الخشوع في الصلاة في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة مُفصَّلة في ((الخشوع في الصلاة)) ذكرت فيها واحداً وعشرين مبحثاً، وذكرت في المبحث الحادي والعشرين ثلاثة وخمسين سبباً من الأسباب التي تزيل الغفلة، وتجلب الخشوع في الصلاة، وهذه المباحث على النحو الآتي: المبحث الأول: ... مفهوم الخشوع: لغة وشرعاً. المبحث الثاني: ... الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق. المبحث الثالث: ... الخشوع في الصلاة: علم نافع وعمل صالح. المبحث الرابع: ... فضائل الخشوع لله تعالى في الصلاة. المبحث الخامس: ... الفرق بين الخشوع، والوجل، والقنوت، والسكينة، والإخبات، والطمأنينة. المبحث السادس: ... حكم الخشوع في الصلاة. المبحث السابع: ... منزلة الخشوع في الصلاة. المبحث الثامن: ... حكم الوسوسة في الصلاة. المبحث التاسع: ... الخشوع في الصلاة من إقامتها. المبحث العاشر: ... التحذير من ترك الخشوع في الصلاة.

المبحث الحادي عشر: ... الصلاة بخشوع قرةٌ للعين وراحةٌ للقلب. المبحث الثاني عشر: ... مشاهد الصلاة التي تقرُّ بها العين. المبحث الثالث عشر: ... أقسام الناس في الخشوع في الصلاة. المبحث الرابع عشر: ... خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته. المبحث الخامس عشر: ... خشوع الصحابة - رضي الله عنهم - في صلاتهم. المبحث السادس عشر: ... خشوع التابعين وأتباعهم في صلاتهم. المبحث السابع عشر: ... الخشوع في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها. المبحث الثامن عشر: ... درجات الخشوع في الصلاة. المبحث التاسع عشر: ... فوائد الخشوع في الصلاة. المبحث العشرون: ... الخشوع يثمر التلذذ بطعم الصلاة. المبحث الحادي والعشرون: ... ما يزيل الغفلة، ويجلب الخشوع في الصلاة. وتحته ثلاثة وخمسون سبباً من أسباب الخشوع في الصلاة، وهي على النحو الآتي: السبب الأول: ... معرفة الله تعالى. السبب الثاني: ... علاج قسوة القلب. السبب الثالث: ... الابتعاد عن الوسوسة. السبب الرابع: ... متابعة المؤذن من الأمور التي تجلب الخشوع في الصلاة. السبب الخامس: ... العمل بآداب المشي إلى الصلاة من أعظم ما يجلب الخشوع. السبب السادس: ... عدم الالتفات لغير حاجة. السبب السابع: ... عدم رفع البصر إلى السماء. السبب الثامن: ... عدم افتراش الذراعين في السجود. السبب التاسع: ... عدم التَّخصُّر. السبب العاشر: ... عدم النظر إلى ما يُلهي ويشغل.

السبب الحادي عشر: ... عدم الصلاة إلى ما يشغل ويُلهي. السبب الثاني عشر: ... عدم الإقعاء المذموم. السبب الثالث عشر: ... عدم عبث المصلي بجوارحه. السبب الرابع عشر: ... عدم تشبيك الأصابع، وفرقعتها في الصلاة. السبب الخامس عشر: ... عدم الصلاة بحضرة الطعام. السبب السادس عشر: ... عدم مدافعة الأخبثين [البول والغائط]. السبب السابع عشر: ... عدم بصاق المصلي أمامه، أو عن يمينه في الصلاة. السبب الثامن عشر: ... عدم كف الشعر أو الثوب في الصلاة. السبب التاسع عشر: ... عدم عقص الرأس في الصلاة. السبب العشرون: ... عدم تغطية الفم في الصلاة. السبب الحادي والعشرون: ... عدم السدل في الصلاة. السبب الثاني والعشرون: ... عدم تخصيص مكان من المسجد للصلاة. السبب الثالث والعشرون: ... عدم الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة. السبب الرابع والعشرون: ... عدم التثاؤب في الصلاة. السبب الخامس والعشرون: ... عدم الركوع قبل أن يصل إلى الصف. السبب السادس والعشرون: ... عدم الصلاة في المسجد لمن أكل البصل والثوم. السبب السابع والعشرون: ... عدم صلاة النفل عند مغالبة النوم. السبب الثامن والعشرون: ... الصلاة إلى سترة، والدنوِّ منها. السبب التاسع والعشرون: ... وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر. السبب الثلاثون: ... الإشارة بالسبابة، وتحريكها في الدعاء في التشهد. السبب الحادي والثلاثون: ... النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة. السبب الثاني والثلاثون: ... العلم بأنَّ المصلِّي يدعو الله ويخاطبه، وأن الله يرَدّ عليه. السبب الثالث والثلاثون: ... الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.

السبب الرابع والثلاثون: ... تدبّر القرآن في الصلاة يجلب الخشوع، ويطرد الغفلة. السبب الخامس والثلاثون: ... تحسين القراءة بالقرآن وترتيله. السبب السادس والثلاثون: ... سجود التلاوة في الصلاة. السبب السابع والثلاثون: ... المحافظة على سنن الصلاة: القولية والفعلية. السبب الثامن والثلاثون: ... ذكر الموت في الصلاة. السبب التاسع والثلاثون: ... الحذر من الغفلة. السبب الأربعون: ... الاستجابة لله ولرسوله، مع العلم أن الله يحول بين العبد وقلبه. السبب الحادي والأربعون: ... سؤال الله تعالى الخشوع في الصلاة. السبب الثاني والأربعون: ... العلم بأن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل منها. السبب الثالث والأربعون: ... معرفة خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته. السبب الرابع والأربعون: ... معرفة خشوع الصحابة والتابعين وأتباعهم رحمهم الله. السبب الخامس والأربعون: ... العلم بما ثبت في التحذير من ترك الخشوع، وما ثبت من الترغيب في الخشوع. السبب السادس والأربعون: ... فهمُ وتدبُّر معاني أفعال الصلاة يجلب الخشوع فيها. السبب السابع والأربعون: ... فهم وتدبُّر معاني أقوال الصلاة. السبب الثامن والأربعون: ... التنويع في الاستفتاح، والقراءة، والأذكار في الصلاة. السبب التاسع والأربعون: ... الاجتهاد في الدعاء في مواضعه في الصلاة. السبب الخمسون: ... إحسان الطهور، وإكماله. السبب الحادي والخمسون: ... المحافظة على صفة الصلاة الكاملة من كل وجه. السبب الثاني والخمسون: ... المحافظة على الأذكار أدبار الصلوات المفروضة. السبب الثالث والخمسون: ... المحافظة على السنن الرواتب قبل الفريضة وبعدها. وقد استفدت كثيراً من تقريرات وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى.

والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل: خالصاً لوجهه الكريم، مباركاً، نافعاً لي في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه، وأن يجعله حجةً لنا، لا حجَّةً علينا؛ فإنه تعالى أكرم مسؤول، وأحسن مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر بعد ظهر يوم السبت 20/ 6/1430هـ

المبحث الأول: مفهوم الخشوع: لغة وشرعا

المبحث الأول: مفهوم الخشوع: لغة وشرعاً أولاً: الخشوع لغة: قال ابن فارس رحمه الله: ((خشع: الخاء والشين والعين أصلٌ واحدٌ، يدل على التَّطامُن، يقال: خشع إذا تطامن وطأطأ رأسه، ويخشع خشوعاً، وهو قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن ... والخشوع في الصوت والبصر، قال الله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} (¬1)، قال ابن دريد: الخاشع: المستكين والراكع ... )) (¬2). وقال ابن منظور رحمه الله: ((خشع يخشع خشوعاً، واختشع وتخشَّع: رمى ببصره نحو الأرض، وغضّه، وخفض صوته .. وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن ... والخشوع: في البدن، والصوت، والبصر، كقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} (¬3)، أي: سكنت، وكل ساكن خاضع خاشع ... )) (¬4). وقال الفيروزأبادي رحمه الله: ((الخشوع: الخضوع، كالاختشاع - والفعل كمنع - أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر، والخشوع: السكون والتذلل ... )) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة القلم، الآية: 43. (¬2) معجم المقاييس في اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، المتوفى سنة 395هـ، تحقيق شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ، كتاب الخاء، باب الخاء والشين ... ، ص 316. (¬3) سورة طه، الآية: 108. (¬4) لسان العرب، لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، ت 630، باب الخاء والشين ... ، ص 316. (¬5) القاموس المحيط، لمحمد بن يعقوب الفيروزأبادي، ت 817هـ، باب العين، فصل الخاء، ص 921.

وقال محمد بن أبي بكر الرازي رحمه الله: ((الخشوع: الخضوع، وبابهما واحد، يقال: خشع واختشع، وخشع ببصره: أي غضه ... والتخشُّع: تكلّف الخشوع ... )) (¬1). وقال الفيُّومي رحمه الله: ((خشع خشوعاً: إذا خضع، وخشع في صلاته ودعائه: أقبل بقلبه على ذلك، وهو مأخوذ من خشعت الأرض، إذا سكنت واطمأنت)) (¬2). وقال أبوالسعادات ابن الأثير رحمه الله: (( ... والخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن)) (¬3). وقال الراغب الأصفهاني: ((الخشوع الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ... )) (¬4). وقال الجرجاني رحمه الله: ((الخشوع، والخضوع، والتواضع: بمعنى واحد ... )) (¬5). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والخشوع في أصل اللغة: الانخفاض، والذّل، والسكون، قال اللَّهُ تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ ¬

_ (¬1) مختار الصحاح للرازي، مادة: (خشع) ص 74. (¬2) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف أحمد بن محمد الفيُّومي، مادة ((خشع)) 1/ 170. (¬3) النهاية في غريب الحديث والأثر، باب الخاء مع الشين، 2/ 34. (¬4) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة: ((خشع)) ص 283. (¬5) التعريفات للجرجاني، ص 132 فصل الشين.

ثانيا: الخشوع اصطلاحا

لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} (¬1)، أي سكنت، وذلَّت، وخضعت، ومنه وصف الأرض بالخشوع، وهو يبسها، وانخفاضها، وعدم ارتفاعها بالري والنبات، قال اللَّه تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2) (¬3). ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} (¬4)، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} (¬5)، وقال سبحانه: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (¬6)، وقال - عز وجل -: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} (¬7). وقال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} (¬8). وهذا المعنى الذي دار في هذه الآيات: يدلُّ على الخضوع، والسكون، والتذلُّل لجميع الأعضاء كلها. ثانياً: الخشوع اصطلاحاً: قال الجرجاني رحمه الله: ((الخشوع ... في ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 108. (¬2) سورة فصلت، الآية: 39. (¬3) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 520. (¬4) سورة القلم، الآية: 43. (¬5) سورة الغاشية، الآية: 2. (¬6) سورة القمر، الآية: 7. (¬7) سورة النازعات، الآيات: 8 - 10. (¬8) سورة الشورى، الآية: 45.

اصطلاح أهل الحقيقة ... الانقياد للحق، وقيل: هو الخوف الدائم في القلب، قيل من علامات الخشوع: أن العبد إذا غضب أو خُولف أو رُدَّ عليه استقبل ذلك بالقبول)) (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه: ((الخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخُضُوع والذُّلِّ ... )) (¬2). وقيل: ((الخشوع: الانقياد للحق، وهذا من موجبات الخشوع، فمن علامته: أن العبد إذا خولف ورُدَّ عليه بالحق، استقبل ذلك بالقبول والانقياد)) (¬3). وقيل: ((الخشوع تذلّل القلوب لعلاَّم الغيوب)) (¬4). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته على الجوارح، وهي تظهره)) (¬5). وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: ((وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... ألاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ ¬

_ (¬1) التعريفات للجرجاني، فصل الشين، ص132. (¬2) مدارج السالكين، 1/ 521. (¬3) المرجع السابق: 1/ 521. (¬4) مدارج السالكين: 1/ 521. (¬5) المرجع السابق: 1/ 521.

الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)) (¬1). فإذا خشع القلب خشع: السمع، والبصر، والرأس، والوجه، وسائر الأعضاء، وما ينشأ منها حتى الكلام؛ [و] لهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه في الصلاة: (( .. اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي، .. )) [((وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي))] (¬2). وقيل: الخشوع: الخضوع، والتواضع (¬3). وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((الخوف، والخشية، والخضوع، والإخبات، والوَجَل: معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد من محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أنَّ خوفه مقرون بمعرفة الله، وأما الخضوع، والإخبات، والوجل، فإنها تنشأ عن الخوف، والخشية، فيخضع العبد لله، ويخبت إلى ربه منيباً إليه بقلبه، ويحدث له الوجل، وأما الخشوع، فهو حضور القلب وقت تلبّسه بطاعة الله، وسكون ظاهره وباطنه، فهذا خشوع خاص، وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خواصّ المؤمنين، فينشأ من كمال معرفة العبد بربه، ومراقبته، فيستولي ذلك على القلب كما تستولي ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم 52، ومسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، برقم 1599. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771، وما بين المعقوفين من لفظ ابن خزيمة في صحيحه، برقم 607، وابن حبان، برقم 1901. (¬3) معجم لغة الفقهاء، لمحمد روّاس، ص173.

المحبة)) (¬1). والتعريف المختار: الخشوع: لين القلب، وخضوعه، ورقته، وسكونه، وحضوره وقت تَلبُّسه بطاعة الله، فتتبعه جميع الجوارح والأعضاء ظاهراً وباطناً؛ لأنها تابعة للقلب، وهو أميرها، وهي جنوده، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 361 - 362، دار عالم الكتب، 1424هـ إشراف وتوزيع وزارة الشئون الإسلامية، المملكة العربية السعودية.

المبحث الثاني: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق

المبحث الثاني: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق إذا ظهرت آثار الخشوع على الجوارح، ولم يكن في القلب شيء منه، فهذا خشوع النفاق؛ ولهذا قال حذيفة - رضي الله عنه -: ((إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع)) (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وقال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن، ورأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين والبدن، فقال: يا فلان، الخشوع ها هنا - وأشار إلى صدره- لا ها هنا- وأشار إلى منكبيه-، ... )) (¬2)، ورأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة فقال: ((يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب)) (¬3). ورأت عائشة رضي الله عنها شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ قالوا نُسَّاك (أي عُبَّاد)، فقالت: ((كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقّاً)) (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره ابن القيم في مدارج السالكين، 1/ 521، وابن رجب في كتاب الخشوع في الصلاة، ص 13، وأخرجه الديلمي، في مسند الفردوس، 2/ 204، برقم 3007، وابن عدي، في الكامل في الضعفاء، 3/ 455، ترجمة رقم871. (¬2) ذكره ابن القيم في: مدارج السالكين، 1/ 521، والأثر في حلية الأولياء، 10/ 230، واعتبره صاحب كتاب تكميل النفع، ص 123غير صحيح نسبته لعمر - رضي الله عنه -. (¬3) مدارج السالكين، 1/ 521، وأورده صاحب إحياء علوم الدين، 5/ 41. (¬4) مدارج السالكين، 1/ 521، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح السماوي بتخريج أحاديث القاضي البيضاوي، 2/ 916: ((وَكَأَنَّهُ أَخذه من الْفَائِق))، وقال العجلوني في كشف الخفاء، 1/ 452: ((وهو في النهاية والفائق وغيرهما)).

وقال الفضيل: ((كان يُكْرَهُ أن يُرِيَ الرجلُ من الخشوع أكثر مما في قلبه)) (¬1). وقال حذيفة - رضي الله عنه -: ((أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة، فلا ترى فيهم خاشعاً)) (¬2). وقال سهل: ((من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان)) (¬3) (¬4). قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ((والفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق، أن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم، والإجلال، والوقار، والمهابة، والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل، والخجل، والحب، والحياء، وشهود نعم الله وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح. وأما خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعاً وتكلُّفاً، والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعاً، والقلب غير خاشع، فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، 1/ 521، وذكره القشيري في رسالته الشهيرة، ص 68. (¬2) مصنف ابن أبي شيبة، 7/ 140، برقم 34808، وحلية الأولياء، 1/ 281، وقال المناوي في فيض القدير، 3/ 114: ((قال الزين العراقي في شرح الترمذي وتبعه الهيثمي: فيه عمران القطان ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه أحمد)). (¬3) ذكره الثعالبي في تفسيره، 3/ 64 وعزاه لسهل التستري أيضاً، ومثله الفيروزأبادي في بصائر ذوي التمييز، 1/ 722. (¬4) ذكر هذه الآثار ابن القيم في مدارج السالكين، 1/ 521 - 522.

وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي حُشِيَ به، وخمدت الجوارح، وتوقّر القلب، واطمأنّ إلى الله وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مُخبِتاً له، والمخبت (¬1) المطمئنّ، فإن الخبت من الأرض ما اطمأنّ (¬2) فاستنقع فيه الماء. فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن (¬3) كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه - إجلالاً، وذُلاًّ، وانكساراً بين يديه - سجدة، لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه ... فهذا خشوع الإيمان. وأما التماوت، وخشوع النفاق، فهو حالُ عبدٍ تكلَّف إسكان الجوارح تَصنُّعاً، ومراعاة، ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات، وإرادات، فهو يتخشع (¬4) في الظاهر، وحية الوادي، وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مفردات غريب القرآن للراغب، ص 141. (¬2) وفي مخطوطة: (ما تطامن). (¬3) وفي بعض المخطوطات: (ما تطامن). (¬4) وفي مخطوطة: (متخشع). (¬5) كتاب الروح لابن القيم، تحقيق د. بسام علي سلامة العموش، الطبعة الأولى 1406هـ، نشر دار ابن تيمية، المملكة العربية السعودية، الرياض، 2/ 694 - 695.

المبحث الثالث: الخشوع لله في الصلاة علم نافع وعمل صالح

المبحث الثالث: الخشوع لله في الصلاة علم نافع وعمل صالح الخشوع علم نافع، وهو عمل صالح من أعمال القلوب، ويتبعها عمل الجوارح، للأحاديث الآتية: 1 - عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: ((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ - رضي الله عنه -: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟! فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا! فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ (¬1) يَا زِيَادُ! إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟)). قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ: الْخُشُوعُ؛ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الجَامِعِ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعاً)) (¬2). ¬

_ (¬1) ثكلتك أمك: أي فقدتك، وأصله الدعاء بالموت، ثم يستعمل في التعجب. انظر: تحفة الأحوذي للمباركفوري، 7/ 413. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في ذهاب العلم، برقم 2653، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، والدرامي، 1/ 75، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 59، وأخرجه أيضاً أحمد في المسند من حديث جبير، عن عوف بن مالك، وساق الحديث بنحوه، برقم 23990، والنسائي في الكبرى، برقم 5878، وابن حبان، برقم 4572، ورقم 6720.

2 - عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أوَّلُ ما يُرْفَعُ مِنَ النّاسِ الخُشُوعُ)) (¬1). 3 - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في دعائه: (( ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)) (¬2). وقلب لا يخشع: علمه لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع (¬3). قال الإمام ابن رجب رحمه الله: ((فالعلم النافع هو ما باشر القلوب، فأوجب لها السكينة، والخشية، والإخبات لله، والتواضع، والانكسار، وإذا لم يباشر القلب ذلك من العلم، وإنما كان على اللسان، فهو حجة الله على ابن آدم يقوم على صاحبه، وغيره كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب يرسخ فيه نفع صاحبه. وقال الحسن رحمه الله: العلم علمان: علم باللسان، وعلم ¬

_ (¬1) الطبراني في الكبير، برقم 7183 مرفوعاً، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 136: (( .. وفيه عمران بن داوود القطان ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه أحمد، وابن حبان)) وقد جاء موقوفاً على شداد عند أحمد، برقم 23990، وصححه محققو المسند، وأخرج هذا الموقوف النسائي في الكبرى، برقم 5878،وابن حبان، برقم 4572،ورقم 6720، وله شاهد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -،قال: ((أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً)) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 136، وقال: ((رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن)). ثم حديث شداد لا يقال بالرأي والاجتهاد، فله حكم الرفع. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب في الأدعية، برقم 2722. (¬3) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص 19.

بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على ابن آدم)) (¬1). وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬2)، وقال - عز وجل -: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬3). ووصف اللَّه العلماء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع، فقال سبحانه: {قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (¬4)، وقوله سبحانه في وصف هؤلاء الذين أوتوا العلم، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً: مدحٌ لمن أوجب له سماع كتاب الخشوع لله - عز وجل - في قلبه)) (¬5). ¬

_ (¬1) الخشوع في الصلاة لابن رجب ص 16. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية، 1/ 83 مرفوعاً، وقال هذا حديث لا يصح، وضعفه الألباني في تخريج كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 24. (¬2) سورة فاطر، الآية: 28. (¬3) سورة الزمر، الآية: 9. (¬4) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109. (¬5) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص17.

المبحث الرابع: فضائل الخشوع لله تعالى في الصلاة:

المبحث الرابع: فضائل الخشوع لله تعالى في الصلاة: ثبت في الخشوع في الصلاة فضائل كثيرة، منها الفضائل الآتية: 1 - من فرَّغ قلبه لله تعالى في صلاته انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه؛ لحديث عمرو بن عبسة السُّلمي - رضي الله عنه - الطويل، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن ذكر فضائل الوضوء: (( .... فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .. )) وذكر عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سمع هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سبع مرات (¬1). 2 - من صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسَه غفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه -، أنه حين توضأ وضوءاً كاملاً قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬2). 3 - من صلَّى صلاةً مكتوبةً فأحسن خشوعها كانت كفّارةً لما قبلها من الذنوب؛ لحديث عثمان - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، برقم 832، وهذا الحديث فيه فوائد كثيرة، فليراجعه من شاء. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء، برقم 164، ومسلم كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء، برقم 226.

4 - من صلى ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه وجبت له الجنة

يأْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)) (¬1). 4 - من صَلَّى ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه وجبت له الجنة؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)) (¬2). 5 - الفوز والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة للخاشعين في صلاتهم، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬3). والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضراً لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقلُّ التفاته، متأدِّباً بين يدي ربه، مستحضراً جميع ما يقوله ويفعله في صلاته من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها، ولا حضور قلب، وإن كانت مجزئة مثاباً عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها (¬4). 6 - المغفرة والأجر العظيم للخاشعين؛ لقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، برقم 228. (¬2) مسلم كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬3) سورة المؤمنون، الآيتان: 1 - 2. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 547.

7 - الخاشعون والخاضعون لله مبشرون بكل خير في الدنيا والآخرة

أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (¬2). 7 - الخاشعون والخاضعون لله مُبشَّرون بكل خير في الدنيا والآخرة؛ لقول الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (¬3). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((الخبت: المطمئن من الأرض ... ثم استعمل الإخباتُ استعمال اللين والتواضع، قال الله تعالى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 199. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬3) سورة الحج، الآية: 34. (¬4) سورة هود، الآية: 23.

وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (¬1)، أي المتواضعين، نحو: {الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} (¬2)، وقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} (¬3) أي تلين وتخشع، والإخبات هنا قريب من الهبوط في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (¬4). وقال ابن منظور رحمه الله: ((الخبت ما اطمأن من الأرض واتَّسع ... {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} (¬5) أي تواضعوا، وقال الفرّاء: أي تخشَّعوا لربهم ... وأخبت لله: خشع، وأخبت: تواضع، وكلاهما من الخبت، وفي التنزيل العزيز: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}} (¬6) فسَّره ثعلب بأنه التواضع، وفي حديث الدعاء: ((وَاجْعَلْنِي لَكَ مُخْبِتَاً)) (¬7) أي خاشعاً مطيعاً، والإخبات: الخشوع والتواضع (¬8). وقال ابن الأثير رحمه الله: ((وَاجْعَلْنِي لَكَ مُخْبِتَاً)) (¬9) أي خاشعاً ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 34. (¬2) سورة الأعراف، الآية:206. (¬3) سورة الحج، الآية: 54. (¬4) سورة البقرة، الآية: 74. (¬5) سورة هود، الآية: 23. (¬6) سورة الحج، الآية: 54. (¬7) جزء من حديث أخرجه أحمد، 1/ 127، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلَّم، برقم 1510، 1511، والترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3551، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3830، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 519، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 414، وفي صحيح الترمذي، 3/ 178. (¬8) لسان العرب، باب التاء، فصل الخاء، 2/ 27. (¬9) أحمد، 1/ 127، وأبو داود، برقم 1510، 1511، وابن ماجه، 3830، وتقدم تخريجه قبل الذي قبله.

8 - الخشوع والتواضع لله من أعظم أسباب دخول الجنة،

مطيعاً، والإخبات: الخشوع والتواضع، وقد أخبت لله: يخبت .. وأصلها من الخبت المطمئن من الأرض)) (¬1). وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله هذه المعاني السابقة، ثم قال: ((والخبت في أصل اللغة: المكان المنخفض من الأرض ... ))، ثم قال: ((وقال إبراهيم النخعي: المصلُّون المخلصون، وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم .. وهذه الأقوال تدور على معنيين: التواضع، والسكون إلى الله - عز وجل - ... )) (¬2). 8 - الخشوع والتواضع لله من أعظم أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). 9 - الخشوع لله تعالى يورث هداية الله تعالى وتثبيته؛ لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬4). قال العلامة السعدي رحمه الله: (({فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع، وتخضع، وتسلِّم لحكمته، وهذا من هدايته إياهم {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا} بسبب إيمانهم {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} علم بالحق، وعمل بمقتضاه، فيثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة ((خبت)) 2/ 4. (¬2) مدارج السالكين، 2/ 3، وانظر: تفسير ابن كثير، ص 898. (¬3) سورة هود، الآية: 23. (¬4) سورة الحج، الآية: 54.

10 - أفضل الناس أخشعهم لله تعالى،

الدنيا وفي الآخرة، وهذا النوع من تثبيت الله لعبده)) (¬1). 10 - أفضل الناس أخشعهم لله تعالى، فالخشوع لله تعالى إذا كان بسبب معرفة الله بأسمائه وصفاته، وأفعاله، والرغبة فيما عنده، والخشية من عقابه، ومبْنيٌّ على حبه، وخوفه مع رجائه، فهذا كلُّه يجعل العبد أفضل الناس؛ ولهذا قال سفيان رحمه الله تعالى: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله)) (¬2). وقال سفيان أيضاً: ((يراد للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر)) (¬3). وقال سفيان أيضاً رحمه الله: ((كان يُقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله، ليس بعالم بأمر الله، وعالمٌ بالله، عالم بأمر الله، يخشى الله، فذاك العالم الكامل، وعالم بأمر الله، ليس بعالم بالله، لا يخشى الله، فذلك العالم الفاجر)) (¬4). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((هذه الكلمات ينبغي أن تنقل)) (¬5). 11 - مَنْ أتمَّ الصَّلوات الخمس بخشوع كان له على الله عهد أن يغفر له؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال ... أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص542. (¬2) أخرجه الدارمي، 1/ 81، برقم 337. (¬3) أخرجه الدارمي، 1/ 81، برقم 337. (¬4) سنن الدارمي: 1/ 86، برقم 369. (¬5) سمعته أثناء تقريره على سنن الدارمي، الحديث رقم 369.

12 - مدح الله تعالى الخاشعين في طاعته ووصفه لهم بالعلم؛

رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلاَّهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ، وَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ)) (¬1). 12 - مدح الله تعالى الخاشعين في طاعته ووصفه لهم بالعلم؛ لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2)، والقنوت هنا هو الخشوع في الطاعة؛ ولهذا قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: (( ... القنوت يرد في القرآن على قسمين: قنوت عام، كقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬3) أي الكل عبيد خاضعون لربوبيّته، وتدبيره، والنوع الثاني: وهو الأكثر في القرآن: القنوت الخاص، وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع، مثل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} (¬4)، وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬5)، وقوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (¬6)، وقوله: ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات، برقم 425، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 125. (¬2) سورة الزمر: الآية 9. (¬3) سورة الروم، الآية: 26. (¬4) سورة الزمر، الآية: 9. (¬5) سورة البقرة، الآية: 238. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 43.

{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (¬1)، ونحوها)) (¬2). وقد قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وفُسِّرَ بكل واحد منهما في قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}} (¬3)، وقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬4) قيل: خاضعون، وقيل: طائعون، وقيل: ساكتون، ولم يُعْنَ به كل السكوت، وإنما عُنِيَ به ما قال عليه الصلاة السلام: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَمَّا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) (¬5)، وعلى هذا قيل: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طُولُ القُنُوتِ)) (¬6) أي الاشتغال بالعبادة، ورفض كل ما سواه، وقال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} (¬7)، وقال: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (¬8)، وقال: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} (¬9)، وقال: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ} (¬10)، وقال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬11)، وقال: {وَالْقَانِتِينَ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬2) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 311،وانظر: المرجع نفسه ص 362. (¬3) سورة البقرة، الآية: 238. (¬4) سورة الروم، الآية: 26. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، وما نسخ من إباحته، برقم 537. (¬6) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم 756. (¬7) سورة النحل، الآية: 120. (¬8) سورة التحريم، الآية: 12. (¬9) سورة الزمر، الآية: 9. (¬10) سورة آل عمران، الآية: 43. (¬11) سورة الأحزاب، الآية: 31.

وَالْقَانِتَاتِ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} (¬2) (¬3). والقنوت في الحديث يُروَى بمعانٍ متعددةٍ، فيطلق على: الخشوع، والطاعة، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، والسكون، وإقامة الطاعة، والخضوع (¬4)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن ابن العربي ذكر أن القنوت ورد لعشرة معانٍ، نظمها الحافظ زين الدين العراقي، فقال: ((ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد ... مزيداً على عشرة معاني مرضيَّه دعاءٌ، خشوعٌ، والعبادة، طاعة ... إقامتها، إفراده بالعبودية سكوتٌ، صلاة، ٌ والقيام، وطوله ... كذا دوام الطاعة الرابح القنية)) (¬5) ويصرف كل واحدة من هذه المعاني إلى ما يدل عليه الحديث، أو الكلام الوارد فيه، وما يقتضيه سياقه (¬6). 13 - أثنى الله - عز وجل - على من يوجل قلبه لذكر الله بأنه يخافه ويخشاه، ووصفه بالإيمان الكامل، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬2) سورة النساء، الآية: 34. (¬3) مفردات ألفاظ القرآن، ص 684. (¬4) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، باب القاف مع النون، 4/ 111، ومشارق الأنوار على الصحاح والآثار للقاضي عياض، حرف القاف مع سائر الحروف، 2/ 162، وهدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر، ص 176. (¬5) فتح الباري لابن حجر، 2/ 191. (¬6) النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/ 111، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 491، وهدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 176.

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} (¬1)، وقوله تعالى: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬3)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (¬4). ووجل القلب: الوجل: استشعار الخوف، يقال: وَجِلَ يَوْجَلُ وَجَلاً، فهو وَجِل (¬5). قال ابن كثير رحمه الله: (({وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: فرقت: أي فزعت وخافت، وهذه صفة المؤمن ... الذي إذا ذكر الله وجل قلبه: أي خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره)) (¬6). وقال السعدي رحمه الله: ((أي خافت ورهبت فأوجبت لهم خشية الله تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف الله تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب)) (¬7)، وقال رحمه الله: ((الخوف، والخشية، والخضوع، والإخبات، والوجل معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد من محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أن خوفه مقرون بمعرفة الله، وأما الخضوع، والإخبات، ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، للآية: 2. (¬2) سورة الحجر، الآيتان: 52 - 53. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 34 - 35. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬5) مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص 855. (¬6) تفسير القرآن العظيم، ص566. (¬7) تيسير الكريم الرحمن، ص 315.

والوجل، فإنها تنشأ عن الخوف، والخشية، فيخضع العبد لله، ويخبت إلى ربه منيباً إليه بقلبه، ويحدث له الوجل، وأما الخشوع: فهو حضور القلب وقت تلبّسه بطاعة الله، وسكون ظاهره وباطنه، فهذا خشوع خاص، وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خوّاص المؤمنين، فينشأ من كمال معرفة العبد ربه، ومراقبته، فيستولي ذلك على القلب، كما تستولي المحبة)) (¬1). 14 - وصف الله من يقشعر جلده عند قراءة القرآن بالخشية لله تعالى؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬2)، فحصل لهم قشعريرة الجلد، ثم لين القلب والجلد. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: (({تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (¬3) أي يعلوها قشعريرة)) (¬4). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار؛ لما يفهمونه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} كما يرجون ¬

_ (¬1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 361 - 362. (¬2) سورة الزمر، الآية: 23. (¬3) سورة الزمر، الآية: 23. (¬4) مفردات ألفاظ القرآن، ص 671.

ويؤملون من رحمته ولطفه ... )) (¬1). وقال العلامة السعدي رحمه الله: (({تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لما فيه من التخويف والترهيب المزعج {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر)) (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، ص 1153. (¬2) تيسير الكريم الرحمن، ص 723.

المبحث الخامس: الفرق بين الخشوع والوجل والقنوت والسكينة والإخبات والطمأنينة

المبحث الخامس: الفرق بين الخشوع والوجل والقنوت والسكينة والإخبات والطمأنينة الفرق بين هذه الأمور على النحو الآتي: 1 - الخشوع: لين القلب وخضوعه، ورقته، وسكونه، وحضوره وقت تلبُّسه بالطاعة، فتتبعه جميع الجوارح والأعضاء: ظاهراً وباطناً؛ لأنها تابعة للقلب، وهو أميرها، وهي جنوده، والله تعالى أعلم (¬1). 2 - الوجل: الخوف الموجب لخشية الله تعالى، وأكبر علاماته: أن يقوم صاحبه بفعل أوامر الله، وترك نواهيه رغبة فيما عنده من الثواب، وخوفاً مما عنده من العقاب، والله تعالى أعلم (¬2). 3 - القنوت: القنوت يرد في القرآن على قسمين: القسم الأول: قنوت عام لجميع المخلوقات، كقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬3)، والمعنى: الكل عبيد خاضعون لربوبيَّته، وتدبيره - سبحانه وتعالى -، لا معبود بحق سواه. القسم الثاني، وهو الأكثر في القرآن الكريم: القنوت الخاص: وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع، مثل قوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} (¬4)، ونحو ذلك (¬5)، والقنوت أيضاً ¬

_ (¬1) تقدم ذكر المراجع لهذا المعنى في المبحث الأول، في مفهوم الخشوع اصطلاحاً. (¬2) تقدم ذكر المراجع لهذه المعاني في المبحث الرابع: فضائل الخشوع، البند رقم 13. (¬3) سورة الروم، الآية: 26. (¬4) سورة الزمر، الآية: 9. (¬5) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ص 311، وص 362.

4 - السكينة:

يرد لعشرة معانٍ أخرى، تقدم ذكرها بالتفصيل (¬1). 4 - السكينة: قيل: السكينة: المهابة والرَّزانة والوقار (¬2). وقيل: ما يجده القلب من الطمأنينة ... وهي نور في القلب يسكن إلى شاهده، ويطمئن وهو مبادئ عين اليقين (¬3). وقيل: السكينة: الطمأنينة (¬4)، وتأتي السكينة بمعنى: الوقار، والتَّأنِّي في الحركة والسير: ((السكينةَ، السكينةَ)) أي الزموا السكينة (¬5)، وفي حديث الخروج إلى الصلاة: ((فليأتِ وعليه السكينة)) (¬6). وقد ذكر الله سبحانه ((السكينة)) في كتابه في ستة مواضع: الأول: قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬7). الثاني: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى ¬

_ (¬1) تقدم ذكر ذلك بالأدلة في المبحث الرابع، البند رقم 12. (¬2) انظر: المصباح المنير، للفيومي، 1/ 283، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس، ص 486. (¬3) التعريفات للجرجاني، فصل الكاف، ص 159. (¬4) القاموس المحيط، ص 1556. (¬5) رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1218, (¬6) أخرجه الإمام أحمد، 18/ 8، برقم 9022، والطبراني في معجمه الأوسط، 1/ 296، حديث رقم: 983، وصححه الألباني في الثمر المستطاب، ص 233. (¬7) سورة البقرة، الآية: 248.

الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} (¬2). الرابع: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (¬3). الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} (¬4). السادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬5). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 26. (¬2) سورة التوبة، الآية: 40. (¬3) سورة الفتح، الآية: 4. (¬4) سورة الفتح، الآية: 18. (¬5) سورة الفتح، الآية: 26.

ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة، إذ هو وصاحبه في الغار، والعدو فوق رؤوسهم، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حُنَيْن، حين وَلَّوْا مدبرين من شدة بأس الكفار، لا يلوي أحد منهم على أحد، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكُّمِ الكفار عليهم، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس، وحسبك بضعف عمر - رضي الله عنه - عن حملها، وهو عمر، حتى ثَبَّتَهُ اللَّهُ بالصِّدِّيق - رضي الله عنه -. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة، إلا التي في سورة البقرة)) (¬1). وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - نقل من تراب الخندق، حتى وارى الترابُ جلدةَ بطنه، وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -: اللَّهُمَّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقْنا ولا صلَّينا فأنزلنْ سكينةً علينا ... وثبِّت الأقدام إن لاقينا إنَّ الأُلى قد بَغَوا علينا ... وإنْ أرادوا فتنة أبينا)) (¬2) (¬3) ¬

_ (¬1) أورد هذا الأثر أكثر المفسرين، انظر مثلاً: تفسير البغوي، 7/ 298، تفسير القرطبي، 16/ 264، وذكره العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري، قبل الحديث رقم 4839، والمباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 7/ 378. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 4106، وفيه برقم 3034، ورقم 4104، ومسلم، برقم 1803، بلفظ: ((والله لولا أنت ... )). (¬3) انظر: مدارج السالكين، 2/ 502 - 504 بتصرف.

وقال العلامة السعدي رحمه الله: ((والسكينة ما يجعله الله في القلوب وقت القلاقل، والزلازل، والمفظعات، مما يثبِّتها، ويسكِّنها، ويجعلها مطمئنة، وهي من نعم الله العظيمة على العباد)) (¬1)، وهي: ((الثبات والطمأنينة، والسكون المُثَبِّتَة للفؤاد)) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (((السكينة) إذا نزلت على القلب اطمأنّ بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب، والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخنا، والفحش، واللغو، والهجر، وكل باطل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كُنَّا نَتَحدَّث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه)) (¬3). وكثيراً ما ينطق صاحب (السكينة) بكلام لم يكن عن فكرة منه، ولا روِّية، ولا هبة، ويستغربه هو من نفسه، كما يستغرب السامع له، وربّما لا يعلم بعد انقضائه بما صدر منه. وأكثر ما يكون: هذا عند الحاجة، وصدق الرغبة من السائل، والمجالس، وصدق الرغبة منه: هو إلى الله، والإسراع بقلبه إلى بين يديه، وحضرته، مع تجرُّدِه من الأهواء، وتجريده النصيحة لله ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن، ص 333. (¬2) المرجع السابق، ص 338. (¬3) مدارج السالكين، 2/ 506، والأثر رواه الإمام أحمد، برقم 5145 عن ابن عمر، وهو عند أبي داود، برقم 2963، وابن ماجه، برقم 108، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 108، ولم أجد رواية ابن عباس التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله.

5 - الإخبات:

ولرسوله، ولعباده المؤمنين، وإزالة نفسه من البين)) (¬1). ومن السكينة: سكينة الخشوع عند القيام بالعبادة لله تعالى، وهو الوقار، والخشوع الذي يحصل لصاحب مقام الإحسان. ولما كان الإيمان موجباً للخشوع، وداعياً إليه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (¬2) دعاهم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، يعني: أما آن لهم أن يَصِلُوا إلى الإحسان بالإيمان؟ وتحقيق ذلك بخشوعهم لذكره الذي أنزله إليهم؟)) (¬3). 5 - الإخبات: التواضع والخشوع، واللين، والسكون (¬4). وهو من أول مقامات الطمأنينة: كالسكينة، واليقين، والثقة بالله تعالى، ونحوها، فالإخبات مقدماتها، ومبدؤها، والإخبات أوَّلُ مقام يتخلَّص فيه العبد من التردُّد، الذي هو نوع غفلة وإعراض (¬5). 6 - الطمأنينة: قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬6)، وقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، 2/ 506. (¬2) سورة الحديد، الآية: 16. (¬3) مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 509 - 510. (¬4) تقدم ذكر مراجع هذه المعاني في المبحث الرابع في فضائل الخشوع، البند رقم 7. (¬5) انظر التفصيل في: مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 3 - 8. (¬6) سورة الرعد، الآية: 28.

وَادْخُلِي جَنَّتِي} (¬1). (الطمأنينة) سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: ((دعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)) (¬2) أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكوناً إليه، والكذب يوجب له اضطراباً وارتياباً، ومنه قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ)) (¬3) أي سكن إليه، وزال عنه اضطرابه وقلقه. وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: (({الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولىً ونصيراً؛ ولهذا قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: هو حقيق بذلك)) (¬4). وقال العلامة السعدي رحمه الله: (({الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها. ¬

_ (¬1) سورة الفجر، الآيات: 27 - 30. (¬2) أخرجه الإمام أحمد، برقم 1724، 1724، والترمذي، برقم 2518، وقال: ((حسن صحيح))، والنسائي، برقم 5711، وابن خزيمة في صحيحه، 4/ 59، برقم 2348، والدارمي، 2/ 319، برقم 2532، وابن حبان، 2/ 498، برقم 722، والبيهقي في شعب الإيمان، 5/ 52، برقم 5747، والحاكم، 2/ 15، برقم 2169، وقال: صحيح الإسناد وأبو يعلى، 12/ 132، برقم 6762، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 2930. (¬3) أخرجه أحمد، برقم 18001، والطبراني، 22/ 148، برقم 403، والدارمي، 2/ 320، برقم 2533، وأبو يعلى، 3/ 160، برقم 1586. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2881. (¬4) تفسير القرآن العظيم، ص 707.

{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: حقيق بها، وحريٌّ بها أن لا تطمئنَّ لشيء سوى ذكره؛ فإنه لا شيء ألذ للقلوب، ولا أشهى، ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته)) (¬1). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وفي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} (¬2) دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة، فهناك ترجع إليه، وتدخل في عباده، وتدخل جنته، وكان من دعاء بعض السلف: ((اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك)) (¬3). ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن، ص 417 - 418. (¬2) سورة الفجر، الآيتان: 27 - 28. (¬3) مدارج السالكين، 2/ 514، والأثر لم أجده إلا في التفسير القيم لابن القيم، 1/ 491.

المبحث السادس: حكم الخشوع في الصلاة

المبحث السادس: حكم الخشوع في الصلاة الخشوع في الصلاة واجب على الصحيح (¬1) للأدلة الآتية: ¬

_ (¬1) قال الإمام بن القيم رحمه الله: ((فإن قيل: ما تقولون في صلاة من عدم الخشوع، هل يعتدُّ بها أم لا؟ قيل: أما الاعتداد في الثواب: فلا يعتدُّ له بها إلا بما عقل فيه منها، وخشع فيه لربه، قال ابن عباس: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)) [ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثاني عشر- قسم التفسير، ولم يعزه لكتاب، وكذلك ذكره الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، 1/ 525، وفي تفسيره المجموع له، وذكره السعدي في تفسيره تفسير اللطيف المنان، 2/ 78 بقوله: ((وفي الحديث ... ))، وفي المسند مرفوعاً ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا: عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)) [المسند، 31/ 189، برقم 18894، وحسن الألباني حديث أبي داود في صحيح أبي داود، برقم 761، وقال: ((قلت [الشيخ الألباني]: حديث حسن، وأخرجه أحمد بإسناد صححه الحافظ العراقي))، وتصحيح الحافظ العراقي له في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين، 1/ 172]، وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح، ولو اعتدَّ له بها ثواباً كان من المفلحين. وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا وسقوط القضاء: فإن غلب عليها الخشوع، وتعقلها اعتدّ بها إجماعاً، وكانت السنن والأذكار عقيبها جوابر ومكملات لنقصها. وإن غلب عليه عدم الخشوع، وعدم تعقلها، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها)) ثم ذكر رحمه الله قولين لأهل العلم: القول الأول: وجوب إعادتها، وبه قال أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد وغيره؛ لأن صلاة لا يثاب عليها، ولم يضمن له فيها الفلاح لم تبرأ ذمته منها؛ ولأن الخشوع روح الصلاة، ومقصودها، ولبّها، فكيف يعتدُّ بصلاة فقدت روحها ولبها، وبقيت صورتها وظاهرها؟. والقول الثاني: لا تجب إعادتها؛ لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحكام سجود السهو، وأن منه ما هو ترغيم للشيطان، والخشوع إنما هو لرفعة الدرجات؛ ولحصول ثواب الله العاجل والآجل، ومرافقة المقربين، وهذا يفوت بفوات الحضور والخضوع، وإن الرجلين يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فإن أراد أن يعيد صلاته لهذه الثمرات، فذلك إليه إن شاء أن يحصِّلها، وإن شاء أن يفوِّتها على نفسه، أما كوننا نلزمه بإعادتها، ونعاقبه على تركها، ونرتّب عليه أحكام تارك الصلاة، فلا. ويرى ابن القيم رحمه الله أن حجج الفريق الأول قوية وظاهرة، ولكنه قال: (( ... القول الثاني أرجح القولين)) مدارج السالكين 1/ 525 - 530.

1 - قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة}

1 - قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين ... وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع ... فثبت أن الخشوع و (3) في الصلاة)) (¬2). 2 - قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ*أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ*الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وقد دلَّ هذا على وجوب هذه الخصال، إذ لو كان فيها ما يستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها؛ لأن الجنة تنال ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 45. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 553 - 554. (¬3) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 10.

بفعل الواجبات دون المستحبات؛ ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب، وإذا كان الخشوع في الصلاة واجباً، فالخشوع يتضمن السكينة، والتواضع جميعاً ... ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في حال ركوعه: ((اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري، ومُخِّي، وعظمي، وعصبي)) (¬1)، فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكن متواضع ... )) (¬2). وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬3) أقوال: فقيل: ((خائفون ساكنون))، وقيل: ((الخشوع في القلب))، وقيل: ((الخشوع: الرهبة لله))، وقيل: ((الخشوع في القلب، وأن يلين كنفه للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك، والخوف، وغض البصر في الصلاة، وخفضه وسكونه ضد تقليبه في الجهات، ومن ذلك خشوع الصوت (¬4). فإذا كان الخشوع في الصلاة واجباً، وهو متضمن للسكون والخشوع، فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده، وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض، لم يسكن؛ لأن السكون هو الطمأنينة بعينها، فمن لم يطمئن لم يسكن، ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه، ولا في سجوده، ومن لم يخشع كان ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 771. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 554. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 2. (¬4) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 22/ 554 - 558.

3 - مما يدل على وجوب الخشوع في الصلاة.

آثماً عاصياً (¬1). 3 - مما يدل على وجوب الخشوع في الصلاة: أن الله ينصرف عن من التفت فيها لغير حاجة؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ)) وهذا لفظ أبي داود، ولفظ النسائي وأحمد: ((لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ)) (¬2). 4 - ومما يدل على وجوب الخشوع أيضاً: حديث الحارث الأشعري - رضي الله عنه - الطويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (( ... وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ .. )) هذا لفظ الترمذي، ولفظ أحمد: (( ... وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ - عز وجل - يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا ... )) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 22/ 558. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الالتفات في الصلاة، برقم 909، والنسائي كتاب السهو، باب التشديد في الالتفات في الصلاة، برقم 1196، وأخرجه أيضاً في الكبرى، برقم 532، وأحمد في المسند، برقم 21508، وابن خزيمة، برقم 482، والحاكم، 1/ 236، والبيهقي، 2/ 282، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 360، برقم 554، وقال محققو مسند الإمام أحمد، 5/ 400، برقم 21508: ((صحيح لغيره، وهذا إسناد محتمل للتحسين)). (¬3) الترمذي، كتاب الأدب، باب الأمثال، برقم 2863، وأحمد، 28/ 405، برقم 17170، و29/ 335، برقم 17800، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 1895، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 144، وصححه محققو المسند، 28/ 406.

5 - ويدل على وجوب الخشوع، حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.

5 - ويدل على وجوب الخشوع، حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ (¬1)، اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ .. )) (¬2). 6 - ومما يدل على وجوب الخشوع في الصلاة قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬3)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وليس السهو عنها تركها، وإلا لم يكونوا مصلين، وإنما هو السهو عن واجبها: إما عن الوقت، كما قال ابن مسعود وغيره، وإما عن الحضور والخشوع، والصواب أنه يعمّ النوعين؛ فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة، ووصفهم بالسهو عنها، فهو السهو عن وقتها الواجب، أو عن إخلاصها، وحضورها الواجب؛ ولذلك وصفهم بالسهو، ولو كان السهو تركاً لما كان هناك رياء .. )) (¬4). وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن وسواس الرجل في صلاته، وما حد المبطل للصلاة؟ وما حد المكروه منه، وهل يُباح منه شيء في الصلاة؟ وهل يعذّب الرجل في شيء منه؟ وما حدّ الإخلاص في الصلاة؟ ... [وقول بعض السلف]: ((لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ مِنْ ¬

_ (¬1) شمس: جمع شموس، مثل: رسل ورسول، وهي التي لا تستقر، بل تضرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة، ... برقم 430. (¬3) سورة الماعون، الآيتان: 4 - 5. (¬4) مدارج السالكين، 1/ 527.

صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا)) (¬1). فأجاب: ((الحمد لله، الوسواس نوعان: أحدهما: لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بمنزلة الخواطر، فهذا لا يبطل الصلاة؛ لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته، الأول شبه حال المقربين، والثاني: شبه حال المقتصدين. وأما الثالث: فهو ما منع الفهم، وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلاً، فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو داود في سننه، عن عمار بن ياسر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، حتى قال إلا عشرها)) (¬2)، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر. وقال ابن عباس: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)) (¬3)، ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة؟ فيه تفصيل، فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور، والغالب الحضور، لم تجب ¬

_ (¬1) قال الزين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، 1/ 309: (لم أجده مرفوعاً))، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، 14/ 1026، برقم 6941: ((لا أصل له مرفوعاً، وإنما صح عن بعض السلف)). (¬2) مسند الإمام أحمد بنحوه، 31/ 189، برقم 18894، وحسن الألباني حديث أبي داود في صحيح أبي داود، برقم 761، وتقدم. (¬3) تقدم تخريجه، في الذي قبل الحديث السابق.

الإعادة، وإن كان الثواب ناقصاً، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو، وأما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان: أحدهما: لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يحصل، فهو شبيه صلاة المرائي، فإنه بالاتفاق لا يبرأ بها في الباطن، وهذا قول أبي عبد الله ابن حامد، وأبي حامد الغزالي وغيرهما. والثاني: تبرأ الذمة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها، ولا ثواب، بمنزلة صوم الذي ((لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ)) (¬1)، وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، واستدلوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((إذَا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ ¬

_ (¬1) لم أجد حديثاً بهذا اللفظ، وشيخ الإسلام هنا نسبه للمأثور عن الإمام أحمد وغيره، وأما الحديث الصحيح في هذا الباب فهو بلفظ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) [مسند أحمد، 15/ 521، برقم 9839، وصحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، برقم 1903.

سَجْدَتَيْنِ)) (¬1)، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يذكِّره بأمور حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره بالإعادة، ولم يفرّق بين القليل والكثير. وهذا القول أشبه وأعدل؛ فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور، لا تدل على وجوب الإعادة، لا باطناً ولا ظاهراً، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، برقم 608، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، برقم 389. بألفاظ مقاربة. (¬2) فتاوى شيخ الإسلام، 22/ 611 - 613 بتصرف.

المبحث السابع: منزلة الخشوع في الصلاة

المبحث السابع: منزلة الخشوع في الصلاة الخشوع في الصلاة بمنزلة الروح من الجسد، فإذا فُقِدَت الروح مات الجسد، فالخشوع روح الصلاة، ولبُّها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... وكذلك فَوتُ الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها، ولُبُّها، فصلاةٌ بلا خشوعٍ، ولا حضور، كبدنٍ ميِّتٍ لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يُهدي إلى مخلوقٍ مثله عبداً ميِّتاً، أو جارية ميِّتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها: من ملكٍ، أو أميرٍ، أو غيره، فهكذا؛ سواء الصلاة الخالية عن الخشوع، وجمع الهمة على الله تعالى فيها، بمنزلة هذا العبد - أو الأمة - الميِّت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك؛ ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه، وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها؛ فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها .. )) (¬1). وذكر ابن القيم رحمه الله قول من قال: إن غلب على المصلِّي عدم الخشوع في الصلاة، وعدم تعقُّلِها وجب عليه إعادتها، واحتجوا: بأنها صلاة لا يُثاب عليها، ولم يُضمن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمته منها ... ؛ ولأن الخشوع، والتعقُّلَ: روح الصلاة، ومقصودها، ولبُّها، فكيف يُعتدّ بصلاةٍ فقدت روحها، ولبَّها، وبقيت صورتها وظاهرها؟ وقالوا: ولو ترك العبد واجباً من واجباتها عمداً ¬

_ (¬1) الوابل الصيب، ص 14 - 15.

لأبطلها تركه، وغايته أن يكون بعضاً من أبعاضها، بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة، فكيف إذا عدمت روحها، ولُبَّها، وصارت بمنزلة العبد الميِّت، فإذا لم يعتدّ بالعبد المقطوع اليد، يعتقه تقرّباً لله تعالى في كفارة واجبة، فكيف يعتدّ بالعبد الميت .. ؟؟ وذكر بأن حجج أصحاب هذا القول قويّة ظاهرة. ولكنه رحمه الله رجّح القول الثاني الذي لا يوجب الإعادة، وإنما يفُوت المصلِّي غير الخاشع الثواب بقدر ما فاته من الخشوع في صلاته، ويفوته ما يحصل من الدرجات العُلا في الآخرة، ومرافقة المقرّبين، كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع، وذَكَر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فإن أراد الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصِّلها، وإن شاء أن يفوّتها على نفسه فوَّتها، ولا نلزمه بإعادتها ولا نعاقبه على تركها، ولا نرتب عليه أحكام تارك الصلاة، وهذا أرجح القولين (¬1). وكلام ابن القيم رحمه الله هنا مختص بحضور القلب وخشوعه في الصلاة، أما من نقر الصلاة، ولم يتم ركوعها، أو سجودها، أو ترك شيئاً من شروطها، أو أركانها، أو تعمّد ترك واجب من واجباتها، فلا شكّ أن الإعادة تجب عليه. ومما يدل على عظم منزلة الخشوع في الصلاة: أن الله تعالى ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، 1/ 525 - 530.

يُعرِض عن من التفت بقلبه أو ببصره؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه -، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يَزَالُ اللَّهُ - عز وجل - مُقْبِلا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ)) (¬1)؛ ولحديث الحارث الأشعري يرفعه، وفيه: (( ... وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ... )) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((الالتفات المنهيُّ عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله - عز وجل - إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه ... ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتف عن السلطان يميناً وشمالاً، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظنُّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان، أفليس أقلّ المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً، قد ¬

_ (¬1) أبو داود، برقم 909، وأحمد، برقم 1508، وغيرهما، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب، 1/ 360، وتقدم تخريجه في حكم الخشوع في الصلاة. (¬2) الترمذي، برقم 2863، وأحمد، برقم 17170، وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 30/ 144، وتقدم تخريجه في حكم الخشوع في الصلاة.

سقط من عينيه؟ فهذا المُصلِّي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلَّ عُنُقه له، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض؛ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله - عز وجل -، والآخر ساهٍ غافلٌ، فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقرّباً، فما الظن بالخالق - عز وجل -، وإذا أقبل على الخالق - عز وجل -، وبينه وبينه حجاب: الشهوات، والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملْأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً، وقد ألهته الوساوس، والأفكار، وذهبت به كل مذهب)) (¬1). ¬

_ (¬1) الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، لابن القيم، ص 35 - 36، ببعض التصرف. وانظر: أيضاً الوابل الصيب، ص14 - 37، ومدارج السالكين، 1/ 112، و 525 - 530.

المبحث الثامن: حكم الوسواس في الصلاة

المبحث الثامن: حكم الوسواس في الصلاة الوسواس في الصلاة يدل على عدم كمال الإيمان، وعلى عدم استحضار العبد عظمة الله، وعدم الإحسان الكامل في الصلاة؛ فإن الإحسان في الصلاة: هو أن يصلّي المُصلِّي كأنه يرى الله؛ فإن لم يكن يراه فإنه يراه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله جبريل - عليه السلام - بقوله: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؛ فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) (¬1). وأما حكم الوسواس في الصلاة، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة، ويحصل له الوسواس تارة، فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة؟ وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة؟ أو منقصة لها أم لا؟ وفي قول عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة، هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيَّته أو لا؟؟ فأجاب: ((الحمد لله رب العالمين، الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلاً باتفاق أهل العلم؛ بل ينقص الأجر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلْتَ منها)) (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، برقم 50، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان، والإسلام، والإحسان، ... برقم 9، وثبت في صحيح مسلم، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، في نفس الكتاب والباب السابقين، برقم 8. (¬2) تقدم تخريجه، في حكم الخشوع في الصلاة.

وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبُعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا)) (¬1). ويُقال: إن النوافل شُرِعَتْ لجبر النقص الحاصل في الفرائض، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ أَكْمَلَهَا، وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ)) (¬2)، وهذا الإكمال يتناول ما نقص مطلقاً. وأما الوسواس الذي يكون غالباً على الصلاة، فقد قال طائفة، منهم أبو عبد الله بن حامد، وأبوحامد الغزالي، وغيرهما: إنه يوجب الإعادة أيضاً لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقُولَ: اُذْكُرْ كَذَا، اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلَ لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا ¬

_ (¬1) أبو داود، برقم 796، وحسنه الألباني، وقد تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه، 1/ 229، برقم 864، والترمذي في سننه، 2/ 269، برقم 413، وقال: ((حسن غريب))، والنسائي في سننه، 1/ 233، برقم 466، وابن ماجه في سننه، 1/ 458، برقم 1425، جميعاً عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 4/ 20، وفي صحيح ابن ماجه، 1/ 240.

وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ)) (¬1)، وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة مع الوسواس مطلقاً، ولم يفرق بين القليل والكثير. ولا ريب أن الوسواس كلّما قلّ في الصلاة، كان أكمل، كما في الصحيحين من حديث عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أنَّ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُحَدِّثْ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬2)، وكذلك فى الصحيح أنه قال: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِوَجْهِهِ، وَقَلْبِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬3). وما زال في المصلين من هو كذلك، كما قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه -: ((فيَّ ثلاث خصال، لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن: كنت أنا أنا؛ إذا كنت في الصلاة لا أُحَدِّث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله حديثاً لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أُحَدِّث نفسي بغير ما تقول، ويقال لها)) (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري، برقم 608، ومسلم، برقم 389، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه، البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، برقم 159، ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم 226. (¬3) رواية مسلم، كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234، على النحو الآتي: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). ولفظ المتن أقرب لرواية الإمام أحمد، برقم 17314. (¬4) رواه ابن عبد البر في الاستيعاب، 2/ 605 من حديث ابن عباس متصلاً، وفي جامع بيان العلم وفضله، 2/ 370، وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال، 3/ 234، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، 6/ 5/5321، وذكره الهيثمي في المجمع، 9/ 308، وقال: ((رواه الطبراني بإسنادين أحدهما عن أبي سلمة مرسلاً، والآخر عن الماجشون منقطعاً، وفي إسناده من لم أعرفه)).

وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد، فانهدم طائفة منه، وقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر (¬1). وكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه (¬2). وقالوا لعامر بن عبد القيس أتُحَدِّثُ نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال أو شيء أحب إليّ من الصلاة أُحَدِّثُ به نفسي؟ قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبالجنة والحور، ونحو ذلك؟ فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنّة فيَّ أحبُّ إليَّ، وأمثال هذا متعدد (¬3). والذي يُعين على ذلك شيئان: قوة المقتضى، وضعف الشاغل: أما الأول: فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبّر القراءة، والذكر، والدعاء، ويستحضر أنه مناجٍ لله تعالى، كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائماً فإنما يناجي ربه، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حُبِّبَ ¬

_ (¬1) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 22/ 605، ولم أجده عند غيره. (¬2) ذكره أبو نعيم في طبقات المحدثين في أصبهان، برقم 17. (¬3) ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين دون عزوه لأحد، 1/ 281، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 22/ 605، وقد ذكر ابن المبارك في الزهد جزءاً منه، ص 294، ومثله في تاريخ دمشق، 26/ 23 ..

إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬1)، وفي حديث آخر أنه قال: ((أَرِحْنَا يَا بِلَالُ بِالصَّلَاةِ)) (¬2)، ولم يقل أرحنا منها. وفي أثر آخر: ((ليس بمستكملٍ للإيمان من لم يزل مهموماً حتى يقوم إلى الصلاة)) (¬3)، أو كلام يقارب هذا، وهذا باب واسع. فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته، وإخلاص الدين له، وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك، مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلاً عظيماً، ويقوى ذلك كلما ازداد العبد تدبراً للقرآن وفهماً، ومعرفة: بأسماء الله، وصفاته، وعظمته، وتفقره إليه في عبادته، واشتغاله به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب؛ فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به، ويلتذّ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى كان للقلب إله غير الله فسد، وهلك هلاكاً لا صلاح معه، ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، برقم 12293، والبيهقي في السنن الكبرى، 7/ 78، والحاكم، 2/ 174، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3124. (¬2) أحمد، برقم 23080، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم 4985، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم 1253. (¬3) أورده ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، 172، وابن القيم في طريق الهجرتين، ص 457، وعزاه إلى بعض السلف.

ولا منجا منه إلا إليه. وأما زوال العارض: فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعينه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه؛ فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها. والوساوس إما من قبيل الحب، من أن يخطر بالقلب ما قد كان أو من قبيل الطلب، وهو أن يخطر في القلب ما يريد أن يفعله. ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق، فيتألَّم لها قلب المؤمن تألُّماً شديداً، كما قال الصحابة: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: أَوَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ))، وَفِي لَفْظٍ: ((إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ)) (¬1). قال كثير من العلماء: فكراهة ذلك وبغضه، وفرار القلب منه، هو صريح الإيمان، والحمد لله الذي كان غاية كيد الشيطان الوسوسة؛ ¬

_ (¬1) أحمد، برقم 2097، أبو داود، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، برقم 5114، النسائي في السنن الكبرى، 6/ 171، حديث رقم: 10503، وصححه العلامة الألباني في تخريج كتاب الإيمان لابن تيمية، ص 102.

فإن شيطان الجن إذا غُلب وسوس، وشيطان الإنس إذا غلب كذب، والوسواس يعرض لكل من توجَّه إلى الله تعالى بِذكرٍ أو غيره، لا بُدّ له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر؛ فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (¬1)، وكلما أراد العبد توجّهاً إلى الله تعالى بقلبه، جاء من الوسواس أمور أخرى؛ فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: ((إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب)) (¬2)، وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه. وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من قوله: ((إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي، وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ)) (¬3)، فذاك لأن عمر كان مأموراً بالجهاد، وهو أمير المؤمنين، فهو أمير الجهاد، فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلِّي الذي يصلِّي صلاة الخوف حال معاينة العدو، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة ومأمور بالجهاد، فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 76. (¬2) لم أجد هذا الأثر إلا في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، 22/ 608، وغيرها من كتبه. (¬3) ذكره البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة، قبل الرقم 1221، وقال الحافظ في فتح الباري، 3/ 90: ((وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عنه)).

تُفْلِحُونَ} (¬1). ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قُدِّرَ أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد، لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته؛ ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن، ولما ذكر - سبحانه وتعالى - صلاة الخوف قال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (¬2)، فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف. ومع هذا: فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة، مع تدبره للأمور بها، وعمر قد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المُحَدَّث المُلْهَم، فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره، لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى، ولا ريب أن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف فى الأفعال الظاهرة، فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة؟. وبالجملة فَتَفَكُّر المُصلِّي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكُّره فيما ليس بواجب، أو فيما لم يضق وقته، وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال، ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 45. (¬2) سورة النساء، الآية: 103.

وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة، ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائماً يذكر في الصلاة ما لا يذكره خارج الصلاة، ومن ذلك ما يكون من الشيطان، كما يُذكر أن بعض السلف: ((ذَكَرَ لَهُ رَجُلٌ أنَّه دفن مالاً وقد نسي موضعه، فقال: قم فصلّ، فقام فصلَّى، فذكره، فقيل له: من أين علمت ذلك؟ قال: علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يُذَكِّره بما يشغله، ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن)) (¬1)، لكن العبد الكيِّس يجتهد في كمال الحضور، مع كمال فعل بقية المأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 603 - 610 ببعض التصرف. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 603 - 610 ببعض التصرف.

المبحث التاسع: الخشوع في الصلاة من إقامتها

المبحث التاسع: الخشوع في الصلاة من إقامتها لا شك أن الخشوع في الصلاة من إقامتها؛ فإن إقامة الصلاة لا تكون إلا بإقامة: شروطها، وأركانها، وواجباتها، والخشوع واجب على الصحيح؛ لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1)، فأمرنا بإقامتها، وهو الإتيان بها: قائمة تامة القيام، والركوع، والسجود، والأذكار، وقد علّق الله سبحانه الفلاح بخشوع المُصلِّي في صلاته، فمن فاته خشوع الصلاة لم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعاً؛ بل لا يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة، وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعاً، وكلما قلّ خشوعه اشتدت عجلته، حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع، ولا إقبال على العبودية، ولا معرفة حقيقة العبودية، والله سبحانه قد قال: {} وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬2)، وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (¬3)، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} (¬4)، وقال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬5)، وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} (¬6)، وقال إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} (¬7)، وقال لموسى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬8)، فلن تكاد تجد ذكر الصلاة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 43. (¬2) سورة البقرة، الآية: 43. (¬3) سورة المائدة، الآية: 55. (¬4) سورة هود، الآية: 114. (¬5) سورة النساء، الآية: 103. (¬6) سورة النساء، الآية: 162. (¬7) سورة إبراهيم، الآية: 40. (¬8) سورة طه، الآية: 14.

في موضع من التنزيل إلا مقروناً بإقامتها، فالمصلُّون في الناس قليل، ومقيم الصلاة منهم أقل القليل، كما قال عمر - رضي الله عنه -: ((الحاج قليل والركب كثير)) (¬1). فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على الترويج تحلَّةَ القسم، ويقولون: يكفينا أدنى ما يقع عليه الاسم، وليتنا نأتي به، ولو علم هؤلاء أن الملائكة تصعد بصلاتهم فتعرضها على الربّ - جل جلاله - بمنزلة الهدايا التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم، فليس من عمد إلى أفضل ما يقدر عليه، فيُزيِّنه ويُحسِّنه ما استطاع، ثم يتقرّب به إلى من يرجوه ويخافه، كمن يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه، فيستريح منه، ويبعثه إلى من لا يقع عنده بموقع (¬2). وليس من كانت الصلاة ربيعاً لقلبه، وحياةً له، وراحةً، وقرةً لعينه، وجلاءً لحزنه، وذهاباً لهمه وغمه، ومفزعاً له إليه في نوائبه ونوازله، كمن هي سحت لقلبه، وقيد لجوارحه، وتكليف له، وثِقَلٌ عليه، فهي كبيرة على هذا، وقرّةُ عينٍ وراحة لذلك. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ*الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬3)، فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلوّ قلوبهم من محبّة الله تعالى، وتكبيره، وتعظيمه، والخشوع له، وقلَّة رغبتهم فيه؛ فإن حضور العبد ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق، 5/ 19، برقم 8837. (¬2) الصلاة لابن القيم، ص 109. (¬3) سورة البقرة، الآيتان: 45 - 46.

في الصلاة، وخشوعه فيها، وتكميله لها، واستفراغه وِسْعَه في إقامتها، وإتمامها على قدر رغبته في الله ... وها هنا عجيبة تحصل لمن تفقَّه قلبه في معاني القرآن من عجائب الأسماء والصفات، وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه؛ بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعاً من صلاته، ومحلاًّ منها، فإنه إذا انتصب قائماً بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيُّوميَّته، وإذا قال: ((الله أكبر)) شاهد كبرياءه، وإذا قال: ((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)) شاهد بقلبه رباً مُنزَّهاً عن كل عيب، سالماً من كل نقص، محموداً بكل حمد، فَحَمْدُهُ يتضمن وصفه بكل كمال، وذلك يستلزم براءته من كل نقص، تبارك اسمه، فلا يُذكُر على قليلٍ إلا كثَّرهُ، وعلى خيرٍ إلا أنماه، وبارك فيه، ولا على آفةٍ إلا أذهبها، ولا على شيطانٍ إلا ردَّه خاسئاً داحراً، وكمال الاسم من كمال مُسمَّاه، فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء، فشأن المُسمَّى أعلى وأجل، وتعالى جدُّه، أي ارتفعت عظمته، وجلت فوق كل عظمة، وعلا شأنه على كل شأن، وقهر سلطانه على كل سلطان، فتعالى جدُّه أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيَّتِه، أو في إلهيَّته، أو في أفعاله، أو في صفاته، كما قال مؤمن الجنّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً} (¬1)، فكم في هذه الكلمات من تجلٍّ لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها غير المُعطِّل لحقائقها. ¬

_ (¬1) سورة الجن، الآية: 3.

وإذا قال: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) فقد أوى إلى ركنه الشديد، واعتصم بحوله وقوته من عدوِّه الذي يريد أن يقطعه عن ربه، ويبعده عن قربه؛ ليكون أسوأ حالاً. فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقف هُنَيْهَةً يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: ((حمدني عبدي))، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} انتظر الجواب بقوله: ((أثنى عليَّ عبدي)) فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} انتظر جوابه: ((مَجَّدني عبدي)) فيا لّذة قلبه، وقرّة عينه، وسرور نفسه بقول ربه: عبدي ثلاث مرات، فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات، وغيم النفوس، لاستطيرت فرحاً وسروراً بقول ربها، وفاطرها، ومعبودها: ((حمدني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجدني عبدي)) ... فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [انتظر جواب ربه بقوله: ((هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل))]، ففيها سر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجلّ الغايات، وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجلّ الوسائل. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} انتظر جواب ربه بقوله: ((هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)) ثم يشهد الداعي شدة فاقته، وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشدّ فاقة، وحاجة منه إليها البتة؛ فإنه محتاج إليه في كل نَفَسٍ، وطرفة عين، وهذا المطلوب من

هذا الدعاء لا يتمّ إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، والهداية فيه، وهي هداية التفصيل، وخلق القدرة على الفعل، وإرادته، وتكوينه، وتوقيعه لإيقاعه له على الوجه المرضي المحبوب للرب - سبحانه وتعالى -، وحفظه عليه من مفسداته حال فعله، وبعد فعله. ولما كان العبد مفتقراً في كل حالٍ إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره ... فرض الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله مرات متعددة في اليوم والليلة. ثم بيَّن أن أهل هذه الهداية هم المختصُّون بنعمته دون المغضوب عليهم، وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون الضالين، وهم الذين عبدوا الله بغير علم، فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم، فسبيل المنعم [عليهم] مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها عِلْماً وعملاً. فلما فرغ من هذا الثناء، والدعاء، والتوحيد، شُرِعَ له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين، يكون كالخاتم له، وافق فيه ملائكة السماء، وهذا التأمين من زينة الصلاة، كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة، واتباع للسنة، وتعظيم أمر الله، وعبودية اليدين وشعار الانتقال من ركن إلى ركن (¬1). وقد تَبيَّن بما تقدم: أن الخشوع يدخل في الأمر بإقامة الصلاة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. ¬

_ (¬1) كتاب الصلاة لابن القيم، ص 109 - 114 بتصرف.

