الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن

الكناني، أبو الحسن

مقدمة

الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن تأليف: عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز ابن مسلم بن ميمون الكناني تحقيق: علي بن محمد بن ناصر الفقهي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وبعد:- فإن لعلماء السلف دورا كبيرا في الرد على النزعات الفلسفية التي دخلت على الأمة الإسلامية، من أعدائها لإفساد عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم، بهدف إبعادهم عن دينهم. وقد كان لليهود مجال كبير في إفساد عقائد المسلمين حيث اعتنق تلك الأفكار عنهم أناس قاموا بنشر تلك العقائد الفاسدة. ومنها الطعن في كتاب الله، للوصول إلى الطعن في أسماء الله وصفاته، كالقول بأن القرآن مخلوق. وقد نشر هذه المقالة وحمل لواءها الجهم بن صفوان المتوفى سنة 128هـ مقتولا، وقد أخذ مقالته في نفي صفات الله تعالى عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ التعطيل عن أبان بن سمعان، وأخذ أبان عن طالوت، وأخذ طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لبيد زنديقا يقول بخلق التوراة1. هذه سلسلة سند المعطلة الجهمية. وقد حمل بشر المريسي لواء هذه الدعوة في خلافة المأمون، حيث لبس على المأمون الذي كان شغوفا بطلب المعرفة حتى أنه بنى دارا سماها بيت الحكمة جمع فيها كل ما وصلت إليه يده من كتب الفلسفة والمنطق، وقد نتج عن دراستها فيما يتعلق بالعقائد محن جرت على علماء السنة ممن اعتنقوا تلك الأفكار المنحرفة.

_ 1 انظر الكامل لابن الأثيرج 7/ 75.

وقد كان من هؤلاء العلماء المتصدين لهذه الأفكار المنحرفة- عبد العزيز الكناني الذي قاوم هذه الفكرة بشجاعته وصدعه بالحق مناصرة للسنة وجهراً بالحق في مناظرته لبشر المريسي بين يدي المأمون- وقد كانت حصيلة تلك المناظرة كتاب "الحيدة" هذا الذي تضمن الأدلة القوية الصريحة في الرد على القائلين بخلق القرآن من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم ممن يقول بقولهم من رافضة، وزيدية في أقوالهم المريحة في مؤلفاتهم- وكذلك الأشعرية القائلين بأن هذا القرآن الموجود بين أيدينا مخلوق، كما ترى أدلة ذلك في هذه المقدمة- في مسألة القول بخلق القرآن وبيان أهداف المؤسسين لهذه الفكرة. وحيث إن هذا الكتاب قد طبع مرات دون تحقيق وفيه أخطاء كثيرة- اللهم إلا طبعة المجمع العلمي- بدمشق. فهي طبعة محققه ولكن بتحقيق رجل نصراني وقد ظهر في مقدمته للكتاب- نزعته للقومية العربية. ونحن نعلم أن الرد على هؤلاء الزنادقة الطاعنين في القرآن كبشر المريسي وغيره ممن سبقه، من علماء الإسلام هو رد لحماية العقيدة الإسلامية بالأدلة الصريحة من الكتاب، والصحيحة من السنة ولا صلة لتلك الردود بقومية عربية. وقد كان قيامي بتحقيق هذا الكتاب بناء على اقتراح أحد مشايخ الجامعة الإسلامية، وهو شيخي فقد درست عليه أربع سنوات في كلية الشريعة. أما عملي في الكتاب فهو على النحو التالي: أولا:- ترجمة موجزة للمؤلف، وقد ذكرت مصادر ترجمته، ثم نسخ المخطوطة المصورة من دار الكتب الوطنية التونسية الموجودة بقسم المخطوطات بمكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم 4040. ومقابلتها بالنسخ المطبوعة، ومنها طبعة المجمع بدمشق لتحقيق النص. ثانيا:- تحقيق نسبة الكتاب الى المؤلف. ثالثا:- مسألة القول بخلق القرآن وبيان أهداف القائلين بها. وبيان موضوع الكتاب. ختمت ذلك بالفهارس الضرورية وهي.

ثبت المراجع. فهرس الآيات القرآنية. فهرس الموضوعات. أولا:- التعريف بعبد العزيز الكناني: يقول الخطيب البغدادي: عبد العزيز بن يحي بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي1. سمع عبد الله بن معاذ الصنعاني وسليم بن مسلمة المكي، وهشام بن سليمان المخزومي، ومروان بن معاوية، وسفيان بن عيينة، ومحمد بن إدريس الشافعي. وقدم بغداد في أيام المأمون وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القران وهو صاحب كتاب " الحيدة". وقال في وصفه: كان من أهل العلم والفضل، وله مصنفات عدة، وكان ممن تفقه بالشافعي واشتهر بصحبته، فقد طالت صحبته له وأتباعه له وخرج معه إلى اليمن، وآثار الشافعي في كتب عبد العزيز المكي بينة عند ذكر الخصوص والعموم والبيان، كل ذلك مأخوذ من كتاب المطلبي رحمه الله. نقل ذلك عن داود ابن علي الأصبهاني الذي صنف كتاب فضائل الشافعي وذكر فيه أصحابه الذين أخذوا عنه.

