الخطابة الإسلامية

عبد العاطي محمد شلبي

المقدمة

المقدمة: الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام دينا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- المبعوث رحمة للعالمين ... وبعد ما أشد احتياجنا في هذا الزمن الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة إلى كوادر دعوية تصطفي اصطفاء يقوم على الصحة الجسمية والنفسية والخلقية، والاجتماعية، والعلمية، ولمن يريد أن يكون داعية يجب أن يسكن رسولنا الكريم ضميره، ويتبعه في عمله وتفكيره، والخطباء في حقيقة أمرهم دعاة وعليهم أن يعرفوا أن علو الكعب في الخلق، والطهر القلبي والنفسي، ورقة الذوق في الكلمة والنظرة، وخفض الصوت وإشراق الوجه بالابتسامة لغة عالمية تفتح بها الصدور المغلقة، والنفوس الحرجة؛ ذلك لأن الخلق الزكي لغة إنسانية عالمية تعجب وتقنع. وهذا الكتاب عن الخطابة الإسلامية تكلمنا فيه عن الخطابة وتعريفها، وعناصرها، وطريقة الإقناع الخطابي، والصفات التى يجب أن يتصف بها الخطيب، كما تكلمنا عن تشعب خطب الوعظ الديني، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى نماذج مختلفة من الخطب في العصور المختلفة. وهذا الكتاب لا يصنع خطيبا ولكنه مرشد لمن عنده استعداد للخطابة، ينهل من الخطب التى ذكرناها فصاحة اللفظ وبلاغة العبارة وعلى الله قصد السبيل.

الكوادر الدعوية

الكوادر الدعوية: الكوادر الدعوية ينبغى أن تُصطفى اصطفاء يقوم على الصحة الجسمية والنفسية، والعقلية، والخلقية، والاجتماعية، والعلمية، وفقْد واحدة من هذه الست يؤدي إلى تعويق في أداء الدعوة. فكلها يكمل بعضها بعضا، وتمثل شخصية الداعية السوي، وهؤلاء الدعاة يسيرون على خطا الأنبياء في هدايتهم لأقوامهم، والرسل والأنبياء اختيروا اختيارًا للقيام بواجب الرسالة. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1، والذين أورثوا الكتاب اصطفاهم الله من عباده؛ قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 2، وعلى مدار التاريخ لم يبزر في مجال الدعوة إلا أصحاب المواهب العالية والإقبال الكبير على الله، وأصحاب الغيرة والنخوة. هؤلاء الذين تتجمع في تربيتهم وتكوينهم عوامل الأسرة بموروثها الديني، وحسها التربوي العالى، والجو الثقافي المحيط، والأساتذة بما يزرعونه من غيرة في الحفاظ على الدين. التربية الخلقية: ويأتى على رأس تربية الكوادر الدعوية: التربية الخلقية؛ لأن الدين نور يستضيء به رجل، فيشرق في قلبه، ويرى الناس هذا النور في قوله وعمله، فينجذبون إليه. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا

_ 1 سورة آل عمران: الآيتان 33، 34. 2 سورة فاطر: الآية 32.

مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. وقد وصف الله لنا سيد الدعاة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 2، ووصفته السيدة عائشة -رضي الله عنها- حين سئلت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خلقه القرآن". يقول ابن كثير: "ومعنى هذا: أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له، وخلقا تطبعه، وترك طبعه الجبليّ، فمهما أمَرَه القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم: من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل، كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لى: أفّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته، وكان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم3. هذا هو المثل الأعلى لمن يريد أن يكون داعية, إنه يجب أن يسكن رسولنا الكريم ضمائرنا ونتبعه في عملنا وتفكيرنا، وإلا عدَّ من لم يكن هكذا مدعيا لا داعية، إن علو الكعب في الخلق، والطهر القلبى والنفسي، ورقة الذوق في الكلمة والنظرة وخفض الصوت وإشراق الوجه بالابتسامة لغة

_ 1 سورة المائدة: الآيتان 15، 16. 2 سورة القلم: الآية 4. 3 اللؤلؤ والمرجان، حديث رقم 1491-1492.

عالمية تفتح بها الصدور المغلقة، والنفوس الحرجة، ويستل بها من القلوب سخائمها؛ ذلك "لأن الخلق الزاكى لغة إنسانية عالمية تعجب وتقنع، وبهذه اللغة تفاهم الصحابة والتابعون مع الشعوب التى عرفوها، فدخل الناس في دين الله أفواجا، أي إن القدوة ليست دورا تمثيليا يؤدي إلى الخداع، واجتذاب المشاهدين، كلا. كلا. فحبل الكذب قصير. والقدوة الحسنة -فردية أو جماعية- تفرض احترام العقيدة والحفاوة بها. وهذه القدوة هي الحلاوة في الثمرة الناضجة، أو الرائحة الزكية في الزهرة العطرة، وهي نضج الكمال الذاتى الحق، وقد شاء الله أن يؤتى السلف الصالح أنصبة جزلة من هذا الحسن الذاتى: ففتحت لهم المدن العظام أبوابها، وألقت إليهم الجماهير بقيادها، وعالمية الإسلام تفرض على أتباعه أن يقدموا من سلوكهم الخاص والعام نماذج جديرة بالإكبار، أو على الأقل هي جديرة بدفع الناس للسؤال عن حقيقة الإسلام لمن لم يعرفوا هذه الحقيقة، وما أكثرهم في أرض الله1. التثقيف إجمالا: يجب على كل سالكي طريق الدعوة أن يتثقفوا عن طريق قراءة المتون المحيطة بمواد الشريعة الإسلامية، كما عليهم أن يتزودوا بالكتب النافعة حول الدعوة وأصولها والتفسير والحديث. وفي العلوم اللغوية يزودون ببعض كتب النحو والصرف والبلاغة والأدب وإعجاز القرآن.

_ 1 تفسير ابن كثير، جـ8 ص 215، ط الشعب.

علم الخطابة

علم الخطابة: الخطابة علم له أصول وقوانين، من سار في طريقها عد خطيبا، وهو يعنى بدراسة طرق التأثير، ووسائل الإقناع، وصفات الخطيب، وما ينبغى أن يتجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة، وما يجب أن تكون عليه ألفاظ الخطبة، وأسالبيها، وترتيبها. هذا العلم ينير الطريق، ولا يحمل على السلوك؛ فهو يرشد الدارس إلى دراسة مناهج، ومسالك، ولا يحمل على السير فيها. علاقة الخطابة بالمنطق: إذا كان علم المنطق يبحث عن القوانين التى تعصم الذهن عن الخطأ، فإنه يبحث أيضا عن أهواء النفس، وخواطرها وأسباب الغلط، وتسلسل الخواطر، وكل هذه الأمور تساعد الخطيب على أداء مهمته في التأثير والإقناع. علاقة الخطابة بعلم النفس: لا يصل الخطيب إلى إقناع السامعين إلا إذا استطاع أن يثير حماستهم، ويخاطب إحساسهم، ولا يمكن إلا إذا كان عليما بما يثير شوقهم، ويسترعي انتباههم، وذلك لا يكون إلا بعلم النفس، ومن هنا كان علم الخطابة له صلة بعلم النفس. علاقة الخطابة بعلم الاجتماع: يجب على الخطيب أن يكون ملما بسياسة الناس، وما يجب لكل طبقة من المعاملة، وما يلزم لكل نوع من الناس من خطاب، وعليه أن يكون عليما بروح الجماعة دارسا لأخلاقها فاهما لما يسيطر عليها، ولذا كان علم الخطابة صلته قوية بعلم الاجتماع.

الخطابة

الخطابة: تعريفها: من فنون النثر الأدبي فنٌّ لساني يلقى على جمهور السامعين، وهذا الفن النثري هو الخطابة، وللخطابة مجالاتها التي لا يمكن لأي فن أدبي آخر أن يغني عنها بحكم طبيعتها التي تلازمها على مدى العصور. أنواعها: تتعدد أنواع الخطابة بحسب مجالاتها المختلفة ولكن ما يهمنا الخطابة الدينية وهي التي تلقى في المساجد في صلاة الجمعة والعيدين، وفي المناسبات الدينية المختلفة للوعظ والإرشاد والحث على الاستمساك بالفضائل الإسلامية. طرق تحصيلها: لا شك أن الخطابة منصب خطير، لا يصل إليها طالبها بيسر، بل يحتاج طالبها إلى زاد عظيم، وصبر ومعاناة، واحتمال للمشاق؛ ليصل إلى تلك العناية السامية وطرق تحصيلها ما يأتي:- 1- فطرة تلائم الخطابة: يستحب أن يكون الخطيب فصيحا طلق اللسان، ثابت الجنان، ذكي القلب، وأن تكون مخارج الحروف عنده صحيحة. 2- دراسة أصول الخطابة: لا شك أن هذه الأصول لا تكفي وحدها، بل لا بد أن يكون معها استعداد كامن، ومران شديد على الخطابة.

3-قراءة كلام البلغاء: ودراسته دراسة متعرف لمناص التأثير، وأسرار البلاغة، ومتذوق لما فيها من جمال الأسلوب وحسن التعبير، وجودة التفكير. 4- الإطلاع على كثير من العلوم التى تتصل بالجماعات: كالاقتصاد والشرع، والأخلاق، والاجتماع، وعلم النفس، والمعتقدات. 5- الثروة الكثيرة من الألفاظ والأساليب: الخطابة تحتاج إلى أن يعبر عن المعنى الواحد بعدة عبارات، وأساليب متغايرة. 6- ضبط النفس واحتمال المكاره: يستحب للخطيب أن يتذرع بالصبر، وضبط النفس، والسيطرة على أعصابه ومشاعره، كما عليه أن يقضي على كل مظاهر الاضطراب والانفعال والوجل؛ لأن ظاهرة الاضطراب والوجل تورث في الخطيب الحيرة، والحيرة تسبب له التلعثم والارتباك. 7- الارتياض والممارسة: رياضة النفس على الخطابة تكون بالارتياض على الفكرة والارتياض على الأسلوب والارتياض على الإلقاء، أما الارتباط على الفكرة فهو تعويد النفس على ضبط الأفكار، ووزن الآراء وتضنيف العناصر، وعقد الصلة بينهما وبين ما يجري في المجتمع من قضايا ومشكلات، وتعويد النفس على الاتصال بفئات البشر، والاندماج معها، والتعرف على أحوالها، أما الارتياض على الأسلوب فهو المران على التحدث ببليغ المقال، وفصيح

الكلام. وهذا لا يتأتى إلا بحفظ آيات من القرآن والأحاديث النبوية، وعبارات البلغاء قديما وحديثا، كما يجب على الخطيب مطالعة الكتب الفكرية والأدبية فهي عامل آخر لارتقاء أسلوبه، وجودة تعبيره، أما الارتياض على الإلقاء فيبدأ بتعويد اللسان عند النطق على إخراج الحروف من مخارجها، ثم قراءة كل ما يستحسنه بصوت مرتفع، ولهجة متزنة، مصورا بصوته معاني ما يقرأ بتغيير النبرات، وبرفع الصوت وخفضه، ثم بإلقاء الموضوع بينه وبين نفسه متصورا أنه أمام جمهور، ثم بإلقاء الموضوع أمام من يثق بهم من إخوانه، ثم بإلقاء الموضوع في محيط لا يعرفه فيه أحد غير هياب ولا وجل.

الآداب الخطابية

الآداب الخطابية: يجب على الخطيب أن يتحلى بآداب عند إلقاء الخطبة، ومن هذه الآداب ما يتعلق بحاله هو عند إلقاء الخطبة، ومنها ما يتعلق بالسامعين. الآداب الخاصة بالخطيب: 1- سداد الرأي: ويكون بدراسته دراسة تامة للموضوع الذي يخطب فيه. 2- صدق اللهجة: وهو أن يظهر الخطيب مخلصا فيما يدعو إليه، وحريصا على الحقيقة، فإنه إن ظهر كذلك وثق الناس به، وصدقوه فيما يدعو إليه، وأحسوا بأنه شريف تجب إجابته؛ لشرفه وشرف ما يدعو إليه، ومن أجل أن يكون الإخلاص باديا، يجب أن يكون من حاله ما يطابق مقاله، فلا يتجافي عمله عن قوله، بل يكون أكثر الناس أخذا بقوله. 3- التودد من السامعين: ويكون بالتواضع لهم، وأن يكون ممن يألفون، ويؤلفون؛ فلا يكون جافيًا خشنًا قاسيًا. آداب الخطيب مع السامعين: ينبغى على الخطيب الاتصال بنفوس من يخاطبهم، والقرب من قلوبهم، والناس مختلفون، عادات وأخلاقا ومهنة ومرتبة، ولكل طائفة من الناس أحوال، تقتضي نوعا من الخطاب، لا تقتضيه أحوال الجماعة الأخرى؛ وعلى الخطيب أن يلبس لكل حال لبوسها، ويعالج كل طائفة بأنجع دواء له؛ ليستقيم له الطريق، ويصل إلى غرضه. صفات الخطيب: 1- الاستعانة بالله: الخطيب الناجح هو الذي يحرص على الاستعانة بالله في كل الظروف والأحوال فهو يستعين بالله في الإعداد، وحسن الأداء، وجمال الإلقاء.

3- الإخلاص: الإخلاص هو روح الأعمال وسر قبولها وبه يجمع الله سبحانه وتعالى القلوب، فالإخلاص عامل هام في النجاح والتأثير وينبغى على الخطيب أن يحذر من أمراض القلوب، وأن يبتعد عن الغرور والرياء وحب الظهور. 3- القدوة الحسنة: ينبغي على الخطيب أن يكون قدوة حسنة، وأن يكون سلوكه قويما، وأن يعمل بما يقول، وأن يكون إماما فيما يدعو إليه. 4- الشجاعة: لا بد أن يكون الخطيب شجاعا لا يخاف إلا الله وهو صاحب رسالة، ولذلك فالشجاعة ضرورية كذلك لتبليغ الحق المبين، وتجلية حقائق الإسلام، وعلاجه للمشكلات بكل وضوح وصراحة، ومحاربة الظلم، وفضح الباطل، وإقرار العدل. 5- الموهبة: إن نجاح الخطيب في مهمته فيه جانب يكتسبه عن طريق كتب فنون الخطابة وآدابها، والاستماع إلى الخطباء، والاستفادة منهم. وجانب الموهبة التى يمنحها الله للإنسان وذلك بحب الخطابة، والميل إليها والانسجام معها. 6- قوة الملاحظة: يجب أن تكون نظرات الخطيب إلى سامعيه نظرات فاحصة كاشفة؛ يقرأ من الوجوه خطرات القلوب، ومن اللمحات ما تكنه نفوسهم نحو قوله؛ ليجدد من نشاطهم، ويذهب بفتورهم ولتتصل روحه بأرواحهم، ونفسه بنفوسهم. 7- حضور البديهة: لتسعفه بالعلاج المطلوب إن وجد من القوم إعراضا، والدواء الشافى إن وجد منهم اعتراضا، وقد يلقي الخطيب خطبته فيعقب بعض السامعين معترضا، أو طالبا الإجابة عن مسألة، فإذا لم تكن البديهة حاضرة يجيب الخطيب إجابة سهلة موثقة وإلا ضاعت الخطبة، وآثارها.

8-طلاقة اللسان: تعد طلاقة اللسان من ألزم صفات الخطيب، وأشدها أثرا في انتصاره في ميادين القول. 9- رباطة الجاش: يجب أن يقف الخطيب مطمئن النفس، هادئ البال، قوى الجنان، غير هياب ولا وجل، وغير مضطرب ولا منفعل. 10- القدرة على مراعاة مقتضى الحال: يجب على الخطيب أن يكون قادرا على إدراك وضع الجماعة، وما تتطلبه من تذكير وإصلاح، وما يصلح لها من أساليب ملائمة، ومن توجيهات مناسبة يراعي فيها المصلحة واقتضاء الحال. 11- قوة العاطفة: يجب على الخطيب أن يمتلىء حماسة فيما يدعو إليه، واعتقادا بصدقه؛ لأن ما يخرج من القلب يدخل القلب فلا بد أن تكون حماسة الخطيب أقوى من حماسة سامعيه؛ ليفيض عليهم، ويروي غلتهم، وإلا أحسوا بفتور نفسه، فضاع أثر قوله. 12- النفوذ وقوة الشخصية: الخطيب الناجح هو الذي يتمتع بقوة الشخصية، وإشراقة الروح، وسداد الرأي، وسعة العلم، وتأثير نصائحه ومواعظه. 13- حسن الهيئة: يجب على الخطيب أن يراعي الهيئة الحسنة في زيه، ويهتم بكل ما يجعل هيئته حسنة، وأن تتزن حركاته، وعليه أن يبتعد عن الحركات سواء باليد أو الرأس أو غير ذلك، التي تجعل منه ممثلا رخيصا ومثارا للضحك والتندر.

زاد الخطيب

زاد الخطيب: إن الخطيب الناجح لا بد أن يتزود بزاد يتناسب مع مهنته، وأهم ما يتزود به الخطيب ما يلي:- 1- القرآن الكريم: ينبغى على الخطيب أن يكون وثيق الصلة بالقرآن، كثير التلاوة له، متقنًا تجويده، مجتهدًا في حفظه. 2- الحديث الشريف: على الخطيب أن يكون جليس كتب الحديث الشريف وأن يطلع على أكبر قدر من أبواب الحديث، كما عليه أن يحفظ قدرا كبيرا من الحديث يمكنه من الاستشهاد بسنة سيد الخلق في شتى المناسبات، ومختلف المجالات. 3- السيرة والتاريخ: ينبغى على الخطيب أن يهتم بقصص الأنبياء، ويدرس سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دراسة خاصة من زوايا متعددة، ومراجع متنوعة. 4- الأحكام الفقهية: ينبغى على الخطيب أن يكون ملما بكثير من الأحكام الفقهية؛ ليقدم للناس الحلول العملية من الأحكام الإسلامية. 5- الحكم والأمثال: من أعظم الأساليب المؤثرة الحكم والأمثال، فهي كلمات مختصرة، تجمع خلاصة معانٍ، وحصاد تجارب لها أبعادها في النفس. والخطيب الموفق هو الذي يحرص على حفظ أكبر قدر من الحكم والأمثال ليستشهد بها في مواضعها. 6- السياسة والتيارات الفكرية: يجب على الخطيب أن يطلع على أحداث الناس وقضايا الساعة، ويقدم للناس فهم الإسلام في شتى ميادين الحياة.