المبحث العاشر: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة

المبحث العاشر: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة ترك الخشوع في الصلاة يسبب: ترك أركانها، وواجباتها، فلا يمكن للخاشع لله في صلاته أن ينقر صلاته، أو يترك شيئاً من أركانها أو واجباتها على أقل الأحوال؛ لأنه يستحضر عظمة الله تعالى، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه؛ ولهذا جاءت النصوص الثابتة بالتحذير من الأمور الآتية: الأمر الأول: التحذير من نقر الصلاة، وعدم إتمامها: 1 - قد يُصلِّي المرء ستين سنة، وما قبل الله منه صلاة واحدة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتِّينَ سَنَةً، ومَا تُقْبَلُ لَهُ صَلاَةٌ، لَعَلَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ، وَلاَ يُتِمُّ السُّجُودَ، وَيُتِمُّ السُّجُودَ، وَلاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ)) (¬1). 2 - أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: ((لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا))، أَوْ قَالَ: ((لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 1/ 288، والأصبهاني في الترغيب والترهيب، برقم 1895، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 347، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 6/ 81، برقم 2535. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 37/ 319، برقم 22642، واللفظ له، وابن خزيمة، 1/ 332، برقم 663، والحاكم، 1/ 229، وابن حبان في صحيحه، برقم 1888، والبيهقي، 2/ 386، والطبراني، برقم 2347، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 345، وصححه محققو مسند الإمام أحمد، 37/ 319.

3 - لا ينظر الله - عز وجل - إلى صلاة عبدٍ لا يُقيم صلبه بين ركوعها وسجودها؛ لحديث طلق بن علي الحنفي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَنْظُرُ اللَّهُ - عز وجل - إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى صَلَاةِ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ)) (¬2). 4 - من مات وهو لا يُتمّ ركوعه، وينقر في سجوده، مات على غير ملّة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أبي عبد الله الأشعري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لا يُتمّ ركوعه [و] ينقر في سجوده وهو يصلي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى حَالِهِ هَذِهِ، مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -)) ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ الَّذِي لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ، وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ، مَثَلُ الْجَائِعِ يَأْكُلُ التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ لَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ شَيْئاً)) (¬3). 5 - قد ينصرف المصلِّي ولم يكتب له من صلاته إلا عشرها؛ لحديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ الرَّجُلَ ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 26/ 211، برقم 16283، والطبراني في الكبير، برقم 8261، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 346: (حسن صحيح))، وجاء مثله من حديث علي بن شيبان في مسند أحمد، برقم 16284، وبرقم 24009/ 74. (¬2) أحمد، 16/ 466، برقم 10799، وحسنه محققو مسند أحمد، 16/ 466. (¬3) الطبراني في الكبير، 4/ 115، برقم 3840، وابن خزيمة، 1/ 332، برقم 665، وأبو يعلى، برقم 7184، وحسن إسناده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 347، وفي تعليقه على صحيح ابن خزيمة، 1/ 332.

لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)) (¬1). وعن أبي اليَسَر: كعب بن عمرو السلمي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ))، حَتَّى بَلَغَ: ((الْعُشْرَ)) (¬2). 6 - قد يُصلّي المرء أربعين سنة، ولا يكتب له صلاة واحدة؛ لحديث حذيفة موقوفاً عليه: أنَّهُ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَإَذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، فَجَعَلَ لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلاَ السُّجُودَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: ((مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَوْ مِتَّ وَهَذِهِ صَلاتُكَ لَمِتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَلِّمُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُخَفِّفُ فِي صَلاتِهِ وإنَّهُ لَيُتِمُّ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ)) (¬3). 7 - نقر الصلاة كنقر الغراب، أو الطائر بمنقاره من علامات النفاق الخالص؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في نُقصان الصلاة، برقم 796، وغيره، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 226، وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى، برقم 615. (¬2) أحمد 24/ 280، برقم 15522، والنسائي في الكبرى، برقم 616، 1/ 316، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 352. (¬3) أحمد في المسند، 38/ 294، برقم 23258، والنسائي في المجتبى، برقم 1312، وفي الكبرى، برقم 611، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 421.

بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعاً لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً)) (¬1)، ورجَّح النووي رحمه الله: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بين قرني شيطان)) على حقيقته، وظاهر لفظه، والمراد: أن الشيطان يحاذي الشمس عند غروبها بقرنيه، وكذا عند طلوعها؛ لأن الكفار يسجدون لها حينئذٍ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويُخيَّل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له (¬2). وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ((فَوَصَفَهُ بإضاعة الوقت بقوله: ((يرقب الشمس))، وبإضاعة الأركان، بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله: ((لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)))) (¬3). 8 - بكاءُ أنس بن مالك - رضي الله عنه - على تأخير الصلاة عن وقتها وتضييعها، فعن الزهري رحمه الله قال: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: ((لَا أَعْرِفُ شَيْئاً مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ)) (¬4)، ومعنى تضييعها: أي تأخيرها عن وقتها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقد صحَّ أنّ الحَجَّاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد استحباب التبكير بالعصر، برقم 622. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 129. (¬3) تفسير الفاتحة، بتحقيق د. فهد بن عبد الرحمن الرومي، الطبعة الخامسة، 1409هـ، بدون ناشر. (¬4) البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب تضييع الصلاة عن وقتها برقم 530. (¬5) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 14.

الأمر الثاني: التحذير من ترك شيء من أركان الصلاة:

الأمر الثاني: التحذير من ترك شيء من أركان الصلاة: أفعال الصلاة وأقوالها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أركان: وهي ما لا يسقط جهلاً، ولا عمداً، ولا سهواً، وواجبات: وهي ما تبطل به عمداً ويسقط جهلاً وسهواً، ويجبر بسجود السهو، وسنن: وهي ما لا تبطل به عمداً ولا سهواً. والركن في اللغة: جانب الشيء الأقوى، الذي لا يقوم ولا يتم إلا به، وسميت أركان الصلاة: تشبيهاً لها بأركان البيت الذي لا يقوم إلا بها، والركن في الاصطلاح: ماهية الشيء والذي يتركب منه ويكون جزءاً من أجزائه، ولا يوجد ذلك الشيء إلا به، وهو عبارة عن جزء الماهية: وهي الصورة (¬1). وأركان الصلاة أربعة عشر ركناً على النحو الآتي: الأول: القيام في الفرض مع القدرة؛ لقول الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ} (¬2)؛ ولحديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة؟ فقال: ((صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطعْ فعلى جنب)) (¬3)؛ ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 122. (¬2) سورة البقرة، الآية: 238. (¬3) البخاري، كتاب أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب، برقم 1117. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة ... ، برقم 631.

الثاني: تكبيرة الإحرام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) (¬1)؛ ولحديث علي - رضي الله عنه - يرفعه: ((مفتاح الصلاة الطّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم)) (¬2). الثالث: قراءة الفاتحة مرتبة في كل ركعة؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاةَ لمَنْ لم يقرأْ بفاتحة الكتاب)) (¬3)، وفيها إحدى عشرة تشديدة، فإن ترك حرفاً ولم يأت بما ترك لم تصحَّ صلاته. الرابع: الركوع؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬4)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وفيه: ((ثمّ اركعْ حتى تطمئنَّ راكعاً)) (¬5). الخامس: الرفع من الركوع والاعتدال قائماً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المُسيء صلاته، وفيه: ((ثمّ ارفعْ حتى تعدلَ قائماً)) (¬6). السادس: السجود على الأعضاء السبعة؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم الركوع بإعادته، برقم 793، ومسلم، كتاب الأذان، باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم الركوع بإعادته، برقم 397. (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم 61، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور برقم 3، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 102. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، برقم 756، ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءءة الفاتحة في كل ركعة، ... ، برقم 394. (¬4) سورة الحج، الآية: 77. (¬5) البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، برقم 757. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، برقم 757.

الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وفيه: ((ثمّ اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً)) (¬2)؛ ولحديث ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمرتُ أن أسجدَ على سبعة أعْظُمٍ: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) (¬3). السابع: الرفع من السجود؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) (¬4). الثامن: الجلسة بين السجدتين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حتى تطمئن جالساً)) (¬5). التاسع: الطمأنينة في جميع الأركان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمّا علَّمَ المسيء صلاته كان يقول له في كل ركن: ((حتى تطمئنَّ)) (¬6) والطمأنينة: هي السكون بقدر الذكر الواجب، فلو لم يسكن لم يطمئن (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 77. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم 392. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف، برقم 812، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم 490. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، برقم 757. (¬5) البخاري، برقم 757. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، برقم 757، وكتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه من الركوع ... برقم 392. (¬7) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 126، والشرح الممتع، 3/ 421.

العاشر: التشهد الأخير؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وفيه: ((لا تقولوا: السلامُ على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله ... )) (¬1). ولفظه عند النسائي: كنا نقول في الصلاة قبل أن يُفرض التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل، وميكائيل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقولوا هكذا، فإنَّ اللهَ هو السلام، ولكن قولوا: التحياتُ لله ... )) (¬2). الحادي عشر: الجلوس للتشهد الأخير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله جالساً، وداوم عليه، كما تقدم في الأحاديث، وقد أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كصلاته، فقال: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)) (¬3). الثاني عشر: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬4)؛ ولحديث كعب بن عجرة (¬5) - رضي الله عنه - وفيه: ((يا رسول الله قد علمنا كيف نُسلِّمُ عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد ... )) الحديث)) (¬6)؛ ولحديث عبد الله بن ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة، برقم 831، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، برقم 835. (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب إيجاب التشهد، برقم 1278. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم 628، ورقم 6008. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬5) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 424 - 425. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 6357، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم 406.

مسعود - رضي الله عنه - وفيه: ((أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد ... )) الحديث (¬1). الثالث عشر: الترتيب بين أركان الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّم المسيء صلاته مرتبة بـ ((ثُمَّ))، فقال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبِّرْ، ثم اقرأْ ما تيسَّرَ معك مِنَ القرآن، ثمَّ اركعْ حتى تطمئنَّ راكعاً، ثم ارفعْ حتى تعتدلَ قائماً، ثمَّ اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً، ثمَّ ارفعْ حتى تطمئنَّ جالساً، ثمَّ اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً، ثمَّ ارفعْ حتى تطمئنَّ جالساً، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها)) (¬2)، وقال أبو أسامة في الأخير: ((حتى تستويَ قائماً)) (¬3)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على هذا الترتيب، وقال: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي)) (¬4). الرابع عشر: التسليمتان؛ لحديث علي - رضي الله عنه - يرفعه: ((مفتاح الصلاة الطّهور، وتحريمها التّكْبير، وتحليلُها التسليم)) (¬5)؛ولحديث عامر بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ((كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خدّه)) (¬6). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم 405. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 757، 793، 6251، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 6667. (¬4) البخاري، برقم 628، 6008، وتقدم تخريجه. (¬5) أبو داود، برقم 61، والترمذي، برقم 3، وتقدم تخريجه. (¬6) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته، برقم 582.

الأمر الثالث: التحذير من ترك شيء من واجبات الصلاة:

الأمر الثالث: التحذير من ترك شيء من واجبات الصلاة: واجبات الصلاة ثمانية، تبطل الصلاة بتركها عمداً، وتسقط سهواً وجهلاً، وتجبر بسجود السهو، وهي على النحو الآتي: الأول: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام (¬1)؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((إنما جُعلَ الإمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبروا)) (¬2)؛ولحديث ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال عكرمة: رأيت رجلاً عند المقام يكبّر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال: ((أوليس تلك صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أم لك؟)) (¬3). وفي رواية: ((صليت خلف شيخ بمكةَ فكبّر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سُنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبّر حين يقوم، ثم يكبّر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم ¬

_ (¬1) ويستثنى ما يلي: التكبيرات الزوائد في صلاة العيد والاستسقاء، فإنها سنة. تكبيرات الجنازة، فإنها ركن. تكبيرة الركوع لمن أدرك الإمام راكعاً. فإنها سنة. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 432. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، برقم 733، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 411. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب إتمام التكبير في السجود، برقم 787، وانظر: سنن النسائي، 2/ 205، برقم 1083، والترمذي، برقم 253، وأحمد، 1/ 386. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 788.

يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) (¬1). الثاني: قول: سبحان ربي العظيم في الركوع؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم)) (¬2)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأما الركوع فعظِّمُوا فيه الربَّ - عز وجل -)) (¬3). الثالث: قول: ((سمع الله لمن حمده)) للإمام والمنفرد؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((ثم يقول: سمع الله لمن حمده إذا رفع صلبه من الركوع)) (¬4). الرابع: قول: ربنا ولك الحمد للكل [الإمام، والمنفرد، والمأموم] أما الإمام والمنفرد؛ فلحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد)) (¬5). وأما المأموم؛ فلحديث أنس - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) (¬6). الخامس: قول: سبحان ربي الأعلى في السجود؛ لحديث حذيفة يرفعه ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع ... ، برقم 392. (¬2) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم 479. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 733، ومسلم، برقم 411، وتقدم تخريجه.

وفيه: ((ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى)) (¬1). السادس: قول: ((ربِّ اغفر لي بين السجدتين))؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: وكان يقول: ((ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي)) (¬2). السابع: التشهد الأول؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: علَّمَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقول إذا جلسنا في الركعتين: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (¬3)؛ولحديث عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبِّر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلِّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس (¬4). الثامن: الجلوس للتشهد الأول؛ لحديث عبد الله بن بحينة السابق وفيه: ((قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه، مكان ما نسي من الجلوس)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه. (¬2) أبو داود، برقم 874، وابن ماجه، برقم 897، وتقدم تخريجه. (¬3) النسائي، كتاب التطبيق، باب كيف التشهد الأول، برقم 1163، 1164، وأحمد، 1/ 437، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، برقم 1162، وفي صحيح أبي داود، برقم 890. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الأولى، برقم 830، ومسلم، واللفظ له، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 570. (¬5) تقدم تخريجه في الذي قبله.

الأمر الرابع: التحذير من فعل شيء من مبطلات الصلاة التي تفسدها:

الأمر الرابع: التحذير من فعل شيء من مبطلات الصلاة التي تفسدها: تبطل الصلاة وتجب إعادتها بقول أو فعل مما يأتي: 1 - الكلام العمد مع الذكر؛ لحديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: ((كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُواْ للهِ قَانِتِينَ} (¬1) فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام)) (¬2)؛ ولحديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - وفيه: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن)) (¬3)؛ ولحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كُنَّا نُسَلِّمُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا (¬4) فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: ((إن في الصلاة شغلاً)) (¬5). قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أن من تكلم في صلاته عامداً وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها، أن صلاته فاسدة)) (¬6). 2 - الضحك بصوت يسمعه المصلي أو غيره، وهو ما يعبر عنه بالقهقهة، قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 238. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم 539. (¬3) مسلم، الكتاب والباب المشار إليهما آنفاً، برقم 537. (¬4) ولكن يرد المصلي على المسلم بالإشارة، انظر: صحيح مسلم، برقم 540. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، برقم 538. (¬6) الإجماع، ص43، برقم 66.

الضحك يفسد الصلاة)) (¬1). 3 - الأكل. 4 - الشرب، قال ابن المنذر - رحمه الله -: ((وأجمعوا على أن من أكل أو شرب في صلاته الفرض عامداً أن عليه الإعادة)) (¬2). 5 - انكشاف العورة عمداً؛ لأن من شروط الصلاة ستر العورة، فإذا عدم الشرط عمداً بدون عذر بطل المشروط، وهو هنا الصلاة (¬3). 6 - الانحراف الكثير عن جهة القبلة؛ لأن استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة. 7 - العبث الكثير المتوالي لغير ضرورة [أي الحركة الكثيرة المتوالية]. 8 - انتقاض الطهارة؛ لأنها شرط من شروط الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يرفعه وفيه: ((لا تقبل صلاة بغير طهور)) (¬5)،وكذلك إذا ترك المُصلِّي ركناً من أركان الصلاة، أو ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر، ص43، برقم 62. (¬2) الإجماع، ص43. (¬3) انظر: الدروس المهمة للإمام ابن باز - رحمه الله - الدرس الحادي عشر وحاشيتها للطويان، ص151، وحاشيتها للفائز، ص49. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم 135، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 225. (¬5) مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم 224.

شرطاً من شروطها، لغير عذر شرعي، وكذلك من تعمد ترك شيء من واجباتها بغير عذر.

المبحث الحادي عشر: الصلاة بخشوع: قرة للعين وراحة للقلب

المبحث الحادي عشر: الصلاة بخشوع: قرّةٌ للعين وراحةٌ للقلب لا شك أن الصلاة قرة لعين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وراحة لقلبه وروحه؛ لحلاوة مناجاته لربِّه؛ ولخشوعه، وحضور قلبه بين يدي الله تعالى، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبِّبَ إلَيَّ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬1). وقوله ((حبب إلي النساء .. )) قيل: إنما حُبِّبَ إليه النساء لينقلن عنه من أمور الشريعة ما لا يطّلع عليه الرجال، ومن أحواله ويُستَحْيَا من ذكره، وقد جعل الله له نسوة ينقلن: أحكام الحيض، والنفاس، والغسل، والعدة، وينقلن من الشرع ما يشاهدنه من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: حبب إليه زيادة في الابتلاء والاختبار، والتكليف، فيكون ذلك أكثر ¬

_ (¬1) النسائي بلفظه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم 3940، وأحمد، برقم 12293، 13057، وفي لفظ للنسائي، برقم 3939، وأحمد، برقم 12294، 14037: ((حُبِّبَ إليَّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجُعِلَ قُرَّةُ عيني في الصلاة))، والحديث صححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 827، وسمعت شيخنا ابن باز أثناء تقريره على سنن النسائي، 7/ 61: يقول: ((لا بأس بإسناده، أما من قال: حبب إلي من دنياكم ثلاث، فهذا لا يصح؛ لأن الصلاة ليست من الدنيا، أما قوله: ((حُبِّبَ إليَّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة)) فلا إشكال فيه)). وقوله: ((حُبّب إليَّ من الدنيا .. )) قال المناوي في ((فيض القدير)) 3/ 370: ((زاد الزمخشري، والقاضي لفظ: ((ثلاث)) [أي حُبِّبَ إليّ من الدنيا ثلاث]، وهو وهم، قال الحافظ العراقي في ((أماليه)): لفظ (ثلاث) ليست في شيء من كتب الحديث، وهي تفسد المعنى، وقال الزركشي: لم يرد فيه لفظ ((ثلاثة))، وزيادتها مُخِلَّة للمعنى؛ فإن الصلاة ليست من الدنيا، وقال ابن حجر في تخريج ((الكشاف)): لم يقع في شيء من طرقه [انظر: حاشية محققي مسند الإمام أحمد، 19/ 307].

لمشاقِّه، وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك والعلم عند الله تعالى (¬1). وقوله: ((والطيب)) فكأنه حُبِّبَ إليه؛ لأنه يناجي ربَّه - سبحانه وتعالى -، ويقابل جبريل، والملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم، والعلم عند الله تعالى (¬2). قوله: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) النبي - صلى الله عليه وسلم - يحصل له السرور العظيم، واللذة العظيمة في صلاته؛ لأنه يستحضر عظمة الله ويناجيه، ويدعوه، فيحصل له كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى (¬3). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: (( ... وقرّت عينُهُ تقرُّ: سُرَّت، قال: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (¬4)، وقيل لمن يُسَرُّ به: قرّة عينٍ، قال: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} (¬5) وقوله: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (¬6) قيل: أصله من القُرِّ: أي البرد، فقرّت عينُه، قيل: معناه بردت فصحَّت، وقيل: لأن للسرور دمعة باردة قارة، وللحُزن دمعة حارة؛ ولذلك يقال لمن يُدعى عليه: أسخن الله عينه، وقيل: هو من القرار، والمعنى: أعطاه الله ما تسكن به عينه، فلا يطمح إلى غيره)) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: شرح السيوطي على سنن النسائي وحاشية السندي، 7/ 63 - 64. (¬2) انظر: المرجع السابق، 7/ 63 - 64. (¬3) انظر: شرح السيوطي عن سنن النسائي، وحاشية السندي، 7/ 63 - 64، ولسان العرب لابن منظور، 5/ 87، والمصباح المنير، 2/ 497. (¬4) سورة طه، الآية: 40. (¬5) سورة القصص، الآية: 9. (¬6) سورة الفرقان، الآية: 74. (¬7) مفردات ألفاظ القرآن، ص663.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - مهما يحصل له من السرور العظيم، وحلاوة مناجاة الله، تحصل له الراحة فيها؛ لكمال مناجاته لربه، واستحضاره لعظمته، والوقوف بين يديه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ))، وفي لفظ: ((يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا)) (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... الصلاة إنما تُكفِّر سيئات من أدَّى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خِفّةً من نفسه، وأحسَّ بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطاً، وراحة، وروحاً، حتى يتمنَّى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قُرَّة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نُصلِّي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم، وقدوتهم، ونبيهم - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا بِلالُ أَرِحْنَا بِالصَّلاةِ)) (¬2)، ولم يقل: أرحنا منها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬3)، فمن جُعلت قرة عينه في الصلاة، كيف تقرّ عينه بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟)) (¬4). وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((والمقصود أن ما تقرُّ به العين أعلى من مجرَّد ما يحبه، فالصلاة قُرّة عيون المحبين في هذه ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، برقم 4985، و 4986، وأحمد في المسند، برقم 23154، 38/ 225، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 225. (¬2) أبو داود، برقم 4985، 4986، وأحمد 3154، وتقدم تخريجه في الذي قبله. (¬3) النسائي برقم 3940، وأحمد، برقم 12293، وصححه الألباني، وتقدم تخريجه. (¬4) الوابل الصيب، ص 37.

الدنيا؛ لما فيها من مناجاة من لا تقرّ ... العيون، ولا تطمئن القلوب، ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره، والتَّذلُّلُ والخضوع له، والقرب منه، ولا سيما في حال السجود، وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال أرحنا بالصلاة))، فأعلم بذلك أن راحته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، كما أخبر أن قرّة عينه فيها، فأين هذا من قول القائل: نصلي، ونستريح من الصلاة. فالمحبّ راحته، وقرّة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك؛ بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنَّه على الجمر، حتى يتخلّص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها، وأسرعها؛ فإنه ليس له قُرَّة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرّت عينه بشيء، واستراح قلبه به، فأشقّ ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله، والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا، أشقّ ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها، مع تفرّغه وصحته وعدم اشتغاله)) (¬1). ¬

_ (¬1) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص 33.

المبحث الثاني عشر: مشاهد الصلاة الخاشعة التي تقر بها العين

المبحث الثاني عشر: مشاهد الصلاة الخاشعة التي تقرّ بها العين قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقرّ بها العين، ويستريح بها القلب، هي التي تجمع ستة مشاهد)) (¬1)، وذكر هذه المشاهد رحمه الله، وهي على النحو الآتي: المشهد الأول: الإخلاص: وهو أن يكون الحامل عليها، والداعي إليها، رغبة العبد في الله، ومحبته له، وطلب مرضاته، والقرب منه، والتودُّد إليه، وامتثال أمره؛ بحيث لا يكون الباعث له عليها حظّاً من حظوظ الدنيا البتة؛ بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى: محبةً له، وخوفاً من عذابه، ورجاء لمغفرته، وثوابه. المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح: وهو أن يُفرِّغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه، وأكملها ظاهراً وباطناً؛ فإن الصلاة لها ظاهر وباطن: فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة، وتفريغ القلب لله والإقبال بكُليَّته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره، فهذا بمنزلة الروح لها والأفعال بمنزلة البدن، فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك، ولهذا تُلفُّ كما يلفّ الثوب الخلق، ويضرب بها وجه صاحبها، وتقول ضيعك الله كما ضيعتني. ¬

_ (¬1) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص 34.

المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء:.

والصلاة التي كَمُلَ ظاهرها وباطنها تصعد ولها نور وبرهان كنور الشمس، حتى تعرض على الله فيرضاها ويقبلها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني (¬1). المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء: وهو أن يحرص كلّ الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُصلِّي كما كان يُصلِّي، ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة: من الزيادة، والنقصان، والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء منها، ولا عن أحد من أصحابه، ولا يقف عند أقوال المرخِّصين الذين يقفون مع أقل ما يعتقدون وجوبه، ويكون غيرهم قد نازعهم في ذلك، وأوجب ما أسقطوه، ولعل الأحاديث الثابتة، والسنة النبوية من جانبه، ولا يلتفتون إلى ذلك، ويقولون: نحن مقلِّدون لمذهب فلان، وهذا لا يُخلِّص عند الله، ولا يكون عذراً لمن تخلَّف عما علمه من السنة عنده، فإن الله سبحانه إنما أمر بطاعة رسوله، واتباعه وحده، ولم يأمر باتباع غيره، وإنما يطاع غيره إذا أمر بما أمر به الرسول، وكل أحد سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك، وقد أقسم الله سبحانه بنفسه الكريمة أنا لا نؤمن حتى نُحكِّم الرسول فيما شجر بيننا، وننقاد لحكمه، ونُسلِّم تسليماً، فلا ينفعنا تحكيم غيره، والانقياد له، ولا ينجينا من عذاب الله، ولا يقبل منا هذا الجواب إذا سمعنا نداءه سبحانه يوم القيامة: {ماذا أجبتم المرسلين} (¬2)؛ فإنه لا بد أن يسألنا عن ذلك، ويطالبنا بالجواب، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ ¬

_ (¬1) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، ص 35. (¬2) سورة القصص، الآية: 65.

المشهد الرابع: مشهد الإحسان: وهو مشهد المراقبة

الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ بِي تُفْتنُونَ، وَعَنِّي تُسْأَلُونَ)) (¬2)، يعني المسألة في القبر، فمن انتهت إليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتركها لقول أحد من الناس، فسيرد يوم القيامة ويعلم. المشهد الرابع: مشهد الإحسان: وهو مشهد المراقبة، وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله، وأسمائه، وصفاته، حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته، مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه، ويُدبِّر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده، ويصعد إليه، وتُعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه، فيشهد ذلك كُلَّه بقلبه، ويشهد أسماءه وصفاته، ويشهد قيُّوماً، حيّاً، سميعاً، بصيراً، عزيزاً، حكيماً، آمراً، ناهياً، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ولا أقوالهم ولا بواطنهم؛ بل يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور. ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كُلِّها؛ فإنه يوجب: الحياء، والإجلال، والتعظيم، والخشية، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والخضوع لله سبحانه، والذُّلّ له، ويقطع الوسواس وحديث ... النفس، ويجمع القلب والهمّ على الله، فحظّ العبد من القرب من ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 6. (¬2) رواه أحمد، 24/ 12، برقم 25089، والبيهقي في إثبات عذاب القبر، برقم 19، وصحح محققو المسند إسناده على شرط الشيخين، وقال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 3/ 518: ((رواه أحمد بإسناد صحيح)) ..

المشهد الخامس: مشهد المنة:

الله على قدر حظِّه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة، حتى [أنَّه] يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض: وقيامهما، وركوعهما، وسجودهما واحد. المشهد الخامس: مشهد المِنَّةِ: وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام، وأهَّله له، ووفَّقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته، فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك، كما كان الصحابة يَحْدون بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّينا قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، فالله سبحانه هو الذي جعل المسلم مسلماً، والمُصلِّي مصلِّياً كما قال الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (¬2)، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (¬3)، فالمنّة لله وحده في أن جعل عبده قائماً بطاعته، وكان هذا من أعظم نعمه عليه، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬4)، وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 17. (¬2) سورة البقرة، الآية: 128. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 40. (¬4) سورة النحل، الآية: 53. (¬5) سورة الحجرات، للآية: 7.

المشهد السادس: مشهد التقصير:

وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وكلّما كان العبد أعظم توحيداً، كان حظُّه من هذا المشهد أتمَّ. وفيه من الفوائد: أنه يحول بين القلب وبين العُجْب بالعمل، ورؤيته؛ فإنه إذا شهد أن الله سبحانه هو المانُّ به، الموفق له، الهادي إليه، شغله شهودُ ذلك عن رؤيته، والإعجاب به، وأن يصول به على الناس، فيُرفع من قلبه، فلا يعجب به، ومن لسانه، فلا يمنّ به، ولا يتكثّر به، وهذا شأن العمل المرفوع. ومن فوائده: أنه يضيف الحمد إلى وليّه، ومستحقّه، فلا يشهد لنفسه حمداً، بل يشهده كلّه لله، كما يشهد النعمة كلّها منه، والفضل كله له، والخير كله في يديه، وهذا من تمام التوحيد، فلا يستقرّ قدمه في مقام التوحيد إلا بعلم ذلك وشهوده؛ فإذا علمه، ورسخ فيه، صار له مشهداً، وإذا صار لقلبه مشهداً، أثمر له من المحبة والأنس بالله، والشوق إلى لقائه، والتنعّم بذكره، وطاعته، ما لا نسبة بينه وبين أعلى نعيم الدنيا البتّة. وما للمرء خير في حياته، إذا كان قلبه عن هذا مصدوداً، وطريق الوصول إليه عنه مسدوداً، بل هو كما قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (¬1). المشهد السادس: مشهد التقصير: وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد، وبذل وسعه، فهو مقصِّر، وحق الله سبحانه عليه أعظم، والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 3.

والخدمة فوق ذلك بكثير، وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها، وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم، والتعظيم، والاحترام، والتوقير، والحياء، والمهابة، والخشية، والنصح، بحيث يُفَرِّغون قلوبهم وجوارحهم لهم، فمالك الملوك، ورب السموات والأرض، أولى أن يعامل بذلك، بل بأضعاف ذلك. وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه، ولا قريباً من حقه، علم تقصيره، ولم يسعْه مع ذلك غير الاستغفار، والاعتذار من تقصيره وتفريطه، وعدم القيام بما ينبغي له من حقه، وأنه إلى أن يغفر له العبودية، ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثواباً، وهو لو وفَّاها حقها كما ينبغي، لكانت مستحقّة عليه بمقتضى العبودية؛ فإن عمل العبد، وخدمته لسيده، مستحقّ عليه بحكم كونه عبده ومملوكه، فلو طلب منه الأجرة على عمله، وخدمته لعدَّه الناس أحمق وأخرق، هذا وليس ... هو عبده، ولا مملوكه على الحقيقة، وهو عبد الله ومملوكه على الحقيقة من كلِّ وجه لله سبحانه، فعمله وخدمته مستحقّ عليه بحكم كونه عبده، فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضل ومنَّة وإحسان إليه، لا يستحقّه العبد عليه. ومن ههنا يُفْهَم معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُم الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ))، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ

اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)) (¬1). وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((يُخْرَجُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ فِيهِ حَسَنَاتُهُ، وَدِيوَانٌ فِيهِ سَيِّئَاتُهُ، وَدِيوَان النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا؛ فَيَقُولُ الرَّبُّ تَعَالَى لنِعَمِه: خُذِي حَقَّكِ مِنْ حَسَنَاتِ عَبْدِي، فَيَقُوْمُ أَصْغَرُهَا فَتَسْتَنْفِدَ حَسَنَاتِهِ، ثُمَّ تَقُولُ: وَعِزَّتِك مَا اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي بَعْدُ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَ عَبْدَهُ وَهَبَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ سَيِّئَاتِهِ، وَضَاعَفَ لَهُ حَسَنَاتِهِ)) (¬2)، [قال الإمام ابن القيم رحمه لله]: وهذا ثابت عن أنس، وهو أدلُّ شيء على كمال علم الصحابة بربهم، وحقوقه عليهم، كما أنهم أعلم الأمة بنبيِّهم وسنَّته ودينه؛ فإنَّ في هذا الأثر من العلم والمعرفة ما لا يدركه إلا أولو البصائر، العارفون بالله، وأسمائه، وصفاته، وحقه، ومن هنا يُفْهَم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو داود، والإمام أحمد، من حديث زيد بن ثابت، وحذيفة وغيرهما: ((إِنَّ اللَّهَ لَوْ عذَّبَ أهْلَ سَمَوَاتِهِ، وأهْلَ أرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خيْراً لَهُمْ ¬

_ (¬1) مسند أحمد، 12/ 449، برقم 7479، والبخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم 6463، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، ... ، برقم 2816 بألفاظ متقاربة. (¬2) أخرجه البزار، 4/ 160، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 674: ((رواه البزار وفيه صالح المري وهو ضعيف))، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، 14/ 434، وفي ضعيف الترغيب والترهيب، برقم 2069، قال: ((موضوع))، ورواية ابن أبي شيبة، 13/ 294، بلفظ مقارب عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، مع ملاحظة أن الإمام ابن القيم في المتن أشار إلى ثبوته ..

مِنْ أَعْمَالِهِمْ)) (¬1). وملاك هذا الشأن أربعة أمور: نيَّةٌ صحيحةٌ، وقوةٌ عاليةٌ، يقارنهما رغبةٌ، ورهبةٌ: فهذه الأربعة هي قواعد هذا الشأن، ومهما دخل على العبد من النقص في إيمانه وأحواله، وظاهره، وباطنه، فهو من نقصان هذه الأربعة، أو نقصان بعضها، فليتأمّل اللبيب هذه الأربعة الأشياء، وليجعلها سيره وسلوكه، ويبني عليها علومه وأعماله وأقواله وأحواله، فما نتج من نتج إلا منها، ولا تخلف من تخلف، إلا من فقدها)) (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد، 35/ 465، برقم 21589، وسنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر، برقم 4701، وسنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب في القدر، برقم 77، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 77. (¬2) رسالة ابن القيم لأحد إخوانه، ص 33 - 46.

المبحث الثالث عشر: أقسام الناس في الخشوع في الصلاة

المبحث الثالث عشر: أقسام الناس في الخشوع في الصلاة الناس يختلفون في الخشوع في الصلاة على حسب حضور قلب كل إنسان، وغفلته، وإقباله على صلاته، وانصراف قلبه عن ربه، والعياذ بالله تعالى، والناس في الخشوع في الصلاة على أقسام خمسة على النحو الآتي: القسم الأول: مرتبة الظالم لنفسه المُفرِّط: وهو الذي انتقص من وضوئها، ومواقيتها، وحدودها، وأركانها. القسم الثاني: من يحافظ على مواقيتها، وحدودها، وأركانها الظاهرة، ووضوئها، لكن قد ضيّع مجاهدة نفسه في الوسوسة، فذهب مع الوساوس والأفكار. القسم الثالث: من حافظ على حدودها، وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوِّه؛ لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد. القسم الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها، وأركانها، وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يضيع شيئاً منها؛ بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها، وإتمامها قد استغرق قلبه شأن الصلاة، وعبوديّة ربه تبارك وتعالى فيها. القسم الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه، ووضعه بين يدي ربه - عز وجل -، ناظراً بقلبه إليه، مراقباً له، ممتلئاً من محبته وعظمته، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّت

تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل، وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه - عز وجل -، قرير العين به. فالقسم الأول معاقبٌ، والثاني محاسبٌ، والثالث مكفَّرٌ عنه، والرابع مُثابٌ، والخامس مُقَرَّبٌ من ربّه؛ لأن له نصيباً ممن جُعِلَتْ قرّة عينه في الصلاة، فمن قرّت عينه بصلاته في الدنيا، قرَّت عينه بقربه من ربه - عز وجل - في الآخرة، وقرّت عينه أيضاً به في الدنيا، ومن قرَّت عينه بالله، قرّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله تعالى، تقطَّعت نفسه على الدنيا حسرات. وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة، واشتغاله فيها بربه - عز وجل - إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟ (¬1). ¬

_ (¬1) الوابل الصيب لابن القيم، ص 40 - 42 ببعض التصرف اليسير.

المبحث الرابع عشر: خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته

المبحث الرابع عشر: خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو أتقى الناس لربه، وأخشاهم، وأشدَّهم خشية وخشوعاً لله تعالى، ومن أعظم خشيته لله، ومحبَّته له، وإجلاله له، وتعظيمه: خشوعه في صلاته، ورقّة قلبه في الصلاة، وغيرها من العبادات: أولاً: خشوعه - صلى الله عليه وسلم - في أفعال الصلاة وأقوالها: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة، طأطأ رأسَه، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله، وكان في التشهد لا يُجاوز بَصَرُهُ إشارتَه، وقد تقدّم. وكان قد جعل الله تعالى قُرّة عينه، ونعيمَه، وسرورَه، وروحَه في الصلاة. وكان يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بِلاَلُ أرِحْنا بِالصلاَةِ)) (¬1). وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)) (¬2). ومع هذا لم يكن يشغَلُه ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم، مع كمال إقباله، وقربه من الله تعالى، وحضورِ قلبه بين يديه، واجتماعِه عليه. وكان يَدْخُلُ فِي الصّلَاةِ وَهُوَ يُرِيدُ إطَالَتَهَا، فَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصّبِيّ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، في الأدب: باب صلاة العتمة، برقم 4985، و4986، وأحمد في المسند، 38/ 178، برقم 32088 عن رجل من الصحابة، وصحح إسناده الشيخ الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 265. (¬2) رواه النسائي، في عشرة النساء: باب حب النساء، 7/ 61، برقم 3940، وأحمد في المسند، 21/ 433، برقم 14037 من حديث أنس، والحاكم، 2/ 174، برقم 2676، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، ولفظه بتمامه: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)). وقال شعيب الأرناؤوط في تحقيقه على زاد المعاد، 1/ 265: ((وسنده حسن)).

فَيُخَفّفُهَا، وَأَرْسَلَ مَرّةً فَارِساً طَلِيعَةً لَهُ، فَقَامَ يُصَلّي، وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ إلَى الشّعْبِ الّذِي يَجِيءُ مِنْهُ الْفَارِسُ (¬1)، وَلَمْ يَشْغَلْهُ مَا هُوَ فِيهِ عَنْ مُرَاعَاةِ حَالِ فَارِسِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يُصَلّي الْفَرْضَ وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ ابْنِ الرّبِيعِ ابْنَةَ بِنْتِهِ زَيْنَبَ عَلَى عَاتِقِهِ، إذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ، وَضَعَهَا (¬2). وكان يصلي فيجيء الحسنُ أو الحسين فيركبُ ظهره، فيُطيل السجدة، كَراهية أن يُلقيَه عن ظهره (¬3). وكان يُصلي، فتجيء عائشةُ مِن حاجتها والبابُ مُغلَق، فيمشي، ¬

_ (¬1) أبو داود، 1/ 254، كتاب الصلاة، باب الرخصة، برقم 916، والبيهقي في السنن الكبرى، 2/ 248، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 850. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم 516، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، برقم 543. (¬3) أخرجه أحمد، 45/ 613، برقم 27647، والنسائي، كتاب الصلاة، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة،3/ 226، برقم 1141. ولفظ أحمد: ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ وَهُوَ حَامِلُ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا فقَالَ إِنِّي رَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ فِي سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَيْ الصَّلَاةِ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ: ((كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ)) قال الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 266: ((وسنده صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وفي الباب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أحمد، 2/ 513، وسنده حسن))، قلت: وصححه الألباني في صفة الصلاة، ص 148.

فيفتح لها البابَ، ثمَّ يرجِعُ إلى الصلاة (¬1). وكان يَرُدُّ السلامَ بالإِشارة على من يُسلّم عليه وهو في الصلاة. وقال جابر: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة، ثم أدركتُهُ وهو يُصلِّي، فسلمتُ عليه، فأشار إليَّ (¬2). قال أنس - رضي الله عنه -: ((كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُشير في الصلاة)) (¬3). وقال صُهيبٌ: ((مررتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلي، فسلّمتُ عليه، فردَّ إشارةً))، قال الراوي: لا أعلمه، قال: إلا إشارة بأصبعه، وهو في ((السنن))، و ((المسند)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند، 43/ 121، برقم 25972، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة، برقم 922، والترمذي، في الصلاة، في أبواب السفر، باب [ذكر] ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع،2 /،496، برقم 601، وقال: ((هذا حديث حسن غريب))، والنسائي، كتاب السهو، باب المشي أمام القبلة خُطاً يسيرة، 1/ 37، برقم 1206، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 855، وحسن إسناده أيضاً الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 43/ 121. (¬2) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ... ، برقم 540. وأبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، برقم 966، والنسائي، كتاب السهو، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، 3/ 6، برقم 1189، وسنن ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب المصلي يُسلّم عليه كيف يرد، 1/ 325. (¬3) أحمد، 19/ 398، برقم 12407، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة، 1/ 262، برقم 943، والسنن الكبرى للبيهقي، 2/ 262. وقال الألباني في صحيح أبي داود، 4/ 101: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين))، وقال الشيخ الأرناؤوط في زاد المعاد، 1/ 267: ((وسنده صحيح)). (¬4) أحمد، 8/ 174، برقم 4568، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، برقم 925، والترمذي، في الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، 1/ 160، برقم 368، والنسائي، أبواب السهو، باب رد السلام بالإشارة في الصلاة، 3/ ص 5، برقم 1187، وابن ماجه، في أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب المصلي يسلم عليه كيف يرد، برقم 1017، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود، برقم 860، وقال الشيخ الأرنؤوط في تحقيقه على زاد المعاد، 1/ 267: ((وسنده صحيح)).

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء يُصلِّي فيه، قال: فجاءته الأنصارُ، فسلَّموا عليه وهو في الصلاة، فقلتُ لبلال: كيف رأيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردُّ عليهم حين كانوا يُسلِّمون عليه وهو يصلِّي؟ قال: يقول: هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق)) (¬1). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((لما قَدِمتُ من الحبشة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسلَّمت عليه، فأومأ برأسه)) (¬2). قال الإمام ابن القيم: ((وأما حديث أبي غطفان عن أبي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَشَارَ فِي صَلاَتِهِ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنهُ، فَلْيُعِدْ صَلاته))، فحديث باطل، ذكره الدارقطني (¬3)، وقال: قال لنا ابن ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة، برقم 927، والترمذي، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، برقم 368، وقال: ((حسن صحيح))، وقال الأرنؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 267: ((وسنده صحيح))، ولفظ الترمذي: ((كان يشير بيده))، وصحح الألباني لفظ الترمذي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 49. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 260، وشعب الإيمان له، 11/ 263، والدارمي في سننه، 2/ 349، والمعجم الكبير للطبراني، 23/ 31، قال محقق الدارمي نقلاً عن حسين أسد: ((إسناده جيد)). (¬3) رواه الدارقطني، 2/ 83، برقم 195، وأبو داود (944)، والبيهقي في السنن الكبرى، 2/ 262 في الصلاة، قال الأرنؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 268: ((وفيه عنعنة ابن إسحاق، وانظر: نصب الراية، 2/ 90، 91)).

أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول (¬1)، والصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُشير في صلاته. رواه أنس، وجابر وغيرهما (¬2))) (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يُصلي وعائشة معترِضَةٌ بينَه وبين القبلة، فإذا سجد، غَمَزَهَا بيده، فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما (¬4). وكان يُصلي، فجاءه الشيطانُ ليقطع عليه صلاتَه، فأخذه، فخنقه حتى سَالَ لُعابُه عَلَى يَدِه (¬5). ¬

_ (¬1) قال الأرنؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 168: ((أبو غطفان: ثقة كما في التقريب وأصله. وقد انفرد ابن أبي داود فادعى جهالته، على أن ابن أبي داود كثير الخطأ في الكلام على الحديث كما قال الدارقطني حين سئل عنه)). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 262. ومعرفة السنن والآثار للبيهقي أيضاً، 2/ 40، وباقي كلامه فيه: ((وكان محمد يأخذ به، ورواية من روى في حديثه أنه رد - عليه السلام -، بعد فراغه من الصلاة في ثبوتها نظر)). (¬3) زاد المعاد، 1/ 268. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الفراش، برقم 382، وفي باب التطوع خلف المرأة، برقم 513، وفي كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، برقم 1209، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتراض بين يدي المصلي، برقم 412، والموطأ، 1/ 17، في صلاة الليل، باب ما جاء في صلاة الليل، وأبو داود، في الصلاة، باب من قال المرأة لا تقطع الصلاة، برقم 712، والنسائي، في الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة، 1/ 102، برقم 759، وأحمد في المسند، 6/ 44، و55، و148، و225، و255 من حديث عائشة رَضْيَ اللَّهُ عَنْهَا، ولفظه: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. (¬5) البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، برقم 1210، وفي باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، برقم 461، وفي كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3284، وفي كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [سورة ص، الآية: 30]، برقم 3423، وفي كتاب التفسير، تفسير سورة ص، برقم 4808، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، برقم 541،، ولفظه عند البخاري: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي، فشد عليّ ليقطع عليَّ، فأمكنني الله منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان - عليه السلام -: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [سورة ص، الآية: 35]، فردّه الله خاسئاً، ثم قال النضر بن شميل: فذعته -بالذال أي خنقته-، وفي رواية لمسلم: ((إن عفريتاً من الجنّ جعل يَفْتِكُ عليَّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وذكر الحديث ... ))، وهو من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وكان يُصلي على المنبر ويركع عليه، فإذا جاءت السجدة، نزل القَهْقَرى، فَسَجَدَ على الأرض ثم صَعِدَ عليه (¬1). وكان يُصلي إلى جِدار، فجاءت بَهْمَةٌ تمرُّ من بين يديه، فما زال يُدارئها، حتى لَصِقَ بطنُه بالجدار، ومرّت من ورائه (¬2). يدارئها: يفاعلها، من المدارأة، وهي المدافعة. وكان يُصلّي، فجاءته جاريتانِ من بني عبد المطلب قد اقتتلتا، فأخذهما بيديه، فَنَزَعَ إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة (¬3). ولفظ أحمد فيه: ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم 917، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، برقم 544، من حديث سهل بن سعد، فقال: ((أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي)). (¬2) أبو داود، في كتاب الصلاة، باب سترة الإمام سترة من خلفه، برقم 708، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإسناده حسن، وفي الباب عن ابن عباس عند ابن خزيمة، برقم 827، والحاكم، 1/ 254 بلفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فمرت شاة بين يديه، فساعاها إلى القبلة حتى ألزق بطنه بالقبلة))، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3، 290. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من قال: الحمار لا يقطع الصلاة، برقم 716، والنسائي، في القبلة، باب ذكر ما يقطع الصلاة وما لا يقطع، برقم 754، ولفظه عن ابن عباس يحدث أنه ((مرّ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلوا ودخلوا معه فصلوا، ولم ينصرف، فجاءت جاريتان تسعيان من بني عبد المطلب فأخذتا بركبتيه ففرع بينهما، ولم ينصرف))، وفي رواية لأبي داود، برقم 717: ((فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا فأخذهما))، قال: قال الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 296: ((إسناده صحيح على شرط مسلم)) ..

فأخذتا بركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزع بينهما، أو فرَّق بينهما، ولم يَنْصَرِفْ (¬1). وكان يُصلّي، فمرَّ بين يديه غلام، فقال بيده هكذا، فرجع، ومرّت بين يديه جاريةٌ، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((هُنّ أَغْلَبُ)) (¬2)، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِي السّنَنِ. وَكَانَ يَنْفُخُ فِي صَلَاتِهِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِي السّنَنِ (¬3). قال الإمام ابن القيم: ((وَأَمّا حَدِيثُ: ((النّفْخُ فِي الصّلَاةِ كَلَامٌ))، فَلَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنّمَا رواه سعيد في سننه عن ابْنِ عَبّاسٍ رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ قَوْلِهِ إنْ صَحّ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند، 1/ 235، و250، و254، و308، و316، و341، وقال الأرناؤوط في تعليقه على زاد المعاد، 1/ 269: ((وإسناده حسن)). (¬2) ابن ماجه، كتاب الإقامة، باب ما يقطع الصلاة، برقم 948، وأحمد في المسند، 44/ 143، برقم 26523 من حديث أم سلمة، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه، 1/ 71، وقال محققو المسند، 44/ 134: ((إسناده ضعيف)). (¬3) النسائي، كتاب الكسوف، باب كيف صلاة الكسوف، 3/ 154، برقم 1481، مسند أحمد، 11/ 21، برقم 6483، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 270، وفي مسند الإمام أحمد، 11/ 21، قال: ((حسن)). (¬4) زاد المعاد، 1/ 270.

وَكَانَ يَبْكِي فِي صَلَاتِهِ، وَكَانَ يَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ. قَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: ((كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةٌ آتِيهِ فِيهَا، فَإِذَا أَتَيْتُهُ اسْتَأْذَنْتُ فَإِنْ وَجَدْتُهُ يُصَلّي فَتَنَحْنَحَ، دَخَلْتُ، وَإِنْ وَجَدْته فَارِغاً أَذِنَ لِي))، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: ((كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَدْخَلَانِ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ، وَكُنْتُ إذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلّي، تَنَحْنَحَ (¬1).وَعَمِلَ بِهِ أحمد، فَكَانَ يَتَنَحْنَحُ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَرَى النّحْنَحَةَ مُبْطِلَةً لِلصّلَاةِ. وَكَانَ يُصَلّي حَافِياً تَارَةً، وَمُنْتَعِلاً أُخْرَى، كَذَلِك قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْهُ (¬2)، وَأَمَرَ بِالصّلَاةِ بِالنّعْلِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ (¬3). وَكَانَ يُصَلّي فِي الثّوْبِ الْوَاحِدِ تَارَةً، وَفِي الثّوْبَيْنِ تَارَةً، وَهُوَ أَكْثَرُ)) (¬4). ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، 3/ 137، 138، برقم 1212، وأحمد في المسند، 2/ 159، و188، وهو في جملة حديث طويل عن عبد الله بن عمرو، قال: ((وقام فصنع في الركعة الثانية مثل ما صنع في الركعة الأولى من القيام والركوع والسجود والجلوس، فجعل ينفخ في آخر سجوده ... ))، وذكر الحديث، قال الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 270: ((وإسناده صحيح؛ لأن روايه عن عطاء بن السائب شعبة عند أحمد، وسفيان عند ابن خزيمة، وهما قد سمعا منه قبل الاختلاط. وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض، 3/ 67، قبل الحديث رقم 1213، كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة عن عبد الله بن عمرو: ((نفخ النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجوده في كسوف)). (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، برقم 653، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 193: ((حسن صحيح)). (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل، برقم 650، ورقم 651، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي، 2/ 432، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 2/ 270، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 193. (¬4) رواه أحمد في المسند، برقم 647، والنسائي، 3/ 12 في الصلاة، باب التنحنح في الصلاة، وابن خزيمة، برقم 902 من حديث عبد الله بن نجي، عن علي، قال الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 270: ((وفيه انقطاع؛ لأن عبد الله بن نجي قيل: لم يسمع عن علي، وجاء في بعض المصادر: عن عبد الله بن نجي، عن أبيه، عن علي، ونجي مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان))، وانظر: زاد المعاد، 1/ 265 - 270.

ثانيا: رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبكاؤه في الصلاة، وفي مواطن كثيرة:

ثانياً: رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبُكاؤه في الصلاة، وفي مواطن كثيرة: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا، ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته، وشفقة عليها، وتارة من خشية الله تعالى، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ (¬1). ومن الحالات التي بكى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتي: 1 - بكاؤه من خشية الله في صلاة الليل، فقال بلال: يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} " (¬2) (¬3). 2 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من خشية الله تعالى، فعن عبد الله بن ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 183. حيث ذكر في ذلك روايات تدعم قوله، منها: البخاري، رقم، 1303، 1342، 4582، ومسلم، رقم 800، و2315، وأبو داود، رقم 1194، و3126، والنسائي، رقم 138. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 190. (¬3) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68: ((وهذا إسناد جيد)).

3 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماع القرآن

الشخِّير قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي ولصدره أَزِيزٌ كأزيز المِرجل من البكاءِ (¬1). 3 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماع القرآن، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك؛ وعليك أُنزل؟ فقال: "نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري" قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً} (¬2)، فإذا عيناه تذرفان (¬3). 4 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند فقد الأحبة، بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنه إبراهيم، فجعلت عيناه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله؟ فقال: "يا ابن عوف! إنها رحمة ... إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (¬4). 5 - بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاة إحدى بناته، قيل: هي أُمُّ كلثوم زوجة عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: شهدنا بنتاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أبو داود، برقم 904، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم 276. (¬2) سورة النساء، الآية: 41. (¬3) البخاري، كتاب التفسير، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ}، برقم 4582، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم 800. (¬4) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا بك لمحزونون، برقم 1303، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم 2315.

6 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنة له أيضا

قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: "هل فيكم أحد لم يُقارف (¬1) الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا، قال: "فانزل في قبرها" قال: فنزل في قبرها فقَبَرها (¬2). 6 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنة له أيضاً، فعن ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنة له تقضي (¬3) فاحتضنها فوضعها بين يديه فماتت وهي بين يديه، فصاحت أُمُّ أيمن، فقال: يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتبكين عند رسول الله؟ " فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: "إني لست أبكي إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كلِّ حال، إنَّ نفسه تُنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله - عز وجل - " (¬4). 7 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند وفاة أحد أحفاده، فعن أسامة بن زيد رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أرسلَتْ بنتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5): إنَّ ابني قد احتُضِرَ فاشْهَدنا، فأرسل يُقرِئُ السلام ويقول: "إنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب" فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال - رضي الله عنهم -، فرُفِعَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، قال: كأنها شَنّ، وفي رواية: (تقعقع (¬6) كأنها في ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير: ((قارف امرأته إذا جامعها)). انظر: النهاية في غريب الحديث، مادة (قرف). (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، برقم 1285، ورقم 1342. (¬3) تقضي: تشرف على الموت. (¬4) أحمد، 1/ 268، والترمذي في الشمائل، برقم 324، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 279. (¬5) قيل: إنها زينب رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) تقعقع: تضطرب وتتحرك.

8 - بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت عثمان بن مظعون

شنٍّ (¬1)، ففاضت عيناه) فقال سعد: يا رسولَ الله ما هذا؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وفي رواية: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب مَن شاء من عباده، إنما يرحم الله من عباده الرُّحماءُ" (¬2). 8 - بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موت عثمان بن مظعون، فعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ حتى رأيت الدموع تسيل. ولفظ الترمذي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبّل عثمانَ بن مظعون، وهو ميِّتٌ وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان)) (¬3). 9 - بكى - صلى الله عليه وسلم - على شهداء مؤتة، فعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيداً وجعفراً للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الرّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخَذَ جعفرٌ فأصيب، ثم أَخَذَ ابنُ رَواحةَ فأصيب، -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فُتِح عليهم" (¬4). 10 - بكى عند زيارة قبر أمه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أَزورَ قبرها فَأذِنَ لي، فزورُوا القبور فإنها ¬

_ (¬1) الشن: القربة البالية. (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، برقم 1284، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 923. (¬3) أبو داود، كتاب الجنائز، باب تقبيل الميت، برقم 3163، والترمذي، كتاب الجنائز، باب حدثنا زياد بن أيوب، برقم 989، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تقبيل الميت، برقم 1456، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 289. (¬4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام، برقم 4262.

11 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن عبادة وهو مريض

تذكركم الموت" (¬1). 11 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن عبادة وهو مريض، فعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله (¬2)، فقال: "قد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذب بهذا" (¬3) - وأشار إلى لسانه - "أو يرحم ... " (¬4) الحديث (¬5). 12 - بكى - صلى الله عليه وسلم - عند القبر، فعن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: كُنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بَلَّ الثَّرى، ثم قال: "يا إخواني! لِمِثْلِ هذا فأعِدُّوا" (¬6). 13 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه ويدعوه حتى أصبح، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: ما كان فينا فارس يوم بدرٍ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة قبر أمه، برقم 108 - (976). (¬2) غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها [فتح الباري لابن حجر، 3/ 175]. (¬3) ولكن يعذب بهذا: أي إن قال: سوءاً. [فتح الباري 3/ 175]. (¬4) أو يرحم: أي إن قال خيراً. [فتح الباري 3/ 175]. (¬5) البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، برقم 1304، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم 924. (¬6) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4195، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1751. وكذلك أخرجه أحمد، 4/ 294.

14 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف

غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرةٍ يُصلّي ويبكي حتى أصبح (¬1). 14 - بكى - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، فعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: انكسفتِ الشمس يوماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلّي، ثم سجد، فلم يكد يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، وذكر الحديث، وقال: فقام فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "عُرِضَتْ عليَّ النار فجعلت أنفخها، فخفت أن تغشاكم" وفيه: "ربِّ ألم تعدني ألا تُعذّبهم" (¬2). 15 - بكى - صلى الله عليه وسلم - لقبوله الفداء في أسرى معركة بدر، ففي حديث عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -: (( ... فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى الله أن يديهم للإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتُمكِّن علياً من عقيلٍ فيضربُ عُنقه، وتُمكِّنِّي من فلانٍ - نسيباً لعمر - فأضربَ عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها، فَهَوِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قُلْتُ، ولَمّا كان مِنَ الغَدِ جئتُ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا ¬

_ (¬1) ابن خزيمة، برقم 899، 2/ 53، وأحمد 1/ 125، 2/ 222، وصحح إسناده الألباني والأعظمي في صحيح ابن خزيمة، 2/ 52. (¬2) ابن خزيمة في صحيحه، برقم 901، وقال الألباني والأعظمي: إسناده صحيح، انظر: صحيح ابن خزيمة، 2/ 53، وصححه الألباني في مختصر شمائل الترمذي، برقم 278.

16 - بكى النبي - صلى الله عليه وسلم - شفقة على أمته

رسول الله! أخبرني من أيّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبُك؟ فإن وجدتُ بُكاءً بكيت، وإن لم أجد بُكاءً تباكيتُ لبكائكما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" شجرةٍ قريبةٍ من نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله - عز وجل -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ (¬1) فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً} (¬2)، فأحلّ الله الغنيمة لهم)) (¬3). 16 - بكى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شفقة على أمته، فعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله - عز وجل - في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬4) الآية، وقال عيسى - عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5) الآية، فرفع يديه وقال: "اللهم أُمّتي أُمّتي" وبكى، فقال الله - عز وجل -: "يا جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل - عليه السلام - فسأله، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنَّا سَنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوؤك" (¬6). ¬

_ (¬1) يثخن في الأرض: يُكثر القتل والقهر في العدوِّ. شرح النووي 12/ 87. (¬2) سورة الأنفال، الآيات: 67 - 69. (¬3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، برقم 1763. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 36. (¬5) سورة المائدة، الآية: 118. (¬6) مسلم، كتاب الإيمان، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وبكائه شفقة عليهم، برقم 202.

المبحث الخامس عشر: خشوع الصحابة - رضي الله عنهم - في صلاتهم

المبحث الخامس عشر: خشوع الصحابة - رضي الله عنهم - في صلاتهم الصحابة - رضي الله عنهم - يقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في خشوعه في صلاته، ومن أمثلة ذلك الأمثلة والنماذج الآتية: 1 - خشوع أبي بكر - رضي الله عنه - في صلاته، فعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ بِلَالٌ يُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ (¬1)، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعُ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ؟ فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)) وفي رواية: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)) قالت عائشة: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إذَا قَامَ مَقَامَكَ لم يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاء، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)) (¬2). وهذا فيه من الفوائد: خشوع أبي بكر في صلاته، وقراءته، وأن البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى لا حرج فيه، لكن لا يتكلَّف ذلك، ولا يطلبه، فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج (¬3). 2 - خشوع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في صلاته، كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلي بالناس صلاة الفجر، فطعنه أبو لؤلؤة المجوسي، فقال عمر حين رأى نزف الدماء: قولوا لعبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) أسيف: شديد الحزن، والمراد: أنه رقيق القلب، إذا قرأ غلبه البكاء، فلا يقدر على القراءة [فتح الباري، 2/ 152، 165، 203]. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، برقم 713، ورقم 679، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم 418. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 379 - 386، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 151، 164، 166، 173، 203، و 206.

3 - خشوع سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في صلاته

عوف فليصلِّ بالناس، ثم غُشي على عمر - رضي الله عنه -، فحُمل فأدخلوه بيته، ثم صلَّى بالناس عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، فأنكر الناس صوت عبد الرحمن، ولم يزل عمر - رضي الله عنه - في غشية واحدة، حتى أسفر، فلمَّا أسفر أفاق، فنظر في وجوه مَنْ حوله فقال: ((أصلَّى الناس؟)) قالوا: نعم، فقال: ((لا إسلام لمن ترك الصلاة))، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم صلَّى، وجرحه ينزف دماً، ثم أمر بعد صلاته من يسأل عن من قتله؟ فأخبروه أنه طعنه أبو لؤلؤة، فقال عمر - رضي الله عنه -: ((الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجّني عند الله بسجدة سجدها له قط)) (¬1). فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حريصاً على صلاة المسلمين، وكان ذلك أعظم عنده من نفسه، فسأل بقول: ((أصلى الناس؟))، ثم أقبل على صلاته، ثم بعد أن صلَّى سأل عن من قتله - رضي الله عنه -؟. وكان عمر - رضي الله عنه - قد رأى رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: ((يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرِّقاب، إنّما الخشوع في القلوب)) (¬2). 3 - خشوع سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في صلاته، فقد ذُكِرَ أنه قال: ((فيَّ ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن كنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أُحَدِّثُ نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من ¬

_ (¬1) ذكره ابن القيم رحمه الله عن ابن زنجويه بسنده إلى عمر - رضي الله عنه -، في كتاب الصلاة وحكم تاركها، ص 26. وانظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، ص 215 - 216. (¬2) ذكره الإمام الذهبي في كتاب الكبائر دون عزو لكتاب، ص 143، وانظر مدارج السالكين لابن القيم، 1/ 521 - 252.

4 - خشوع عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - في صلاته

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أُحدِّث نفسي بغير ما تقول ويُقال لها)) (¬1). 4 - خشوع عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - في صلاته، قد ذُكِرَ أنه ((كان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه)) (¬2). وغيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولكن هذه من باب الأمثلة والله المستعان. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، في مجموع الفتاوى، 22/ 605. وقد أورده ابن عبد البر بإسناده من طريق الزهري عن ابن المسيب في الاستيعاب، 1/ 182، والمزي في تهذيب الكمال بالإسناد نفسه، 3/ 418. (¬2) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، 22/ 605. وقد أورده أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان، ص 29.

المبحث السادس عشر: خشوع التابعين ومن بعدهم

المبحث السادس عشر: خشوع التابعين ومن بعدهم التابعون من القرون المُفضَّلة، وكذلك أتباعهم - رضي الله عنهم -، لهم مواقف في خشوعهم في صلاتهم، تدل على رغبتهم فيما عند الله تعالى، ومنها الأمثلة الآتية: 1 - خشوع عروة بن الزبير في صلاته رحمه الله تعالى (¬1)، كان عروة يخشع في صلاته خشوعاً عظيماً، فقد ذُكِرَ عنه أنه خرج من المدينة مُتوجِّهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وعندما كان في وادٍ قرب المدينة أصابه أكلة في رجله، ولم يصل إلى دمشق إلا وقد وصلت الأكلة إلى نصف ساقه، ودخل على الوليد، فجمع له الأطباء، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها وإلا أكلت رجله كلَّها إلى وركه، وربما ترقَّت إلى الجسد، فطابت نفسه بقطعها، وقالوا له: ألا نسقيك مُرَقِّداً؟ فقال: ما ظننت أن أحداً يشرب شراباً، أو يأكل شيئاً يُذْهِبُ عقله حتى لا يعرف ربه، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحسُّ بذلك، ولا أشعر به، فنشروا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي احتياطاً حتى لا يبقى منها شيء وهو قائم يصلي، فما تألَّم ولا اضطرب، فلمَّا انصرف من الصلاة ¬

_ (¬1) عروة بن الزبير بن العوام، التابعي الجليل أحد الفقهاء السبعة، وكان من جملة الفقهاء العشرة الذين يرجع إليهم عمر بن عبد العزيز في زمن ولايته، أمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة، وكان رحمه الله يقرأ كل يوم ربع القرآن، ويقوم به في الليل، وكان أيام الرطب يثلم حائطه للناس، فيدخلون ويأكلون، فإذا ذهب الرطب أعاد الحائط، ولد في سنة ثلاث وعشرين بعد عمر - رضي الله عنه -، وتوفي 93هـ على المشهور، والله أعلم. [البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 102 - 103، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 421 - 438].

2 - خشوع عامر بن عبد الله بن قيس

عزّاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة، فأخذت واحداً، وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذتَ فقد أبقيت، وإن كنت قد ابتليت فَلَطَالَمَا عافيت، فلك الحمد على ما أخذت، وعلى ما عافيت، وكان قد صحبه بعض أولاده ... فمات أحبهم إليه فَعَزَّوْهُ فيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعة، فأخذتَ منهم واحداً وأبقيتَ ستة، فلئن كنتَ قد ابتليتَ، فلطالما عافيتَ، ولئن كنتَ قد أخذتَ، فلطالما أعطيتَ، ثم رجع إلى المدينة، وما شكا ذلك إلى أحد، فلمّا دخل المدينة أتاه الناس يسلّمون عليه ويُعزُّونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه، فأنشد عروة في ذلك، والأبيات لمعن بن أوس: لعمركَ ما أهويتُ كفِّي لريبةٍ ... ولا حَمَلَتني نحوَ فاحشةٍ رجلي ولاقادني سمعي ولابصري لها ... ولا دلَّني رأيي عليها ولا عقلي (¬1) 2 - خشوع عامر بن عبد الله بن قيس (¬2) في صلاته رحمه الله تعالى كان لهذا الرجل من الأخبار في الخشوع في صلاته الأخبار الكثيرة، ومنها: * قيل له: أتحدِّث نفسك في الصلاة؟ قال: أحدِّثها بالوقوف بين ¬

_ (¬1) البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 102 - 103. (¬2) قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، 4/ 15: ((عامر بن قيس، القدوة، الولي، الزاهد)) كان ثقة من عبّاد التابعين، قال فيه كعب الأحبار: هذا راهب هذه الأمة، قال أبو عبيد: كان عامر بن عبد الله الذي يعرف بابن عبد قيس يقرئ الناس، قيل: توفي في زمن معاوية - رضي الله عنه -، [انظر: سير أعلام النبلاء/ 4/ 19].

3 - خشوع علي بن الحسين

يدي الله، ومنصرفي (¬1) أيِّ إلى أي الدارين. * وذكروا له بعض ما يجدونه في الصلاة من أمر الضيعة، فقال: أتجدونه؟ قالوا: نعم، قال: والله لأن تختلف الأسنّة في جوفي أحبُّ إليَّ من أن يكون هذا منِّي في صلاتي (¬2). * وعندما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام الليل (¬3). * وكان يُقرئ القرآن لمن يتعلَّم عنده، ثم يقوم فيصلِّي إلى الظهر، ثم يصلِّي إلى العصر، ثم يُقرئ الناس إلى المغرب، ثم يُصلّي ما بين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله فيأكل رغيفاً، وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحَّر رغيفاً ويخرج (¬4). 3 - خشوع علي بن الحسين في صلاته رحمه الله (¬5)، كان إذا فرغ من وضوئه للصلاة، وصار بين وضوئه وصلاته، أخذته رِعدةٌ ونفضة، فقيل له في ذلك؟ فقال: ((ويحكم أتدرون إلى من أقوم، ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/ 17. (¬2) حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/ 92. (¬3) سير أعلام النبلاء، 4/ 19، وحلية الأولياء، 2/ 88. (¬4) سير أعلام النبلاء، 4/ 15 - 16. (¬5) علي بن الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، زين العابدين، كان عابداً، وفيّاً وجواداً، وُلد في سنة 38هـ، وقيل: مات سنة 94هـ[سير أعلام النبلاء، 4/ 386 - 400، وحلية الأولياء، 3/ 133].

4 - خشوع مسلم بن يسار

ومن أريد أن أناجي؟)) (¬1)، وفي لفظ: ((تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي؟)) (¬2). 4 - خشوع مسلم بن يسار في صلاته رحمه الله (¬3): * قال عنه ابنه عبد الله بن مسلم: ((كان إذا صلَّى كأنه ودٌّ [أي وتد] لا يميل لا هكذا، ولا هكذا (¬4). * وقيل عنه: كان مسلم بن يسار إذا صلَّى كأنه ثوب مُلقى، وكان يقول لأهله إذا دخل في الصلاة: تحدَّثوا فلست أسمع حديثكم، وذُكر أنه وقع حريق في داره وهو يصلِّي، فلما ذُكِرَ له قال: ما شعرت (¬5). 5 - خشوع حاتم الأصم رحمه الله في صلاته (¬6)، كان حاتم ينطق بالحكمة، ويخشع لله تعالى في صلاته، فقد مرَّ عصام بن يوسف ¬

_ (¬1) حلية الأولياء، 3/ 133. (¬2) سير أعلام النبلاء، 4/ 392. (¬3) مسلم بن يسار، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء، 4/ 510: ((القدوة الفقيه، الزاهد، أبو عبد الله البصري، كان ثقة، فاضلاً، عابداً ورعاً، توفي 100هـ، وقيل: 101 [انظر: سير أعلام النبلاء، 4/ 510 - 514]. (¬4) سير أعلام النبلاء، 4/ 511. (¬5) المرجع السابق، 4/ 512. (¬6) حاتم الأصم، قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء، 11/ 484: ((الزاهد القدوة، الرّبَّاني، أبو عبد الرحمن، حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي، الناطق بالحكمة الأصم، له كلام جليل في الزهد، والوعظ، والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة ... توفي حاتم الأصم رحمه الله 237هـ)).

6 - قال الحسن رحمه الله تعالى

رحمه الله بحاتم الأصمّ وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تُحْسِنْ تُصَلِّي؟ قال: نعم، قال: كيف تصلّي؟ قال حاتم: ((أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهّد بالتمام، وأسلِّم بالسبل (¬1) والسنة [وفي لفظ: وأسلم بالنية] وأسلمها بالإخلاص لله - عز وجل -، وأرجع على نفسي بالخوف أخاف أن لا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إلى الموت)). قال: تكلَّم فأنت تُحْسِنُ تصلِّي (¬2). 6 - قال الحسن رحمه الله تعالى: ((إذا قمت إلى الصلاة قانتاً، فقم كما أمرك الله، وإيَّاك والسَّهْو، والالتفات، إيَّاك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره، وتسأل الله الجنة، وتعوّذ به من النار وقلبك ساهٍ لا تدري ما تقول بلسانك)) (¬3). 7 - قال الفضيل بن عياض: ((كان يُكره أن يُرِيَ الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه)) (¬4). ¬

_ (¬1) في صفة الصفوة، 4/ 161جاءت الرواية:: ((وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع، وأسلم بالسنة، وأسلمها بالإخلاص))، وفي شذرات الذهب لابن العماد، 2/ 87: ((وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع وأجلس للتشهد بالتمام وأسلم السبل والسنة وأسلمها بالإخلاص)). (¬2) حلية الأولياء لأبي نعيم، 8/ 74، وانظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص 37. (¬3) الخشوع في الصلاة، ابن رجب، ص 27، (¬4) مدارج السالكين لابن القيم، 1/ 521.