_ 1 مصادر ترجمته: الفهرست لابن النديم ص275 . تاريخ بغداد 10/ 449 . العبر 434/1 . دول الإسلام ص 146 . طبقات الشافعية للشيرازي مر 103 . طبقات الشافعية لابن كثير الطبقة الأولى/ محطوط . طبقات الشافعية/ للسبكي 2/ 4، 1 10 لميزان 2/ 639 لسان الميزان د/128 تهذيب التهذيب 6// 363 . شذرات الذهب 2/ 95

وقال: لما دخل عبد العزيز بن يحي المكي على المأمون وكانت خلقته شنعة جدا فضحك المعتصم. أقبل عبد العزيز على المأمون فقال: "يا أمير المؤمنين لم ضحك هذا؟ لم يصطف الله يوسف لجماله، وإنما اصطفاه لدينه وبيانه، وقد قص ذلك في كتابه بقوله: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أو لم يقل لما رأى جماله. فبياني يا أمير المؤمنين أحسن من وجه هذا. فضحك المأمون وأعجبه قوله. وقال للمعتصم: إن وجهي لا يكلمك وإنما يكلمك لساني". اهـ وفاته: يقول الذهبي في العبر 1/ 434 في وفيات سنة أربعين ومائتين. "وفيها توفي عبد العزيز بن يحي الكناني المكي صاحب "الحيدة" سمع من سفيان ابن عيينة"، وناظر بشرا المريسي. وهو معدود في أصحاب الشافعي. وقال في دول الإسلام ص 146 في وفيات سنة أربعين ومائتين. قال: "وفيها توفي عبد العزيز بن يحي الكناني صاحب كتاب "الحيدة" وتلميذ الشافعي". ثانيا:- إثبات نسبة كتاب "الحيدة" لعبد العزيز الكناني إن نسبة كتاب "الحيدة" لعبد العزيز الكناني، وكذلك مناظرته لبشر المريسي بحضرة المأمون ثابتة كحادث تأريخي لم يشك في ذلك أحد من العلماء الذين نقلوا ذلك في كتبهم- اللهم إلا ما ورد عن الإمام الذهبي في كتابه "ميزان الاعتدال " من حيث إسناد الكتاب، وقد روى الكتاب ابن بطة بإسناد غير الإسناد الذي ذكره الذهبي كما سيأتي. مع أن الذهبي قد أثبت كتاب الحيدة، والمناظرة في كتابيه العبر، ودول الإسلام كما تقدم. أما ما ورد عن السبكي من طعن يا إثبات كتاب الحيدة، فقد تبع في ذلك قول الذهبي- وزاد قوله- إن في الكتاب أمورا مستشنعة، ثم قال- ولكنه موضوع كما قال شيخنا الذهبي. مع أن السبكي قد أثبت المناظرة، ولم يوضح لنا الأمور

المستشنعة التي يراها ولو بمثال واحد. والواقع أنه لا شيء في الكتاب اللهم إلا ما يخالف عقيدة السبكي في القرآن، كما سيأتي بيان عقيدة الأشاعرة في القرآن. ونبدأ بإيراد قول الذهبي، ثم بيان وجهة نظره، كما بينها ابن حجر في لسان الميزان، ومنا قشتها. ثم إيراد إسناد ابن بطة للكتاب، إذ أيطلع عليه الذهبي، ثم إيراد أقوال العلماء الذين أثبتوا هذه المناظرة، وكتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني. يقول الذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 639 في ترجمة الكناني: عبد العزيز بن يحي بن عبد العزيز الكناني المكي الذي ينسب إليه "الحيدة" في مناظرته لبشر المريسي ... إلى أن قال: قلت لم يصح إسناد كتاب الحيدة إليه فكأنه وضع عليه. والله أعلم. أما السبكي فقد قال في طبقات الشافعية 144/2: عبد العزيز بن يحي ابن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي الذي ينسب إليه كتاب بر الحيدة. وبعد أن ذكر ثناء العلماء عليه وصحبته للشافعي نقل عين أبي العيناء قوله: "لما دخل عبد العزيز المكي على المأمون وكانت خلقته شنعة جدا ضحك أبو إسحاق المعتصم"، فقال: "يا أمير المؤمنين أيضحك هذا لم يصطف الله يوسف عليه السلام لجماله وإنما اصطفاه الله لدينه وبيانه فضحك المأمون وأعجبه ... إلى أن قال: وعلى إنه كان ناصرا للسنة في نفي خلق القرآن كما دلت عليه مناظرته مع بشر"، وكتاب الحيدة المنسوب إليه فيه أمور مستشنعة لكنه كما قال شيخنا الذهبي "لم يصح إسناده إليه"، ولا ثبت أنه من كلامه فلعله وضع عليه اهـ هذا ما قاله السبكي، فهو يثبت وقوع المناظرة، لكنه يدعي أن في الحيدة أمورا مستشنعة، ولكنه كما سبق لم يبين لنا هذه الأمور ولو بمثال واحد. ونكتفي بعرض وجهة نظر الذهبي ثم مناقشتها كما ذكرها ابن حجر في لسان الميزان ثم نتبعها بإسناد ابن بطة لكتاب الحيدة ثم أقوال العلماء الذين ذكروا أن كتاب الحيدة من مؤلفات الكناني قبل الذهبي وبعده.