التنسيق

التنسيق: هو تنظيم أجزاء الخطبة، وإحكام تركيبها، وربط بعضها ببعض، ووضع أدلتها في شكل منتج؛ فالتنسيق هو بناء الخطبة، ونظام عقدها، وللخطبة ثلاث مراحل: 1- المقدمة. 2- الإثبات. 3- الخاتمة. أولا: المقدمة هي ما يجعلها الخطيب صدر خطبته؛ ليثير الفكر إليها، وليعطى السامعين صورة إجمالية لها، وليحصر لهم معانيه وأفكاره في نطاق لا يعدوه، ولا يتجاوزه وتشتمل المقدمة على ما يأتى:- أ- حسن الافتتاح: بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلخ. كما يجب أن يعنى الخطيب بافتتاح خطبته حتى يهيئ الأسماع لتتقبله بقبول حسن، ويشترط أن تحتوي المقدمة على حمد الله والثناء عليه وتوحيده وتنزيهه، وكذا ذكر الشهادتين؛ وللخطباء مذاهب شتى في افتتاحهم، وسنذكر بعضها على سبيل المثال، لا الحصر: 1- فمن الخطباء من يفتتح خطبته بما يشير إلى موضوعها، ويلوح بالقصد منها. 2- ومن الخطباء من يبتدئ خطبته بحكمة أو مثل سائر، أو بعض أقوال المتقدمين، أو آية قرآنية، أو حديث شريف يناسب المقام، ويكون حجة في الاستدلال، كخطيب يبتدئ خطبته في تعاون الجماعة في إصلاح حالها، وتقويم الفاسد من أمرها بتلاوة قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّة

يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . 3- ومن الخطباء من يفتتح خطبته بإحياء آراء قديمة للجماعة، يبنى عليها ما يدعوهم إليه من جديد، كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما أنذر عشيرته الأقربين؛ إذ سألهم عن صدق صدقه حديثه فقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيَّ؟ فقالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا"، فألقى عليه الصلاة والسلام خطبته. 4- يستحسن أن تبدأ الخطبة بحمد الله، وببعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة التى تناسب المقام الديني الذي يتكلم فيه، ويجب أن يكون الافتتاح قصيرا موجزا، موافقا للموضوع. ب- المقصد: أن يذكر الخطيب في صدر كلامه الموضوع الذي سيتناوله إجمالا، من غير تفصيل؛ ليهيئ الأذهان لتلقيه، ولا بد عند ذكر المقصد من ملاحظة ثلاثة أمور: أحدها: أن يذكره في قضية عامة، لا يبنيها على مقدمات، فإذا كان يريد أن يخطب جمعا يحثهم على إحياء القرآن الكريم بحفظه والعمل به، يقول مثلا: في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهكذا نرى الموضوع قد ذكر في قضية عامة. وثانيها: أن يكون واضحا في الدلالة على الموضوع. وثالثها: أن يلقَى في جملة تثير خيال النفس، وتهزها، فتنشط إلى سماع ما يقال، وتهتز أوتار القلب بكل ما يجيء به الخطيب من معانٍ وعبارات جيدة محكمة.

جـ- تقسيم الخطاب: إذا كانت الخطبة واسعة الأطراف، مترامية النواحى، كثيرة الشعب، كان عمل الخطيب أن يجمع أشتاتها، ويضبط أجزاءها، ويقسمها تقسيما جامعا لأطرافها وحواشيها. ثانيا: الإثبات هو موضوع الخطبة وغرضها، وهو الذي يستغرق معظم وقتها، وأفكارها، فينبغي على الخطيب مراعاة ما يلي:- أ- أن تكون الأفكار منظمة، ومسلسلة، ومترابطة ووافية. ب- أن يحسن الاستشهاد على كل فكرة في موضعها. جـ- أن يتجنب الاستطراد الذي يخرجه عن الموضوع إلى موضوع آخر فآخر. د- أن يحرص على ربط الموضوع بالواقع ودنيا الناس وآثاره في الحياة التي نعيشها. ثالثا: الخاتمة وهى آخر ما يلقى في ذهن المستمع، وآخر ما يتعلق بباله، وللخواتيم أهميتها العظمى في تحقيق أهداف الخطبة لذلك ينبغي على الخطيب أن يراعي ما يلي:- 1- أن تتضمن تلخيصا للموضوع يكون جامعا مركزا يجمع أطرافه التى استغرقت معظم الوقت ليضعها أمام المستمع في كلمات مختصرة. 2- أن تشتمل على النتائج التى يريد الخطيب استخلاصها والتوصل إليها.

3- أن تشتمل على توصيات، ودعوة للعمل، والسير نحو خطوة جديدة إلى الأمام. 4- الدعاء يستحب أن يكون مرتبطا بموضوع الخطبة ومعانيها. التعبير: 1- يجب على الخطيب أن يعطي المعنى حقه واللفظ حقه، وأن يعتني بهما، وعليه أن يعرف أن تحسين اللفظ يجب أن يكون بجوار إحكام المعنى، وأنه لا غنى له عن المعنى المحكم؛ لأنه عمود الكلام والمقصد الاسمى، ولا عن اللفظ؛ لأنه بهاء القول وزينته، وعليه ألا يتكلف في اختيار اللفظ بل يجب أن يكون كلامه منسجما، متآخي النبرات، لا تنبو ألفاظه، ولا تتجافى عباراته، ولا يلجا في أسلوبه إلى العامية. 2- إن لكلمات الخطيب أثرا في أذن السامع، ولجرسها وقع في نفسه؛ فالسامع للخطيب يذوق، ويسمع ويفهم ويلاحظ النطق، ولذلك يجب أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق، لا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها، وأن تكون ذات رنين خاص يهز أوتار النفس ويثير الشعور، ويجب أن تكون مقاطع الخطبة ذات وقع مؤثر، يلذ السمع، ويجمل الكلام. الألفاظ: نريد بالألفاظ الكلمات المفردة، وأهم خصائص مفردات الخطابة هي:- 1- أن يكون اللفظ واضحا مكشوفا وقريبا معروفا، من السهل إدراك معناه، والوصول إلى مرماه، لا يبعد عن مألوف السامعين. 2- ألا تكون الألفاظ مبتذلة أو عامية.

3- أن تكون في الخطبة ألفاظ مناسبة مثيرة لخيال الجماعة، ملائمة لما يريد، فإذا كان يخطب جماعة في الحث على أداء فريضة الحج، ذكر الحرم الشريف، ومقام إبراهيم، وزمزم، وإذا كان يخطب في الحث على الصوم ذكر قرب الصائم من ربه، والتجرد من ملاذ الحياة، ومشارفة نفس الصائم للمعانى القدسية. الأسلوب: 1- التصرف في فنون القول، بأن تتعاقب على معنى ضروب مختلفة من التعابير، من تقرير، إلى تعجب، إلى تهكم، إلى نفي؛ لكي يكسب كلامه حدة، ولئلا يذهب نشاط السامعين، ويعتريهم السأم والملال. 2- حسن التآلف بين الكلمات، وتآخي النغم، بحيث تتحدر الكلمات على اللسان في يسر وسهولة، ويحسن وقعها في الأسماع، فلا تكون منها نابية عن أخواتها، أو ساكنة في غير مستقرها، فتكون قلقة في النطق، وثقيلة على السمع. المقاطع: يجب أن يختار الخطيب المقاطع التى يقف عليها، بحيث يكون وقوفه عند نهاية جزء تام من المعنى الذي يريده، وبأن يكون المقطع ذا رنين قوي، يملأ النفس، ويوجهها نحو الغرض الذى يريده الخطيب. طرق تحضير الخطبة: 1- من الخطباء من يكتفي في تحضيره بدراسة الموضوع دراسة تامة، ثم يجمع عناصره في خاطره، وترتيبها بينه وبين نفسه، ويستحضر الألفاظ اللائقة بالمقام، والعبارات الجديرة بالموضوع، وهذه الطريقة لا يتبعها إلا المتمرن على المواقف الخطابية الذى اندرج في سلك الخطباء.

2- ومن الخطباء من يدرس الموضوع ويهيىء معانى الخطبة، ويرتبها ترتيبا محكما، ثم يكتب عناصرها وأجزاءها في مذكرة يستصحبها عند الخطبة؛ لتكون مرجعا له وضابطا، وليحفظ المعانى والأفكار من أن تضيع بضلال الذاكرة. 3- ومن الخطباء من يطَّلِع على الموضوع، ويدرسه بعناية، ثم يتكلم فيه بينه وبين نفسه بصوت مرتفع في غرفة قد انفرد فيها، أو في مكان خلوي، أو يتكلم على بعض الناس. 4- ومن الخطباء من يكتب الخطبة، ويتحرى في الكتابة أبلغ الاساليب التى توصله إلى غايته، وتؤدي به إلى ما يريده، ويحكم معانيها، ويحملها كل ما يبغي من وسائل التأثير، وطرق الإقناع التى يصوبها نحو هدفه، ويرمي بها إلى غرضه، وبعد الكتابة يقرأ ما كتب مرارا وينقحه في كل مرة. وبهذه القراءة التى يتحرى بها جودة الإلقاء وحسن النطق، تعلق معانى الخطبة مرتبة الترتيب التام بذاكرته، ويحفظ كثيرا من ألفاظها وعباراتها. 5- ومن الخطباء من يكتبون خطبهم، ويحسنون تحبيرها، ثم يحفظونها حفظا تاما، ومنهم من يتحلل أحيانا مما حفظ، إن وجد المقام يدفعه إلى غيره. والطريقة المثلى لطالب الخطابة: أن يبتدئ بكتابة الخطبة وحفظها وإلقائها كما حفظ ثم يأخذ بنفسه بالتغيير شيئا فشيئا فيما حفظ حتى إذا شب في الخطابة، وتقدم في المران عليها، كتب الخطبة وعني بأن تعلق كل معانيها بقلبه، وأكثر ألفاظها بذاكرته ثم يتقدم لإلقائها وقد تحصن بذلك التحضير، فإذا صارت له الخطابة ملكة،

وعد في صفوف الخطباء، اكتفى بدراسة الموضوع دراسة وافية، ثم كتب العناصر، أو لم يكتبها إن أسعفته ذاكرة قوية، أو كانت الخطبة قصيرة، لا عناصر لها، وألقى الخطبة مكتفيا بذلك التحضير الذى يقل أنواعه كلفة؛ ولا يكتفي به إلا أعظم الخطباء قدرة. الارتجال: لا يعد الخطيب خطيبا إلا إذا كان قادرا على الارتحال، وقد يخطب فيعترض عليه بعض الناس في خطبته، فإن لم تكن له بديهة حاضرة ترد الاعتراض وتقرعه بالحجة القوية، ذهبت الخطبة وآثارها. النطق: النطق الحسن هو الدعامة الأولى للإلقاء الجيد، وإذا اعترى النطق ما يفسده ضاع الإلقاء فضاعت معه الخطبة وأثرها. العناصر التي يحتاج إليها النطق الجيد: 1- تجويد النطق: بأن يخرج الحروف من مخارجها الصحيحة في يسر ورفق وسهولة. 2- مجانبة اللحن وتحري عدم الوقوع فيه: يجب أن يعنى الخطيب بتصحيح الكلام الذي ينطق به، وملاحظته في مفرداته وعباراته فيلاحظ بنية الكلمات ملاحظة تامة، وما توجيه قواعد النحو في آخر الكلمات؛ فإن ذلك يفسد المعنى، وقد يقلبه. 3- تصوير النطق للمعاني تصويرًا صادقًا: بأن يعطي كل كلمة وكل عبارة حقها، ويظهرها بشكل تتميز به عن سواها، فالجملة المؤكدة ينطقها بشكل يدل على التوكيد في النغم كما دل، والجمل الاستفهامية ينطق بها بشكل يتبين منه الاستفهام والمراد منه عن طريق النطق، كما دل عليه بالأداة الدالة على الاستفهام.

4- التمهل في الإلقاء: وهو إلزام الأمور للخطيب، فالتمهل يجعل الصوت يسري إلى السامعين جميعًا بأيسر مجهود متناسب مع المكان والعدد، بينما الإسراع يجعل الكلمات تحتاج إلى مجهود صوتي أكبر؛ ليصل الكلام إلى الآذان. الصوت: يستحب للخطيب أن يروض نفسه على تصوير المعاني، وأن يجعل من نغمات صوته، وارتفاعه وانخفاضه دلالات أخرى فوق دلالة الألفاظ، وليعمل على أن يكون صوته ناقلا صادق النقل لمشاعر نفسه، وليمرنه التمرين الكافي على أن يكون حاكيا صادق الحكاية لمعاني الوجدان، وخواطر الجنان، وليعلم أن لا شيء كالصوت يعطي الألفاظ قوة حياة، وأنه إذا أحسن استخدامه خلق به جوًّا عاطفيا يظل السامعين، وبه يستولي عليهم. الإشارات: إن الإشارات هي المخاطبة الصامتة، أو هي لغة التفاهم العامة، وهي في كثير من الأحيان صوت الشعور، وعبارة الوجدان، فالغاضب يعبس وجهه، ويقبض أصابعه، والإشارات بعضها شعوري اندفاعي لا يكون بالإرادة بل بدافع الإحساس الوقتي للخطيب الذي يثيره موقفه الخطابي، وبعضها إرادي قصدي يعمد إليه الخطيب للتأثير. وسواء أكانت الإشارات إرادية أم شعورية، فهي ذات أثر في تأكيد الكلام في نفس السامع وتقويته.

فنون الخطابة الإسلامية

فنون الخطابة الإسلامية: خطب الوعظ الديني تمهيد: الوعظ الديني هو الأمر بالمعروف في الدين والنهي عن المنكر فيه، وقد أجمعت عليه الشرائع، وهو القطب الأعظم في الدين، والأدلة على لزوم الأمر بالمعروف، والنهي عن المذكر كثيرة في الشريعة الإسلامية؛ حتى لقد عُدَّتْ -بحق- شريعة التواصي بالحق، والتناهي عن المنكر؛ فقد قال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] ، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران] . وقال جل شأنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . أقسام الوعظ: تتشعب الخطابة الوعظية إلى أربع شعب وهي: أ- خطب الدعوة إلى الإسلام أو الدفاع عنه: يجب على من يتصدى لهذا النوع من الوعظ أن يكون مرنا على الجدل، قوى الحجة، ناهض الدليل، خبيرا بشئون الجماعات ملما بالملل والنحل والعقائد القديمة والحديثة؛ ليستطيع الموازنة بين صحيح العقائد وسقيمها، وحقها وأكلمها، فإذا دعا أو جادل كان على بينة من أمره، وعند دعاية قوم إلى الإسلام يبين لهم من مبادئه ما يكون أحب لقلوبهم، والإسلام غني بالمبادئ التى تألفها الجماعات وتحبها؛ إذ هو دين الفطرة التي فطر

الناس عليها، ففيه مبادئ الحرية، وفيه مبادئ الشورى، وفيه مبادئ المساواة، وفيه مبادئ التعاون، وفيه مبادئ السلام، وفيه مبادئ الرحمة والعطف الإنساني، وكل جماعة ترضى ذلك وتألفه، فليقتبس الداعي إلى الإسلام قبسة من ذلك النور يتخذ منها مصباح دعوته؛ ليستضيء به في دياجير الضلال. وإذا آنس الداعي ممن يدعوهم إلفا ورغبة في التعرف بعد ذلك، بين لهم حقائق الإسلام كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفهم أسرارها وحكمها وصلاحها، وتاريخ الذين أقاموها. وإذا اعترض معترض على الإسلام فهاجمه في إحدى شرائعه أو مبادئه، وأراد الواعظ أن يرد عليه اعتصم بالمنطق في أشكاله وأقيسته فإنها هي التي تبين ما في الكلام من باطل. وعليه أن يوازن بين الإسلام وبين غيره من العقائد وخصوصا عقيدة الشخص الذي يدعوه أو يناقشه، وليكن ذكر الواعظ لما يعتقد غيره من غير سب، ولا لعن، حتى لا يحنق خصمه، فيندفع في الطعن في الإسلام، وتنتقل المجادلة من مناقشة عقلية إلى سب للعقائد ومعتنقيها، وليعتبر بقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، وبقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . وفي هذه الخطب الجدلية التي تشتمل على دعوى إلى الهداية المحمدية يتحرى الخطيب أن يتكلم بلغة من يدعمهم؛ ليستطيع أن يضع أفكاره في الألفاظ التى تدل عليها دلالة محكمة من غير احتمال لغيرها؛ ولتكن عباراته واضحة القصد بينة المقصد؛ لا التباس ولا غموض ولا إبهام، ولتكن بأسلوب رائق جذاب، وألفاظ تثير الخيال وتجتذب النفس. ب- خطب التعليم الديني للعامة: هذا النوع من الخطب دروس دينية يلقيها الواعظ على العامة، يعرفهم فيها أصول دينهم والأحكام الشرعية العملية التي يدعو إليها،

والفضائل الخلقية التي يحث عليها، ويجعلها أساسا لقيام الجماعة الإسلامية الفاضلة، وهذه الدروس إما بيان العقائد، وإما بيان الأحكام والفضائل، وعليه في بيان العقائد وإثباتها أن يبتعد كل الابتعاد عن الشروح الفلسفية، وأن يبتعد عن مواضع الخلاف ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليعول كل التعويل على الكتاب؛ فليبين لهم أوصاف الله كما ذكرها القرآن الكريم لا يتعداه، ولا يتجاوزه، وليذكر أوصاف النبيين كما وصفهم الله الأنبياء. وإذا كان الواعظ يعلِّم الناس أحكام دينهم وفضائله، فعليه أن يعمد إلى توضيح ذلك كل التوضيح. وفي هذه الخطب التعليمية يتحرى الخطيب أن تكون عباراته واضحة الصور في أذهان الناس من غير أي تنميق أو تحسين، فمقصده الأول أن تنتقل معانيه إلى أخيلتهم، فيتصوروها كما تصورها هو، وإن اضطر في سبيل ذلك إلى أن يكون درسه كله بالعامية فليفعل؛ لأن الغرض من هذا النوع من الخطب التفهيم لا التأثير، وتوضيح الفكرة لا تزيينها وإن كان أولى أن يعود نفسه على النطق باللغة العربية. جـ- خطب تثبيت الإيمان وتقويته: يتجه الخطيب إلى هذا النوع من الخطب؛ ليقوِّي اليقين في قلوب المؤمنين، ويثب دعائم الإيمان في قلوب المهتدين، ويلقي في نفوسهم الحماسة لدينهم. وليجعل الخطيب قوام خطبته الأمور الآتية: 1- فضائل الإسلام: فيبين لهم فضائله. وكيف كان طريق المجد والعلو في الدنيا والآخرة، ويبين لهم أنه عصمة للجماعات، وحفاظ لوحدتها، وأنه مربي الوجدان، وموقظ الضمائر، وأنه العاطف على المسكين وابن السبيل، والداعي إلى

