد التاريخية؛ في بناء العزة للإسلام وامتداد رفعة الدولة في حياة المسلمين. ولكن ما علاج الغرور في الدعاة؟ على ضوء ما ذكرناه من تعريف للغرور، ومن ذمه في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن إدعاءات المغترين العريضة: على الداعية إذا أحس من نفسه أنه سوف ينزلق في متاهات الغرور، ويقع في حبائله فليُسارع جَهده إلى معالجته واستئصال شأفته؛ خشية أن يفضي فيه من حيث يعلم أو لا يعلم إلى زهو الكبر وغطرسة الاستعلاء. وخطوات المعالجة هي كما يلي: أولًا: أن يعرف الداعية حقيقة أمره وقدر نفسه، ومبلغ علمه ومنزلته؛ فلا يَدّعي لشخصه ما ليس فيه، ولا يُعطي لذاته حجمًا أكثر مما تستحق، فـ ((رَحِمَ اللهُ امرءًا عرف قدر نفسه))، فوقف عند حده. وعلى هذا الداعية أن يكثر من قراءة أخبار السلف الصالح، وما تميزوا به من ورع وتقوى، وتواضع وأدب، واستقامة وصراحة، واعتراف بأقدار أنفسهم، وحقيقة أحوالهم، وإمساك عن الفتيا فما لا

يعلمون، وإعطاء أنفسهم القدر الذي يستحقون دون تلبيس للحقيقة أو افتراء على الواقع. فهذا المنهج ولا شك هو أسلم لدين الداعية، وأحفظ لسمعته، وأظهر لحقيقته، وأرضَى لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-. ثانيًا: على الداعية أن يرجع إلى من اشتهر في زمانه؛ بمعالجة آفات القلوب، وتزكية الأنفس من الدعاة الصالحين، والعلماء الربانيين؛ ليسألهم عن معالجة العُجب والغُرور في نفوس الذين يتصدون للإرشاد ويسيرون في طريق الدعوة، وكيف السبيل إلى مناهضة هذه الآفات واستئصال شأفتها من النفوس. فعند أولئك من الخبرة التامة، والتجربة الحقيقة في طرق المعالجة لمثل هذه الآفات، بالإضافة إلى ما تميزوا به من الطاقة الإيمانية، والإشعاع الروحي في رد المغرورين إلى الحق، ونقلتهم إلى عالم الصفاء والإخلاص، وتزكية النفس والتربية الإسلامية الفاضلة. فهذا المنهج ولا شك يربي الداعية على الإخلاص، ويُعرفه بحقيقته مَن هو؟ فلا يدعي لنفسه ما ليس فيه، ولا يُعْطِيها أكثر مما تستحق، وإذا استمر على ذلك فلا ينزلق في متاهات الغرور؛ ولا ينحدر في مزالق العجب والكبر، بل يصبح إنسانًا سويًّا وداعيةً ربانيًّا. ثالثًا: على الداعية حين يخلو بينه وبين ربه في صلواته وأذكاره، وقراءة القرآن، أن يسائل نفسه: هل داخله الغرور في قول وعمل؟ هل أفتَى بما لا يعلم؟ هل ادَّعى لنفسه بما ليس فيه؟ هل أعلن أمام الملأ أن جماعته هي أفضل الجماعات؟ هل نظر لنفسه بأنه بلغ منزلة الدعاة الكبار؟ هل وهل وهل؟

من الآفات الخطيرة التي قد تصيب الدعاة: "الكبر".