8 - خشوع الإمام البخاري

8 - خشوع الإمام البخاري رحمه الله (¬1) في صلاته: قال مسبح بن سعيد: ((كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليالٍ بختمة (¬2)، وكان رحمه الله يُصلِّي ذات يوم أو ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورّمه في سبعة عشر موضعاً، ولم يقطع صلاته (¬3). وقد قيل: إن هذه الصلاة كانت التطوع بعد صلاة الظهر، وقيل له بعد أن فرغ من صلاته: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك؟ قال: ((كنت في سورةٍ فأحببت أن أتمَّها)) (¬4). وقال مقسم بن سعد: ((كان محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه، فيصلي بهم، ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليالٍ، وكان يختم في النهار في كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإِفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة)) (¬5). ¬

_ (¬1) ولد الإمام البخاري رحمه الله في 13 شوال سنة 194 هـ، وتوفي رحمه الله سنة 256هـ. [انظر: سير أعلام النبلاء، 12/ 391، 468]. (¬2) سير أعلام النبلاء، 12/ 439. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 442، وهدي الساري لابن حجر، ص 480. (¬4) سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 442. (¬5) هدي الساري لابن حجر، ص 481.

وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: (( ... كان أبو عبد الله يُصلِّي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة)) (¬1). ومن شعره رحمه الله تعالى: اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (¬2) وقد قيل: إنه لما ألَّف الصحيح كان يُصلِّي ركعتين عند كل ترجمة (¬3)، يعني يستخير الله في وضعها وعدمه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 481، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، 1/ 75، وسير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 441. (¬2) ذكره ابن حجر في هدي الساري، ص 481، وعزاه إلى الحاكم في تاريخه. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 443، وهدي الساري لابن حجر، ص 489.

المبحث السابع عشر: الخشوع في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها

المبحث السابع عشر: الخشوع في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها الخشوع في تلاوة القرآن يكون في الصلاة وخارج الصلاة، والخشوع في قراءته في الصلاة أعظم وآكد، وأهل الإيمان يتأثرون بقراءة القرآن فيخشعون لله، داخل الصلاة وخارجها، وهذا التأثير يكون على النفوس والقلوب والأرواح، وهذا التأثير جاء على أنواع على النحو الآتي: النوع الأول: تأثير القرآن في القلوب والنفوس كما جاء في القرآن الكريم القرآن العظيم مُؤثِّر في القلوب والنفوس والأرواح؛ لأنه كلام العليم الخبير بما يصلح هذه القلوب والنفوس في الدنيا والآخرة، ومن هذا التأثير ما يأتي: 1 - تأثيره على علماء أهل الكتاب وغيرهم من أهل العقول، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} (¬1). 2 - الذين أوتوا العلم من قبله يتأثَّرون به، قال الله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (¬2). 3 - الذين أنعم الله عليهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرُّوا سُجَّداً وبُكِيّاُ: ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 83. (¬2) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109.

4 - من علامات الإيمان التأثر بالقرآن وزيادة الإيمان

قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (¬1). 4 - من علامات الإيمان التأثر بالقرآن وزيادة الإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} (¬2). 5 - المُؤمنون الصادقون في إيمانهم، الخائفون من ربهم تقشَعِرُّ جلودهم عند قراءة القرآن، قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادِ} (¬3). 6 - الصادقون مع الله تخشع قلوبهم لذكر الله، قال - عز وجل -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون} (¬4). عن عامر بن عبد الله بن الزبير أن أباه أخبره أنه لم يكن بين ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 58. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 2. (¬3) سورة الزمر، الآية: 23. (¬4) سورة الحديد، الآية: 16.

النوع الثاني: تأثير القرآن في القلوب والنفوس كما جاء ذلك في سنة النبي

إسلامهم وبين أن أنزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين)) (¬2). النوع الثاني: تأثير القرآن في القلوب والنفوس كما جاء ذلك في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -: وجاءت الأحاديث تدل على خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأثُّره بقراءة القرآن الكريم ومن ذلك ما يأتي: 1 - أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُقرأ عليه القرآن فبكى، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأ عليَّ القرآن))،قال: فقلت: يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أُنزِلَ؟ فقال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري))، وفي لفظ للبخاري: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} (¬3)، وفي لفظ للبخاري: ((فقال حسبك الآن))، فرفعت رأسي، أو غمزني رجلٌ فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل))، وفي لفظ للبخاري: ((فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)) (¬4). ¬

_ (¬1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4192، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 3/ 369. (¬2) مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... }، برقم 3027. والآية رقم 16 من سورة الحديد (¬3) سورة النساء الآية: 41. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً}، برقم 4582، وكتاب فضائل القرآن، باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره، برقم 5049، وباب قول المقرئ للقارئ: حسبك، برقم 5050، وباب البكاء عند قراءة القرآن، برقم 5055، ورقم 5056، مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع، والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم 800.

2 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبيّ بن كعب: ((إن الله - عز وجل - أمرني أن أقرأ عليك))، قال: آلله سمَّاني لك؟ قال: ((الله سمَّاك لي))، قال فجعل أُبيّ يبكي))، وفي رواية: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1) قال: وسمَّاني لك؟ قال: ((نعم)) قال: فبكى (¬2). 3 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في حديث طويل ذكرت فيه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، وأنه بكى مرات، قالت: ((فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؛ لقد نزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ... } (¬3) الآية كلها (¬4). 4 - وعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله - عز وجل - في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ ¬

_ (¬1) سورة البينة، الآية: 1. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحُذَّاق فيه وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه، برقم 245 - (799) و246 - (799). (¬3) سورة آل عمران، الآية 190. (¬4) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 86: ((وهذا إ سناد جيد)).

مِنِّي} (¬1) الآية، وقال عيسى - عليه السلام -: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬2) الآية. فرفع يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي))، وبكى فقال الله - عز وجل -: ((يا جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل - عليه السلام - فسأله، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)) (¬3). 5 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية حتى أصبح يردِّدها، والآية: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬4) (¬5)، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهةً، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملان، ويُسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه: تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمَّتِهِ وشفقة عليها، وتارة خشيةً لله تعالى، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاءُ اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 36. (¬2) سورة المائدة، الآية: 118. (¬3) مسلم، برقم 202، وتقدم تخريجه في خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) سورة المائدة، الآية: 118. (¬5) أخرجه: النسائي، كتاب الافتتاح، باب ترديد الآية، برقم 1010، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، برقم 1350، وأحمد، 1/ 241، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة، 1/ 242، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 401. (¬6) زاد المعاد لابن القيم، 1/ 183. (¬7) وانظر المواضع التي بكى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب رحمة للعالمين للمؤلف، ص82 - 93، فقد جمعت مما صح من بكائه - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر موضعاً وغيرها كثير.

النوع الثالث: تأثير القرآن الكريم على القلوب والأرواح والنفوس

النوع الثالث: تأثير القرآن الكريم على القلوب والأرواح والنفوس كما جاء في الآثار عن السلف الصالح: 1 - ثبت عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -:أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطُّور، فلمَّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون* أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُون * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} (¬1) كاد قلبي أن يطير [وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي])) (¬2).وهذا من أعظم البراهين على تأثير القرآن في القلوب. 2 - ذُكِر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه صلَّى بالجماعة صلاة الصبح، فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته، وفي رواية: أنه كان في صلاة العشاء، فيدل على تكريره منه، وفي رواية أنه بكى حتى سُمِعَ بكاؤه من وراء الصفوف (¬3). 3 - وذُكِر أنه قدم أُناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: ((هكذا كنَّا، ثم قست القلوب)) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الطور، الآيات: 35 - 37. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، سورة الطور، بابٌ: حدثنا عبد الله بن يوسف، برقم 4854، وما بين المعقوفين من الطرف رقم 4023 من كتاب المغازي، وأخرجه مسلم، بنحوه، كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم 463. (¬3) ذكره النووي في التبيان في آداب حملة القرآن، ص69. (¬4) أبو نعيم في حلية الأولياء، 1/ 34، وذكره النووي في التبيان، ص69.

4 - وذُكِرَ عن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك (¬1) البالي من الدموع (¬2). والذي جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي من خشية الله تعالى، هو علمه بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وعظمته، وعلمه بما أخبر الله به من أمور الآخرة؛ ولهذا كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))،وفي لفظ: قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً)) (¬3). وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) (¬4). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - في حديث طويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفُرُشات، ولخرجتم إلى الصُّعُداتِ تجأرون إلى الله ... )) (¬5). ¬

_ (¬1) الشراك: هو السير الرقيق الذي يكون في النعل على ظهر القدم، [التبيان للنووي، ص168]. (¬2) ذكره الإمام النووي التبيان في آداب حملة القرآن، ص69. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))، برقم 6485. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))، برقم 6486، وأطرافه في البخاري، 93 ذكرت هناك، ومسلم كتاب الفضائل، باب توقيره، - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، برقم 1337. (¬5) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، برقم 4190، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 368، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1722.

وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم - وأتباعهم بإحسان: علمهم بالله تعالى وبما أخبر به عن الدار الآخرة جعلهم يخشون الله تعالى، ويخشعون في قراءتهم لكتابه، وفي صلاتهم، ويتأثرون بكلامه - عز وجل -.

المبحث الثامن عشر: درجات الخشوع في الصلاة

المبحث الثامن عشر: درجات الخشوع في الصلاة الخشوع الكامل في الصلاة: في القراءة فيها، والأدعية، والأذكار يكون على ثلاث درجات على النحو الآتي: الدرجة الأولى: قراءتها والتلفظ بها مع استحضار معانيها، وهذه الدرجة أدنى ما يُجزِئ من الخشوع الكامل، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى وهو يصلِّي صلاة الليل، فقال بلال - رضي الله عنه -: يا رسول الله لِمَ تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬1)) (¬2). قال عبد الرحمن بن سليمان: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلّق المتعلّق وينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هُنية، ثم قال: ((يقرؤهنّ وهو يعقلهنّ)) (¬3). وذلك أن من لم يعقل ما يقول، وسها بتفكيره عن معنى ما يقوله، فقد خرج من الخشوع إلى الغفلة، ومما يدلّ على ذلك ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآية، 190. (¬2) ابن حبان في صحيحه، برقم 620، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 68: ((وهذا إسناد جيد))، وتقدم تخريجه في خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكائه في صلاة الليل. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في التفكر كما ذكر السيوطي في الدر المنثور، 2/ 409، والمناوي في الفتح السماي، 1/ 205 دون إشارة إلى كتاب ابن أبي الدنيا، وعزاها الكتاني إلى ابن أبي الدنيا في التفكر، نظم المتناثر، ص 244، وانظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش، ص 19.

حديث عثمان - رضي الله عنه -: أنه توضأ وضوءاً كاملاً ثم قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، وقال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬1). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلِّي ركعتين مقبلٌ عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)) (¬2). ويُؤكِّد ذلك قول ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)) (¬3). ومما يدل على حضور القلب مع القول قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) (¬4)، وفيه حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في فضل إجابة المؤذن، وفيه: (( ... إذا قال المؤذن: الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر، الله أكبر ... )) إلى قوله: ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 136، ومسلم، برقم 246، وتقدم تخريجه في فضائل الخشوع في الصلاة. (¬2) مسلم، برقم 234، وتقدم تخريجه في فضائل الخشوع في الصلاة. (¬3) ذكر المناوي في التيسير شرح الجامع الصغير، 1/ 793، أن حديث: ((ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل)) أن الحكيم الترمذي أخرجه في نوادر الأصول، وإسناده ضعيف، وقال العراقي في تخريج إحياء علوم الدين، 1/ 309 أنه لم يجده مرفوعاً، وذكر الألباني في السلسلة الضعيفة، 14/ 1206، برقم 6941 أن الحديث لا أصل له مرفوعاً، وأنه صح موقوفاً عن بعض السلف، وأن هذا الصحيح الموقوف أخرجه أبو نعيم في الحلية، 7/ 61 من كلام سفيان الثوري. وأما أثر ابن عباس فهو في مدارج السالكين، 1/ 525، وعدة من كتب الإمامين ابن القيم، وابن تيمية رحمهما الله. (¬4) البخاري، كتاب العلم باب، الحرص على الحديث، برقم 99.

(( ... ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة)) (¬1)، فهذا والله تعالى أعلم: أدنى الخشوع الكامل: أن يقرأ الآيات والأذكار متفَهِّماً لمعانيها، وكذلك أذكار الصلاة: كأذكار الركوع، والرفع منه، وأذكار السجود، والجلسة بين السجدتين، وغير ذلك من أذكار الصلاة، وأدنى الخشوع في ذلك أن لا يقولها غافلاً عن معناها (¬2). الدرجة الثانية: أن يقرأها وهو يعقلها، ومتأثراً بمعانيها حال قراءتها، وهذه الدرجة تزيد عمّا قبلها بوجود التأثّر من تلك المعاني، حتى يُعرف خشوعه من صوته، ويتأثَّر به من سَمِعَه، ويحسب أنه يخشى الله فيها، فيرغب في آيات الوعد، ويرهب من آيات الوعيد. الدرجة الثالثة: أن يقرأها مُتأثِّراً غاية التأثر بحقائقها تلك، وهذه الدرجة تزيد عمّا قبلها ببلوغ التأثُّر غايته، وشهود حقائق المعاني بالقلب، حتى كأنَّها رأي عين؛ وفي حديث حنظلة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟)) قال: قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكّرنا بالجنة والنار حتى كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج، والأولاد، والضّيعات - نسينا كثيراً- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي ¬

_ (¬1) مسلم كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ... ، برقم 385. (¬2) انظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش، ص 21.

طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) ثلاث مرار، وفي لفظ: ((يا حنظلة ساعة وساعة، لو كانت تكونُ قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلّم عليكم في الطرق)) (¬1). ويشعر صاحب هذه الدرجة من الخشوع بتقصير، وتفريط، فيسأل الله تعالى من فضله راغباً، ويستعيذ من عذابه راهباً، يدفعه إلى ذلك تأثّره؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل: ((إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ ... )) (¬2). ومن أصحاب هذه الدرجة من قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬3)، قالت عائشة: يا رسول، أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا ابنة أبي بكر))، أو ((يا بنت الصديق)) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويُصلّي، وهو يخاف أن لا يُتقبَّل منه)) (¬4). وهذه الدرجات الثلاث لعلّ ابن القيم يعنيها في الأقسام الثلاثة الأخيرة من مراتب الناس الخمسة في الصلاة، فقد ذكر أن القسم الثالث من حافظ على حدود الصلاة وأركانها، وجاهد نفسه في دفع ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، برقم 2750. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 773، من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬4) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوقي في العمل، برقم 4198، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، بابٌ ومن سورة المؤمنون، برقم 3175، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 409، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 162.

الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوّه؛ لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاة وجهاد، ثم بيّن رحمه الله أن هذا مكفّر عنه. وقال في القسم الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها، وأركانها، وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها، وحقوقها؛ لئلا يضيع شيئاً منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها، وإتمامها، قد استغرق قلبه شأن الصلاة، وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها، ثم بيّن رحمه الله: أن هذا القسم: مثاب. وقال في القسم الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك: [أي كما في القسم الرابع]، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه - عز وجل - ناظراً بقلبه إليه، مراقباً له، ممتلئاً من محبته وعظمته كأنه يراه ويشاهده، ... فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربّه - عز وجل - قرير العين، ثم بيَّن رحمه الله: أن هذا القسم الخامس مقرّب من ربّه؛ لأن له نصيباً ممن جعلت قرّة عينه في الصلاة ... (¬1) فالقسم الثالث عند ابن القيم هو الدرجة الأولى من درجات الخشوع في الصلاة، وهي أدنى درجات الكمال في الخشوع. والقسم الرابع عند ابن القيم هو الدرجة الثانية من درجات الخشوع في الصلاة. والقسم الخامس عند ابن القيم هو الدرجة الثالثة من درجات الخشوع في الصلاة. والعلم عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر: الوابل الصيّب، ص40 - 41.

وهذه الدرجات الثلاث إنما هي في الخشوع الكامل الذي يجزئ، أما أحوال الناس في صلاتهم فتتفاوت أشدّ التفاوت، والله المستعان (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش، ص 22.

المبحث التاسع عشر: فوائد الخشوع في الصلاة

المبحث التاسع عشر: فوائد الخشوع في الصلاة الخشوع في الصلاة له فوائد كثيرة منها الفوائد الآتية: أولاً: الخشوع يجعل الصلاة محبوبة يسيرة على المصلي، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} (¬1). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وإنها)) أي الصلاة ((لكبيرة)) أي شاقة ((إلا على الخاشعين)) فإنها سهلة عليهم، خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله، ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحاً صدره؛ لترقُّبه للثواب، وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك؛ فإنه لا داعي له يدعوه إليها، وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه ... ؛ ولهذا قال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ)) أي يستيقنون ((أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ)) فيجازيهم بأعمالهم ((وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون)) فهذا الذي خفف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلِّي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه)) (¬2). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلَّى، فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلَّى)) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 45 - 46. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 51 - 52. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، برقم 1319، وأحمد في المسند، 38/ 330، برقم 23299، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 316.

ثانيا: الخشوع في الصلاة يجعلها تنهى عن الفحشاء والمنكر:

وعن صهيب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما حكاه عن نبي من الأنبياء السابقين، وفيه: أن هذا النبي استشار قومه، فقالوا: أنت نبي الله نَكِلُ ذلك إليك، فَخِرْ لنا، قال ((فقام إلى صلاته)) قال: ((وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة)) (¬1)، وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر [أي نزل به أمر شديد] فزع إلى الصلاة، وكان الأنبياء قبله عادتهم الاشتغال بالصلاة في الشدائد)) (¬2) (¬3). ثانياً: الخشوع في الصلاة يجعلها تنهى عن الفحشاء والمنكر: قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (¬4). فالله تعالى أمر بتلاوة كتابه، ومن تلاوته: اتباع ما يأمر به، والابتعاد عما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبُّر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، عُلِمَ أن ¬

_ (¬1) أحمد، 31/ 268، برقم: 18937، وصحح إسناده محققو المسند، 31/ 268. (¬2) انظر: حاشية محققي مسند الإمام أحمد، 31/ 268، و38/ 331. (¬3) وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السموات وربُّ الأرض، وربُّ العرش الكريم)) [البخاري، برقم 6346، ومسلم، برقم 2730، وعند الإمام أحمد بنحوه، 4/ 234، برقم 2411، وفي أوله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر قال: ((لا إله إلا الله ... )) الحديث، وفي آخره: (( ... ثم يدعو))، وهذا يدل على أنه يقول هذا الذكر، ثم يدعو بعده. وصحح إسناده محققو المسند، 4/ 234. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 45.

إقامة الدين كلّه داخلة في تلاوة كتاب الله، فيكون قوله تعالى: {وأقم الصلاة} من باب عطف الخاص على العام لفضل الصلاة، وشرفها، وآثارها الجميلة، وهي ((إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))، ووجه ذلك أن العبد المقيم لها، المتمّم لأركانها، وشروطها، وخشوعها يستنير قلبه، ويتطهَّر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتعدم رغبته في الشرّ، فبالضرورة مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها، وثمراتها (¬1). فالخشوع في الصلاة من الواجبات التي تجب لها، فحينئذٍ تنهى عن الفحشاء والمنكر: إذا قام بها العبد كاملة بما يجب لها. والله تعالى أعلم. وقد ثبت أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن فلاناً يصلِّي الليل كلَّه، فإذا أصبح سرق، فقال: ((سينهاه ما تقول))، أو قال: ((ستمنعه صلاته)) (¬2). فإذا صلَّى العبد المسلم الصلاة على الوجه الأكمل: بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، والتدبّر في قراءتها منعته من ¬

_ (¬1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 632. (¬2) أحمد في المسند، 15/ 483، برقم، 9778، والبزار (كشف الأستار)، 1/ 317، وشعب الإيمان للبيهقي، 4/ 545، قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، 1/ 16: ((رواه أحمد، والبزار، والطحاوي في مشكل الآثار، 2/ 430، والبغوي في حديث علي بن الجعد، 9/ 97/ 1، وأبو بكر الكلاباذي في مفتاح معاني الآثار، 31/ 1/ 69، بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ثالثا: الخشوع الكامل يجلب البكاء من خشية الله تعالى:

الفحشاء والمنكر (¬1). ثالثاً: الخشوع الكامل يجلب البكاء من خشية الله تعالى: لا شك أن الخشوع الكامل في الصلاة يجلب البكاء من خشية الله تعالى، وإذا حصل هذا العمل الصالح كان من أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيةِ الله حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ)) (¬2). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ)) (¬3). وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ¬

_ (¬1) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ص 16. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل البكاء من خشية الله، برقم 2311، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 528. (¬3) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط، برقم 1669، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 242. (¬4) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحراسة في سبيل الله، برقم 1639، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 127، وفي مشكاة المصابيح، 2/ 1125.

رابعا: الخشوع في الصلاة يعطي الصلاة معناها الحقيقي

ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهِ: إِمَامٌ عاَدِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في ِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلُمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يِمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) (¬1). والمشروع في البكاء أن يكون الباعث عليه: التفكُّر في الذنب، أو عدد الذنوب، أو التفكُّر في تقصيره، أو خوف عذاب الله تعالى، أو الخوف من أن لا يقبل عمله؛ لفقد شرطٍ من شروط صحته، أو خوف الموت قبل الاستعداد، أو توقير الله وتعظيمه، أو خوف الفتن، أو خوف عدم الثبات على الدين، أو التذلّل لله في الدعاء، أو الطَّمع في رضوان الله والجنّة، أو الشوق إلى لقاء الله تعالى، وأعظم البكاء من خشية الله في الخلوات. رابعاً: الخشوع في الصلاة يعطي الصلاة معناها الحقيقي، وهو التوجه والحضور بالقلب، والجسد بين يدي الله تعالى، والتقرُّب له بذلك. خامساً: الخشوع في الصلاة يهوِّن الوقوف على العبد يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، برقم 1423، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، برقم 1031.

سادسا: الخشوع في الصلاة يقرب العبد من الله

الموقف، ولم يوفِّه حقَّه شُدِّد عليه ذلك الموقف، قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} (¬1) (¬2). سادساً: الخشوع في الصلاة يقرِّب العبد من الله، ويستفيد منه اللذة في مناجاة الله؛ لأن اللذة تابعة للمحبَّة تقوى بقوَّتها، وتضعف بضعفها، فكلما كانت الرغبة في المحبوب والشوق إليه أقوى كانت الّلذَّة بالوصول إليه أتمّ (¬3). سابعاً: الخشوع الكامل يزداد به الإيمان، ويليِّن القلب، ويورث الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ويبعث في القلب محبة الخير، والرغبة فيه، وكراهية الشرِّ والنفور منه، وبهذا تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر. ثامناً: الخشوع في الصلاة يزيل الهمَّ عن القلب، ويشرح الصدر. تاسعاً: الخشوع في الصلاة يزيد المسلم حُبَّاً في الصلاة حتى تكون أحبَّ شيء إلى النفس فتصبح قُرَّة العين، وراحة النفس، كما تقدم في الأدلة. عاشراً: الخشوع يفتح للعبد أبواب الفقه، والاستفادة من كلام الله تعالى، قال الله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، الآيتان: 26 - 27. (¬2) الفوائد لابن القيم، ص 435. (¬3) انظر: المرجع السابق، ص 134.

الحادي عشر: الخشوع يفتح أبواب الدعاء للعبد، فيدعو الله ويتضرع إليه

فُرْقَاناً} (¬1). الحادي عشر: الخشوع يفتح أبواب الدعاء للعبد، فيدعو الله ويتضرَّع إليه، وكلما ازداد الخشوع كان ذلك أبلغ (¬2). الثاني عشر: الخشوع في الصلاة يجعلها شفاءً من عامة الأوجاع قبل استحكامها، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬3). وَقَالَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ إِنّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} (¬4). وَقَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَى} (¬5). وَفِي السّنَنِ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصّلَاةِ)) (¬6). وَقَدْ ذَكَرَ الإِمامُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عُمُومَ ((الِاسْتِشْفَاءِ بِالصّلَاةِ مِنْ عَامّةِ الْأَوْجَاعِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِهَا)) (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬2) انظر: كيف تخشع في الصلاة، لمجدي أبو عريش ص 56 - 68. (¬3) سورة البقرة، الآية: 45. (¬4) سورة البقرة، الآية: 153. (¬5) سورة طه، الآية: 132. (¬6) أبو داود، برقم 1319، وأحمد، برقم 23299، وحسّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 316، وتقدم تخريجه. (¬7) زاد المعاد، 4/ 231 - 232، وانظر: زاد المعاد، 4/ 180 وما بعدها.

وَالصّلَاةُ مُجْلِبَةٌ لِلرّزْقِ، حَافِظَةٌ لِلصّحّةِ، دَافِعَةٌ لِلْأَذَى، مُطْرِدَةٌ لِلْأَدْوَاءِ، مُقَوّيَةٌ لِلْقَلْبِ، مُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ، مُفْرِحَةٌ لِلنّفْسِ، مُذْهِبَةٌ لِلْكَسَلِ، مُنَشّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ، مُمِدّةٌ لِلْقُوَى، شَارِحَةٌ لِلصّدْرِ، مُغَذّيَةٌ لِلرّوحِ، مُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ، حَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ، دَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ، جَالِبَةٌ لِلْبَرَكَةِ، مُبْعِدَةٌ مِنَ الشّيْطَانِ، مُقَرّبَةٌ مِنَ الرّحْمَنِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، وَقُوَاهُمَا، وَدَفْعِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ عَنْهُمَا، وَمَا اُبْتُلِيَ رَجُلَانِ بِعَاهَةٍ، أَوْ دَاءٍ، أَوْ مِحْنَةٍ، أَوْ بَلِيّةٍ، إلّا كَانَ حَظّ الْمُصَلّي مِنْهُمَا أَقَلّ، وَعَاقِبَتُهُ أَسْلَمَ. وَلِلصّلَاةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي دَفْعِ شُرُورِ الدّنْيَا، وَلَا سِيّمَا إذَا أُعْطِيَتْ حَقّهَا مِنَ التكميل ظاهراً وباطناً، فما استُدْفِعَتْ شرورُ الدُّنيا والآخرة، ولا استُجْلِبَت مصالِحُهُمَا بمثل الصلاة، وسِرُّ ذلك أنَّ الصلاة صِلةٌ باللهِ - عز وجل -، وَعَلَى قَدْرِ صِلَةِ الْعَبْدِ بِرَبّهِ - عز وجل - تُفْتَحُ عَلَيْهِ مِن الْخَيْرَاتِ أَبْوَابُهَا، وَتُقْطَعُ عَنْهُ مِن الشّرُورِ أَسْبَابُهَا، وَتُفِيضُ عَلَيْهِ مَوَادّ التّوْفِيقِ مِنْ رَبّهِ - عز وجل -، وَالْعَافِيَةُ، وَالصّحّةُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْغِنَى، وَالرّاحَةُ وَالنّعِيمُ، وَالْأَفْرَاحُ وَالْمَسَرّاتُ، كُلّهَا مُحْضَرَةٌ لَدَيْهِ وَمُسَارِعَةٌ إلَيْهِ)) (¬1). ¬

_ (¬1) زاد المعاد، 4/ 231 - 232.

المبحث العشرون: الخشوع يثمر التلذذ بطعم الصلاة

المبحث العشرون: الخشوع يثمر التلذذ بطعم الصلاة لا شك أن للصلاة طعماً؛ لأنها من أعظم العبادات، والعبادة لله تعالى يتلذَذ بها المسلم الصادق مع الله تعالى؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبّاً، وَبِالإِسْلامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً)) (¬1). ومما يدل على التلذُّذ بالعبادة قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ)) (¬2). وفي رواية للإمام أحمد عن أبي رزين العقيلي: (( ... فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ)) (¬3). فمن وفقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي والكبائر، برقم 34، من حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم، كتاب الإيمان باب بيان خصالٍ من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬3) أحمد في المسند، 4/ 11، وفي المسند المحقق، 16/ 114، برقم 16194، ولكن قال محققو المسند، 26/ 114: ((إسناده ضعيف لانقطاعه: سليمان بن موسى، وهو الأشدق، لم يدرك أحداً من الصحابة فيما قاله الترمذي في العلل، 1/ 53 - 54 نقلاً عن البخاري، وبقية رجاله ثقات)). قلت: تغني عنه الأحاديث الصحيحة.

والتلذذ بالصلاة يكون بأمرين:

فيستلذُّ الطاعة، ويتحمَّل المشاق في رضى الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والتلذذ بالصلاة يكون بأمرين: الأمر الأول: المبادرة والتبكير برغبةٍ ولذَّةٍ إلى الصلاة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبادر إلى الصلاة، فقد كان يكون مع أهله، فإذا أذَّنَ المؤذِّنُ خَرَج وتَرَكَهُم (¬2)؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ)) (¬3). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ الناس ويرغِّبهم في المبادرة إلى الصلاة، وإلى الصف الأول، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ (¬4) لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ (¬5) وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً)) (¬6). ¬

_ (¬1) عقيدة المسلم، 1/ 69، للمؤلف. (¬2) البخاري، كتاب أبواب التهجد، باب من نام أول الليل وأحيا آخره، برقم 1146، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 739. ولفظه عند البخاري: ((قال الأسود: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل؟ قالت: كان ينام أوَّله، ويقوم آخره، فيصلِّي، ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذَّن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ وخرج)). (¬3) البخاري، كتاب النفقات، باب خدمة الرجل في أهله، برقم 5363، وأحمد، 42/ 467، برقم 25710، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب 45 حدثنا هناد، برقم 2489. (¬4) التهجير: هو التبكير إلى الصلاة. (¬5) العتمة: صلاة العشاء. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، برقم 615، ومسلم، كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم 437.

* وكان الصحابي عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - (¬1) إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل داره صلى ركعتين، وإذا دخل بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبداً (¬2). وقد مدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((رَحِمَ اللهُ أخي عَبْدَاللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كانَ أَيْنَما أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ أَناخَ)) (¬3). فهو - رضي الله عنه - من ناحيةٍ يُحِبُّ أن يستقبل بيته ويفارقه على ذكرٍ لله - عز وجل -، ومن ناحية أخرى لا يُحِبُّ أن يُؤَخِّر الصلاة عن وقتها، ولو كان في شغلٍ أو على سفر، وذلك منه حباً للصلاة، واستباقاً للمناجاة. وإذا كان هذا في الصلاة، ففي سائر الطاعات كذلك. * وتسابق أبي بكر وعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في أبوابِ الخير مشهور، معروف (¬4). ¬

_ (¬1) استشهد بمؤتة سنة ثمان للهجرة. الإصابة، 4/ 83. (¬2) تاريخ دمشق، 28/ 91، وسير أعلام النبلاء، 1/ 233، والإصابة، 4/ 84. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير، 12/ 322، برقم 13241، تاريخ دمشق، 28/ 85، وتاريخ الإسلام للذهبي، 9/ 658، وبنحوه في مصنف ابن أبي شيبة، 13/ 358، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 316: ((إسناده حسن)). وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع الصغير، 3/ 366، برقم 3096. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب الرخصة في ذلك، برقم 1678، ولفظه: عن عمر بن الخطاب ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ، إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْماً، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ". قُلْتُ مِثْلَهُ. قَالَ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ". قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قُلْتُ: لاَ أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَداً. وأخرجه الترمذي، برقم 3675، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 466.

* قال الصحابي عدي بن حاتم - رضي الله عنه - (¬1): ((ما جاء وقت صلاةٍ قطُّ إلا وقد أخذتُ لهَا أُهْبَتها، وما جاءت إلا وأنا إليها بالأشواق)) (¬2)، فهو يستعدّ للصلاة قبل وقتها، ويتشوَّق للدخول فيها. * وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ (¬3): ((مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مُنْذُ ثَلاَثِينَ سَنَةٍ، إِلاَّ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ)) (¬4)، فلولا أنه مشتاقٌ للقاء الله تعالى ما بادر إلى المسجد قبل الأذان منذ ثلاثين سنة. * وكان الإمام القارئ عاصم بن أبي النجود الأسدي رحمه الله (¬5) إذا صلَّى ينتصب كأنَّه عود، وكان يكون يوم الجمعة في المسجد إلى العصر، وكان عابداً خيّراً يصلي كثيراً جداً، ربما أتى حاجة، فإذا رأى مسجداً، قال: ((مِلْ بِنَا، فإن حاجتنا لا تفوت))، ثم يدخل، فيصلي (¬6)، وهذا منه رحمه الله شوق للصلاة، وهمٌّ بها كل وقت. * وقال محمد بن سماعة القاضي التميمي الكوفي رحمه الله (¬7): ((مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوماً واحداً ماتت ¬

_ (¬1) ذكر تاريخ وفاته ابن الأثير في أسد الغابة سنة 67 هـ، 4/ 8. (¬2) تاريخ دمشق، 40/ 87، وذكره في تهذيب الكمال، 19، 529. (¬3) توفي سعيد بن المسيب سنة 94 هـ، وقيل: 93، وقيل: 95هـ، والأول أصح. سير أعلام النبلاء، 4/ 245. (¬4) مصنف بن أبي شيبة، 1/ 351، والكنى والأسماء، للدولابي، 2/ 615، والمقصد الأرشد، لابن مفلح، 1/ 341، وحلية الأولياء، لأبي نعيم، 2/ 162. (¬5) توفي في سنة 128هـ. سير أعلام النبلاء، 5/ 260. (¬6) سير أعلام النبلاء، 5/ 359، ومعرفة القراء الكبار، للذهبي، 1/ 93. (¬7) توفي ابن سماعة سنة 233هـ. تاج التراجم في طبقات الحنفية، لابن قطلوبغا، ص 19.

فيه أمي)) (¬1). وهذا أقل درجةً من سعيد بن المسيب؛ لأنه يذكر التكبيرة الأولى، لا الحضور قبل الأذان. والشيطان يحرص على أن يؤخر المؤمن عن المبادرة إلى الطاعات، فجاء في الحديث الصحيح: ((يَعْقِدُ الشَّيطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأسِ أحَدِكُمْ، إِذَا هُوَ نَامَ، ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ، فَإن اسْتَيقَظَ فَذَكَرَ اللهَ تَعَالَى انحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإنْ تَوَضّأ انْحَلّتْ عُقدَةٌ، فَإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإلاَّ أصْبحَ خَبيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ)) (¬2). وهذا التسابق إلى الطاعات ليس داخلاً في العجلة المذمومة، بل بيَّن لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ((التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ)) (¬3). * وما أحسن ما وصف به يونس بن عُبيدٍ رحمه الله ((أنه كان لا يحضره أمرٌ من الله إلا كان له مستعداً)) (¬4)، فهو مثلاً على وضوءٍ ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد، 5/ 341، وتهذيب الكمال، 25/ 319، وسير أعلام النبلاء، 646، وتاريخ الإسلام للذهبي، 17/ 325. (¬2) البخاري، أبواب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصلِّ بالليل، برقم 1142، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم 776. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الرفق، برقم 4810، والحاكم، 1/ 132، برقم 213، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، والبيهقي، السنن الكبرى، 10/ 194، برقم 20592، وشعب الإيمان، 6/ 335، برقم 8411، وأبو يعلى، 2/ 123، برقم 792، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،4/ 293، برقم 1734. (¬4) انظر ترجمة يونس بن عبيد في: سير أعلام النبلاء، 6/ 288 وما بعدها.

الأمر الثاني: إطالة الصلاة بتلذذ ورغبة عظيمة:

دائماً؛ لئلا يتأخَّر عن صلاة نافلة أو فريضة متى حضر وقتها، وهو أيضاً زاهدٌ في دنياه، وقد كتب وصيته استعداداً للموت، أو للخروج للجهاد، وهكذا. فإن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل، كما أوصاك، ولا تكن ممن يسبق غيره إلى الدنيا، ويتأخر عنهم في أعمال الآخرة، وَقَدْ رُوِيَ: ((لَا تَكُنْ أَوَّلَ دَاخِلٍ السُّوقَ وَلَا آخِرَ خَارِجٍ مِنْهَا)) (¬1). وذلك لأنه بيت الشيطان، وقد ثبت في الحديث الصحيح: ((أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا)) (¬2)، والله المستعان. الأمر الثاني: إطالة الصلاة بتلذُذٍ ورغبة عظيمة: فمن أحسَّ بلذَّةِ الصلاة لم يشعر بالوقت وهو يمرُّ، بل تمضي الساعات الطويلة كأنها دقائق، وقد قال القائل: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في المعجم الكبير، 6/ 248، والبيهقي في شعب الإيمان، 13/ 193، والخطيب البغدادي، 12/ 426، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 4/ 135: ((رواه الطبراني في الكبير، وفي الرواية الأولى: القاسم بن يزيد، فإن كان هو الجرمي فهو ثقة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفي الثانية: يزيد بن سفيان وهو ضعيف))، وقال محقق العلل المتناهية، 2/ 101: ((بل هو أبو محمد القارئ شيخ صدق من الأخبار))، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، 14/ 1180، برقم 7073، وقال: ((قلت: كلا؛ ليس هو الجرمي، فإنه متقدم على الوزَّان بسنين، فإنه مات سنة (194)، وكنيته: (أبو يزيد الموصلي)، ولم أجد لأبي محمد الوزَّان ترجمة بغير ما ذكره الخطيب؛ ولذلك فلم تطمئن النفس لهذه المخالفة)). (¬2) مسلم، كتاب المساجد مواضع الصلاة، باب فَضْلِ الْجُلُوسِ فِي مُصَلاَّهُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ، برقم671.

زمانٌ تقضَّى بالمسرة ساعة ... ويومٌ تقضَّى بالمساءة عام ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم ليلاً طويلاً، ويتلذَّذ بذلك، وقد ثبت قيامه طويلاً في أحاديث كثيرة، منها: 1 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((صلَّيْت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً، فأطال حتى هَمَمت بأمر سوءٍ، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه)) (¬1). 2 - وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: ((صلَّيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلِّي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُترسِّلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعَوُّذٍ تَعوَّذ ... )) (¬2). 3 - وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فقرأ سورة البقرة، لا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب إلا وقف وتعوَّذ، ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة))، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة)) (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل، برقم 1135، ومسلم، واللفظ له، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 773. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 772. (¬3) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 873، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1049، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166.

4 - وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل، فصلَّى أربع ركعات، فقرأ فيهن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، أو الأنعام)) (¬1). 5 - وعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: لأرمُقنَّ صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الليلة، فصلَّى ركعتين خفيفتين، ثم صلَّى ركعتين: طويلتين، طويلتين، طويلتين، ثم صلَّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلهما، ثم صلَّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلَّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلَّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة)) (¬2). 6 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((أفلا أكون عبداً شكورا)) (¬3). 7 - وقالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كان يصلِّي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته - يعني بالليل- فيسجد السجدة قدر ما ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166. (¬2) مسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعائه، برقم 765. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، باب ((ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر))، برقم 4837، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال، والاجتهاد في العبادة، برقم 2820، وجاء من حديث المغيرة - رضي الله عنه - عند البخاري برقم 4836، ومسلم، برقم 2819.

يقرأُ أحدُكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه)) (¬1). 8 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في صلاة النبي من الليل في آخر حياته، قالت: (( ... وكان يُصلِّي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد ... )) (¬2) (¬3). 9 - وعن حفصة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في سبحته (¬4) قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلِّي في سبحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها)) (¬5). 10 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قرأ المفصَّل في ركعة فقال له: ((هذَّاً كهذِّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين من آل حم في كل ركعة)) (¬6).وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأهن اثنتين اثنتين في ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم 994. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائماً وقاعداً ... ، برقم 730. (¬3) انظر التفصيل في الصلاة قاعداً وقائماً وصفاته الثلاث: صلاة المؤمن، ص 287، وزاد المعاد، 1/ 331. (¬4) قال في النهاية، مادة (سبح): ((ويقال أيضاً للذِّكْر ولصَلاةِ النَّافلة: سُبْحَة. يقال: قَضَيت سُبْحَتي)). (¬5) مسلم كتاب الصلاة المسافرين، باب جواز النافلة، قائماً وقاعداً، برقم 733. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجمع بين السورتين في ركعة، والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة، برقم 775، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب ترتيل القرآن واجتناب الهذّ، برقم 275 - (722).

كل ركعة)) وقال: ((عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرهن من الحواميم: {حم}،الدخان، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (¬1). وفي لفظ لمسلم: ((عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تآليف عبد الله)) (¬2). وفي لفظ لمسلم: (( ... هذّاً كهذِّ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، إنَّ أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن ... )) (¬3). 11 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة)) (¬4). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية حتى أصبح يُردِّدها، والآية: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬5). وهذا يدل على التنويع في القراءة في صلاة الليل على حسب ما يفتح الله به على عبده، وعلى حسب الأحوال وقوة الإيمان. وهذا يدل على تلذُّذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة فهي قرُّة عينه، وراحة نفسه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم 4996، ورقم 5043. (¬2) مسلم، برقم 276 - (722)، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم275 - (722)، وتقدم تخريجه. (¬4) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، برقم 448، وصحح إسناده الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 140. (¬5) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، برقم 1350، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 225، وصححه الأرنؤوط في حاشيته على جامع الأصول، 6/ 105.

* وكذلك كان أصحابه - رضي الله عنهم -، والتابعون لهم بإحسان: فقد كان الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬1) يختم القرآن في ركعة كما ثبت ذلك عنه (¬2)، وما ذاك إلا لغيبته عن تعب طول القيام بإحساسه بلذة القرآن، وهو القائل: ((لو طَهُرَتْ قلوبُكم ما شبعتُم من كلام ربكم)) (¬3). * وكذا تميم الداري - رضي الله عنه - (¬4)، وسعيد بن جبير (¬5)، والإمام أبو حنيفة النعمان (¬6)، رحمهما الله يختمون القرآن في ركعة واحدة في أناسٍ لا يحصون كثرةً كما قال النووي رحمه الله (¬7)، ولعل هذا في ليالي الشتاء الطويلة، أضف لذلك بركة الوقت. والأفضل أن لا يختم في أقلِّ من ثلاثة أيام؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقلِّ من ثلاث)) (¬8). ¬

_ (¬1) استشهد رحمه الله سنة 35 هـ. (¬2) مصنف عبد الرزاق، 3/ 354، أبو عبيد في فضائل القرآن، ص 90، وابن المبارك في الزهد، ص 453، والبيهقي في السنن، 2/ 396، وتاريخ دمشق، لابن عساكر، 39/ 233. (¬3) الإمام أحمد في الزهد، ص 188، وحلية الأولياء، 7/ 300. (¬4) توفي الصحابي الجليل تميم بن أوس أبو رقية الداري سنة 40 هـ. انظر: الكاشف، 1/ 279. (¬5) توفي سعيد بن جبير سنة 95 هـ قتله الحجاج بن يوسف. انظر: الثقات لابن حبان، 4/ 275. (¬6) توفي الإمام أبو حنيفة سنة 150 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ، 1/ 126. (¬7) توفي الإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي سنة 676هـ. انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي، 513. (¬8) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في كم يقرأ القرآن، برقم 1390، ورقم 1391، وصححهما الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 385.

* وكان أبو إسحاق السَّبيعي رحمه الله (¬1) لما كبر كان لا يقدر على القيام حتى يُقام، فإذا أقاموه قرأ بألف آية! وقال: ((ضعفت ورقّ عظمي، إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران)) (¬2). * وأقل منه عطاء بن أبي رباح (¬3)؛ فإنه بعد ما كبر وضعُفَ يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم ما يزول منه شيء ولا يتحرك)) (¬4). * وقال: خالد بن دريك (¬5): ((كان لنا إمامٌ بالبصرة يختم بنا في شهر رمضان في كل ثلاثٍ، فمرض، فأمَّنا غيره، فختم بنا في كلِّ أربع، فرأينا أنه قد خفَّفَ)) (¬6). بمعنى أنه يقرأ ربع القرآن كل يوم، ومع ذلك عدُّوا صلاته خفيفة! وليس لذلك تفسيرٌ إلا أنهم كانوا إذا واجهوا ربهم تبارك وتعالى، فإنهم ينسون كل ما سواه. * وهناك إطالةٌ للصلاة من نوعٍ آخر، وهو أن كثيراً من السلف الصالح رحمهم الله تعالى كانوا يصلون الفجر بوضوء العشاء، أي أنهم كانوا لا ينامون الليل، فيجعلونه وقتاً للعبادة والخلوة بالله - عز وجل -. ¬

_ (¬1) توفي أبو إسحاق السبيعي سنة 127 هـ. انظر: الثقات لابن حبان، 5/ 177. (¬2) التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا، 1/ 195، وحلية الأولياء، 4/ 339، وصفة الصفوة، 3/ 105. (¬3) توفي عطاء بن أبي رباح سنة 114، وقيل: 115هـ. انظر: تذكرة الحفاظ، 1/ 75. (¬4) شعب الإيمان للبيهقي، 1/ 146، وصفة الصفوة، 2/ 213، وتاريخ دمشق، 40/ 380. (¬5) خالد بن دريك: ثقة من التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة، ولم يذكر أحد تاريخ وفاته، ميزان الاعتدال، 2/ 410، تقريب التهذيب، 1/ 257. (¬6) شعب الإيمان للبيهقي، 3/ 178.

منهم التابعي الجليل سعيد بن المسيَّب رحمه الله الذي ذُكر عنه أنه صلَّى الغداة بوضوء العشاء خمسين سنة (¬1)، هذا وهو إمام التابعين، وسيِّدُهم، فليس في فعله منكرٌ ينكر عليه، ثم إن ذلك ليس لسنةٍ ولا سنتين، ولو فرضنا أن العدد المذكور مبالغٌ فيه، فلن تكون الحقيقة أقل من النصف منه. * وَصَلَّى سليمان التيمي البصري رحمه الله (¬2) الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة (¬3)، ويقال فيه كما قيل فيما قبله. ولكن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي المُتَّبعة، ولم يكن يفعل ذلك، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ((جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -!؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّرَ، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخرُ: أنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبداً، فجاء إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأُصلِّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغب ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان لابن خلكان، 2/ 375، والمدهش لابن الجوزي، ص 431، ومرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، لليافعي، 1/ 84،ومنظومة مصباح الراوي، عبد الله بن فودي، ص 215. (¬2) توفي رحمه الله 143 هـ. الثقات لابن حبان، 4/ 103، تذكرة الحفاظ، 1/ 113. (¬3) ذكر صلاة الفجر بوضوء العشاء مصادر كثيرة، منها: الطبقات الكبرى لابن سعد، 7/ 252، شعب الإيمان للبيهقي، 1/ 160، وحلية الأولياء، لأبي نعيم، 3/ 28، وإحياء علوم الدين للغزالي، 1/ 356 ..

عن سنتي فليس مني)) (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل، أو مرض، صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة حتى الصباح، وما صام شهراً متتابعاً إلا رمضان)) (¬2). * ومن السلف الصالح من كان يَجْتَهِدُ في العبادة حتى لو قيل له: إن غداً القيامة ما استطاع أن يزيد في عبادته شيئاً؛ لأنه قد أتى منها بأكثر ما يقدر، منهم: أبو مسلم الخولاني رحمه الله (¬3)، الذي كان يقول: ((لو قيل: إن جهنم تسعر ما استطعت أن أزيد في عملي)) (¬4). * ومنهم منصور بن زاذان الواسطي (¬5)، وصفوان بن سليم ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، واللفظ له، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم 5063، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... ، برقم 1401. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، برقم 141 - (746)، وانظر المسألة في زاد المعاد لابن القيم، 1/ 322، و2/ 81، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، 1/ 108، شرح الحديث رقم 67: ((لقد نزلت عليَّ الليلة آية ... ))، والصيام في الإسلام للمؤلف في ذكر صيام شعبان كاملاً، وذكر قيام عشر رمضان الأخيرة، فإن فيه الجمع بين الأحاديث. (¬3) أبو مسلم الخولاني الزاهد الشامي اسمه عبد الله بن ثوب ثقة عابد من الثانية رحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يدركه وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية، مات قريباً من سنة اثنتين وستين. تذكرة الحفاظ للذهبي، 1/ 40، تقريب التهذيب، 1/ 673. (¬4) الزهد للإمام أحمد بن حنبل،1/ 392، وحلية الأولياء، 2/ 124. (¬5) منصور بن زاذان أبو المغيرة الثقفي ثقة ثبت عابد، مات سنة 129هـ. تقريب التهذيب،2/ 214.

القرشي (¬1)، وعبد الرحمن بن أبي نعم الكوفي (¬2)، وحماد بن سلمة البصري (¬3) رحمهم الله تعالى. * وبلغ التلذذ بالعبادة عند بعضهم مبلغاً حتى تمنّى على الله تعالى أن يرزقه الصلاة في قبره، ليلتذّ بها في القبر كما التذّ بها في الدنيا، فهذا ثابت بن أسلم البناني البصري رحمه الله (¬4) يقول: ((اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَعْطَيْت أَحَداً الصَّلاَةَ فِي قَبْرِهِ، فَأَعْطِنِي الصَّلاَةَ فِي قَبْرِي)) (¬5)، فأعطاها إياه، فرآه من دفنه - وهو أبو سنان - يصلي في القبر. وأقسم آخر أنه رآه في المنام يصلي في القبر بثياب خضر (¬6): يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ ... بِتِلاوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ وَعُيُونُهُمْ تَجْرِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ ... مِثْلَ انْهِمَالِ الْوَابِلِ الْهَطَّالِ فِي اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ ... لِعَدُوِّهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأَبْطَالِ بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ ... وَبِهَا أَشِعَةُ نُورِهِ الْمُتَلالِي (¬7) ¬

_ (¬1) صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله الزهري ثقة عابد، مات سنة 132هـ. تقريب التهذيب، 1/ 276. (¬2) عبد الرحمن بن أبي نعم العابد مات قبل المائة. تقريب التهذيب، 1/ 602. (¬3) حماد بن سلمة يكنى أبا سلمة بصري، ثقة رجل صالح، توفي سنة 167هـ. تهذيب الكمال، 7/ 265، ومعرفة الثقات للعجلي، 1/ 319. (¬4) ثابت بن أسلم البناني، تابعي ثقة رجل صالح، مات سنة 127هـ .. معرفة الثقات للعجلي، 1/ 259. مولد العلماء ووفياتهم، 1/ 296. (¬5) مصنف ابن أبي شيبة، 14/ 50، الطبقات الكبرى لابن سعد، 7/ 232. (¬6) ذكر صلاة ثابت البناني في قبره بعد موته بعض المصادر، انظر مثلاً: تهذيب الكمال، 4/ 348، وسير أعلام النبلاء، 5/ 232، طبقات الأولياء لابن الملقن، ص 20. (¬7) ذكر الأبيات ضمن قصيدة طويلة الإمام ابن القيم في كتابه النفيس إغاثة اللهفان، 1/ 237، وبدأها بقوله: ((وقال آخر، وأحسن ما شاء ... )) ثم أدرج القصيدة بطولها.

قال الشاطبي رحمه الله (¬1): ((ما ذُكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد؛ الذين هيأهم الله لها، وهيأها لهم، وحببها إليهم، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة بل كانوا معدودين في السابقين، جعلنا الله منهم؛ وذلك لأن العلَّة التي لأجلها نُهيَ عن العمل الشاق مفقودة في حقهم، فلم ينتهض النهي في حقهم)) (¬2). * وإذا كان هذا في الزمن الغابر، فلا تزال لذَّة الصلاة مستمرةً إلى يومنا هذا، والحمد لله، وممن أُثر عنهم المحافظة على قيام الليل سفراً وحضراً، شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله (¬3)، فقد ذكر مَنْ صاحبه في سفره برّاً من الرياض إلى مكة أنه عندما جاءت الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل، قال الشيخ: ما رأيكم لو نمنا هنا ثم في الصباح نكمل السفر، فوافق من معه، ثم ناموا، والشيخ طلب ماءً فتوضأ ثم شرع يُصلِّي ما شاء الله له، ثم نام، ولما قاموا لصلاة الفجر وجدوا الشيخ قد سبقهم للقيام وهو يصلي (¬4) (¬5). ودعي مرةً إلى جدة - وكان بمكة - فأجاب الدعوة، ولم يعد إلى منزله بمكة إلا في الساعة الثانية ليلاً، فنام من معه، فلما جاءت ¬

_ (¬1) إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، توفي سنة 790هـ. هدية العارفين للبغدادي، 1/ 18، وفهرس الفهارس والأثبات 1/ 191. (¬2) الموافقات للشاطبي، 2/ 244. (¬3) ولد عام 1330هـ، وتوفي 20/ 1/ 1420هـ. وانظر: الإنجاز في ترجمة الشيخ عبد العزيز ابن باز، عبد الرحمن الرحمة، 236، 237. (¬4) الإنجاز في ترجمة الشيخ عبد العزيز ابن باز، عبد الرحمن الرحمة، 236، 237. (¬5) وانظر: لذة العبادة، للحميدان، ص 10 - 21.

الساعة التي يقوم فيها للتهجد - وهي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل - إذا هو يوقظ من نام معه للصلاة، ثم قام يصلي حتى الفجر، وبعد الصلاة ألقى كلمة، ثم أخذ يستمع إلى المعاملات ... وهكذا حسب برنامجه اليومي! فلم يترك - رحمه الله - قيام الليل مع إرهاقه واختلاف برنامجه (¬1). * وكان ما تقدم عندما ينسى المصلّي نفسه برغبته العظيمة، وتلذّذه بالعبادة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت الصلاة قرّة عينه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبِّبَ إليَّ النساء، والطيب، وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة)) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)) (¬3). وأما الأمة فقد قال لهم النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا)) (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلَبه، فسدِّدُوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا ¬

_ (¬1) الإنجاز في ترجمة الشيخ عبد العزيز ابن باز، عبد الرحمن الرحمة، 237، 238. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، برقم 1970، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم 782. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم 39، ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله، برقم 2816. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، برقم 1970، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم 782.

بالغدوة والروحة، وشيءٍ من الدّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا)) (¬1) (¬2). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((وهذا يدلُّ على أن الأفضل في حقنا القصد، وعدم التطويل الذي يشقُّ علينا حتى لا نملَّ، وحتى لا نفتر من العبادة، فالمؤمن يصلِّي ويجتهد، ويتعبَّد، لكن من غير مشقة، بل يتوسط في كل الأمور حتى لا يملَّ العبادة)) (¬3). ولهذا جاء في حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: (( ... ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)) (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم 39، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله، برقم 2816. (¬2) انظر أحاديث كثيرة في النهي عن التشديد في العبادة، وأن أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ، في صلاة المؤمن في صلاة التطوع البند السادس للمؤلف، ص 291. (¬3) سمعته أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الأحاديث رقم 1257 - 1262. (¬4) متفق عليه: البخاري، أبواب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، برقم 1150، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، برقم 784.

المبحث الحادي والعشرون: الأسباب التي تزيل الغفلة وتجلب الخشوع في الصلاة

المبحث الحادي والعشرون: الأسباب التي تزيل الغفلة وتجلب الخشوع في الصلاة يجب ترك الأسباب التي تزيل الخشوع في الصلاة، أو تضعفه، والعمل بالأسباب التي تجلبه وتقوِّيه، وهي كثيرة، منها الأسباب الآتية: السبب الأول: معرفة الله تعالى: بأسمائه، وصفاته، وألوهيَّته، وربوبيَّته، فيجب على العبد أن يعلم أن الله تعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العُلا؛ فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تَكْييفٍ، ولا تمثيل، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله تعالى هو: الخالق المالك لكل شيء، المدبّر له، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا مذلَّ لمن أعزَّ، ولا معزَّ لمن أذلَّ، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ومن هذه صفاته وأسماؤه وأفعاله، فهو المستحقُّ للعبادة وحده، لا شريك له، ولا معبود بحقٍّ سواه، ولا ربَّ غيره، فيجب على العبد أن يعبد هذا الربَّ الكريم كأنه يراه؛ فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن معرفة الله نوعان: النوع الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس: البرُّ والفاجر، والمطيع والعاصي. النوع الثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلّق القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته، والإنابة إليه، والأُنس به، والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة، والناس يتفاوتون فيها؛ ولهذه المعرفة بابان واسعان:

السبب الثاني: علاج قسوة القلب،

الباب الأول: التفكُّر والتأمُّل في آيات القرآن كلِّها، والفهم الخاص عن الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. الباب الثاني: التفكُّر في آيات الله المشهودة، وتأمل حكمته فيها، وقدرته، ولطفه، وإحسانه، وعدله، وقيامه بالقسط على خلقه، وجِمَاعُ ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى، وجلالها، وكمالها، وتفرُّدِهِ بذلك، وتعلُّقها بالخلق والأمر، فيكون فقيهاً في أوامره، ونواهيه، فقيهاً في قضائه وقدره، فقيهاً في أسمائه وصفاته، فقيهاً في الحكم الديني الشرعي، والحكم الكوني القدري، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬1))) (¬2). السبب الثاني: علاج قسوة القلب، ومرضه، وغفلته؛ فإن هذه الأمراض من أعظم الأسباب في عدم الخشوع في الصلاة؛ لأن القلب إذا صلح صلحت الأعمال، والأحوال، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلَا وَإِنَّ فِي اَلْجَسَدِ مُضْغَةً, إِذَا صَلَحَتْ, صَلَحَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ اَلْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ اَلْقَلْبُ)) (¬3). " وقد ذمَّ الله أصحاب القلوب القاسية، وأقساها قلوب اليهود، قال الله تعالى عنهم وعن قلوبهم: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 21. (¬2) الفوائد لابن القيم، ص378 - 379، بتصرف. (¬3) مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم 1599.

ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1). " وقد حذَّر الله المؤمنين من قسوة القلوب فقال - سبحانه وتعالى -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬2). " وذمَّ الله تعالى ذمَّاً عاماً لكلِّ من قسا قلبه، وأثبت له الويل والهلاك، فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬3). ولا شك أن علاج قسوة القلوب يكون بالنظر إلى أسباب القساوة ثم إزالتها، ويكون ذلك على النحو الآتي: 1 - الوفاء بالعهد مع الله تعالى في القيام بالواجبات التي أوجبها تعالى، والابتعاد عن المحرَّمات التي حرّمها على عباده، وكذلك الوفاء بالعهد مع المخلوقين، قال الله تعالى في سبب قساوة قلوب اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات 71 - 74. (¬2) سورة الحديد، الآيتان: 16 - 17. (¬3) سورة الزمر، الآية: 22.

قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (¬1). 2 - كثرة ذكر الله تعالى بالقلب مع اللسان، من أعظم أسباب سلامة القلوب من القسوة والأمراض المعنوية؛ فإن من أسباب قسوة القلوب كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى؛ لحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قَسْوَةٌ للْقَلْبِ، وَإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى القَلْبُ القَاسِي)) (¬2). قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (( ... وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَلْبَ يَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ النُّحَاسُ، وَالفِضَّةُ، وَغَيْرُهُمَا، وَجَلَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يَجْلُوهُ حَتَّى يَدَعَهُ كَالمِرْآةِ البَيضَاءِ؛ فَإِذَا تَرَكَ الذِّكْرَ صَدِئَ، فَإِذَا ذَكَرَ جَلَاهُ، وَصَدَأُ القَلْبِ بِأَمْرَيْنِ: بِالغَفْلَةِ وَالذَّنْبِ، وَجَلَاؤُهُ بِشَيْئَيْنِ: بِالاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ)) (¬3). وقد بين الله - عز وجل -: أن بذكره تطمئن القلوب، فقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬4). وأعظم الذكر: القرآن الكريم، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 13. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، بابٌ: منه، برقم 2411، وقال: ((حسن غريب))، وحسّن إسناده عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه للأذكار للنووي، ص285. (¬3) الوابل الصيب، ص82. (¬4) سورة الرعد الآية: 28.

يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬1). ومن ذِكْر الله تعالى الدعاء؛ فإن الدعاء لغة: الطلب والابتهال: يُقال: دعوتُ الله أدعوه دعاءً: ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير (¬2) ودعا الله: طلب منه الخير ورجاه منه، ودعا لفلان: طلب الخير له، ودعا على فلان: طلب له الشر (¬3). والدعاء: سؤال العبد ربه على وجه الابتهال، وقد يطلق على التقديس والتحميد ونحوهما (¬4). فالدعاء نوعٌ من أنواع الذكر؛ فإن الذكر ثلاثة أنواع: النوع الأول: ذكر أسماء الله وصفاته ومعانيها والثناء على الله بها، وتوحيد الله بها وتنزيهه عما لا يليق به. وهو نوعان أيضاً: أإنشاء الثناء عليه بها من الذاكر وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث نحو: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)). ب الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته نحو قولك: الله - عز وجل - على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد لراحلته، وهو يسمع أصوات عباده، ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم. النوع الثاني: ذكر الأمر، والنهي، والحلال والحرام، وأحكامه فيعمل ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 23. (¬2) المصباح المنير 1/ 194. (¬3) المعجم الوسيط1/ 268. (¬4) القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً ص 131.

بالأمر ويترك النهي، ويُحرِّمُ الحرامَ ويُحلُّ الحلالَ، وهو نوعان أيضاً: أذكره بذلك إخباراً عنه بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا. ب ذكره عند أمره فيبادر إليه ويعمل به، وعند نهيه فيهرب منه ويتركه. النوع الثالث: ذكر الآلاء والنعماء والإحسان، وهذا أيضاً من أجَلِّ أنواع الذكر، فهذه خمسة أنواع. وهي تكون ثلاثة أنواع أيضاً: أ- ذكرٌ يتواطأ عليه القلب واللسان، وهو أعلاها. ب- ذكرٌ بالقلب وحده، وهو في الدرجة الثانية. ج- ذكرٌ باللسان المجرد، وهو في الدرجة الثالثة (¬1). ومفهوم الذكر: هو التخلص من الغفلة والنسيان، والغفلة: هي تركٌ باختيار الإنسان، والنسيان تركٌ بغير اختياره. والذكر على ثلاث درجات: 1 - الذكر الظاهر: ثناءٌ على الله تعالى كقول: ((سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر)). أو ذكر دعاء: نحو: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). ونحو قوله: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)). ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) مدارج السالكين لابن القيم، 2/ 430، و1/ 23، والوابل الصيب لابن القيم، ص 178 - 181. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 23.

أو ذكر رعاية: مثل قول القائل: الله معي، الله ينظر إليَّ، الله شاهدي، ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، ولحفظ الأدب مع الله والتحرز من الغفلة، والاعتصام بالله من الشيطان وشر النفس. والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة، فإنها تضمنت الثناء على الله، والتعرض للدعاء والسؤال، والتصريح به. وهي متضمنة لكمال الرعاية، ومصلحة القلب، والتحرز من الغفلات، والاعتصام من الوساوس والشيطان. 2 - الذكر الخفي: وهو الذكر بمجرد القلب والتخلص من الغفلة، والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب وبين الرب سبحانه، وملازمة الحضور بالقلب مع الله كأنه يراه. 3 - الذكر الحقيقي: وهو ذكر الله تعالى للعبد (¬1): {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ِشِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)) (¬3). ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، 2/ 434 - 435. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152. (¬3) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [سورة آل عمران، الآية: 28]، برقم 7405، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب كتاب الذكر والدعاء والتوبة ... ، برقم 2675، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

3 - ترك الذنوب والتوبة منها؛ فإن كثرة الذنوب من أعظم أسباب قساوة القلوب، والحذر منها والابتعاد عنها من أعظم أسباب السلامة، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادّاً (¬2) كَالْكُوزِ مُجَخِّياً (¬3) لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَراً إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) (¬4). قال الإمام ابن المبارك رحمه الله: رأيتُ الذنوب تُميت القلوب ... ويُورث الذُّلَّ إدمانُها وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها (¬5) قال عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((إن للحسنة: ضياءً في الوجه، ¬

_ (¬1) سورة المطففين، الآية: 14. (¬2) أسود مربادّ: شبه البياض في سواد، [شرح النووي، 2/ 532]. (¬3) الكوز مجخيا: منكوساً، نكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة [شرح النووي، 2/ 531]. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب، برقم 144. (¬5) ديوان عبد الله بن المبارك، ص 26، وشعب الإيمان للبيهقي، 5/ 464، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 1/ 327، وحلية الأولياء لأبي نعيم، 8/ 279.

ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإنّ للسيئة: سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق)) (¬1). وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله: أن القلب يفسد بأمورٍ: التعلق بغير الله تعالى، وركوب بحر التمني، وكثرة النوم، وكثرة الطعام، والمفسد منه نوعان: أكل الحرام، والإسراف (¬2). وقال رحمه الله: ((قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة)) (¬3). 4 - ترك كثرة الضحك والقهقهة؛ فإن كثرة ذلك تميت القلب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟))، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْساً، وَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ)) (¬4). 5 - كثرة ذكر الموت؛ فإن الغفلة عن الموت وطول الأمل مما ¬

_ (¬1) الجواب الكافي لابن القيم، ص105 - 106. (¬2) الفوائد الإيمانية من كتب ابن القيم، ص37،41. (¬3) فوائد الفوائد مرتبة مبوبة، لابن القيم ص262، تخريج علي بن حسن عبد الحميد. (¬4) الترمذي، كتاب الزهد، باب من اتقى المحارم فهو أعبد الناس، برقم 2305، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 930، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 526.

يُقسي القلب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ)) (¬1) يعني الموت، وفي لفظ لابن حبان: ((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَه عَلَيْهِ، وَلَا ذَكَرَهْ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضيَّقَهُ عَلَيْهِ)) (¬2). وَفِي لفظ لابن حبان أيضاً: "كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّات)) (¬3)، فَالْمَوت يقطع اللذات ويزيلها، والحديث دليل على أنه لا ينبغي أن يغفل عن ذكر أعظم المواعظ! وهو الموت، قال الإمام الصنعاني رحمه الله: ((وقد ذكر في آخر الحديث فائدة الذكر بقوله: ((فَإِنّكُمْ لاَ تَذْكُرُونَهُ فِي كَثِيرٍ إلاّ قَلّلهُ، وَلاَ فِي قَليلٍ إلاّ كَثَّرَهُ)) (¬4). وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً)) قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ (¬5)؟ ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت، برقم 2307، والنسائي، كتاب الجنائز، باب كثرة ذكر الموت، برقم 1823، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4258، وابن حبان بلفظ: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت))، برقم 2992، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي وفي غيره، 2/ 6: ((حسن صحيح)). (¬2) صحيح ابن حبان، برقم 2993، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 145. (¬3) صحيح ابن حبان، برقم 2995، وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لصحيح ابن حبان. (¬4) سبل السلام، للصنعاني، 3/ 302، وهذا الخبر أخرجه الطبراني في الأوسط، بلفظ: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات - يعني الموت - فإنه ما كان في كثير إلا قلّلَهُ، ولا قليل إلا جزأه)) [مجمع البحرين، 8/ 206، برقم 5076]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 309: ((إسناده حسن)). (¬5) أكيس: أعقل [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 4/ 217].

قَالَ: ((أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَحْسَنُهُمُ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَاداً، أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ)) (¬1). 6 - إطعام المسكين ومسح رأس اليتيم؛ فإن من أسباب قسوة القلوب ترك الإحسان إلى اليتامى والمساكين؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ: ((إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ)) (¬2). 7 - زيارة القبور والتفكر في حال أهلها ومصيرهم؛ لأن الغفلة عن ذلك من أسباب قسوة القلب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)) (¬3). وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا)) [زاد الترمذي]: ((فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ))، وفي لفظ أبي داود: ((فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَة)) (¬4). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنِّي ¬

_ (¬1) ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4259، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 419، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1384. (¬2) أحمد في المسند، 2/ 263، و2/ 387، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 1410، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 533. (¬3) مسلم، برقم 108 - (976)، وتقدم تخريجه في بكائه - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة قبر أمه. (¬4) مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه - عز وجل - في زيارة أمه، برقم 106 - (977)، والترمذي، برقم 1054، والنسائي بنحوه، برقم 2031، وأبو داود، برقم 3237.

نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً [وَلاَ تَقُولُوا مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ])) (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُرُوهَا؛ فإنَّهَا تُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ، َ وَلَا تَقُولُوا هَجْراً)) (¬2) (¬3). وعن هانئ مولى عثمان - رضي الله عنه - قال: كَانَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه - إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حتَّى يَبَلَّ لِحْيَتَهُ، فَقيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ:"إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَمَنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ". قَالَ: وَقَالَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا رَأَيْتُ مَنْظَراً قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ (¬4) مِنْهُ)) (¬5). 8 - النظر في ديار الهالكين، والاعتبار بمنازل الغابرين؛ فإن الغفلة عن التَّفَكُّرِ في ذلك من أسباب قسوة القلب؛ ولهذا كان ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها، ¬

_ (¬1) أحمد، 3/ 38، 63، 66، والحاكم، 1/ 374، والبيهقي، 4/ 77، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الألباني في أحكام الجنائز، ص288: ((وهو كما قالا)). (¬2) الهجر: الفحش، والكلام الباطل، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 245. (¬3) أحمد، 3/ 237، 250، والحاكم، 1/ 376، 375، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز، ص229. (¬4) أفظع: أشد، وأشنع. شرح السندي على سنن ابن ماجه، 4/ 500. (¬5) الترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا هناد، برقم 2308، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، واللفظ له، برقم 4267، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 527.

وينادي بصوت حزين، فيقول: ((أين أهلك؟))، ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬1). قال الله - عز وجل -: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} (¬2). 9 - الاستفادة في علاج القلوب من حِكَمِ الحكماء؛ فإن ذلك مما يوقظ القلوب؛ لما جعل الله تعالى على ألسنتهم من الحِكَمِ: * قَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ رحمه الله تعالى: ((دَوَاءُ الْقُلُوبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ، وَخَلَاءُ الْبَطْنِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ، وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ)) (¬3). * ونُقل عن لقمان الحكيم، أنه قال لابنه: ((جمعت لك حكمتي في ست كلمات: اعمل للدنيا بمقدار بقائك فيها، واعمل للآخرة بمقدار بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك له، واعمل من المعصية بمقدار ما تطيق من العقوبة، ولا تسأل إلا من لا يحتاج إلى أحد، وإذا أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه)) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 88. (¬2) سورة السجدة، الآية: 26. (¬3) الخشوع في الصلاة، لابن رجب، ص35. (¬4) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص35.

* وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى في موعظته حين سألوه عن قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1)، وإنَّا ندعوه فلم يستجب لنا، فقال: ((عرفتم الله فلم تطيعوه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به، وعرفتم الشيطان فوافقتموه، وادّعيتم حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركتم سنته، وادّعيتم حبّ الجنة ولم تعملوا لها، وادّعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، وقلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب غيركم ولم تنظروا إلى عيوبكم، وتأكلون رزق الله ولا تشكرون، وتدفنون أمواتكم ولا تعتبرون)) (¬2). 10 - علاج قسوة القلوب كما ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فقد ذكر رحمه الله: أن القلوب ثلاثة: القلبُ الأوَّلُ: القَلْبُ السَلِيمُ: وَهُوَ الَّذِي لاَ يَنْجُو يَوْمَ الْقِيَامِةِ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) الخشوع في الصلاة، لابن رجب ص35 - 36. (¬3) سورة الشعراء، الآيتان: 88 - 89.

وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ تُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، وَمِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ، فَسَلِمَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَاهُ، وَسَلِمَ مِنْ تَحْكِيمِ غَيْرِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي سَلِمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهِ شِرْكٌ بِوَجْهٍ مَا؛ بَلْ قَدْ خَلُصَتْ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ: إِرَادَةً، وَمَحَبَّةً، وَتَوَكُّلاً، وَإِنَابَةً، وَإِخْبَاتَاً، وَخَشْيَةً، وَرَجَاءً، وَخَلُصَ عَمَلُهُ لِلَّهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَإِنْ أَبْغَضَ أَبْغَضَ فِي اللَّهِ، وَإِنْ أَعْطَى أَعْطَى لِلَّهِ، وَإِنْ مَنَعَ مَنَعَ لِلَّهِ، فَهَمُّهُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَحُبُّهُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَقَصْدُهُ لَهُ، وَبَدَنُهُ لَهُ، وَأَعْمَالُهُ لَهُ، وَنَوْمُهُ لَهُ، وَيَقَظَتُهُ لَهُ، وَحَدِيثُهُ، وَالْحَدِيثُ عَنْهُ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ، وَأَفْكَارُهُ تَحُومُ عَلَى مَرَاضِيهِ، وَمَحَابِّهِ (¬1)، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى هَذَا القَلْبَ. القلب الثاني: الْقَلْبُ الْمَيِّتُ: وَهُوَ ضِدُّ الأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ رَبَّهُ، وَلاَ يَعْبُدُهُ بِأَمْرِهِ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ؛ بَلْ هُوَ وَاقِفٌ مَعَ شَهَوَاتِهِ وَلَذَاذَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا سَخَطُ رَبِّهِ وَغَضَبُهُ، فَهُوَ مُتَعَبِّدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ: حُبَّاً، وَخَوْفَاً، وَرَجَاءً، وَرِضَاً، وَسُخْطَاً، وَتَعْظِيمَاً، وَذُلاًّ، إِنْ أَبْغَضَ أَبْغَضَ لِهَوَاهُ، وَإِنْ أًحَبَّ أَحَبَّ لِهَوَاهُ، وَإِنْ أَعْطَى أَعْطَى لِهَوَاهُ، وَإِنْ مَنَعَ مَنَعَ لِهَوَاهُ، فَالْهَوَى إمَامُهُ، وَالشَّهْوَةُ قَائِدُهُ، وَالْجَهْلُ سَائِقُهُ، وَالْغَفْلَةُ مَرْكَبُهُ (¬2). نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ. القلب الثالث: الْقَلْبُ الْمَرِيضُ: هُوَ قَلْبٌ لَهُ حَيَاةٌ، وَبِهِ عِلَّةٌ، فَلَهُ ¬

_ (¬1) انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم رحمه الله، 1/ 7، و73. (¬2) انظر: المرجع السابق، 1/ 9.

مَادَّتَانِ تُمِدُّهُ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ أُخْرَى، وهُوَ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمُا، فَفِيهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالإِيمَانِ بِهِ، وَالإِخْلاَصِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ: مَا هُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ، وَفِيهِ مِنْ مَحَبَّةِ الشَّهَوَاتِ، وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهَا، وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ، وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ بِالرِّيَاسَةِ، وَالنِّفَاقِ، وَالرِّيَاءِ، وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ مَا هُوَ مَادَّةُ هَلاَكِهِ وَعَطَبِهِ (¬1)، نَعُوذُ بَاللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ. وقد مُثِّل ذلك بمثال حسن. وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، [وهذا مثال للقلب السليم]، وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليس جواهر الملك وذخائره، [وهذا مثال للقلب المريض]، وبيت خالٍ صفر لا شيء فيه، [وهذا مثال للقلب الميت]، فجاء اللصّ يسرق من أحد البيوت، فمن أيِّها يسرق؟ فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالاً؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرَق؛ ولهذا قيل لابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب؟ (¬2). وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل ¬

_ (¬1) انظر: إغاثة اللهفان، 1/ 9. (¬2) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، 22/ 609، وفي الفتاوى الكبرى، 2/ 224، وعزاها لبعض السلف.

الممتنع، فإن عليه من الحرس واليزَك (¬1) ما لا يستطيع اللِّصُّ الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه، وكيف يستطيع اللِّصِّ الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق لِلّص إلا البيت الثالث، فهو الذي يشن عليه الغارات. فليتأمل اللبيب هذا المثال حقّ التأمل، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله. فقلب خلا من الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيت الشيطان، قد أحرزه لنفسه واستوطنه واتخذه سكناً ومستقراً، فأي شيءٍ يسرق منه، وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه؟. وقلبٌ قد امتلأ من جلال الله - عز وجل - وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه، فأيُّ شيطان يجترئ على هذا القلب؟ وإن أراد سرقة شيء منه، فماذا يسرق، وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب يحصل له على غرة من العبد وغفلة لابد له منها، إذ هو بشر، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع. وقلبٌ فيه توحيد الله تعالى، ومعرفته، ومحبته، والإيمان به والتصديق بوعده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها ودواعي الهوى والطبع. وقلبٌ بين هذين الداعيين. فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان، والمعرفة، والمحبة لله تعالى، وإرادته وحده، ومرة يميل بقلبه داعي ¬

_ (¬1) اليزك والحرس بمعنى.

وأمراض القلوب نوعان:

الشيطان، والهوى، والطباع، فهذا القلب للشيطان فيه مطمع، وله منه منازلات ووقائع، ويعطي الله النصر من يشاء {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬1)، وهذا لا يتمكن الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه، فيدخل إليه الشيطان، فيجد سلاحه عنده فيأخذه ويقاتله به؛ فإنَّ أسلحته هي: الشهوات، والشبهات، والخيالات، والأماني الكاذبة، وهي في القلب، فإن كان عند العبد عدة عتيدة فيأخذها ويصول بها على القلب، فإن كان عند العبد عدة عتيدة من الإيمان تقاوم تلك العدة وتزيد عليها، انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوِّه عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإذا أَذِنَ العبدُ لعدوِّه وفتح له باب بيته، وأدخله عليه، ومكنَّه من السلاح يقاتله به، فهو الملوم. فنفسك لم ولا تلم المطايا ... ومت كمداً فليس لك اعتذار (¬2) وَعِلاَجُ الْقَلْبِ مِنْ جَمِيعِ أَمْرَاضِهِ قَدْ تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ. قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، وقال الله - عز وجل -: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (¬4). وَأَمْرَاضُ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لاَ يَتَأَلَّمُ بِهِ صَاحِبُهُ فِي الْحَالِ، وَهُوَ مَرَضُ الْجَهْلِ، وَالشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ، وَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ النَّوْعَيْنِ أَلَمَاً، وَلَكِنْ لِفَسَادِ الْقَلْبِ لاَ يُحِسُّ بَهَ. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 126. (¬2) الوابل الصيب لابن القيم، ص43 - 45 بتصرف يسير. (¬3) سورة يونس، الآية: 57. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 82.

وعلاج القلب يكون بأمور أربعة:

وَنَوْعٌ: مَرَضٌ مُؤْلِمٌ فِي الْحَالِ: كَالْهَمِّ، وَالْغَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْغَيْظِ، وَهَذَا الْمَرْضُ قَدْ يَزُولُ بِأَدْوِيَةٍ طَبِيعِيَّةٍ بِإزِالَةِ أَسْبَابِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (¬1). وَعِلاَجُ الْقَلْبِ يَكُونُ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الأَمْرُ الأَوَّلُ: بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الشَّكِّ، وَيُزِيلُ مَا فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ، وَدَنَسِ الْكُفْرِ، وَأَمْرَاضِ الشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَوَاتِ، وَهُوَ هُدَىً لِمَنْ عَلِمَ بِالْحَقِّ، وَعَمِلَ بِهِ، وَرَحْمَةٌ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالآجِلِ، قال الله - عز وجل -: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (¬2). الأَمْرُ الثَّانِي: الْقَلْبُ يَحْتَاجُ إِلَى ثَلاَثَةِ أُمُورً: 1 - مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ قُوَّتَهُ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَملِ أَوْرَادِ الطَّاعَاتِ. 2 - الْحِمْيَةُ عَنِ الْمَضَارِ، وَذَلِكَ بِاجْتِنَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَأَنْوَاعِ الْمُخَالَفَاتِ. 3 - الاسْتِفْرَاغُ مِنْ كُلِّ مَادَّةٍ مُؤْذِيَةٍ، وَذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ. الأَمْرُ الثَّالِثُ: عِلاَجُ مَرَضِ الْقَلْبِ مِنِ اسْتِيلاءِ النَّفْسِ عَلَيْهِ: لَهُ عِلاَجَانِ: مُحَاسَبَتُهَا، وَمُخَالَفَتُهَا، وَالْمُحَاسَبَةُ نَوْعَانِ: النَّوْعُ الأَوَّلُ: قَبْلَ الْعَمَلِ، وَلَهُ أَرْبَعُ مَقَامَاتً: 1 - هَلْ هَذَا الْعَمَلُ مَقْدُورٌ لَهُ؟ ¬

_ (¬1) انظر: إغاثة اللهفان، 1/ 44. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 122.

النوع الثاني: بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:

2 - هَلْ هَذَا الْعَمَلُ فِعْلُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ؟ 3 - هَلْ هَذَا الْعَمَلُ يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ؟ 4 - هَلْ هَذَا الْعَمَلُ مُعَانٌ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ يُسَاعِدُونَهُ، وَيَنْصُرُونَهُ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ يَحْتَاجُ إِلَى أَعْوَانٍ؟ فَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ مَوْجُودَاً أَقْدَمَ وَإِلاَّ لاَ يُقْدِمْ عَلَيْهِ أَبَدَاً. النَّوْعُ الثَّانِي: بَعْدَ الْعَمَلِ وَهُو ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: 1 - مُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ عَلَى طَاعَةِ قَصَّرَتْ فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ تُوقِعْهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: الإِخْلاَصُ، وَالنَّصِيحَةُ، وَالْمُتَابَعَةُ، وَشُهُودُ مَشْهَدِ الإِحْسَانِ، وَشُهُودُ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَشُهُودُ التَّقْصِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ. 2 - مُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ كَانَ تَرْكُهُ خَيْرَاً لَهُ مِنْ فِعْلِهِ. 3 - مُحَاسَبَةُ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ، أَوْ مُعْتَادٍ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهَلْ أَرَادَ بِهِ اللَّهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، فَيَكُونُ رَابِحَا؟ أَوْ أَرَادَ بِهِ الدُّنِيَا فَيَكُونَ خَاسِرَاً؟ وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ أَوَّلاً عَلَى الْفَرَائِضِ، ثُمَّ يُكَمِّلُهَا إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، ثُمَّ يُحَاسِبُهَا عَلَى الْمَنَاهِي، فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ ارْتَكَبَ شَيْئَاً مِنْهَا تَدَارَكَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ عَلَى مَا عَمِلَتْ بِهِ جَوَارِحُهُ، ثُمَّ عَلَى الْغَفْلَةِ (¬1). الأمْرُ الرَّابِعُ: عِلاجُ مَرَضِ الْقَلْبِ مِنِ اسْتِيلاَءِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ: الشَّيْطَانُ عَدُوُّ الإِنْسَانِ، وَالْفِكَاكُ مِنْهُ هُوَ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ مِنَ ¬

_ (¬1) انظر: إغاثة اللهفان، 1/ 136.

السبب الثالث: الابتعاد عن الوسوسة؛

الاسْتِعَاذَةِ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ: ((قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءَاً، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ، قُلهُ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ)) (¬1). وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالإِخْلاَصُ، يَمْنَعُ سُلْطَانَ الشَّيْطَانِ (¬2). السبب الثالث: الابتعاد عن الوسوسة؛ فإنها أعظم موانع الخشوع في الصلاة، فإذا نجا العبد من هذا المرض الخطير فقد نجا من شرور كثيرة: * والوسواس: الشيطان، قال الله - عز وجل -: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} (¬3). والوسوسة: حديث النفس والشيطان، بما لا نفع فيه ولا خير (¬4). وقال ابن الأثير: الوسوسة: هي حديث النفس والأفكار، ورجل مُوَسْوَسٌ: إذا غلبت عليه الوسوسة، وقد وسوست إليه نفسه، وسوسةً، وَوسْوَاساً ... ، والوسواس ... اسم للشيطان، ووسوسَ: إذا ¬

_ (¬1) الترمذي، برقم 3392، وأبو داود، برقم 5058، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 142. (¬2) انظر: إغاثة اللهفان، 1/ 145 - 162. (¬3) سورة الناس، الآية: 4. (¬4) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، باب السين فصل الواو، ص478.

* أسباب الوسوسة:

تكلم بكلام لم يُبيِّنهُ)) (¬1). وفي الحديث (( ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ ... )) (¬2). والفرق بين الشك والوسوسة: أن الشك: هو التَّردُّدُ في الوقوع وعدمه، فهو مستوي الطرفين، وهو اعتقاد أن تقاوم تساويهما لا مزية لأحدهما على الآخر، وأما الوسوسة فهي كما تقدم: حديث النفس والشيطان لا تُبْنَى على أصل، بخلاف الشك، فإنه يُبْنَى على أصل (¬3). * أسباب الوسوسة: 1 - قِلَّةُ العلم الشرعي: أي بالكتاب والسنة، وما عليه الصحابة وأتباعهم - رضي الله عنهم -. 2 - ضعف الإيمان؛ لأن الشيطان يتسلّط على أهل المعاصي، بخلاف قويّ الإيمان. 3 - الاسترسال مع الأفكار؛ فإن هذا الاسترسال يجعل للشيطان مدخلاً عليه. 4 - الغفلة عن ذكر الله تعالى؛ فإن الذكر يطرد الشيطان ووساوسه. 5 - ضعف العقل؛ فإن صاحب العقل الكامل المؤمن ينجو من الوسوسة بفضل الله تعالى. ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 186. (¬2) أبو داود، كتاب الأدب، بابٌ في الوسوسة، برقم 5112، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 256. (¬3) انظر: بغية المسترشدين، لعبد الرحمن بن محمد بن حسين بن عمر باعلوي، ص5.

* مظاهر الوسوسة عند الموسوسين:

6 - عدم مخالطة أهل العلم والإيمان الكامل. 7 - عدم اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الشيطان يدخل من هذا المدخل. وهذه الأسباب لها أدلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (¬1). * مظاهر الوسوسة عند الموسوسين: 1 - التأخر في حال الاستنجاء، أو الوضوء والاغتسال، وهذه أغلب حالات الوسواس. 2 - تكرار الوضوء، أو الطهارة، أو الصلاة، والإسراف في ماء الطهارة، وإعادة هذه العبادات؛ لأنه يظن أنها فاسدة. 3 - تكرير الحرف في ألفاظ القراءة، أو أذكار الصلاة وغيرها، كما ذكر ابن قدامة رحمه الله في ذم الموسوسين، وابن القيم في إغاثة اللهفان رحمه الله. 4 - إبدال الملابس؛ لأنه يتوهَّم أنه أصابها نجاسة. 5 - وسوستهم في العقيدة، وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ))، وفي لفظ لمسلم: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ))، وفي رواية لمسلم: ((يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ ¬

_ (¬1) انظر: تحفة المؤمنين في ذم الوسوسة وعلاج الموسوسين؛ لعبد الله بن سليمان العتيق، [مذكرة، ص5 - 7].

فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ))، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ وَزَادَ: ((وَرُسُلِهِ)) (¬1). وعن زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: مَا شَيءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ! قَالَ: فَقَالَ لِي أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ وَضَحِكَ. قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ ... )) الخبر، وفي آخره قال ابن عباس: ((إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئاً فَقُلْ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} (¬2) (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: ((جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: ((أوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ)). قَالُوا نَعَمْ. قَالَ: ((ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ))، وفي لفظ: ((تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ)) (¬4). وقوله: ((ذاك صريح الإيمان)) معناه: أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم، والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة (¬5). وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم 3276، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم 134. (¬2) سورة الحديد، الآية: 3. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب في الوسوسة، برقم 5110، وحسن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 256. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجده، برقم 132. (¬5) انظر: معالم السنن للخطابي، 4/ 136.

وعلاج الوسوسة على النحو الآتي:

رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ؛ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ))، وفي لفظ: ((رَدَّ أَمْرَهُ)) (¬1). والوسوسة خطيرة على المسلم، وقد ذكر الوسوسة وأحكامها، وأخطارها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن أعظم من فصَّل في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في: ((مجموع الفتاوى)) (¬2)، وتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه: ((إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان)) (¬3). وعلاج الوسوسة على النحو الآتي: 1 - طلب العلم الشرعي. 2 - تقوية الإيمان بالطاعات والنوافل. 3 - مداومة ذكر الله تعالى على كل حال؛ فهي حصن حصين من الوسوسة، ومن كلِّ شرٍّ. 4 - مجالسة الصاحين، ومخالطة الناس الذين يستفيد منهم. 5 - معرفة أن الحق هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الاعتراف بأن الوسوسة من أبطل الباطل. 7 - الاستعاذة بالله من الشيطان كما ثبت في الأدلة. 8 - لا يطيل الجلوس والمكث في الحمام أو الخلاء فوق ¬

_ (¬1) أبو داود، برقم 5112، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 3/ 256، وتقدم تخريجه في تعريف الوسوسة. (¬2) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 22/ 603 - 613. (¬3) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم، 1/ 126 - 163.

السبب الرابع: متابعة المؤذن من الأمور التي تجلب الخشوع في الصلاة:

حاجته؛ لأن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة؛ ولأن الحشوش والمراحيض مأوى الشياطين، والنفوس الخبيثة (¬1). 9 - ينضح فرجه وسراويله بالماء؛ ليدفع عن نفسه الوسوسة؛ لحديث الحكم بن سفيان قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بال توضأ وينتضح)) (¬2). 10 - إذا تَيَقَّنَ الطهارة ثم شَكَّ في الحدث فله أن يصلِّي بطهارته؛ لأنه على طهارة، وإذا تَيَقَّنَ الحدث ثم شَكَّ هل تطهَّر أم لا فليس له أن يصلي إلا بعد الطهارة؛ وإذا شكَّ بعد الانتهاء من العبادة، فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن يقيناً لا شك فيه، وإذا كثرت الشكوك فلا يلتفت إليها (¬3). السبب الرابع: متابعة المؤذن من الأمور التي تجلب الخشوع في الصلاة: لا شك أن متابعة المؤذن والقول مثل ما يقول تكون من أسباب جلب الخشوع في الصلاة؛ لأن إجابة المؤذن، بـ: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) فيها الالتجاء إلى الله تعالى، واعتماد القلب عليه، فلا حول ولا قوة للعبد إلا به سبحانه، قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال أبو الهيثم: الحول الحركة، أي لا حركة ولا استطاعة، إلا بمشيئة الله ... وقيل: لا حول في دفع شرٍّ، ولا قوّة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: ¬

_ (¬1) انظر: صلاة المؤمن للمؤلف، ص35. (¬2) أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الانتضاح، برقم 166، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 34. (¬3) انظر: صلاة المؤمن للمؤلف، ص50 [الحاشية]، وص280، وانظر: بحث مفيد، في ذم الوسوسة وعلاج الموسوسين، لعبد الله بن سليمان العقيل ص1 - 30 [مذكرة].

لا حول عن معصيته إلا بعصمته، ولا قوّة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود - رضي الله عنه -)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وقال الطيبي: معنى الحيعلتين: هلُمَّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلاً، والفوز بالنعيم آجلاً، فناسب أن يقول هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوّته)) (¬2). فيُسنُّ لمن سمع المؤذن والمقيم أن يتابعه سرّاً بقوله، فيقول مثله، إلا في الحيعلتين فيقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول الأذكار المشروعة بعد الأذان، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته في الذكر عند الأذان وبعده خمسة أنواع (¬3) على النحو الآتي: النوع الأول: يقول السامع مثل ما يقول المؤذن إلا في لفظ: ((حي على الصلاة، وحي على الفلاح))، فيقول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله))؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذِّن)) (¬4). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبرُ، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 328 - 329. (¬2) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 92. (¬3) قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد، 2/ 391: ((وأما هديه - صلى الله عليه وسلم - في الذكر عند الأذان فشرع لأمته منه خمسة أنواع ... )) ثم ذكر هذه الأنواع الآتية. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، برقم 611، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 383.

أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حيَّ على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة)) (¬1). النوع الثاني: يقول عقب تشهد المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربّاً، وبمحمدٍ رسولاً، وبالإسلام ديناً (¬2)، فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله ربّاً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غُفِرَ له ذنبُهُ)). وفي رواية: ((من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد ... )) (¬3). النوع الثالث: يُصلِّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من إجابة المؤذن؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا علي؛ فإنه من صلَّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم 385. (¬2) انظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 220، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، 12/ 194، وهكذا سمعته من شيخنا ابن باز غير مرة، أن المجيب يقول هذا الذكر بعد قول المؤذن الشهادتين. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم 386. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم 384.

النوع الرابع: يقول بعد صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ثبت في حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) (¬1). وثبت عند البيهقي زيادة: ((إنك لا تخلف الميعاد)) (¬2). النوع الخامس: يدعو لنفسه بعد ذلك، ويسأل الله من فضله؛ فإنه يستجاب له، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعوة لا ترد بين الأذان والإقامة فادعوا)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله وقدس روحه - يقول: ((هذه الأنواع تقال كلها مرة واحدة مجموعة مع كل أذان)) (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم 614. (¬2) سنن البيهقي، 1/ 410، وحسن إسناده الإمام ابن باز في تحفة الأخيار، ص38، وفي مجموع الفتاوى له، 29/ 305. (¬3) أحمد في المسند، بلفظه،3/ 225،وأبو داود، في كتاب الصلاة بابٌ في الدعاء بين الأذان والإقامة، برقم 521،بلفظ: ((لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة))،والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، برقم 212،وفي كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، رقم 3594،وصححه الألباني في إرواء الغليل،1/ 262. (¬4) سمعته أثناء تقريره على زاد المعاد، عند قول ابن القيم: ((فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في الأذان وأذكاره))، 2/ 391.

السبب الخامس: العمل بآداب المشي إلى الصلاة من أعظم ما يجلب الخشوع:

السبب الخامس: العمل بآداب المشي إلى الصلاة من أعظم ما يجلب الخشوع: إذا عمل المسلم بالآداب المشروعة في المشي إلى الصلاة؛ فإن ذلك يكون من أسباب التوفيق للخشوع في الصلاة، ومن هذه الآداب الآداب الآتية: 1 - يتوَضأ في بيته ويسبغ الوضوء؛ لحديث عمر - رضي الله عنه - يرفعه: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ)) (¬1)، زاد الترمذي: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ)) (¬2)، وفي النسائي: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ)) (¬3)، ثم يُصلِّي ركعتين بعد الوضوء؛ لحديث عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَه، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)) (¬4)؛ ولحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬2) الترمذي، كتاب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء، برقم 55، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 18. (¬3) النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 81، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل، 1/ 135، و2/ 92. (¬4) مسلم، كتاب الطهارة باب الذكر المستحب عقب الوضوء، برقم 234. (¬5) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، برقم 654.

2 - يبتعد عن الروائح الكريهة؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)). وفي لفظ لمسلم: ((فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه الإنس)). وفي لفظ لمسلم: ((من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم)) (¬1). 3 - يأخذ زينته ويتجمل؛ لقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2)؛ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جميل يحب الجمال)) (¬3). 4 - يدعو دعاء الخروج من المنزل ويخرج بنية الصلاة؛ فيقول: ((بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) (¬4). ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَ، أو أُزَلَّ، أو أظلِمَ أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجهل عليَّ)) (¬5). ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث، برقم 855، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوماً وبصلاً وكراثاً أو نحوها، برقم 564، و561، 567. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم 91. (¬4) إذا قال ذلك يقال حينئذ: ((هُديت، وكفيت، ووقيت، فتتنحى له الشياطين، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي، وكفي ووقي))، أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقال إذا خرج من بيته، برقم 5095، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته، برقم 3426، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 151. (¬5) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول الرجل إذا خرج من بيته، برقم 5094، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء فيما يقول إذا خرج من بيته، برقم 3427، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو الرجل إذا خرج من بيته، برقم 3884، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 336.

نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً، وعظِّم لي نوراً، واجعل لي نوراً، واجعلني نوراً، اللهم أعطني نوراً، واجعل في عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شعري نوراً، وفي بشري نوراً)) (¬1). 5 - لا يشبك بين أصابعه في طريقه إلى المسجد ولا في صلاته؛ لحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) (¬2). 6 - يمشي وعليه السكينة والوقار؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)). وفي لفظ: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) (¬3). وفي هذا الحديث الحث على إتيان الصلاة بسكينة ووقار، والنهي ¬

_ (¬1) جميع هذه الألفاظ من صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، برقم 6316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه، برقم 763، وفي رواية 191 - (763) فخرج إلى الصلاة وهو يقول. وكل هذه الروايات من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) الترمذي، أبواب الصلاة، بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّشْبِيكِ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي الصَّلَاةِ، برقم 387، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 121. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأتها بالسكينة والوقار، برقم 636، وكتاب الجمعة، باب المشي إلى الجماعة، برقم 908، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعياً، برقم 602.

عن إتيانها سعياً، سواء في صلاة الجمعة وغيرها، وسواء خاف فوت تكبيرة الإحرام أو لا، وقوله ((إذا سمعت الإقامة)) إنما ذكر الإقامة للتنبيه على ما سواها؛ لأنه إذا نُهي عن إتيانها سعياً في حال الإقامة مع خوفه فوت بعضها، فقبل الإقامة أولى، وأكَّد ذلك ببيان العلة فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة))، وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة، وأكَّد ذلك تأكيداً آخر، فقال: ((فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)). فحصل فيه تنبيه وتأكيد لئلا يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن النهي إنما هو لمن لم يخف فوت بعض الصلاة، فصرَّح بالنهي وإن فات من الصلاة ما فات، وبيَّن ما يفعل فيما فات (¬1). 7 - ينظر في نعليه قبل دخول المسجد، فإن رأى فيهما أذى مسحه بالتراب؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلِّ فيهما)) (¬2). وتطهير النعلين يكون بمسحهما بالتراب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وطئَ أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور)). وفي لفظ: ((إذا وطئَ الأذى بخفيه فطهورهما التراب)) (¬3). 8 - يقدم رجله اليمنى عند دخول المسجد ويقول: ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، 5/ 103. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين، برقم 650، وابن خزيمة، برقم 1017، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 128. (¬3) أبو داود، كتاب الطهارة، باب الأذى يصيب النعل، برقم 385، 386، وصححهما الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 77. (¬4) فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظَ مني سائر اليوم، أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخوله المسجد، برقم 446، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 92، من حديث عبد الله بن عمرو رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

[بسم الله والصلاة] (¬1) [والسلام على رسول الله] (¬2) [اللهم افتح لي أبواب رحمتك]؛ لحديث أبي حميد أو أبي أسيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)) (¬3). 9 - يُسلِّم إذا دخل المسجد على من فيه بصوت يسمعه من حوله؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (¬4). وقال عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: ((ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار)) (¬5). 10 - يُصلِّي تحية المسجد، فإن كان المؤذن قد أذن بعد دخول الوقت صلى الراتبة إن كان للصلاة راتبة، فإن لم يكن لها راتبة قبلها فسنة ما بين الأذانين؛ لأن بين كل أذانين صلاة، وتجزئ عن تحية المسجد، فإن دخل المسجد قبل دخول وقت الصلاة صلى ركعتين؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) (¬6). ¬

_ (¬1) ابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 88، وحسنه الألباني في الثمر المستطاب، ص 604. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخول المسجد، برقم 465، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 92. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم 113. (¬4) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم 54. (¬5) البخاري، كتاب الإيمان، باب السلام من الإسلام، 1/ 15. (¬6) متفق عليه: البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 44، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين ... ، برقم 714.

11 - إذا خلع نعليه داخل المسجد وضعهما بين رجليه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذي بهما أحداً، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصلِّ فيهما)). وفي لفظ: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله- يقول: ((الصلاة في النعال سنة خلاف اليهود، لكن بعد العناية، فإن رأى فيها شيئاً أزاله بالتراب أو الحجر أو غيره، أما المساجد المفروشة فقد يحصل عليها الغبار للتساهل من بعض الناس، فيحصل تنفير الناس، فالأولى عندي والله أعلم أن يوضع لها محل)) (¬2). 12 - يختار الجلوس في الصف الأول على يمين الإمام إن تيسر، بلا مزاحمة ولا أذىً لأحدٍ؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) (¬3)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف)) (¬4). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما؟ برقم 654، 655، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 128. (¬2) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 232، ورقم 233. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، برقم 615، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها ... ، برقم 437. (¬4) أبو داود، برقم 676، وابن ماجه برقم 1005، وحسنه المنذري، وابن حجر في فتح الباري 2/ 213، وتقدم تخريجه في فضل الصف الأول وميامن الصفوف.

13 - يجلس مستقبلاً القبلة يقرأ القرآن أو يذكر الله تعالى؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة)) (¬1). 14 - ينوي انتظار الصلاة ولا يؤذي؛ فإنه في صلاة ما انتظر الصلاة، وتُصلِّي عليه الملائكة، قبل الصلاة وبعدها مادام في مصلاه؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، وتقول الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ... )). وفي لفظ لمسلم: ((والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ، ما لم يحدث)) (¬2). 15 - إذا أقيمت الصلاة فلا يصلي إلا المكتوبة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) (¬3). 16 - يقدم رجله اليسرى عند الخروج من المسجد بعكس دخوله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله: في طهوره، وترجُّله، وتنعُّله (¬4). وكان ابن عمر رضي الله عنهما يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى (¬5). وقال أنس - رضي الله عنه -: ((من السنة إذا دخلت المسجد أن ¬

_ (¬1) الطبراني في الأوسط [مجمع البحرين، 5/ 278، برقم 3062]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 8/ 59: ((رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن)).، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 6/ 300. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، برقم 647، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم 649. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، برقم 710. (¬4) البخاري، كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، قبل الحديث رقم 426. (¬5) البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الصلاة، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، قبل الحديث 426.

السبب السادس: عدم الالتفات لغير حاجة

تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى (¬1). ويقول: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم إني أسألك من فضلك] (¬2) [اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم])) (¬3). السبب السادس: عدم الالتفات لغير حاجة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، فقال: ((هو اختلاسٌ يختلِسُه الشيطانُ من صلاةِ أحدِكم)) (¬4). والالتفات نوعان: النوع الأول: التفات حِسّي، وعلاجه بالسكون في الصلاة، وعدم الحركة. النوع الثاني: التفات معنوي بالقلب، وهذا علاجه صعب شاقٌّ، إلا على من يسَّره الله عليه، ولكن من أعظم العلاج استحضار عظمة الله، والوقوف بين يديه، والاستعاذة بالله من الشيطان، والتفل عن اليسار ثلاثاً؛ لحديث عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يُلَبِّسُها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك شيطان يقال له: خنزبٌ فإذا أحْسَسْتَه فتعوذْ بالله منه، واتفلْ عن يسارك ثلاثاً)) قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (¬5). السبب السابع: عدم رفع البصر إلى السماء؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ¬

_ (¬1) الحاكم، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 118. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه .... برقم 113، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، برقم 465. (¬3) ابن ماجه، كتاب المساجد، والجماعات، برقم 773، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 129. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب الالتفات في الصلاة، برقم 751، 3291. (¬5) مسلم، كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم 2203.

السبب الثامن: عدم افتراش الذراعين في السجود

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بالُ أقوامٍ يرفعون أبصارَهم إلى السماء في صلاتهم))؟ فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخَطَفَنَّ أبصارُهم)) (¬1). السبب الثامن: عدم افتراش الذراعين في السجود؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اعتدِلوا في السجود، ولا يبسطُ أحدُكم ذراعيه انبساطَ الكلب)) (¬2). السبب التاسع: عدم التخصر؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصِراً)) (¬3)؛ ولقول عائشة رضي الله عنها ((أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يدَه في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله)) (¬4). السبب العاشر: عدم النظر إلى ما يُلهي ويُشغل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة (¬5) لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنجبانية (¬6) أبي جَهْم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) (¬7). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم 750. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب لا يفترش ذراعيه في السجود، برقم 822، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود، ووضع الكفين على الأرض ... ، برقم 493. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة، برقم 1220، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الاختصار في الصلاة، برقم 545. (¬4) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم 3458. (¬5) الخميصة: كساء له أعلام. شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 47. (¬6) أنجبانية: كساء غليظ لا علم له. شرح النووي، 5/ 47. (¬7) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام، ونظر إلى علمها، برقم 373، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، برقم 556.

السبب الحادي عشر: عدم الصلاة إلى ما يشغل ويلهي

السبب الحادي عشر: عدم الصلاة إلى ما يشغل ويُلهي؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان قرام (¬1) لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويرُه تعرِض [لي] في صلاتي)) (¬2). السبب الثاني عشر: عدم الإقعاء المذموم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((وكان ينهى عن عقبة الشيطان)) (¬3)، هذا الإقعاء المكروه، وهو: أن يُلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب وغيره من السباع، وهذا الإقعاء على هذه الصفة مكروه باتفاق العلماء (¬4). وقد جاء نوع آخر في جواز الإقعاء بل سُنِّيَّته، فعن طاوس، قال: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين فقال: ((هي السنة)) فقلنا له: إنا لنراه جفاءً بالرجل، فقال ابن عباس: ((بل هي سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). وقد ذكر النووي - رحمه الله - أن العلماء اختلفوا اختلافاً كثيراً في الإقعاء وتفسيره، ثم قال: ((والصواب الذي لا معدل عنه أن الإقعاء نوعان: أحدهما: أن يُلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب ... وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي. والنوع الثاني: أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس بقوله: ((سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -)) (¬6) فظهر أن الإقعاء الذي اختار ابن عباس وغيره من ¬

_ (¬1) القرام: ستر رقيق من صوف، ذو ألوان. فتح الباري، 1/ 484. (¬2) البخاري، كتاب الصلاة، باب إن صلى في ثوب مُصلَّب أو تصاوير، هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك، برقم 374، 5959، وما بين المعقوفين من رواية في كتاب اللباس، باب كراهية الصلاة في التصاوير، برقم 5959. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، برقم 498. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 458، 461. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب جواز الإقعاء على العقبين، برقم 536. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 22.

السبب الثالث عشر: عدم عبث المصلي بجوارحه

العبادلة أنه من السنة: هو وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين والركبتين على الأرض (¬1) وهناك نوع ثالث للإقعاء وهو أن يفرش قدميه فيجعل ظهورهما نحو الأرض ويجلس (¬2) على عقبيه (¬3). السبب الثالث عشر: عدم عبث المصلي بجوارحه، أو مكانه لغير حاجة؛ لحديث معيقيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يسوِّي التراب حيث يسجد، قال: ((إن كنت فاعلاً فواحدة)) (¬4). السبب الرابع عشر: عدم تشبيك الأصابع، وفرقعتها في الصلاة؛ لحديث كعب بن عُجرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ أحدُكم فأحسنَ وضوءَه، ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) (¬5). فمن كان في الصلاة فهو أولى بالنهي (¬6)؛ ولقول ابن عمر رضي الله عنهما في الذي يصلي وهو مشبك بين يديه: ((تلك صلاة المغضوب عليهم)) (¬7). والتشبيك بين الأصابع يكره أثناء ¬

_ (¬1) نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 59، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 232، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، 2/ 157 - 161. وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((الإقعاء المكروه وهو أن ينصب فخذيه وساقيه ويعتمد على يديه، كالكلب، أما كونه يجلس على عقبيه فهذا سنة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما لكن الافتراش أفضل)). سمعته أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 289، وشرحه للروض المربع، 2/ 89. (¬2) وسمعت الإمام ابن باز رحمه الله أثناء شرحه للروض المربع،2/ 89 يقول: ((وهذه لا بأس بها سواء نصبهما أو جلس عليهما، والإقعاء المكروه هو نصب ساقيه وفخذيه ويعتمد على يديه كالكلب)). (¬3) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 89، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 317. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب العمل في الصلاة، باب مسح الحصى في الصلاة برقم 1207، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة، برقم 546. (¬5) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة، برقم 387، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 121. (¬6) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 324. (¬7) أبو داود، كتاب الصلاة، باب كراهة الاعتماد على اليد في الصلاة، برقم 993، وصححه الألباني في الإرواء، برقم 380، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 186.

السبب الخامس عشر: عدم الصلاة بحضرة الطعام

الذهاب إلى الصلاة، وفي أثناء الصلاة، أما بعد الصلاة فلا بأس به (¬1)؛لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((صلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ... الحديث)) (¬2). السبب الخامس عشر: عدم الصلاة بحضرة الطعام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بالعشاء)) (¬3)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة)) (¬4). ويشترط لذلك ثلاثة شروط: أولاً: أن يكون الطعام حاضراً، والثاني: أن تكون نفس المصلي تتوق إليه، فإذا كان شبعان لا يلتفت إليه فليصلِّ ولا كراهية، والثالث: أن يكون قادراً على تناوله حسّاً وشرعاً: فالحس كأن يكون ¬

_ (¬1) وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 93 يقول: ((التشبيك في الصلاة وعند الذهاب إليها جاء من طرق، أما التشبيك بعد الصلاة فلا بأس به)). (¬2) متفق عليه: البخاري واللفظ له، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم 482، ومسلم، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة، برقم 573، وسمعت شيخنا الإمام ابن باز يقول في تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 478 - 482: ((والتشبيك لا بأس به بعد الصلاة، أما قبل الصلاة وفي الصلاة فلا يشبك)) وذلك بتاريخ 10/ 6/1419هـ. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، برقم 671، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، برقم 558. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، برقم 674، ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، برقم 559.

السبب السادس عشر: عدم مدافعة الأخبثين [البول والغائط]

الطعام حارّاً لا يستطيع تناوله، والشرع كأن يكون المسلم صائماً ممنوعاً من الطعام شرعاً، فلا كراهة في الصلاة حينئذٍ (¬1). السبب السادس عشر: عدم مدافعة الأخبثين [البول والغائط] في الصلاة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان)) (¬2). وعن أبي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قال: ((مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ)) (¬3). السبب السابع عشر: عدم بصاق المصلي أمامه أو عن يمينه في الصلاة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قِبَلَ قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رَدَّ بعضه على بعض فقال: ((أو يفعل هكذا)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يرفعه، وفيه: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ¬

_ (¬1) الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 328، 330. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الحدث، برقم 560. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، قبل الحديث رقم 671، وقال ابن حجر في فتح الباري: ((وصله ابن المبارك في كتاب الزهد)) [رقم 1142]، وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب قدر الصلاة)). (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم 405، ومسلم، كتاب المساجد: باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، والنهي عن بصاق المصلي بين يديه وعن يمينه، برقم 551. (¬5) البخاري، كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد، برقم 406.

نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، ثم قال: ((إذا تنخمَّ أحدكم فلا يتنخَّمْ قِبَل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى)) (¬1). وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله مادام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها)) (¬2). وقد جزم الإمام النووي - رحمه الله - بالمنع من البزاق قِبَل القبلة وعن اليمين مطلقاً سواء كان داخل الصلاة أو خارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره؛ لأحاديث دلت على العموم (¬3). أما إذا كان المصلي في المسجد فيتعيَّن عليه أن لا يبصق مطلقاً إلا في ثوبه أو في منديل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)) (¬4). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عرضت علَّي أعمال أمتي: حَسنُها، وسَيئُها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: لا يبصق عن يمينه في الصلاة، برقم 410، 411، 408، 409، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 548. (¬2) البخاري، برقم 416، تقدم تخريجه في الذي قبله. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 39، والأحاديث التي دلت على العموم في الصلاة وفي غيرها وفي المسجد وغيره. انظرها في صحيح ابن خزيمة، 2/ 62، برقم 925، و2/ 278، برقم 1313، و1314، و3/ 83، برقم 1663، وصحيح ابن حبان [الإحسان]، 3/ 77،برقم 1636،و3/ 78،برقم 1637،وسنن أبي داود، برقم 3824، والبيهقي، 3/ 76.وانظر: سبل السلام للصنعاني، 3/ 170. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب كفارة البزاق في المسجد، برقم 415، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 552.

السبب الثامن عشر: عدم كف الشعر أو الثوب في الصلاة

ووجدتُ في مساوئ أعمالها النَّخاعة تكون في المسجد ولا تدفن)) (¬1). السبب الثامن عشر: عدم كف الشعر أو الثوب في الصلاة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أُمرت أن أسجد على سبعة أعظُمٍ، ولا أكفَّ ثوباً، ولا شعراً)) (¬2). السبب التاسع عشر: عدم عقص الرأس في الصلاة؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه رأى عبد الله بن الحارث يُصلِّي ورأسه معقوصٌ (¬3) من ورائه، فقام فجعل يحلّه، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: مالك ورأسي؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف)) (¬4). السبب العشرون: عدم تغطية الفم في الصلاة. السبب الحادي والعشرون: عدم السدل في الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن السدل (¬5) في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه)) (¬6). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن البصاق في المسجد، برقم 553. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف، برقم 812، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم 490. (¬3) معقوص: المعقوص هو نحو من المضفور، وأصل العقص: اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 275، والمصباح المنير للفيومي، 2/ 422. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود، والنهي عن كف الشعر، والثوب، وعقص الرأس في الصلاة، برقم 492. (¬5) السدل: وهو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك، وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. النهاية لابن الأثير، 2/ 355، والمصباح المنير، 1/ 271. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب السدل في الصلاة، برقم 643، بلفظه، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما يكره في الصلاة، برقم 966، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 126، وصحيح ابن ماجه، 1/ 159.

السبب الثاني والعشرون: عدم تخصيص مكان من المسجد للصلاة فيه

السبب الثاني والعشرون: عدم تخصيص مكان من المسجد للصلاة فيه دائماً لغير الإمام؛ لحديث عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهى عن نقرة الغراب، وعن فرشة السبع، وأن يُوطِّن الرجل مقامه في الصلاة كما يُوطِّن البعير)) (¬1). السبب الثالث والعشرون: عدم الاعتماد على اليد في الجلوس في الصلاة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده)) (¬2). السبب الرابع والعشرون: عدم التثاؤب في الصلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع)) (¬3)؛ ولحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل))، وفي لفظ: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع؛ فإن الشيطان يدخل)) (¬4)، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((والمشروع هنا ثلاثة أمور: 1 - يكظم ما استطاع. ¬

_ (¬1) أحمد، 5/ 446 - 447، والحاكم عن عبد الرحمن بن شبل، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 229، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 360، وفي صحيح أبي داود، 1/ 224، وفي صحيح ابن ماجه، برقم 1429. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة، برقم 992، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 186. (¬3) مسلم، كتاب الزهد، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، برقم 2994. (¬4) مسلم، كتاب الزهد، باب تشميت العاطس، وكراهة التثاؤب، برقم 2995.

السبب الخامس والعشرون: عدم الركوع قبل أن يصل إلى الصف

2 - يضع يده على فيه. 3 - لا يقل: ها حتى لا يضحك منه الشيطان)) (¬1). السبب الخامس والعشرون: عدم الركوع قبل أن يصل إلى الصف؛ لحديث أبي بكرة، أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) (¬2). السبب السابع: عدم رفع البصر إلى السماءالسبب السادس والعشرون: عدم الصلاة في المسجد لمن أكل البصل والثوم أو الكراث؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فلْيَعْتَزِلْنَا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)).وفي لفظ لمسلم: ((فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه الإنس)). وفي لفظ لمسلم: ((من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم)) (¬3). السبب السابع والعشرون: عدم صلاة النفل عند مغالبة النوم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه)) (¬4)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 261. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب: إذا ركع دون الصف، برقم 783. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث، برقم 855، ومسلم، كتاب المساجد، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً، أو كراثاً، برقم 564، ومن رقم 561 - 567. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، برقم 212، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، برقم 786.

السبب الثامن والعشرون: الصلاة إلى سترة والدنو منها

يرفعه: ((إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدرِ ما يقول، فليضطجع)) (¬1). السبب الثامن والعشرون: الصلاة إلى سترة والدنوِّ منها: من الأمور التي تجلب الخشوع في الصلاة: أن يجعل المُصلِّي له سترة يصلِّي إليها إن كان إماماً أو منفرداً؛ لحديث سبرة بن معبدٍ الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليستترْ أحدُكم في الصلاة ولو بسهمٍ)) (¬2)؛ولحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدُكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرَّحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل فإنه يقطع صلاته: الحمار، والمرأة، والكلب الأسود)) (¬3). ويتأكد الدّنوُّ من السترة والصلاة إليها؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا صلى أحدُكم فليصلِّ إلى سترةٍ، وليدنُ منها)) (¬4)؛ ولحديث سهل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى ¬

_ (¬1) مسلم، الكتاب السابق، برقم 787. (¬2) أخرجه الحاكم،1/ 252، بنحوه، والطبراني في الكبير، 7/ 114 بلفظه، برقم 6539، وأحمد، 3/ 404 بلفظ: ((إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم))،وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد،2/ 58، وقال: ((رجال أحمد رجال الصحيح))، وسمعت سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول في تعليقه على بلوغ المرام، الحديث رقم 244: ((دل هذا الحديث على تأكد السترة ولو بسهم)). (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، برقم 510. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه، برقم 698، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 135: ((حسن صحيح))، وسمعت العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول في تعليقه على حديث 244 من بلوغ المرام: ((إسناده جيد، وهو يدل على تأكد السترة والدّنوِّ منها)).

سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا؛ لاَ يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلاتَهُ)) (¬1). ويجعل بينه وبين سترته قدر ممر الشاة، أو قدر مكان السجود، ولا يزيد على قدر ثلاثة أذرع، وكذلك بين الصفوف؛ لحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: ((كان بين مُصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار ممر الشاة)) (¬2). وإذا أراد أحد أن يَمُرَّ بين يديه ردّه، ودافعه؛ فإن لم يمتنع دافعه بقوة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعْه، فإن أبى فليقاتلْه؛ فإنما هو شيطان)) (¬3). وفي رواية لمسلم: ((فإن معه القرين)) (¬4). ولا يجوز المرور بين يدي المُصَلِّي؛ لحديث أبي جُهيم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلمُ المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرَّ بين يديه)) قال أبو النضر أحد الرواة: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة (¬5). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدُّنوِّ من السترة، برقم 695، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 203. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة برقم 496، ومسلم، كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة، برقم 508، وانظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 145. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: يردُّ المصلي من مرَّ بين يديه، برقم 509، ومسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، برقم 505. (¬4) مسلم في الكتاب والباب السابقين، برقم 506، وسمعت سماحة العلامة ابن باز أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 248، يقول: ((وهذا يدل على أنه يشرع للمصلي إذا مر أحد بينه وبين سترته أن يرده، وظاهر النصوص الأخرى أن يردّه مطلقاً سواء كان له سترة أم لا، إلا إذا كان بعيداً، ويردّ المار بالأسهل فالأسهل كما يردُّ الصائل)). (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إثم المار بين يدي المصلي، برقم 510، ومسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، برقم 507.

السبب التاسع والعشرون: وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر

وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وفيه: أنه أقبل راكباً على حمارٍ أتانٍ، وهو يومئذ قد ناهز الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس إلى غير جدار، فسار ابن عباس على حماره بين يدي بعض الصف الأول، ثم نزل عنه فصفَّ مع الناس وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر ذلك عليه أحد (¬1). وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا يدل على أن المأمومين سترتهم سترة إمامهم، فلا يضرهم من مرّ من أمامهم إذا كان لإمامهم سترة)) (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال العلماء: الحكمة في السترة: كف البصر عما وراءه ومنع من يجتاز بقربه ... )) (¬3). السبب التاسع والعشرون: وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر: من الأمور التي تجلب الخشوع وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر أثناء قيامه في الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع يديه على صدره: اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد؛ لحديث وائل بن حُجْر قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)) (¬4)، وفي لفظ: ((ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب: سترة الإمام سترة من خلفه، برقم 493، وألفاظه من هذا ومن رقم 1857، 4412، ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، برقم 504. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري على الحديث رقم 493، في جامع سارة بالرياض، بتاريخ 10/ 6/1419هـ. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 216. (¬4) أخرجه ابن خزيمة، في صحيحه،1/ 243،برقم 479،والحديث جاء من طرق أخرى بمعناه، ولفظ مسلم، برقم401: ((وضع يده اليمنى على اليسرى))،وله شواهد. انظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 243،وصفة الصلاة للألباني، ص79،وسمعت سماحة شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الحديث رقم 293 من بلوغ المرام يقول: ((وهكذا رواه أحمد عن قبيصة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع يديه على صدره، وإسناده حسن)).

والرُّسغ والساعد)) (¬1)، وهذا يَعمُّ القيام بعد الرفع من الركوع؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - في لفظ آخر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله)) (¬2)، وهذا الحديث فيه صفة القبض، والأحاديث الأخرى فيها صفة وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: ((إذن هاتان صفتان: الأولى قبض، والثانية وضع)) (¬3). وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرَّجُلُ يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)). قال أبو حازم: لا أعلمه إلا يَنْمِي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4)، وسمعت سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا يحتمل أن يكون نوعاً ثانياً، ويحتمل أن يكون المراد مثل حديث وائل)) (¬5). وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن المراد بوضع اليدين إحداهما على الأخرى حال القيام، فقال: ((هو ذلٌّ بين يدي ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، برقم 727، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 889، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 68 - 69، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص79. (¬2) النسائي، كتاب الافتتاح، باب وضع اليمنى على الشمال في الصلاة، برقم 887، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 193. (¬3) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 3/ 44. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، برقم 740. (¬5) سمعته من سماحته أثناء تقريره على الحديث رقم 293 من بلوغ المرام.

السبب الثلاثون: الإشارة بالسبابة وتحريكها في الدعاء في التشهد

العزيز)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث، وأقرب إلى الخشوع)) (¬2). وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: سمعت نبي اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ فِطْرِنَا، وَتَأْخِيرِ سُحُورِنَا، وَوَضْعِ أَيْمَانِنِا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلاَةِ)) (¬3). السبب الثلاثون: الإشارة بالسبابة وتحريكها في الدعاء في التشهد: الإشارة بالسبابة تجلب الخشوع، وفيها إغاظة للشيطان؛ لحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنه كان إذا جلس في الصلاة، وضع يديه على ركبتيه، وأشار بإصبعه وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَهِيَ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الْحَدِيدِ)) يعني السبابة (¬4). فالإشارة بالسبابة عند التشهد في الصلاة أشَدَّ على الشيطان من الضرب بالحديد؛ لأنها تُذَكِّر العبد بوحدانيَّة الله تعالى، والإخلاص في العبادة، وهذا أعظم شيء يكرهه الشيطان نعوذ بالله منه)) (¬5). ¬

_ (¬1) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص21. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 2/ 224. (¬3) الطبراني في الكبير، برقم 11485، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/ 155: ((رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح))، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص87، وفي صحيح الجامع، برقم 2282، 2286، وصححه في صفة الصلاة، ص 87. (¬4) أحمد في المسند، 2/ 119، وحسن إسناده الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص171. (¬5) انظر: الفتح الرباني للساعاتي، 4/ 15.

فالمصلي يستحب له في الجلوس في التشهد أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى أو ركبته اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض أصابع اليمنى كلها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى)) (¬1). ويُحَلِّق الإبهام والوسطى، ويقبض الخنصر والبنصر، ويشير بالسبابة؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حلَّق الإبهام والوسطى ورفع التي تليها يدعو بها في التشهد)) (¬2). أو يعقد ثلاثاً وخمسين ويشير بالسبابة، وصفتها أن يجعل الإبهام مفتوحة تحت المُسبِّحة، وهي أن يجعل الإبهام في أصل الوسطى أو يعطف الإبهام إلى أصلها (¬3)؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى (¬4)، وعقد ثلاثاً ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 116 - (580)، و114 - (580). (¬2) ابن ماجه، برقم 912، وتقدم تخريجه. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 86، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 308، 310، والتلخيص الحبير لابن حجر، 1/ 262. (¬4) وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((جاء في هذا عدة روايات: 1ـ تارة يضع يديه على فخذيه. 2ـ وتارة يضعهما على ركبتيه. 3 - وتارة يضع يديه على فخذيه وأطراف الأصابع على ركبتيه. وأما ما يتعلق باليمنى فجاء فيها ما في حديث ابن عمر. وجاء فيها ما في حديث وائل، وهو أنه يعقد الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة ويقبض الخنصر والبنصر، وخلاصة ما جاء في ذلك ثلاث صور: 1 - تارة يقبض الأصابع كلها ويشير بالسبابة. 2 - وتارة يحلق الإبهام والوسطى ويقبض الخنصر والبنصر ويشير بالسبابة. 3 - وتارة يعقد ثلاثاً وخمسين ويشير بالسبابة، وقيل في هذه الصفة: إنه يجعل طرف الإبهام في أصل الوسطى، والإشارة بالإصبع إشارة إلى التوحيد، والأقرب أنه كان يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا تارة: أي صفة قبض اليد والإشارة بالسبابة)) سمعته من سماحته رحمه الله أثناء تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 332.

وخمسين (¬1)، وأشار بالسبابة)) (¬2) فظهر ثلاثة أنواع لليد اليمنى: النوع الأول: قبض الأصابع كلها، والإشارة بالسبابة. النوع الثاني: تحليق الإبهام والوسطى وقبض الخنصر والبنصر والإشارة بالسبابة. ¬

_ (¬1) وقيل في صفة ثلاثة وخمسين أقوال يفسر بعضها بعضاً، فقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: ((وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة)) 1/ 262، وقال الإمام النووي: ((واعلم أن قوله: عقد ثلاثاً وخمسين شرطه عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر، وليس ذلك مراداً هاهنا، بل المراد أن يضع الخنصر على الراحة ويكون على الصورة التي يسميها أهل الحساب تسعة وخمسين والله أعلم)). شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 86، ومراده ((بسط الخنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف وبسط البنصر فوقها، وبسط الوسطى فوقها، وعطف الإبهام إلى أصلها)) انظر: سبل السلام، 2/ 301. وقال الإمام الصنعاني نقلاً عن ابن حجر في التلخيص: ((صورتها أن يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبحة)) هكذا نقل ولعلها في نسخة فنقلها الصنعاني، وقد تقدم كلام الحافظ آنفاً، انظر: سبل السلام، 2/ 308، أما ما ذكر الصنعاني، 2/ 310 في طريقة العرب في الحساب لهذه الصورة فهي: عقد الخنصر والبنصر والوسطى وعطف الإبهام إلى أصلها)) 2/ 310، وسمعت سماحة الإمام ابن باز يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 332: ((وقيل في هذه الصفة: إنه يجعل طرف الإبهام في أصل الوسطى)). (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 115 - ((580)).

النوع الثالث: عقد ثلاثاً وخمسين والإشارة بالسبابة، وكلها صحيحة، وينظر أثناء جلوسه إلى إشارة سبابته؛ لحديث عبد الله بن الزبير رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة، لا يجاوز بصره إشارته)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمى ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع)) (¬2). ويشير بالسبابة عند ذكر الله - عز وجل - حال الدعاء موجهة إلى القبلة، هذا هو السنة (¬3) يحركها إلى القبلة عند ذكر الله تعالى يدعو بها (¬4)، ولا ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب السهو، باب موضع البنصر عند الإشارة وتحريك السبابة، برقم 1275، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي: ((حسن صحيح)) 1/ 272. (¬2) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع البصر في التشهد، برقم 1660، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي: حسن صحيح، 1/ 250. (¬3) قال الإمام النووي: ((والسنة أن لا يجاوز بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في سنن أبي داود، ويشير بها موجهة إلى القبلة، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص والله أعلم))، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 85. (¬4) اختلف العلماء في موضع الإشارة بالسبابة، فقيل: 1 - يحركها عند ذكر الله فقط. 2 - وقيل: عند ذكر الله وذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - وقيل: يشير بها في جميع التشهد أي يحركها تحريكاً دائماً. 4 - وقيل: يشير عند ((إلا الله)). والصواب أنه يشير بها عند الدعاء وذكر الله فقط، وتبقى منصوبة فيما عدا ذلك. انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 535 - 536، ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 66 - 68، وسبل السلام، 2/ 308 - 309، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 85، والمغني لابن قدامة، 2/ 119، والشرح الكبير لابن قدامة، 3/ 532، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 200 - 202.

يحركها في غير ذكر الله والدعاء، بل تبقى منصوبة (¬1)، ويدل على تحريكها عند الدعاء حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم قعد وافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلَّق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها)) (¬2)،ودلَّ على عدم تحريكها دائماً حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يُحرِّكها)) (¬3)، فالجمع بين الحديثين سَهْلٌ: فنفي التحريك يراد به التحريك الدائم، وإثبات التحريك يراد به التحريك عند الدعاء (¬4)، وتكون الإشارة بالسبَّاحة من اليد اليمنى، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة بإصبع واحدة، فعن أبي ¬

_ (¬1) وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 64، في فجر الأحد 3/ 8/1419هـ يرجح: ((أن السبابة لا يحركها عند الإشارة وإنما تبقى منصوبة، إلا عند الدعاء فيحركها، ثم قال: والصواب أنها تحرك عند الدعاء، أما غير الدعاء فلا يحركها وإنما يشير بها)). (¬2) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 890، وكتاب السهو باب قبض الاثنتين من أصابع اليد اليمنى، وعقد الوسطى والإبهام منها وتحريك الأصبع، برقم 1268، وصححه الألباني، في صحيح النسائي، 1/ 194، و1/ 271، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 140، 180، وقد أخرجه أيضاً أبو داود، برقم 957، وأحمد 4/ 318، وتقدم تخريجه. (¬3) النسائي، كتاب السهو، باب بسط اليسرى على الركبة، برقم 1270، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في التشهد، برقم 989، وصححه النووي في المجموع 3/ 454، وقال الأرنؤوط في حاشية زاد المعاد، 1/ 238: ((وسنده صحيح)). (¬4) وبهذا جمع البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 132، وانظر: سبل السلام، 2/ 309، والشرح الممتع للعلامة محمد بن صالح العثيمين، 3/ 202 ..

السبب الحادي والثلاثون: النظر إلى موضع السجود وإلى السبابة

هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يدعو بإصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحِّدْ، أحِّدْ)) (¬1) وعن سعد قال: مرَّ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصابِعِي، فقال: ((أحِّدْ، أحِّدْ)) وأشار بالسبابة (¬2). والحكمة في الإشارة بالسباحة إلى أن المعبود - سبحانه وتعالى - واحد، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه، فيكون جامعاً في التوحيد بين القول، والفعل، والاعتقاد (¬3)، فعلى ما تقدم يشير بالسبَّاحة عند ذكر الله يدعو بها (¬4). السبب الحادي والثلاثون: النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة: ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ: حدثنا محمد بن بشار، برقم 3557، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح غريب)) والنسائي، كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بإصبعين وبأي إصبع يشير، برقم 1272 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بإصبعين وبأي إصبع يشير، برقم 1273، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬3) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 68، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 309. (¬4) اختلف العلماء في معنى كلمة ذكر الله، فقيل: عند ذكر الجلالة، وعلى هذا فإذا قال: ((التحيات لله)) يشير ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله)) يشير، ((السلام علينا وعلى عباد الله)) يشير، ((أشهد أن لا إله إلا الله)) يشير، فهذه أربع مرات في التشهد الأول، ((اللهم صلِّ)) يشير، ((اللهم بارك)) يشير، ((أعوذ بالله من عذاب جهنم)) يشير، وقيل: يشير بها عند الدعاء، فكلما دعوت حركت إشارة إلى علو المدعو - سبحانه وتعالى -، وعلى هذا فإذا قال: ((السلام عليك أيها النبي)) يشير؛ لأن السلام خبر بمعنى الدعاء، ((السلام علينا)) يشير، ((اللهم صلّ على محمد)) يشير، ((اللهم بارك على محمد)) يشير، ((أعوذ بالله من عذاب جهنم)) يشير، ((ومن عذاب القبر)) يشير، ((ومن فتنة المحيا والممات)) يشير، ((ومن فتنة المسيح الدجال)) يشير، وكلما دعا يشير. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 201 - 202،قلت: والظاهر والله أعلم أنه يشير عند لفظ الجلالة، وعند الضمير الذي يعود عليه، وعند الدعاء إشارة إلى علو المدعو سبحانه.

النظر إلى موضع السجود وإلى السبابة أثناء التشهد يعين على الخشوع في الصلاة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، فالسنة أن ينظر المصلي موضع سجوده، فقد ذُكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كَانَ إذا صَلّى طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَرَمَى بِبَصَرِهِ نحْوَ الأَرْضِ)) (¬1). و ((عندما دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَعْبَةَ مَا خَلَّفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا)) (¬2). وأما في الجلوس في التشهد فينظر إلى سبابة يده اليمنى، ولا يجاز بصره ذلك؛ لحديث عبد الله بن الزبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، واليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة ولم يجاز بصره إشارته)) (¬3)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنه وضع يده اليمنى على فخذه، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة، ورمى ببصره إليها، أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع)) (¬4). ¬

_ (¬1) البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 283، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص80، قال الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص80: ((وللحديث ... شاهد من حديث عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)). (¬2) الحاكم في المستدرك، 1/ 479. وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص80. (¬3) أحمد بلفظه، 4/ 3، برقم 16100، وابن خزيمة، 1/ 355، برقم 718، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في التشهد، برقم 990، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 276: ((حسن صحيح)). (¬4) ابن خزيمة، برقم 719، 1/ 356، وقال المحقق لصحيح ابن خزيمة: محمد مصطفى الأعظمي ((إسناده صحيح)).

السبب الثاني والثلاثون: العلم بأنه يدعو الله ويخاطبه وأن الله يرد عليه ويجيبه:

السبب الثاني والثلاثون: العلم بأنه يدعو الله ويخاطبه وأن الله يرَدّ عليه ويُجيبه: المسلم يخاطب ربه تعالى في صلاته، والله تعالى يجيبه؛ فإذا عَلِمَ ذلك، فإنه يخشع في صلاته، ويُقْبِلُ بقلبه إلى ربه - سبحانه وتعالى -؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَل)) (¬1). وهذا حديث قدسي عظيم جليل، لو استحضره كل مصلٍّ لحصل له الخشوع الكامل في صلاته. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، نَادَى رَجُلاً كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، فَقَالَ: ((يَا فُلاَنُ، أَلاَ تَتَّقِي اللهَ، أَلاَ تَنْظُرُ كَيْفَ تُصَلِّي، إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرُ كَيْفَ يُنَاجِيهِ)) (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... برقم 395. (¬2) مستدرك الحاكم، 1/ 236، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2202.

السبب الثالث والثلاثون: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:

السبب الثالث والثلاثون: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: الشيطان عدوٌّ لنا، ومن عداوته قيامه بالوسوسة للمُصلِّي؛ كي يذهب خشوعه، ويُلَبِّس عليه صلاته. والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو بغيره، لا بد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر، والصلاة، ولا يضجر؛ فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (¬1). وكلما أراد العبد تَوجُّهاً إلى الله تعالى بقلبه، جاء من الوسوسة أمور أخرى؛ فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد السير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: ((إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، قال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب)) (¬2). وقد تقدم قول الإمام ابن القيم رحمه الله في أقسام القلوب الثلاثة فقال: ((وقد مُثّل ذلك بمثالٍ حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه، وذخائره، وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد، وذخائره، وجواهره، وليس جواهر الملك، وذخائره، وبيت خالٍ، صفر، لا شيء فيه، فجاء اللصّ يسرق من أحد البيوت، فمن أيِّها ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 76. (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية،22/ 608،وسبق تخريج الأثر في المبحث الثامن: حكم الوسواس في الصلاة.

يسرق؟)) (¬1). والعبد إذا قام في الصلاة، غار الشيطان منه؛ فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه، وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص، ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه؛ بل لا يزال به يَعِدُه، ويمنّيه، وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله، حتى يهوّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء، والحاجة، وأيس منها، فيُذكِّره إيَّاها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله - عز وجل -، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى، وكرامته، وقربه ما يناله المقبل على ربه - عز وجل - الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته، مثلما دخل فيها بخطاياه، وذنوبه، وأثقاله، لم تُخَفَّفْ عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفِّر سيئات من أدَّى حقَّها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه (¬2). ولمواجهة كيد الشيطان، وإذهاب وسوسته، أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العلاج الآتي: عن أَبِي الْعَاصِ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي، يَلْبِّسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ ¬

_ (¬1) الوابل الصيب، ص: 43، وتقدم. (¬2) الوابل الصيب لابن القيم، ص: 36 - 37.

عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثاً))، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي (¬1). ومن كيد الشيطان للمُصلِّي: ما أخبرنا عنه - صلى الله عليه وسلم -، وعن علاجه فقال: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ)) (¬2). ومن كيده كذلك ما أخبرنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَدَ حَرَكَةً فِي دُبُرِهِ أَحْدَثَ أَوْ لَمْ يُحْدِثْ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً)) (¬3). بل إن كيده ليبلغ مبلغاً عجيباً كما يوضحه هذا الحديث، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن الرجل يخيّل إليه في صلاته أنه أحدث ولم يُحدِث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ حَتَّى يَفْتَحَ مَقْعَدَتَهُ، فَيُخَيِّلُ إِلَيْهِ أنَّهُ أَحْدَثَ، وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلاَ يَنْصَرِفَنْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَ ذَلِكَ بأذنه، أَوْ يَجِدَ رِيحَ ذَلِكَ بِأَنْفِهِ)) (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم 2203. (¬2) البخاري، كتاب السهو، باب السهو في الفرض والتطوع، برقم 1232، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 389. (¬3) البخاري، كتاب الوضوء، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، برقم 137، ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم 361، وأبو داود واللفظ له، كتاب الطهارة، باب إذا شك في الحدث، برقم 177. (¬4) الطبراني في المعجم الكبير، 11/ 222، برقم 11556، وأخرجه أيضاً البزار، كما في كشف الأستار، 1/ 147، برقم 281، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 242: ((رجاله رجال الصحيح)).

السبب الرابع والثلاثون: تدبر القرآن في الصلاة يجلب الخشوع:

السبب الرابع والثلاثون: تدبّر القرآن في الصلاة يجلب الخشوع: لا شك أن تدبُّر القرآن الكريم في الصلاة يجلب الخشوع، ويطرد الغفلة، وهو العلاج الأعظم للقلوب، والحث على التدبر جاء على أنواع كثيرة، منها الأنواع الآتية: النوع الأول: حض القرآن الكريم على التدبر: 1 - قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (¬1)، فقد أمر الله تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمُّل في معانيه، وتحديد الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك؛ فإنَّ تدبر كتاب الله مفتاحٌ للعلوم والمعارف، وبه يُستنتج كل خير، وتُستخرج كل العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته؛ فإنه يُعرِّف بالرب المعبود وما له من صفات الكمال، وما ينزَّه عنه من صفات النقص، ويُعرِّف الطريق الموصل إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب، وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد: علماً، وعملاً, وبصيرة (¬2). 2 - قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (¬3)،فهذا الكتاب فيه خيرٌ كثيرٌ، وعِلْم غزير، فيه كل ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 82. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص189 - 190. (¬3) سورة ص، الآية: 29.

النوع الثاني: حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على تدبر القرآن:

هدى من ضلالة، وشفاء من كل داء، ونور يُستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلَّفون، وهذا كله من بركته والحكمة من إنزاله؛ ليتدبر الناس آياته، وفي هذه الآية: الحثُّ على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، ومن فضائل التدبر: أنَّ العَبْدَ يصل به إلى درجة اليقين، والعلم بأن القرآن كلام الله تعالى؛ لأنه يراه يصدق بعضه بعضاً ... (¬1). 3 - قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬2)، فَهلاَّ يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله ويتأمَّلونه حق التأمُّل؛ فإنهم لو تَدَبَّروه لدلَّهم على كل خير ولحذَّرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان؛ ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية ... {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أي قد أُغْلِقَ على ما فيها من الشر، وأقفلت فلا يدخلها خير أبداً، هذا هو الواقع ... (¬3). النوع الثاني: حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على تدبر القرآن: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترغيب في القرآن، وبيان فضائله، وبيان فضائل حافظ القرآن، يستفاد منه الحث على تدبر القرآن. وقد جاء تدبر القرآن من فعله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً في أحاديث كثيرة ومنها: 1 - حديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى يصلي، فقلت: يُصلِّي ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص190وَص712. (¬2) سورة محمد، الآية: 24. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص788.

بها في ركعة، فمضَى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوّذ تعوّذ ... )) (¬1). 2 - حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -،قال: قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ سورة البقرة، لا يَمُرُّ بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ ... )) (¬2). 3 - عن أبي جحيفة - رضي الله عنه -، قال: قالوا: يا رسول الله نراك قد شبت قال: ((قد شيَّبتني هود وأخواتها)) (¬3)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: ((شيَّبتني: هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كوِّرت)) (¬4). وهذا يدل على كمال تدبره - صلى الله عليه وسلم - للقرآن حق التدبر. 4 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((زيّنوا القرآن بأصواتكم)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم772. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 873، واللفظ له، والنسائي، كتاب التطبيق، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1048، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 247،وفي صحيح النسائي، 1/ 342. (¬3) الترمذي، في الشمائل المحمدية، برقم 42، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40. (¬4) الترمذي، في الشمائل المحمدية، برقم 41، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1468، والنسائي، كتاب الصلاة، باب تزيين القرآن بالصوت، برقم 1016، وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 404.

النوع الثالث: حث الصحابة - رضي الله عنهم - على تدبر القرآن

النوع الثالث: حث الصحابة - رضي الله عنهم - على تدبر القرآن: 1 - قال أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -: ((لو طَهُرَتْ قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم)) (¬1). 2 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((من أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله)) (¬2). 3 - وقال خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه -: ((تقرَّبْ إلى الله ما استطعت واعلم أنك لن تتقرب بشيء أحبّ إليه من كلامه)) (¬3). 4 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((من أراد العلم، فليقرأ القرآن؛ فإن فيه علم الأولّين والآخرين)) (¬4). 5 - وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((إنَّ من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقَّدونها في النهار)) (¬5). النوع الرابع: حث العلماء على تدبر القرآن وتعظيمهم لذلك: لا شك أن من أحبَّ القرآن تدبَّره، وأقبل على التلذّذ بتلاوته، وهذا دليل على محبته للمتكلِّم به سبحانه؛ ولهذا قال أبو عبيدٍ رحمه الله: ((لا يسأل عبدٌ نفسه إلا بالقرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في زوائد الزهد، ص128. (¬2) رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم 8658،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد،7/ 165: ((رجاله ثقات)). (¬3) رواه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 441. (¬4) مصنف بن أبي شيبة، 10/ 485، والمعجم الكبير للطبراني، 9/ 136، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 332. (¬5) التبيان للنووي، ص 28.