الإخاء والحرية والمساواة، وأنه المشتمل على الشرائع التي تكون ممن يأخذون بها جماعة فاضلة، أسست على تقوى من الله ورضوان. 2- الكتاب: فيشرح بعض آيات الكتاب الحكيم المبينة حقيقة الإيمان الذاكرة أوصاف المؤمنين، وما يكون لهم يوم القيامة من منزلة، وما لهم في الدنيا من مكانة. فالقرآن بما حفَّ من جلال، وبما اشتمل عليه من إعجاز وبلاغة، وبما له من حلاوة، وما عليه من طلاوة يهز الإحساس، ويقوي الإيمان وفيه هدى للمتقين. وفي هذه الخطب تُختار الألفاظ القوية الرنانة التى تثير في النفس المعاني القدسية الروحية، وتذهب بها في مجال المعنويات، وتحلق بها في سماء الحقيقة. د- خطب الإصلاح ومحاربة المنكرات: يتجه الواعظ في هذه الخطب إلى إصلاح العيوب الشائعة الضارة بالمجتمع، الهادمة لبناء الأخلاق فيه، فقوام هذه الخطب محاربة المنكرات، ومنع الفواحش من أن تشيع في الذين آمنوا، ولكي يصل الخطيب إلى هدفه لا بد أن يجعل الخطبة متصدية لعيب واحد، وليبدأ الواعظ في خطبته بأكثر المعاصي خطرا، وأشدها هدما للدين، وفي وعظ الناس بالنهي عن المنكر يبين لهم الخطيب مضار المنكر التي تنزل بمرتكبه، الحائقة به، ثم يبين لهم مضاره بالمجتمع، ويستشهد بآيات القرآن الكريم وما فيه من دلالة على قبح ذلك المنكر، والآيات الواردة في الترهيب منه، والترغيب في نقيضه، وبمثل ذلك يستعين بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالمأثور رغبة، ويبين هديه عليه الصلاة والسلام وفي هذه الخطب ينوع الخطيب عباراته، فتارة يختار الألفاظ القوية

التي تهز الحس حسًا عنيفًا إن أراد تحذيرهم بالترهيب من سوء العاقبة، وتارة يختار الألفاظ السهلة اللينة الرقيقة إن أراد اجتذابهم إلى اليسير فيما فيه حسن المآل.

الخطابة في صدر الإسلام

الخطابة في صدر الإسلام: إن الإسلام نهضة عامة شاملة، لم يعهد لها من قبل في العالم مثيل، وكانت الخطابة عماد هذه النهضة وأداة فعالة من أدواتها، وكانت هذه النهضة دينية في روحها وأساسها، والدين فيض من النور الإلهي والرحمة الربانية، يمتد من السماء إلى الأرض، يضيء ظلماتها، ويبدد غياهب الجهالة فيها، ويؤدي رسالته الأولى في إصلاح المجتمع البشري، وتحقيق أسباب السعادة له في حياته، وليس الإسلام دين جمود، فيقف عند المطالب الأخروية، بل جاوزها إلى تحقيق المصالح الدنيوية فكان لا بد له من أن يتعرض لكل ما به صلاح أمور البشرية، في العقيدة والتشريع والمعاملات والحكم والسياسة والاجتماع والأخلاق والفكر، ولم يدع مجتمعا إلا حض عليه، وأقام من شأنه، وطلب فيه من القول ما هو ضروري له، كخطبة الجمعة والعيدين وموقف عرفات وغيرها، ولذلك كان صاحب هذه الدعوة يمثل الإمام الهادي، والفيلسوف المشرع، والحاكم العادل، والزعيم السياسي، والقائد الحربي، والمصلح الاجتماعي، والرائد الفكري، وكذلك كان خلفاؤه من بعده. وقد جالت خطابة هذا العصر في هذه الميادين جميعا، وإن كانت وجهتها الرئيسية وجهة دينية، وكان غرضها الأساس إقامة عمود الدين، ورفع منار الإسلام، فكانت هناك خطب دينية، شملت العقائد والدعوة إلى الإسلام، والتشريع بما فيه من تبين الحدود وإقامة معالم الحلال والحرام، والوعظ والإرشاد بما فيه من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحث على مكارم الأخلاق، وتبشير وإنذار

الطابع العام للخطابة في صدر الإسلام: 1- ظهور الطابع الديني: من دعوة إلى الإسلام، ودفاع عنه، وبيان للعقائد، كوجود الله ووحدانيته وقدرته وخلقه الكائنات، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وسائر الغيبيات، وسن الشرائع والأحكام المفيدة للناس، المنظمة للحياة الشخصية وللمعاملات بين الناس، المبينة للفرائض، الموضحة للحلال والحرام، ووعظ للعامة، وحث لهم على التزام حدود الشرع الحنيف، وقصص فيه عبرة وزجر. 2- اختيار خطب ذات أهداف إنسانية عامة، وغايات كريمة سامية، من تحرير النفوس والعقول والأرواح من قيود الشرك والضلالة، وإخراجها من ظلمات الوثنية والجهالة. 3- اتساع مجال الخطابة الاجتماعية، فقد أخذت دائرتها تتسع، وتتجه في نواحي الحياة العامة وجهات مختلفة نافعة، وتعرضت من التعاليم والآداب والشئون العامة إلى ما لا غنى عنه للناس في مجتمع يتحضر. 4- اتساع دائرة الخطابة، والخروج بها إلى مجال التعبير عن الأغراض السامية والفكر الراقي، في الكون وقيامه، والوجود ونظامه، والمجتمع وعوامل بقائه وارتقائه، وما ينبغي أن يقوم عليه من أسباب، ويسوده من آداب، والبعد بها عن الإسفاف بالانحصار في مطالب العيش الرخيصة، فكان انقلابا كبيرا أن ترتفع الخطابة لتعبر عن الحياة الإنسانية في صراعها الأدبي والعقلي والعاطفي المحتدم حول المبادئ والمعتقدات والآراء، ولا تسف لتصور الحياة الحيوانية، في صراعها الدموي حول لقمة العيش وتنازع البقاء، وإن تسعى سعيها؛ ليقوم الحق والخير والبر والفضيلة مقام الباطل والشر والإثم والرذيلة.

خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم: إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قبل كل شيء جاء؛ ليبلغ رسالات ربه، فمهمته الأولى هي الرسالة والتبليغ، وما هذه المهام الكثيرة التي تولاها إلا فروع لتلك المهمة الكبرى، ومعينة عليها، نبتت على حواشيها، ونشأت في خدمتها، والرسالة والتبليغ لا يتم إلا ببلاغة وبيان؛ لأن البلاغ والتبليغ إيصال الكلام للسامعين على أحسن صورة، وبما به يكون الإفهام وإلإقناع، فلكل كلام وزن، وكل قول بمقدار، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1، وقال سبحانه عن نبيه داود: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 2، ولهذا قال موسى لربه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} 3، فإذا كانت الفصاحة والبلاغة مطلوبة في دعوة موسى وغيره من الأنبياء، فرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- أولى وأوجب، ودعوته أعم وأرحب، وقومه فرسان البيان، وأئمة القول. لهذا كان من أبرز صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأجلى آيات عظمته البلاغة البليغة، وأنه في الذروة العليا من البيان وفصاحة اللسان، وأن التبليغ البليغ كان السمة المشتركة بين أفانين قوله كله، وما كان لنا أن نقول في هذا المقام بعد أن قال تعالى عنه ما قال، وقال هو عن نفسه: "أعطيت جوامع الكلم" نشأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- نشأة قرشية بدوية خالصة، واسترضع من بني سعد بن بكر، فاجتمعت له فصاحة اللسان واللغة، واللهجة الجميلة الوقع، يستريح لها

_ 1 سورة إبراهيم: الآية 4. 2 سورة ص: الآية 20. 3 سورة القصص: الآية 34.

السمع، والمنطق العذب المفصل، تجد النفوس حلاوته. كما اجتمعت له القدرة على تأليف القلوب، وتحصيل الثقة، إلى قوة الإيمان بدعوته، وغيرته البالغة عليها، وحرصه الشديد على نجاحها، فاجتمع له بذلك كل أسباب البلاغ للرسول، والنجاح للخطيب، وثقة القوم بصدق الداعي أو الخطيب أساس إجابته، وشرط لنجاح دعوته، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قومه مثلا للأمانة والصدق، حتى لقبوه فيما بينهم "الصادق الأمين". هذه هي الخطوط الأساسية العريضة البارزة التي تشير إلى شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتومئ إلى نزعاته، وقد بقي أن تصل بينها وبين خطابته، وتنظر آثارها فيها.

من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم

من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم: 1- خطبته في عشيرته: عندما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفا، فصعد عليه، ثم نادى الناس، فاجتمعوا عليه، فقال: "يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا نعم؛ ما جربنا عليك كذبا، قال: إني نذير لكم بيد يدي عذاب شديد".2 فما سمعنا بمثل هذا الإيجاز، ولا بمثل هذا الإعجاز، لقد جعل من خطبته قضية منطقية، ألزمهم بها الحجة، وانقطع بها ما كان يمكن أن يقوم من جدل. فهذا قول المبلِّغ، الذي يحرص على ألا يقيم بينه وبين غايته حواجز من التكلف والصنعة، والغموض، وسبيل الرسول الذي يريد أن يصل إلى قلوب سامعيه، من أقرب سبيل، ويبلغ رسالته كأحسن ما يكون التبليغ. هذا قول رجل يتذرع بما عرف قومه من صدقه وأمانته للتأثير فيهم، وترغيبهم في دعوته، وحملهم على موافقته.

_ 1 سورة الشعراء: الآية 214. 2 البداية والنهاية 3/ 38.

أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه

2- أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه: حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الرائد1 لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا"2. تعليق: إن الدين الإسلامي قد احتضن المثل والفضائل كلها وعانق حياة الناس من جميع أطرافها بحيث أصبح الدين والخلق توأمين لا ينفصلان، وإذا كان الدين والخلق على هذا النحو توأمين، فإن التقوى هي العروة الوثقى التي تربط بينهما، وهي الروح التي فيها يشتركان وإذا كان هذا هو جوهر الدين الجديد فإن من الطبيعي أن يؤكد الرسول عليه الصلاة والسلام على هذه المعاني التي تجمع بين الدين والأخلاق. وأن يقرن هذا بأوائل خطبته التي أكد فيها صدق رسالته ووثوق مصدرها ووجود الله سبحانه وتعالى، وحقائق الموت والبعث والثواب والعقاب، ولذلك جاءت هذه الخطبة معبرة عن هذه المعاني، وعن معني الإيمان به رسولا وبرسالته من الله، فكان ذلك نقطة البدء ومنطلقا لكل القيم والمثل في دعوته الجديدة، ولذلك تتفق معاني هذه الخطبة مع معاني السور المكية. وقد استخدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألفاظا جزلة، وعبارات قوية، رائعة التقسيم، تسمع فيها صوت البشير النذير، يؤكد قوله بألوان من التأكيد، وصور أخاذة، متنوعة، متتابعة، وتآلف بين اللفظ والمعنى، في إيجاز هو الإعجاز، مع الوضوح والسلاسة، والعذوبة والطبيعة في اتخاذ الحلية اللفظية، فأنت تتأثر

_ 1 المرسَل في طلب الكلا. 2 السيرة الحلبية 1: 272، والكامل لابن الأثير 2: 27.

بها، ولا تكاد تلحظها؛ لأنها الحلية التي تليق بالإنسان العظيم، فالجمل متساوية، والمقابلة فيها متعددة، ولكنها غير مصنوعة ولا متعمدة، وفيها السجع والازدواج اقتضاهما المقام، فازدان بهما الكلام، ثم هو يتكئ في استمالتهم إلى أسباب من المودة والثقة، قامت من قبل بينه وبينهم، وألوان من التحبب العاطفي أثرت عنه، يفتح بها مغاليق قلوبهم. فهذه الصفات الكلامية ليست إلا للملامح البارزة في شخصية الرسول، القادر على تبليغ رسالته، قوية واضحة مؤثرة طبيعية، في إطار من الرفق بقومه، والمودة لهم، والثقة التى وجبت بينهم، وقد قدم لهذه الخطبة الوجيزة بكلمات كأحسن ما تكون المقدمات، صلة بالموضوع، وضمانا لقبوله، وإن شئت فقل: إنه وضع أساس الاقتناع بدعوته تلك الكلمات القلائل. ولن تجد قولا كهذا يدل على قائله، وينتسب إلى صاحبه، ولو أنك عرضته على عالم باللسان العربي، وبشيء من تاريخ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسألته: من تظن قائل هذا؟ لأجابك دون تردد: هذا دون ريب قول خاتم المرسلين. وعلى يدي هذه المواهب النبوية، وباهر الآيات الكتابية تخرج البلغاء، وعنهما أخذت القوانين والأصول البيانية والبلاغية، وفي مثل هذه الخطبة القصيرة تتمثل بعض الأسس الخطابية الهامة التي ينادي بها المحدثون، ويذكرون غناءها في عالم الخطابة، وأثرها في نجاحها، "ويدخل في نطاق العلاقة بين الخطيب ومستمعيه مدى حكمته في كيف يتسلل إلى العواطف والدوافع التي لها أكبر الأثر فيهم؛ فيصل بذلك إلى نطاق أفكارهم، وأن يقدر مستوياتهم وذكاءهم، وأن يضرب على الوتر الحساس، الذي يمس ما يتعاطفون به، ويستجيبون له".

خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة

3- خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة: "الحمد الله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأومن به ولا أكفره وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد1، ومن يعصمها فقد غوى وفرط، وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله؛ فإنه خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرا، وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد، والذي صدق قوله، وأنجز وعده لا خلف لذلك؛ فإنه يقول عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية؛ فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله يُوقي مَقْتَه، ويوفي عقوبته، ويوقي سخطه، وإن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضى الرب، ويرفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة،

_ 1 كنصر وفرح.

ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، وأعملوا لما بعد اليوم؛ فإن من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، والله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم"1. والخطبة موعظة رائعة، يستهلها الرسول الكريم بتقرير وحدانية الله وأنه أتم نعمته على الناس بإرساله كي يخرجهم مما هم فيه من غواية وضلالة ويدخلوا في رعايته الإلهية، فلا يعملوا عملا بدونه. ليتركوا إذن الوراثة الضالة والوسط المشفى على الهلاك، ويجتمعوا على هدى الله وتقواه، وليستشعروه في السر والعلانية؛ فإنه يعلم خائنة الأعين وما يستكن في الصدور، وليقدموا من خشيته وطاعته ما يكفرون به عن سيئاتهم وتبيض به وجوههم يوم الحساب حتى يدخلوا في جناته. إنه يوم ما بعده مستعتب، فإما الجنة وشفيعها العمل الصالح، وإما النار وبئس القرار. ويدفعهم دفعا إلى الجهاد في سبيل الله ونشر دعوة الحق والخير، فقد اجتباهم واختارهم؛ ليضطلعوا بأمانة الرسالة المحمدية، ولينشروها في أطراف الأرص، والرسول في كل ذلك يستوحي القرآن وآياته، وهي تقف منارات في موعظته، يستمد من إشعاعاتها ما يضيء به كلامه، بل إن وراء هذه المنارات منارات أخرى من هدي القرآن، بحيث نستطيع أن نرد كل موعظته إلى ينابيع الضوء التي تفجرت منها؛ إذ كانت تسيل في نفسه، بل كانت تشع بمعانى نورها، كما يشع نور الشمس في السماء.

_ 1 تاريخ الطبرى جـ2 ص 255.

خطبة له عليه الصلاة والسلام

4- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس إن لكم معالم1 فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن العبد بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجل باقٍ لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فوالذي نفس محمد بيده: ما بعد الموت من مستعتب2، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. "تهذيب الكامل 1: 5، إعجاز القرآن 110، البيان والتبين 1: 165، عيون الأخبار م2، ص213، وغرر الخصائص الواضحة 150". يبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- معالم الدين وحدوده، وهي أيضا معالم الأخلاق وحدود الآداب، وعلى ضوئها تمضي معاملات العبد المؤمن، والله يقضي في كل ذلك ويحكم، والجنة والنار مرة أخرى هما النهاية التي ينتهي بها هذا الطريق بما فيه من معالم.

_ 1 جمع معلم كمذهب، وهو الأثر يستدل به على الطريق، والمراد حدود الشريعة المطهرة. 2 استعتبه: أعطاه العتبى "وهي الرضا والصفح" وطلب إليه العتبى.

خطبة له عليه الصلاة والسلام

5- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسو عليه قلوبكم، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، اتقوا الله حق تقاته، وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، والسلام عليكم ورحمة الله". "إعجاز القرآن ص100". يؤكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خطبته صلة المؤمن بالقرآن الكريم وحفظه والمحافظة عليه، والعمل به، والاهتداء بخلقه، وبذلك تقترن هذه المعاني الخلقية جميعها بكتاب الله، ويتحلى بها من زينه الله في قلبه، وردده في حديثه، وأكثر من ذكره، وشغل به نفسه بعيدًا عن ترهات الناس وثرثرة ألسنتهم، فكتاب الله إذن ينبوع القيم ودستور الفضائل، تنبعث منه التقوى في القلوب، تعلق بمحبة الله، وترتبط بكل المحبين لله، وتكون النتيجة المنطقية لهذا محبة الإنسان لأخيه الإنسان، فتصلح بذلك حياة المجتمع.

خطبته في حجة الوداع

6- خطبته في حجة الوداع: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح1 بالذي هو خير، أما بعد: أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم حرام عليكم، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد! فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدا به ربا عمى العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن

_ 1 الاستفتاح: الافتتاح والاستنصار.

ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب1، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود2، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه3 قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، أيها الناس: إنما النسيء4 زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما، ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله

_ 1 وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته بنو هذيل. 2 القود: القصاص، أي من قتل عمدا يقتل. 3 في رواية الكامل لابن الأثير: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه يطاع فيما سوى ذلك، وقد رضي بما تحقرون من أعمالكم". 4 أي تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه، وحرموا مكانه شهرا آخر فيحلون المحرم، ويحرمون صفرًا، فإن احتاجوا أحلوه وحرموا ربيعًا الأول، وهكذا حتى استدار التحريم على الشهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، وأول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني، كان يقوم على جمل في الموسم فينادي: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي في القبائل: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم، فحرموه. زيادة في الكفر، أي كفر آخر ضموه إلى كفرهم. ليواطئوا: أي يوافقوا عدة الأشهر الأربعة المحرمة، وكانوا ربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ ليتسع لهم الوقف، ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حراما أيضا، ولذا نص على العدد المبين في الكتاب والسنة، وكان وقت حجهم يختلف من أجل ذلك، وكان في السنة التاسعة التى حج فيها أبو بكر بالناس في ذي القعدة، وفي حجة الوداع في ذي الحجة، وهو الذي كان على عهد إبراهيم الخليل ومن قبله من الأنبياء في تحريم الأشهر الحرام، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "إن الزمان قد استدار ... إلخ" -راجع تفسير الألوسي ج3 ص 305.

السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله، يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وواحد فرد: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب1 الذي يبن جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!. أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حق، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أُذِنَ لكم أنت تعضلوهن2 وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوانٍ3 لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد!. أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد! فلا ترجعنَّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده، كتاب الله، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!. أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد! قالوا نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب.

_ 1 قالوا في تثنية رجب وشعبان: رجبان للتغليب. 2 العضل: الحبس والتضييق. 3 جمع عانية من عنا، أي خضع وذل، والعاني: الأسير.

أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله. "البيان والتبيين 2: 15، العقد الفريد 2: 13، إعجاز القرآن 111، شرح ابن أبي الحديد 1: 41، تاريخ الطبري 3: 168، الكامل لابن الأثير 2: 146، سيرة ابن هشام 2: 390". وواضح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلم بالحمد لله والشهادة؛ لينتقل إلى شرح الآية الكريمة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، ويصوغها بأسلوبه؛ ذلك أن الحسب والنسب الجاهليين ومظهر القوة الذى ارتدت إليه القيم الجاهلية لم يعد أساس الرفعة أو الوضاعة، وإنما يرجع الأمر كله إلى تقوى الله، باعتباره دعامة الفضيلة وميزان التفاضل بين الناس. وفي كل ذلك تكمن الثورة الروحية الكبرى التي جاء بها الإسلام، فانتظمت علاقة الإنسان بالله في صورة التقوى، وبصورة التقوى نفسها تنتظم أيضا علاقة الإنسان بأخيه الإنسان على نحو فريد. وعلى ضوء هذا تتعدد صور التقوى ممثلة في مختلف الأعمال الصالحة. ثم انتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليبين طائفة من التشريعات الإسلامية التي أقامها الدين الحنيف حدودا بين حياة العرب في الجاهلية وحياتهم في الإسلام، فقد كانوا مفككين متنافرين يتحاربون دائما؛ طلبا للأخذ بالثأر ونهبا للأموال. وجمعهم الإسلام تحت لوائه في جماعة كبرى متآخية متناصرة لا يبغي بعضهما على بعضه، ولكي يقضي على كل سبب للحرب بينهم رد دم القتيل إلى الدولة فهي التي تعاقب عليه، ولكي يستأصل هذا الداء دعا إلى التنازل

عن حق الأخذ بالثأر القديم، وحزم النهب والسلب تحريما قاطعا مشدد فيه العقوبة. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يبين في الخطبة أوامر الإسلام ونواهيه بإعلان أن دماء المسلمين وأموالهم حرام، وأن كل من كانت عنده أمانة أن يردها على صاحبها، وأن على كل مسلم أن يرعى أخاه في ماله، فلا يأخذ منه شيئا إلا بالحق، ومن ثَمَّ حرم الربا، وبدأ بعشيرته وتاجرها الموسر العباس عبد المطلب فأسقط عن رقاب المدينين له رباه. وعلى نحو ما أسقط الربا أسقط دماء الجاهلية، فليس لمسلم أن يثأر لقتيل له، وبدأ بعشيرته فأسقط دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ولم يُبقِ من مآثر الجاهلية شيئا سوى خدمة الكعبة وسقاية الحجيج، وأوجب في قتل العمد القود، ولكن الدولة هي التي تقوم به، وبذلك قضى الإسلام على حروبهم الداخلية، وقد جعل في القتل شبه العمد مائة بعير؛ كل ذلك ليحفظ للجماعة وحدتها ويسود بين أفرادها السلام والوئام. ويحذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الشيطان وغواياته، محرما للتلاعب بالأشهر الحرم، واضعا تقويما قمريا يتآلف من أثني عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. ويرفع من شأن المرأة ومعني علاقاتها بزوجها، فيجعل لها حقوقا وعليها واجبات، وفي الطرفين جميعا يحفظ لها كرامتها كما يحفظ لزوجها نفس الكرامة، داعيا إلى التعاطف بينهما والتراحم والتعامل برفق وإحسان. ويعود إلى العلاقة بين الفرد وجماعته الكبرى من الأمة، فيقرر أن المؤمنين إخوة، لكل منهم على صاحبه ما للأخ على أخيه من التآزر والتعاون والتحاب، فلا بطش ولا ظلم ولا نهب، ولا حرب ولا سفك للدماء. وإنه لعهد

من نقضه عاد كافرًا آثما قلبه. لقد انتهى عهد الحياة القبلية وكل ما اتصل بها من تنابذ وتفاخر، فالناس جميعا لآدم، ولا عربي عدناني ولا عربي قحطاني، بل لا عربي ولا أعجمي، فقد وضعت موازين جديدة لحياة العرب، فلم يعد التفاضل بالنسب والحسب، إنما أصبح بالتقوى فهي معيار التفاضل، ويلفت الرسول سامعيه إلى ما قرره القرآن الميراث وأنصبته، وأن للمورث أن يوصي بالثلث من ماله، ويرسي قاعدة مهمة في شرعية الأبناء، وخاصة هؤلاء الذين تلدهم العواهر، فينسبهم إلى أصحاب الفراش، وكانوا ينسبونهم إلى غير آبائهم، وقد لا ينسبوهم أبدا، فحرم ذلك تحريما باتًّا، وبذلك قضى عليه نبالة النسب من جهة الخئولة قضاء مبرما. وعلى هذا النحو كان الرسول صلوات الله عليه يبين في خَطابته حدود الحياة الإسلامية وما ينبغي أن يأخذ به المسلم نفسه في علاقاته الكبرى مع أفراد أمته وعلاقاته الصغرى مع أسرته. فإن ترك ذلك فإلي وعظ المسلمين وما ينبغي أن يأخذوا أنفسهم به، في سلوكهم حتى تزكو نفوسهم، وفي عبادتهم لربهم وتقواه حق التقوى حتى لا يزيغوا ولا ينحرفوا عن المحجة، بل يتدرجون في مراقي الكمال الإنساني. وهذه الخطبة وسابقتها تصوران في دقة حسن منطق الرسول في خطابته، وأنه لم يكن يستعين فيها بسجع ولا بلفظ غريب، فقد كان يكره اللونين جميعا من الكلام لما يدلان عليه من التكلف، وقد برأه الله منه؛ إذ يقول في كتابه العزيز: قل يا محمد: "ما أنا من المتكلفين". والذي لا شك فيه أنه كان يبلغ بعفوه وقوى فطرته ما تنقطع دونه رقاب البلغاء، وقد وصف الجاحظ بلاغته في خطابته أدق وصف، فقال إنه: جانب أصحاب التقعيب1،

_ 1 التقعيب: التقعير وهو التكلم بأقصى قعر الفم.

واستعمل المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، لم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالترفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقسم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة ... ولم يسمع الناس بكلام قد أعم نفعا ولا أقصد لفظا ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين في فحوى، من كلامه -صلى الله عليه وسلم- ونضيف إلى الجاحظ أنه عليه السلام هو الذي فتق معاني هذه الخطابة الدينية التي لم يعرفها العرب قبله، فهو الذي رسمها، وفجر ينابيعها بحيث أصبحت مادة للخطباء من بعده، وكأنما احتشد الكلم بأزمته إليه؛ ليختار منه أفصحه وأسلسه وأبينه في الدلالة، يسعفه في ذلك ذوق مرهف وحسن دقيق نتبينهما فيما روي عنه من قوله: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي" كراهية أن يضيف المسلم الطاهر إلى نفسه الخبث، مما يدل على أنه لم يكن ينطق إلا باللفظ المختار البريء من كل ما يستكره، اللفظ الذي يحبب إلى النفوس؛ لحلاوته وعذوبته وصفائه ونقائه.

خطبته يوم فتح مكة

7- خطبته يوم فتح مكة: وقف على باب الكعبة ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة1 أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت2، وساقية الحاج، ألا وقتل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا، فيهما الدية مغلظة، منها أربعون خلف3 في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها4 بالآباء، الناس من آدم، وآدم خلق من تراب، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ... الآية [الحجرات] "يا معشر قريش "أو يأهل مكة" ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا. خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. "تاريخ الطبري 3: 12، وإعجاز القرآن ص 112، والكامل لابن الأثير 2: 121 وسيرة ابن هشام 2: 273". في هذه الخطبة يؤكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إسقاط الإسلام لقيم الجاهلية التي تتنافى مع المبدأ الأساسي فيه، وهو مبدأ الأخوة، فقد حرم الله التفاخر بالمآثر والتعظم بالآباء والأخذ بالثأر، وأحل محل ذلك كله أخوة طيبة ومساواة كاملة بين الناس، فالناس جميعا من آدم متساوون في الخلق مرتبطون بالأخوة، ولم يكن يخفى على كفار قريش خلق محمد الأمين وروح الأخوة النقية التي تحلى بها، وبالرغم من كل ما فعلوه من قبل لم يتوقعوا منه نعمة أو عقابا وقد مكنه الله منهم، وإن كانوا هم الذي رفضوا أخوته، ولم يستجيبوا لهذه الروح، فأذوه، وأخرجوه من داره، وأهدروا دمه، ولكن شيئا من هذه النقمة لم يقع، فقد ضرب الرسول الكريم مثلا رائعا عبرت عنه أروع كلمات العفو عند المقدرة في قوله: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ولم يكن هذا ليكون إلا من أخ كريم وابن أخ كريم كرَّس حياته من أجل سنة ينطبق منها الفعل على القول، وما كان له ليحيد عن ذلك في كل موقف من مواقفه وتحت كل الظروف.

_ 1 المأثرة: المكرمة. 2 خدمة الكعبة. 3 الخلفة: الحامل من النياق. 4 تعظم: تكبر.

خطبة له يوم أحد

8- خطبة له يوم أحد: قام عليه الصلاة والسلام فخطب الناس فقال: "أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه، من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطَّن نفسه على الصبر واليقين، والجد والنشاط؛ فإن جهاد العدو شديد كربه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده، إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتسموا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به؛ فإني حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو ما لا يحبه الله، ولا يعطي عليه النصر. أيها الناس، إنه قذف في قلبى أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر له ذنبه، ومن صلى على محمد وملائكته عشرا، ومن أحسن وقع أجره على الله في عاجل دنياه، أو في آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا1، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد.

_ 1 الحديث لا يخلو من كلام.

ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم، وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم؛ فإنه لا يُقدَر على ما عنده إلا بطاعته، قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينها شبهًا من الأمر لم يعملها كثير من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه، وليس ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد، إذا اشتكى تداعي إليه سائر جسده، والسلام عليكم". "شرح بن الحديد 32: 365".

خطبته بالخيف

9- خطبته بالخيف: وخطب بالخيف من منى فقال: "نضر1 الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل2 عليهن قلب المؤمن: إخلاص العلم لله، والنصيحة لأولى الأمر، ولزوم الجماعة، إن دعوتهم تكون من ورائه، ومن كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له". "إعجاز القرآن ص112".

_ 1 من النضرة والنضارة: وهي الحسن. 2 غلَّ صدره يغلّ كضرب غِلًّا: وهو الحقد والضغن.

خطبة له عليه الصلاة والسلام

10- خطبة له عليه الصلاة والسلام: من خطبه أيضا أنه خطب بعد العصر فقال: "ألا إن الدنيا خضرة حلوة، ألا وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلا مخافة الناس أن يقول الحق إذا علمه. ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على أطراف السعف فقال: إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى". "إعجاز القرآن ص113".

خطبة له عليه الصلاة والسلام

11- خطبة له عليه الصلاة والسلام: ألا1 أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، ترزقوا وتؤجروا وتنصروا. واعلموا أن الله -عز وجل- قد افترض عليكم الجمعة، في مقامي هذا، في عامي هذا، في شهري هذا، إلى يوم القيامة، حياتي ومن بعد موتي، فمن تركها وله إمام فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا بر له، ألا ولا يؤم أعرابي مهاجرًا، ألا ولا يوم فاجر مؤمنا، إلا أنه يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطة". "إعجاز القرآن ص110"

_ 1 حرف انتقال.

خطبة له عليه الصلاة والسلام

12- خطبة له عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر، عما قليل إلينا راجعون، نبوئهم أجداثم، ونأكل من تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة، وأمنا كل جائحة1، طوبى2 لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم تستهوه البدعة". "صبح الأعشى 1: 213".

_ 1 الجوح: الإهلاك والاستئصال كالاجتياح. 2 مؤنث أطيب؛ والحسنى والخير، وشجرة في الجنة أو الجنة.

خطبته في الاستسقاء

13- خطبته في الاستسقاء: روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم وآله- في عام جدب، فقال: أتيناك يا رسول الله، ولم يبق لنا صبيٌّ يرتضع، ولا شارف1 تجتر، ثم أنشده: أتيناك والعذراء يدمي لبانها2 ... وقد شغلت أم الرضيع عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع حتى ما يمرُّ ولا يحلي3 ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العاميّ والعلهز الفسلِ4 وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرُّسْلِ؟

_ 1 الشارف من النوق: المسنة الهرمة كالشارفة. 2 أي يدمي صدرها؛ لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان. 3 أي ما يضر وما ينفع، أو ما يأتي بكلمة ولا فعلة مرة ولا حلوة. 4 العامي: الذي أتى عليه عام، قال الشاعر: "من أن شجاك طلل عامي" والعلهز: طعام من الدم والوبر كان يتخذ في المجاعة، والفسل: الرديء الرذل من كل شيء.

فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا مريعا 1، سحا سجالا 2، غدقا 3، طبقا 4، ديما دررا 5، تحيي به الأرض، وتنبت به الزرع، وتدر به الضرع، واجعله سقيا نافعة، عاجلا غير رائب" 6. فو الله ما رد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآله يديه إلى نحره, حتى ألقت السماء أرواقها7، وجاء الناس يضجون: الغرق الغرق يا رسول الله، فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فانجاب8 السحاب عن المدينة، حتى استصدار حولها كالإكليل، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه9. "شرح ابن أبي الحديد م3 ص 316".

_ 1 المريع: الخصيب، أي تخصب به الأرض التي ينزل عليها. 2 أي متداولا بين البلاد، ينال كل منها نصيبه منه، والسجل بالفتح: النصيب والدلو المملوءة العظيمة، ويقال: الحرب سجال؛ أي نصرتها بين القوم متداولة سجل منها على هؤلاء وآخر على هؤلاء. 3 الغدق: الماء الكثير. 4 أي مالئًا للأرض مغطيا لها، يقال غيث طبق: أي عام واسع يطبق الأرض. 5 هو جمع درة بالكسر، يقال للسحاب درة: أي صب واندفاق، وقيل الدرر: الدار، كقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا} أي قائما. 6 أي غير بطئ. 7 ألقت السحابة أرواقها: أي مطرها ووبلها. 8 انكشف. 9 نواجذه: أقصى الأضراس.

خطبته في مرض موته

14- خطبته في مرض موته: عن الفضل بن عباس قال: جاءني جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إليه فوجدته موعوكا قد صبّ رأسه، فقال: خذ بيدي يا فضل، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد في الناس، فاجتمعوا إليه، فقال: "أما بعد: أيها الناس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني خفوق1 من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليستقدَّ2 منه، ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضي فليستقدَّ منه.

_ 1 خفق النجم يخفق خفوقا: غاب، والطائر: طار، والليل: ذهب أكثره. 2 فليقتصَّ، من "القود" وهو القصاص، أقاد القاتل بالقتيل قتله به، واستقاد الحاكم سأله أن يقيد القاتل بالقتيل.

تعليق على خطب النبي -صلى الله عليه وسلم

تعليق على خطب النبي -صلى الله عليه وسلم: 1- كان -صلى الله عليه وسلم- يقول في حمده لله والثناء عليه: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". 3- كان -صلى الله عليه وسلم- يقتبس من القرآن الكريم في خطبة فيقول: {وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 1. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. 4- وكان -صلى الله عليه وسلم- يعظ في خطبه ويحذر بالقرآن وخصوصا سورة "ق" لما حوته من ذكر البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة. 5- وكان -صلى الله عليه وسلم- يخطب في الجمعة، قائما، ثم يقعد قعدة لا يتكلم ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى. 6- وكانت خطبته -صلى الله عليه وسلم- مقتصدة قصيرة. 7- وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا في خطبته لم يرفع يديه. 8- وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا في خطبته لا يخص نفسه بالدعاء.

_ 1 سورة النساء: الآية 1. 2 سورة آل عمران: الآية 102.

9- وكان المؤذن لا يؤذن إلا بعد جلوس النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر. 10- وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع النداء وهو جالس على المنبر يردد ما يقوله المؤذن. 11- وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا انتهى المؤذن من النداء استقبل الناس بوجهه ليخطبهم، واستقبله الناس ليسمعوه.