فإن وجد شيئًا في نفسه بعد هذه المسائلة والمحاسبة فليتب إلى الله، وليندم على ما فعل، وليعاهد الله على ألا يعود، والله -سبحانه وتعالى- يتقبل من التائبين المستغفرين، فهذا المنهج ولا شك يعمق في الداعية شعور المحاسبة والمراقبة لله، والرجوع إليه، والاتكال على محض فضله وكرمه، والالتجاء إليه فيما ينوب ويروع مع ملازمة المجاهدة والانكسار والافتقار إليه، والله سبحانه لا يضيع أجرَ من أحسن عملًا. من الآفات الخطيرة التي قد تصيب الدعاة: "الكِبْر" ومن الآفات الخطيرة: الكِبر. وهو خُلقٌ باطني في الإنسان تصدر عنه أعمال ظاهرة هي ثمرته، هذه الأعمال لا تخفى على كل ذي عقل وبصيرة، فحين يراها الرائي يعلم علمًا أنها من علامات الكبر وظواهر الخيلاء. من علامات الكبر التي تدل عليه: إظهار التّرَفُّع على الناس، وحب التصدر في المجالس، التبختر والاختيال في المشي، الاشمئزاز من أن يُرد عليه كلامُه وإن كان باطلًا؛ الاستخفاف بضعفة المُسلمين ومساكينهم، الافتخار بالآباء، والاعتزاز بالنسب، واستشراف التعظيم، والثناء والمجد. وبالاختصار نقول: يوجد الكبر من أمور ثلاثة هي: أن يرى لغيرة منزلة، ويرى لنفسه منزلة، ويرى أن منزلته فوق منزلة غيرة. فبهذه الثلاثة يحسن خلق الكبر الباطني في الإنسان، ويُسمى أيضًا عزةً وتعظمًا وتعاليًا وانتفاخًا وانتفاسًا. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لرجل استأذنه في بعض الناس بعد صلاة الفجر: "أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا". ففي هذه الأحوال التي تحصل للإنسان،

حتى يبلغ في نفسه إذا وجدت آثارها في تصرفاته مع الغير؛ فإنه يُسمى حينئذٍ متكبرًا، فالكبر إذًا حالة نفسية، والتَّكَبُّر أثر لهذه الحالة النفسية. وقد جاء ذم الكبر في الكتاب والسنة: قال الله -تبارك وتعالى-: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83)، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر: 35)، وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يَدْخُل الجنةَ مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا يُكَلّمُهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، ومَلِك كذاب، وعائل مُستكبر)) أي: فقير مستكبر. ولكن ما علاج الكِبر في الدعاة إذا ابتلوا به؟ على ضوء ما ذكرنا من تعريف الكِبر ومن ذمه الفاضح في القرآن والسُّنة؛ نقول: إنّ من وسائل معالجة الكبر: أن يقطع الداعية لنفسه مزالق الكبر التي تفضي إليه، فإن كان من مزالقه الاغترار بالعلم والفصاحة واللقب العلمي، فليعلم أن الله سبحانه قادر على أن يسلبه هذه النعم، من مواهب الفصاحة وقوة العلم والثقافة، وإن من حق الله عليه أن يكون شاكرًا للنعمة غيرَ جاحد؛ فقد قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7). وعلى الداعية: أنْ يُدرك حقيقة نفسه من بدء حياته إلى يوم موته، فلو فكر في ذلك تفكيرًا مستنيرًا، ما وجد ذلك سببًا لكبريائه وخُيلائه، وعجبه واغتراره، واستعلائه وفخره. وعلى الداعية أن ينظر إلى ما تكبر به، فإن كان السبب العلم فليعلم أن فيه جهلًا يساوي أضعاف أضعاف علمه بملايين المرات، فقد قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85)، وقال {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76)، وإن كان سببه الفصاحة فليعلم أن في

الأرض مَن هو أفصح منه، وإن كان سببه جمال الشخصية فليتذكر أن مآله بعد ذلك كله الموت، وإن كان سببه مظهر التدين فليعلم أن الدين يدعو إلى التواضع، ويأمر بخفض الجناح للمؤمنين كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88)، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215). ألا فليتحرر الداعية من آفة الكِبر، وليستعصم لنفسه مزالقها التي تؤول إليه، وليأخذ نفسه بأسباب المعالجة النفسية، التي بينها ونبهنا عليها؛ وليحرص على أن يُحَاسِب نفسه في كل آونة، وليَعلم أن الله سبحانه معه يرقبه ويراه، ويَعلم سِرّه ونجواه، ويعلم خائنة الأعين، وما تُخفي الصدور. فبهذا كله يستطيع أن يتغلب على آفة الكبر، وأن يقضي على مداخله من عُجب وغرور من نفسه، وأن يُعطي القُدوة في التواضع والتجرد والإخلاص للخاصة والعامة، وأن يكون من الدعاة المؤثرين، والمرشدين الموثوقين، والله سبحانه مع الصادقين المخلصين يسددهم ويثبت أقدامهم، ويهديهم سواء السبيل. وهكذا معشر الطلاب نكون قد انتهينا من مادة الخطابة. أسأل الله -سبحانه وتعالى- لي ولكم علمًا نافعًا، وعملًا متقبلًا، كما أسأله أن يرزقه سلامة القلب، وسلامة الصدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا: أن الحمد الله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1