ورسوله)) (¬1). وقد تكلم العلماء رحمهم الله تعالى في الحث على تدبر القرآن العظيم، ومن أبرز من حث على ذلك من الأئمة ابن القيم رحمه الله في كتبه، فقد ذكر رحمه الله: أنّ تدبر القرآن مع الخشوع عند قراءته هو المقصود والمطلوب، فبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال رحمه الله: ((إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته، وسماعه، وألقِ سمعك، واحْضُر حضور من يخاطبه به من تكلم به، منه إليه، فتمام التأثير موقوف على: مؤثر مقتضٍ، ومحلٍ قابلٍ، وشرطٍ لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد})) (¬2). فقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى ها هنا، وهذا هو المؤثر. وقوله: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} القلب الحي، وهذا هو المحل القابل، كما قال الله تعالى: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} (¬3). وقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي وجّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام. ¬

_ (¬1) مسند ابن الجعد، برقم 1956. (¬2) سورة ق، الآية: 37. (¬3) سورة يس، الآية: 70.

وقوله تعالى: {وَهُوَ شَهِيد} أي شاهد القلب حاضر غير غائب، واستمع كتاب الله، وشاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساهٍ، وهذا إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عما يقال له، والنظر فيه، وتأمله. فإذا حصل المؤثر: وهو القرآن، والمحل القابل: وهو القلب الحي، ووجد الشرط: وهو الإصغاء، وانتفى المانع: وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر، وهو: الانتفاع، والتذكر (¬1). فلا بد من تدبر القرآن، وتعقّله، والتفكر في معانيه؛ لأن الله - عز وجل - أمر بذلك. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((القرآن حياة القلوب، وشفاء لما في الصدور ... فبا لجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر، والتفكر ... وهذا الذي يورث المحبة، والشوق، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والرضا، والتفويض، والشكر، والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله. وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها))؛ فإن العبد إذا قرأه بالتدبر حتى مرَّ ¬

_ (¬1) انظر: الفوائد لابن القيم، ص5، ص6، ص156، وانظر: فوائد في تدبر القرآن، في تفسير السعدي، 2/ 112وَ 7/ 70.

بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خير من قراءة ختمةٍ بغير تَدَبُّرٍ وتفَهُّمٍ، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة الإيمان والقرآن، وهذه كانت عادة السلف يُردِّد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد تقدم أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام بآية يُردِّدُها إلى الصباح وهي قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬1). وقد أخبر الله تعالى في القرآن: أن أهل العلم هم الذين ينتفعون بالقرآن، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون} (¬2)،وفي القرآن الكريم بضعة وأربعون مثلاً (¬3)، وقد كان بعض السلف الصالح، وهو عمرو بن مرة: إذا مرَّ بِمَثَلٍ من أمثال القرآن ولم يفهمه يبكي ويقول: ((لست من العالمين)) (¬4)،ولابد لمن تدبر القرآن أن يجاهد بقلبه وفكره؛ لينال هذا العلم العظيم، وقد قال يحيى بن أبي كثير: ((لا يُنال العلم براحة الجسم)) (¬5)، ولا ينال العلم إلا بهجر اللذات وتطليق الراحة، ولا ينال درجة وراثة النبوة مع الراحة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: مفتاح دار السعادة، 1/ 553 - 554، والآية من سورة المائدة، آية: 118. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 43. (¬3) أعلام الموقعين، لابن القيم، 1/ 163 - 211، جمع رحمه الله جميع الأمثال في القرآن هناك، وانظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/ 226. (¬4) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، 1/ 226. (¬5) صحيح مسلم، برقم 175 - (612) .. (¬6) ابن القيم، في مفتاح دار السعادة، 1/ 446.

ولا شك أن التأمل في القرآن هو: تحديد ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تبصره، وتَعقُّله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (¬1)،وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (¬2). وينبغي للإنسان أن يبتعد عن مفسدات القلب الخمسة التي تحول بينه وبين التدبر، وتحول بينه وبين كل خير، وهي: التمنِّي، وخلطة الناس، والتعلق بغير الله تعالى، وكثرة الطعام أو المحرمات، وكثرة النوم؛ فإنها مفسدات للقلوب (¬3). والتدبر للقرآن والعمل به هو المقصود من إنزاله. ولهذا قيل: ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس: صنف لا يعملون بما يعلمون، وصنف يعملون بما لا يعلمون، وصنف لا يعملون ولا يعلمون، وصنف يمنعون الناس من التعلم (¬4). وليحذر المسلم من هجر القرآن؛ فإن هجرهُ خمسة أنواع: النوع الأول: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. النوع الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 29. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 3. (¬3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم، 1/ 451 - 459. (¬4) مفتاح دار السعادة، لابن القيم، 1/ 490.

السبب الخامس والثلاثون: تحسين القراءة بالقرآن وترتيله:

قرأه وآمن به. النوع الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه. النوع الرابع: هجر تدبُّره وتفهّمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. النوع الخامس: هجر الاستشفاء به والتداوي به من جميع أمراض القلوب، والأجساد ... وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (¬1)، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض (¬2). السبب الخامس والثلاثون: تحسين القراءة بالقرآن وترتيله: مما يجلب الخشوع في الصلاة تحسين القراءة بالقرآن، والترنم بذلك، وترتيله، ومن الأفضل والأكمل أن يستاك عند قراءة القرآن؛ لحديث علي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته، فيدنو منه - أو كلمة نحوها - حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهِّروا أفواهكم للقرآن)) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 30. (¬2) انظر: الفوائد لابن القيم، ص5، ص6، ص156، وتفسير السعدي، 2/ 112، و 7/ 80. (¬3) أخرجه البزار، ص60 وقال: لا نعلمه عن علي بأصح من هذا الإسناد، قال الألباني: ((قلت: وإسناده جيد، رجاله رجال البخاري، وفي الفضل كلام لا يضر، وقال المنذري في الترغييب والترهيب: رواه البزار بإسناد جيد لا بأس به، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 91، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 314، برقم 1213.

أولا: يحسن صوته بقراءة القرآن الكريم ويترنم به

وعن علي - رضي الله عنه - قال: ((إن أفواهكم طرق القرآن فطيِّبوها بالسواك)) (¬1). والقارئ للقرآن إذا تأدَّب بآدابه حصل له الخشوع في صلاته، وقراءته، ومن هذه الآداب الآداب الآتية: أولاً: يُحسِّن صوته بقراءة القرآن الكريم، ويترنَّم به؛ للأحاديث الآتية: 1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أَذِنَ (¬2) الله لشيءٍ ما أذِنَ لنبيِّ أن يتغنَّى (¬3) بالقرآن))، ولفظ مسلم: ((ما أذِنَ الله لشيء ما أذِنَ لنبيِّ حَسَن الصوت يتغنّى بالقرآن))، وفي لفظ لمسلم: ((ما أذِنَ الله لشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) (¬4). 2 - حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: ((يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير (¬5) آل داود))، وفي لفظٍ لمسلم: ((لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً ¬

_ (¬1) ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب السواك، برقم 291، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 53، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1213. (¬2) ما أذن الله: ما استمع الله لشيء ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن. [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 325، وجامع الأصول لابن الأثير، 2/ 485]. (¬3) يتغنى بالقرآن: يحسن صوته به، يجهر به. [شرح النووي، 6/ 326]. قال الحافظ ابن حجر في الفتح، 7/ 71: ((والمعروف عند العرب: أن التغني الترجيع بالصوت)). (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من لم يتغنَّ بالقرآن، برقم 5053، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 792. (¬5) مزمار: قال النووي رحمه الله: ((المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن، وأصل الزمر الغناء، وآل داود: هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه، وكان داود حسن الصوت جداً)). [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 328].

من مزامير آل داود)) (¬1). 3 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((زيّنوا القرآن بأصواتكم)) (¬2). قال الإمام النووي رحمه الله: ((قال القاضي: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وترتيلها، قال أبو عبيد: والأحاديث في ذلك محمولة على التحزين والتشويق)) (¬3) (¬4). 4 - حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن)) (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن، برقم 5048، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 793. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1468، والنسائي، كتاب الصلاة، باب تزيين القرآن بالصوت، برقم 1016،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 404. (¬3) قال: (( ... واختلفوا في القراءة بالألحان: فكرهها مالك والجمهور؛ لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع، والتفهُّم، وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف؛ للأحاديث؛ ولأن ذلك سبب للرقة وإثارة الخشية، وإقبال النفوس على استماعه، قلت [القائل النووي] قال الشافعي في موضع: أكره القراءة بالألحان، وقال في موضع: لا أكرهها، قال أصحابنا: ليس له فيها خلاف وإنما هو اختلاف حالين: فحيث كرهها: أراد إذا مطَّط وأخرج الكلام عن موضعه، أو مدَّ غير ممدود، وإدغام ما لا يجوز إدغامه، ونحو ذلك، وحيث أباحها: إذا لم يكن فيها تغيير لموضوع الكلام، والله أعلم)). [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 328] وانظر: فتح الباري لابن حجر، 7/ 72. (¬4) شرح النووي، 6/ 328. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1469، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 404.

5 - حديث أبي لبابة، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))، فقيل لابن أَبِي مُليكة: يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يُحسِّن ما استطاع (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((والتغنِّي بالقرآن: يجهر به ويُحسّن به صوته حتى يستفيد هو ويستفيد الناس، فالمؤمن يجاهد نفسه يخشع ويُخشِّع من حوله، ((ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن))،وهذا يدل على الوعيد لمن لم يتغن بالقرآن، وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من غشنا فليس منّا)) فيه الوعيد الشديد لمن لم يتغنَّ بالقرآن؛ لأن الله أنزل القرآن للتدبر والعمل {ليدّبروا آياته} (¬2) ولم يقل: ليقرؤوا، فقليل بتدبر خير من كثير بلا تدبر)) (¬3). 6 - حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون} في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه، أو قراءةً))، وفي لفظ عن عديٍّ، قال: سمعت البراء يُحدِّث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في سفر فصلَّى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون})) (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، برقم 1471، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 405: ((حسن صحيح)). (¬2) سورة ص، الآية: 29. (¬3) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 5023. (¬4) سورة التين، الآية: 1. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في العشاء، برقم 767، وفي باب القراءة في العشاء، برقم 769، وفي كتاب التفسير، باب حدثنا حجاج، برقم 4952، وفي كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، وزينوا لقرآن بأصواتكم))، برقم 7546، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء برقم 464.

ثانيا: يرتل القرآن ترتيلا:

ثانياً: يُرتِّل القرآن ترتيلاً؛ لقول الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (¬1). والترتيل مصدر رتّل الكلام: أحسن تأليفه. وهو في الاصطلاح: قراءة القرآن على مُكثٍ، وتفهّمٍ من غير عجلةٍ، وهو الذي نزل به القرآن. فيقرأ القرآن: بِتَلَبُّثٍ في قراءتِهِ، وتمهّلٍ فيها، ويفصل الحرف عن الحرف الذي بعده، وفي ذلك عون على تدبُّرِ القرآن وتفهُّمِهِ، ومرتبة الترتيل أفضل مراتب القراءة. وعن أنس - رضي الله عنه -، قال قتادة: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان يمدُّ مداًّ: ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} يمدّ ((بسم الله))، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم (¬2) (¬3). وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها ذكرت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((بِسْمِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية 4. (¬2) قال ابن حجر في فتح الباري، 9/ 91: ((المدّ عند القراءة على ضربين: أصلي وهو إشباع الحرف الذي بعده: ألف، أو واو، أو ياء، وغير أصلي، وهو ما إذا أعقب الحرف الذي هذه صفته همزة: وهو متصل ومنفصل، فالمتصل ما كان من نفس الكلمة، والمنفصل ما كان بكلمة أخرى، فالأول يؤتى فيه: بالألف، والواو، والياء ممكنات من غير زيادة، والثاني يزاد في تمكين الألف والواو، والياء، زيادة على المد الذي لا يمكن النطق بها إلا به من غير إسراف، والمذهب الأعدل أنه يمدَّ كل حرف منها ضعفي ما كان يمد أولاً، وقد يزاد على ذلك قليلاً، وما فرط فيه فهو غير محمود، والمراد من الترجمة الضرب الأول)). قلت: الضرب الأول: المد الطبيعي الأصلي ضابطه في المد يمد حركتين كل حركة بمقدار قبض الإصبع أو بسطها، والضرب الثاني المد غير الأصلي وهو نوعان: متصل يمد أربع حركات ومنفصل: يمد أربع حركات كذلك ويجوز قصره فيمد حركتين. (¬3) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب مدّ القراءة، برقم 5045، 5046.

الرَّحْمَنِ الرَّحِيم * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * الرَّحْمنِ الرَّحِيم * مَلِكِ يَوْمِ الدِّين. يُقطِّع قراءته آية آية. قال أبو داود: ((سمعت أحمد يقول: ((القراءة القديمة مالك يوم الدين))، ولفظ الترمذي: ((الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين))، ثم يقف ((الرَّحْمنِ الرَّحِيم)) ثم يقف ... )) (¬1). وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّع)) (¬2)، وقال: لولا أن يجتمع ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الحروف والقراءات، برقم 4001، والترمذي، كتاب القراءة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في فاتحة الكتاب، برقم 2927، وأحمد، 6/ 302، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 493، وصحيح سنن الترمذي، 3/ 169. (¬2) الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت ترديده في الحلق، وقد فسره، لفظ معاوية بن قرة (آاْ أ) قال الحافظ في الفتح: ((بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثم همزة أخرى))، وقيل: يحتمل أن هذا حصل من هز الناقة، وقيل: يحتمل أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك. قال الحافظ ابن حجر: ((وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع فأخرج الترمذي في الشمائل، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود واللفظ له من حديث أم هانئ قالت: كنت أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يرجِّع القرآن))،والذي يظهر أن في الترجيع قدراً زائداً على الترتيل، فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال: ((بتُّ مع عبد الله بن مسعود، فنام ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه لا يرفع صوته ويسمع من حوله ويرتل ولا يرجع))،وقيل: ((معنى الترجيع تحسين التلاوة لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة)) [فتح الباري لابن حجر،9/ 92]. ولكن رأى شيخنا ابن باز في قول معاوية بن قرة (آاْآ) أن هذا الظاهر فيه أنه وهم من بعض الرواة في تفسير الترجيع؛ لأن هذه الأحرف لا تدل على معنى، والمقصود من ترديد القراءة الفائدة والخشوع، فالترجيع: هو ترديد القراءة))، وقال رحمه الله: ((معنى ترجيع القراءة: أي ترديد القراءة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} للخشوع والتدبر وهذا هو معنى الترجيع في القراءة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يسرد القراءة إلا في بعض الأحوال، وقد قام ليلة بآية: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [المائدة:، الآية: 118] فالترجيع سنة عند الحاجة فقط)). [سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4281.

الناس حولي لرجَّعت كما رجَّع))، وفي لفظ للبخاري: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وهو على ناقته أو جمله، وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة ليّنة يقرأ وهو يرجع))، وفي رواية: (( ... ثم قرأ معاوية [بن قرة] يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم، لرجَّعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لمعاوية كيف كان ترجيعه؟ قال: آآ آثلاث مرات)) (¬1)، وفي الحديث ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه الناقة وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره بذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وهو عند التعليم، وإيقاظ الغافل، ونحو ذلك (¬2). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قرأ المفصل في ركعة، فقال له: ((هذّاً كهذّ الشعر؟ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل: سورتين من آل حم في كل ركعة (¬3)، وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأهن اثنتين اثنتين في كل ركعة))، وقال: ((عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، برقم 4281، وكتاب فضائل القرآن، باب الترجيع، برقم 5047، ورقم 7540، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب ذكر قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الفتح يوم فتح مكة، برقم 794. (¬2) فتح الباري لابن حجر، 9/ 92. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجمع بين السورتين في ركعة والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة، برقم 775، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب ترتيل القرآن واجتناب الهذِّ، برقم 275 - (722).

ثالثا: إذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله

ابن مسعود آخرهن من الحواميم ((حم)) الدخان، و ((عم يتساءلون)) (¬1)، وفي لفظ لمسلم: ((عشرون سورة في عشر ركعات من المفصل في تأليف عبد الله)) (¬2)، وفي لفظ لمسلم: (( ... هذاً كهذ الشعر، إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، وإنَّ أفضل الصلاة: الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن)) (¬3). فيستحب للقارئ التالي لكتاب الله تعالى أن يرتل، وهذا هو الأفضل أن يُرتِّل، ولا بأس بالسرعة التي ليس فيها إخلال باللفظ: بإسقاط بعض الحروف، أو إدغام ما لا يصح إدغامه، وهذه قراءة الحدر: وهو إدراج القراءة وسرعتها، ولابد فيه من مراعاة أحكام التجويد: من المدّ، والتشديد، والقطع، والوصل؛ وليحذر فيه من بتر حرف المد، وذهاب الغنة. فإن حصل إخلال باللفظ في هذه القراءة فهي حرام؛ لأنها تغيير للقرآن (¬4). ثالثاً: إذا مرَّ بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله تعالى، وإذا مرّ بآية فيها سؤال سأل، وهذا في النوافل لا في الفرائض؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى يُصلِّي، فقلت: يصلي ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، برقم 4996، ورقم 5053. (¬2) مسلم، برقم 276 - (722)، وتقدم. (¬3) مسلم، برقم275 - (722) وتقدم. (¬4) انظر: مجالس شهر رمضان، للعثيمين، ص153.

رابعا: يجهر بالقرآن ما لم يتأذ أحد بصوته:

بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوّذ ... )) (¬1). رابعاً: يجهر بالقرآن ما لم يتأذَّ أحد بصوته: دلت الأحاديث في تحسين الصوت بالقرآن، وفي الترتيل والترنيم بالقرآن، والتغنِّي به على استحباب رفع الصوت والجهر بالقرآن، كما دلت أحاديث أخرى على الحث على الإسرار بالقرآن؛ فكانت الأحاديث في ذلك على نوعين: النوع الأول: استحباب الجهر برفع الصوت بالقرآن: جاء في هذا النوع من الأحاديث المذكورة آنفاً في الأمر بتزيين الصوت بالقرآن وتحسينه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) (¬2)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: ((لقد رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؟ لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) (¬3)،وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (¬4).وغير ذلك مما تقدم في الترغيب في تحسين الصوت بالقراءة، وعن أبي موسى - رضي الله عنه -،قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف أصوات رُفقة ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 772، وتقدم تخريجه في التدبر للقرآن. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 5053، ومسلم، برقم 792، وتقدم في الأدب الثامن: تحسين الصوت بالقرآن. (¬3) متفق عليه: البخاري برقم 5048، ومسلم، برقم 793. وتقدم في الأدب الثامن. (¬4) أبو داود، برقم 468، والنسائي، برقم 1016، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 404، وتقدم في الأدب الثامن.

النوع الثاني: الجهر بالقراءة وإخفاؤها:

الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار ... )) (¬1). وسمعت شيخنا ابن باز رحمه الله يقول: ((كان لهم أصوات حسنة بالقرآن - رضي الله عنهم -)) (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أبطأتُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بعد العشاء، ثم جئتُ فقال: ((أين كنتِ؟))، قلت: كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحدٍ، قالت: فقام وقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إليَّ فقال: ((هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا)) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله)) (¬4). وفي إثبات الجهر بالقرآن أحاديث كثيرة. النوع الثاني: الجهر بالقراءة وإخفاؤها: جاء في ذلك أحاديث منها حديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم 4232، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين - رضي الله عنهم -، برقم 2499. (¬2) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 4232. (¬3) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلوات، بابٌ في حسن الصوت بالقرآن، برقم 1338، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 398. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، بابٌ في حسن الصوت بالقرآن، برقم 1339، وصححه الألباني، في صحيح ابن ماجه، 1/ 398.

بالقرآن كالمسر بالصدقة)) (¬1). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه -، قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كُلَّكم مناجٍ ربَّه فلا يؤذينَّ بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة))،أو قال: ((في الصلاة)) (¬2). فعلى هذا دلت الأحاديث على النوعين: فجاءت الأحاديث في النوع الأول باستحباب رفع الصوت بالقراءة، والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين: من أقوالهم، وأفعالهم أكثر من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر (¬3). وجاء في النوع الثاني أحاديث وآثار تدل على استحباب الإسرار وخفض الصوت بالقراءة. والجمع بين هذين النوعين: أن القارئ إذا خاف الرياء، أو السمعة، أو يتأذَّى مصلون، أو نيام بجهره، أو خاف إعجاباً، أو يُلَبِّس على من يقرأ أو غير ذلك من أنواع القبائح، فالإسرار بالقراءة والإخفاء بها أفضل. أما من لم يخفْ شيئاً من ذلك فالجهر بالقراءة له أفضل، ويستحب له ذلك؛ لأن العمل في الجهر أكثر؛ ولأن فائدته تتعدَّى ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم 1333، والترمذي، كتاب ثواب القرآن، باب حدثنا محمود بن غيلان، برقم 2919، والنسائي، كتاب الزكاة، باب المسر بالصدقة، برقم 2561،وصححه الألباني، في صحيح سنن أبي داود، 1/ 365، وفي صحيح سنن الترمذي،3/ 166،وفي غيرهما. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، برقم 1332. (¬3) انظر: التبيان للإمام النووي، ص86.

للسامعين؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إلى التدبر، ويطرد النوم ويزيد في النشاط، ويطرد الشيطان، فإن كانت القراءة بحضور من يستمع إليه، تأكد استحباب الجهر (¬1). قلت: ويدل على هذا الجمع حديث عبد الله بن أبي قيس رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها في حديث طويل، وفيه أنه سألها عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ... فقلت: كيف كانت قراءته: أكان يسر بالقراءة أم يجهر؟ قالت: ((كل ذلك قد كان يفعل: قد كان ربما أسر، وربما جهر))، قال: فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعةً ... )) (¬2). وعن أبي قتادة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: ((يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلّي تخفض صوتك؟))، قال: قد أسمعت من ناجيتُ يا رسول الله!، قال: ((ارفع قليلاً))، وقال لعمر: ((مررت بك وأنت تصلِّي رافعاً صوتك؟))، قال: يا رسول الله أُوقظ الوسنان (¬3)، وأطرد الشيطان! قال: ¬

_ (¬1) انظر: التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي، ص2 - 87، وآداب تلاوة القرآن وتأليفه للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ، المطبوع مع أخلاق حملة القرآن لمحمد بن الحسين الآجري، المتوفى، 360هـ، ص110. (¬2) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل، برقم 449، وفي كتاب ثواب القرآن، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2924، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في وتر النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1437، والنسائي، صلاة الليل، باب كيف القراءة بالليل، برقم 1662، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 395، وفي صحيح سنن الترمذي، 3/ 168، وفي غيرهما. وانظر: أحاديث في الباب: صحيح سنن أبي داود، برقم 1327 - 1333. (¬3) الوسنان: النائم الذي ليس بمستغرق في نومه. [النهاية، 5/ 186].

السبب السادس والثلاثون: سجود التلاوة في الصلاة:

((اخفض قليلاً)) (¬1). السبب السادس والثلاثون: سجود التلاوة في الصلاة: مما يجلب الخشوع في الصلاة سجود التلاوة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله [وفي رواية يا ويلي] أُمر ابن آدم بالسجود، فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار)) (¬2)، وهذا الحديث فيه الحث على سجود التلاوة والترغيب فيه. وسجود التلاوة سنة مؤكدة على الصحيح للتالي والمستمع (¬3)؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة فسجد ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في الصلاة، برقم 1329، والترمذي كتاب الصلاة، باب ما جاء في القراءة بالليل، برقم 447، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/ 254، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 364. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم 81. (¬3) اختلف العلماء رحمهم الله في حكم سجود التلاوة: فذهب أبو حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى أن سجود التلاوة واجب؛ لقول الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [سورة الانشقاق، الآيتان: 20، 21]، وقالوا: هذا ذم، ولا يذم إلا على ترك واجب؛ ولأنه سجود يفعل في الصلاة، فكان واجباً كسجود الصلاة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، 23/ 152 - 162 وقيل: هو رواية عن الإمام أحمد، انظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، 4/ 210. وذهب الإمام أحمد، والإمام مالك، والإمام الشافعي، وهو قول عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب بل سنة مؤكدة. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 431، و5/ 78، والمغني لابن قدامة، 3/ 364. وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، على الحديث رقم 362، يقول: (( ... وهو سنة مؤكدة لفعله - صلى الله عليه وسلم -)).

بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، غير شيخ أخذ كفَّاً من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته [فسجد عليه]، وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قُتِلَ كافراً [وهو أمية بن خلف]))، وفي رواية: ((أول سورة أنزلت فيها سجدة {وَالنَّجْمِ}، فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسجد من خلفه ... )) الحديث (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -[بالنجم]، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجن، والإنس)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه))، ولفظ مسلم: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، ونسجد معه ... )) الحديث (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في {إِذَا السَّمَاءُ ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري واللفظ له. كتاب سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، برقم 1067،وبرقم 1070،وفي كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، برقم 3853، والمغازي، باب قتل أبي جهل، برقم 3972، وكتاب التفسير سورة والنجم، باب {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا}، برقم 4863، والألفاظ جمعت بينها من بعض هذه الروايات. وأخرجه مسلم، في كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 576. (¬2) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها، برقم 1071، وكتاب التفسير، سورة النجم، باب {فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا}، برقم 4862. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من سجد لسجود القارئ، برقم1075، وباب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة، برقم 1076، وباب من لم يجد موضعاً للسجود مع الإمام مع الزحام، برقم 1079، ومسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 575.

انشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (¬1). وهذه الأحاديث تدل على أهمية سجود التلاوة ومشروعيته المؤكدة وعناية النبي - صلى الله عليه وسلم - به، ولكن دلت الأدلة الأخرى على عدم الوجوب، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة، قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: ((يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)) ولم يسجد عمر - رضي الله عنه -، وفي لفظ: ((إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء)) (¬2). ومن أوضح الأدلة على أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: ((قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَالنَّجْمِ} فلم يسجد فيها)) (¬3). ورجّح الإمام النووي والحافظ ابن حجر، وابن قدامة - رحمهم الله - أن حديث زيد بن ثابت هذا محمول على بيان جواز عدم السجود، وأنه سنة مؤكدة وليس بواجب؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك (¬4)، وقال الحافظ ابن حجر: ((وأقوى الأدلة ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 108 - (578). (¬2) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله - عز وجل - لم يوجب السجود، برقم 1077. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من قرأ السجدة ولم يسجد، برقم 1072، 1073 ومسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 577. (¬4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 81، والمغني لابن قدامة، 2/ 365، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 555.

على نفي الوجوب حديث عمر المذكور في هذا الباب)) (¬1)، وتعقبه الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله -فبين ((أن أقوى منه وأوضح في الدلالة على عدم وجوب سجود التلاوة: قراءة زيد بن ثابت على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، فلم يسجد فيها، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسجود، ولو كان واجباً لأمره به)) (¬2). وسجود المستمع إذا سجد القارئ، وإذا لم يسجد لم يسجد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد، ونسجد معه فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه)) (¬3)، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - لتميم بن حَذْلم - وهو غلام - فقرأ عليه سجدة فقال: ((اسجد فأنت إمامنا فيها)) (¬4)، فالمستمع الذي ينصت للقارئ ويتابعه في الاستماع يسجد مع القارئ إذا سجد، وإذا لم يسجد فلا (¬5). أما السامع الذي لا يقصد سماع القرآن وإنما مرَّ فسمع القراءة وسجد القارئ، فإنه لا يلزمه السجود، قيل لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال: ((أرأيت لو قعد لها)) ¬

_ (¬1) فتح الباري، 2/ 558. (¬2) حاشية الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز على فتح الباري لابن حجر، 2/ 558. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 1075، ومسلم، برقم 575، وتقدم تخريجه. (¬4) البخاري، كتاب سجود القرآن، باب من سجد لسجود القارئ، رقم الباب 8، قبل الحديث رقم1075، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري،2/ 556: ((وصله سعيد بن منصور)). (¬5) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 558، والمغني لابن قدامة، 2/ 366، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 131.

كأنه لا يوجبه عليه (¬1). وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: ((ما لهذا غدونا)) (¬2)، وقال عثمان - رضي الله عنه -: ((إنما السجدة على من استمعها)) (¬3)، وأما المستمع بقصدٍ فقال ابن بطال: ((وأجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد)) (¬4). فقد فرَّق بعض العلماء بين السامع والمستمع بما دلت عليه هذه الآثار (¬5). وعدد سجدات القرآن ومواضعها، خمس عشرة سجدة (¬6) في ¬

_ (¬1) البخاري معلقاً، كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله - عز وجل - لم يوجب السجود، قبل الحديث رقم 1087، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه وصله ابن أبي شيبة بمعناه، ثم صحح إسناده ابن حجر في الفتح، 2/ 558. (¬2) أخرجه البخاري معلقاً في الكتاب والباب السابقين، وذكر ابن حجر أنه طرف من أثر وصله عبد الرزاق قال: مرَّ سلمان على قوم قعود فقرؤوا السجدة فسجدوا، فقيل له فقال: ((ليس لهذا غدونا))، قال الحافظ في الفتح، 2/ 558: ((وإسناده صحيح)). (¬3) البخاري معلقاً في الكتاب والباب السابقين، وذكر الحافظ في الفتح، 2/ 558 أن عبد الرزاق وصله، وابن أبي شيبة قال: والطريقان صحيحان. (¬4) فتح الباري، لابن حجر، 2/ 556،وانظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 309. (¬5) انظر: فتح الباري، لابن حجر، 2/ 558، وقال الإمام النووي - رحمه الله - في حكم سجود التلاوة للسامع: ((وهو سنة للقارئ والمستمع له، ويستحب أيضاً للسامع الذي لا يسمع لكن لا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع المصغي))، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 78. (¬6) اختلف العلماء في عدد سجدات التلاوة: فقيل: خمس عشرة سجدة، وهو رواية عن الإمام أحمد وبعض أصحاب الشافعي وهو الصواب. وقيل: أربع عشرة سجدة وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وهو رواية عن الشافعي وأبي حنيفة، لكن الحنابلة أسقطوا سجدة ص، والأحناف أسقطوا السجدة الثانية من الحج، وقيل: إحدى عشرة سجدة، وهو رواية عن الإمام مالك ومن تبعه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 81، والمغني لابن قدامة، 2/ 352، والمقنع والشرح الكبير ومعهما الإنصاف، 4/ 220، والشرح الممتع، لابن عثيمين، 4/ 134.

المواضع الآتية: الموضع الأول: آخر سورة الأعراف، عند قوله تعالى: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬1). الموضع الثاني: في الرعد عند قوله تعالى: {وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (¬2). الموضع الثالث: في النحل عند قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬3). الموضع الرابع: في الإسراء عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (¬4). الموضع الخامس: في سورة مريم عند قوله: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (¬5). الموضع السادس: في سورة الحج عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬6). الموضع السابع: في سورة الحج عند قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬7). الموضع الثامن: في سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 206. (¬2) سورة الرعد، الآية: 15. (¬3) سورة النحل، الآية: 50. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 109. (¬5) سورة مريم، الآية: 58. (¬6) سورة الحج، الآية: 18. (¬7) سورة الحج، الآية، 77. (¬8) سورة الفرقان، الآية: 60.

الموضع التاسع: في سورة النمل، عند قوله تعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬1). الموضع العاشر: في سورة {الم} السجدة، عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬2). الموضع الحادي عشر: في سورة ص، عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (¬3). الموضع الثاني عشر: في سورة فصلت، عند قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} (¬4). وهذا قول الجمهور من العلماء، وقال الإمام مالك - رحمه الله - وطائفة من السلف، بل عند قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 26. (¬2) سورة السجدة، الآية: 15. (¬3) سورة ص الآية:24، وسجدة ص ثبت بها الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ليس (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها))، [صحيح البخاري، كتاب سجود القرآن، باب سجدة ص، برقم 1061، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، برقم 3422] ومعنى ص ليس من عزائم السجود: ((أي ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب))، فتح الباري لابن حجر، 2/ 552.وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز-رحمه الله- أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 363 يقول: ((هذا الحديث يدل على ثبوت سجدة ((ص))،والصواب أنه يُسجد بها في الصلاة وخارجها، أما ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فهو من اجتهاده، وقد دل على سجدة ((ص)) فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفى)). (¬4) سورة فصلت، الآية: 38. (¬5) سورة فصلت، الآية: 37.

الموضع الثالث عشر: في آخر سورة النجم، عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬1). الموضع الرابع عشر: في سورة الانشقاق عند قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} (¬2). الموضع الخامس عشر: في آخر سورة العلق عند قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (¬3). وسجدتا سورة الحج جاء فيهما خبر خالد بن معدان - رضي الله عنه - قال: ((فضلت سورة الحج بسجدتين)) (¬4)، وجاء في خبر عقبة بن عامر، وزاد: ((فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما)) (¬5). وسجود التلاوة في الصلاة الجهرية ثابت؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) سورة النجم، الآية: 62. (¬2) سورة الانشقاق، الآية: 21. (¬3) سورة العلق، الآية: 19. (¬4) ذكره الحافظ في بلوغ المرام، برقم 366، وعزاه إلى أبي داود في المراسيل، وسمعت سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول أثناء تقريره على هذا الخبر: ((لا بأس بإسناده عند أبي داود، وأيد ذلك ما بعده)). (¬5) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء في السجدة في الحج، برقم 578، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك القوي. وأخرجه أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب تفريع أبواب السجود، برقم 1402، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 388، وفي صحيح الترمذي، 1/ 319 وضعف الحافظ ابن حجر إسناده في البلوغ، وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يقول: ((يُعضد بالمرسل قبله، وابن كثير أنكر تضعيفه؛ لأن ابن لهيعة صرح بالسماع، والمعروف عند العلماء ضعف ابن لهيعة مطلقاً، لكن يعضد حديثه مرسل أبي داود، فيرفع الحديث إلى درجة الحسن المقبول الذي يحتج به)). وقال: ((عدد السجدات خمس عشرة سجدة: ثلاث في المفصل: النجم والانشقاق، والعلق، وسجدتان في الحج، وعشر مجمع عليها، والصواب سنية الجميع))، سمعت ذلك من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 366، 367.

أنه صلى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد، فقيل له: ما هذه؟ قال: ((سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه)) (¬1). وصفة سجود التلاوة: أنَّ من قرأ آية سجدة أو كان يستمع لها، فإنه يستحب له أن يستقبل القبلة ويكبر، ويسجد ثم يقول دعاء السجود، ثم يرفع من السجود بدون تكبير، ولا تشهد، ولا سلام (¬2)؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا معه)) (¬3). وإذا كان سجود ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في العشاء، برقم 766، وباب القراءة في العشاء بالسجدة، برقم 678، ومسلم، كتاب المساجد، باب سجود التلاوة، برقم 578. (¬2) اختلف أهل العلم هل يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لصلاة النفل: من الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة أم لا يشترط ذلك؟ رجح الإمام النووي أنه يشترط ذلك، ورجح الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذلك لا يشترط كما كان ابن عمر يفعل، [صحيح البخاري في كتاب سجود القرآن، باب سجود المشركين مع المسلمين رقم الباب 5]، لكن قال: ((هي بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا بعذر))،انظر: شرح النووي على صحيح مسلم،5/ 82، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 23/ 165 - 170 ورجح عدم الاشتراط ابن القيم في تهذيب السنن،1/ 53 - 56، وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - يرجح أن الطهارة لسجود التلاوة لا تجب وإن كان ذلك خلاف ما عليه الجمهور، لأنها مستحبة لأسباب تقع في القراءة، والقراءة لا تجب لها الطهارة، فما كان من توابع القراءة فكذلك، وقول الجمهور ليس بحجة فلا تلزم موافقتهم بغير دليل. سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 369 عندما سئل هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة؟ وانظر للفائدة في معرفة الخلاف: المغني لابن قدامة، 2/ 358،ونيل الأوطار للشوكاني،2/ 313،وقال: ((أما ستر العورة والاستقبال فقيل إنه معتبر اتفاقاً))، وفتح الباري لابن حجر، 2/ 553 - 554، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 379، والشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 126، وفتاوى ابن باز، 11/ 406 - 415 .. (¬3) أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب في الرجل يسمع السجدة وهو راكب أو في غير صلاة، برقم 1413، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: ((إسناده لين))، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، برقم 472، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن عُبيد الله، 1/ 222، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ولكن الحاكم لم يذكر التكبير في النسخة الموجودة عندي، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((يتقوى الحديث برواية الحاكم، فتكون التكبيرة عند السجود فقط إلا إذا كان في الصلاة فإنه يكبر مع كل خفض ورفع))، سمعته أثناء تقريره - رحمه الله - على بلوغ المرام، الحديث رقم 369، وهكذا الشوكاني في نيل الأوطار، رأى ثبوته عن عبيد الله المصغر، 2/ 311، والصنعاني في سبل السلام، 2/ 386.

التلاوة في الصلاة، فإنه يكبر حين يسجد وحين ينهض من السجود؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الصلاة في كل خفض ورفع (¬1)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬2)، وإذا قرأ السجدة في الصلاة في آخر السورة، فإن شاء ركع، وإن شاء سجد ثم قام فقرأ شيئاً من القرآن ثم ركع، وإن شاء سجد ثم قام فركع من غير قراءة)) (¬3). والدعاء في سجود التلاوة، يدعو بمثل دعائه في سجود الصلاة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن بالليل [يقول في السجدة مراراً] (¬4): ((سجد وجهي للذي خلقه [وصوَّره] (¬5) وشقَّ سمعَه وبصرَه، بحوله وقوته [فتبارك الله أحسن الخالقين])) (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) رجح هذا كله الإمام ابن باز في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة،11/ 406 - 410، وانظر: المختارات الجلية من المسائل الفقهية للسعدي، ص49. (¬2) البخاري، برقم 595، وتقدم تخريجه. (¬3) نقله ابن قدامة في المغني، 2/ 369. (¬4) من سنن أبي داود، برقم1414. (¬5) من سنن البيهقي، 2/ 325. (¬6) أبو داود، كتاب سجود القرآن، باب ما يقول إذا سجد، برقم 1414، والترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن، برقم 580، والنسائي، كتاب التطبيق، باب نوع آخر، برقم 1129، وأحمد، 6/ 217، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 265. (¬7) من المستدرك للحاكم، 1/ 220.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدْتُ، فسَجَدَتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعتها تقول: ((اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، [وتقبَّلْها مني كما تقبَّلْتها من عبدك داود])). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سجدة ثم سجد، فسمعته يقول في سجوده مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)) (¬1). ويشرع في سجود التلاوة ما يشرع في سجود الصلاة (¬2). والصواب أن سجود التلاوة يجوز في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لأنه من ذوات الأسباب (¬3). ¬

_ (¬1) الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن، برقم 579، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب سجود القرآن، برقم 1053، وعنده (اللهم احطط) بدلاً من ((اللهم اكتب))،ما بين المعقوفين من سنن الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي،1/ 180، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 173. (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للإمام عبد العزيز بن باز، 11/ 407، وانظر: الشرح الممتع، 4/ 144. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 82، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 313، ومجموع فتاوى ابن باز، 11/ 291.

السبب السابع والثلاثون: المحافظة على سنن الصلاة: القولية والفعلية

السبب السابع والثلاثون: المحافظة على سنن الصلاة: القولية والفعلية: لا شك أن العمل بسنن الصلاة القولية والفعلية يجلب الخشوع في الصلاة، ويزيد ثوابها، ويرفع درجات صاحبها في الدنيا والآخرة، وهي سنن أقوال وأفعال، ولا تبطل الصلاة بترك شيء منها عمداً ولا سهواً، وسنن الصلاة، هي ما عدا الشروط، والأركان، والواجبات، وهي على النحو الآتي (¬1): 1 - رفع اليدين حذو المنكبين أو الأذنين، مع تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (¬2)؛ ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - (¬3). 2 - وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى على الصدر؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - (¬4)؛ ولحديث سهل - رضي الله عنه - (¬5). 3 - النظر إلى موضع السجود في الصلاة؛ لحديث عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ¬

_ (¬1) من السنن قبل الدخول في الصلاة: السواك عند كل صلاة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)) متفق عليه: البخاري، برقم 887، ومسلم، برقم 252. ومن السنن قبل الصلاة اتخاذ سترة للإمام والمنفرد؛ لحديث أبي ذر - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل)) مسلم، برقم 510، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 735، ومسلم، برقم 390. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 737، ومسلم، برقم 391. (¬4) أخرجه ابن خزيمة، برقم 479. (¬5) البخاري، برقم 740. (¬6) السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 283، 5/ 258، والحاكم، 1/ 479، وتقدم تخريجه.

4 - دعاء الاستفتاح؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬1). 5 - التعوذ بالله من الشيطان؛ للآية؛ ولحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬2). 6 - البسملة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - (¬3). 7 - قول آمين بعد قراءة الفاتحة، يجهر بها في الجهرية ويُسرُّ في السّرية؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬4). 8 - قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، أو ما تيسَّرَ من القرآن؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - (¬5). 9 - الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية؛ لحديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - (¬6)؛ ولغيره من الأحاديث (¬7). 10 - الإسرار في الصلاة السِّرية؛ لحديث خباب - رضي الله عنه - وأنهم كانوا يعرفون قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر والعصر، باضطراب لحيته (¬8). 11 - السكتة اللطيفة بعد الفراغ من القراءة كلها؛ لحديث الحسن ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 743، ومسلم، برقم 598. (¬2) أبو داود، برقم 775، والترمذي، برقم 242، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 361. (¬3) أحمد، 3/ 264، والنسائي، برقم 907. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 780، ومسلم، برقم 410. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 759، ومسلم، برقم 451. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 765، ومسلم، برقم 463. (¬7) جاءت الأخبار الكثيرة بالجهر في صلاة الفجر والعشاء والمغرب، انظر: صحيح البخاري، من حديث رقم 763 - 774. (¬8) البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في العصر، برقم 761.

عن سمرة - رضي الله عنه - (¬1). 12 - وضع اليدين مفرجتي الأصابع على الركبتين كأنه قابض عليهما؛ لحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - (¬2). 13 - مدّ الظَّهْر في الركوع حتى لو صب عليه الماء لاستقر، وجعل الرأس حيال الظهر؛ لحديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - (¬3)؛ ولحديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه - (¬4). 14 - مجافاة اليدين عن الجنبين في الركوع؛ لحديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - (¬5). 15 - ما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود؛ لحديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - (¬6). 16 - ما زاد على المرة الواحدة في سؤال الله المغفرة بين السجدتين؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - (¬7). 17 - قول ((ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء ¬

_ (¬1) أبو داود، برقم 778، والترمذي، برقم 251، قال الشوكاني في نيل الأوطار، 2/ 264: ((حسنه الترمذي ... فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديراً بالتصحيح، وقد قال الدارقطني: رواة الحديث كلهم ثقات)). (¬2) البخاري، برقم 828، وأبو داود، برقم 731، 734. (¬3) أبو داود، برقم 859. (¬4) ابن ماجه، برقم 872. (¬5) أبو داود، برقم 734. (¬6) مسلم، برقم 772، وابن ماجه، برقم 888. (¬7) أبو داود، برقم 874، وابن ماجه، برقم 897.

بعد)) بعد قول: ربنا لك الحمد؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬1). 18 - وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في القيام؛ لحديث وائل بن حُجر - رضي الله عنه - (¬2). 19 - ضم أصابع اليدين في السجود؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - (¬3). 20 - تفريج أصابع الرجلين في السجود؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - (¬4). 21 - استقبال القبلة بأطراف أصابع اليدين والرجلين في السجود؛ لحديث أبي حُميد الساعدي (¬5). 22 - مجافاة العضدين عن الجنبين في السجود؛ لحديث عبد الله بن مالك بن بُحينة - رضي الله عنه - (¬6). 23 - مجافاة البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين، والتفريج بين الفخذين؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - (¬7). 24 - وضع اليدين حذو المنكبين أو الأذنين في السجود، والسجود بينهما؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - (¬8)، وحديث وائل - رضي الله عنه - (¬9)؛ والبراء - رضي الله عنه - (¬10). ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 477، 478. (¬2) أبو داود، برقم 838، 839، والترمذي، برقم 268. (¬3) الحاكم، 1/ 224. (¬4) أبو داود، برقم 730، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 651. (¬5) البخاري، برقم 828، وصحيح ابن خزيمة، برقم 643. (¬6) متفق عليه: البخاري برقم 807، ومسلم، برقم 495، 496. (¬7) أبو داود، برقم 735. (¬8) أبو داود، برقم 734، والترمذي، برقم 270. (¬9) النسائي، برقم 889، وتقدم تخريجه. (¬10) متفق عليه: البخاري، برقم 822، ومسلم، برقم 493.

25 - ضم القدمين والعقبين ونصبهما في السجود؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬1). 26 - الإكثار من الدعاء في السجود؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما (¬3). 27 - افتراش الرجل اليسرى ونصب اليمنى في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول؛ لحديث عائشة رضي الله عنها (¬4). 28 - وضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على اليسرى إذا جلس في الصلاة، أو وضع الكفين على الركبتين، أو وضع الكف اليمنى على الفخذ اليمنى واليسرى على اليسرى ويُلْقِمُ كفّه اليسرى ركبته؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (¬5)؛وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - (¬6). 29 - وضع الذارعين على الفخذين في التشهد، وفي الجلوس بين السجدتين؛ لحديث وائل بن حُجر - رضي الله عنه - (¬7). 30 - قبض خِنصر وبِنصر اليد اليمنى في التشهد، والتّحْليق بين الإبهام والوُسْطى، والإشارة بالسبابة وتحريكها إلى القبلة عند ذكر الله، وعند الدعاء؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - (¬8). 31 - جلسة الاستراحة قبل القيام إلى الركعة الثانية، والركعة الرابعة؛ لحديث ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 486، وصحيح ابن خزيمة، برقم 654. (¬2) مسلم، برقم 482. (¬3) مسلم، برقم 479. (¬4) مسلم، برقم 498. (¬5) مسلم، برقم 579. (¬6) مسلم، برقم 580. (¬7) النسائي، برقم 1264. (¬8) ابن ماجه، برقم 912.

مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - (¬1)؛ولحديث أبي حُميد السّاعدي - رضي الله عنه - (¬2)،وأبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). 32 - التورُّك في التشهد الثاني؛ لحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - (¬4). 33 - النظر إلى السبابة عند الإشارة بها في الجلوس؛ لحديث عبد الله بن الزبير (¬5)؛ ولحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - (¬6). 34 - الصلاة والتبريك على محمد وآل محمد، وعلى إبراهيم وآل إبراهيم في التشهد الأول؛ لعموم الأدلة (¬7). 35 - الدعاء والتعوُّذ من أربع بعد التشهد الثاني؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬8). 36 - الالتفات يميناً وشمالاً في التسليمتين؛ لحديث عامر بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - (¬9). 37 - نيته في سلامه: الخروج من الصلاة، والسلام على الملائكة والحاضرين؛ لأدلة كثيرة (¬10)، منها حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - وفيه: ((علامَ تؤمِئُون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمُسٍ، إنما يكفي أحدَكم أن ¬

_ (¬1) البخاري، برقم 823. (¬2) أبو داود، برقم 730. (¬3) البخاري، برقم 6251. (¬4) البخاري، برقم 828. (¬5) النسائي، برقم 1275. (¬6) النسائي، برقم 1660. (¬7) انظر: الدروس المهمة للإمام ابن باز، الدرس العاشر. (¬8) متفق عليه: البخاري، برقم 1377، ومسلم، برقم 588. (¬9) مسلم، برقم 582. (¬10) انظر: حاشية ابن قاسم على الروض المربع، 2/ 79، والشرح الممتع، 3/ 289.

السبب الثامن والثلاثون: ذكر الموت في الصلاة

يضعَ يدَه على فخذه ثم يسلِّم على أخيه: من على يمينه وشماله)) (¬1). والمحافظة على هذه السنن يزيد الخشوع في الصلاة، ويزيد في الثواب عند الله تعالى. السبب الثامن والثلاثون: ذكر الموت في الصلاة: لا شك أن من دخل في صلاته وهو يذكر الموت، ويخشى أن تكون هذه الصلاة هي أخر صلاةٍ يُصلِّيها، فإنه سيخشع في صلاته؛ ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ فعن أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ؟ فَقَالَ: ((إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً، وَأجْمِعِ الْيَأسَ مِمَّا فِي أيدِي النَّاسِ))، وهذا لفظ أحمد، ولفظ ابن ماجه: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ! اللَّهِ عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ، قَالَ: ((إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ)) (¬2). وعن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذْكُر المَوْتَ في صَلاَتِكَ؛ فإِنَّ الرَّجُلَ إذا ذَكَرَ المَوْتَ في صَلاَتِهِ لَحَرِيٌّ أنْ يُحْسِنَ صلاتَهُ، وَصَلِّ صلاةَ رَجُلٍ لا يَظُنُّ أنَّهُ يُصَلِّي صلاةً غَيْرَها، وإِيَّاكَ وكُلَّ أمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ)) (¬3). ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 431. (¬2) أحمد، 5/ 412، وفي المحقق، 38/ 484، برقم 23498، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، برقم 4171، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 364، وفي سلسة الأحاديث الصحيحة، برقم 401. (¬3) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، 1/ 26/2، كما قاله الألباني، وحسنه الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة في المجلد السادس، القسم الثاني، 6/ 820، برقم 2839، وفي المجلد الثالث، ص 408، برقم 1421.

السبب التاسع والثلاثون: الحذر من الغفلة

السبب التاسع والثلاثون: الحذر من الغفلة: لا شك أن من أسباب الخشوع في الصلاة الحذر من الغفلة؛ فإن الغفلة من أسباب الخذلان والهلاك في الدنيا والآخرة؛ والغفلة: تركٌ باختيار الغافل، وأما النسيان فهو: تركٌ بغير اختيار الإنسان، والسلامة منهما بالذكر، وهو التخلّص من الغفلة والنسيان (¬1)؛ ولعظم خطر الغفلة نهى الله تعالى رسوله عنها فقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (¬2)، والغافلون هم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ فإنهم حُرِموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمَّن كلِّ السعادة والفوز بذكره، وعبوديَّته، وأقبلوا على من كلِّ الشقاوة والخيبة في الاشتغال به (¬3). ومن أعظم خطر الغفلة أن من غفل عن الله عاقبه بأن يُغفله عن ذكره، ويجعله يتبع هواه، ويكون أمره ضائعاً معطلاً (¬4)، قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (¬5)، وأكثر الناس يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الله والدار الآخرة، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * ¬

_ (¬1) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 434، وكتاب الغفلة للمؤلف، ص8. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 205. (¬3) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص314. (¬4) انظر: كتاب الغفلة للمؤلف، ص15. (¬5) سورة الكهف، الآية: 28.

السبب الأربعون: الاستجابة لله ولرسوله مع العلم أن الله يحول بين المرء وقلبه

يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬1). السبب الأربعون: الاستجابة لله ولرسوله مع العلم أن الله يحول بين المرء وقلبه: لا شك أن من أسباب الخشوع في الصلاة الاستجابة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الخوف من أن يحول الله بين العبد وقلبه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬2)، فالله تعالى يأمر عباده المؤمنين بالاستجابة له ولرسوله، والانقياد والمبادرة إلى ذلك، والاجتناب لما نهى عنه الله ورسوله، والدعوة إلى ذلك؛ لأن حياة القلب والروح بعبوديته تعالى، ولزوم طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا حذّر عن عدم الاستجابة لله ولرسوله فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن تردُّوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلِّب القلوب حيث شاء، ويصرِّفها كيف شاء (¬3). فينبغي للعبد أن يسأل الله أن يصرِّف قلبه على طاعته؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ))، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآيتان: 6 - 7. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬3) انظر: تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص318.

السبب الحادي والأربعون: سؤال الله تعالى الخشوع في الصلاة:

الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)) (¬1). وفي حديث أُمِّ سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما يكون عندها- كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لأَكْثَر دُعَائِكَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: ((يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ))، فَتَلَا مُعَاذٌ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (¬2). السبب الحادي والأربعون: سؤال الله تعالى الخشوع في الصلاة: من الأسباب العظيمة التي تجلب الخشوع في الصلاة أن يسأل العبد ربه، ويتضرع إليه بسؤاله التوفيق للخشوع الذي يحبه اللَّه سبحانه في الصلاة، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬4). وعن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، برقم 2654. (¬2) الترمذي بلفظه، كتاب الدعوات، باب دعاء يا مقلب القلوب، برقم 3522، وحسنه، وأحمد، 4/ 182، والحاكم، 1/ 525، 528،وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 6/ 309، وفي صحيح الترمذي، 3/ 171. والآية: 8 من سورة آل عمران. (¬3) سورة البقرة، الآية: 186. (¬4) سورة غافر، الآية: 60.

السبب الثاني والأربعون: العلم بأن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل منها:

ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلِهَا))، قَالُوا: إِذاً نُكْثِرُ؟ قَالَ: ((اللَّهُ أَكْثَرُ)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) (¬2). السبب الثاني والأربعون: العلم بأن العبد ليس له من صلاته إلا ما عقل منها: من الأسباب التي تُعينُ على الخشوع في الصلاة: أن يعلم العبد المسلم أنه ليس له من صلاته إلا ما أقبل عليه بقلبه؛ لحديث عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا)) (¬3). وعن كعب بن عمرو السلمي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي الصَّلَاةَ كَامِلَةً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُصَلِّي النِّصْفَ، وَالثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ، حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ)) (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري في الأدب المفرد، برقم 710، والحاكم، 1/ 493، وأحمد، 3/ 18، والترمذي، بنحوه، في كتاب الدعوات، بابٌ في انتظار الفرج، برقم 3575، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 467. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب رقم2، برقم 3373، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 384. (¬3) أبو داود، برقم 796، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 226، وتقدم تخريجه في التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬4) أحمد، 24/ 280، برقم 15522، والنسائي في الكبرى، برقم 616، 1/ 316، وحسنه الألباني لغيره، في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 352.

السبب الثالث والأربعون: معرفة خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته

وقال ابن عباس: ((ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها)) (¬1). السبب الثالث والأربعون: معرفة خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته: مما يُعين على الخشوع في الصلاة ويجلبه معرفة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخشوع في الصلاة؛ وقد كانت الصلاة قرّة عينه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال: ((قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ))، وفي لفظ: ((يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاةَ أَرِحْنَا بِهَا)) (¬3). وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض موضع السجود، وكان في التشهد لا يجاوز بصره إشارته، هكذا ذُكِرَ عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬4) (¬5). السبب الرابع والأربعون: معرفة خشوع الصحابة والتابعين وأتباعهم رحمهم الله: المتأمل بتفكّرٍ في خشوع السلف الصالح في صلاتهم يزيده ذلك خشوعاً؛ لما يرى ويعلم من خشوعهم العظيم الذي يدل على إحسانهم في صلاتهم، وأنهم يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذه هي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، في حكم الخشوع في الصلاة. (¬2) النسائي، برقم 3940، وأحمد، برقم 12293، 13057، وتقدم تخريجه في المبحث العاشر ((الصلاة بخشوع قرة للعين وراحة للقلب)). (¬3) أبو داود، برقم 4985، 4986، وأحمد في المسند، برقم 23154، وتقدم تخريجه في المبحث العاشر. (¬4) تقدم تخريجه في النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة في التشهد، في السبب الثالث والثلاثين. (¬5) وانظر: المبحث الرابع عشر: خشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته من هذا الكتاب.

الدرجة العظمى من الإحسان في العبادة. فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - يبكي في صلاته كما ذكرت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (¬1). وهذا عمر الفاروق يُقتل وهو يُصلِّي، ثم أغمي عليه، وعندما أفاق قال: ((هل صلَّى الناس؟))، فسأل: عن الصلاة قبل أن يسأل عمن قتله؟ (¬2). وذاك سعد بن معاذ إذا صلى لا يحدث نفسه بغير ما هو فيه من صلاته (¬3). وهذا التابعي الجليل عروة بن الزبير يأمر الأطباء بقطع رجله في الصلاة؛ لأنه لا يشعر بذلك؛ لتعلق قلبه بالله ومناجاته (¬4). وهذا الإمام البخاري يلسعه الزنبور في سبعة عشر موضعاً من جسده تحت ثوبه ولم ينصرف من صلاته، ولم ينظر حتى سلَّم من صلاته (¬5)، وغير ذلك كثير (¬6). فمن نظر في خشوع السلف الصالح في صلاتهم جلب له ذلك الخشوع إن كان قلبه سليماً. ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري، برقم 713، 679، ومسلم، برقم 418، وتقدم تخريجه في المبحث الخامس عشر. (¬2) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص26 وتقدم تخريجه في المبحث الخامس عشر. (¬3) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 605، وتقدم في المبحث الخامس عشر. (¬4) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 9/ 102 - 103، وتقدم في المبحث الخامس عشر. (¬5) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 12/ 442، ومقدمة فتح الباري لابن حجر، ص480. (¬6) وقد ذكرت نماذج كثيرة من خشوع السلف الصالح في المبحث الخامس عشر من هذا الكتاب، والله الموفق.

السبب الخامس والأربعون: العلم بما ثبت في التحذير من ترك الخشوع، وما ثبت من الترغيب في الخشوع

السبب الخامس والأربعون: العلم بما ثبت في التحذير من ترك الخشوع، وما ثبت من الترغيب في الخشوع: مما يُعين على الخشوع معرفة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التحذير من ترك الخشوع في الصلاة وسرقتها، والعلم بما ثبت من فضائل الخشوع وفوائده، ومن ذلك على سبيل الإيجاز والاختصار ما يأتي: أولاً: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إخباره بأن أشدّ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، فلا يتم ركوعها ولا سجودها (¬1)، وأن الله لا ينظر إلى صلاة عبدٍ لا يُقيم فيها صلبه بين ركوعه وسجوده (¬2)، وإن مات وهو لا يُتمّ ركوعه، وينقر في سجوده مات على غير ملة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وقد يُصلِّي المرء ستين سنة، وما قَبِلَ اللَّهُ منه صلاة واحدة؛ لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع (¬4). ثانياً: الخشوع في الصلاة له فضائل عظيمة، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه (¬5)، وأن من أحسن الوضوء ثم صلَّى ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة (¬6)، وجاء في القرآن الكريم أن الفوز ¬

_ (¬1) أحمد، برقم 22642، وابن خزيمة، برقم 663 وتقدم تخريجه في المبحث العاشر: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬2) أحمد، برقم 16283، وغيره، وتقدم تخريجه في المبحث العاشر: التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬3) الطبراني في الكبير، برقم 3840، وابن خزيمة، برقم 665، وتقدم تخريجه في المبحث العاشر: التحذير من ترك الخشوع والصلاة. (¬4) الأصبهاني في الترغيب والترهيب، برقم 1895، وتقدم تخريجه في المبحث العاشر. (¬5) البخاري، برقم 136، ومسلم، برقم 246، وتقدم تخريجه في المبحث الرابع. (¬6) مسلم، برقم 234، وتقدم تخريجه في المبحث الرابع.

السبب السادس والأربعون: فهم وتدبر معاني أفعال الصلاة يجلب الخشوع فيها

والفلاح، والسعادة في الدنيا والآخرة للخاشعين في صلاتهم (¬1)، وغير ذلك من الفضائل والفوائد العظيمة (¬2). السبب السادس والأربعون: فهمُ وتدبُّر معاني أفعال الصلاة يجلب الخشوع فيها: لا شك أن من تدبَّر معاني أفعال الصلاة خشع في صلاته، ومن ذلك تدبّر الأفعال الآتية: أولاً: فهم وَتّدّبُّر معنى القيام في الصلاة، فقد قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3)، فإذا انتصب العبد قائماً لله في صلاته بين يديه سبحانه فليشاهد بقلبه قيُّوميته تعالى (¬4)، ويذكر أنه إذا أحسن هذا الوقوف في الصلاة في الدنيا سهُل عليه الوقوف أمام الله يوم القيامة، وإذا استهان بهذا الوقوف، ولم يُوفّه حقه شُدِّد عليه الوقوف يوم القيامة (¬5)، ومن مقتضى هذا القيام أن يقبل على لله بقلبه وجسده، فلا يلتفت: لا بقلبه، ولا ببصره، ولا جسده (¬6). ثانياً: فهم وتدبر معنى رفع الأيدي في الصلاة حذو المنكبين أو حذو الأذنين في أربعة مواضع: إذا كبّر تكبيرة الإحرام، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع من الركوع، وإذا قام من الركعتين - أي من التشهد الأول - يرفعهما كما صنع عند الافتتاح، وهذا هو السنة. ¬

_ (¬1) انظر: سورة المؤمنون: 1 - 2. (¬2) انظر: المبحث الرابع: فضائل الخشوع في الصلاة. (¬3) سورة البقرة، الآية: 238. (¬4) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص117. (¬5) الفوائد لابن القيم، ص435. (¬6) انظر: الخشوع في الصلاة، لابن رجب، ص22.

والحكمة في ذلك: اتبّاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويضاف إلى ذلك من الحكم: أن رفع اليدين في تكبيرة الإحرام فيه الإشارة إلى رفع حجاب الغفلة بينك وبين الله، وفي غير تكبيرة الإحرام إعظاماً لله. وقال بعضهم: إنها استسلام لله وانقياد له تعالى، كالأسير المستسلم. وقال بعضهم: نفي الكبرياء عن غير الله. وقال بعضهم: زينة للصلاة، وعلى كل حال: فهو اتبّاع للسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود. وفي لفظ: ((وإذا قام من الركعتين رفع يديه)) (¬2)، وفي حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يُحاذيَ بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذيَ بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: ((سمع الله لمن حمده))، فعل مثل ذلك، وفي لفظ لمسلم: ((حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، وزاد المعاد، وتوضيح الأحكام من بلوغ المرام، للبسام، 2/ 28، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 34، وحاشية الروض المربع، لابن قاسم، 2/ 11. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، برقم 735، ورقم 739، ومسلم، كتاب الصلاة، برقم 390. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع، وإذا رفع، برقم 737، ومسلم واللفظ له، في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود، برقم 391.

والأحاديث الواردة في ابتداء رفع اليدين جاءت على وجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم كبّر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر)) (¬1)؛ ولحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - يُحدِّث به في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذيَ بهما منكبيه، ثم يُكبِّر)) (¬2). الوجه الثاني: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر ثم رفع يديه، فعن أبي قلابة أنه ((رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبَّر ثم رفع يديه ... وحدَّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هكذا)) (¬3). الوجه الثالث: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه مع التكبير، وانتهى منه مع انتهائه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين كبّر حتى جعلهما حَذْوَ منكبيه)) (¬4). فمن فعل صفة من هذه الصفات فقد ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 390. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد برقم 828، واللفظ لأبي داود، برقم 730. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر، برقم 737، ومسلم واللفظ له، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 391. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب إلى أين يرفع يديه، برقم 738، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، برقم 390.

ثالثا: فهم وتدبر معنى وضع اليدين على الصدر

أصاب السنة (¬1). وإن نوَّع بين هذه الصفات الثلاث، فتارة يفعل هذا، وتارة هذا، وتارة هذا، فلا بأس، وهذا يعين على الخشوع في الصلاة، والعلم عند الله تعالى. ثالثاً: فهم وتدبّر معنى وضع اليدين على الصدر في حال القيام في الصلاة: اليد اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرُّسغ والساعد، وهذا فيه إظهار الذُّل، والانكسار، والخشوع لله تعالى، وقد ذُكِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سُئل عن المراد بذلك فقال: ((هو ذُلٌّ بين يدي عزيز)) (¬2). رابعاً: فهم وتدبّر معنى الركوع؛ فإنه يدل على الذُّل بظاهر الجسد؛ ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله، وقد قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (¬3)، وتمام الخضوع في الركوع أن يخضع القلب لله، ويذلَّ له، فيتمّ بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله - عز وجل - (¬4). قال العلامة الأصفهاني رحمه الله: ((الركوع: الانحناء، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي، وتارة في التواضع والتذلل: إما في العبادة، وإما في غيرها)) (¬5). خامساً: فهم وتدبّر معنى السجود؛ فإنه أعظم ما يظهر فيه ذلّ العبد ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 218، وسبل السلام للصنعاني،2/ 217، والشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 39. (¬2) الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص21. (¬3) سورة المرسلات، الآية: 48. (¬4) انظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب ص25. (¬5) مفردات ألفاظ القرآن، ص364.

لربِّه تعالى، حيث جعل العبد أشرف أعضائه وأعزّها عليه، وأعلاها عليه، حقيقة أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب مُتعفِّراً، ويتبع ذلك انكسار القلب، وتواضعه, وخشوعه لله - عز وجل -؛ ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقرِّبه الله - عز وجل - إليه؛ فإن ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) (¬1)، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والسجود أيضاً مما كان يأنفه المشركون المستكبرون عن عبادة الله - عز وجل -، وكان بعضهم يقول: أكره أن أسجد فتعلوني استي، وبعضهم يأخذ كفاً من حصىً فيرفعه إلى جبهته، ويكتفي بذلك عن السجود، وإبليس إنما طرده الله لمّا استكبر عن السجود، لمن أمره الله بالسجود له (¬2). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((السجود: أصله التطامن والتذلّل، وجُعل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته. وهو عام في الإنسان، والحيوان، والجمادات، وذلك ضربان: سجود باختيار، وليس ذلك إلا للإنسان، وبه يستحق الثواب. وسجود تسخير وهو: للإنسان، والحيوان، والنبات)) (¬3). وسجود التسخير يعم كل شيء {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع أو السجود، برقم 482. (¬2) انظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص26. (¬3) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص396. (¬4) سورة النحل، الآية: 49.

السبب السابع والأربعون: فهم وتدبر معاني أقوال الصلاة

وغير ذلك من فهم وتدبر معاني أفعال الصلاة: كالجلوس بين السجدتين، والجلوس في التشهد واضعاً يديه على ركبتيه، كل ذلك يدل على الخضوع والتذلل لله تعالى. السبب السابع والأربعون: فهم وتدبُّر معاني أقوال الصلاة: لا شك أن من تدبَّر معاني أقوال الصلاة خشع قلبه في صلاته، ومن ذلك على سبيل الاختصار تدبر المعاني الآتية: أولاً: فهم وتدبّر معنى تكبيرة الإحرام: الله أكبر: ((الله أكبر)) أي: الله تعالى أكبر من كل شيء: في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وحُذِف المفضل عليه ليتناول اللفظ كل شيء، فتكبيره سبحانه جامع لإثبات كل كمال له، وتنزيهه عن كل نقص وعيب، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله. وأكبر من أن يُذكر بغير المدح والتمجيد والثناء الحسن. وحكمة الاستفتاح بها: ليستحضر المصلِّي عظمة من يقف بين يديه، فيخشع له، ويستحيي أن يشتغل بغيره؛ ولهذا أجمع العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضر قلبه، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬1)، والخشوع إنما يحصل لمن استحضر عظمة ملك الملوك، وأنه يناجيه، ويخشى أن يردها عليه، فيفرِّغ قلبه لها، ويشتغل بها عمَّا عداها، ويؤثرها على ما سواها، فتكون راحته وقرة عينه، قال النبي ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 1 - 2.

ثانيا: فهم وتدبر معاني دعاء الاستفتاح في الصلاة

- صلى الله عليه وسلم -: ((وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فَي الصَّلاَةِ)) (¬1). فإذا استشعر العبد بقلبه أن الله أكبر من كلِّ ما يخطر بالبال استحيا منه أن يُشغل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفياً لمعنى ((الله أكبر))، ولا مؤدِّياً لحق هذا اللفظ، فقبيح بالمُصلِّي أن يقول بلسانه: ((الله أكبر))، وقد امتلأ قلبه بغير الله، فلو قضى حق هذا اللفظ لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات (¬2). ثانياً: فهم وتدبُّر معاني دعاء الاستفتاح في الصلاة 1 - ((سبحانك اللهم وبحمدك (¬3)، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إلهَ غيرُك)) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 3/ 285، برقم 14037، والنسائي في سننه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، 7/ 61، برقم 3940، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: حاشية الروض المربع، 2/ 11. (¬3) سبحانك اللهم وبحمدك: أي سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك، والجد هنا: العظمة))، شرح النووي،4/ 355، وقيل: أسبحك حال كوني متلبساً بحمدك. انظر: سبل السلام للصنعاني،2/ 224، وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 22: ((يعني بحمدي لك، وثنائي عليك سبحتك: أي نزَّهْتك)). (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، برقم 399، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف، برقم 2555 - 2557،وابن أبي شيبة،1/ 230، 2/ 536، وابن خزيمة، برقم 471، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي،1/ 235.قال ابن تيمية: ((وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجهر بـ ((سبحانك اللهم وبحمدك .. )) ويعلمه الناس، فلولا أن هذا من السنن المشروعة لم يكن يفعله .. ويقرّه المسلمون عليه)).انظر: قاعدة في أنواع الاستفتاح، ص31، وزاد المعاد لابن القيم،1/ 202 - 206.واختار الإمام أحمد الاستفتاح بحديث عمر؛ لعشرة أوجه ذكرها ابن القيم في زاد المعاد،1/ 205.وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الروض المربع،2/ 23 يقول: ((وهو حديث ثابت من طرق عن جماعة من الصحابة)) قلت: جاءت روايات أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة، وأنساً، وأبا سعيد، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - رووه، واستفتح به عمر وأبو بكر وعثمان. انظر: المنتقى لأبي البركات عبد السلام بن تيمية مع نيل الأوطار،1/ 756.

قوله: ((سبحانك اللهم)) تنزيه، ((وبحمدك)) إثبات؛ فهذه الجملة تتضمن التنزيه، والإثبات، ومعناها: تنزيهاً لك يا رب عن النقص في صفات الكمال: كالعلم، والحياة، وعن صفات النقص المجردة عن الكمال: كالعجز، والظلم، وعن مماثلة المخلوقات و ((اللهم)) أصله يا الله، لكن حُذفت ياء النداء، وعُوّض عنها الميم، وبقيت ((الله))، وإنما حُذفت الـ ((يا)) لكثرة الاستعمال، وعوض عنها الميم للدلالة عليها، وأخرت بعد لفظ الجلالة تيمناً، وتبركاً بالابتداء باسم الله، واختير حرف الميم دون غيره من الحروف للدلالة على الجمع، كأن الداعي يجمع قلبه على ربه - عز وجل -، وعلى ما يريد أن يدعوه به (¬1). والحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع محبته وتعظيمه: الكمال الذاتي، والكمال الفعلي، فالله - سبحانه وتعالى -، كامل في ذاته، ومن لازم ذلك أن يكون كاملاً في صفاته، وكذلك في فعله، ففعله جل وعلا دائر بين العدل والإحسان، لا يمكن أن يظلم، إما أن يعامل عباده بالعدل، وإما أن يعاملهم بالإحسان، فالمسيء يعامله بالعدل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬2)، والمحسن يعامله بالفضل: {مَنْ جَاءَ ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 227. (¬2) سورة الشورى، الآية: 40.

بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬1)، ومن كان فعله دائراً بين هذين الأمرين: العدل والفضل، فلا شك أنه محمود على أفعاله، كما هو محمود على صفاته. والواو هنا ((وبحمدك)) تفيد معنى المعية، يعني: نزهتك تنزيهاً مقروناً بالحمد. قوله: ((وتبارك اسمك)) أي: كَمُلَ، وتَعَاظَمَ، وَتَقَدَّسَ، وكثرت بركته في السموات والأرض، وإذا كان اسم المسمّى بركة، فالمسمّى أعظم بركة وأولى، وجاء بناؤها على السعة والمبالغة، فدل على كمال بركتها وعظمتها وسعتها، ولا يقال إلا له - سبحانه وتعالى -؛ فإن ((تبارك)) من باب ((مَجَدَ))، والمجد كثرة صفات الجلال والكمال والسعة، والفضل، فاسم الله نفسه كله بركة، ومثاله: إذا سمَّيت على الطعام لم يشاركك الشيطان فيه، وإن لم تسمِّ شاركك، ولو ذبحت ذبيحة بدون تسمية لكانت ميتة نجسة حراماً، ولو سمَّيت الله عليها لكانت ذكية طيبة حلالاً، وكل أمر لا يُبدأ ببسم الله فهو أبتر. قوله: ((وتعالى جدك)) تعالى: أي: ارتفع ارتفاعاً معنوياً، والجَدُّ: العظمة، والمعنى: علت عظمتك وارتفعت بحيث لا يساويها أي عظمة من عظمة المخلوق. ((ولا إله غيرك)) هذه كلمة التوحيد التي أُرسل بها جميع الرسل عليهم السلام، ومعناها: لا معبود حق إلا الله، فيكون توحيده سبحانه بالألوهية مبنياً على كماله، فالسابق كالسبب الذي بُني عليه اللاحق، يعني أنه لكمال ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 160.

صفاتك لا معبود حق إلا أنت (¬1). 2 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كبر في الصلاة سكت هُنيَّة (¬2) قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خَطايايَ كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّني من خَطايايَ كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنس، اللهم اغْسلْني من خَطايايَ بالثلج والماء والبَرَدِ)) (¬3). قوله: ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)): المباعدة بين المشرق والمغرب هي غاية ما يبالغ فيه الناس، والغرض من هذا التشبيه امتناع الاقتراب من الذنوب كامتناع اقتراب المشرق من المغرب، والمعنى: باعد بيني وبين فعل الخطايا بحيث لا أفعلها، وباعد بيني وبين عقوبتها إن فعلتها. قوله: ((اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)) المراد الخطايا والذنوب التي فعلها فينقَّى منها، وهذا التشبيه لقوَّة التَّنقية، أي: اللهم طهرني من خطاياي طهارة كاملة, وأزلها عني كما يُطهَّر الثوب الأبيض من الوسخ، ووقع التشبيه بالثوب الأبيض؛ لأن ظهور النقاء فيه أشد وأكمل لصفائه، بخلاف ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 54 - 60، والمنهل العذب المورود وشرح سنن أبي داود، 5/ 187. (¬2) هنيَّة: أي وقت لطيف قصير، أو ساعة لطيفة. فتح الباري لابن حجر، مقدمة فتح الباري، ص202. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، برقم 743، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم 598.

غيره من الألوان، وبعد التنقية قال: ((اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد))، وفي لفظ: ((اللهم اغسلني من خطاياي: بالثلج، والماء، والبرد)) أي طهرني من خطاياي بأنواع مغفرتك التي هي تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأوساخ، وذكر أنواع المطهِّرات المُنَزَّلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها تبياناً لأنواع المغفرة التي لا يتخلص من الذنوب إلا بها، فبان أن المراد بالمباعدة أي: أن لا أفعل الخطايا، ثم إن فعلتها فنقني منها، ثم أزل آثارها بزيادة التطهير بالماء والثلج والبرد، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات، ترقياً عن الماء إلى أبرد منه (¬1). 3 - ((الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)) (¬2). ((الحمد)) هو الوصف بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم، والألف واللام في ((الحمد)) لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى. ((طيباً)) أي: خالصاً لوجهه تعالى. ((مباركا فيه)) أي: كثير الخير، ¬

_ (¬1) انظر: المنهل العذب، 5/ 194، 195. (¬2) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم 600، ولفظه: عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس، فقال: ((الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( .. لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها)) مسلم، برقم 600 ..

يعني كثيراً غاية الكثرة (¬1). 4 - ((الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) (¬2). قوله: ((الله أكبر كبيراً)) أي: الله تعالى أكبر من كل شيء في ذاته وأسمائه وصفاته، و ((كبيراً)) أي: أكبر كبيراً، أو تكبيراً كبيراً. قوله: ((والحمد لله كثيراً)) أي حمداً كثيراً. قوله: ((وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) أي أوَّل النهار وآخره، وخص هذين الوقتين بالذكر لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، أو لتنزيه الله تعالى عن التغير في أوقات تغير الكون (¬3). 5 - ((اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (¬4). قوله: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل)) خصَّ هؤلاء الثلاثة من الملائكة بالذكر تشريفاً لهم وتعظيماً، إذْ بهم تنتظم أمور ¬

_ (¬1) انظر: المنهل العذب، 5/ 173. (¬2) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم 601.ولفظه: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجل من القوم: ((الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( .. عجبت لها فتحت لها أبواب السماء)) مسلم، برقم 601. (¬3) انظر: المنهل العذب، 5/ 174. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 770.

العباد، فجبرائيل - عليه السلام - كان موكَّلاً بالوحي وإنزال الكتب السماوية على الأنبياء عليهم السلام، وتعليم الشرائع، وأحكام الدين، وميكائيل - عليه السلام - موكَّلٌ بجميع القطر والنبات وأرزاق بني آدم وغيرهم، وإسرافيل - عليه السلام - موكَّلٌ باللوح المحفوظ، وهو الذي ينفخ في الصور. قوله: ((عالم الغيب والشهادة)) أي: ما غاب عن العباد، وما شاهدوه وظهر لهم. قوله: ((فيما كانوا فيه يختلفون)): في الدنيا من أمر دينهم، فتعذب العاصي إن شئت، وتثيب الطائعين. قوله: ((اهدني لما اختُلِف فيه من الحق)) أي: دلني على الحق الذي اختلفوا فيه، ولم يقبلوه. قوله: ((بإذنك)) أي: بإرادتك وتوفيقك. قوله: ((إنك تهدي من تشاء)): هنا إشارة إلى أن الهداية والإضلال ليسا من فعل الإنسان، بل بخلق الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (¬1). قوله: ((إلى صراط مستقيم)): أي طريق الحق، وسمي صراطاً؛ لأنه موصل للمقصود، كما أن الطريق الحسي كذلك (¬2). 6 - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬2) انظر: المنهل العذب، 5/ 178.

إلى الصلاة (¬1) قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك، وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬2). وإن شاء قال ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنواع الأخرى في الاستفتاح (¬3). ¬

_ (¬1) وفي رواية ابن خزيمة، 1/ 236، برقم 464 بلفظ: ((كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ويقول .. )) وقال شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيقهما لزاد المعاد،1/ 203: ((وإسناده صحيح)). وزاد ابن حبان هذه الزيادة أيضاً، 5/ 70، برقم 1772، ولفظه: ((كان إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة قال: وجهت وجهي)). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، 2/ 230: ((وهو عند مسلم من حديث علي لكنه قيّده بصلاة الليل، وأخرجه الشافعي [في المسند 1/ 72 - 73]، وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ: ((إذا صلى المكتوبة واعتمده الشافعي في الأم)) ا. هـ وتعقب الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله كلام ابن حجر في نقله أن مسلماً قيَّده بصلاة الليل فقال: ((هذا وهْمٌ من الشارح رحمه الله، وليس في رواية مسلم تقييده بصلاة الليل فتنبه، والله أعلم)) الفتح،2/ 230. وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام،2/ 223 على كلام ابن حجر رحمه الله: ((لم نجد في مسلم هذا الذي ذكره المصنف من أنه كان يقوله في صلاة الليل، وإنما ساق حديث علي - رضي الله عنه - هذا في قيام الليل)). (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 771. (¬3) وذكر ابن تيمية رحمه الله في كتاب: ((قاعدة في أنواع الاستفتاح)) ص31: ((أن الاستفتاح لا يختص بـ ((سبحانك اللهم))، و ((وجهت وجهي)) وغيرهما؛ بل يستفتح بكل ما روي، لكن فضل بعض الأنواع على بعض يكون بدليل آخر)).وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام لابن حجر على الحديث رقم 287 يقول: ((وواحد من أدعية الاستفتاح يكفي، ولا يجمع بين دعاءين، وما صح في صلاة النافلة يصح في الفريضة، لكن ما كان فيه طول فالأولى أن يكون في صلاة الليل)).

قوله: ((وجهت وجهي)) أي توجَّهْتُ بذاتي، وأخلصت عبادتي لله تعالى، فالمراد بالوجه هنا الذات، ويحتمل أن يراد بوجه الإنسان هنا القلب: أي وجهت قلبي لعبادة الله تعالى، ويؤخذ منه أنه ينبغي للمصلي عند قراءة هذا الدعاء أن يكون على غاية من الحضور والإخلاص، وإلا كان كاذباً، وأقبح الكذب ما يكون والإنسان واقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية. قوله: ((للذي فطر السموات والأرض)) أي خلقهما وأوجدهما على غير مثال سابق، والمراد بالسموات ما علا فيشمل العرش، وبالأرض ما سفل، فيشمل ما تحتها، والعلم عند الله تعالى، وقدم السموات؛ لأنها أشرف من الأرض؛ لكونها مسكن الملائكة المطهرين لا غير، والأرض وإن كان فيها الأنبياء لكنها احتوت على المفسدين، وجمع السموات لاختلاف أجناسها، وأفرد الأرض وهي سبع أرضين؛ لأنها من جنس واحد. قوله: ((حنيفاً مسلماً ... )) أي وجهت وجهي حال كوني مائلاً عن كل دين باطل إلى دين الحق ثابتاً عليه، منقاداً مطيعاً لأمره تعالى ومجتنباً لنهيه، وما أنا من المشركين: أي الكافرين، فيشمل عبداً لوثن وغيره. قوله: ((إن صلاتي ونسكي)) أي عباداتي من حج وغيره، فعطف

النسك على الصلاة من عطف العام على الخاص [ويدخل في النسك: الذبح]. قوله: ((ومحياي ومماتي ... )) أي حياتي، وموتي وما آتيه في حياتي، وأحوز عليه من الإيمان والعمل الصالح، ((لله رب العالمين)) خالصاً لوجهه - عز وجل -. قوله: ((لا شريك له)) أي: في ذاته، وصفاته، وأسمائه، وربوبيته وألوهيته. قوله: ((وبذلك أمرت وأنا من المسلمين)) أي بالتوحيد الكامل، والطاعات الخالصة، أمرت وأنا من المنقادين المستسلمين، المطيعين لله تعالى، ولا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الدعاء، وكل ما ورد من الأذكار والأدعية. قوله: ((اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت)) أي المتصرف في جميع المخلوقات بدون معارض، وأنت مربّيني على موائد كرمك، وهو تخصيص بعد تعميم. قوله: ((ظلمت نفسي)) اعتراف بالتقصير، وبما يوجب نقص حظ النفس من ملابسة المعاصي، أما بالنسبة لنا فظاهر، وأما بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو قال ذلك تواضعاً وتعليماً للأمة، وقدمه على سؤال المغفرة تأدباً كما وقع لآدم وحواء في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا

وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). قوله: ((إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) وهذا بمنزلة التعليل لطلب المغفرة، فكأنه قال: اغفر لي ذنوبي؛ لأن مغفرة الذنوب بيدك لا يتولاها غيرك، ولا يقدر عليها أحد إلا أنت. قوله: ((واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ... )) أي أرشدني لأكمل الأخلاق، ووفقني للتحلّي بها. قوله: ((واصرف عني سيئها)) أي: أبعد عني قبيح الأخلاق. قوله: ((لبيك وسعديك)) أي: أجيبك إجابة بعد إجابة، وأسعد بإقامتي على طاعتك، وإجابتي لدعوتك سعادة بعد سعادة. قوله: ((والخير كله بيديك)) أي: جميع الخير حسياًّ ومعنوياً بيدي الله تعالى. قوله: ((والشر ليس إليك)) أي: لا يتقرّب به إليك، ولا يضاف إليك، وهذا تأدُّباً، بل يضاف إلى من فعله، والله تعالى هو خالق كل شيء، ولكن لا يأتي منه إلا الخير؛ لأن الشر يضاف إلى المفعولات، وخلق الله تعالى ذلك لا يأتي إلا بخير. قوله: ((أنا بك وإليك)) أي: أستعين بك، وألتجئ إليك، أو بك وُجدت، وإليك ينتهي أمري. وقوله: ((تباركت وتعاليت)) أي: تكاثر خيرك، وتزايد برُّك، وتنزَّهت عن النقائص، واتصفت بالكمالات المطلقة. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 23.

قوله: ((أستغفرك وأتوب إليك)) أي أطلب منك المغفرة لما مضى، وأرجع عن فعل الذنب فيما بقي متوجِّهاً إليك بالتوفيق والثبات إلى الممات (¬1). 7 - ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ (¬2) أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَنْ فِيهنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَواتِ والأرْضِ ومَنْ فيهنَّ، [وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَنْ فِيهنّ]، [وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَنْ فِيهنّ] [وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ] [وَلَكَ الحَمْدُ] [أنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ, وقَوْلُكَ الحَقُّ, ولِقَاؤُكَ الحَقُّ, والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقٌّ] [اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وبِكَ آَمَنْتُ, وإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وإليْكَ حَاكَمْتُ. فاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، ومَا أخَّرْتُ، ومَا أسْرَرْتُ، ومَا أعْلَنْتُ] [أنْتَ المُقَدِّمُ، وأنْتَ المُؤَخِّرُ لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ] [أنْتَ إلَهِي لَا إِلَهَ إلاَّ أنْتَ])) (¬3). (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المنهل العذب المورود، شرح سنن أبي داود، للسبكي، 5/ 168 - 170. والعلم الهيب، للعيني، ص265 - 268، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص88 - 90. (¬2) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا قام من الليل يتهجد. (¬3) البخاري مع الفتح، أبواب التهجد، باب التهجد من الليل، 3/ 3، و11/ 116، و13/ 371، 423، 465، برقم 1120، ومسلم، مختصراً بنحوه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 532، برقم 769. (¬4) وهناك نوع آخر من أنواع الاستفتاح، ولفظه: عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح قيام الليل؟ قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك، كان إذا قام: ((كبّر عشراً، وحمد عشراً، وسبَّح عشراً، وهلَّل عشراً، واستغفر عشراً، وقال: اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة)) .. أبو داود، برقم 766، والنسائي، برقم 1617، وأحمد، 6/ 143، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص89، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 146.

قوله: ((أنت نور السموات والأرض)) أي: أنَّ كل شيء استنار منها واستضاء فبقدرتك، وأضاف النور إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه، وفشو ضيائه، وعلى هذا فسر قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1). وقد ثبت أن الله تعالى سمى نفسه: ((نور السموات والأرض)) بالكتاب والسنة، وقد ورد في الكتاب على صيغة الإضافة، وفي الحديث الصحيح (¬2) الذي جاء عن أبي ذر - رضي الله عنه - من غير إضافة، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نور أنَّى أراه)) حين سأله أبو ذر - رضي الله عنه -: ((هل رأيت ربك؟)). قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نور أنَّى أراه)) معناه: حجابه نور، فكيف أراه، وقد فسر ذلك الحديث الآخر الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور))، وفي رواية: ((النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (¬3). فاسم النور بدون إضافة يحتاج إلى دليل، أما القرآن فقد جاء مضافاً {نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ¬

_ (¬1) سورة النور, الآية: 35. (¬2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله - عليه السلام -: نور أنى أراه، وفي قوله: رأيت نوراً، برقم 178. (¬3) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله - عليه السلام -: نور أنى أراه، وفي قوله: رأيت نوراً، برقم 179.

وسألت شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى: هل من أسماء الله النور؟ فقال: {نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}. قوله: ((أنت قيم السموات والأرض)) أي: الذي يقوم بحفظها ومراعاتها، وحفظ من أحاطت به، واشتملت عليه، يؤتي كل شيء ما به قوامه، ويقوم على كل شيء من خلقه مما يراه من تدبيره. قوله: ((أنت رب السموات والأرض)) أي: أنت مالك السماوات والأرض ((ومن فيهن)) والرب يأتي بمعنى المالك والسيد والمطاع والمصلح. قوله: ((أنت الحق)) الحق اسم من أسماء الله - تعالى -؛ ومعناه: الموجود حقيقة، المتحقق وجوده وإلاهيته. قوله: ((ووعدك الحق)) أي: الثابت غير الباطل؛ قال الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1). قوله: ((وقولك الحق)) أي: غير كذب، بل هو صدق حقاً وجزماً. قوله: ((ولقاؤك الحق)) أي: واقع كائن لا محالة. ولقاء الله تعالى حق لا شك فيه، على الوجه اللائق بالله تعالى، من غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تكييف، ولا تمثيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران, الآية: 9. (¬2) سورة الشورى, الآية: 11.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير، وقال: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى ... كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} (¬1) فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه، والكدح إليه: يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبهما ... )) (¬2). قوله: ((والجنة حق)) أي: موجودة مُعدَّة للمؤمنين. قوله: ((والنار حق)) موجودة مُعدَّة للكافرين. قوله: ((والنبيون حق)) أي: حق في أنهم من عند الله - تعالى - وأنهم أنبياء الله تعالى وعبيده. قوله: ((ومحمد حق)) أي: حق نبوته ورسالته، وأنه عبد الله ورسوله إلى العرب والعجم [والإنس والجن، ولا نبي بعده]، وإنما أفرد نفسه بالذكر، وإن كان داخلاً في النبيين، تنبيهاً على شرفه وفضله. قوله: ((والساعة حق)) أي: واقعة كائنة لا محالة، والمراد من الساعة هو الحشر والنشر. قوله: ((اللهم لك أسلمت)) أي: انقدتُ وأطعت. قوله: ((وبك آمنت)) أي: صدقت بك وبكل ما أخبرت وأمرت ونهيت. فيه إشارة إلى الفرق بين الإيمان والإسلام. ¬

_ (¬1) سورة الانشقاق، الآية: 6. (¬2) مجموع الفتاوى، 6/ 461 - 475.

ثالثا: فهم وتدبر معاني الاستعاذة:

قوله: ((وعليك توكلت)) أي: فوَّضت أمري إليك، واعتمدتُ في كل شأني عليك. قوله: ((وإليك أنبت)) أي: رجعت وأقبلت بهمتي وطاعتي إليك، وأعرضت عما سواك. قوله: ((وبك خاصمت)) أي: بك أحتج وأدافع، وأقاتل من عاند فيك، وكفر بك، وأقمعه بالحجة وبالسيف. قوله: ((وإليك حاكمت)) أي: رفعت محاكمتي إليك في كل من جحد الحق، وجعلتك الحكم بيني وبينه، لا غيرك مما كانت تحاكم إليه الجاهلية وغيرهم، من صنم وكاهن ونار وشيطان .. وغيرها، فلا أرضى إلا بحكمك، ولا أعتمد على غيرك. قوله: ((فاغفر لي ما قدمت وما أخرت)) أي: من الذنوب. قوله: ((وما أسررت)) بها، ((وما أعلنت)) منها؛ أي: من المعاصي والذنوب (¬1). ثالثاً: فهم وتدبّر معاني الاستعاذة: 1 - "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" قوله: ((أعوذ بالله)) أي: ألتجئ وأعتصم به، فالله سبحانه هو الملاذ، وهو المعاذ، فاللياذ: لطلب الخير، والعياذ: للفرار من الشر. قال الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر: العلم الهيب في شرح الكلم الطيب للعيني، ص 271 - 276، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 87 - 90.

يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره (¬1) قوله: "من الشيطان": اسم: جنس يشمل الشيطان الأول الذي أُمر بالسجود لأبينا آدم - عليه السلام - فلم يسجد، ويشمل ذريته أيضاً، وهو من "شطن" إذا بعُد، لبُعده من رحمة الله؛ فإن الله لعنه أي: طرده وأبعده عن رحمته. قوله: "الرجيم" فعيل بمعنى: راجم، وبمعنى: مرجوم. فهو راجم، أي: يرجم غيره بالإغواء، فهو يؤز أهل المعاصي إلى المعاصي أزاً، قال اللَّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} (¬2). وهو مرجوم: بلعنة الله، وطرده، وإبعاده عن رحمته، قال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (¬3). وفائدة الاستعاذة هنا: ليكون الشيطان بعيداً عن قلب المرء، وهو يتلو كتاب الله - عز وجل - حتى يحصل له بذلك تدبّر القرآن، وتفهّم معانيه، والانتفاع به (¬4). ومن لطائف الاستعاذة: أنها طهارة للفم، مما كان يتعاطاه: من اللّغو، والرفث، وتطييب له، وتهيّؤٌ لتلاوة كلام الله، وهي استعانة ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، ص 21. (¬2) سورة مريم، الآية: 83. (¬3) سورة الحجر، الآيتان: 34 - 35. (¬4) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ص 21، والشرح الممتع، 3/ 71 - 73.

بالله، واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف، والعجز عن مقاومة العدو المبين، الباطني، الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، الذي يراه وهو لا يراه، فهو في مقابل ذلك يستعين بالذي يرى الشيطان، ولا يراه الشيطان، فالمسلم يلجأ إلى الله من الشيطان أن يضرَّه في دينه أو دنياه، بصدِّه عن فعل ما أُمر به، أو بحثِّه على فعل ما نُهي عنه (¬1). 2 - ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)) (¬2). قوله: ((من همزه)): فسَّره بعض الرواة بالمؤتة، بضم الميم، وفتح التاء: نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه عقله. قوله: ((ونفخه)): فسَّره الراوي بالكِبْر، وكان الكِبْر من نفخ الشيطان؛ لأنه ينفخ في الشخص بالوسوسة، فيعتقد عظم نفسه، وحقارة غيره. قوله: ((ونفثه)): فسَّره الراوي بالشعر، والمراد: الشعر المذموم كالهجاء (¬3)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن من الشعر حِكَماً)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم، ص 21،طبعة دار السلام، وطبعة دار عالم الكتب المحققة،1/ 174. (¬2) أحمد في مسنده، 3/ 50، برقم 11374، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك، 1/ 490، برقم 775، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، 2/ 9، برقم 242، وحسَّن إسناده الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص 96. (¬3) انظر: سبل السلام، كتاب الصلاة، باب التعوذ قبل القراءة، 1/ 278، الحديث رقم 256. (¬4) الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء أن من الشعر حكمة، 5/ 126، برقم 2845، وقال: حديث حسن صحيح. من حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2215، وهو في صحيح البخاري، برقم 6145 بلفظ: ((إن من الشعر حكمة)) عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -.

رابعا: فهم وتدبر معنى البسملة

رابعاً: فهم وتدبُّر معنى البسملة: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أي: أقرأ باسم الله، ويأتي معنى ((الرحمن الرحيم)) في تفسير الفاتحة الآتي: خامساً: فهم وتدبُّر معاني الفاتحة أُمّ القرآن: قوله - عز وجل -: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) الحمد: هو الوصف بصفات الكمال، مع كمال المحبة والتعظيم، والألف واللام في ((الْحَمْدُ)): لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى. قوله - عز وجل -: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)): الربّ: هو الخالق، المالك، المتصرف، ولا يستعمل لغير الله إلا بالإضافة؛ كقولك: رب الدار، و ((الْعَالَمِينَ)): جمع عالَم، وهو كل موجود سوى الله - عز وجل - من أصناف المخلوقات: في السموات، والبر، والبحر، والعالم مشتق من العلامة؛ لأنه علَم دالّ على وجود خالقه سبحانه. قوله - عز وجل -: ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)): اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والأول أبلغ لعمومه في الدارين لجميع خلقه، أما الثاني فخاص بالمؤمنين. قوله - عز وجل -: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)): لا يملك مع الله سبحانه أحد في هذا اليوم حكماً كملكهم في الدنيا، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه سبحانه؛ قال

تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬1)، وقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَقْبِضُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟)) (¬2). و ((الدين)): الجزاء والحساب لله 0 قوله - عز وجل -: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)): هذان مرجع الدين، وقُدّم المفعول للاهتمام والحصر، والمعنى: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين، ونتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة؛ فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتَحوَّل الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب؛ لأن القارئ كأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: ((إياك))، وهذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة، وإرشاده لعباده أن يثنوا عليه بذلك. ((إيَّاكَ نَعْبُدُ)) أي: نُوَحِّدُ ونخاف ونرجو، ((وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) على طاعتك، وعلى أمورنا كُلِّها، وقدّم العبادة له؛ لأنها هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، وللاهتمام والحزم يقدم الأهم فالأهم. قوله - عز وجل -: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)): بعد تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يُعقّب بالسؤال وهو الهداية، والهداية هاهنا هي هداية الإرشاد، أي: العلم، وهداية التوفيق، أي العمل، والصراط أي الطريق الواضح المستقيم الذي لا اعوجاج ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 16. (¬2) مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفة القيامة والجنة والنار، برقم 2787.

فيه، الذي نصبه الله لأهل نعمته، وهو العبادة، فالصراط ها هنا: المتابعة لله تعالى وللرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمن يسأل الله تعالى في كل صلاة الهداية؛ وذلك لأن العبد مفتقر كلَّ ساعةٍ، وحالةٍ إلى الله تعالى، في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصّره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فمعنى ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) أي. استمر بنا عليه، ولا تعدل بنا إلى غيره. قوله - عز وجل -: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)): المنعم عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} (¬1)، أي أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء، والصالحين. قوله - عز وجل -: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)): هم اليهود، وكل من علم الحق ولم يعمل به. و ((الضَّالِّينَ)): هم النصارى، وكل من جهل الحقّ، وقُدِّم اليهود على النصارى في الذكر؛ لأنهم كانوا هم الذين يلون النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كانوا جيرانه في المدينة بخلاف النصارى فإن ديارهم كانت نائية؛ ولذا نجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن أكثر من خطاب النصارى (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيتان: 69 - 70. (¬2) انظر: تفسير القرآن العظيم، ص 25 - 32، وبدائع الفوائد، لابن القيم، 1/ 9 - 41، وهذا الموضع مهم.

سادسا: فهم وتدبر معاني أذكار الركوع:

* ((آمين)): بتخفيف الميم، أي: اللَّهم استجب لنا ما سألناك، قال الفقهاء: من شدّد الميم بطلت صلاته؛ لأنَّ معناها حينئذ: قاصدين، وهذا من جنس كلام المخلوقين (¬1). وفي التأمين فضل عظيم، فمع كونه قولاً يسيراً لا كلفة فيه، يترتب عليه المغفرة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ، وقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) (¬3). سادساً: فَهْمُ وتدبُّر معاني أذكار الركوع: 1 - ((سبحان ربي العظيم)) (¬4) [ثلاث مرات] (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 96. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأمين، برقم 781، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 410. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب جهر المأمومين بالتأمين، برقم 782، وكتاب التفسير، برقم 4475، واللفظ له، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 410. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 772 من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬5) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، برقم 888، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 147، وإرواء الغليل، 2/ 39.

التسبيح: يعنى تنزيه الله عن مطلق النقص: كالجهل، والعجز، وعن النقص في كماله؛ فينزَّه مثلاً: عن التعب والإعياء فيما يخلقه ويفعله، وينزَّه عن مشابهة المخلوقين. و ((العظيم)): أي في ذاته وصفاته؛ فإنه سبحانه في ذاته أعظم من كل شيء (¬1). 2 - ((سُبُّوحٌ، قُدُّوسٌ، رَبُّ الملائكَةِ وَالرُّوح)) (¬2). قوله: ((سُبُّوح)): صيغة مبالغة من سبحان، وهو تنزيه الله - عز وجل - عن كل نقص. و ((قُدُّوس)): أي الطاهر من كلّ عيبٍ ونقصٍ: أي أنزهه تنزيهاً عن كل نقصٍ، و ((القدوس)): صيغة مبالغة من التقديس: وهو التطهير من العيوب. قوله: ((والروح)): قيل: مَلَكٌ عظيم، وقيل: يحتمل أن يكون جبريل - عليه السلام -، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة، كما لا نرى نحن الملائكة، والله - سبحانه وتعالى - أعلم (¬3). 3 - ((سبحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)) (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 128، 129، والمنهل العذب، 5/ 315. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 487. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 204، 205، والمنهل العذب، 8/ 68، والعلم الهيِّب في شرح الكلم الطيب، للعيني، ص 283، 284. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء في الركوع، برقم 794، 817، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 484 من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

التسبيح: التنزيه، أي: براءة وتنزيهاً لله جل وعلا من كل نقص. قوله: ((وبحمدك)): أي: وبحمدك سبحتك، ومعناه: بتوفيقك لي، وهدايتك، وفضلك عليَّ سبحتك، لا بحولي، ولا بقوتي، ففيه شكر الله تعالى على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى (¬1). 4 - ((اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي، [ومَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي])) (¬2). قوله: ((خشع لك سمعي وبصري)): أي: خضع لك، فلا يسمع إلا ما أذنت في سماعه، وخضع بصري، فلا يُبصر إلا ما أذنت في إبصاره، وخصَّ السمع والبصر بالذكر من بين الحواس؛ لأن أكثر الآفات منهما، فإذا خشعا قلَّت الوساوس؛ ولأن تحصيل العلم النقلي والعقلي بهما. قوله: ((مخي، وعظمي، وعصبي)): المراد خضع لك جسمي باطناً، كما خضع لك ظاهراً، وكَنَّى بهذه الثلاثة عن الجسم؛ لأن مدار قوامه عليها، والغرض من هذا كله المبالغة في الانقياد والخضوع لله جل وعلا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 201، 202، والمنهل العذب، 5/ 325. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. وما بين المعقوفين عند ابن حبان في صحيحه، برقم 1901، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 607. (¬3) انظر: المنهل العذب، 5/ 170، والعلم الهيّب في شرح الكلم الطيب للعيني، ص 280، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 201 - 202.

سابعا: فهم وتدبر معاني أذكار الرفع من الركوع:

5 - ((سبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ، والمَلَكُوتِ، والْكِبْرِياءِ، والْعَظَمَةِ)) (¬1). قوله: ((ذي الجبروت)): فَعَلُوت: من الجبر، وهو القهر، وهو صفة من صفات الله تعالى، ومنه الجبَّار، ومعناه: الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، وكل شيء يريده. قوله: ((والملكوت)): من الملك، ومعنى ذي الملكوت: مالك كل شيء، وصيغة الفعلوت للمبالغة: كالرحموت، والرهبوت. قوله: ((والكبرياء)): أي: سبحان ذي الكبرياء: أي العظمة، والملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذّات، وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله - سبحانه وتعالى - (¬2). سابعاً: فَهْمُ وَتدبُّر معاني أذكار الرفع من الركوع: 1 - ((سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)) (¬3). قوله: ((سمع)): أي: استجاب، والمعنى: استجاب الله دعاء من حمده، يقال: اسمع دعائي، أي: أجب؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول، فمن حمد الله فإنه يكون قد دعا ربه بلسان الحال؛ لأن ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 873، والنسائي، كتاب الإمامة، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1049، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 247. (¬2) العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 286، 287، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 203. (¬3) البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود، 1/ 312، برقم 177، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع، 1/ 293، برقم 392، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الذي يحمد الله يرجو الثواب، فإذا كان يرجو الثواب فإن الثناء على الله بالحمد والذكر والتكبير متضمن للدعاء (¬1). 2 - ((ربنا لك الحمد)) (¬2). أو ((اللهم ربنا لك الحمد)) (¬3)، أو ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬4)، أو ((ربنا ولك الحمد)) (¬5) [حمداً، كثيراً، طيباً، مباركاً فيه] (¬6). قوله: ((ربنا)): أي: أنت الرب الملك القيُّوم، الذي بيده الأمور، ثم عطف على هذا المعنى قوله: ((ولك الحمد)) فجمع بين الدعاء والاعتراف، أي: ربنا تقبل منا، ولك الحمد على هدايتك إيّانا لما يرضيك عنَّا، والحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم، ثم أخبر عن شأن هذا الحمد بقوله: ((ملءَ السموات)) إلخ، كما سيأتي في نص آخر (¬7). قوله: ((طيباً)) أي: خالصاً. ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 139، والشرح الممتع، 3/ 136، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 105. (¬2) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة ... ، برقم 392. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد، برقم 796، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 409. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 795. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 795، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 409. (¬6) البخاري، كتاب الأذان، باب حدثنا معاذ بن فضالة، برقم 799. (¬7) انظر: بدائع الفوائد لابن القيم، 2/ 92، 93، والشرح الممتع، 3/ 139.

قوله: ((مباركاً)) أي: متزايداً كثير الخير (¬1). 3 - ((ملءَ السمواتِ، وملءَ الأرض، وما بينهما، ومِلءَ ما شئت من شيء بعدُ، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبدٌ، اللَّهمَّ لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ)) (¬2). قوله: ((ملءَ السموات، وملءِ الأرض)): الله سبحانه محمود على كل شيء؛ على كل مخلوق يخلقه، وعلى كل فعل يفعله؛ ولأن المخلوقات تملأ السموات والأرض، فيكون الحمد حينئذ مالئاً للسموات والأرض، فالمُصلِّي يستحضر بهذا الذكر أن الله محمود على كل فعل فعله، وعلى كل خلق خلقه. وقوله: ((وَمِلْءَ ما شئت من شيء بعدُ)) أي: بعد السموات والأرَضين: كالكرسي، والعرش، وما تحت الأرَضين مما لا يعلمه إلا الله، ولا يحيط به سواه، والمراد الاعتناء في تكثير الحمد، وفي هذا اللفظ إشارة إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود فيه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - حَمِدَه مِلءَ السموات والأرض، وملءَ ما بينهما، ثم ارتفع فأحال الأمر فيه على المشيئة، وليس وراء ذلك الحمد منتهى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 291، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 106. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 477. (¬3) انظر: الشرح الممتع، 3/ 141 - 143، والمنهل العذب، 5/ 170، والعلم الهيب، ص 288، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 107.

قوله: ((أهلَ الثناء والمجد)): أهل الثناء: منصوب على النداء، والثناء هو الوصف الجميل والمدح. قوله: ((والمجد)) أي: العظمة، ونهاية الشرف، يقال: رجل ماجدٌ مفضال كثير الخير شريف، والمجيد فعيل للمبالغة، ومنه سُمّي الله مجيداً (¬1). قوله: ((الجَدّ)): المشهور فيه فتح الجيم، وهو: الحظ، والغنى، والعظمة، والسلطان، والمعنى: لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظه، أي: لا ينجيه حظه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح، كقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ} (¬2)، فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من كان له في الدنيا رئاسة ومال لم ينجه ذلك، ولم يخلِّصْه من الله؛ وإنما ينجيه من عذابه إيمانُه وتقواهُ، فهاهنا أصلان عظيمان: أحدهما: توحيد الربوبية، وهو أن لا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ، ولا مانع لما أعطاه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يُسأل إلا هو. والثاني: توحيد الألوهية، وهو بيان ما ينفع، وما لا ينفع، وأنه ليس كل من أُعطي مالاً أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعاً له عند الله، منجياً له من عذابه؛ فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: العلم الهيب، ص 289، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 107. (¬2) سورة الكهف، الآية: 46. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 194، وفتاوى شيخ الإسلام، 22/ 447.

قوله: "أحق ما قال العبد" تقديره: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت ... إلخ، واعترض بينهما: ((وكلنا لك عبد)) للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت، وكلّنا لك عبد، فينبغي لنا أن نقوله. وفي هذا الكلام دليل ظاهر على فضيلة هذا اللفظ؛ فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا أحق ما قاله العبد، فينبغي أن نحافظ عليه، ولا نهمله؛ لأن كلنا عبد، وإنما كان أحق ما قاله العبد؛ لما فيه من التفويض إلى الله تعالى، والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لاحول ولاقوة إلا به، وأن الخير والشر منه، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة. قوله: ((لا مانع لما أعطيت)) أي: لا مانع لما أردت إعطاءه، وهذا نظير قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). قوله: ((ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)): أي لا ينفع صاحب الغنى من عذابك غناه , ويحتمل أن تكون ((منك)) بمعنى عندك , أي: لا ينفع صاحب الغنى عندك غناه, وإنما ينفعه العمل بطاعتك (¬2). 4 - ((اللهم طهرني بالثلج، والبرد، والماء البارد, اللَّهمّ طهّرني ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 2. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 194 - 196, والمنهل العذب، 5/ 288 - 289، والعلم الهيب، ص 289.

ثامنا: فهم وتدبر معاني أذكار السجود:

من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الوسخ)) (¬1). قوله: ((اللَّهمّ طهّرني بالثلج والبرد والماء البارد)): استعارة للمبالغة في الطهارة من الذنوب وغيرها. قوله: ((اللهم طهرني من الذنوب والخطايا)) الذنب: الإثم بين العبد وبين الآدمي, والخطيئة: المعصية بين العبد وبين الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} (¬2). قوله: ((كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ)) معناه: نقِّني نقاء كاملاً، كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس (¬3). ثامناً: فَهْمُ وَتدبُّر معاني أذكار السجود: 1 - ((سبحان ربي الأعلى)) (¬4) [ثلاث مرات] (¬5). أي: تنزيهاً لك يا رب عن كل نقص في الكمال، وعن مماثلة المخلوقين، و ((الأعلى)): ثناء على الله سبحانه بالعلو، فالمُصلِّي نزل للسجود، والنزول نقص، فكان الثناء على الله بالعلو أولى؛ لتنزيهه تعالى عن النقص الذي حصل للساجد، والمراد بالعلوّ: علو المكان، وعلو الصفة، فهو سبحانه عليٌّ في ذاته، وعليٌّ في صفاته، ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، 1/ 346، برقم 477. (¬2) سورة النساء، الآية: 112. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 193، 194. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 772، من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬5) ابن ماجه، برقم 888، وتقدم تخريجه في أذكار الركوع.

بل هو أعلى من كل شيء - سبحانه وتعالى - (¬1)، وله سبحانه الكمال المطلق: في علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر. 2 - ((سبُّوح قُدُّوس رب الملائكة والرُّوح)) (¬2). 3 - ((سبحانك اللَّهُمَّ ربّنا وبحمدك اللَّهُمَّ اغفر لي)) (¬3). 4 - ((اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلْقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) (¬4). قوله: ((وشقَّ سمعَه)) أي: طريق سمعه؛ إذ السمع ليس في الأذنين، بل في مقعد الصماخ، ((أحسن الخالقين)) أي: أحسن المصورين والموجدين؛ فإنه سبحانه الخالق الحقيقي، المنفرد بالإيجاد والإعدام (¬5). 5 - ((سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)) (¬6). 6 - ((اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه: دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وأوَّلَهُ وآخِرَهُ، ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 171، 172. (¬2) مسلم، برقم 487، وتقدم تخريجه وشرحه في أذكار الركوع. (¬3) البخاري، برقم 794، ومسلم، برقم 484، وتقدم تخريجه وشرحه في أذكار الركوع. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771، من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: المنهل العذب، 5/ 170. (¬6) أبو داود، برقم 883، وتقدم تخريجه وشرحه في أذكار الركوع.

وعَلانِيتَهُ وسِرَّهُ)) (¬1). قوله: ((دقّه وجلّه)): أي صغيره وكبيره [قليله وكثيره]، وقدم الصغير على الكبير؛ لأن الكبائر تنشأ غالباً من عدم المبالاة بالصغائر والإصرار عليها، فكأنها وسيلة، ومن حق الوسائل أن تقدم في الذكر؛ ولأن السائل يترقَّى في سؤاله من الأدنى إلى الأعلى. قوله: ((دقه وجله)) تفصيل بعد إجمال؛ لأنه لما قال: ((اغفر لي ذنبي كله)) تناول جميع ذنوبه مجملاً، ثم فصَّله بقوله: ((دقه وجله))، وفائدته: أن التفصيل بعد الإجمال أوقع، وفيه علمان، والعلمان خير من علم واحد، وهو أعظم بالاعتراف والإقرار بما اقترف من الذنب. قوله: ((وأوله وآخره)): المراد ما تقدم من ذنبه، وما تأخر منه. قوله: ((علانيته وسره)): أي ظاهره وخفيه، وهو بالنسبة لغير الله تعالى؛ لأنهما عند الله سواء، والغرض من هذا كمال التواضع والإذعان من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لامتثال أمر الله - سبحانه وتعالى -، والتشريع للأمة، وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذنوب. وفي هذا اللفظ توكيد الدعاء، وتكثير ألفاظه، وإن أغنى بعضه عن بعض، إلا أن إطالة الدعاء تدل على محبة الداعي؛ لأن الإنسان إذا أحب شيئاً أحب طول مناجاته، فأنت متصل بالله في الدعاء، فتطويلك الدعاء، وبسطك له دليل على محبتك لمناجاة الله - عز وجل -، ثم ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 483.

إن تكثير ألفاظ الدعاء يظهر فيه من التفصيل ما يدل على شدة افتقار الإنسان إلى ربه في كل حال، فالله الغني ونحن الفقراء، واستحضار الإنسان لذنوبه؛ لأن للذنوب أنواعاً، فإذا زيد في الدعاء استحضرت (¬1). 7 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعاَفاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أَحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)) (¬2). قوله: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)) أي: أتحصَّن بفعلٍ يوجب رضاك من فعلٍ يوجب سخطك، وهذا من باب التوسل برضاء الله أن يعيذك من سخطه، فأنت الآن استجرت من الشيء بضده، فجعلت الرضاء وسيلة تتخلَّص به من السخط، والمراد: أسألك التوفيق لفعل الطاعات الموجبة لرضاك، وأسألك الحفظ من المعاصي الموجبة لسخطك. قوله: ((وبمعافاتك من عقوبتك)) المعافاة هي: أن يعافيك الله من كل بليَّة في الدين، أو في الدنيا، وضد المعافاة: العقوبة، والعقوبة لا تكون إلا بذنب، وإذا استعذت بمعافاة الله من عقوبته، فإنك تستعيذ من ذنوبك حتى يعفو الله عنك، إما بمجرد فضله، وإما بالهداية إلى أسباب التوبة. ¬

_ (¬1) انظر: المنهل العذب، 5/ 326، الشرح الممتع، 3/ 183، 5/ 404، والعلم الهيب، ص 294، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 110. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486.

قوله: ((وأعوذ بك منك)): لا يمكن أن تستعيذ من الله إلا بالله إذ لا أحد يعيذك من الله إلا الله، فهو الذي يعيذني مما أراد بي من سوء، ومعلوم أن الله - سبحانه وتعالى - قد يريد بك سوءاً، ولكن إذا استعذت به منه أعاذك، وفي هذا غاية اللجوء إلى الله وأن الإنسان يقر بقلبه ولسانه أنه لا مرجع له إلا ربه - سبحانه وتعالى -، قال الخطابي رحمه الله: ((في هذا الكلام معنى لطيف، وهو أنه قد استعاذ بالله تعالى، وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة، فلمَّا صار إلى ذكر ما لا ضد له - وهو الله سبحانه - أعاذ به منه لا غير، ومعنى ذلك الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه)) (¬1). قوله: ((لا أُحصي ثناء عليك)) أي: لا أطيقه، ولا أبلغه، ولا أصل إليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك رحمه الله: معناه: لا أُحصي: نعمتك، وإحسانك، والثناء بها عليك، وإن اجتهدتُ في الثناء عليك. والثناء هو: تكرار الوصف بالكمال، ففي الحديث القدسي: قال الله تعالى: ((قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ: ((حَمِدَنِي عَبْدِي))، وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّه تعالى: ((أَثْنَى عَلَيَّ ¬

_ (¬1) معالم السنن، 1/ 421.

عَبْدِي ... )) (¬1). فلا يمكن أن تُحصي الثناء على الله أبداً ولو بقيت أبد الآبدين؛ وذلك؛ لأن أفعال الله غير محصورة، وكل فعل من أفعاله فهو كمال، وأقواله غير محصورة، وكل قول من أقواله فهو كمال، وما يدفع عن عباده أيضاً غير محصور، فالثناء على الله لا يمكن أن يصل الإنسان منه إلى غاية ما يجب لله من الثناء مهما بلغ من الثناء على الله، وغاية الإنسان أن يعترف بالنقص والتقصير، فيقول: ((لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) أي: أنت يا ربنا كما أثنيت على نفسك، أما نحن فلا نستطيع أن نُحصي الثناء عليك، وفي هذا من الإقرار بكمال صفات الله ما هو ظاهر معلوم. وفي قوله: ((أنت كما أثنيت على نفسك)): اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء على الله تعالى، وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته وإحصائه إلا هو تعالى؛ ولهذا عدل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن التفصيل والإحصاء والتعيين، ووكَّل ذلك إلى الله - سبحانه وتعالى - المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً، وكما أنه لا نهاية لصفاته كذلك لا نهاية للثناء عليه؛ لأن الثناء تابع للمثنى عليه، وكل ثناء أُثني به عليه - وإن كثر وطال وبولغ فيه - فقدر الله أعظم، وسلطانه أعز، وصفاته أكبر وأكثر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم 395 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 204، والشرح الممتع، 4/ 49 - 51، والمنهل العذب، 5/ 327، ومعالم السنن للخطابي، 1/ 421.

تاسعا: فهم وتدبر معاني الأذكار في الجلسة بين السجدتين

تاسعاً: فَهْمُ وتدبُّر معاني الأذكار في الجلسة بين السجدتين: 1 - ((ربِّ اغْفِرْ لي، ربِّ اغْفِرْ لي)) (¬1). 2 - ((اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني))، ولفظ ابن ماجه: ((ربِّ اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارزقني، وارفعني)) (¬2). أي: يا الله امح ذنوبي، وتقصيري، وأحسن إليَّ بقبول عبادتي، وعافني من البلاء ومضلات الفتن في الدَّارَيْن، واهدني لصالح الأعمال، وثبتني على الدِّين الحقّ، وارزقني رزقاً حسناً، ودرجة عالية في الآخرة، واجبر نقصي في كل شيء (¬3). قوله: ((رب اغفر لي)): سؤال الله - سبحانه وتعالى - أن يغفر لك الذنوب كلها: الصغائر والكبائر، والمغفرة هي: ستر الذنب، والعفو عنه، مأخوذة من المغفر - وهو لباس للرأس عند الحرب يتقى به السهام -، وفي المغفر ستر ووقاية، وليس ستراً فقط، فالمعنى: اغفر لي، أي: استر ذنوبي، وتجاوز عنِّي حتى أسلم من عقوبتها، ومن الفضيحة بها. ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 897، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 335، وفي صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 148. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم 850، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 284، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 898، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 239، وانظر شرح السندي على سنن ابن ماجه، 1/ 484. (¬3) المنهل العذب المورود، 5/ 292، وانظر: شرح السندي على سنن ابن ماجه، 1/ 484.

قوله: ((وارحمني)): طلب رحمة الله - عز وجل - التي بها حصول المطلوب، وبالمغفرة زوال المرهوب، هذا إذا جمع بينهما؛ فإن الرحمة إذا قرنت بالمغفرة: فالمغفرة لما مضى، والرحمة سؤال الله تعالى السلامة من ضرر الذنوب وشرِّها في المستقبل، وأما إذا أُفرد الدعاء بالرحمة: فهو طلب المغفرة لما مضى، والتوفيق والعصمة فيما يستقبل (¬1). قوله: ((وعافني)): المعافاة: المراد بها المعافاة في الدين والدنيا، فتشمل الأمرين: أن يعافيك الله من أسقام الدِّين: وهي أمراض القلوب: كالغلِّ، والحسد، وسوء الظن، ومدار أمراض القلوب على: أمراض الشهوات، والشبهات، وأن يعافيك من أمراض الأبدان، وهي اعتلال صحة البدن. والإنسان محتاج إلى هذا وإلى هذا، وحاجته إلى المعافاة من مرض القلب أعظم من حاجته إلى المعافاة من مرض البدن، فإذا كنت تنظّف قلبك دائماً في معاملتك مع الله، وفي معاملتك مع الخلق حصَّلت خيراً كثيراً، وإلا فإنك سوف تغفل، وتفقد الصلة بالله، وحينئذٍ يصعب عليك التراجع، فحافظ على أن تُفَتِّش قلبك دائماً، فقد يكون فيه مرض شبهة، أو مرض شهوة، وكل شيء - ولله الحمد - له دواء، فالقرآن والسنة الصحيحة دواء للشبهات والشهوات، فالترغيب في الجنة، والتحذير من النار دواء للشهوات، وأيضاً إذا خفت أن تميل إلى الشهوات في الدنيا التي فيها المتعة، ¬

_ (¬1) حاشية ابن قاسم على ثلاثة الأصول.

فتذكر متعة الآخرة. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يحفر الخندق مع المهاجرين والأنصار: ((اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلاَّ عَيْش الآخِرَةِ)) (¬1)، فيقول: ((اللَّهُمَّ)) من أجل أن يكبح جماح النفس حتى لا تغترّ بما شاهدتْ من متع الدنيا، فيُقبلُ على الله، ثم يوطِّن النفس ويقول: ((لا عَيْشَ إلاَّ عَيْش الآخِرَةِ))، لا عيش الدنيا، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله إن العيش عيش الآخرة؛ فإنه عيش دائم، ونعيم لا تنغيص فيه، بخلاف عيش الدنيا فإنه ناقص منغص زائل. وأما دواء القلوب من أمراض الشبهات، فالقرآن كله مملوء بالعلم والبيان الذي يزول به داء الشبهات، ومملوء بالترغيب، والترهيب الذي يزول به داء الشهوات، ولكننا في غفلة عن هذا الكتاب العزيز الذي كلَّه خير، وكذلك السنة المطهرة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما عافية الأبدان فطبّها نوعان: النوع الأول: طب جاءت به الشريعة، فهو أكمل الطب وأوثقه؛ لأنه من عند الله الذي خلق الأبدان، وعلم أمراضها وأدويتها، وهو ضربان: الضرب الأول: طبٌّ مادي: كالتداوي بالعسل، والحبة السوداء. الضرب الثاني: معنوي روحي، وذلك بالقراءة على المرضى، وهذا قد يكون أقوى وأسرع تأثيراً (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلح الأنصار والمهاجرة، برقم 3769، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، برقم 1805. (¬2) انظر صحيح مسلم، برقم 3701.

النوع الثاني: طِبٌّ ماديٌّ يُعرفُ بالتَّجاربِ، وهو: ما يكون على أيدي الأطبَّاءِ، سواء درسوا في المدارس الرَّاقيةِ وعرفوا، أو أخذوه بالتَّجارب. قوله: ((واهدني)): يعني هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، فهداية الإرشاد: التي ضدها الضلال، وهداية التوفيق: التي ضدها الغي، فأنت إذا قلت: ((واهدني)) تسأل الله سبحانه الهدايتين: هداية الإرشاد، وذلك بالعلم النافع، وهداية التوفيق، وذلك بالعمل الصالح، فينبغي للإنسان أن يستحضر أنه يسأل ربه العلم النافع، والعمل الصالح، وذلك لأن الهداية التامة النافعة هي التي يجمع الله فيها للعبد بين العلم والعمل؛ لأن الهداية بدون عمل لا تنفع، بل هي ضرر؛ لأن الإنسان إذا لم يعمل بما علم صار علمه وبالاً عليه، ومثال الهداية العلمية بدون عمل قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (¬1)، معنى ((هَدَيْنَاهُمْ)) أي: بيَّنّا لهم الطريق، وأبلغناهم العلم، ولكنهم - والعياذ بالله - {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}. قوله: ((وارزقني)) طلب الرزق مما يقوم به البدن: من طعام، وشراب، ولباس، وسكن، وما يقوم به الدين: من علم، وإيمان، وعمل صالح، والإنسان ينبغي أن يُعوِّدَ نفسه على استحضار هذه المعاني العظيمة حتى يخرج منتفعاً، فإذا قال: ((ارزقني)) يعني: ارزقني ما به قوام الدين، وما به قوام البدن. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 17.

عاشرا: فهم وتدبر أذكار سجود التلاوة:

قوله: ((واجبرني)) الجَبْرُ يكون من النَّقْصِ، فالإنسان يحتاج إلى جَبْرٍ حتى يعود سليماً بعد كَسْرِه من كسر العظام البدنية، كما أن الإنسان الناقص المفرِّط المُسِرف على نفسه بتجاوز الحدِّ أو القصور عنه، يحتاج إلى جبر ليعود سليماً من الكسور المعنوية؛ فالحاصل أن الإنسان يحتاج إلى جَبْرٍ يَجبرُ له النَّقْصَ الذي يكون فيه (¬1). قوله: ((وارفعني)): أي ارفعني في الدارين: بالعلم النافع، والعمل الصالح، وارزقني درجة عالية في الجنة (¬2). عاشراً: فهم وتدبُّر أذكار سجود التلاوة: 1 - ((سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ})) (¬3). قوله: ((للذي خلقه وشق سمعه وبصره)) تخصيص بعد تعميم؛ أي: فتحهما وأعطاهما الإدراك. قوله: ((بحوله)) أي: بتحويله وصرفه الآفات عنها. قوله: ((وقوَّته)) أي: قدرته بالثبات والإعانة عليهما. 2 - ((اللَّهُمَّ اكتُبْ لي بها عِندَك أجراً، وَضَعْ عَنِّي بِها وِزْراً، وَاجْعَلْهَا ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 181 - 183، و 4/ 31 - 36، والعلم الهيب، ص 296 - 297، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 112. (¬2) انظر: المنهل العذب المورود، 5/ 292، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 112. (¬3) الترمذي، 2/ 474، أبواب الوتر، باب ما يقول في سجود القرآن، برقم 580، أحمد، 6/ 30، برقم 25821، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 220، والزيادة له. [والآية رقم 14 من سورة المؤمنون].

لي عِنْدَكَ ذُخْراً، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ)) (¬1). قوله: ((وِزْرَاً)) أي: ذنباً. قوله: ((ذخراً)) أي: كنزاً، وقيل: أجراً؛ وكرر لأن مقام الدعاء يناسب الإطناب، وقيل: الأول طلب كتابة الأجر، وهذا طلب بقائه سالماً من محبط أو مبطل. قوله: ((كما تقبَّلْتها من عبدك داود)) حين {خَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (¬2). والصواب: أن السجدات في القرآن خمس عشرة سجدة؛ لأن سورة الحج فيها سجدتان؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، فُضِّلت سورة الحج بسجدتين؟ قال: ((نعم، ومن لم يسجدْهما فلا يقرأْهما)) (¬3). والصواب: أن سجود التلاوة لا يشترط له ما يشترط لصلاة النفل: من الطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، ولكن يُستحب ذلك وهو الأفضل، كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم، والشيخ ابن باز، وابن عثيمين رحمهم الله تعالى، أما الجنب فلا يقرأ شيئاً من القرآن حتى يتطهَّر (¬4)؛ ولهذا كان ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مع شدة اتباعه للسنة ((ينزل ¬

_ (¬1) الترمذي، أبواب الوتر، باب ما يقول في سجود القرآن، 2/ 473، برقم 579، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 219. (¬2) سورة ص، الآية: 24. (¬3) أبو داود، برقم 1402، والترمذي، برقم 578، تقدم تخريجه في السبب السادس والثلاثين. (¬4) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 23/ 165 - 170، وتهذيب السنن لابن القيم، 14/ 53 - 56، ومجموع فتاوى ابن باز، 11/ 406 - 415، والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 4/ 126، وتمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني، ص 270.

الحادي عشر: فهم وتدبر معاني التشهد

عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد)) (¬1)]. الحادي عشر: فهم وتدبر معاني التشهد: 1 - ((التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ] وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) (¬2). قوله: ((التحيات لله)): جمع تحية، والتحية هي التعظيم، فكل لفظ يدل على التعظيم فهو تحية، والمعنى: أن كل نوع من أنواع التحيات على سبيل العموم والكمال لا يكون إلا لله - عز وجل -، فنحن نُعَظِّم الله سبحانه ليس لأنه بحاجة إلى ذلك، ولكن هو أهل للتعظيم، فنعظِّمه لحاجتنا لذلك. قوله: ((والصلوات)) أي: والصلوات لله، أي: كل الصلوات: فرضها، ونفلها لله سبحانه، وجميع العبادات، وكل الأدعية التي يراد بها تعظيم الله تعالى هو مستحقها، لا أحد يستحقها، وليست حقّا لأحد سوى الله - عز وجل -. ¬

_ (¬1) البخاري بصيغة الجزم، في كتاب سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 2/ 645: ((وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح)). (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة، برقم 831، ورقم 835، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم 402، وما بين المعقوفين للنسائي في السنن، برقم 1168.

قوله: ((والطيبات)): منها: ما يتعلق بالله، ومنها ما يتعلق بأعمال العباد، فما يتعلق بالله فله من الأوصاف أطيبها، ومن الأعمال أطيبها، ومن الأقوال أطيبها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله طيب ... )) (¬1)، يعني: لا يقول إلا الطيب، ولا يفعل إلا الطيب، ولا يتَّصف إلا بالطيب، فالله سبحانه طيب في كل شيء: في ذاته، وصفاته، وأفعاله. وما يتعلق بأعمال العباد: القولية والفعلية، فله سبحانه منها الطيب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... لا يقبل إلا طيباً)) (¬2)، فإن الطيب لا يليق به إلا الطيب، ولا يقدم له إلا الطيب، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} (¬3)، وما ليس بطيب فهو إلى الأرض، لا يصعد إلى السماء، وهو تعالى: لا يقبل إلاّ الطيب: من أقوال العباد، وأفعالهم، واعتقاداتهم. قوله: ((السلام عليك)) المراد بالسلام: اسم الله - عز وجل -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله هو السلام)) (¬4)، وقال الله تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} (¬5)، ومعنى سلام الله على الرسول، أي بالحفظ، والكلاءة، والعناية، فكأننا نقول: الله عليك، أي: رقيب حافظ معتنٍ بك، حافظ لك من الآفات، وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) يأتي تخريجه في الذي بعده. (¬2) مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم 1015. (¬3) سورة فاطر، الآية: 10. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة، برقم 831، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم 402، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬5) سورة الحشر، الآية: 23.

وقيل: السلام بمعنى التسليم، أي: ندعو له بالسلامة من كل آفة، وإن قال قائل يكون هذا الدعاء في حياته عليه الصلاة والسلام واضحاً، لكن بعد مماته، كيف يناسب أن ندعو له بالسلامة؟ والجواب ليس الدعاء بالسلامة مقصوراً في حال الحياة، فهناك أهوال يوم القيامة؛ ولهذا كان دعاء الرسل أثناء عبور الناس الصراط: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ)) (¬1)، فالمرء لا ينتهي من المخاوف والآفات بمجرد موته. كما قد يكون السلام بمعنى أعم؛ وهو السلام على شرعه وسنته وسلامتها من أن تنالها أيدي العابثين. قوله: ((أيُّها النبي)): منادى حُذفت منه ((يا)) النداء، والأصل: يا أيها النبي، وقيل في حكمة وصفه - صلى الله عليه وسلم - هنا بالنّبوّة؛ ليجتمع له الوصفان؛ فإنه وُصف بالرسالة في آخر التشهد، وإن كانت الرسالة تستلزم النبوة، فالتصريح بها أبلغ. قوله: ((ورحمة الله)) أي: ورحمة الله عليك، والرحمة إذا قُرِنت بالمغفرة، أو بالسلام، صار المراد بها: ما يحصل به المطلوب، والمغفرة والسلام: ما يزول به المرهوب، وإن أُفردت شملت الأمرين جميعاً، فأنت بعد أن دعوت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلام، دعوت له بالرحمة؛ ليزول المرهوب، ويحصل له المطلوب. قوله: ((وبركاته)): جمع بِرْكَة: وهي الخير الكثير الثابت، فندعو ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب فضل السجود، برقم 806، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 182، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبارك فيه بكثرة أتباعه، وكثرة عمل أتباعه؛ لأن كل عمل صالح يفعله أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فله مثل أجورهم إلى يوم القيامة، وبهذا يُردُّ على من يُهدون ثواب القُرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا بدعة ضلالة. قوله: ((السلام علينا)): السلام هنا بنفس ما مضى في ((السلام عليك))، ونون الجماعة في ((علينا)) يراد بها الشخص نفسه، وجميع الأمة المحمدية، واستدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، ومنه قول نوح وإبراهيم عليهما السلام في القرآن. قوله: ((وعلى عباد الله الصالحين)): هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن عباد الله الصالحين هم: كل عبد صالح في السماء والأرض، حي أو ميت، من الآدميين والملائكة، والجن، وعباد الله هم الذين تعبَّدوا لله: أي تذللوا له بالطاعة امتثالاً للأمر، واجتناباً للنهي، فالعبادة مبنيَّةٌ على أمرين: الحب، والتعظيم. فبالحب يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود، وبالتعظيم يكون الهرب من الوقوع في معصيته؛ لأنك تحبه فتطلبه، وتعظمه فتخافه. وأما شرطا قبول العبادة فهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (¬1). وعباد الله الصالحون هم الذين صلحت سرائرهم وظواهرهم بأمرين: ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 110.

الأول: بإخلاص العبادة لله، والثاني: بمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وضد ذلك عباد الله الفاسدون، إما بالسرائر، وإما بالظواهر، فالمشرك فاسد بالسريرة، والمبتدع فاسد الظاهر؛ لأن بعض المبتدعة يريد الخير، لكنه فاسد الظاهر لم يمش على الطريق الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمشرك فاسد الباطن، ولو عمل عملاً ظاهره الصحة والصلاح مثل المرائي. قوله: ((أشهد أنْ لا إلهَ إلاَّ الله)): أشهد، أبلغ من قول: أُخبر؛ لأن الخبر قد يكون عن سماع، والشهادة لا تكون إلا عن قطع، كأنما يشاهد الإنسان بعينيه. وهذه كلمة التوحيد التي أُرسل بها جميع الرسل، ومعناها: لا معبود حق إلاّ الله. قوله: ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)): شهادة بأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ لله، لا شريك، فهو بشر مثلنا تميّز عنا بالوحي، وبما جبله الله عليه من العبادة والأخلاق، وبأنه رسولٌ أرسله الله جلّ وعلا، وجعله واسطة بينه وبين الخلق في تبليغ شرعه فقط (¬1). 2 - ((التَّحِيَّاتُ، الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ)) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 203 - 219، والمنهل العذب، 6/ 71 - 73، وحاشية الروض المربع، 2/ 66 - 69. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم 403 من حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

الثاني عشر: فهم وتدبر معاني الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -:

((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)) تقديره: التحيات، والمباركات، والصلوات، والطيبات لله، ولكن حُذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة، ومعنى الحديث: إن التحيات وما بعدها مستحقة لله تعالى، ولا تصلح حقيقتها لغيره (¬1). 3 - ((التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)) (¬2). الثاني عشر: فهم وتدبر معاني الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)) (¬3). قوله: ((اللهم)) معناها: يا الله، لكن حُذفت ((يا)) النداء، وعُوّض عنها بالميم، وجُعلت في الآخر تيمناً بالبداءة باسم الله - عز وجل -، وكانت ميماً، ولم تكن جيماً، ولا حاء مثلاً؛ لأن الميم أدل على الجمع؛ ولهذا ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 4/ 198. (¬2) مسلم، في الموضع الذي قبل السابق، برقم 404، وما بين المعقوفين عند النسائي، برقم 1173، وأبو داود، برقم 971. (¬3) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا موسى بن إسماعيل، برقم 3370 من حديث كعب بن عجرة، وهذا أكمل لفظ في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء حديث كعب هذا مختصراً في البخاري، برقم 4797، ورقم 6357، وفي مسلم، برقم 406.

تجتمع الشفتان فيها، فكأن الداعي جمع قلبه على ربه ودعا. و ((اللهم)) ((الله)) منادى مبنيٌّ على الضّمِّ في محلّ نصب، ومعنى الله: أي: ذو الألوهية الذي يألَهُه كل من تعبّد له - سبحانه وتعالى -. ((صلِّ على محمد)) وأحسن ما قيل في معناها ما ذكره أبو العالية رحمه الله: أن صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، أي: عند ملائكتك المقربين، وقيل: معناه عظِّمْهُ في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وما ورد بصيغة الأمر موجَّهاً من المخلوق إلى الخالق، فهو دعاء؛ لأن المخلوق لا يأمر الخالق سبحانه. قوله: ((وعلى آل محمد)) أي: وصلِّ على آل محمد، وهم أتباعه على دينه، لكن لو قيل: وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه، صار المراد بآله: قرابته المؤمنون، وبأصحابه: من رآه مؤمناً به ومات على ذلك، وبأتباعه: أتباعه على دينه إلى يوم القيامة. قوله: ((كما صليت على إبراهيم)): الكاف هنا للتعليل، وهنا توسل بفعل الله السابق لتحقيق الفعل اللاحق؛ يعني: كما أنك سبحانك سبق الفضل منك إلى إبراهيم - عليه السلام - وأتباعه، فألحق الفضل منك على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، فأتباع إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في أتباع محمد مثلهم، فإذا طُلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأتباعه من الصلاة عليه مثل ما لإبراهيم وأتباعه، وفيهم الأنبياء حصل لأتباع محمد من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء - وفيهم إبراهيم - لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل له من المزية ما لا يحصل لغيره (¬1). وقد اشتهر الخلاف والتساؤل بين العلماء عن وجه التشبيه في قوله: ((كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم))؛ لأن المقرر أن المشبه دون المشبه به, والواقع هنا عكسه؛ إذ أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل من إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وقضية كونه أفضل؛ أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل. واستحسن كثير من العلماء قول من قال: ((إن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طُلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولآله من الصلاة عليه مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء؛ حصل لآل محمد من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء - وفيهم إبراهيم - لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل له من المزية ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، لابن عثيمين، 3/ 230 - 232، وقد ذكر الخلاف عند العلماء: هل الكاف في قوله: ((كما صليت على آل إبراهيم)) للتشبيه أو للتعليل، فراجع هذا المسألة هناك تفصيلاً.

ما لا يحصل لغيره)). قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - مُعلِّقاً على هذا القول: ((وهذا أحسن ما قيل، وأحسن منه أن يقال: محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم، كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1)؛ قال ابن عباس: ((محمد من آل ¬

_ (¬1) سورة آل عمران, الآية: 33.

إبراهيم))، وهذا نص [فإنه] إذا دخل (¬1) غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في آله؛ فدخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى؛ فيكون قولنا: ((كما صليت على آل إبراهيم)) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله تعالى أن نُصلِّي عليه وعلى آله خصوصاً؛ بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموماً وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له - صلى الله عليه وسلم -)). قال: ((ولا ريب أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعاً، ويظهر حينئذٍ فائدة التشبيه وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه؛ صار له من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره، وانضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم، وعلى كلٍّ من آله - وفيهم النبيون - ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته)) (¬2). قوله: ((إنك حميد مجيد)): حميد بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول، ¬

_ (¬1) [انظر: جلاء الأفهام، لابن القيم، ص 290، وانظر التفصيل في ذلك هذا المرجع من ص 287 - 291، وهو الفصل السادس من جلاء الأفهام. (¬2) انظر: المرجع السابق، ص 290، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 123 - 124.

فهو حامد ومحمود، حامد لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمود يُحمد - عز وجل - على ما له من صفات الكمال في ذاته، وصفاته، وأفعاله بألسنة خلقه. وأما ((مجيد)) فهي: فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو المجد، والمجد هو: العظمة وكمال السلطان، وهو كالتعليل لما قبله؛ لأن المطلوب تكريم الله لنبيه، وثناؤه عليه في الملأ الأعلى، والتنويه به، وزيادة تقريبه، وذلك مما يستلزم طلب الحمد والمجد. قوله: "اللهم بارك على محمد" أي: أنزل البركة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والبركة مأخوذة من البِرْكَةِ، وهو مجتمع الماء، ولا يكون إلا على وجه الكثرة، والقرار، والثبوت، وعليه: فالبركة هي كثرة الخيرات، ودوامها، واستمرارها في العمل، وفي الأثر: أما البركة في العمل: فبأن يوفق الله الإنسان لعمل لا يوفق له من نُزعت منه البركة. وأما البركة في الأثر: فبأن يكون لعمله آثارٌ جليلة نافعة ينتفع بها الناس، ولا شك أن بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نظير لها؛ وذلك لأن الله جعل أمته أكثر الأمم؛ ولأن اجتهادهم في الخير أكثر من اجتهاد غيرهم، فبورك له - صلى الله عليه وسلم - فيمن اتبعه، وبورك له في عمل من اتبعه. قوله: ((وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم)) توسلٌ بفعل الله السابق إلى فعله اللاحق، كأنك تقول: كما أنك يا رب قد تفضّلت على أتباع إبراهيم، وباركت عليهم، فبارك على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع، 3/ 234، والمنهل العذب، 6/ 85 - 87.

2 - ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَآلِ إبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)) (¬1). 3 - ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ؛ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَآلِ إبْرَاهِيمَ)) (¬2). فائدة: لا يُشرع تلفيقُ صيغة صلاة واحدة من مجموع هذه الصيغ، وكذلك يقال في صيغ التشهد المتقدمة، وكذلك صيغ الاستفتاحات، لا يجمع بين ذلك، بل ذلك بدعة في الدين، وإنما السنة أن يقال هذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وَطَرْدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ يَذْكُرَ التَّشَهُّدَ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ، وَأَنْ يُقَالَ الِاسْتِفْتَاحُ بِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَأْثُورَةِ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَسْتَحِبَّهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، بَلْ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ، فَهُوَ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ، فَاسِدٌ فِي الْعَقْلِ)) (¬3). 4 - ((اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى أزواجِهِ وذُرِّيتهِ، كمَا صَلَّيْتَ علَى آلِ إبْراهيمَ، وبَارِكْ عَلى مُحمَّدٍ، وَعَلَى أزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتِهِ، كمَا ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب السهو، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، 3/ 48، برقم 1290، من حديث طلحة - رضي الله عنه -، وصححه الشيخ الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص 166. (¬2) البخاري، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 6358. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 458.

الثالث عشر: فهم وتدبر معاني الاستعاذة والدعاء قبل السلام من الصلاة

بَاركْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيْمَ، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ)) (¬1). الثالث عشر: فهم وتدبُّر معاني الاستعاذة والدعاء قبل السلام من الصلاة: 1 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)) (¬2). قوله: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ)) أي: من العذاب الحاصل منها، وقد ورد في صفات جهنم، وصفات العذاب فيها في الكتاب والسنة ما تقشعرّ منه الجلود، نسأل الله السلامة منها، والاستعاذة هنا تشمل عذاب جهنم، ومن فعل الأسباب المؤدية إلى عذاب جهنم؛ لأن الإنسان بين أمرين: إما عصمة من الذنوب، فهنا إعاذة الله من فعل السبب، وإما عفو عن الذنوب، وهنا إعاذة الله من أثر السبب. قوله: ((عذاب القبر)): أي: من عذاب البرزخ الذي بين موت الداعي، وبين قيام الساعة، فليس المراد بالقبر هنا مدفن الميت؛ لأن الإنسان حقيقة لا يدري هل يموت ويدفن؟ أو يموت وتأكله السباع، أو يحترق ويكون رماداً، فالداعي يستحضر بهذا القول: العذاب الذي يكون للإنسان بعد موته إلى قيام الساعة. ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح، 6/ 407، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: حدثنا موسى بن إسماعيل، برقم 3369، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، 1/ 306، برقم 407، واللفظ له. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، برقم 1377، ومسلم، بلفظه في كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 588.