من خطب أبي بكر رضى الله عنه

من خطب أبي بكر رضى الله عنه مدخل ... من خطب أبي بكر رضى الله عنه: كان أبو بكر -رضي الله عنه- أول من أسلم من الرجال، وكان أحب رفيق إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد نوه القرآن بذكره1 حيث قال سبحانه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} 2، وقال في مصاحبته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} 3، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- استشاره، وعمر -رضي الله عنهما- في أسرى قريش، فأشار أبو بكر بالمنِّ عليهم، وإطلاقهم، وأشار عمر بعرضهم على السيف واستصفاء أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي4 أيدني بكما، أما أحدكما فسهل رحيم رفيق مثله كمثل إبراهيم عليه السلام إذ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5، وكمثل عيسى عليه السلام إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6، وأما الآخر فصلب في دين الله، قوي شديد مثله كمثل نوح -عليه السلام- إذا قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ

_ 1 أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي "350-429هـ" الاقتباس من القرآن الكريم جـ1 تحقيق الدكتورة ابتسام مرهون الصفار -ص 108-109- الهيئة العامة لقصور الثقافة. 2 سورة الزمر: الآية 33. 3 سورة التوبة: الآية 40. 4 زيادة ليست في الأصل. 5 سورة إبراهيم: الآية 36. 6 سورة المائدة: الآية 118.

إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} 1، وموسى عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 2. وأبو بكر -رضى الله عنه- خير من يمثل المسلم بأخلاقه وفضائله وحميته للدين وتأثره بهدي القرآن الكريم وبالرسول -صلى الله عليه وسلم- تأثرا استحوذ على كل نفسه، فإذا لسانه يتدفق تدفق السيل، بما استشعر من معاني الإسلام وقيمه الروحية، وقد أثرت عنه خطب كثيرة، تدل دلالة واضحة على شدة شكيمته في الدين ويقظته وصدق حسه، وأنه حقا كان أجدر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخلافته.

_ 1 سورة نوح: الآيتان: 26، 27. 2 سورة يونس: الآية 88.

خطبته بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

1- خطبته بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: لما قبض الله نبيه صلوات الله عليه لم يجسر أحد من المسلمين على نعيه واضطرب الناس وماجوا، وقالوا وقال معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رسول الله لم يمت. أقبل الصديق فكشف عن وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا. وخرج من عنده فبدر الصحابة بخطبته المشهورة بعد أن حمد الله، وأثنى عليه: "أيها الناس إن من كان يعبد محمدًا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، والله قد نعاه الله إلى نفسه في أيام حياته فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 2 و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 3، ثم قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 4 إلا أن محمدا قد مضى لسبيله، ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبروا، وانظروا، وهاتوا آراءكم"، فبكي الناس، ونادوه من كل جانب، نصبح وننظر من ذلك إن شاء الله5.

_ 1 سورة الزمر: الآية 30. 2 سورة الأنبياء: الآية 34. 3 سورة آل عمران: الآية 185. 4 سورة آل عمران: الآية 144. 5 الثعالبي، الاقتباس من القرآن الكريم ص109، 110 مرجع سابق.

خطبته في سقيفة بني ساعدة

2- خطبته في سقيفة بني ساعدة: انتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى.. وهنا تميد الأرض تحت أقدام القوم في المدينة من هول الصدمة.. ويقف المهاجرون والأنصار أمام امتحان الأخوة في مدرسة الأخلاق، ويلتف الأنصار حول سعد بن عبادة في السقيفة، فيتحدث سعد إليهم مبينا سابقتهم في الدين، وتحليهم بالفضيلة والكرامة والإعزاز للرسول -صلى الله عليه وسلم- والمنع لأصحابه، ثم لقد رضي عنهم الرسول الكريم ونصر الله بهم دينه، فليستبدوا إذن بهذا الأمر دون الناس؛ لأنه لهم1، وقد أوصى الرسول المهاجرين بهم خيرًا قبل وفاته2. ولكن أبا بكر يتدارك الأمر، فيقف خطيبا من القوم، يردهم إلى معنى الأخوة الذي ضربوه من قبل للناس مثلا، ويؤكد لهم عزيز مكانتهم في الإسلام، ولكنه يذكرهم بمكانة المهاجرين، فهم أسبق إلى الإسلام منهم، يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

_ 1 تاريخ الطبري جـ3 ص218. 2 سيرة ابن هشام جـ4 ص399.

" ... نحن المهاجرون، أول الناس إسلاما، وأوسطهم دارا، وأكرم الناس أحسابا، وأحسنهم وجوها، وأكثر الناس ولادة في العرب وأمهم رحما برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فأنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الفئ، وأنصارنا على العدو، أويتم ونصرتم وآسيتم، فجزلكم الله خيرا. نحن الأمراء وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، وأنتم محقوقون ألا تنفسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم"1. فأبو بكر هنا يشير إلى هذه المعاني التي تعددت في حياة القوم؛ لتبرز معنى الأخوة، فالمناصرة والإيواء والمواساة. كل ذلك يجزيهم الله عنه خيرا؛ لأن الله أمر به، وهم أطاعوا واستجابوا لأخلاق الدين ... ولكن الأخوة ينبغي أن تبقى وأن تستمر، بقاء الإيمان بالدين واستمراره، والتآلف بين القلوب نعمة من نعم الله ينبغي المحافظة عليها. والإخوان بعد هذا ينبغي أن يذكروا فضل المهاجرون وسبقهم في الدين، ومكانة قريش في العرب. وبذلك اتفقت الكلمة ونزلت الرحمة، وتمت له البيعة.

_ 1 البيان والتبين جـ3 ص 297، عيون الأخبار جـ2 ص233-234.

خطبته بعد بيعة السقيفة

3- خطبته بعد بيعة السقيفة: قال الصِّدِّيق -رضي الله عنه- بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد- أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعيوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه1 -إن شاء الله- والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطعيوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". هذه الخطبة تشتمل على دستور الخليفة يرسم بها سياسة، فبدأ بمقدمة تتناول الحمد لله والثناء عليه بما يستحق من صفات التعظيم، ثم انتقل إلى الموضوع قائلا في تواضع: لقد اختارني المسلمون خليفة؛ لأتولي شئونكم وليس هذا لأني أفضل منكم بل أنا شخص عادي مثلكم وهذا يدل على براعته في استمالة النفوس وتهيئة القلوب علما بأن اختياره مبني على صفات ومقومات لم تكتمل في غيره، ثم أعلن دستور الخلافة قائلا: فإن أحسنت في رعاية أموركم فساعدوني بالعمل والتأييد وإن بعدت عن الصواب فوجهوني إلى الحق وأصلحوا ما أعوج من عملي، ولا مجاملة في تطبيق الشريعة فالكل سواء أمام العدالة، لا يضار الضعيف بل هو قوي حتى يأخذ حقه، ولا يخشى القوي، بل هو ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، وكل ذلك بإرادة الله تعالى. ثم دعا إلى الجهاد في سبيل الله، وترك الفاحشة. وختم خطبته بالتركيز على مبدأ الطاعة للخليفة، طالما كان مطيعا لله ورسوله فإذا عصاهما فلا طاعة له على أحد.

_ 1 أرده عليه.

خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه

خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطبته بعد توليه الخلافة ... خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد كان عمر بن الخطاب نفاذ بصيرة وصدق عزم وبلاغة لسان، كما كان صفي رسول الله. وقد أعز الله به الإسلام في مكة حين أعلن ولاءه لرسوله، وما زال منقطعا إليه والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقربه منه ويتخذه موضع مشورته، حتى توفي وخلفه أبو بكر، فكان له نعم المعين، ولما أسندت إليه مقاليد الخلافة نهض بها في رجاحة عقل وقوة نفس، فقد كان الفاروق مهيب الجانب يرهبه المسلمون، ولم تكن رهبة العنف والظلم والقسوة، وإنما هي رهبة من الانحراف عن الصواب، فهي ليست رهبة مصحوبة بالرعب من الحاكم، وإنما هي الرهبة التي تخلق الأمن وتنشر الطمأنينة. فما كان عمر -رضي الله عنه- ليرضى أن يخرج من الرعية عن الطريق القويم وهذا ما نلاحظه في خطبه. 1- خطبته بعد توليه الخلافة: إن الله عز وجل قد ولاني أمركم، وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمرني به. وإني أمرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إن عمر تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق، فليؤذنِّي، فإنما أنا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم، وحرماتكم وأعراقكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إلى، فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيب

إليَّ صلاحُكم، عزيز عليَّ عَنَتُكم، وأنتم أناسٌ عامتكم حضر في بلاد الله، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع، إلا ما جاء الله به إليه، وإن الله -عز وجل- قد وعدكم كرامة كثيرة، وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله1. كانت قوة عمر ممنوحة من الله، لذلك لم تكن لتغير القوة من خلقه شيئًا، فهو امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إن بدرت منه قوة فهي من تأييد الله، وأما العظمة فهي لله وحده، ثم إن الحق قد بين الله حدوده، وأما عمر فسيأخذ الناس بهذه الحدود، وما على الناس إلا أن يلتزموا بها، ومن هنا نرى حرص عمر على صلاح رعيته أشد الحرص، وتمسكه بالعدل أشد التمسك، ونراه صارمًا ليس بينه وبين أحد هوادة، يعالج أمور رعاياه كلها بنفسه لا يَكِلُ شيئا منها إن بعد عنه إلا إلى من عرف فيه الأمانة والنصح، وتتضح هنا معني الحق التي بلورتها سيرة عمر وأخلاقه على نحو فريد، فعمر رجل من الناس قريب منهم يستمع إلى حاجاتهم، ويعينهم على أمورهم، ليس بينهم وبينه حجاب، لم يغير الحكم من خلقه شيئا، يعطي الحق من نفسه قبل أن يأمر الناس أن يعطوا الحق من أنفسهم.

_ 1 تاريخ الطبرى جـ4 ص 215.

خطبته في منهجه

2- خطبته في منهجه: أيها الناس، لوددت أن أنجو كفاف لا لي ولا علي، وإني لأرجو إن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، وألا يبقى أحد من المسلمين وإن كان في بيته إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله، ولا يعمل إليه نفسه، ولم ينصب إليه يوما، وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، وتقليل في رفق خير من كثير في عنف1. لم يعرف التاريخ أعدل من عمر في إعطاء الحقوق وتصريف الأموال وتقسيم الأرزاق فالخروج عن ذلك معصية لله، ومعصية الله تسقط حقه في طاعة الناس له، فالحق عند الفاروق بيِّن لا شبهة فيه، وهو يخشى الله في الناس ولا يخشى الناس في الله.

_ 1 الطبري جـ4 ص 216.

خطبته في الدعاء

3- خطبته في الدعاء: يا أيها الناس، إني داعٍ فأمِّنُوا، اللهم إني غليظ فلَيِّنِّي لأهل طاعتك، بموافقة الحق؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك، وأهل النفاق، من غير ظلم مني، ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح، فسخِّنِي في نوائب المعروف، قصدًا من غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمحة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة، اللهم ارزقني حفض الجناح، ولين الجانب للمؤمنين، اللهم إني كثير الغفلة والنسيان، فألهمني ذكرك على كل حال، وذكر الموت في كل حين، اللهم إني ضعيف عن العمل بطاعتك، فارزقني النشاط فيها، والقوة عليها، بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك، اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى، وذكر المقام بين يديك، والحياء منك، وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني، والمحاسبة لنفس، وإصلاح الساعات، والحذر من الشبهات اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجبائبه، والعمل بذلك ما يقيت، إنك على كل شيء قدير1.

_ 1 العقد الفريد جـ4 ص 65.

هذه الخطبة تبرز جانب الحق في عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهي صورة صادقة تنطبق على أخلاقه وسلوكه في حكمه، ولعل أهم ما يلفت النظر في هذا الدعاء استهلاله بمعنى الحق وهو البرز الأول في دستور حكمه، ويرتبط بهذا معنى العدل؛ إذ يدعو الخليفة الله أن يعينه على التزامه به حتى مع الأعداء وأهل النفاق، فإن هؤلاء يستحقون الشدة، ولكن هذه الشدة في غير ظلم أو تعسف. وهنا تظهر الإنسانية في صورتها المثلى التي تكمن في روح الإسلام وتنطلق بها ألسنة أعلامه. وأما البند الثالث: الذي يقيد به الخليفة نفسه فهو روح العدل ولكن طبيعة العدل تقتضي أن يعاقب المسيء على إساءاته ويجب ألا يسوى بينه وبين من أحسن عملا. ونحن نرى أن معنى الحق لم يحرص عليه على هذا النحو حاكم من حكام المسلمين كما حرص عليه عمر -رضي الله عنه- ولم ينطبق الفعل على القول، وينفذ العدل المطلق كما نفذ في خلافته.

خطبة لعمر بن الخطاب

خطبة لعمر بن الخطاب: "إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول؛ ليحيي به القلوب؛ فإن القلوب ميتة في صورها حتى يحييها الله، من علم شيئا فلينتفع به، وإن للعدل أماراتٌ وتباشيرُ، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، وأما التباشير فالرحمة، وقد جعل الله لكل أمر بابًا، ويسر لكل باب مفتاحًا، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق. ولا تصانع في ذلك أحدًا، واكتف بما يكفيك من الكفاف، فإن من يكفه الكفاف لم يغنه شيء، إني بينكم وبين الله، وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأتوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها آخذ له الحق غير متعتع"1. نلاحظ أن عمر -رضي الله عنه- يؤكد على معنى الحق، وينطبق فعله على قوله، ويتحدث عن عدله المطلق الذي أدى إلى عدم الشكوي؛ لأنه بين الله وبينهم، وأن الله قد ألزمه رفع الدعاء عنه.

_ 1 الطبري جـ4 ص485.

خطبة لعمر يبين فيها وجوب شكر الله

خطبة لعمر يبين فيها وجوب شكر الله: "واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم، واستتموا نعمة الله عليكم، في مجالسكم مثنى وفرادى؛ فإن الله عز وجل قال لموسى: {أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} . "فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شبعة من الحق، تؤمنون بها، وتستريحون إليها، مع المعرفة بالله ودينه، وترجون بها الخير فيما بعد الموت؛ لكان ذلك، ولكنكم كنتم أشد الناس معيشة، وأثبتهم بالله جهالة، فلو كان هذا الذي انتشلكم منه لم يكن معه حظ في دنياكم، غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب، وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه أحرياء أن تشحوا على نصيبكم منه، وأن تظهروه على غيره، فالله قد جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة، ومن شاء أن يجمع له ذلك منكم. فأذكركم الله الحائل بين قلوبكم إلا ما عرفتم حق الله فعملتم له، وقسرتم أنفسكم على طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفا لها ولانتقالها، ووجلا منها ومن تحويلها؛ فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإن الشكر أمنُّ للغير، ونماء للنعمة، واستيجاب للزيادة، هذا لله علي من أمركم ونهيكم واجب".1 يبين عمر -رضي الله عنه- أن شكر الناس لله على نعمه التي لا تحصى لا يستطاع إلا بعون من الله ورحمته ولطفه، ويحث الناس على شكر الله على نعمه التي أعمها عليهم، كما بين لهم المعاني الخلقية التي يشتمل عليها مفهوم شكر الله، ويذكرهم بما يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة، فإن استمرار هذه السعادة موقوف على عرفان المعروف والشكر عليه، ثم لا شيء يسلب النعمة سوى إغفال الشكر لله عليها. وهو يمزج بين الموعظة وما يكمن فيها من إيمان نقي وبين الحجج العقلية؛ ليصل إلى صلاح أمر الناس صلاحا قائما على إدراك فضل الله، والوعي الكامل بنعمة ثم الشكر ودوام الحمد؛ ليرتبط الإنسان بربه.

_ 1 الطبرى جـ 4 ص217-218.

خطب عثمان رضي الله عنه

خطب عثمان رضي الله عنه خطبته بعد بيعته ... خطب عثمان رضي الله عنه: كان بيان عثمان -رضي الله عنه- الخطابي أقل مما شهدناه عند أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ولم يؤثر عنه فكر يشرح نظام الحكم وآداب الرعية بالشكل الذي رأيناه عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. 1- خطبته بعد بيعته: أما بعد، فإني قد حملت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله عز وجل وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا: اتِّبَاع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسنتهم، وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى الناس، ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها؛ فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها1. رغم قصر الخطبة إلا أنها تشرح شيئا من نظام الحكم الذي سار عليه في خلافته، وهي تبين حق الرعية في صورة موعظة دينية، وتحذر من الاغترار بالدنيا، وعثمان -رضي الله عنه- متبع وليس بمبتدع، ولكن الاتباع هنا ليس معناه الجمود؛ لأن الدولة قد اتسعت رقعتها، والدين أعز الله كلمته، والناس دخلوا فيه أفواجا، وعلى الخليفة أن يجتهد وأن يبتكر، ولكن اجتهاده أو ابتكاره لا يخرج عن سنة أهل الخير، وهذا ما بينه عثمان -أيضا- في خطبته الموجزة التي تدل على المعني خير ما تكون الدلالة.

_ 1 تاريخ الطبري جـ4 ص 422.

خطبة لعثمان بن عفان "رضي الله عنه" يحذر الناس من خداع الدنيا

خطبة لعثمان بن عفان "رضي الله عنه" يحذر الناس من خداع الدنيا: إنكم في دار قعلة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم، صبحتم أو أمسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا؛ فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذي أثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم! ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة؛ فإن الله قد ضرب لها مثلا، وللذي هو خير، فقال عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} ."1 [الكهف] . يرى عثمان -رضي الله عنه- أن منطلق الآداب هو إدراك حقيقة الدنيا فلا يغتر بها الإنسان، ومن تغره الدنيا عليه أن يعتبر بمن سبقه ممن حرصوا على الدنيا فيما أصبحوا، فقد أصبحوا هشيما تذوره الرياح، وما دامت الباقيات الصالحات عند الله، فليقم الناس حياتهم على الصلاح والتقوى.

_ 1 الطبري جـ4 ص243.

خطبة لعلي كرم الله وجهه

خطبة لعلي كرم الله وجهه: أما بعد، فإن لي عليكم حقا، وإن لكم علي حقا، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صبحتكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيما لا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء للبيعة، والنصح لي في الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيرا انتزهتم عما أكره، وترجعوا إلى ما أحب، تنالوا ما تطلبون، وتدركوا ما تأملون"1. انصب كلام الإمام علي على آداب الرعية، فقد جعل علي -كرم الله وجهه- حق الرعية عليه النصيحة لهم وتأديبهم وتعليمهم، وهكذا انصهرت حقوق الرعية وواجباتها حتى كادت الحقوق والواجبات لا تشتمل إلا على الآداب والأخلاق التي ينبغي على الرعية أن تتحلى بها فيما بينها وبين أنفسها، وفي طاعتها واستجابتها لراعيها.

_ 1 الطبري جـ5 ص90-91.

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "أيها الناس إنكم لم تُخلَقوا عبثًا ولم تتركوا سدى، وإن لكم معادًا يحكم الله فيه بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض واعملوا أن الأمان غدًا لمن خاف ربه وباع قليلًا بكثير، وفانيًا بباقٍ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفكم من بعدكم الباقون حتى تردوا إلى خير الوارثين؟ ثم أنتم في كل تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسر ولا ممهد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب. غنيًّا عما ترك، فقيرا إلى ما قدم، وايم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة ما أعلم أحدًا منكم من الذنوب مما عندي- فأستغفر الله لي ولكم". نلاحظ في هذه الخطبة -على قصرها- اشتمالها على مقدمة تشد الانتباه إلى موضوعها بما فيها من تذكير قوي بحقيقة خلق الإنسان، فالناس لم تخلق عبثًا، ولهم موعد سوف يُحاسَبون فيه على كل ما جنته أيديهم ثم يأتي عرض الفكرة وتوضيحها، فالمعاد وهو يوم الحساب يكون بعده جنة ونار، فأما من يعصي ربه فقد حرم الجنة، وأما من خاف ربه ففي رحمة الله، ويستعين الخليفة في تذكير الناس ووعظهم بتجارب الحياة المحسوسة فيقول لهم إن الموت يتخطف أحبابنا من حولنا، فماذا يكون مصيرهم؟ حفرة من الأرض يلقون فيها وقد انقطع ما بينهم وبين كل من في الدنيا وما فيها من أسباب.. ولم يبقَ لهم إلا العمل الصالح ينجيهم من العذاب.

ثم تأتي الخاتمة التي هي بمثابة الغاية التي توخاها الخليفة من خطبته، وتتركز في أن ينظر كل إنسان إلى ذنوبه فيستغفر ربه ويتعظ بما حوله فلا يقع في معصية بعدها1. وإذا دققت النظر في خصائص أسلوب هذه الخطبة وجدت فيه مصداق تعريف الخطبة بأنها مخاطبة الجمهور، فالخطيب يتوجيه إلى الجمهور وبالحديث من أولها إلى نهايتها، ثم هو يختار ألفاظا مألوفة واضحة قوية الدلالة على معناها ذات إيقاع نابع من الإحساس العاطفي، وتحس جمال هذا الإيقاع وقوته في التأثير من نظمه هذه الألفاظ في عبارات قصيرة متوازنة ويعتمد الأسلوب في جمال إيقاعه وفي دقته البلاغية على التقديم والتأخير أحيانا كما في قوله: "إن لكم معادا"، و"سيخلفكم من بعدكم الباقون". أو على الترادف المعنوي حينا آخر كما في قوله: "لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى"، و"فخاب وخسر"، و"باع قليلا بكثير وفانيا بباقٍ"، و"قد قضى نحبه وبلغ أجله"، أو على السجع المعنوي غير المتكلف في مثل قوله: "غير موسد ولا ممهد". مجردا من كل شيء في دنياه. وتظهر شخصية الخطيب واضحة قوية في خطبته وقد تآلفت كل هذه العناصر الأسلوبية في وجدانه بعمق إيمانه بموضوعه وإحساسه به، فاستطاع أن ينفذ إلى أسماع جمهوره وقلوبهم -وخاصة أنه لم يجرد نفسه من الذنوب التي يصم بها- وأن يتغلغل إلى عقولهم بكفره المرتب المعتمد على التجارب والمشاهد الحسية المشتركة فبلغ بذلك غاية من التأثير والإقناع.

_ 1 تاريخ الطبري جـ6 ص571.

خطب لعمر عبد العزيز

خطب لعمر عبد العزيز: 1- من وصل أخاه بنصحيته له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه، فاتقوا الله؛ فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منحية في العواقب، فالزموها1. 2- "أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي، وتظهر عورتي، وتبدو مسكنتي، في يوم يبدو فيه الغني والفقير، والموازين منصوبة، فلقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، أو الأرض لانفطرت. أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى إحداهما"2. 3- "ما الجزع مما لا بد منه، وما الطمع فيما لا يرجى، وما الحيلة فيما سيزول! وإنما الشيء من أصله؛ فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد أصله! إنما الناس في الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا، وهم فيها نهب للمصائب، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، فأين المهرب مما هو كائن"3. 4- "إن الدنيا ليست بدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم مقيم مغتبط عما

_ 1 الطبرى جـ6 ص571-572. 2 شرح نهج البلاغة المجلد الأول ص470. 3 الأمالي جـ2 ص100.

قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة، بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. إنما الدنيا كفيء ظلال قلص فذهب، بينا ابن آدم في الدنيا منافس، وبها قرير عين؛ إذ دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، فسلبه آثاره ودياره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه. إن الدنيا لا تَسُرُّ بقدر ما تضُرُّ، إنها تسرُّ قليلا، وتجرُّ حزنا طويلا"1. 5- "أيها الناس، لا تستضغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. 6- "أيها الناس، من ألم بذنب، فليستغفر الله عز وجل وليتب، فإن عاد ليستغفر وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها"3.

_ 1 جمهرة خطب العرب جـ2 ص193. 2 العقد الفريد جـ4 ص437. 3 جمهرة خطب العرب جـ2 ص195.

خطبة للمأمون

خطبة للمأمون: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده، والتنجز لوعده، والخوف لوعيده؛ فإنه لا يسمل إلا من اتقاه ورجاه وعمل له وأرضاه، فاتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم، وترحلوا فقد جد بكم، واستعدو للموت فقد أظلكم، وكونوا قوما صيح بهم، فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فإن الله لم يخلقكم عبثًا، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة الواحدة، لجديرة بقصر المدة، وإن غائبا يحدوه الجديدان: الليل والنهار لحريٌّ بسرعة الأوبة، وإن قادما يحل بالفوز أو بالشقوة لمستحق أفضل العدة، فاتقى عبدٌ ربَّهُ، ونصح نفسه، وقدم توبته، وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية؛ ليركبها، ويمنيه التوبة؛ ليسوفها، حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤديه أيامه إلى شقوة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعته غفلة، ولا تحل به بعد الموت فزعة، إنه سميع الدعاء، وبيده الخير، وإنه فعال لما يريد".

خطب من العصر الحديث

خطب من العصر الحديث خطبة الجمعة: أسلوب الدعوة إلى الله ... خطب من العصر الحديث: لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرباصي خطبة الجمعة: أسلوب الدعوة إلى الله 1 الحمد لله عز وجل وهب أصفياءه الحكمة، وكتب على نفسه الرحمة: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 2، أشهد أن إله إلا الله، وهو وحده العليم بالسرائر، المطلع على خفيات الضمائر: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 3 وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، منحة الرحمن، وصفوة الإنسان، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} 4، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 5. يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: لعل أهل صفة من صفات رسول الله أنه داعية إلى الله، ولذلك خاطبه ربه في محكم تنزيله بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} 6.

_ 1 مجلة الأزهر جـ12 - فبراير 2003م. 2 الأعراف: 56. 3 الملك: 14. 4 القلم: 4. 5 فاطر: 18. 6 الأحزاب: 45-46.

هو يشهد بالحق ويحث عليه، وهو يبشر بالخير ويحبب فيه، وهو يحذر من الشر ويباعد عنه. وهو حين يدعو إلى الله بإذن الله، ينير الطريق ويضيء المسالك، ويفتح أمام المهتدين المحسنين أبواب الفضل الإلهي الكبير: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1. ومعنى هذا أن الدعوة إلى الله ليست لعبة يتلهى بها الغر والجاهل، وليست أمرا يحسنه القاصر والغافل، وليست شهوة يندفع إليها كل من عرف قشورًا من الدين، أو أراد تظاهرًا بين الناس، وإنما الدعوة إلى الله كالحرم الرباني الزكي، يدخله من تطهر وتدثر بالعقل والعلم والإخلاص والاعتدال على الصراط المستقيم بلا انحراف ولا اعتساف ولا إسراف، ولذلك وكَّل الله -تبارك وتعالى- هذه المهمة الجليلة في نطاقها العام إلى أنبيائه ورسله ومن ورثَتِهم والأخيار من أتباعهم الراسخين في العلم، البصراء بالحق، الخبراء بطرق الهداية في حذق ورفق، ولذلك قال الله -تعالى- لحبيبه2 ومصطفاه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. ولجلال الدعوة إلى الله ودقتها رسم الرحمن الرحيم لرسوله الكريم أصولها وقواعدها حتى تكون هديا ونورًا، وخيرًا وبرًّا، تجمع ولا تفرق، وتوحد ولا تمزق، وتبني ولا تهدم، وتعمر ولا تحطم، فقال له: {ادْعُ إِلَى سَبِيل

_ 1 المائدة: 15، 16. 2 أولى لخليله. 3 يوسف: 108.

رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1. وفي هذا النص الإلهي المجيد حدَّد الخالق سبحانه ثلاثة وسائل للدعوة؛ هي الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن؛ وكأنه أراد أن يكون كل منها لمستوى من المستويات، أو لحالة من الحالات، فالحكمة هي القول العلمي الدقيق البليغ، المشتمل على الحجة المقنعة والبرهان الساطع والدليل الواضح، وكأنه وسيلة الإقناع بالحكمة تناسب الذين يطيقونها ذهنيًّا وفكريًّا من المتعلمين والمثقفين، والموعظة الحسنة هي الكلام الرقيق اللطيف، الذي يقوي حوافز الخير وعواطف البر ومشاعر الإنسانية الرفيعة التي تعمر دنياها بالمحبة والمودة وحسن المعاملة، وكأن هذه الوسيلة تناسب جمهور الناس الذين إذا جاءتهم الموعظة الحسنة اللينة أحيت مَوَات قلوبهم، وذكرتهم بربهم، وحملتهم برقة ولطف على سواء السبيل، ثم تأتي المجادلة بالتي هي أحسن، وهي المحاورة الهادئة الرزينة التي تصور أحسن الطرق للمناقشة، بلا عنف ولا تعنت ولا شطط، وهذه الوسيلة تكون مع المخالف في الاتجاه أو الاعتقاد، وهكذا أراد الله -جل جلاله- بمن يصلح للدعوة ويقتدر عليها أن يعرف حدودها وقيودها، وأن يلتزم وسائلها الرشيدة من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فلا ينحرف عنها ولا يجور فيها، ولا يجاوزها إلى ادعاء ما ليس له من جموح أو تطاول، بل هو يبين ويوضح ويدلل بأرق الوسائل وألطف الأساليب، دون لَجاجة أو مهاترة أو عدوان، والله بعد ذلك هو المتصرف في عباده، المسئول عن

_ 1 النحل: 125.

هدايتهم، العليم بالطوايا والنوايا، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 1، وهو وحده صاحب الحق في محاسبة الخلق على أعمالهم يوم لقائه، وهو وحده مالك الثواب والعقاب، ولذلك قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2. وإذا كان الله -جل جلاله- قد حدد وسائل الدعوة هنا بهذه الأمور التي جعلها بعيدة عن معاني الإكراه والإرغام والعدوان، فقد ذكر لنا في موطن آخر صورة من صور التطبيق للدعوة المسالمة، فإذا هذه الصورة تبدو وفيها اللين والرفق والرحمة، وذلك حينما أرسل الله موسى، وهارون إلى فرعون وقال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} 3. وهكذا بدأت المحاورة مع فرعون -وهو فرعون وكفى- بالقول الهادي اللين: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} ، واختتمت بالسلام والأمان: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} ، ولقد روى التاريخ أن جاهلًا يدَّعي العلم أراد أن يتظاهر بالدعوة؛ ليرضي غروره أو يستر نقصه، فقال لأحد الحاكمين: أيها الأمير، إني سأسمعك كلاما شديدا فاحتمله مني، فأجابه قائلا: لن أحتمله منك فلا تقله، فقال الدعي في باب الدعوة: ولم؟ فأجابه: لأن الله تعالى أرسل من هو

_ 1 الأنفال: 43. 2 القلم: 7. 3 طه: 43: 47.

خير منك إلى من هو أسوأ مني، ومع ذلك أمره باللين والتلطف، لقد بعث الله موسى وهارون وهما خير منك بلا نزاع، إلى فرعون وهو أسوأ مني بلا جدال، ومع ذلك أمرهما بقوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . ومن بعد موسى وهارون وغيرهما يقبل شيخ الأنبياء وإمام المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو القدوة الطيبة والأسوة الحسنة في هذا الباب، فهو الذي قال: "بشروا ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا"1، وحينما طلب منه بعض أصحابه أن يلعن المشركين أبي وقال: "إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت هاديا ورحمة" 2، ولما طلب منه أن يدعو على المشركين؛ ليهكوا أبي وقال: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا" 3، وترجم القرآن عن هذه المثالية الرائعة في لين الدعوة ورحمة الداعية فقال للرسول -صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 4. وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 5. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 6.

_ 1 البخاري كتاب الجهاد ج6 ص188 حديث 3038 مسلم كتاب الجهاد ص1732. 2 مسلم كتاب البر والصلة والآداب حديث 2599. 3 البخاري كتاب بدء الخلق حديث 3231 مسلم 3/ 1420 كتاب الجهاد والسير حديث 1795 جزء من حديث طويل. 4 آل عمران: 159. 5 التوبة: 128. 6 الأنبياء: 107.

يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: يقول سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه: "أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة" 1، أي الشريعة المعتدلة السهلة الميسورة، وعماد هذا الدين الكريم هو الطهارة والصفاء، والمحبة والإخاء، والتناصح بالرفق والرحمة، والدعوة إلى الخير بالحكمة: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. وسبحان من لو شاء لهدى الناس جميعا إلى سواء السبيل واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.

_ 1 البخاري ج1 ص116 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. 2 يونس: 25.

خطبة الجمعة: ففروا إلى الله

خطبة الجمعة: ففروا إلى الله 1 لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرباصي لك الحمد أيها العليم الذي لا يجهل، الحليم الذي لا يعجل، الكريم الذي لا يبخل، سبحانك، أنت المنيع الذي لا يرام، المجير الذي لا يضام، وأنت أرحم الراحمين، نشهد أن لا إله إلا أنت، خضعت لك قلوب العارفين، وذلت لهيبتك رقاب الجبارين، فتبارك الله رب العالمين، ونشهد أن سيدنا ومولانا محمدًا عبدُك ورسولُك، الذي استعاذ بك من العين التي لا تدمع، والقلب الذي لا يخشع، والعلم الذي لا ينفع، فكان سيد المرسلين وإمام المتقين، فصلواتك اللهم وسلامك عليه، وعلى آله وأغصان دوحته، وأصحابه وجنود دعوته. {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 2. يا أتباع محمد عليه السلام.. من عيوب المسلمين المعاصرين الذين قل اعتزازهم بدينهم، وضعف يقينهم بربهم، وخدعتهم بوارق من مدنية غيرهم، أنهم لا يتقون ولا يؤمنون إلا إذا جاءتهم الشواهد من الخارج، ووردت إليهم البراهين على صحة الدين

_ 1 مجلة الأزهر جـ8، أكتوبر 2003م. 2 آل عمران: 173، 174.

من المثقفين المدنيين، أو الناهلين من حضارة الأوربيين، فلو سمعوا من الواعظ الديني مائة خطبة يذكرهم فيها بالله، ويدعوهم خلالها إلى حماه، لما اتعظوا بها، ولا استجابوا لها، ولكنهم لو جاءتهم الموعظة من رجل مدني، أو من جو أوربي، لسارعوا إليها مصدقين معجبين، ومع ما في هذا من مخالفة لقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] 1. فنحن نريد أتباعا للحكمة في الدعوة، واحتيالا في التحذير من الضلالة، أن تأتيهم بالشواهد التي يريدون. هذا رجل شرقي عظيم، له من بيته وعمره وثقافته ما يجعله خبيرا بالمشكلات دارسا للحضارات، يرحل إلى أوربا ويقضي في أرجائها شهورًا، ثم يعود فيقول لنا في وضوح وتأكيد: إن أبناء الحضارة الحديثة قد آمنوا أخيرًا، وبعد طول المطاف بأنه لا سلام إلا بالله، ولا سعادة إلا بالرجوع إلى الله، ولا استقرار إلا بالثقة في دين الله؛ لأن الرجوع إلي الله واليقين به والاحتماء بلوائه هو الذي سيقضي على الحروب المهلكة والشيوعية البشعة، وسيزيل الفقر الشائع والمرض الذائع من بين الأحياء، ومعنى هذا أن عمالقة البشر في العالم الحديث، الذي هتكوا أسرار الطبيعة، واستخدموا كل شيء تحت أيديهم، واستمتعوا بكل لذة تريدها الأجساد، لم ينعموا بذلك ولم يسعدوا، فرجعوا نادمين، وعادوا إلى ربهم تائبين، وقرعوا بابه هاتفين: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وهذا كاتب معاصر يزور في الأيام الأخيرة "باريس" مدينة النور والفجور، وموطن المواخير والخمور ومصدر كل لذة، ومثيرة كل شهوة،

_ 1 النساء: 65. 2 الأعراف: 23.