قوله: ((ومن فتنة المحيا والممات)): أي: اختبار المرء في دينه في حياته، وفي مماته، وأصل الفتنة: الامتحان والاختبار، وفتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها، والجهالات، أو الابتلاء مع زوال الصبر ونحو ذلك، وهي فتنة عظيمة وشديدة، وقلّ من يتخلَّص منها إلا من شاء الله، وهي تدور على شيئين: شبهات، وشهوات. أما الشبهات - ومنشؤها الجهل - فتعرض للإنسان يلتبس عليه الحق بالباطل، فيرى الباطل حقاً، والحق باطلاً، وإذا رأى الحق باطلاً تجنبه، وإذا رأى الباطل حقاً فعله، وهذه فتنة عظيمة؛ فما أكثر الذين يرون الربا حقاً فينتهكونه، وما أكثر الذين يرون غش الناس في البيع والشراء شطارة وجودة، وما أكثر الذين يرون النظر إلى النساء تلذذاً وتمتعاً وحُرِّيَّة. وأما الشهوات - ومنشؤها الهوَى - فإن الإنسان يعرف الحق لكن لا يريده فله هوى مخالف لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنت تسأل الله العافية من أمراض القلوب التي هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات. وأما فتنة الممات فيراد بها ما يكون عند الموت في آخر الحياة، وما يكون بعد الموت مباشرة من سؤال الملكين للميت في قبره عن ربه، ودينه، ونبيِّه، والإنسان عند موته ووداع العمل صائر إمَّا إلى سعادة، وإمَّا إلى شقاوة، ضعيف النفس، ضعيف الإرادة، ضيق الصدر، فيأتيه الشيطان ليغويه؛ لأن هذا وقت المغنم للشيطان، حتى

أنه - كما قال أهل العلم - قد يعرض للإنسان الأديان اليهودية والنصرانية بصورة أبيه وأمه، والعياذ بالله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وعرض الْأَدْيَان عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ أَمْراً عَامّاً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا هُوَ أَيْضاً مَنْفِيّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْأَدْيَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا الَّتِي أَمَرَنَا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَسْتَعِيذَ فِي صَلَاتِنَا مِنْهَا، وَوَقْت الْمَوْتِ يَكُونُ الشَّيْطَانُ أَحْرَصَ مَا يَكُونُ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ)) (¬1). قوله: ((ومن شر فتنة المسيح الدجال)): المسيح الدجال أعظم فتنة في الدنيا على وجه الأرض منذ خُلق آدم - عليه السلام - إلى قيام الساعة، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا ما من نبيٍّ من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم إلا أنذر قومه منه، تنويهاً بشأنه، وتحذيراً منه. وفتنة المسيح الدجال من فتن الدنيا؛ لأن الأموات قد سلموا من فتنته. وهذه الفتن الأربع هي مجامع الشرِّ كله؛ فإن الشر إما عذاب الآخرة، وإما سببه، والعذاب نوعان: عذاب في البرزخ، وعذاب في الآخرة، وأسبابه: الفتنة، وهي نوعان: كبرى وصغرى، فالكبرى فتنة الدجال وفتنة الممات، والصغرى فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة، بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال؛ فإن المفتون فيهما لا يتداركها (¬2). 2 - ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية، ص 85. (¬2) انظر الشرح الممتع، 3/ 237 - 266، وحاشية الروض المربع، 2/ 74.

المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) (¬1). قوله: ((المأثم والمغرم)): المأثم هو الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه، والمغرم هو الدَّين، بدليل تمام الحديث: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله فقال: ((إن الرجل إذا غرم: حَدَّث فكذب، ووعد فأخلف))، ويُراد به ما استدين فيما يكرهه الله تعالى، أو فيما يجوز، ثم عجز عن أدائه، فأما دينٌ احتيج إليه شرعاً، ويقدر على أدائه فلا يستعاذ منه (¬2). 2 - ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) (¬3). قوله: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)): فيه أن الإنسان كثير التقصير، وإن كان صدِّيقاً؛ لأن النعم عليه كثيرة، وقوته لا تطيق بأداء أقل القليل من شكرها، بل شكره من جملة النعم - أيضاً-، فيحتاج إلى شكر هو أيضاً، فما بقي له إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير. وقُدِّم هذا الاعتراف على سؤال المغفرة تأدُّباً، كما وقع لأبينا آدم وأُمِّنا حواء عليهما السلام في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 832، ومسلم، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 589. (¬2) المنهل العذب، 5/ 329. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 834، ومسلم، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 589. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 23.

4 - ((اللهم اغفر لي ما قدمتُ، وما أخَّرتُ، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت)) (¬1). قوله: ((أنت المقدم)) أي: ما تشاء إلى رحمتك بتوفيقه إلى طاعتك. قوله: ((وأنت المؤخر)) لمن تشاء عن رحمتك بعدم توفيقه لطاعتك، كما اقتضته حكمتك (¬2). 5 - ((اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (¬3). قوله: ((ذكرك)) يشتمل على جميع أنواع الثناء حتى قراءة القرآن، والاشتغال بالعلم الديني، وغير ذلك من أنواع الذكر المشروع. وإنما قَدَّم الذكر على الشكر؛ لأن العبد إذا لم يكن ذاكراً لم يكن شاكراً، كما تقَدَّمَ في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (¬4). قوله: ((وحُسنِ عبادتك)) قيد بالحسن؛ لأن العبادة الحسنة هي العبادة الخالصة، فالعبادة إذا لم تكن خالصة [صواباً على السنة] لا تقبل، ولا تنفع صاحبها (¬5). 6 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وأعُوذُ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. (¬2) انظر المنهل العذب 8/ 174. (¬3) أبو داود، 2/ 86، برقم 1522، والنسائي، 3/ 53، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 284. عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، ويأتي تخريجه في صفة الصلاة الكاملة الخاشعة. (¬4) سورة البقرة, الآية: 152. (¬5) انظر: شرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 131.

بِكَ مِنْ أنْ أُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمْرِ، وأعُوْذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا, وَأعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)) (¬1). قوله: ((البخل)) أي: منع إنفاق المال، بعد الحصول عليه، وحبه وإمساكه. قوله: ((الجبن)) أي: تَهَيُّب الإقدام على ما لا ينبغي أن يُخاف. قوله: ((أن أُردَّ إلى أرذلِ العمر)) هو البلوغ إلى حدٍّ في الهرم، يعود معه كالطفل؛ في سخف العقل، وقلة الفهم، وضعف القوة. والأرذل: هو الرَّديء من كل شيء. قوله: ((فتنة الدنيا)) ومعنى الفتنة: الاختبار، قال شعبة رحمه الله: ((يعني: فتنة الدَّجَّال))، وفي إطلاق الدنيا على الدجال، إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا، وقد ورد ذلك صريحاً في قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم، أعظم من فتنة الدجال)) (¬2). ومعنى ((ذرأ)): خلق. قوله: ((عذاب القبر)) فيه إثبات لعذاب القبر؛ فأهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ فأما الفتنة: فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ ومَا دينك؟ ومَن نبيك؟ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬3)؛ ¬

_ (¬1) البخاري مع الفتح، 6/ 35، برقم 2822. عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، برقم 4077، وصححه الألباني، انظر قصة المسيح الدجال له، ص 49. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 27.

فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبةٍ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين: الإنس والجن (¬1)، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب!! 7 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ الجَنَّةَ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ)) (¬2). أي: اللهم إني أطلب منك الفوز بالجنة، وأن تجيرني من عذاب النار. ويتضمن هذا الدعاء طلب التوفيق والهداية إلى الأعمال الصالحة المبتغى بها وجه الله تعالى، التي هي سبب للفوز بالجنة، وطلب البعد عن الأعمال السيئة، التي هي سبب لعذاب النار (¬3). 8 - ((اللَّهُمَّ بعِلْمِكَ الغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ؛ أحْيِني مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وتَوَفَّنِي إذَا عَلِمْتَ الوَفَاةَ خَيْراً لي، اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وأسْألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا والغَضَبِ، وأسْألُكَ القَصْدَ فِي الغِنَى والفَقْرِ، وأسْألُكَ نَعِيماً لا يَنْفَدُ، وأسْألُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وأسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ، وأسْألُكَ بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وأسْألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِيْنَةِ ¬

_ (¬1) هذا معنى حديث رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، برقم 1338، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2870. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم 792، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء، برقم 3846، وانظر: صحيح ابن ماجه، 2/ 328. (¬3) انظر: شرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 132 - 133.

الإيْمَانِ، واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ)) (¬1). قوله: ((ما علمت الحياة خيراً لي)) أي: إذا كانت الحياة خيراً لي في علمك للغيب، وكذلك التقدير في قوله: ((وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)) أي: إذا كانت الوفاة خيراً لي في علمك. قوله: ((خشيتك في الغيب والشهادة)) أي: فيما غاب عني وفيما أشاهده، والمراد منه: الخشية في جميع الأحوال. قوله: ((كلمة الحق)) أي: التكلم بالحق؛ والمراد: العون والتوفيق على التكلم بالحق. قوله: ((في الرضا والغضب)) أي: في حالة الرضا وحالة الغضب، أو المعنى: عند رضاء الراضي، وعند غضب الغاضب. قوله: ((القصد)) القصد من الأمور؛ أي: المعتدل الذي لا يميل على أحد طرفي التفريط والإفراط؛ يعني: أسألك الاعتدال والوسط في الفقر والغنى، لا فقراً بالتفريط، ولا غِنَىً بالإفراط؛ لأن الفقر جداً يستدعي ترك الصبر، المؤدي إلى ارتكاب الطعن في التقدير، والتكلم بأنواع البشاعة، والغنى جداً يؤدي إلى الطغيان والفساد، وخير الأمور أوسطها. قوله: ((نعيماً لا ينفد)) أي: لا يفرغ، وهو نعيم الجنة. قوله: ((قرة عين لا تنقطع)) كناية عن السرور والفرح، يقال: قرَّتْ ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب التطبيق، نوع آخر من الدعاء، 4/ 54، 55، برقم 1305، وأحمد، 4/ 364، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 281.

عيناه؛ أي: سُرَّ بذلك وفرح، وقيل معناه: بلوغ الأُمنية حتى ترضى النفس، وتسكن العين، ولا تستشرف إلى غيره. قوله: ((وأسألك الرضا بعد القضاء)) أي: بعد قضائك عليَّ بشيء من الخير والشر؛ أما في الخير فيرضى به ويقنع به، ولا يتكلَّف في طلب الزيادة، ويشكر على ما أوتي به، وأما في الشر فيصبر عليه ولا يكفر. قوله: ((وأسألك برد العيش بعد الموت)) كناية عن الراحة بعد الموت. قوله: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك)) إنما سأل هنا لذَّة النظر ولم يكتف بسؤال النظر، مبالغة في الرؤية وكثرتها؛ لأنه فرق بين رؤية ورؤية. قوله: ((والشوق)) أي: أسألك لذة الشوق إلى لقائك؛ والشوق هو تعلق النفس بالشيء. قوله: ((في غير ضراء)) متعلّق بقوله: ((أحيني إذا علمت الحياة خيراً لي)) أي: أحيني إذا أردت حياتي في غير ضراء مضرّة، ولا فتنة مضلّة، وتوفني إذا أردت وفاتي في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة عند الموت. والضراء: الحالة التي تضر، وهي نقيض السراء. ووصف الضراء بالمضرة، والفتنة بالمضلة للتأكيد والمبالغة. قوله: ((اللهم زينا بزينة الإيمان)) أي: بشرائعه؛ لأن الشرائع زينة الإيمان؛ يعني: وفقنا لأداء طاعتك وإقامة شرائعك، حتى تكون لنا زينة في الدنيا والآخرة. قوله: ((هداة)) جمع هادي؛ أي: اجمع لنا فينا بين الهدى

والاهتداء (¬1). 9 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ يَا أللهُ بأنَّكَ الوَاحِدُ الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ, أنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (¬2). قوله: ((بأنك)) الباء سببية؛ أي: بسبب أنك الواحد. قوله: ((الواحد الأحد)) لا فرق بين الواحد والأحد؛ أي: الفرد الذي لا نظير له، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله تعالى؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. قوله: ((الصمد)) هو الذي يُصمد إليه في الحاجات؛ أي: يُقصد لكونه قادراً على قضائها، قال الزجاج رحمه الله: ((الصمد السيد الذي انتهى إليه السؤدد، فلا سيد فوقه))، وقيل: هو المستغني عن كلِّ أحد، والمحتاج إليه كلُّ أحد، وقيل: هو الذي لا جوف له؛ قال الشعبي رحمه الله: ((هو الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب)). قوله: ((الذي لم يلد ولم يولد)) أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة. قوله: ((كفواً)) أي: مثلاً ونداً ونظيراً (¬3). 10 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بأنَّ لَكَ الحَمْدَ، لَا إلَهَ إلاَّ أنْتَ، وَحْدَكَ ¬

_ (¬1) انظر: العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 309 - 313. (¬2) أخرجه النسائي بلفظه، كتاب التطبيق، نوع آخر من الدعاء، 3/ 52، وأحمد، 4/ 238، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 280. (¬3) انظر: شرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 136.

لا شَرِيكَ لَكَ، المَنَّانُ، يَا بَدِيعَ السَّمَواتِ والأرْضِ، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إنِّي أسْألُكَ الجَنَّةَ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ)) (¬1). قوله: ((المنَّان)) أي: كثير العطاء، من المنَّة بمعنى النِّعمة، والمنَّة مذمومة من الخلق؛ لأنهم لا يملكون شيئاً، قال صاحب ((الصحاح)): ((مَنَّ عليه هنا؛ أي: أنعم، والمنَّان من أسماء الله تعالى)). قوله: ((يا بديع السموات والأرض)) أي: مبدعها ومخترعها لا على مثال سبق. قوله: ((يا ذا الجلال والإكرام)) أي: صاحب العظمة، والسلطان والإنعام، والإحسان. وجاء في نهاية الحديث؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعْطَى)). قال الطيبي رحمه الله: ((فيه دلالة على أن لله تعالى اسماً أعظم إذا دُعي به أجاب)). قال الشوكاني رحمه الله: ((قد اختلف في تعيين الاسم الأعظم على نحو أربعين قولاً)). قال ابن حجر رحمه الله: ((وأرجحها من حيث السند: الله لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً ¬

_ (¬1) رواه أهل السنن: أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1495، والنسائي، كتاب التطبيق، نوع آخر من الدعاء، 3/ 52، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3858، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في دعاء الحفظ، برقم 3544، وانظر: صحيح ابن ماجه، 2/ 329.

أحد)). وقال الجزري رحمه الله: ((وعندي أن الاسم الأعظم: لا إله إلا هو الحي القيوم)). ورجح ذلك ابن القيم وغيره، والله أعلم (¬1). 11 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بأَنِّي أشْهَدُ أنَّكَ أنْتَ اللهُ لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ، الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ)) (¬2). وتقدم شرحه قبل حديث واحد. 12 - ((السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله)) (¬3) (¬4)، تقدّم معنى السلام في شرح كلمات التشهد، والسنة أن ينوي بالسلام الخروج من الصلاة، والسلام على الحاضرين عن يمينه وشماله، وعلى الملائكة؛ لأدلة منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... ثم يسلم على أخيه: من على يمينه وشماله)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: شرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 137. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، 2/ 62، برقم 1493، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب جامع الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 5/ 515، برقم 3475، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، 2/ 1267، برقم 3857، وأحمد، 5/ 360، برقم 22965، وانظر: صحيح ابن ماجه، 2/ 329، وصحيح الترمذي، 3/ 163. (¬3) انظر: صحيح مسلم، برقم 431، ورقم 581، 582. (¬4) قال الإمام الصنعاني رحمه الله في سبل السلام، 2/ 330: ((وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة، كلهم بدون زيادة وبركاته إلا في رواية وائل، ورواية عن ابن مسعود))، فقال المحقق: ((بل ضُعِّف ذلك، ثم ذكر تسعة وعشرين صحابياًّ، وخرَّج رواياتهم))، سبل السلام، 2/ 330. (¬5) مسلم، برقم 431، وانظر: صلاة المؤمن للمؤلف، 1/ 257.

الرابع عشر: فهم وتدبر معاني الأذكار بعد السلام من الصلاة

الرابع عشر: فهم وتدبر معاني الأذكار بعد السلام من الصلاة 1 - ((أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) (¬1). قوله: ((أستغفر الله)) السنة أن يستغفر المصلي بعد سلامه ثلاث مرات - والمغفرة هي ستر الذنب والعفو عنه - تحقيراً لعمله، وتعظيماً لجناب ربه جل وعلا، وكذلك ينبغي أن يكون حال العبد، فيلاحظ عظمة جلال ربه، وحقارة نفسه، وعمله لديه، فيزداد تضرُّعاً واستغفاراً، كلما يزداد عملاً، وقد مدح الله تعالى أهل الاستغفار بعد القيام بقوله: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون} (¬2). قوله: ((اللهم أنت السلام)): السلام من أسماء الله تعالى، أي: أنت السالم مما يلحق الخلق: من المعائب، والآفات، والحوادث، والتغيّر، ومن كلّ نَقْصٍ، وقيل: المُسلِّم على الأنبياء عليهم السلام في الدنيا، وعلى المؤمنين في الجنة. قوله: ((ومنك السلام)): هذا بمعنى السلامة، أي أنت الذي تعطي السلامة من الآفات الدنيوية والأخروية، ومنك يطلب السلام، ويرجى، ويستوهب، ويستفاد. قوله: ((تباركت)): من البِرْكَةِ: وهي: الكثرة، والنماء، والزيادة، والدوام: والمعنى: تعاليت، وتعاظمت، وكثرت خيراتك واتسعت، وتزايد برك. ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته برقم: 591. (¬2) سورة الذاريات: 17/ 18.

قوله: ((يا ذا الجلال والإكرام)) الجلال: والعظمة، والإكرام: الإحسان، وهو المستحق لأن يهاب؛ لسلطانه، وجلاله، ويُثني عليه بما يليق بعلو شأنه، والجلال مصدر الجليل، يقال: جليل بيِّن الجلالة، والجلال: عظم القدر، فالمعنى: أن الله تعالى مستحق أن يُجَلَّ، والإكرام: مصدر أكرم يكرم، فالمعنى: أن الله مستحق أن يُجَلَّ ويُكرم فلا يُجحد، ولا يكفر به، وهو الرب المستحق للعبادة، والإجلال والإكرام (¬1). 2 - ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللَّهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ)) (¬2). هذا الذكر مستحب لما فيه من ألفاظ التوحيد، ونسبة صفات الكمال إلى الله، والمنع والإعطاء، وتمام القدرة، فأوَّله كلمة التوحيد التي أُرسل بها جميع الرسل عليهم السلام، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وكلما عظُم إيمان العبد بهذه الكلمة؛ ازداد نورها في قلبه واشتد، وأحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهةً، ولا شهوةً، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً فأي ذنب، أو شهوة، أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها (¬3). قوله: ((له الملك، وله الحمد)): له الملك أي له سبحانه التصرف في ¬

_ (¬1) انظر: حاشية سنن النسائي للسندي، 3/ 69، والعلم الهيب، ص 315، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 139. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء، برقم 6330، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: تهذيب مدارج السالكين، 1/ 297.

السموات والأرض، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، والحمد هو الوصف بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم، والألف واللام في ((الحمد)) لاستغراق جميع أجناس الحمد، وصنوفه لله تعالى. قوله: ((لا مانع لما أعطيت)) أي: لا مانع لما أردت إعطاءه، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} (¬1)، فلا أحد يقدر على منع ما أعطيت أحداً من عبادك، فإذا أراد الله أن يعطي أحداً شيئاً، واجتمع الجن والإنس على منعه، فإنهم يعجزون عن ذلك. قوله: ((ولا معطي لما منعت)) أي: ولا أحد يقدر على إعطاء ما منعت. قوله: ((ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)) بفتح الجيم في اللفظين: هو الحظ في الدنيا بالمال، أو الولد، أو العظمة، أو السلطان: أي: لا ينفع صاحب الغنى منك، ولا من عذابك غناه، وإنما ينفعه العمل الصالح بفضلك ورحمتك (¬2). 3 - ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 2. (¬2) انظر زاد المعاد، 1/ 296، وفتح الباري، 2/ 332، والعلم الهيب، ص 317، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 140. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 594.

قوله: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)): الحول بمعنى التحوّل، أي لا تحوَّل من حال إلى حال إلا بالله جل وعلا، والقوة: أخص من القدرة، والباء في قوله ((إلا بالله)) للاستعانة، والمعنى: لا أستطيع ولا أقوى على التحوّل إلا بمعونة الله، فكل إنسان لا يستطيع أن يتحوّل من حال إلى حال، سواء من معصية إلى طاعة، أو من طاعة إلى أفضل منها إلا بالله تعالى. قوله: ((ولا نعبد إلا إياه)) أي عبادتنا مقصورة على الله، غير متجاوزة عنه. قوله: ((له النعمة)):أي النعمة الظاهرة والباطنة. قوله: ((وله الفضل)): أي في كل شيء {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬1): وهو الإنعام والإكرام. وقوله: ((والثناء الحسن)) أي الذكر الجميل، وهو تكرار الوصف بالكمال. والثناء الحسن: يشمل أنواع الحمد، والمدح، والشكر، ولا نُحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه. ((مخلصين له الدين)) أي: مخلصين له العبادة، لا نشرك فيها غيره شركاً أصغر، ولا أكبر، ولو كره الكافرون الإخلاص في العبادة له جل وعلا. قوله: ((ولو كره الكافرون)) أي وإن كره الكافرون، ومفعوله محذوف تقديره: ولو كرهوا كوننا مخلصين لله، وكوننا عابدين له (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 105. (¬2) انظر المنهل العذب، 8/ 172، 188، العلم الهيب، ص 318 - 319، وشرح حصن المسلم بتصحيح المؤلف، ص 141.

4 - ثم يذكر الله تعالى بنوعٍ من الأنواع الآتية: النوع الأول: ((سبحان الله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الحمد لله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الله أكبر)) ثلاثاً وثلاثين، ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) مرة واحدة (¬1). النوع الثاني: ((سبحان الله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الحمد لله)) ثلاثاً وثلاثين، ((الله أكبر)) أربعاً وثلاثين (¬2). النوع الثالث: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر)) ثلاثاً وثلاثين (¬3). النوع الرابع: ((سبحان الله)) خمساً وعشرين، ((الحمد لله)) خمساً وعشرين، ((الله أكبر)) خمساً وعشرين، ((لا إله إلا الله)) خمساً وعشرين (¬4). النوع الخامس: ((سبحان الله)) إحدى عشرة، ((الحمد لله)) إحدى عشرة، ((الله أكبر)) إحدى عشرة (¬5). النوع السادس: ((سبحان الله)) عشر مرات، ((الحمد لله)) عشر مرات، ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان فضله، برقم 597. من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان فضله، برقم 596، من حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه -. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 843، ورقم 595، ومسلم، كتاب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 595. (¬4) النسائي في سننه، كتاب السهو، باب عدد التسبيح بعد التسليم، برقم 1349، 1350، والترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3413، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 752، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 434 من حديث ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 143 - (595) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

((الله أكبر)) عشر مرات (¬1). و ((الأولى - كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله- البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الله - سبحانه وتعالى -، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذْ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير، إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده - سبحانه وتعالى - بجميع ذلك)) (¬2). 5 - يقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬3). قوله - عز وجل -: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}: إخبار بأنه سبحانه المنفرد بالإلهِيَّةِ لجميع الخلائق [ولفظ الجلالة عَلَمٌ خاص بالذَّات العليَّة، فهو سبحانه الإله الحق، وما سواه من الآلهة فهو باطل، و ((إله)) بمعنى مألوه، والمألوه هو المعبود: حباً، وتعظيماً، وخوفاً، ورجاءً]. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: هذان اسمان من أسماء الله تبارك وتعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال؛ فكمال الأوصاف في ((الْحَيُّ))، وكمال الأفعال في ((الْقَيُّومُ))؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة التي لم تسبق ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم 6329، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) فتح الباري، 2/ 328. (¬3) سورة البقرة، الآية: 255.

بعدم، ولا يلحقها زوال، فالله الحيُّ في نفسه، الذي لا يموت أبداً، ومعنى القيّوم: القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى أكل وشرب، ولا مُعين، ولا ناصر، والقائم على غيره بما كسب، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيٌّ عنها، ولا قوام لها بدون أمره، ومن تمام القَيُّوميَّة أن لا يعتريه سنة ولا نوم. قوله - عز وجل -: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} أي: لا يعتريه نقصٌ، ولا غفلةٌ، ولا ذهولٌ عن خلقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه خافية، وقوله: {لاَ تَأْخُذُهُ}: لا تغلبه سِنَةٌ وهي الوسن والنعاس؛ ولهذا قال: ((وَلاَ نَوْمٌ))، لأنه أقوى من السِّنة. [ولم يقل: ((لا ينام)) حتى يشمل الأخذ بالغلبة، والأخذ بالاختيار، ولو قلت لا ينام، فقد يكون معناه: لا ينام اختياراً، لكن الله - عز وجل - لا ينام لا بالغلبة، ولا بالاختيار]. قوله - عز وجل -: {لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}: إخبار بأن الجميع عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه. قوله - عز وجل -: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه}: هذا من عظمة الله وجلاله، وكبريائه - عز وجل -، وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه ((إِلاَّ بِإِذْنِهِ))، إلا أن يأذن له في الشفاعة، حتى أعظم الناس جاهاً عند الله محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع إلا بإذن الله] كما في حديث الشفاعة الطويل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((فأستأذن على ربي فيُؤذن لي، ويُلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخرُّ له ساجداً، فَيُقَال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعطَ،

واشفع تُشفَّع ... )) (¬1). قوله - عز وجل -: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}: دليل على إحاطة علمه سبحانه بجميع الكائنات: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها. قوله - عز وجل -: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}: أي: لا يطَّلع أحد على شيء من علم الله إلا بما أعلمه الله جل وعلا وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته، وصفاته، إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمِاً} (¬2). قوله - عز وجل -: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}: والصحيح أن الكرسي موضع القدمين، وأنه غير العرش، والعرش أكبر منه، قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((الكرسي موضع القدمين والعرش: لا يقدر أحد قدره)) (¬3)، [وسع: بمعنى شمل وأحاط، والكرسي موضع قدمي الرب سبحانه، وهو بين يدي العرش كالمقدمة له]. قوله - عز وجل -: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}: أي: لا يُثقله، ولا يكترثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما؛ بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو سبحانه القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة، صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعّال لما يريد، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، والحسيب لكل شيء. ¬

_ (¬1) البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب كلام الرب - عز وجل - يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم 7510، وأطرافه في الطرف الأول، برقم 44. (¬2) سورة طه، الآية: 110. (¬3) الحاكم، 2/ 282، وصححه على شرط الشيخين موقوفاً 442 - 444.

قوله - عز وجل -: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم}: العليُّ أي: ذو العلو المطلق، والعلو: صفة من صفات الله تعالى، ومعنى العلو المطلق: علو الذات، وهو أنه تعالى مستوٍ على عرشه، استواء يليق بجلاله، وله القدر، وله علوُّ القهر. والعظيم: أي: ذو العظمة، والعظيم من كل شيء، الذي يكون بالغ الأهمية، وبالغ الصفات، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه (¬1). 6 - يقرأ سورة الإخلاص: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}: قوله - عز وجل -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} أي: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه، ولا عديل، ولا يُطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله - عز وجل -؛ لأنه الكامل في جميع صفاته، وأسمائه، وأفعاله. قوله - عز وجل -: {اللَّهُ الصَّمَد} يعني: الذي يصمد إليه الخلائق في طلب حوائجهم، ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، وهذه صفة لا تنبغي إلا له، وليس له كفء، وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار. قوله - عز وجل -: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد} أي: ليس له ولد ولا والد، ولا صاحبة. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم، 5/ 429 - 244، وفتح القدير، 1/ 271 - 274، وشرح العقيدة الواسطية للهراس، ص 142، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين، ص 327.

قوله - عز وجل -: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} يعني: ليس له نظير يساميه، أو قريب يدانيه: تعالى، وتقدَّس، وتنزَّه، قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1). وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً* إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (¬2). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عز وجل -: كذَّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إيّاي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد)) (¬3) (¬4). 7 - يقرأ سورة الفلق: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق * مِن شَرِّ مَا خَلَق * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 101. (¬2) سورة مريم، الآيات: 88 - 95. (¬3) البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الإخلاص، برقم 4974، وطرفه برقم 1393. (¬4) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 14/ 512 - 515. (¬5) سورة الفلق، الآيات: 1 - 5.

قوله - عز وجل -: ((قُلْ)) أمرٌ: أي أمرك أن تقول ... قوله - عز وجل -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}: الاستعاذة هي: الالتجاء، والاعتصام، والاستجارة بالله سبحانه، أي: ألجأ، وأعتصم، وأستجير، والفلق الصبح، وذلك: {مِن شَرِّ مَا خَلَق} أي من شر جميع المخلوقات، والشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين: إمّا ذنوب وقعت منه يعاقب عليها، فيكون وقوع ذلك الشر: بفعله، وقصده، وسعيه، فيكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين، وأدومهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه. وإمَّا شر واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّف كالإنسان والجني، أو غير مكلَّف كالهوام، وذوات السموم، وغيرها: فتضمنت هذه الاستعاذة في هذه السورة الاستعاذة من الشرور كُلِّها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدلّه على المراد، وأعمّه استعاذةً، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه. والقسم الأول هو أعظم الشرين، وأدومهما، وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبده بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها، في نفسه: قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1)، فما حُفِظَتْ نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شُكْره، قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} (¬2)، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه؛ فإنها - أي ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآية: 11. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7.

المعصية - نار النِّعم التي تعمل فيه كما تعمل النار في الحطب اليابس (¬1). قوله - عز وجل -: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} الغاسق: هو الليل إذا أقبل بظلامه، فإن الشر فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشمس إذا غربت، انتشرت الشياطين؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ترسلوا فواشيكم (¬2) وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء)) (¬3) قوله - عز وجل -: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد} النفاثات: هي الأرواح والأنفس الشريرة، وهنَّ السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفث: النفخ مع ريق، والعقد: جمع عقدة، وهي من خيوط كما تقدم. قوله - عز وجل -: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسد: تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود، وهي: كراهة نعمة الله على الغير، ويدخل في معنى الحاسد: العائن؛ لأن العين لا تصدر إلا من حاسدٍ شرّير الطبع، خبيث النفس، وهذا غير حسد الغبطة: وهو أن يتمنَّى أن يرزقه الله مثل فلان من الخير، مع محبته أن تبقى النعمة ولا تزول، وهذا لا بأس به. ¬

_ (¬1) انظر: بدائع الفوائد،2/ 296. (¬2) شرح النووي على مسلم: الفواشي: كل شيء منتشر من المال: كالإبل، والغنم، وسائر البهائم، فإنها جمع فاشية: أي تنتشر في الأرض، وفحمة العشاء: ظلمتها وسوادها. (¬3) مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم الله عليها، برقم 2013 من حديث جابر - رضي الله عنه -.

ومعنى {إِذَا حَسَدَ} أي: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وحمله على إيقاع الشر بالمحسود (¬1). 7 - يقرأ سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}. قوله - عز وجل -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس * إِلَهِ النَّاس} هذه ثلاث صفات من صفات الرب - عز وجل -: الربوبية، والملك، والإلهيَّة، فهو سبحانه ربُّ كل شيء، فربوبيته تعالى: متضمنة لخلق الخلق، وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وما يحتاجون إليه، ورفع الشر عنهم، وحفظهم مما يفسدهم، وهو مليك كلّ شيء: فهو مليكهم المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، المدبِّر لهم كما يشاء، الذي له السلطان التام عليهم، فهو مليكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم، ومعاذهم، وملجؤهم، فلا صلاح لهم، ولا قيام إلا به وبتدبيره. وهو إله كل شيء، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم حق سواه. فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة، عبيد له، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات. قوله - عز وجل -: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس}: وهو الشيطان الموكَّل بالإنسان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وَسْوَسَ، فإذا ذكر الله خنس؛ فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَيِّن له الفواحش، ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 14/ 222 - 228، وانظر: تفسير المعوذتين تفسيراً مفصلاً في بدائع الفوائد لابن القيم، 2/ 198 - 276.

والمعصوم من عصمه الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكّل الله به قرينه من الجن)) قالوا: وإيّاك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير))، وفي لفظ: ((وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) (¬1). قوله - عز وجل -: {الْوَسْوَاسِ} أي: الموسوس، والوسوسة هي حديث النفس. قوله - عز وجل -: {الْخَنَّاس} أي: كثير الخنس، والخنس: التواري والاختفاء، ووصف الشيطان بالخنَّاس؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّس} (¬2)، يعني النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار فتختفي ولا تُرى. قوله - عز وجل -: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} تفسير للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجن، أي: نعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، والجِنَّة: جمع جني. وكل شر في العالم فالشيطان سبب فيه، ولكن يمكن حصر شره في ستة أجناس، فلا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحداً منها أو أكثر: الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن يئس منه ذلك، نقله إلى: المرتبة الثانية من الشر، وهي البدعة، وهي أحبّ إليه من الفسوق والمعاصي، فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبدُ ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى: المرتبة الثالثة من الشر، وهي الكبائر على اختلاف أنواعها، فإن ¬

_ (¬1) مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان برقم: 2814. (¬2) سورة التكوير، الآية: 15.

عجز الشيطان عن هذه المرتبة، نقله إلى: المرتبة الرابعة، وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، نقله إلى: المرتبة الخامسة، وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظاً لوقته، شحيحاً به، نقله إلى: المرتبة السادسة، وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليزيح عنه الفضيلة، ويفوِّته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، وقلّ من يتنبه لهذا من الناس، فإن أعجزه العبد عن هذه المراتب الست، وأعيا عليه سلّط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى (¬1)، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليمنع الناس من الانتفاع به (¬2). السبب الثامن والأربعون: التنويع في الاستفتاح، والقراءة، والأذكار في الصلاة: المصلِّي إذا حافظ على السنة في قراءة الاستفتاحات في الصلاة بأنواعها: فيقرأ هذا النوع تارة، والنوع الآخر تارة أخرى، والثالث تارة ثالثة، وقد سبق أن ذكرت منها في فهم وتدبر معاني الاستفتاح ثمانية أنواع، فإذا حافظ المسلم على هذه الأنواع منوِّعاً لها في صلواته حصل على الخشوع، وعلى ثواب العمل بالسنة، وعلى ¬

_ (¬1) وهذه: هي المرتبة السابعة. (¬2) انظر تفسير القرآن العظيم 14/ 529 - 532، وبدائع الفوائد لابن القيم، 2/ 2247 - 262 وتفسير المعوذتين تفسيراً مفصلاً في هذا المرجع 2/ 198 - 276.

حفظ هذه الاستفتاحات (¬1). وكذلك ينوِّع في قراءته للقرآن في الصلاة، فيلتزم السنة فيما يقرأ في الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء كما جاءت به السنة، وكذلك قراءة سورة السجدة والإنسان في فجر الجمعة، وقراءة سورة سبح اسم ربك الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة تارة، والجمعة والمنافقون تارة أخرى، والجمعة والغاشية تارة ثالثة، كما ثبتت السنة بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكذلك تنويع أذكار الرفع من الركوع بعد قوله: ((سمع الله لمن حمده))، فتارة يقول: ((ربنا لك الحمد))، وتارة يقول: ((ربنا ولك الحمد))، وتارة يقول: ((اللهم ربنا لك الحمد))، وتارة يقول: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬3). وكذلك تنويع الأذكار أدبار الصلوات كما جاءت بذلك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ذكرت في فهم وتدبر الأذكار بعد السلام من الصلاة أنواع التسبيح، وأنها قد جاءت على ستة أنواع، فيقول المسلم كلَّ نوعٍ في دبر صلاةٍ من صلواته (¬4). وكذلك ينوِّع في قراءة التشهد، فإنه جاء في السنة على أنواع (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: تخريج هذه الاستفتاحات في المبحث الحادي والعشرين: السبب الحادي والخمسين. (¬2) انظر: تخريج هذه القراءة في السبب الحادي والخمسين. (¬3) انظر: تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين. (¬4) انظر تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين. (¬5) انظر تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين.

السبب التاسع والأربعون: الاجتهاد في الدعاء في مواضعه في الصلاة:

وأيضاً الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت على أنواع (¬1). فإذا فعل المسلم ذلك حصل له الخشوع في صلاته بتوفيق الله تعالى. السبب التاسع والأربعون: الاجتهاد في الدعاء في مواضعه في الصلاة: الدعاء مناجاةٌ لله تعالى، فإذا اجتهد العبد في الدعاء، والتذلُّل لله فيه، والإلحاح، والطلب منه تعالى؛ فإن هذا مما يزيد العبد محبة لربِّه، وخشوعاً، وتذلُّلاً، ورغبة فيما عنده، ورهبة من عذابه، والدعاء في الحقيقة عبادة عظيمة لله تعالى؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدعاء هو العبادة، قال ربّكم: ((ادعوني أستجب لكم)) (¬2)، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) (¬3). وقد شرع الله تعالى الدعاء في الصلاة في مواضع ومواطن أثناء أداء المسلم للصلاة، ومن أعظم هذه المواضع: الدعاء في السجود، فينبغي أن يجتهد المسلم في الدعاء في السجود؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... وأما الركوع فعظموا فيه الربّ ¬

_ (¬1) انظر تخريج هذه الأذكار في السبب الحادي والخمسين. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1481، والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب ومن تفسير سورة البقرة، برقم 2959، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، برقم 3828، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 3/ 150، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 324. والآية رقم 60 من سورة غافر. (¬3) الترمذي، كتاب الدعوات، باب من لم يسأل الله يغضب عليه، برقم 3373، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، برقم 3827، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 1283، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 1354. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 482.

[- عز وجل -]، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن (¬1) أن يستجاب لكم)) (¬2). فحرِيٌّ بالمسلم أن يجتهد في الدعاء في السجود، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - أدعية كثيرة للدعاء في السجود (¬3)، وأذكار الركوع، والدعاء بها (¬4)، وأذكار الرفع من الركوع، وبعد الاعتدال منه (¬5)، وأذكار الجلسة بين السجدتين (¬6)، والدعاء قبل السلام بعد التشهد الأخير (¬7). فينبغي للمسلم أن يجتهد في ذلك، ويقتدي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ويدعو الله وهو موقن بالإجابة، ويجمع بين الخوف من الله تعالى ورجائه، مع المحبة لله تعالى. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ((القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر: فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سَلِمَ الرأس والجناحان فالطائرُ يطير جيداً، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى ¬

_ (¬1) قمنٌ: حقيقٌ وجديرٌ أن يستجاب لكم. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم 479. (¬3) انظر: أدعية كثيرة صحيحة في السجود في المبحث الحادي والخمسين: الدعاء في السجود. (¬4) انظر: السبب الحادي والخمسين: أدعية الركوع. (¬5) انظر: السبب الحادي والخمسين: أدعية الرفع من الركوع. (¬6) انظر: السبب الحادي والخمسين: أدعية الجلسة بين السجدتين. (¬7) انظر: السبب الحادي والخمسين.

السبب الخمسون: إحسان الطهور وإكماله:

فُقِدَ الجناحان: فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوِّي في الصحة جناح الخوف، وعند الخروج من الدنيا يقوِّي جناح الرجاء على جناح الخوف)). وقال بعض السلف: ((أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنّه وكرمه)) (¬1). قال الله - عز وجل -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (¬2). فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه: بالعبوديَّة، والمحبة، فقد ذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب، والخوف، والرجاء (¬3). ومع ذلك ينبغي أن يكون المسلم قبل دعائه متطهِّراً من الذنوب بالتوبة، ويكون زاهداً ورعاً: وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة الزهد والورع فقال: ((الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة)) (¬4). السبب الخمسون: إحسان الطهور وإكماله: لا شك: أن إحسان الطهارة: من الوضوء، والغسل على الوجه ¬

_ (¬1) مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 517، وانظر: 1/ 520، من المرجع نفسه. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 57. (¬3) مدارج السالكين، لابن القيم، 2/ 35. (¬4) المرجع السابق، 2/ 10.

الأكمل يعين على الخشوع في الصلاة، وقد حذَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من النقص في ذلك، وتَرْك استيعاب غسل الأعضاء في الوضوء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويل للأعقاب من النار))، ولفظ مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: ((ويل للأعقاب من النار))، وفي لفظ لمسلم: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ويل للعراقيب من النار)) (¬1). وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الصبح، فقرأ الروم فالْتَبَسَ عليه، فلما صلَّى قال: ((ما بال أقوام يصلُّون معنا لا يحسنون الطُّهورَ، فإنما يَلْبِسُ علينا القرآن أولئك)) (¬2)، وفي لفظ لأحمد من حديث أبي روح الكلاعي: ((إنما يلبّسُ علينا الشيطان القراءة من أجل أقوامٍ يأتون الصلاة بغير وضوء، فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء))، وفي لفظ: ((صلى الصبح فقرأ فيها الروم، فأوهم ... ))، وفي لفظ له: (( ... أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح، فقرأ بالروم فتردَّد في آية، فلما انصرف قال: ((إنه يلْبِسُ علينا القرآن: أن أقواماً منكم معنا لا يُحسنون الوُضُوءَ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الأعقاب، برقم 165، مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما، برقم 242، وقد جاء عند مسلم أيضاً بنحوه عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، برقم 240، وعن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، برقم 241، وفيه قصة في السفر. (¬2) النسائي، كتاب الافتتاح، باب القراءة في الصبح بالروم، برقم 947، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 315.

السبب الحادي والخمسون: المحافظة على صفة الصلاة الكاملة الخاشعة من كل وجه:

الوضوء)) (¬1)، وأورده ابن كثير في تفسيره في آخر سورة الروم، ثم قال: ((وهذا إسناد حسن، ومتن حسن، وفيه سرٌّ عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - تأثر بنقصان وضوء من ائتمَّ به، فدلّ ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام)) (¬2). وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في موضع آخر: ((فدلَّ هذا على أن إكمال الطهارة يُسهِّلُ القيام في العبادة، ويُعين على إتمامها، وإكمالها، والقيام بمشروعاتها)) (¬3). وقال السندي رحمه الله تعالى عن الحديث المذكور: ((وفيه تأثير الصحبة، وأن الأكملين في أكمل الأحوال يظهر فيهم أدنى أثر، والله تعالى أعلم)) (¬4). ومما تقدم يتضح: أن النقص في الطهارة يؤثر على المُصلِّي، ويتعدَّى تأثيره إلى الإمام إذا كان ذلك المُقصِّر في الوضوء يصلِّي في جماعة، والله المستعان (¬5). السبب الحادي والخمسون: المحافظة على صفة الصلاة الكاملة الخاشعة من كل وجه: أعظم الأسباب الجالبة للخشوع في الصلاة: أن يصلِّي المسلم الصلاة الكاملة من كل وجهٍ، وذلك: بإكمال شروطها قبل الدخول ¬

_ (¬1) أحمد، 25/ 208، برقم 15872، وبرقم 15873، ورقم 15874، و 38/ 169، برقم 23072، وبرقم 23125، وحسنه محققو المسند، 25/ 211، وفي 38/ 169، 206. (¬2) تفسير القرآن العظيم، ونقله عنه محققو المسند، 25/ 210. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 7/ 289 عند تفسير الآية 108 من سورة التوبة. (¬4) حاشية السندي على سنن النسائي، 2/ 157. (¬5) انظر: الخشوع في الصلاة، لمحمد لطفي الصباغ، ص57.

فيها، والقيام بإكمال أركانها، وواجباتها، وخشوعها، وسننها، والابتعاد عن مبطلاتها، ومكروهاتها. وصفة الصلاة الكاملة من كل وجهٍ: أن يصلي المسلم كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي؛ لحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ... صلوا كما رأيتموني أصلي)) (¬1). فينبغي للمسلم أن يصلِّي الصلاة بخشوع النحو الآتي: 1 - يسبغ الوضوء وهو أن يتوضأ كما أمره الله - عز وجل - عملاً بقوله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)) (¬3)، فيجب على المسلم العناية بالطهارة، قبل دخول الصلاة (¬4). 2 - يتوجه إلى القبلة، وهي الكعبة، لقول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة، برقم 631. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة برقم 224. (¬4) انظر: طهور المسلم للمؤلف ص63. (¬5) سورة البقرة، الآية: 144.

- رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ... )) (¬1). 3 ـ يجعل له سترة يصلِّي إليها إن كان إماماً أو منفرداً؛ لحديث سبرة بن معبدٍ الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليستترْ أحدُكم في الصلاة ولو بسهمٍ)) (¬2)؛ولحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدُكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرَّحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل فإنه يقطع صلاته: الحمار، والمرأة، والكلب الأسود)) (¬3). ويتأكد الدّنوُّ من السترة والصلاة إليها؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا صلى أحدُكم فليصلِّ إلى سترةٍ، وليدنُ منها)) (¬4). ويجعل بينه وبين سترته قدر ممر الشاة، أو قدر مكان السجود، ولا يزيد على قدر ثلاثة أذرع، وكذلك بين الصفوف؛ لحديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: ((كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 793،ومسلم بلفظه، برقم 397،وتقدم تخريجه في التحذير من ترك الخشوع في الصلاة. (¬2) أخرجه الحاكم،1/ 252، بنحوه، والطبراني في الكبير، 7/ 114 بلفظه، برقم 6539، وأحمد، 3/ 404 بلفظ: ((إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم))،وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد،2/ 58، وقال: ((رجال أحمد رجال الصحيح))، وسمعت سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول في تعليقه على بلوغ المرام، الحديث رقم 244: ((دل هذا الحديث على تأكد السترة ولو بسهم)). (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، برقم 510. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن الممر بين يديه، برقم 698، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 135: ((حسن صحيح))، وسمعت العلامة ابن باز - رحمه الله - يقول في تعليقه على حديث 244 من بلوغ المرام: ((إسناده جيد، وهو يدل على تأكد السترة والدّنوِّ منها)).

الجدار ممر الشاة)) (¬1). وإذا أراد أحد أن يمر بين يديه ردّه، ودافعه؛ فإن لم يمتنع دافعه بقوة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعْه، فإن أبى فليقاتلْه؛ فإنما هو شيطان)) (¬2). وفي رواية لمسلم: ((فإن معه القرين)) (¬3). ولا يجوز المرور بين يدي المصلي؛ لحديث أبي جُهيم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلمُ المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرَّ بين يديه)) قال أبو النضر أحد الرواة: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة (¬4). وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وفيه: أنه أقبل راكباً على حمارٍ أتانٍ، وهو يومئذ قد ناهز الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس إلى غير جدار، فسار ابن عباس على حماره بين يدي بعض الصف الأول، ثم نزل عنه فصف مع الناس وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكر ذلك عليه أحد (¬5). وسمعت شيخنا ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة برقم 496، ومسلم، كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة، برقم 508، وانظر: سبل السلام للصنعاني، /145. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، بابٌ: يردُّ المصلي من مرَّ بين يديه، برقم 509، ومسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، برقم 505. (¬3) مسلم في الكتاب والباب السابقين، برقم 506، وسمعت سماحة العلامة ابن باز أثناء شرحه لبلوغ المرام، حديث رقم 248، يقول: ((وهذا يدل على أنه يشرع للمصلي إذا مر أحد بينه وبين سترته أن يرده، وظاهر النصوص الأخرى أن يردّه مطلقاً سواء كان له سترة أم لا، إلا إذا كان بعيداً، ويردّ المار بالأسهل فالأسهل كما يردُّ الصائل)). (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إثم المار بين يدي المصلي، برقم 510، ومسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، برقم 507. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب: سترة الإمام سترة من خلفه، برقم 493، وألفاظه من هذا ومن رقم 1857، 4412، ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، برقم 504.

الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: ((هذا يدل على أن المأمومين سترتهم سترة إمامهم، فلا يضرهم من مرّ من أمامهم إذا كان لإمامهم سترة)) (¬1). 4 - يكبّر تكبيرة الإحرام، قائماً، قاصداً بقلبه فعل الصلاة التي يريدها: من فريضة أو نافلة؛ تقرباً لله تعالى، قائلاً: الله أكبر، ناظراً ببصره إلى محل سجوده، رافعاً يديه مضمومتي الأصابع، ممدودة إلى حذو منكبيه، أو إلى حيال أذنيه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر)) (¬2)، ولقول الله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3)؛ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: ((صلِّ قائماً، فإن لم تستطعْ فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ)) (¬4)؛ ولحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات)) (¬5)،ولا ينطق بلسانه بالنية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينطق بها، ولا أصحابه - رضي الله عنهم - (¬6)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود. وفي لفظ: ((وإذا قام ¬

_ (¬1) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري على الحديث رقم 493، في جامع سارة بالرياض، بتاريخ 10/ 6/1419هـ. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 793، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬3) سورة البقرة، الآية: 238. (¬4) البخاري، كتاب تقصير الصلاة، بابٌ: إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب، برقم 1117. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم1، ومسلم، برقم 1907، وتقدم تخريجه. (¬6) انظر: مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز، 11/ 8.

من الركعتين رفع يديه)) (¬1)، وفي حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبر رفع يديه حتى يُحاذيَ بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذيَ بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: ((سمع الله لمن حمده))، فعل مثل ذلك، وفي لفظ لمسلم: ((حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) (¬2). والأحاديث الواردة في ابتداء رفع اليدين جاءت على وجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم كبّر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر)) (¬3)؛ ولحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - يُحدِّث به في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذيَ بهما منكبيه ثم يُكبِّر)) (¬4). الوجه الثاني: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر ثم رفع يديه، فعن أبي قلابة أنه ((رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبَّر ثم رفع يديه ... وحدَّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هكذا)) (¬5). الوجه الثالث: جاء ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه مع التكبير، وانتهى منه مع انتهائه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، برقم 735، ورقم 739، ومسلم، كتاب الصلاة، برقم 390 .. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع، وإذا رفع، برقم 737، ومسلم واللفظ له، في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود، برقم 391. (¬3) مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 390. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد برقم 828، واللفظ لأبي داود، برقم 730. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر، برقم 737، ومسلم واللفظ له، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين، برقم 391.

افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين كبّر حتى جعلهما حَذْوَ منكبيه)) (¬1). فمن فعل صفة من هذه الصفات فقد أصاب السنة (¬2). وأما النظر إلى موضع السجود، ومطأطأة الرأس، ورمي البصر نحو الأرض؛ فلما رواه البيهقي والحاكم، وشهد له حديث عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، أو لتُخْطَفَنَّ أبصارُهم)) (¬4). 5 - يضع يديه على صدره بعد أن ينزلهما من الرفع، اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد؛ لحديث وائل بن حُجْر قال: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)) (¬5)، وفي لفظ: ((ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى والرُّسغ والساعد)) (¬6)، وهذا يَعمُّ ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب إلى أين يرفع يديه، برقم 738، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، برقم 390. (¬2) انظر: فتح الباري لابن حجر، 2/ 218، وسبل السلام للصنعاني،2/ 217، والشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 39. (¬3) انظر: السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 283،5/ 158، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 479، وأحمد، 2/ 293، وصحح الألباني ما جاء في هذه الصفة في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص80. (¬4) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم 429. (¬5) أخرجه ابن خزيمة، في صحيحه، 1/ 243، برقم 479، والحديث جاء من طرق أخرى بمعناه، وله شواهد. انظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 243، وصفة الصلاة للألباني، ص79، وسمعت سماحة العلامة ابن باز - رحمه الله - أثناء تقريره على الحديث رقم 293 من بلوغ المرام يقول: ((وهكذا رواه أحمد عن قبيصة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع يديه على صدره، وإسناده حسن)). (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، برقم 727، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 889، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 68 - 69، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص79.

القيام بعد الرفع من الركوع؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - في لفظ آخر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله)) (¬1)، وهذا الحديث فيه صفة القبض، والأحاديث الأخرى فيها صفة وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: ((إذن هاتان صفتان: الأولى قبض، والثانية وضع)) (¬2)، وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرَّجُلُ يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)). قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬3)، وسمعت سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((وهذا يحتمل أن يكون نوعاً ثانياً، ويحتمل أن يكون المراد مثل حديث وائل)) (¬4). 6 - يستفتح الصلاة بدعاء الاستفتاح وهو أنواع، يأتي بواحد منها ولا يجمع بينها، ولكن ينوِّع لكل صلاة، ومنها: أ- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كبر في الصلاة سكت هُنيَّة (¬5) قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعِدْ بيني ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الافتتاح، باب وضع اليمنى على الشمال في الصلاة، برقم 887، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 193. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع، 3/ 44. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، برقم 740. (¬4) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 293 من بلوغ المرام. (¬5) هنيَّة: أي وقت لطيف قصير، أو ساعة لطيفة. فتح الباري لابن حجر، مقدمة فتح الباري، ص202.

وبين خَطايايَ كما باعَدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّني من خَطايايَ كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنس، اللهم اغْسلْني من خَطايايَ بالثلج والماء والبَرَدِ)) (¬1). ب - وإن شاء قال: ((سبحانك اللهم وبحمدك (¬2)، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إلهَ غيرُك)) (¬3). ج - وإن شاء قال ما ثبت عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة (¬4) قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي، ومحياي، ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 743، ومسلم، برقم 598، وتقدم تخريجه في السبب الأربعين في فهم دعاء الاستفتاح. (¬2) سبحانك اللهم وبحمدك: أي سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك، والجد هنا: العظمة))، شرح النووي،4/ 355، وقيل: أسبحك حال كوني متلبساً بحمدك. انظر: سبل السلام للصنعاني،2/ 224، وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على الروض المربع، 2/ 22: ((يعني بحمدي لك، وثنائي عليك سبحتك: أي نزَّهْتك)). (¬3) مسلم، برقم 399، وتقدم تخريجه في تدبر دعاء الاستفتاح. (¬4) وفي رواية ابن خزيمة، 1/ 236، برقم 464 بلفظ: ((كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ويقول .. )) وقال شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيقهما لزاد المعاد،1/ 203: ((وإسناده صحيح)). وزاد ابن حبان هذه الزيادة أيضاً، 5/ 70، برقم 1772، ولفظه: ((كان إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة قال: وجهت وجهي)). وقال الحافظ ابن حجر في الفتح، 2/ 230: ((وهو عند مسلم من حديث علي لكنه قيّده بصلاة الليل، وأخرجه الشافعي [في المسند 1/ 72 - 73]، وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ: ((إذا صلى المكتوبة واعتمده الشافعي في الأم)) ا. هـ وتعقب الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - كلام ابن حجر في نقله أن مسلماً قيَّده بصلاة الليل فقال: ((هذا وهْمٌ من الشارح رحمه الله وليس في رواية مسلم تقييده بصلاة الليل فتنبه، والله أعلم)) الفتح،2/ 230. وقال الصنعاني - رحمه الله - في سبل السلام، 2/ 223 على كلام ابن حجر - رحمه الله -: ((لم نجده في مسلم هذا الذي ذكره المصنف من أنه كان يقوله في صلاة الليل، وإنما ساق حديث علي - رضي الله عنه - هذا في قيام الليل)) ..

ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك، وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)) (¬1). وإن شاء قال ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنواع الأخرى في الاستفتاح (¬2). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، برقم 771. (¬2) وذكر ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب: ((قاعدة في أنواع الاستفتاح)) ص31: ((أن الاستفتاح لا يختص بـ ((سبحانك اللهم))، و ((وجهت وجهي)) وغيرهما؛ بل يستفتح بكل ما روي، لكن فضل بعض الأنواع على بعض يكون بدليل آخر)).وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام لابن حجر على الحديث رقم 287 يقول: ((وواحد من أدعية الاستفتاح يكفي، ولا يجمع بين دعاءين، وما صح في صلاة النافلة يصح في الفريضة، لكن ما كان فيه طول فالأولى أن يكون في صلاة الليل)) وتقدم. وهناك أدعية للاستفتاح إضافة إلى ما تقدم منها: 1 - عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: بأي شيء كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)). مسلم، برقم 771. 2 - عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس، فقال: ((الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( .. لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها)) مسلم، برقم 600. 3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجل من القوم: ((الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( .. عجبت لها فتحت لها أبواب السماء)) مسلم، برقم 601. 4 - عن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة رضي الله عنها: بما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح قيام الليل؟ قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك، كان إذا قام: ((كبّر عشراً، وحمد عشراً، وسبَّح عشراً، وهلَّل عشراً، واستغفر عشراً، وقال: اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة)). أبو داود، برقم 766، والنسائي، برقم 1617، وأحمد، 6/ 143، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص89، وصحيح سنن أبي داود، 1/ 146. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد قال: ((اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيِّم السموات والأرض ومن فيهن [ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن] [ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن] [ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض] [ولك الحمد] [أنت الحقُّ، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، والساعة حق] [اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرْتُ، وما أسررْتُ، وما أعلنتُ] [أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت] [أنت إلهي لا إله إلا أنت]، البخاري، برقم 6317، 7385، 7442، 7499، ومسلم مختصراً بنحوه، برقم 769. وغير ذلك من أنواع الاستفتاح، انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 202 - 207.

7 - يقول: ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1)، أو يقول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه (¬2)، ونفخه (¬3)، ونفثه (¬4))) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 98. (¬2) همزه: المؤتَة: نوع من الجنون. (¬3) نفخه: الكبر. (¬4) نفثه: الشعر المذموم. (¬5) أخرجه أحمد، 3/ 50، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، برقم 775، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم 242، وحسّنه: عبد القادر وشعيب الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد، 1/ 204، وحسّنه الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص90، وانظر أيضاً: مسند أحمد، 4/ 80، 85، وسنن أبي داود، برقم 764، وابن ماجه، برقم 807، وابن حبان، برقم 443، والحاكم، 1/ 235.

8 - يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم، سرّاً؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: ((صلَّيْتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم)) (¬1)، والبسملة آية مستقلة (¬2). 9 - يقرأ الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرحمن الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}؛ لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) (¬3). وقراءة الفاتحة تجب على كل مصلٍّ، ويدخل في ذلك المأموم في الصلاة الجهرية والسرية؛ لرواية حديث عبادة - رضي الله عنه - السابق، يرفعه: ((لعلكم تقرؤون خلف إمامكم)) قلنا: نعم، هذّاً يا رسول الله:،قال: ((لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بها)) (¬4).وعن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 3/ 264، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، برقم 907، واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه، 1/ 249، برقم 495، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 197. (¬2) سمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه لحديث رقم 297 - 300 من بلوغ المرام يقول: ((والبسملة آية مستقلة ليست من الفاتحة ولا من غيرها، أنزلها الله فصلاً بين السور، إلا أنها بعض آية من سورة النمل، وهذا هو الأرجح، أما بالنسبة للآية السابعة من الفاتحة عند المحققين فهي {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}. (¬3) متفق عليه، البخاري،، برقم 756، ومسلم، برقم 394، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، برقم 823، والترمذي، كتاب الصلاة، باب القراءة خلف الإمام، برقم 311،وأحمد،5/ 322، وابن حبان في الإحسان،3/ 137، برقم 1782،قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: ((وصححه أبو داود والدارقطني والترمذي، وابن حبان والحاكم والبيهقي،1/ 231)).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ))؟ قالوا: إنا لنفعل، قال: ((لا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب)) (¬1)،وتسقط الفاتحة عن مسبوقٍ أدرك الإمام راكعاً، لحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ)) (¬2). ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء الركعة التي أدرك ركوعها دون قراءتها، ولو كانت الركعة غير صحيحة لأمره - صلى الله عليه وسلم - بإعادتها. وتسقط عن المأموم مع السهو والجهل (¬3). 10 - يقول بعد الانتهاء من قراءة الفاتحة: ((آمين)) يجهر بها في الجهرية، ويُسرُّ في السِّرية، [ومعناها: اللهم استجب]؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أمِّ القرآن رفع صوته وقال: ((آمين)) (¬4)؛ ولحديثه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬5)؛ ولحديثه - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 5/ 410،قال ابن حجر في التلخيص الحبير، 1/ 231: ((إسناده حسن)). (¬2) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: إذا ركع دون الصف، برقم 783. (¬3) سمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على شروط الصلاة وأركانها للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يذكر أن الفاتحة ركن في الصلاة في حق الإمام والمنفرد، أما المأموم فهي واجبة في حقه تسقط مع السهو والجهل، وإذا سبقه الإمام فوجده راكعاً، لحديث أبي بكرة ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء الركعة. (¬4) الدارقطني في سننه، وحسّنه،1/ 311،والحاكم في المستدرك،1/ 223، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي وقال: حسن صحيح، 2/ 57. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين، برقم 780، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 410.

فقولوا: آمين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬1). ومن لم يستطعْ قراءة الفاتحة وعجز عنها قرأ غيرها مما تيسَّر من القرآن، فإن لم يكن عنده شيء قال: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم))؛ لحديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلِّمْني ما يجزئني منه، فقال: ((قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) (¬2). 11 - يقرأ سورة بعد الفاتحة، أو ما تيسر من القرآن في ركعتي الصبح، والجمعة، وفي الركعتين الأوليين: من صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفي جميع ركعات النفل؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يُطوِّل في الأولى ويُقصِّر في الثانية، ويُسْمِعُ الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يُطوِّل في الأولى، وكان يُطوِّل في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويُقصِّر في الثانية)) (¬3). وفي لفظ: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 782، ومسلم، برقم 410، وتقدم تخريجه. (¬2) أحمد في المسند، 4/ 353، 356، 382، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، برقم 832، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب ما يجزئ من القراءة لمن لا يحسن القرآن، برقم 924، وابن حبان، برقم 1805 - 1807، وصححه، والدارقطني وصححه، 1/ 313، والحاكم، 1/ 241، وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في الظهر، برقم 759، واللفظ له، ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 451.

الكتاب وسورة سورة، ويسمعنا الآية أحياناً)) (¬1)، وأما صلاة الظهر خاصة فقد ثبت ما يدل على أنه ربما قرأ في الركعتين الأخريين زيادة مع سورة الفاتحة، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((كنا نحزر (¬2) قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة {الم، تَنزِيلُ} السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه من الأخريين من الظهر، وفي الأخريين على النصف من ذلك)). وفي لفظ: ((كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية [في كل ركعة] أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك)) (¬3).وهذا الحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ أحياناً بزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين من الظهر (¬4). وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما رأيت رجلاً أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان لإمام كان بالمدينة، قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل)) (¬5)، وربما طول النبي - صلى الله عليه وسلم - القراءة في صلاة الظهر أكثر مما تقدَّمَ؛ ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في صلاة العصر، برقم 762. (¬2) نحزر: نقدر. انظر: المصباح المنير للفيومي، 1/ 133. (¬3) أخرجه مسلم، في كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 452، وأحمد، 3/ 85، وما بين المعقوفين من مسند أحمد، 3/ 85. (¬4) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 1/ 802. (¬5) النسائي بنحوه، كتاب الافتتاح، باب القراءة في المغرب بقصار المفصل، برقم 983، وأحمد واللفظ له، 2/ 329،وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري وبلوغ المرام، انظر: نيل الأوطار، 1/ 813، وصحح إسناده الإمام ابن باز أثناء شرح الروض المربع، 2/ 34، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 212، برقم 939.

لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يُطوِّلُها)) (¬1)، وثبت من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان يصلي الصبح وينصرف الرجل فيعرف جليسه، وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة)) (¬2)، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز -رحمه الله- يقول في القراءة في الصلوات الخمس: ((الأفضل في الفجر من طوال المفصل (¬3)، وفي الظهر والعصر والعشاء من أواسطه، وفي المغرب من قصاره؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأغلب، ولا بأس أن يقرأ من قصاره في الصبح في السفر والمرض، لكن الأفضل ما تقدم؛ لحديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬5). وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في قراءته - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة: ((فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورة غيرها، وكان يطيلها تارة، ويخففها ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، برقم 454 .. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 547، ومسلم، برقم 647، وتقدم تخريجه. (¬3) حزب المفصل من سورة ق إلى سورة الناس، وطواله من ق إلى عم، وأواسطه منها إلى الضحى، والقصار إلى الآخر: انظر: حاشية الروض المربع لابن القاسم،2/ 34، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، قال في سورة ق: ((هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل: من الحجرات، 4/ 221. (¬4) النسائي، برقم 983، وأحمد، 2/ 329، وتقدم تخريجه. (¬5) سمعته منه أثناء شرحه على الروض المربع، 2/ 34.

لعارض من سفر أو غيره، ويتوسط فيها غالباً)) (¬1). قلت: الأفضل في ذلك مراعاة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأوقات، والأحوال، والأزمان (¬2). ¬

_ (¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 1/ 209. (¬2) فقد ثبت غير ما تقدم على النحو الآتي: 1 - قرأ في صلاة المغرب بالمرسلات [البخاري، برقم 763، 4429، ومسلم، برقم 462] والأعراف [البخاري، برقم 764]، والطور [البخاري، برقم 765، 3050، 4023، 4854، ومسلم، برقم 463]، والدخان [النسائي، برقم 988،قال الأرناؤوط في تحقيقه لزاد المعاد،1/ 211: ((ورجاله ثقات وسنده حسن]، وقرأ بقصار المفصل [النسائي، برقم 983،وذكر الألباني أن الطبراني في الكبير أخرج بإسناد صحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بالأنفال في الركعتين [صفة الصلاة، ص115]. 2 - وأما في العشاء، فنقل أبو هريرة: إذا السماء انشقت [البخاري، برقم 766 - 768] والتين والزيتون من حديث البراء [البخاري، برقم 767، 769، ومسلم، برقم 464] ووقت لمعاذ بسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، والضحى، ونحو ذلك [مسلم، برقم 465]. 3 - وأما في الفجر فكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة [البخاري، برقم 547، ومسلم، 647] وتقدم تخريجه، وقرأ المؤمنون [البخاري، كتاب الأذان، باب الجمع بين سورتين في ركعة، والقراءة بالخواتيم، وبسورة قبل سورة، وبأول سورة، ومسلم، برقم 455] وقرأ بسورة ق والقرآن المجيد [مسلم، برقم 457 - 458] وبسورة التكوير [مسلم، برقم 456] وبسورة الروم [أحمد، 3/ 472، والنسائي، 2/ 156، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ((وهذا إسناد حسن، ومتن حسن))، وحسنه الأرناؤوط في تحقيقه لزاد المعاد، 1/ 209] وقرأ بسورة إذا زلزلت في الركعتين كلتيهما [أبو داود، برقم 816، وحسّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 154].وقرأ بسورة الطور في صلاة الصبح عند طواف الوداع لحجة الوداع [البخاري ... تعليقاً].وقرأ بالمعوذتين [أخرجه النسائي من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -،برقم 952،وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، برقم 912]،وقرأ بالواقعة ونحوها من السور [صحيح ابن خزيمة، 1/ 265،برقم 531،وصحح إسناده الألباني في صفة الصلاة، ص106].وكان يقرأ في فجر الجمعة: الم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان [البخاري، برقم 891،ومسلم، برقم 879]. 4 - أما في صلاة الظهر فكان يُطوِّلُها أحياناً لما تقدم، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يدرك الركعة الأولى [مسلم، 454 وتقدم]، وأحياناً يقرأ بقدر قراءة ((ألم* تنزيل)) السجدة في الركعتين الأوليين، وفي الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك، وأحياناً يقرأ في الركعتين الأوليين بقدر ثلاثين آية في كل ركعة، والركعتين الأخريين بقدر خمس عشرة آية في كل ركعة [مسلم، برقم 452، وأحمد، 3/ 85]، وقرأ الليل إذا يغشى [مسلم، برقم 459]، وسبح اسم ربك الأعلى [مسلم، برقم 460]، وكان يقرأ بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج، ونحوهما من السور [أبو داود، برقم 805، والترمذي، برقم 307، والنسائي، 2/ 166، برقم 979، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 212، برقم 935]، وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون [مسلم، برقم 879]، أو بسبح والغاشية [مسلم، برقم 878]، أو بالجمعة والغاشية [مسلم، برقم 63 (878)]. 5 - أما صلاة العصر فقد تقدم أنه قرأ في الأوليين بقدر نصف ((ألم* تنزيل)) السجدة، وفي لفظ أنه قرأ بقدر خمس عشرة آية في كل ركعة [مسلم، برقم 452، وأحمد، 3/ 85. وتقدم]، وكان يقرأ بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج ونحوهما من السور [أبو داود، برقم 805 والترمذي، برقم 307، والنسائي، برقم 979، وتقدم]، وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - ((والعصر فعلى النصف من قراءة الظهر إذا طالت، وبقدرها إذا قصرت)) [زاد المعاد، 1/ 210]. 6 - أما الأعياد فكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بـ ((ق)) و ((اقتربت)) [مسلم، برقم 891]، أو بسبح والغاشية [مسلم، برقم 878]، فهذه سنته - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فقد أمر بالتخفيف؛ لأن في الناس: [((الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، وذا الحاجة))] [مسلم، برقم 466]، ((فإذا صلى وحده فليصلِّ كيف شاء)) [مسلم، برقم 467]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجدِ أمه)) [مسلم، برقم 470]، فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين، وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف ويؤمُّنا بالصافات)) [النسائي، 2/ 95، برقم 826]، وصححه الأرناؤوط في تحقيق زاد المعاد، 1/ 214، قال ابن القيم - رحمه الله -: ((فالقراءة بالصافات من التخفيف الذي أمر به والله أعلم)) 1/ 214. ((وكان يُطوّل الأوليين ويقصر الأخريين من كل صلاة)) [البخاري، 770، ومسلم، 453]. عن السعدي عن أبيه أو عن عمه قال: رمقتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: ((سبحان الله وبحمده ثلاثاً)). أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب مقدار الركوع والسجود، برقم 885، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 250. وعن سعيد بن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. سنن أبي داود، برقم 896، والنسائي، برقم 1135، 2/ 224، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ص 72. وأحمد، برقم 1261، 20/ 100، وضعفه المحققون، لكن قول أنس: ((ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الغلام - يعني عمر بن عبد العزيز)) روي بأسانيد يرتقي بعضها إلى الصحة. قاله المحققون لمسند أحمد، 20/ 100، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 322 ((ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا)) قال زيد بن أسلم: وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود.

12 - إذا فرغ من القراءة كلها سكت سكتة بقدر ما يترادُّ إليه نَفَسُه حتى لا يصل القراءة بالركوع، بخلاف السكتة الأولى قبل قراءة الفاتحة؛ فإنه يقرأ فيها دعاء الاستفتاح فتكون بقدره؛ لحديث الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح الصلاة وإذا فرغ من القراءة كلها)) (¬1). قال الترمذي: ((وهو قول غير واحد من أهل العلم يستحبون للإمام أن يسكت بعدما يفتتح الصلاة، وبعد الفراغ من القراءة وبه يقول أحمد وإسحاق وأصحابنا)) (¬2). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب السكتة عند الافتتاح، برقم 778، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في السكتتين في الصلاة، برقم 251، وحسنه، وأحمد في المسند، 5/ 23، وقال الترمذي: قال محمد: قال علي بن عبد الله: ((حديث الحسن عن سمرة حديث صحيح وقد سمع منه)) 1/ 342، وقال الإمام ابن القيم بعد أن ذكر الخلاف في موضع السكتتين هل أحدهما بعد ولا الضالين أم أنها بعد الفراغ من القراءة كلها، أم أنها ثلاث سكتات؟ قال: ((وقد صح حديث السكتتين من رواية سمرة، وأبي بن كعب، وعمران بن حصين)) زاد المعاد، 1/ 208، وقال أحمد محمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي، 1/ 143: ((وفي سماع الحسن عن سمرة خلاف طويل قديم والصحيح أنه سمع منه كما رجَّحه ابن المديني، والبخاري، والترمذي، والحاكم وغيرهم)). (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية 22/ 338 وقال: ((لا يُسْتَحَبُّ إلا سكتتان)) وذكر أن الأولى للاستفتاح، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة والفصل بينها وبين الركوع، وأما السكوت عقب الفاتحة فلا يَسْتَحبّه أحمد والجمهور. وذكر الإمام ابن باز في مجموع فتاويه،11/ 84 أن الثابت سكتتان: الأولى تسمى سكتة الاستفتاح، والثانية عند آخر القراءة قبل الركوع، وأما الثالثة بعد الفاتحة فالحديث فيها ضعيف فالأفضل تركها.