وصاحبة التاريخ الطويل الثقيل في العبث والمجون، فإذا بالكاتب يراها كما وصفها وقد صحت من غفوتها، وأفاقت من غمرتها، وتابت وأنابت، فصار فيها من يعنى بأمر الأخلاق، ومن يذكر بجلال البارئ الخلاق؛ لأنهم عرفوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأعطتهم المحن المتلاحقة والنكبات المتلاصقة دروسا لا تُنسى تعلموا منها أن الاعتماد على قوة الأرض، والاغترار بسلطان الإنسان، باطل وزور، وأن الخير كل الخير في الإيمان بالله الذي إليه تصير الأمور!.. وهذا سباح مصري عالمي، وهو ضابط رياضي مثقف، درس ورحل، واختلط بهؤلاء وأولئك، وخالط المدنية الحديثة والحضارة الغربية المعاصرة، ولم ينشأ في رحاب ديني أو وسط "سني"، وقد أراد أن يكسب لأمته فخرا يرفع رأسها بين الأمم في ميدان الرياضة التي يدعو إليها الإسلام، ويحرض عليها؛ لتكون إعدادا للجندية المجاهدة في سبيل الله، فعبر بحر "المانش" الرهيب الصاخب من الشاطئ الإنجليزي إلى الشاطئ الفرنسي، وتعرض لأهوال البحر ومخاوف الغرق، وطغيان الأمواج وتأثير الأملاح، وذبذبات المد والجزر، وبرودة الجو ووحوش الماء، وكان كلما خارت منه القوى، وأحدق به الخطر، وداعبه اليأس والقنوط، لا يلجأ إلى قوارب النجاة ولا يستعين بمن خلفه من مراقبين، ولا يعلن فشله وإفلاسه، بل كان يلجأ إلى سلاح أقوى وأعلى، ويستمد العون والمدد من مصدر أغنى وأسمى، كان يستلهم النصرة والتأييد من ربه العزيز المجيد، فكان كما أذاعت الأنباء يتلو القرآن الكريم وسط الأمواج بصوت مسموع، ويناجي ربه بدعاء مرفوع، وكان كما يقول كلما تلا آية أو ردد دعوة، ازداد قوة وامتلأ همة، وأيقن أنه سيصل وسينتصر بفضل الله، وقد كان، فوصل، وانتصر، وقرر أن الفضل في الانتصار يرجع إلى عون العزيز القهار، وكذلك تكون قوة الإيمان بالله في

الإنسان، تقرب له البعيد، وتيسر له العسير، ولا عجب فقد وصل سببه برب الأسباب، وألقى عبئه على أقدس جناب: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} 1. أليس في هذه الأدلة والشواهد ما يكفي المُعرِض عن الله، أو البعيد عن حماه؛ لكي يرجع ويرتدع، ويتوب ويثوب ويشاهد نور ربه في كل مكان، ويراقب جلاله في كل زمان، ويطيل التفكير فيما أراده "المسلم" الحكيم حين قال: الحق ليس بمحجوب عنك، إنما المحجوب أنت عن النظر إليه؛ إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر، وهو القاهر فوق عباده، بل ويهتف من الأعماق كما هتف الواصل الأول يناجي ربه قائلا: ذكرتك لا أني نستك لمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني يا أتباع محمد عليه السلام.. حقيقة إن الفكرة الإسلامية قد حوربت بأيدي أعدائها، بل وتطاول على جلالها بعض الطاغين الذين يعدون أنفسهم من المسلمين، فهتكوا حرمة القرآن، ونكلوا بأشبال الإيمان، وتجرءوا على حمى الرحمن، وهتكوا حرمات كانت بالأمس عزيزة مصونة، وارتكبوا في تنكيلهم بالمجاهدين في سبيل الله الناشئين في طاعة الله، مآتم ومظالم تضج من هولها أرجاء السماء، وقد زلزل كثير من الناس أمام هذا التنكيل الطاغي زلزالا شديدًا، وظنوا بالله الظنونا، ولكن الثابتين على العهد، الصادقين في الوعد، يؤمنون بأن الإسلام

_ 1 الطلاق: 3.

يقوي على المحن، ويشتد رغم طغيان الزمن، ولولا شهداء سقطوا في سبيل الله، ودماء زكية طاهرة سالت دفاعا عن كلمة الله، وغزوات ابتلى فيها صبر المسلمين أشد الابتداء، وأعداء من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين والمخادعين، يتربصون بالمسلمين الدوائر، لولا هذه الظروف كلها لما ظهر نور الإسلام ساطعا وأضاء من خلال الظلمات: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 2. واستعذبوا في سبيله العناء والبلاء، فإن الله لا يضع أجر العاملين: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 3. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 4. كان عليه الصلاة والسلام يدعو فيقول: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم أعوذ بعزتك. لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" 5.

_ 1 التوبة: 111. 2 الحج: 78. 3 المائدة: 88. 4 النحل: 128. 5 البخاري 8/ 86، 9/ 143، 162.

خطبة الجمعة: بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه

خطبة الجمعة: بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه 1 لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرباصي إعداد الشيخ/ علي حامد عبد الرحيم حينما ندرس شخصية محمد -صلوات الله عليه- من جوانبها المختلفة، نعلم أن المثل الأعلى الذي يتجلى لكل طامح إلى المفاخر، أو طامع في معالي الأمور، وما نريد حين نجلي ملامح هذه العظمة المحمدية أن نضيف إلى صاحبها شرفًا جديدًا، فليس بعد تكريم الله تكريم، ولكنها أنفسنا نحن التي نبحث لها عن الخير، ونطلب لها المزيد من التربية والتهذيب، وليس كالقدوة الحسنة في الإغراء على التشبه والمضاء.. وما نريد أن نغلو في شأن رسولنا كما غلا سوانا، فإننا لنعلم أولا أن الله أعلى وأكبر، وأن محمدًا بَشَر، قيل له من قبل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} [الزمر: 30] . وقيل عنه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] . ولو أن هذه العظمة اقتصرت على شخص صاحبها، فلم يستفض نورها هنا وهناك، ولم تلق ظلالها الطيبة على هذا وذلك، لما شغلت التاريخ

_ 1 مجلة الأزهر، جـ3، مايو 2005م.

بهذه الصورة، ولما بقيت لها هذه الروعة الدائمة وذلك البهاء الموصول، ولقال القائل: وما نفع كنز عظيم لا ينال الناس منه خيرًا؟ وما قيمة محيط واسع لا يجد الراغبون إليه سبيلا؟ ... ولكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الذي هتف: "ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط"، ولذلك كانت عظمته لغيره قبل أن تكون لنفسه، وكأنما خلق الله رسوله على عينه، وجمع له أطراف المحامد والمكارم؛ ليظهر فيه سر النبوة وسمو الرسالة، ثم أتاح لصفيه [وخليله] 1 بعد ذلك أن يفيض من هذا النبع الذي لا يغيض، على من حوله ومن يأخذون عنه، والرسول حينئذ لا يستطيع أن يخلق من هؤلاء الأتباع صورًا مطابقة كل المطابقة لشخصه وذاته، وإلا لصار هؤلاء الأتباع رسلا مثله؛ فليس له إلا أن يهيئ لكل واحد منهم ما يناسبه ويلائمه، فيغترف من حوض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما استطاع، ومن هنا رأينا العظمة المتجمعة في شخص محمد -صلوات الله عليه- تتفرق في أشخاص أصحابه، وفي خلفائه الراشدين- رضوان الله عليهم أجمعين- بوجه خاص؛ فهذا أبو بكر مثلا يرث عن رسوله نور اليقين والإيمان، ويقوي عنده هذا النور حتى يسطع فيبهر. وهذا عمر يرث عن رسوله حسن التدبير وعمق التفكير وصواب النظر وأصالة الرأي، حتى ليقول فيه المصطفى: "إن الله قد جعل الحق على لسان عمر وقلبه" 2، وحتى يستطيع عمر إبان خلافته أن يسوس دولة ما ساسها قيصر من قبل أو شاه، وأن يجتهد في أمور الدين والدنيا، فيهديه ربه إلى فض مشكلات وحل معضلات ما كان يقتدر عليها لولا أنه تخرج من مدرسة النبوة التي تفيض بالهدى والرشاد.

_ 1 وخليله أولى ما بين القوسين وضعناه فهو أولى. 2 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ9 ص66.

وهذا عثمان يرث عن رسوله رقة الطباع ودماثة الأخلاق وشدة الحياء، حتى يستحيي من نفسه وهو منفرد متجرد لاغتساله، وحتى يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أصدق أمتى حياءً عثمان" 1، وإنه ليدخل على الرسول فيستحيي الرسول منه، فتسأله عائشة عن سبب ذلك، فيقول: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟ " 2. وهذا عليٌّ يرث عن رسوله زهده وتقشفه، حتى تهون في نظره أعراض الحياة وأغراض العيش ولذائذ الدنيا فيصرخ في وجه الدنيا قائلا: "يا دنيا غرى غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت؟ هيهات، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيهن، آه من طول الطريق، وقلة الزاد ووحشة السفر". وهنا ناحية أخرى.. أن القائد يجب ألا ينفرد بالسلطان والمجد، وألا يستأثر بالرأي يستحوذ عليه، أو الثناء يستبد به، وكم من أناس هيأت لهم الأقدار أن يبلغوا مناصب القيادة والرياسة، فخيل إليهم أنهم قد صاورا في الكون آلهة، وما من إله إلا إله واحد، فلا يقضى أمر إلا بكلمتهم، ولا يوجَّه مدحٌ إلا إلي ذاتهم، ولا يسبح مسبح إلا بحمدهم وشكرانهم، وإن قلوبهم الحاقدة الحاسدة لتتميز من الغيظ وتتقطع من الغل إذا رأوا شخصا غيرهم فعل مكرمة أو استحق تمجيدا، أو بدأ نجمه في الظهور والسطوع، وإنهم ليبذلون كل شيء لكي يقضوا على كل نابغ أو ناهض؛ ليضمنوا البقاء لأنفسهم، وليرضوا شهوة الأنانية المتعمقة في جذور طباعهم، وأف لزمان تفنى الجماعة فيه؛ ليعيش القائد، وتذل الأمة؛ ليعز فرد على أنقاض أبنائها! وعلى العكس من ذلك كان رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.

_ 1 المسند جـ3 ص281. 2 مسلم، كتاب "فضائل الصحابة" حديث رقم 2407.

لقد بعث محمد عظمته في صحابته، وشاركهم فيما منحه الله من صفات وبركات، فحفظ للصغير حقه قبل الكبير، وشاور قومه في الجليل والقليل، وأعطى كلا منهم نصيبه في التحية والإكرام، وأظهر تقدير كل عامل، وأعلن شكران كل فاضل، وما من مكرمة جرت على يد صحابي إلا فرح لها الرسول، كأنها جرت على يديه، وهكذا يكون القائد الرحيب الأفق المتفتح النقي الضمير الطاهر الشعور. وها هو ذا يمجد أصحابه عامة فيقول: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" 1. نستفيد من هذا أن الأمة يجب أن تهتدي بهدي قائدها وراعيها، حتى تتجلى مواهبه في أفرادها ونواحيها، فيصبح كل إنسان عظيما في ناحية أو عدة نواحٍ، فتكثر الأيدي القوية العاملة؛ وأن القائد يجب ألا يكون أنانيا يستحوذ على الفضل والخير كله، بل يقدر العاملين، ويهيئ فرص النبوغ للنابغين، حتى تتبارى الكفايات وتظهر العبقريات {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المصطففين: 26] . وليس بعد أمة محمد أمة؛ لأنها {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 10] . وليس مثل محمد قائد أو زعيم؛ لأنه رحمة الله للعالمين، فلم يبق إلا المسير، فمتى يكون؟

_ 1 الترمذي 3862 جـ5 ص696 وقال: حديث غريب، المسند جـ5 ص54، 57.

خطبة الجمعة: تمييع الشباب

خطبة الجمعة: تمييع الشباب 1 لفضيلة الأستاذ الدكتور: أحمد الشرباصي إعداد الشيخ: علي حامد عبد الرحيم الحمد لله عز وجل، دعا إلى القوة وحذر من الضعف: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} 3.. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، خير من جمع بين قوة الحس وطهارة النفس، فكان إمام المصلحين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل الطاهرين، وأصحابه القانتين، وأتباعه المجاهدين: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4. يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام.. لا يمكن لأمة أن تحيا كريمة عالية، دون أخلاق فاضلة سامية، ومكارم الأخلاق هي عماد الأفراد والشعوب، ولذلك كان من الأهداف الأساسية للنبوات والرسالات دعم هذه الأخلاق، حتى قال محمد سيد الخلق:

_ 1 مجلة الأزهر جـ5، يوليو 2005م, 2 المنافقون: 8. 3 المجادلة: 21. 4 المجادلة: 22.

"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 1. وفي ظلال الأخلاق الفاضلة تندفع الأفراد والجماعات إلى حياة متماسكة، فيها صحة أبدان وقوة عقول وعلو هِمَم، وفيها اعتزاز بالفضيلة وحرص عليها، وحمل على الرذيلة ونفور منها؛ وقد ابتلينا بمجموعة من الشباب كأن الشيطان الرجيم قد استقرهم حسا ونفسا، فهو يبثهم بين الناس؛ كي يحققوا ما يبغي لهم من خسار وبوار؛ هذه المجموعة تتمثل في أولئك الرقعاء المائعين أشباه الرجال الذين يتحلون بالمظاهر التي لا تليق بالرجال، فهم يلبسون الثياب الملونة والسراويل الضيقة، ويضعون السلاسل الذهبية حول أعناقهم، والأساور في أيديهم، ويتسكعون في الشوارع، يعبثون ويفجرون ويعتدون على النساء والفتيات، ويرددون أقذر الألفاظ، ويمشون مترنحين كأنهم خارجون سكارى من ماخور أو حانة خمور.. ومن المضحك المبكي أن هؤلاء الشبان يصفون الذين ينصحونهم أو يدعونهم إلى الرجولية والحياة المتماسكة بأنهم من أنصار القديم ... ورحمة الله ورضوانه على كثير مما فقدنا من هذا القديم، فأين عفة هذا القديم؟ وأين جهاد هذا القديم؟ وأين تماسك الأسرة في القديم؟ وأين صيانة الأعراض في القديم؟ وأين نشأة التدين والإيمان والقوة التي كانت في القديم؟.. سلاما سلاما على كثير من ذلك القديم، وسبحان من يحيى العظام وهي رميم.. الحق أننا خسرنا الكثير حين أعلنَّا الحرب على هذا القديم دون أن نفرق فيه بين فاسد وسليم، وبين ما يصح أن يترك وما يجب أن يصان، وفي حربنا القديم تركنا ذخائر نفائس.. تركنا الفضيلة؛ لأنها شيء قديم، ونسينا معنى الشرف؛ لأنه شيء قديم، وهزئنا بالقيم الفاضلة، والمبادئ الأخلاقية؛ لأنها شيء قديم، وأصبحت الفضولية الوصولية والإباحية من القيم الجديدة في العالم الجديد..

_ 1 الموطأ ص564 حديث رقم 8 كتاب حسن الخلق.

وهذا مثل من أمثلة هذه القيم، وهو مثل مخجل -إن كان قد بقي في الدنيا من يخجل- فقد سئل أحد هؤلاء الشباب المائعين حين تعرض لبعض الفتيات بما لا يليق أترضى أن يرتكب شاب مثل هذه الوقاحة مع أختك؟ فأجاب: أختي حرة تفعل ما تشاء!.. وهذا مبلغ الغيرة على الحرمات والأعراض إن كان قد بقي مكان للغيرة بين أشباه الرجال.. ومن الواجب هنا أن ننص على أمر له أهميته وقيمته، وهو أن هؤلاء الشبان المتميعين قد اشترك في إفسادهم أمران: سوء تربيتهم وإعدادهم من جهة وانتشار التبرج الفاجر بين النساء من جهة أخرى، وليس من السهل على الشاب أن يرى أمامه لحوم النساء عارية فاتنة صارخة، ثم يستمسك بعفته وفضليته، فإذا كنا نريد الاستقامة في الإصلاح، فلنؤدب هؤلاء الشباب أولا، ولنعلِّم العفة والوقار للنساء والبنات ثانيا، وإلا فلا فائدة من البكاء والعويل على الأخلاق والفضيلة، وهؤلاء الرقعاء يقولون: إننا نعاكس الفتاة التي تكشف عن مفاتن جسمها؛ لأن الكشف عن هذه المفاتن دعوة صريحة ونداء سافر.. وعلى الرغم مما في هذا من مغالطة أو احتيال للتسويغ يجب على من يريدون الإصلاح أن يعلموا أن انحراف الشبان ذو صلة وثيقة بانحراف النساء، ورحم الله الرافعي إذ يقول: "إنه لو عرضت عليه قضية امرأة متبرجة عاكسها شاب في الطريق لعاقب هذه المرأة عقوبتين: إحداهما بأنها اعتدت على عفة الشاب، والثانية: بأنها خرقاء كشف اللحم للهر". إن هؤلاء الشبان لم يتربوا في البيت تربية صالحة، ولم يجدوا في المدرسة التوجيه الروحي الصادق، ولم يجدوا المرأة في الشارع على ما ينبغي من التصون أو الوقار، ووجدوا في المسارح والسينمات والشواطئ والنوادي والمجتمعات الأخرى عوامل الفتنة وجواذب الشر، فسقطوا وتحللوا ورتعوا وكونوا لنا هذا الجيش من المائعين والمتحللين الذين لا يكتفون بفساد

نفوسهم بل ينشرون الفساد بين غيرهم كما ينتشر الوباء الخبيث؛ فما نفع هؤلاء لأمتهم وما جدواها منهم، وهي معرضة لوقوفها موقف الزحف العام في بعض الأحيان، كي تدفع عدوانا، أو تسترد أوطانا، ماذا يكون موقف المائعين الخانعين الذي يبثون الضعف والهوان؟.. هل يثبتون في معركة، أو يجيدون حمل سلاح.. إنهم سيكونون معاول الهدم ودعاة الهزيمة بين العصبة النافرة للجهاد والنضال، فإما أن نحسن تربيتهم، وإما أن نبعدهم عن مجموعة الأمة التى نرجيها ليوم نغسل فيه العار؛ لنعيش عيشة الأحرار.. إننا نريد مثلا أن نخرج اليهود من فلسطين؛ لنردها على أهلها الشرعيين، وأن نحرر بقية أوطاننا من أعدائنا، فهل تحرر أرض فلسطين وغيرها بالأجسام الرخوة والملابس الحريرية والسلاسل الذهبية والمشية المتخاذلة والأخلاق المنحلة والحياة المتحللة؟.. إن فتيات اليهود قد حملن السلاح في معركة اغتصاب فلسطين، وحاربن وتعرضن لمتاعب ومشاق، فهل عجز شبابنا عن أن يكونوا مثل فتيات اليهود في الشعور بالتبعة والنهوض بالواجب؟. لقد ذل من بالت عليه الثعالب!. من واجبنا أن ننقل الشباب إلى حياة القوة والفروسية التي يريدها لهم الإسلام، فإن القرآن الكريم يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 1. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف" 2 وقد حث الإسلام أبناءه على ألوان الرياضة والفروسية والفتوة

_ 1 الأنفال: 60. 2 مسلم حديث 2664 كتاب القدر باب في الأسر بالقوة.

حتى يكونوا فرسانًا في مختلف الميادين، وإن كانوا رهبانا لربهم في المحاريب، وحتى يحققوا الصورة الرائعة للأمة التي يذكرها القرآن بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} 1. ورضوان الله على الإمام علي يوم طالب ابنه بأن يكون في الميدان صورة للشاب المسلم القوي الفتى فقال له: "يا بني تزول الجبال ولا تزلّ، عض على ناجذك، أعر الله جمجمتك، تد "ثَبِّتْ" في الأرض قدمك. ارم ببصرك أقصى القوم وغض بصرك، وأعلم أن النصر من عند الله سبحانه". وهل يطيق ذلك إلا فتى تربى تربية مؤمنة تجعله عليما بالفروسية، خبيرا بالفتوة، صبورا عند اللقاء، مقداما في حومة الهيجاء؟!.. يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام.. إن أولادكم أمانات من الله في أيديكم، فأحسنوا صيانة هذه الأمانات ورعايتها، وبدلا من أن جعلوهم يتخذون قدوتهم من مخانيث الغرب وممثلي المسرح والسينما، اجعلوا قدوتهم من أمثال عمرو، وعلي، وأبو عبيدة، وخالد، وأسامة، والمثني، وطارق، وعمر بن عبد العزيز فأولئك أعلام الإسلام الذين زانوا الدنيا وسموا لقيمة الحياة، وإنما يصلح أمر هذه الأمة بما صلح به أولها من الإيمان بالله والاعتزاز به، والتطهر في هذه الحياة، وسبحان من لو شاء لهدانا جميعا إلى سواء السبيل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون} 2.

_ 1 الفتح: 29. 2 المائدة: 88.

مكانة السنة

مكانة السنة: لفضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرباصي الحمد لله عز وجل، هدى إلى معالم الطريق، ويسر أسباب التوفيق {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. أشهد أن لا إله إلا الله، هو أعلم حيث يجعل رسالته {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} 2. وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، جعله ربه سبب النعمة ومفتاح الرحمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 3. فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وشيعته، وأصحابه وكتيبته، والقائمين بأمر دعوته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4. يا أتباع محمد -عليه الصلاة والسلام! ... من الدسائس الخفية التى تسعى في الظلام لهدم الإسلام أن فئة من الناس أخذت تهون من شأن السنة النبوية، ومن مكانة سيد البشرية -عليه الصلاة والسلام- فهم يقولون: إنه بشر، وإنه يخطئ ويصيب، وإن أقواله من اجتهاده وعمل عقله فلا يعول

_ 1 البقرة: 143. 2 هود: 56. 3 الأحزاب: 45، 46. 4 البقرة: 143.

عليها، وهذا زعم باطل؛ فلا بد لها من مبين ومفسر، فكان هذا هو من اصطفاه الله لرسائله، وصنعه على عينه، وحمله تبعة أمانته، وهو الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- ولذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 1، وقال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. ومن هنا أصبح قول الرسول وعمله جزءًا من الدين وتشريع؛ لأنه المُبلِّغ من الله، والأمين على الوحي، والمطبِّق الأول للأحكام والتعاليم، وهو الذى فسر وأحال النصوص إلى أعمال وتطبيقات، وقد قال: "خذوا عنى مناسككم" 3، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلى" 4 وصرح كتاب الله العلي الأعلى بأن الرسول معصوم أمين ومتلقٍّ عن الله كل ما يقوله في الدين أو يعمله فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 5. وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 6. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 7.

_ 1 البقرة: 143. 2 البقرة: 143. 3 السنن الكبرى للبيهقي 5/ 125. 4 البخاري 1/ 162، 8/ 11، 9/ 107. 5 النجم: 3، 4. 6 النساء: 80. 7 الأنفال: 20.

وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2. السنة جزء من الوحى الإلهى: وترجم الرسول نفسه عن أن سنته جزء من الوحى الإلهي، فقال: "إني أوتيت الكتاب ومثله معه" 3، وقال: "والذى نفسى بيده ما خرج منه إلا الحق" 4. والأمة المؤمنة كلها من عهد رسوله تدرك أن السنة النبوية إنما اعتمدت على الوحى واستمدت منه، وكان المؤمنون الأولون يجمعون على أن هذه حقيقةث بديهية لا تقبل الجدل أو الارتياب، وهؤلاء مثلهم الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم أجمعين- وهم خيار الناس في المجتمع المسلم، كانت لهم آراؤهم وشخصياتهم، ولكنهم أمام سنة الرسول يخضعون ويسلمون؛ لأنها هدى النبي الأمين المتلقى عن الله رب العالمين، ولقد حدث أن بعض الخلفاء رأى بعض المسلمين يقول قولا ام يسمعه الخليفة من قبل، فقام يعرضه ويناهضه، ولكنه حينما علم أن هذا من قول الرسول المعصوم المؤيد بالوحي رجع وخضع، ولو رجعنا إلى أئمة الفقهاء لوجدناهم يجمعون على أن سنة الرسول جزء من الوحى.

_ 1 النساء: 65. 2 الحشر: 7. 3 صحيح بن حبان 97. 4 مسند الإمام أحمد 2/ 162.

السنة بين الأعلام والأقزام: وقد اتسع نطاق الفقه الإسلامى، ونشأت فيه من مذاهب ومدارس تقول بالقياس والرأي والاجتهاد، ومع هذا ظل أهلوها يخضعون لسلطان الحديث النبوى، فإذا قعَّدوا قاعدة، أو رأوا رأيا، أو استنبطوا حكما، ثم بلغهم حديثٌ ثابتٌ عن الرسول يخالف ما ذهبوا إليه رجعوا عن رأيهم، وخضعوا لما أتاهم من هدى الرسول، وهذا هو الإمام أبو حنيفة الذى يعتبر أكثر الأئمة أخذا بطريقة القياس والرأي كان يلغي رأيه أمام الحديث الثابت، وهذا هو الإمام الشافعى يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبى"، فإذا كان الأئمة الأعلام قد خضعوا وخشعوا أمام نور النبوة وجلال الرسالة، وحفظوا للسنة المحمدية جلالها ووقارها، فكيف استباح الصغار الأقزام أن يتطاولوا فيحرضوان على تركها أو الاستخفاف بها؟ ألا ساء ما يصنعون!. والواقع أن وظيفة السنة ترينا بوضوح أنها جزء من الوحي، وأنها المصدر الثانى الأساسي من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله تعالى؛ لأنها فسرت وأبانت، وشرحت وحددت وخصصت العام، وأوضحت المبهم، فالقرآن مثلا قد ذكر العبادات بأسمائها أو بملامح عامة لها، ولم يذكر صفاتها ولا كيفياتها، ولم يتعرض لما فيها من تفاصيل وأجزاء، فقال القرآن مثلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} 1، ولكن كيف نقيمها؟ جاءت السنة فذكرت لنا هيئة الصلاة وحددت مواقيتها، وبينت عددها، وما فيها من قيام وركوع وسجود وقعود وتشهد وسلام، وقال القرآن: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2.

_ 1 البقرة: 110. 2 البقرة: 110.

وجاءت السنة فتكفلت ببيان مقاديرها وطريقة جمعها والأنواع التى تؤخذ فيها. وقال القرآن: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} 1، ولكن كيف نصوم؟ ومتى نفطر؟ وما أنواع المفطرات؟ وما آداب الصيام؟ بكل ذلك جاءت السنة شارحة موضحة. وقال القرآن: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 2، ولكن الرسول جاء فأوضح لنا أحكام الحج وأعماله من إحرام وطواف وسعى ووقوف بعرفة وذبح ورمى للجمار، وقال لنا بعد بيان ذلك: "خذوا عنى مناسككم" أي حجوا كما رأيتموني أحج، أفلا تكون سنة الرسول مع هذا جزءا من الوحى، وجانبا من جوانب الدين؟! والسنة توضح من القرآن ما يحتاج إلى توضيح، فقد قال القرآن مثلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 3، فقال رجل عندما سمع الآية: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ويقع في ظلم "يقصد ألوان الظلم الكثيرة اليسيرة"، فقال له النبى: ليس ذاكم وإنما الشرك4، فهل فسر محمد هذا من عنده أو هو تعليم الله العليم الخبير؟ " والقرآن يقول في المحرمات: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 5.

_ 1 البقرة: 183. 2 آل عمران: 97. 3 الأنعام: 82. 4 البخارى 4/ 198. 5 النساء: 23.

فتأتى السنة النبوية، وتضيف إلى ذلك أنه يحرم أن يجمع الإنسان في الزواج بين المرأة وعمتها، أو بين المرأة وخالتها، أفيقول الرسول هذا برأيه أم يتلقاه عن الله رب العالمين؟ وهناك كثير من ألوان الطعام المحرمة التى يذكرها القرآن، وتكفلت السنة بذكرها، فصار حكمها واجب الالتزام لأنها أبانت جوانب من الحلال والحرام. اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم: قد يقال إن الرسول له اجتهاد، وهذا صحيح، فالرسول كان يجتهد فيمالم ينزل فيه حكم، وفي حادثة تعرض لأول مرة، وقد وجهه الله ذلك؛ ليدرب أمته على التماس وجوه الحق إذا لم يكن هناك نص، فتقوى العقول وتظهر الهمم، وقد حدث في بعض الأحيان القليلة أن اجتهد الرسول، ثم جاء القرآن الحكيم بحكم آخر؛ وذلك ليبين للناس أن الله وحده هو صاحب الأمر الأول والآخير، قال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} 1. ولذلك جاء في القرآن: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} 2. فالرسول بشر، وليس بإله ولا معبود، ولكنه مع هذا مؤيد بالوحي، معصوم بقدرة الله وتوجيهه، أمين في وحيه والتبليغ عن ربه، فإذا قال هؤلاء أو حكم حكما، أو منع شيئا، لم يكن ذلك اختراعا منه ولا ابتداعا من نفسه، بل هو جزء من وحي ربه يتمم به دعوة القرآن، ويوضح عن طريقه شريعة الإسلام، فوجب على كل مسلم أن يتلقى بالرضى والقبول والتسليم كل ما ثبت وصح من السنة النبوية وإلا كان غير خاضع للإسلام.

_ 1 القصص: 88. 2 الكهف: 110.

يا أتباع محمد -عليه الصلاة والسلام- احذروا أن يغركم بسنة رسولكم الغرور، ولا تلقوا بالا إلى أولئك الآثمين الذين يهونون من جلال السنة وآثار النبوة، فهم في الواقع يهونون من شأن الملة والشريعة، ومن واجب المجتمع أن يعجل بإنشاء دار الحديث التى تعنى بكل ما يتعلق به، وأن تتسع الدراسات المتعلقة بعلوم الحديث في الجامع الأزهر الشريف، وأن تهتم كل المجالات الإسلامية بهذه الدراسات، ومن واجباتنا أن تقبل على سنة الرسول فنتعرف إليه ونتدارسها، ونغترف منها، ونربط بها ناشئتنا وأسرنا، حتى تكون لنا من وراء كتاب ربنا هدْيا ونبراسًا، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 1. وسبحان من لو شاء لهدى الناس جميعا إلى سواء السبيل، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون} 2.

_ 1 الأحزاب: 4. 2 المائدة: 88.

عوامل مساعدة للخطيب

عوامل مساعدة للخطيب 1: في التحاميد المقتسبة من القرآن: الحمد لله ذى الأسماء الحسنى والمثل الأعلى2 لا يؤوده حفظ3 كبير ولا يعزب عنه علم صغير4 [يعلم] 5 خائنة الأعين وما تخفى الصدور، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 6. الحمد لله خلق الأشياء كلها على غير مثال وأنشأها على غير حدود ودبر الأمور بلا مشير، وقضى في الدهور بلا ظهير، و [أمسك] 7 السماء بقدرته8، وبناها بإرادته وأسكنها ملائكته الذين اصطفاهم لمجاورته وجبلهم على طاعته9، ونزههم عن معصيته، وجعلهم سكان سماواته، وحملة

_ 1 من كتاب الاقتباس من القرآن الكريم للثعالبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة جـ1، بتصرف. 2 في الأصل: "الحسنى ... الأعلى". 3 إشارة إلى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} "البقرة: 255". 4 من سورة يونس 61: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . 5 ما بين القوسين زيادة ليست في الأصل وهو في الآية 19 من سورة غافر. 6 الأنعام: 59. 7 في الأصل: "ومسك". 8 من قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} "الحج: 65". 9 في الأصل: "علي".

عرشه، ورسله إلى أنبيائه: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 1، وبسط [الأرض] 2 لكافة خلقه، وقسم بينهم الأرزاق وقدر لهم الأقوات. فهم في قبضته يتقلبون، وعلى أقضيته يجرون حتى يرث الأرض ومن عليها "وهو خير الوارثين"3. الحمد لله الذي خلق السماء بأيده فرفعها4، ودحا الأرض بقدرته5 فبسطها، وبث فيها من كل دابة، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير6. الحمد لله الذي قدر فسوى، وخلق فهدى، ولم يترك خلقه سدى7، ولكنه امتحنهم وابتلاهم، وأمرهم ودعاهم لما يحييهم، وندبهم إلى ما ينجيهم، فقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 8. الحمد لله المعز المذل، المرشد المبطل الذي يزهق الباطل بنعمائه9، {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه} 10 {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} 11.

_ 1 في الأصل: "ولا يفترون". 2 في الأصل: "وبسطها". 3 من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} "مريم: 40" ومن قوله تعالى: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} "الأنبياء: 89". 4 إشارة إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} "الذاريات: 47". 5 إشارة إلى قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} "النازعات: 30". 6 من قوله تعالى في سورة الشورى: 29. 7 إشارة إلى قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} "القيامة: 36 ". 8 النساء: 59. 9 في الأصل: "بنعمائه". 10 من قوله تعالى في سورة يونس: 82. 11 من قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} "التوبة: 33".

الحمد لله السابغ عطاؤه، النافذ قضاؤه، الذى ينتقم من الظالمين1 {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} 2. فى التقوى: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 3. وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين} 4. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} 5. وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون} 6. وقال: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 7. وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 8.

_ 1 إشارة إلى قوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُون} "السجدة: 22"، وقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} "الروم: 47". 2 من سورة الأنعام: 147. 3 "المائدة: 35". 4 "آل عمران: 76". 5 "المائدة: 27". 6 "النحل: 128". 7 "الأنفال: 29". 8 "الحجرات: 13".

وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 1. وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} 2. في الصبر: وقال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْر} 3، {اصْبِرُوا} 4، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 5، {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} 6. وقال: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} 7. وقال: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِر} 8. وقال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} 9. في الشكر: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} 10.

_ 1 الطلاق: 2، 3. 2 الطلاق: 4. 3 البقرة: 45. 4 آل عمران: 200. 5 النحل: 126. 6 الفرقان: 75. 7 المعارج: 5. 8 المدثر: 7. 9 الإنسان: 12. 10 سبأ: 13.

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} 1. {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} 2. {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 3. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 4. {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} 5. {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 6. في العفو: قال الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 7، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 8. وقال: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 9.

_ 1 سبأ: 13. 2 النساء: 147. 3 النحل: 114. 4 لقمان: 14. 5 الزمر: 7. 6 الزمر: 66. 7 المائدة: 13. 8 النور: 22. 9 الزخرف: 89.

في صلة الرحم: قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 1. وقد ذم قاطع الرحم فقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} 3. في بر الوالدين: قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} 4. وقال عز ذكره: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 5 فأمر بشكر الوالدين بعد شكره. في الإنفاق والجود: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 6.

_ 1 النساء: 1. 2 البقرة: 27. 3 الرعد: 21. 4 العنكبوت: 8. 5 لقمان: 14. 6 البقرة: 254.

وقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 2، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} 4. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 5، {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُم} ، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 6. في ذكر المروءة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 7. في حسن القول للناس: قال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} 8. وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 9.

_ 1 نفسها: 274. 2 نفسها: 267. 3 في الأصل: "ما اتها". 4 الطلاق: 7. 5 البقرة: 272. 6 التغابن: 16. 7 النحل: 90. 8 البقرة: 83. 9 الإسراء: 53.

وأمر نبيه موسى وأخاه هارون بتليين القول لفرعون فقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1. وقال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [وَمَغْفِرَةٌ] خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} 2. في الصدق: قال الله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} 3. وقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} 4.

_ 1 "طه: 44". 2 ما بين القوسين ساقط من أصل المخطوط والآية من سورة "البقرة: 263". 3 "التوبة: 119". 4 "الأحزاب: 24".

الفهرس

الفهرس: رقم الصفحة الموضوع 5 1- المقدمة. 7 2- الكوادر الدعوية. 10 3- علم الخطابة. 10 4- الخطابة: "تعريفها. أنواعها. طرق تحصيلها". 14 5- الآداب الخطابية. 17 6- زاد الخطيب. 18 7- التنسيق. 26 8- فنون الخطابة الإسلامية. 31 9- الخطابة في صدر الإسلام. 35 10- من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم. 35 خطبته في عشيراته. 35 أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه. 38 خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة. 40 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 40 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 41 خطبته في حجة الوداع. 48 خطبته يوم فتح مكة. 49 خطبة له يوم أحد. 50 خطبته بالخيف. 51 خطبة له عليه الصلاة والسلام.

رقم الصفحة الموضوع 51 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 51 خطبة له عليه الصلاة والسلام. 52 خطبته في الاستسقاء. 54 خطبته في مرض موته. 55 11- تعليق على خطب النبي صلى الله عليه وسلم. 57 12- من خطب أبي بكر رضى الله عنه. 58 خطبته بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. 59 خطبته في سقيفة بني ساعدة. 60 خطبته بعد بيعة السقيفة. 62 13- خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 62 خطبته بعد تولية الخلافة. 63 خطبته في منهجه. 64 خطبته في الدعاء. 66 خطبة له رضي الله عنه. 68 خطبة له رضي الله عنه يبين فيها وجوب شكر الله. 68 14- خطب عثمان بن عفان رضي الله عنه. 69 خطبة بعد بيعته رضي الله عنه. 69 خطبة له رضي الله عنه. 70 15- خطبة لعلى كرم الله وجهه. 71 16- خطبة لعمر بن عبد العزيز. 73 17- خطب لعمر بن عبد العزيز. 75 18- خطبة للمأمون.

رقم الصفحة الموضوع 76 19- خطب من العصر الحديث للدكتور أحمد الشرنباصي. 76 أسلوب الدعوة إلى الله. 82 ففروا إلى الله. 87 بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. 91 تمييع الشباب. 96 مكانة السنة. 103 20- عوامل مساعدة للخطيب.

§1/1