13 - يركع مكبراً رافعاً يديه إلى حذو منكبيه، أو أذنيه، جاعلاً رأسه حيال ظهره، واضعاً يديه على ركبتيه، مفرقاً أصابع يديه؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} (¬1)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته وفيه: ((ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعاً)) (¬2)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع)) (¬3)، وفي لفظ: ((إنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع فإذا انصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع ... )) (¬5)،وفي حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -: ((كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه)) (¬6)؛ ولحديث عائشة رضي الله عنها: ((وكان إذا ركع لم ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 77. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 757، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: ((سمع الله لمن حمده)) برقم 392. (¬4) البخاري، برقم 785، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 735، ومسلم، برقم 390، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 737، ومسلم، برقم 391، وتقدم تخريجه.

يشخص رأسه (¬1) ولم يصوِّبه ولكن بين ذلك)) (¬2)؛ ولحديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أنه قال لنفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه [وفرج بين أصابعه] ثم هصر (¬3) ظهره ... )) (¬4). وفي لفظ: ((ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه، كأنه قابضٌ عليهما، ووتَّر (¬5) يديه فتجافى عن جنبيه .. )) (¬6).وفي حديث رفاعة بن رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك)) (¬7)، وعن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فكان إذا ركع سوَّى ظهره حتى لو صُبَّ عليه الماء لاستقرّ)) (¬8). ويطمئن في ركوعه؛ لقول حذيفة - رضي الله عنه - لرجلٍ ¬

_ (¬1) لم يشخص رأسه: الإشخاص هو الرفع، ولم يصوِّبه: أي لم يخفضه خفضاً بليغاً ولكن بين ذلك: أي بين الرفع والخفض .. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به، وصفة الركوع والاعتدال منه ... برقم 498. (¬3) هصر ظهره: أي ثناه إلى الأرض، النهاية، 5/ 264. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم 828، وما بين المعقوفين لأبي داود في سننه، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 731 ورقم 730 وفي أوله عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصححهما الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 141. (¬5) ووتَّر يديه: أي عوّجهما من التوتير وهو جعل الوَتَر على القوس، فتجافى عن جنبيه: أي نحَّى مرفقيه عن جنبيه حتى كأن يديه على الوتر وجنبه كالقوس. عون المعبود،2/ 429. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 734، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 141. ورواه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أنه يجافي يديه عن جنبيه في الركوع، برقم 260، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 83. (¬7) أبو داود، كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم 859، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 765، 1/ 162 .. (¬8) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 872،وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد،2/ 123،وعزاه للطبراني في الكبير وأبي يعلى وقال: رجاله موثقون.

رآه لا يتمُّ الركوع والسجود، فقال له: ((ما صلَّيتَ، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة التي فطر الله [عليها] محمداً - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1)، وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسجوده، وقعوده بين السجدتين، وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريباً من السواء)) (¬2). 14 - يقول في الركوع: ((سبحان ربي العظيم)) والأفضل [ثلاثاً]؛ لحديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه: ((سبحان ربي العظيم)) وفي سجوده ((سبحان ربي الأعلى)) (¬3)، وفي رواية: ((سبحان ربي العظيم)) ثلاث مرات، وإذا سجد قال: ((سبحان ربي الأعلى)) ثلاث مرات (¬4)، وإن شاء زاد على ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما يأتي: أولاً: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)) يتأوَّل القرآن (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الركوع، برقم 791، ورواه برقم 389، و808، وما بين المعقوفين للكشميهني كما في فتح الباري، 2/ 275. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: وحد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، برقم 792، وباب المكث بين السجدتين، برقم 820،ورواه برقم 801، و820،ومسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفهما في تمام برقم 471. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم 772، وأبو داود بلفظه في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 871. (¬4) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 888، وصحح الألباني هذه الزيادة لشواهدها الكثيرة عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وقولاً. انظر: إرواء الغليل،2/ 39 - 40، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، ص136، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 147. (¬5) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء في الركوع، برقم 794، 817، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 484.

ثانياً: وقالت رضي الله عنها: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: ((سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والروح)) (¬1). ثالثاً: وعن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة))، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك (¬2). رابعاً: وفي حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: ((اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومُخّي وعظمي وعَصَبي)) (¬3). ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن في الركوع والسجود فقال: ((ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، وأما الركوع فعظِّموا فيه الرب - عز وجل -، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ (¬4) أن يُستجاب لكم)) (¬5). 15 - يرفع رأسه من الركوع (¬6) رافعاً يديه حذو منكبيه أو أذنيه (¬7) قائلاً: سمع الله لمن حمده - إذا كان إماماً أو منفرداً - ويقولان بعد قيامهما: ((ربنا ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 487. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 883، والنسائي، كتاب الإمامة، باب نوع آخر من الذكر في الركوع، برقم 1049، وصححه الألباني، في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل، برقم 771. (¬4) قمن: أي حقيق وجدير. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم 479. (¬6) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: ((ثم ارفع حتى تعدل قائماً)) البخاري، برقم 757، ومسلم، برقم 1397. (¬7) لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري، برقم 735،ومسلم، برقم 390، ولحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -،البخاري، برقم 737،ومسلم، برقم 391،وتقدم تخريجهما.

ولك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬1). أما إن كان مأموماً فإنه يقول عند الرفع: ((ربنا ولك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربَّنا لك الحمد؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬2). وقوله: ((اللهم ربَّنا لك الحمد)) ثبت لها أربعة أنواع: النوع الأول: ((ربنا لك الحمد)) لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا لك الحمد)) (¬3). النوع الثاني: ((ربنا ولك الحمد))؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) (¬4). النوع الثالث: ((اللهم ربَّنا لك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربَّنا ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 795. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب فضل اللهم ربنا لك الحمد، برقم 796، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم 409. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود، برقم 789، ومسلم، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع، برقم 392. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، برقم 732، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم 411.

لك الحمد، فإنه من وافق قولُه قولَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)) (¬1). النوع الرابع: ((اللهم ربَّنا ولك الحمد))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) (¬2)، فالأفضل أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة، وهذا تارة؛ لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،والأفضل للإمام والمنفرد والمأموم أن يزيدوا بعد: ((ربنا ولك الحمد)) فيقولوا: ((حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيه)) (¬3) ((ملء السموات، وملء الأرض، [وما بينهما] وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ((اللهم طهِّرْني بالثلج، والبَرَدِ، والماء البارد، اللهم طهِّرْني من الذنوب والخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الوسخ (¬4))) (¬5)، ((لربي الحمد)) يكررها؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحواً من ركوعه يقول: (لربي الحمد)) (¬6). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 796، ومسلم، برقم 409، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، برقم 95، وتقدم تخريجه. (¬3) لحديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال من المتكلم؟ قال: أنا. قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) البخاري، كتاب الأذان، بابٌ حدثنا معاذ بن فضالة، برقم 799. (¬4) وفي لفظ: ((من الدرن))، وفي لفظ: ((من الدنس)). (¬5) لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض. الحديث أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 477، وقوله ((وما بينهما)) زيادة لابن عباس رضي الله عنهما في صحيح مسلم، برقم 478 .. (¬6) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 166.

والأفضل للإمام والمنفرد والمأموم أن يضع كل منهم يده اليمنى على اليسرى على صدره بعد الرفع من الركوع كما فعل في قيامه قبل الركوع؛ لحديث وائل - رضي الله عنه - قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله)) (¬1). ويطمئنُّ في قيامه بعد الرفع من الركوع، فعن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال: إني لا آلو أن أصلِّيَ بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، قال: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائل قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل قد نسي (¬2). ويقول في هذا الركن الأذكارَ المشروعةَ سوى ما تقدم إذا شاء (¬3). 16ـ يسجد مُكبِّراً، واضعاً ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك، فإن شقَّ عليه قدّم يديه قبل ركبتيه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4)؛ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً)) (¬5)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم يُكبّر حين يهوي ساجداً)) (¬6)؛ ولحديث ¬

_ (¬1) النسائي، برقم 887 وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب المكث بين السجدتين، برقم 821، ومسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، برقم 472. (¬3) هناك أذكار أخرى لم تذكر، انظر: صحيح مسلم، برقم 176 برواياته، وسنن أبي داود، برقم 874، وصفة الصلاة للألباني، ص141 - 144. (¬4) سورة الحج، الآية: 77. (¬5) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬6) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 392، وتقدم تخريجه.

وائل بن حُجْرٍ - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) (¬1). ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة؛ لحديث أبي حُمَيد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: ((فإذا سجد وضع يديه غير مفترشٍ ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة)) (¬2)، ويضمُّ أصابعَ يديه ويمدّها؛ لحديث علقمة بن واثلة عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد ضمّ أصابعه (¬3)؛ ولحديث وائل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا ركع فرَّج بين أصابعه وإذا سجد ضمّ أصابعه)) (¬4)؛ ولحديث أبي حُميد، وفيه: ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، برقم 838، و839، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين، برقم 268، والنسائي، كتاب الافتتاح، باب أول ما يصل من الإنسان في سجوده، برقم 1089، وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 882، وابن خزيمة، برقم 626، والحاكم، 1/ 226، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: ((هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر ... )).وأما حديث أبي هريرة يرفعه: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)) [رواه أبو داود، برقم 840، والنسائي، برقم 1091، والترمذي، برقم 269، وأحمد، 2/ 381]، فالحديث والله أعلم قد وقع فيه وَهْم من بعض الرواة؛ فإن أوله يخالف آخره؛ فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير؛ فإن البعير إنما يضع يديه أولاً)) زاد المعاد، 1/ 223 - 231، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 330 يقول: ((كثر الكلام في هذا والأرجح ما قاله ابن القيم، وهو تقديم الركبتين؛ لحديث وائل بن حجر ويتأيد بأول حديث أبي هريرة، فلو قدم يديه لوافق البعير، ولعله وقع وَهْم فقال الراوي: وليضع يديه قبل ركبتيه، وأن أصله: وليضع ركبتيه قبل يديه وهذا هو أظهر وأقرب ... وهو من باب السنن وعليه كثير من الصحابة، وهو قول الأكثرين)). واختار هذا القول العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 3/ 154 - 159، وانظر: فتاوى ابن تيمية،22/ 449. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم 828. (¬3) صحيح ابن خزيمة، كتاب الصلاة، باب ضم أصابع اليدين في السجود، برقم 642. (¬4) أخرجه الحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، 1/ 224.

((واستقبل بأطراف أصابعه القبلة)) (¬1)، ويفتح أصابع رجليه؛ لحديث أبي حميد وفيه: ((ثم جافى عضدَيْه عن جنبيه وفتح أصابع رجليه)) (¬2)، ويكون سجوده على أعضائه السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، وبطون أصابع الرجلين؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفُت الثياب والشعر)) وفي لفظ لمسلم: ((ولا أكفّ ثوباً ولا شعراً)) (¬3)، ويجافي عضديه عن جنبيه؛ لحديث عبد الله بن مالك بن بُحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((كان إذا صلَّى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه)) (¬4)، ويجافي بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويفرّج بين فخذيه؛ لحديث أبي حميد - رضي الله عنه - وفيه: ((وإذا سجد فرَّج بين فخذيه، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه)) (¬5)، ويجعل كفيه حذو منكبيه؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته، ونحَّى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو ¬

_ (¬1) صحيح ابن خزيمة، كتاب الصلاة، باب استقبال أطراف أصابع اليدين من القبلة في السجود، برقم 643. (¬2) ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فتح أصابع الرجلين في السجود والاستقبال بأطرافهن القبلة، برقم 651، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 730. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب السجود على الأنف، برقم 812، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم 490 .. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، بابٌ: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، برقم 807، مسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود، ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين، ورفع البطن عن الفخذين في السجود، برقم 495. (¬5) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 735.

منكبيه)) (¬1)، أو يجعلهما حذو أذنيه؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه)) (¬2)، وهو مثل حديث البراء عندما سئل: أين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع وجهه إذا سجد؟ فقال: ((بين كفيه)) (¬3)، ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسُطْ أحدُكم ذراعيه انبساطَ الكلب)) (¬4)؛ ولحديث البراء - رضي الله عنه - يرفعه: ((إذا سَجَدْتَ فضَعْ كفيك وارفعْ مرفقيك)) (¬5). ويضم قدميه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فوجدته ساجداً راصّاً عقبيه مستقبلاً بأطراف أصابعه القبلة)) (¬6)، وينصبهما؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدمه [وفي نسخة قدميه] وهو في المسجد، وهما منصوبتان)) (¬7). 17ـ يقول في السجود: ((سبحان ربي الأعلى)) والأفضل ثلاثاً؛ ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 734، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف، برقم 270،وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 242. (¬2) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 889، صححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 194. (¬3) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء أين يضع الرجل وجهه إذا سجد، برقم 271، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 1/ 86. (¬4) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب لا يفترش ذراعيه في السجود، برقم 822، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود، برقم 493. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود، برقم 494. (¬6) صحيح ابن خزيمة، برقم 654،والبيهقي، 2/ 116، قال المحقق: إسناده صحيح. (¬7) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486.

لحديث حذيفة - رضي الله عنه - (¬1)، وإن شاء زاد على ذلك ما ثبت في الأحاديث الأخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما يأتي: أولاً: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)) لحديث عائشة رضي الله عنها (¬2). ثانياً: ((سُبُّوحٌ، قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والروح))؛ لحديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (¬3). ثالثاً: ((سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة)) (¬4). رابعاً: ((اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوَّره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين))؛ لحديث علي - رضي الله عنه - (¬5). خامساً: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك))؛لحديث عائشة رضي الله عنها (¬6). سادساً: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وعلانيته وسرّه))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك في سجوده (¬7). ويكثر من الدعاء في السجود، ويسأل ربه من خيري: الدنيا، ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 772 وابن ماجه، برقم 888، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه: البخاري، برقم 794، ومسلم، برقم 484، وتقدم تخريجه. (¬3) مسلم، برقم 487، وتقدم تخريجه. (¬4) أبو داود، برقم 883، والنسائي، برقم 1049، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 771. (¬6) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬7) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 483.

والآخرة، سواءٌ كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) (¬1)؛ ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((أما الركوع فعظموا فيه الرب - عز وجل -، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمِنٌ أن يُستجاب لكم)) (¬2). 18 - يرفع رأسه من السجود مكبّراً، ويعتدل جالساً؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته، وفيه: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) (¬3)؛ ولحديثه - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود)) (¬4)، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها، وينصب اليمنى ويستقبل بأصابعه القبلة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: ((وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى)) (¬5)؛ ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعه القبلة، والجلوس على اليسرى)) (¬6)، ويضع يديه على فخذيه؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما يرفعه، وفيه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى)) (¬7)،أو يضع كفيه على ركبتيه؛ ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 482. (¬2) مسلم، برقم 479، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 757، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 789، و803، ومسلم، برقم 396، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة، برقم 498. (¬6) النسائي، كتاب الافتتاح، باب الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد، برقم 1158، وأبو داود في الصلاة، باب كيف الجلوس في التشهد، برقم 958، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 23. (¬7) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 113 - (579).

لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرفعه: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه)) (¬1)، أو يضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى ويلقم كفه اليسرى ركبته))؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما (¬2)، فعلى هذا حصل ثلاث صفات لوضع الكفين هي: أولاً: الكف اليمنى على الفخذ اليمنى، واليسرى على اليسرى. ثانياً: الكف اليمنى على الركبة اليمنى، واليسرى على اليسرى. ثالثاً: الكف اليمنى على الفخذ اليمنى، واليسرى على الفخذ اليسرى، ويلقم كفه اليسرى ركبته (¬3). أما كيفية: وضع الكفين؛ فإنه يبسط يده اليسرى؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه، وفيه: ((ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها)) (¬4)، ويضع ذراعيه على فخذيه؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((وضع ذراعيه على فخذيه)) (¬5)، أما اليد اليمنى فيقبض منها الخنصر ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 114 - (580) .. (¬2) مسلم، برقم 113 - 579، وتقدم تخريجه في الحاشية التي قبل السابقة. (¬3) وسمعت سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وضعهما على فخذيه، ووضعهما على ركبتيه، ووضعهما على فخذيه وأطراف أصابعه على ركبتيه)) سمعته منه أثناء شرحه للروض المربع بالجامع الكبير في فجر الأحد 3/ 8/1419هـ. (¬4) النسائي، كتاب السهو، باب بسط اليسرى على الركبة، برقم 1269، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 272. (¬5) النسائي، كتاب السهو، باب موضع الذراعين، برقم 1264، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 270.

والبنصر ويحلّق الإبهام مع الوسطى، ويجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - يرفعه، وفيه: ((فاستقبل القبلة فكبر فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك ووضع يديه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك، فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من يديه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحدّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض اثنتين وحلَّق حلقة - ورأيته يقول: هكذا - وأشار بشر بالسبابة من اليمنى وحلق الإبهام والوسطى)) (¬1)، وهذا اختيار الإمام ابن القيم-رحمه الله- (¬2) أن المصلي يفعل هذه الصفة بين السجدتين (¬3). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة، برقم 726،ورقم 957، والنسائي، كتاب السهو، باب موضع المرفقين، برقم 1265،وأحمد في المسند،4/ 318، وابن حبان ((موارد)) برقم 485،وابن خزيمة في صحيحه،1/ 354،برقم 714، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 140 و180،وصحيح سنن النسائي،1/ 270،وأخرجه أيضاً ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 912. (¬2) زاد المعاد، 1/ 238 .. (¬3) قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -: ((ولم يرد في السنة لا في حديث صحيح ولا ضعيف ولا حسن أن اليد اليمنى تكون مبسوطة على الرجل اليمنى، وإنما ورد أنها تقبض: يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى ... إذا جلس في الصلاة [مسلم برقم 580]، وفي بعض الألفاظ إذا جلس في التشهد [مسلم، برقم 580]، وكلاهما في صحيح مسلم، فنحن إذا أخذنا كلمة ((إذا جلس في الصلاة)) قلنا: هذا عام في جميع الجلسات، وقوله: ((إذا جلس في التشهد)) في بعض الألفاظ لا يدل على التخصيص؛ لأن لدينا قاعدة ذكرها الأصوليون، وممن كان يذكرها دائماً الشوكاني في نيل الأوطار، والشنقيطي في أضواء البيان: أنه إذا ذكر بعض أفراد العام بحكم يطابق العام فإن ذلك لا يدل على التخصيص، إنما التخصيص أن يذكر بعض أفراد العام بحكم يخالف العام)) الشرح الممتع، 3/ 178. قلت: وسمعت الإمام شيخنا عبد العزيز ابن باز يذكر أن السبابة يحركها عند الدعاء فقط أما في غير الدعاء فلا يحركها، وبين السجدتين يبسطها ولا يشير، أما رواية أنه كان يشير بين السجدتين فالأقرب والله أعلم أنها وَهْم؛ لأن الأحاديث الصحيحة أنه كان يضعها على فخذه أو على ركبته ممدودة، ولو أنه أشار بين السجدتين لحديث وائل لا حرج، لكن الأقرب عندي أنه وَهْم؛ لأن الأحاديث الصحيحة فيها البسط في التشهد، أما بين السجدتين فيبسطها أيضاً ولا يشير أما في التشهد فيبسطها ويشير، وفي النسائي حديث فيه بعض الضعف أنه كان يبسطها لكن بانحناءٍ قليل والأمر في هذا سهل)) سمعته منه - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 282.

19 - يقول بين السجدتين: ((ربِّ اغفرْ لي، ربِّ اغفر لي))؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه - يرفعه: ((وكان يقعد بين السجدتين نحواً من سجوده وكان يقول: ((ربّ اغفر لي، رب اغفر لي)) (¬1). وإن شاء زاد على ذلك فقال: ((اللهم اغفر لي، وارحمني [وعافني، واهدني] واجبرني، وارزقني، وارفعني))؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني)) (¬2)، ولفظ ابن ماجه: ((ربِّ اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارزقني، وارفعني)) (¬3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل هذا الركن بقدر السجود (¬4)؛ لحديث البراء - رضي الله عنه - قال: ((كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع رأسه من ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم 874، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 897، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم 335، وصحيح سنن ابن ماجه، 1/ 148. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم 850. (¬3) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 897، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 160،وصحيح سنن ابن ماجه،1/ 148. (¬4) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 239.

الركوع، ما خلا القيام والقعود قريباً من السواء)) (¬1). 20 - يسجد السجدة الثانية مكبّراً، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث المسيء صلاته: ((ثم اسجد حتى تَطمئنَّ ساجداً، ثم ارفع حتى تَطمئنَّ جالساً، ثم اسجدْ حتى تَطمئنَّ ساجداً، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها)) (¬2)؛ ولحديثه - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم يُكبِّر حين يَهوي ساجداً، ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يُكبِّر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها، حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) (¬3). 21 - يرفع رأسه مُكبّراً، ويجلس جلسة خفيفة تسمى جلسة الاستراحة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة المسيء صلاته وفيه: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها))، قال أبو أسامة في الأخير: ((حتى تستوي قائماً)) (¬4)؛ ولحديثه الآخر، وفيه: ((ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) (¬5)، أما جلسة الاستراحة؛ فلحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فإذا ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، برقم 792، ومسلم، برقم 471، وتقدم تخريجه. (¬2) البخاري، برقم 793، وتقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 396، وتقدم تخريجه. (¬4) البخاري، برقم 6251،وتقدم تخريجه، وقد جاء لفظ الحديث عند القيام من السجدة الثانية في رواية أخرى: ((ثم ارفع حتى تستوي قائماً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) البخاري، برقم 6667. (¬5) متفق عليه: البخاري، برقم 789، ومسلم، برقم 396، وتقدم تخريجه.

كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستويَ قاعداً)) (¬1)، وجاءت جلسة الاستراحة في لفظ آخر من حديث مالك: ((أنه صلى بأصحابه، فكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض في الركعة الأولى)) (¬2). وقد ذكرت هذه القعدة في بعض ألفاظ رواية حديث المسيء صلاته، ولفظها: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً، ثم ارفعْ حتى تطمئنَّ جالساً، ثم اسجدْ حتى تطمئنَّ ساجداً، ثم ارفعْ حتى تطمئنَّ جالساً، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها)) (¬3)، وجاءت هذه الجلسة من حديث أبي حُميد وفيه: ((ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه (¬4)،ثم يصنع في الأخرى ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض، برقم 823، وفي لفظ للبخاري: ((وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام)) برقم 824. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، برقم 677. (¬3) البخاري، برقم 625، وتقدم تخريجه. (¬4) وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 323، يقول: ((تنازع الناس في هذا، قوم قالوا محمولة على أنه لما ثقل، أو لأسباب أخرى كالمرض. وقال آخرون بل هي سنة؛ لأن الحديث صحيح ولا وجه للعدول عنه، وهذا أظهر؛ لأن الأصل فيما يخبر به عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة سنة من سنن الصلاة، فلا يقيد، فتقييدها بالثقل أو المرض يحتاج إلى دليل. وهناك حجة ثانية لجلسة الاستراحة، وهو ما ثبت عند أحمد وأبي داود وغيرهما بإسناد جيد عن أبي حميد الساعدي أنه ذكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً في عشرة من الصحابة وذكر جلسة الاستراحة، فلما فرغ صدقوه، فهذه الجلسة ثبتت عن اثني عشر إن كان أبو حميد الحادي عشر، وإذا كان هو العاشر فثبتت عن أحد عشر صحابيّاً مع رواية مالك بن الحويرث، وصفة هذه الجلسة: هي جلسة خفيفة مثل الجلسة بين السجدتين، ليس فيها ذكر ولا دعاء)). قلت: وقد جاءت هذه الجلسة عن صحابي آخر وهو أبو هريرة - رضي الله عنه - في بعض روايات البخاري لحديث المسيء صلاته، برقم 625، وتقدم تخريجه، وانظر: سبل السلام للصنعاني، 2/ 292.

مثل ذلك)) (¬1). 22 - ينهض على صدور قدميه وركبتيه مكبّراً قائماً إلى الركعة الثانية، معتمداً على فخذيه إن تيسر له ذلك؛ لحديث وائل وفيه: ((وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) (¬2)، وإن شقَّ عليه اعتمد على الأرض؛ لحديث مالك بن الحويرث، وفيه: ((وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام)) (¬3). 23 - يصلي الركعة الثانية كالأولى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: ((ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها)) (¬4) إلا في خمسة أمور: الأمر الأول: تكبيرة الإحرام، فلا يكبر تكبيرة الإحرام؛ لأنها للدخول في الصلاة. الأمر الثاني: السكوت فلا يسكت في الركعة الثانية؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض للركعة الثانية استفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولم يسكت)) (¬5). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، برقم 730،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،1/ 140، وجلسة الاستراحة عند القيام للركعة الثانية والرابعة. (¬2) أبو داود، برقم 838، والترمذي، برقم 268، والنسائي، برقم 1089، وابن ماجه، برقم 882 وغيرهم، وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 824، وتقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه: البخاري، برقم 793، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬5) مسلم، كتاب المساجد، باب ما يقول بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم 599.

الأمر الثالث: الاستفتاح، فلا يستفتح في الركعة الثانية؛ لأن الاستفتاح تفتتح به الصلاة بعد تكبيرة الإحرام؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض للركعة الثانية استفتح القراءة بـ ((الحمد لله رب العالمين)) (¬1). الأمر الرابع: لا يُطوِّلها كالأولى؛ بل تكون أقصر من الأولى في كل صلاة؛ لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - وفيه: ((يُطوِّل في الأولى ويُقصِّر في الثانية)) (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يُطوِّل الأوليين ويُقصِّر الأخريين من كل صلاة (¬3). الأمر الخامس: لا يجدد النية؛ للاكتفاء باستصحابها؛ لأنه لو نوى الدخول بنية جديدة في الركعة الثانية لبطلت الركعة الأولى لقطعه استصحاب النية (¬4).أما التعوذ فقيل: يشرع في كل ركعة؛ لأنه حال بين القراءتين أذكار وأفعال فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في كل ركعة؛ ولقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬5)، وهذا هو الأفضل (¬6)، وقيل: تختص الاستعاذة بالركعة ¬

_ (¬1) مسلم، برقم 599، وتقدم تخريجه في الحاشية السابقة. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح، برقم 451. (¬3) متفق عليه: البخاري، برقم 770، ومسلم، برقم 453. (¬4) انظر: حاشية الروض المربع، للعلامة عبد الرحمن القاسم، 2/ 62، والشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين، 3/ 196. (¬5) سورة النحل، الآية: 98. (¬6) واختار هذا القول شيخ الإسلام في الاختيارات الفقهية، ص50 فقال: ((ويستحب التعوذ أول كل قراءة))، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 62، فجر الأحد 3/ 8/1419هـ في الجامع الكبير في مدينة الرياض، يقول: ((الأفضل أن يتعوذ في كل ركعة هذا هو الأفضل لعموم الأدلة، وإن اكتفى بالتعوذ في الأولى فلا حرج، والأفضل أن يتعوذ في كل ركعة حتى لو تعوذ في الأولى))، وقال العلامة المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: ((قلت: وهو الأصح دليلاً)) 3/ 530،وقال النووي في المجموع 3/ 530: ((والأصح في مذهبنا استحبابه)).

الأولى؛ لأن الصلاة جملة واحدة لم يتخلل القراءتين فيها سكوت، بل ذكر، فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة فيكفي فيها استعاذة واحدة (¬1)، إلا إذا لم يستعذ في الركعة الأولى فيتعوذ في الثانية (¬2). وأما البسملة فتستحب في كل ركعة؛ لأنها تستفتح بها السورة (¬3). 24 - إذا كانت الصلاة ثنائية: أي ركعتين: كصلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، جلس للتشهد بعد فراغه من السجدة الثانية من الركعة الثانية، ناصباً رجله اليمنى، مفترشاً رجله اليسرى؛ لحديث أبي حُميد - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى)) (¬4)،وصفة جلوسه في هذا كجلوسه بين السجدتين سواء (¬5)،فيضع يده اليسرى على فخذه اليسرى أو ركبته اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض أصابع اليمنى كلها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى)) (¬6)،أو يُحَلِّق الإبهام والوسطى، ويقبض الخنصر والبنصر، ويشير بالسبابة؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ¬

_ (¬1) قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: ((الاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر)) 1/ 242، وانظر: المغني لابن قدامة، 2/ 216. (¬2) انظر: المقنع والشرح الكبير، لابن قدامة،3/ 530،والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 196. (¬3) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم، 2/ 62. (¬4) البخاري، برقم 828، تقدم تخريجه. (¬5) زاد المعاد، 1/ 242. (¬6) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 116 - (580)، و114 - (580).

حلَّق الإبهام والوسطى ورفع التي تليها يدعو بها في التشهد)) (¬1)، أو يعقد ثلاثاً وخمسين ويشير بالسبابة، وصفتها أن يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبِّحة، وهي أن يجعل الإبهام في أصل الوسطى أو يعطف الإبهام إلى أصلها (¬2) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى (¬3)، وعقد ثلاثاً وخمسين (¬4)، وأشار ¬

_ (¬1) ابن ماجه، برقم 912، وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 86، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 308، 310، والتلخيص الحبير لابن حجر، 1/ 262. (¬3) وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يقول: ((جاء في هذا عدة روايات: 1ـ تارة يضع يديه على فخذيه. 2ـ وتارة يضعهما على ركبتيه. 3 - وتارة يضع يديه على فخذيه وأطراف الأصابع على ركبتيه. وأما ما يتعلق باليمنى فجاء فيها ما في حديث ابن عمر. وجاء فيها ما في حديث وائل، وهو أنه يعقد الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة ويقبض الخنصر والبنصر، وخلاصة ما جاء في ذلك ثلاث صور: 1 - تارة يقبض الأصابع كلها ويشير بالسبابة. 2 - وتارة يحلق الإبهام والوسطى ويقبض الخنصر والبنصر ويشير بالسبابة. 3 - وتارة يعقد ثلاثاً وخمسين ويشير بالسبابة، وقيل في هذه الصفة: إنه يجعل طرف الإبهام في أصل الوسطى، والإشارة بالإصبع إشارة إلى التوحيد، والأقرب أنه كان يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا تارة: أي صفة قبض اليد والإشارة بالسبابة)) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء شرحه لبلوغ المرام الحديث رقم 332. (¬4) وقيل في صفة ثلاثة وخمسين أقوال يفسر بعضها بعضاً، فقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: ((وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبّحة)) 1/ 262، وقال الإمام النووي: ((واعلم أن قوله: عقد ثلاثاً وخمسين شرطه عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر، وليس ذلك مراداً هاهنا، بل المراد أن يضع الخنصر على الراحة ويكون على الصورة التي يسميها أهل الحساب تسعة وخمسين والله أعلم)). شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 86، ومراده ((بسط الخنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف وبسط البنصر فوقها، وبسط الوسطى فوقها، وعطف الإبهام إلى أصلها)) انظر: سبل السلام، 2/ 301. وقال الإمام الصنعاني نقلاً عن ابن حجر في التلخيص: ((صورتها أن يجعل الإبهام مفتوحة تحت المسبِّحة)) هكذا نقل ولعلها في نسخة فنقلها الصنعاني، وقد تقدم كلام الحافظ آنفاً، انظر: سبل السلام، 2/ 308، أما ما ذكر الصنعاني، 2/ 310 في طريقة العرب في الحساب لهذه الصورة فهي: عقد الخنصر والبنصر والوسطى وعطف الإبهام إلى أصلها)) 2/ 310، وسمعت سماحة الإمام ابن باز يقول أثناء شرحه لبلوغ المرام، الحديث رقم 332: ((وقيل في هذه الصفة: إنه يجعل طرف الإبهام في أصل الوسطى)).

بالسبابة)) (¬1) فظهر ثلاثة أنواع لليد اليمنى: النوع الأول: قبض الأصابع كلها، والإشارة بالسبابة. النوع الثاني: تحليق الإبهام والوسطى، وقبض الخنصر والبنصر، والإشارة بالسبابة. النوع الثالث: عقد ثلاثاً وخمسين، والإشارة بالسبابة، وكلها صحيحة، وينظر أثناء جلوسه إلى إشارة سبابته؛ لحديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد في التشهد وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة، لا يجاوز بصره إشارته)) (¬2)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمى ببصره إليها أو ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب المساجد، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم 115 - ((580)). (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب موضع البنصر عند الإشارة وتحريك السبابة، برقم 1275، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي: ((حسن صحيح)) 1/ 272.

نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع)) (¬1). ويشير بالسبابة عند ذكر الله - عز وجل - حال الدعاء موجهة إلى القبلة، هذا هو السنة (¬2) يحركها إلى القبلة عند ذكر الله تعالى يدعو بها (¬3)، ولا يحركها في غير ذكر الله والدعاء، بل تبقى منصوبة (¬4)، ويدل على تحريكها عند الدعاء حديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم قعد وافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض اثنتين من أصابعه وحلَّق ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع البصر في التشهد، برقم 1660، وقال الألباني في صحيح سنن النسائي: حسن صحيح، 1/ 250. (¬2) قال الإمام النووي: ((والسنة أن لا يجاوز بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في سنن أبي داود، ويشير بها موجهة إلى القبلة، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص والله أعلم))، شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 85. (¬3) اختلف العلماء في موضع الإشارة بالسبابة، فقيل: 1 - يحركها عند ذكر الله فقط. 2 - وقيل: عند ذكر الله وذكر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - وقيل: يشير بها في جميع التشهد أي يحركها تحريكاً دائماً. 4 - وقيل: يشير عند ((إلا الله)). والصواب أنه يشير بها عند الدعاء وذكر الله فقط، وتبقى منصوبة فيما عدا ذلك. انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 535 - 536، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 66 - 68، وسبل السلام، 2/ 308 - 309، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 85، والمغني لابن قدامة، 2/ 119، والشرح الكبير لابن قدامة، 3/ 532، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/ 200 - 202. (¬4) وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 64، في فجر الأحد 3/ 8/1419هـ يرجح: ((أن السبابة لا يحركها عند الإشارة، وإنما تبقى منصوبة، إلا عند الدعاء فيحركها، ثم قال: والصواب أنها تحرك عند الدعاء، أما غير الدعاء فلا يحركها وإنما يشير بها)).

حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها)) (¬1)،ودلَّ على عدم تحريكها دائماً حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحرِّكها)) (¬2)، فالجمع بين الحديثين سهل: فنفي التحريك يراد به التحريك الدائم، وإثبات التحريك يراد به التحريك عند الدعاء (¬3)، وتكون الإشارة بالسبَّاحة من اليد اليمنى، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإشارة بإصبع واحدة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يدعو بإصبعيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحِّدْ، أحِّدْ)) (¬4) وعن سعد قال: مرَّ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أدعو بأصابعيَّ، فقال: ((أحِّدْ، أحِّدْ)) وأشار بالسبابة (¬5)، والحكمة في الإشارة بالسبَّاحة إلى أن المعبود - سبحانه وتعالى - واحد، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه، فيكون جامعاً في التوحيد بين القول، والفعل، ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب الافتتاح، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، برقم 890، وكتاب السهو باب قبض الاثنتين من أصابع اليد اليمنى، وعقد الوسطى والإبهام منها وتحريك الأصبع، برقم 1268، وصححه الألباني، في صحيح النسائي، 1/ 194، و1/ 271، وفي صحيح سنن أبي داود، 1/ 140، 180، وقد أخرجه أيضاً أبو داود، برقم 957، وأحمد 4/ 318، وتقدم تخريجه. (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب بسط اليسرى على الركبة، برقم 1270، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الإشارة في التشهد، برقم 989، وصححه النووي في المجموع 3/ 454، وقال الأرنؤوط في حاشية زاد المعاد، 1/ 238: ((وسنده صحيح)). (¬3) وبهذا جمع البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 132، وانظر: سبل السلام، 2/ 309، والشرح الممتع للعلامة محمد بن صالح العثيمين، 3/ 202 .. (¬4) الترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ: حدثنا محمد بن بشار، برقم 3557، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح غريب)) والنسائي، كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بإصبعين وبأي إصبع يشير، برقم 1272 وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 272. (¬5) النسائي، كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بإصبعين وبأي إصبع يشير، برقم 1273، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 1/ 272.

والاعتقاد (¬1)، فعلى ما تقدم يشير بالسبَّاحة عند ذكر الله يدعو بها (¬2). 25 - يقرأ التشهد في هذا الجلوس، فيقول: ((التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (¬3)، وهذا أصح ما ثبت في التشهد (¬4) ثم يقول: ((اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت ¬

_ (¬1) انظر: نيل الأوطار للشوكاني، 2/ 68، وسبل السلام للصنعاني، 2/ 309 .. (¬2) واختلف العلماء في معنى كلمة ذكر الله، فقيل: عند ذكر الجلالة، وعلى هذا فإذا قال: ((التحيات لله)) يشير ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله)) يشير، ((السلام علينا وعلى عباد الله)) يشير، ((أشهد أن لا إله إلا الله)) يشير، فهذه أربع مرات في التشهد الأول، ((اللهم صلِّ)) يشير، ((اللهم بارك)) يشير، ((أعوذ بالله من عذاب جهنم)) يشير، وقيل: يشير بها عند الدعاء، فكلما دعوت حركت إشارة إلى علو المدعو - سبحانه وتعالى -، وعلى هذا فإذا قال: ((السلام عليك أيها النبي)) يشير؛ لأن السلام خبر بمعنى الدعاء، ((السلام علينا)) يشير، ((اللهم صلّ على محمد)) يشير، ((اللهم بارك على محمد)) يشير، ((أعوذ بالله من عذاب جهنم)) يشير، ((ومن عذاب القبر)) يشير، ((ومن فتنة المحيا والممات)) يشير، ((ومن فتنة المسيح الدجال)) يشير، وكلما دعا يشير. انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين،3/ 201 - 202،قلت: والظاهر والله أعلم أنه يشير عند لفظ الجلالة، وعند الضمير الذي يعود عليه، وعند الدعاء إشارة إلى علو المدعو سبحانه، وتقدم. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب التشهد في الصلاة، برقم 831، ورقم 835، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم 402 عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه عند البخاري قال: ((كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)). هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: ((ثم ليتخير من المسألة ما شاء)) أما زيادة ((وحده لا شريك له)) فهي للنسائي في السنن، برقم 1168. (¬4) وإن شاء المصلي أن ينوع في التشهد فقد جاء له عدة صيغ منها: 1 - حديث عبد الله بن مسعود السابق وهو أصح ما ورد. 2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: ((التحيات المباركات، الصلوات، الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)) مسلم برقم 403. 3 - حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ولفظه: ((التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) مسلم برقم 404. وزاد النسائي برقم 1173، وأبو داود برقم 971، ((وحده لا شريك له)). 4 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: مثل حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. أبو داود، برقم 971، وصححه الألباني، 1/ 182، إلا أنه قال: زدت فيها ((وبركاته)) وقال: ((زدت فيها وحده لا شريك له)). 5 - حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولفظه: ((التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك ... )) كتشهد ابن مسعود. مالك، برقم 53، والبيهقي، 2/ 144، والدارقطني، 1/ 351، وعبد الرزاق، برقم 3067، وقال الزيلعي في نصب الراية، 1/ 422: ((وهذا إسناد صحيح)) وهو موقوف له حكم الرفع، وبأي تشهد يتشهد مما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاز، ولكن أصحها وأفضلها ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 221 - 222. وانظر: صفة الصلاة للألباني، ص172 - 177.

على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) (¬1)، وهذا أكمل ما ثبت في الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ويستعيذ بالله من ¬

_ (¬1) البخاري، كتاب الأنبياء، بابٌ: حدثنا موسى بن إسماعيل، برقم 3370. (¬2) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت في روايات على أنواع منها: 1 - حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؛ فإن الله قد علمنا كيف نسلم؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد ... وذكر حديث كعب السابق في كتاب الأنبياء في صحيح البخاري برقم 3370. 2 - وحديث كعب بن عجرة الآخر، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). البخاري، برقم 4797، ورقم 6357، ومسلم، برقم 406. 3 - حديث أبي مسعود الأنصاري، وفيه: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم)). مسلم، برقم 405. 4 - حديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) البخاري، برقم 3369، ورقم 6360، ومسلم، برقم 407، واللفظ له. 5 - حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم)) البخاري، برقم 6358. 6 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قلنا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت [وباركت] على إبراهيم وآل إبراهيم [في العالمين] إنك حميد مجيد)). النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 47، وعزاه ابن القيم في جلاء الأفهام، ص44 إلى محمد بن إسحاق السراج، ثم قال: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وما بين المعقوفين للسراج، وانظر: فتح الباري لابن حجر، 1/ 159.

أربع: فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تشهد أحدُكم فليستعِذْ بالله من أربعٍ، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم .. الحديث)). ولفظ مسلم: ((إذا فرغ أحدُكم من التشهد الآخر، فليتعوَّذْ بالله من أربعٍ: من

عذاب جهنم ... الحديث)) (¬1)، ويدعو بما شاء، ومن ذلك ما يلي: أولاً: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثَم والمغرَم)) قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله! فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذَب ووعدَ فأخلَف)) (¬2). ثانياً: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم))؛ لحديث أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل اللهم ... )) الحديث (¬3). وفي رواية لمسلم: ((علمني دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي)) (¬4). ثالثاً: ((اللهم اغفر لي ما قدَّمْتُ، وما أخَّرتُ، وما أسررْتُ، وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت))؛ لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وفيه: ثم يكون من آخر ما يقول ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، برقم 1377، بلفظ: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)).ومسلم، بلفظه، في كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 588. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 832، ومسلم، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 589. (¬3) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 834، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الدعوات والتعوذات، برقم 2705. (¬4) مسلم، برقم 48 - ((2705)).

بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ... )) الحديث (¬1). رابعاً: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك [من] أن أُردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر))؛ لحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه كان يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم الغلمان الكتابة ويقول: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ منهن دبر الصلاة)) (¬2). وفي رواية: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تُعلَّم الكتابةُ)) (¬3). خامساً: ((اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)) لحديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك)) فقال: ((أوصيك يا معاذ، لا تَدَعَنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقول: اللهم أعني ... )) الحديث (¬4). سادساً: ((اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ: ((ما تقول في الصلاة؟)) قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أُحسنُ دندنَتَك، ولا دندنةَ مُعاذ، قال: ((حولها نُدندِنُ)) (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يُتعوذ من الجبن، برقم 2822، ورقم 6365، 6374، 6390. (¬3) البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من فتنة الدنيا، برقم 6390. (¬4) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الاستغفار، برقم 1522، والنسائي كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء، برقم 1303، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 184. (¬5) ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء، برقم 3847،وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 328، و1/ 150. ورواه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة، برقم 792.

سابعاً: ((اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم))؛لحديث مِحْجَن بن الأدرع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فإذا هو برجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد، ويقول: ((اللهم إني أسألك يا الله .. )) وفي آخره فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قد غفر له)) ثلاثاً (¬1). ثامناً: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك ... ]؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً، ورجل يصلي، ثم دعا: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ... )) الحديث وفي آخره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئلَ به أَعطَى)) (¬2). تاسعاً: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد))؛ لحديث بريدة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك ... )) الحديث، وفي آخره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لقد سأل ¬

_ (¬1) النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم 1301، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد، برقم 985،وأحمد، 4/ 338،وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 280، وصحيح أبي داود، 1/ 185. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1495،وابن ماجه كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3858،والبخاري، في الأدب المفرد، برقم 705،وصححه الألباني في صحيح أبي داود،1/ 279، وأخرجه أحمد في المسند،3/ 158، 3/ 245،والطبراني في الكبير، برقم 4722 وذكر الألباني أنه وجد في رواية في آخره: ((أسألك الجنة وأعوذ بك من النار)) فلتراجع، انظر: صفة الصلاة له، ص204.

الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئلَ به أعطى)) (¬1). عاشراً: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفدُ، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضرَّة ولا فتنة مُضلَّة، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين))؛ لحديث عمار - رضي الله عنه - أنه صلى بأصحابه فأوجز في صلاته، فقال له بعض القوم: لقد خففت أو أوجزت الصلاة، فقال: أمَّا على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر هذه الدعوات (¬2). ويدعو بما يشاء من خير الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود - رضي الله عنه - لَمَّا علمه التشهد: ((ثم ليتخيّرْ من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) وفي لفظ: ((ثم ليتخيّرْ من المسألة ما شاء)) (¬3)، وهذا يعمّ جميع ما ينفع في الدنيا والآخرة (¬4). ¬

_ (¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء برقم 1493، والترمذي، كتاب الدعوات، باب جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 3475،وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3857، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،2/ 239. (¬2) النسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر، برقم 1306، وأحمد، 4/ 364، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 281. (¬3) البخاري، برقم 831، 835، ومسلم، برقم 402، وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، للإمام ابن باز، ص18.

26 - ثم يسلِّم عن يمينه وشماله قائلاً: ((السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله))؛ لحديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((علام تُومئون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمُسٍ، إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه، من على يمينه وشماله)) (¬1)،وعن أبي معمر أن أميراً كان بمكة يُسلِّمُ تسليمتين، فقال عبد الله: أنَّى عَلِقَها؟ (¬2) قال الحكم في حديثه: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله)) (¬3)،وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: ((كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده)) (¬4)، وينصرف عن يمينه وعن شماله لا حرج في شيء من ذلك (¬5). 27 - إن كانت الصلاة ثلاثية: كصلاة المغرب، أو رباعية: كالظهر، والعصر، والعشاء، اكتفى بالتشهد الأول والأفضل أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6) ¬

_ (¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام، برقم 431. (¬2) أنى علقها: أي من أين حصل على هذه السنة، وظفر بها فكأنه تعجب. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته، برقم 581. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، الباب السابق، برقم 582، قال الصنعاني - رحمه الله - في سبل السلام: ((وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة ... كلها بدون زيادة وبركاته إلا في رواية وائل، ورواية عن ابن مسعود)) فقال المحقق: ((بل ضعف ذلك، ثم ذكر تسعة وعشرين صحابيّاً، وخرج رواياتهم)) سبل السلام، 2/ 330. (¬5) البخاري، برقم 852، ومسلم، برقم 707، 708. (¬6) الأفضل أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول؛ لعموم الأدلة، وكان الشعبي لا يرى بأساً أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وكذلك قال الشافعي، انظر: المغني لابن قدامة، 2/ 223، وقال المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/ 540 ((واختار ابن هبيرة زيادة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختاره الآجري، وزاد وعلى آله))، وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - يوم الأحد 3/ 8/1419هـ أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 70، 73، يقول: ((والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول أفضل وهي آكد في الثاني لعموم الأدلة)). وسمعته مرة يستدل على استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بآخر حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في التشهد: ((ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه)) ((ثم ليتخير من المسألة ما شاء))، ولكن لو وقف في التشهد الأول على ((وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) كفى والحمد لله. وانظر: زاد المعاد لابن القيم،1/ 245،وصفة الصلاة للألباني، ص177،والشرح الممتع،3/ 226،ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، 11/ 161، 202.

كما تقدّم آنفاً، ثم ينهض على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمداً على فخذيه مكبراً رافعاً يديه حذو أذنيه أو منكبيه؛ لحديث وائل - رضي الله عنه -، وفيه: ((وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه)) (¬1)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه: ((وإذا قام من الركعتين رفع يديه)) (¬2)؛ ولحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: ((ثم إذا قام من الركعتين كبَّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة ثم يصنع ذلك في بقية صلاته)) (¬3)، ويضع يديه على صدره؛ لحديث وائل بن حجر - رضي الله عنه - وفيه: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائماً في الصلاة قبض يمينه على شماله)) (¬4)، ويقرأ الفاتحة سرّاً فقط، وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة على الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - (¬5). ويصلي الثالثة من المغرب، والثالثة والرابعة من الظهر والعصر والعشاء كالركعة الثانية كما تقدّم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ¬

_ (¬1) أبو داود، برقم 838، والترمذي، برقم 268، والنسائي، برقم 1089، وابن ماجه، برقم 882، وغيرهم، وتقدم تخريجه. (¬2) متفق عليه واللفظ للبخاري: البخاري، برقم 739،ومسلم، برقم 390،وتقدم تخريجه. (¬3) البخاري، برقم 828، واللفظ لأبي داود، برقم 730، وتقدم تخريجه. (¬4) النسائي، برقم 887، وتقدم تخريجه. (¬5) أخرجه مسلم، برقم 452، وتقدم تخريجه.

المسيء صلاته بعد أن علَّمه الركعة الأولى: ((ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) (¬1). 28 - يجلس في التشهد الأخير متورِّكاً (¬2)؛ لحديث أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - وفيه: ((فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته)) (¬3). وفي لفظ: ((حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر)) قالوا: صدقت هكذا كان يصلي - صلى الله عليه وسلم - (¬4) وهذا هو الأفضل: أن يفترش في التشهد الأول (¬5)، ويتورك في ¬

_ (¬1) البخاري، برقم 824، ومسلم، برقم 397، وتقدم تخريجه. (¬2) اختلف أهل العلم في موضع التورك في أي التشهدين يكون: 1 - قال قوم: يتورك في التشهد الأول والثاني، وهذا مذهب مالك - رحمه الله -. 2 - وقال قوم: يفترش اليسرى فيهما وينصب اليمنى، وهو قول أبي حنيفة - رحمه الله -. 3 - وقال قوم: يتورك في كل تشهد يليه السلام ويفترش في غيره، وهو قول الشافعي - رحمه الله -. 4 - وقال قوم: يتورك في كل صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما، ويفترش في غير ذلك، وهو قول الإمام أحمد - رحمه الله -. انظر: زاد المعاد لابن القيم 1/ 243، وشرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 84، ونيل الأوطار للشوكاني، 2/ 54، والمغني لابن قدامة، 2/ 225، 226، 227، 228، وقال النووي: ((ومذهب الشافعي يفترش في الأول ويتورك في الأخير ووافق الأقوال السابقة إلا أنه لم يذكر مذهب الإمام أحمد. شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 84. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم 828. (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الافتتاح، رقم 730،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 141. (¬5) قال الإمام النووي رحمه الله: ((وقد سبق اختلاف العلماء في أن الأفضل في الجلوس في التشهدين التورك أم الافتراش، فمذهب مالك وطائفة تفضيل التورك فيهما، ومذهب أبي حنيفة وطائفة تفضيل الافتراش، ومذهب الشافعي ... وطائفة يفترش في الأول ويتورك في الأخير، لحديث أبي حميد الساعدي ورفقته في صحيح البخاري، وهو صريح في الفرق بين التشهدين، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: ((والأحاديث الواردة بتورك أو افتراش مطلقة لم يبين فيها أنه في التشهدين أو أحدهما، وقد بيّنه أبو حميد ورفقته ووصفوا الافتراش في الأول، والتورك في الأخير، وهذا مبين فوجب حمل ذلك المجمل عليه، والله أعلم)). شرح النووي، 5/ 84.

الأخير (¬1) لفعله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) وقيل: جاء التورك على ثلاثة أنواع هي: النوع الأول: يخرج الرجل اليسرى من الجانب الأيمن مفروشة ويجلس على مقعدته على الأرض وتكون الرجل اليمنى منصوبة؛ لحديث أبي حميد وفيه: ((وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته)). البخاري، برقم 828، وفي رواية: ((حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخَّر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شِقِّه الأيسر)) أبو داود، برقم 730، ورقم 963، 964. النوع الثاني: يجلس متوركاً ويفرش القدمين جميعاً ويخرجهما من الجانب الأيمن، لحديث أبي حميد وفيه: ((فإذا كانت الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة)) أبو داود، برقم 965، ورقم 731، وابن حبان ((موارد)) برقم 491، وانظر: صحيح ابن خزيمة، 1/ 347، وابن حبان ((إحسان))، برقم 1867، والبيهقي، 2/ 128، وصححه الألباني في صفة الصلاة، ص197. النوع الثالث: يفرش قدمه اليمنى ويدخل اليسرى بين فخذ وساق الرجل اليمنى؛ لحديث عبد الله بن الزبير عن أبيه يرفعه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى)). مسلم، برقم 579، قال الإمام ابن القيم: ولعله كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، زاد المعاد، 1/ 253، وقال العلامة ابن عثيمين: ((وعلى هذا ينبغي أن يفعل الإنسان هذا مرة، وهذا مرة))، وهذا بناء على القاعدة: أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة ينبغي أن تفعل على جميع الوجوه الواردة؛ لأن هذا أبلغ في الاتباع، من الاقتصار على شيء واحد، انظر: الشرح الممتع، 3/ 300، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 22/ 335 - 337، والمغني لابن قدامة، 2/ 227 - 228، وصفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، ص997، ونيل الأوطار، 2/ 54 - 55. (¬2) وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للروض المربع، 2/ 82 في يوم الأحد 10/ 8/1419هـ يقول: ((السنة التورك في التشهد الأخير وينصب اليمنى، والتشهد الأول يفرش اليسرى وينصب اليمنى)).

السبب الثاني والخمسون: المحافظة على الأذكار أدبار الصلوات المفروضة:

29 - يقرأ التشهد مع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -،والدعاء بما يحب بعد الثالثة من المغرب، وبعد الرابعة من الظهر والعصر، والعشاء، كما تقدم تفصيلاً (¬1). 30 - يُسلِّم عن يمينه وشماله، قائلاً: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله (¬2). السبب الثاني والخمسون: المحافظة على الأذكار أدبار الصلوات المفروضة: لا شك أن مما يُعين على تثبيت الخشوع في القلب المحافظة على الأذكار المشروعة أدبار الصلوات المفروضة، وفيها من الفوائد مع ما يحصل بسبب ذلك من تثبيت الخشوع في القلب: أن المُصلِّي يستغفر ربه عمَّا حصل من التقصير في صلاته، وعما حصل من الخلل في الخشوع، ولا شك أن الأذكار بعد الصلاة مما يجبر النقص فيها، وقد شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذكاراً ودعواتٍ أدبار الصلوات المفروضة وهي على النحو الآتي: أولاً: ((أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام))؛ لحديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: ((اللهم أنت السلام ... )) الحديث (¬3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ¬

_ (¬1) وتقدم تخريج الأدلة. (¬2) وتقدم تخريج الأدلة. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 591.

يا ذا الجلال والإكرام)) (¬1)، ومقصودها رضي الله عنها: لم يقعد مستقبل القبلة إلا مقدار هذا الدعاء ثم يستقبل الناس بوجهه؛ ولحديث سمرة - رضي الله عنه -: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه)) (¬2). ثانياً: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) ثلاث مرات؛ لحديث المغيرة - رضي الله عنه - ولفظه: عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة: أن معاوية كتب إلى المغيرة: أن اكتب إليّ بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكتب إليه المغيرةُ: إني سمعته يقول عند انصرافه من الصلاة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) [ثلاث مرات] قال: وكان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنعٍ وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات)) (¬3). ثالثاً: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد [يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير] (¬4)، وهو على كل شيء قدير، ¬

_ (¬1) مسلم، في الكتاب والباب السابقين، برقم 592. (¬2) البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلّم، برقم 845. (¬3) البخاري، بلفظه، في كتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال، برقم 6473، وزيادة: ((ثلاث مرات)) في طبعة دار السلام، وطبعة دار الفكر، وفي نسخة البخاري المطبوعة مع إرشاد الساري، للقسطلاني، ونسخة البخاري المطبوعة مع عمدة القاري للعيني، وليست هذه الزيادة في الطبعة السلفية المطبوعة مع فتح الباري، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز - رحمه الله - أثناء شرحه للبخاري، الحديث رقم 6473، وشرحه للروض المربع، 2/ 85 يقول: ((وفي رواية عبد بن حميد في مسنده ثلاث مرات)) ثم قال: ((وليست في الصحيح وإنما هي لعبد بن حميد بإسناد جيد، [وقال مرة] لا بأس به. والحديث رواه مسلم أيضاً بدون هذه الزيادة، برقم 593. (¬4) هذه الزيادة بين المعقوفين للطبراني في المعجم الكبير، 20/ 392، برقم 926، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 10/ 103 ((ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)).

اللهم لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ [ولا رادّ لما قضيتَ] (¬1)، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ))؛لحديث المغيرة - رضي الله عنه - فعن ورَّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول دبر كل صلاة إذا سلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... )) الحديث (¬2). رابعاً: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون))؛ لحديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقولها في دبر كل صلاة حين يسلم ... ثم قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُهَلِّل بهن دبر كل صلاة)) (¬3). خامساً: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر (ثلاثاً وثلاثين) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من سبَّحَ الله دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زَبَدِ البَحْرِ)) (¬4). والتسبيح والتحميد، والتكبير وَرَدَ على عدة أنواع ينبغي للمسلم أن ¬

_ (¬1) هذه الزيادة بين المعقوفين، لعبد بن حميد في مسنده، ص150 - 151،رقم 391،وانظر نيل الأوطار،2/ 100.وسمعت الإمام ابن باز - رحمه الله - يقول: ((ثبتت هذه الزيادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)). (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء، برقم 6330، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593. (¬3) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 594. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 597.

ينوع بينها إذا شاء، فيقول هذا في صلاة، ويقول الآخر في صلاة أخرى؛ لأن في ذلك فوائد منها: اتباع السنة، وإحياء السنة، وحضور القلب (¬1)، ومن هذه الأنواع في التسبيح، والتحميد، والتكبير، ما يأتي: النوع الأول: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين، ويختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) فتكون مائة؛ لحديث أبي هريرة السابق (¬2). النوع الثاني: ((سبحان الله، ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين)) فتكون مائة؛ لحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مُعقِّبات (¬3) لا يخيب قائلُهن أو فاعلُهن دُبرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ: ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، وأربعاً وثلاثين تكبيرة)) (¬4). النوع الثالث: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون))؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور (¬5) من الأموال بالدرجات العلا، والنعيم المقيم [فقال: ((وما ذاك))؟ قالوا:] يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون فقال [((أفلا أُعلِّمكم شيئاً تُدركون به من سبقكم، وتَسبقون به ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، لابن عثيمين، 3/ 37، 300، 309، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 22/ 35 - 37، والاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص85. (¬2) مسلم، برقم 597، وتقدم تخريجه. (¬3) مُعقبّات: أي تسبيحات تُفعل أعقاب الصلوات، أو سُمّيت مُعقّبات: لأنها تُفعل مرةً بعد أخرى. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 596. (¬5) الدثور: الأموال الكثيرة.

مَنْ بَعْدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا من صنع مثلَ ما صنعتم))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((تُسبّحون، وتُكبّرون، وتَحْمَدون في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين مرة)) فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء))] (¬1). النوع الرابع: ((سبحان الله)) عشر مرات ((والحمد لله)) عشر مرات)) والله أكبر ((عشر مرات))؛ لحديث عبد الله بن عمرو رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خصلتان لا يُحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، وهما يَسيرٌ ومن يعمل بهما قليل)) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، يُسبح أحدكم في دبر كل صلاة عشراً، ويحمد عشراً، ويُكبر عشراً، فهي خمسون ومائة في اللسان (¬2)، وألف وخمسمائة في الميزان)) (¬3) فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدهن بيده، ((وإذا أوى أحدُكم إلى فراشه أو مضجعه، سبّح ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبّر أربعاً وثلاثين، فهي مائة على اللسان، وألف في الميزان)) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأيّكم يعمل في كل يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيئة))؟ قيل: يا رسول الله وكيف لا نحصيهما؟ فقال: ((إن الشيطان يأتي أحدَكم وهو في صلاته، فيقول: اذكرْ كذا، اذكرْ كذا، ويأتيه عند منامه، فينيمه))، وفي لفظ ابن ماجه: ((فلا يزال ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 843، ورقم 595، ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 595، وما بين المعقوفات من ألفاظ مسلم. (¬2) وذلك أن جميع الصلوات الخمس مائة وخمسون. نيل الأوطار، 2/ 102، وعمل اليوم والليلة للنسائي، 153. (¬3) وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، 2/ 102.

ينوِّمه حتى ينام)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه وفيه: ((تُسبّحون في دُبُرِ كل صلاة عشراً، وتَحْمَدون عشراً، وتُكبِّرون عشراً)) (¬2). النوع الخامس: ((يُسبِّح إحدى عشرة، ويَحْمَدُ إحدى عشرة، ويُكبِّر إحدى عشرة)) (¬3)؛ لحديث أبي هريرة في فقراء المهاجرين، ففي رواية من روايات هذا الحديث عن سهيل عن أبيه، يقول سهيل: ((إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون)) (¬4). النوع السادس: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) يقول ذلك كله خمساً وعشرين مرة؛ لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -،وثبت عن ابن عمر يرفعه أيضاً رضي الله عنهما (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي، في كتاب السهو، باب عدد التسبيح بعد التسليم، برقم 1348، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما يقال بعد التسليم، برقم 926، وأبو داود، كتاب الأدب، باب التسبيح عند النوم، برقم 5065،والترمذي في كتاب الدعوات، برقم 3410،وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد، 2/ 502، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي،1/ 290،وصحيح ابن ماجه، 1/ 152،وله شاهد من حديث أنس عند النسائي، برقم 299،والترمذي، برقم 481،وأحمد، 3/ 120، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، 1/ 255، وحسنه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 279. (¬2) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم 6329. (¬3) اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية، ص85، وانظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/ 300. (¬4) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وصفته، برقم 43 - 595، وانظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/ 299، ونيل الأوطار، 2/ 101. (¬5) النسائي، كتاب السهو، باب نوع آخر من عدد التسبيح، برقم 1350، 1351، والترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3413، وقال: هذا حديث صحيح، وابن خزيمة، برقم 752، وأحمد، 5/ 184، والدارمي، 1/ 312، والطبراني، برقم 4898، وابن حبان، برقم 2017، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 157، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 253، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 191.

سادساً: يقرأ آية الكرسي: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى آخرها؛ لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قرأ آية الكرسي دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعْه من دخول الجنة إلا الموتُ)). وزاد الطبراني: و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (¬1). سابعاً: يقرأ المعوذات الثلاث: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} دبر كل صلاة؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات دُبُرَ كلّ صلاة)) (¬2). ثامناً: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت [بيده الخير] (¬3) وهو على كل شيء قدير)) عشر مرات عقب صلاة الفجر وعقب صلاة المغرب؛ لحديث أبي ذر، ومعاذ، وأبي عياش الزرقي، وأبي أيوب، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، وأبي ¬

_ (¬1) النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 100، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 121، والطبراني في الكبير، 1/ 114، برقم 7532، وصححه ابن حبان، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 2/ 261: ((رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح))،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد،0/ 102: ((رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد وأحدها جيد)).وصححه الألباني في صحيح الجامع،5/ 339،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة،2/ 697،برقم 972،وانظر: حاشية زاد المعاد، 1/ 305. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار، برقم 1523، والنسائي، كتاب السهو، باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة، برقم 1336، والترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في المعوذتين، برقم 2903، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 284، وصحيح الترمذي، 2/ 8. (¬3) انظر: كشف الأستار للبزار، 4/ 25 برقم 3106.

الدرداء، وأبي أمامة، وعمارة بن شبيب السبائي - رضي الله عنهم - (¬1). ومجموع ما في أحاديثهم - رضي الله عنهم - أن من قالها بعد صلاة المغرب أو صلاة الصبح عشر مرات، بعث الله له مسلحة (¬2) يحرسونه من الشيطان حتى يصبح، ومن حين يصبح حتى يمسي، ورفع له عشر درجات، وكان ¬

_ (¬1) 1 - أما حديث أبي ذر، فأخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب: حدثنا قتيبة، برقم 3474، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وأحمد، 5/ 420، وقال المحشي على زاد المعاد: ((بسند صحيح))، 1/ 301، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 127. 2 - وأما حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري، فأخرجه أحمد، 4/ 227، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 191. 3 - وأما حديث أبي أيوب فأخرجه أحمد، 5/ 414، 415، 420، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 24،وابن حبان في صحيحه، برقم 2023،وصححه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 190. 4 - وأما حديث أبي عياش الزرقي، فأخرجه أحمد، 4/ 60، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، برقم 5077، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، برقم 3867. 5 - وأما حديث معاذ، فأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 126، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 139، والطبراني في كتاب الدعاء، رقم 705. 6 - وأما حديث عمارة بن شبيب السبائي، فأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 577، و578، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن حميد، برقم 3534، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 190. 7 - وأما حديث أبي أمامة، فرواه الطبراني وقال عنه المنذري في الترغيب والترهيب، 1/ 375: ((رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد))، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 111: ((رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجال الأوسط ثقات))، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، 1/ 191. 8 - وأما حديث أبي الدرداء، فذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 111، وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط، وقال المحشِّي على الترغيب والترهيب للمنذري، 1/ 75: حسن بشواهده. (¬2) المَسْلَحة: القومُ الذين يَحَفظُون الثُّغُور من العدوّ، وسُمُّوا مسلحة؛ لأنهم يكونون ذوي سلاح، أو لأنهم يسكنون المسلحة، وهي الثغر ... النهاية لابن الأثير، مادة (سلح).

في حرزٍ من كل مكروه يومه ذلك، وكتب الله له بها عشر حسنات موجبات، ومحا عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له كعدل عشر رقبات مؤمنات، ولم ينبغِ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله)) وكان من أفضل الناس عملاً إلا رجلاً يفضله بقول أفضل مما قال. تاسعاً: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً مُتَقَبَّلاً)) بعد السلام من صلاة الفجر؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: ((اللهم إني أسألك علماً نافعاً ... )) الحديث (¬1). عاشراً: ((ربِّ قني عذابك يوم تبعث عبادك))؛لحديث البراء - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: ((ربِّ قني عذابك يوم تبعث عبادك أو تجمع عبادك)) (¬2). الحادي عشر: رفع الصوت بالذكر عند انصراف الناس من الفريضة سنة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير)) (¬3)، وفي لفظ للبخاري: ((أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: ((فكان المراد أن رفع الصوت بالذكر: أي التكبير، وكأنهم كانوا يبدؤون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح ¬

_ (¬1) ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، برقم 925، وأحمد، 6/ 305، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه،1/ 152،وانظر: مجمع الزوائد،10/ 111. (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب يمين الإمام، برقم 709. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 842، ومسلم واللفظ له، كتاب المساجد، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 583. (¬4) متفق عليه: البخاري في الكتاب والباب السابقين، برقم 841، ومسلم، كتاب المساجد، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 583.

السبب الثالث والخمسون: المحافظة على السنن الرواتب قبل الفريضة وبعدها

والتحميد)) (¬1)، وقد فسَّر ذلك ووضَّحه ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أبا صالح قال: ((الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى تبلغ من جميعهن ثلاثاً وثلاثين (¬2)، فبدأ بالتكبير. السبب الثالث والخمسون: المحافظة على السنن الرواتب قبل الفريضة وبعدها: المحافظة على أداء السنن الرواتب التي قبل الصلاة يوقظ القلب السَّلِيم، ويهيئه للخشوع في الفريضة، والمحافظة على السنن الرواتب التي بعد الصلاة يجبر نقصها، ويجبر ما حصل من الخلل في خشوعها، وقد شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الرواتب؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)) (¬3)؛ولحديث أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً في يوم وليلة بُنِيَ له بهنَّ بيتٌ في الجنة))،وفي لفظ: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة، أو إلا بُنيَ له بيتٌ في الجنة)) (¬4)، وزاد الترمذي في تفسيرها: ((أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر صلاة الغداة (¬5)؛ ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 2/ 326، وسمعت سماحة الإمام ابن باز يقول في هذا الموضع: ((بالتكبير)) يعني مع ((سبحان الله)). (¬2) مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم 595. (¬3) البخاري، كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر برقم 1182. (¬4) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، برقم 728. (¬5) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة وماله فيه من الفضل، برقم 415.

قال: ((حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح))، وفي رواية ((وركعتين بعد الجمعة في بيته)) (¬1). فالرواتب عشر، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما أو اثنتي عشرة، كما قالت أم حبيبة وعائشة رضي الله عنهما وسمعت شيخنا الإمام العلامة ابن باز - رحمه الله - يذكر أن من أخذ بحديث ابن عمر قال: الرواتب عشر، ومن أخذ بحديث عائشة قال: اثنتي عشرة، ويؤيد حديث عائشة ما رواه الترمذي في تفسيرها، ويدل عليه حديث أم حبيبة في فضل هذه الرواتب، ويحتمل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يصلي ثنتي عشرة، كما في حديث أم حبيبة وعائشة، وتارة يصلي عشراً، كما في حديث ابن عمر، فإذا نشط المسلم صلى ثنتي عشرة، وإذا كان هناك شاغل صلى عشراً، وكلها رواتب، والكمال والتمام أن يصلي كما في حديث عائشة وأم حبيبة (¬2). وإن أراد المسلم أن يحافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار؛ لحديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها حرمه الله على النار)) (¬3). ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر، برقم 118، ورقم 937، و1165، و1172، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل السنن الرواتب، برقم 729. (¬2) سمعته من سماحته - رحمه الله - أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 374. (¬3) أحمد في المسند، 6/ 326، وأبو داود، كتاب التطوع، باب الأربع قبل الظهر وبعدها، برقم 1269، والترمذي، كتاب الصلاة باب منه، برقم 427، وحسنه، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد، برقم 1814، وابن ماجه، قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً، برقم 1160، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 1/ 191، وسمعت الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز يقول في تقريره على بلوغ المرام الحديث رقم 381: ((هذا الحديث إسناده جيد، والذي حافظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ما في حديث ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -)). قلت: وقد رأيته يصلي أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها جالساً في آخر حياته - رحمه الله -

وإن أراد المسلم أن يصلي أربعاً قبل العصر رحمه الله؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر)) (¬1). وصلى الله، وسلَّم، وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) أحمد في المسند، 2/ 117، وأبو داود كتاب التطوع، باب الصلاة قبل العصر برقم 1271، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر، برقم 430، وحسنه، وابن خزيمة في صحيحه، برقم 1193 وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 237، وسمعت الإمام العلامة ابن باز أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم 382 يقول: ((جيد لا بأس بإسناده، وهو يدل على مشروعية صلاة قبل العصر وذلك سنة وليست من الرواتب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليها، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي - رضي الله عنه - أنه كان يصلي ركعتين قبل العصر، وهذا يدلّ على أنه يستحب للمؤمن أن يُصلي قبل العصر ركعتين أو أربعاً)).

§1/1