الرابع: لو أن إسناد الكتاب تفرد به محمد بن الحسن بن الأزهر وحده ولم يأت له إسناد آخر كما سبق فإننا نقول إن نسبة الكتاب الثابتة لعبد العزيز الكناني كما سنرى ذلك من أقوال العلماء الثقات، لا يضره أن يأتي شخص مثل محمد بن الأزهر، فيروي الكتاب لأنه سيكون من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: "صدقك وهو كذوب " 1 كيف وقد وجد له إسناد آخر. وإليك ما قاله العلماء في إثبات هذه المناظرة بين عبد العزيز الكناني، وبشر المريسي عند الخليفة المأمون، وإثبات نسبة كتاب "الحيدة" للكناني:

_ 1 الحديث أخرجه البخاري في كتاب الوكالة/ باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا.. الخ فتح الباري 487/4 ح ا 231 ولفظه. عن أو هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله. قال: أما انه كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود. فرصدته، فعاد، وصنع مثل ما صنع أولا- فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما قال له في المرة الأولى- ثم عاد في المرة الثالثة قال أبو هريرة: فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول صلى الله عليه وسلم وهذا. آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخفيت سبيله. قال: ما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما انه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذلك شيطان. اهـ. يقول ابن حجر في شرح الحديث 4/ 489 بعد أن ذكر فوائد كثيرة تؤخذ من هذا الحديث، الشاهد منها قوله: وبأن الكذاب قد يصدق. ونحن نقول هنا- أن الكذاب قد صدق برواية هذا الكتاب- بدليل ما أوردناه عن العلماء في إثبات هذه المناظرة التي جرت ويا إثبات نسبة هذا الكتاب لعبد العزيز الكناني، الذي هو حصيلة تلك المناظرة، ولأن ما ورد في الكتاب هو قول السلف جميعا، ويؤكد ذلك وجود إسناد الإمام ابن بطة لهذا الكتاب. أما ما ذكره السبكي من أن في الكتاب أمورا مستشنعة، فكما سبق القول أنه لم يذكر لنا مثالا واحدا من هذه الأمور التي يصفها بالشناعة. بل فيه إثبات أن هذا القرآن الذي نقرؤه هو كلام الله، وعند الأشاعرة جميعا ومنهم السبكي إن هذا القرآن بين أيدينا مخلوق. أما كلام الله عندهم فهو المعنى النفي القائم بالذات.

- ابن النديم- يقول في الفهرست ص 275: عبد العزيز الكناني من طبقة الحارث، كان متكلما مقدما وزاهدا عابدا وله في الكلام والزهد كتب، وتوفي وله من الكتب كتاب/ الحيدة فيما جرى بينه وبين بشر المريسي. 2- الخطيب البغدادي - قال في تاريخ بغداد 10/ 449: عبد العزيز بن يحي الكناني المكي سمع عبد الله بن معاذ الصنعاني وسليم بن مسلمة المكي إلى أن قال: قدم بغداد في أيام المأمون وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن وهو صاحب كتاب " الحيدة". 3- الذهبي نفسه - يقول في العبر 1/ 434: وفي سنة أربعين ومائتين توفي عبد العزيز بن يحي الكناني المكي صاحب كتاب/ الحيدة. ويقول في دول الإسلام ص 146: وفي سنة أربعين ومائتين توفي عبد العزيز بن يحي الكناني صاحب كتاب/ الحيدة. 4- ابن كثير- ويقول ابن كثير في طبقات الشافعية1 الطبقة الأولى: عبد العزيز الكناني صاحب كتاب/ الحيدة في مناظرة الجهمية روى عن الشافعي. قال الخطيب البغدادي هو صاحب كتاب/ الحيدة. قد طالت صحبته للشافعي، ثم نقل عن الشيرازي من طبقات الشافعية قول أبي إسحاق: وهو المكي المتكلم الذي ناظر بشرا المريسي. 5- أبو إسحاق الشيرازي - الذي أشار إلى قوله ابن كثير، يقول في طبقات الشافعية ص 103 ومنهم عبد العزيز بن يحي الكناني المكي المتكلم، وهو الذي ناظر بشرا المريسي عند المأمون في نفي خلق القرآن، قال دود بن علي. هو أحد أصحاب الشافعي أخذ عنه وطالت صحبته وأتباعه له وخرج معه إلى اليمن. اهـ. 6- ابن حجر- ويقول ابن حجر في تهذيب التهذيب 463/6 وقد ذكر شيوخه وتلاميذه ثم نقل عن الخطيب قوله: قدم بغداد في أيام المأمون وجرت بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن وهو صاحب كتاب/ الحيدة. وكان من أهل العلم والفضل وله مصنفات عدة، وكان ممن تفقه للشافعي واشتهر بصحبته.

_ 1 مخطوط/ مكتبة الشيخ حماد الأنصاري.

ومما يؤكد أن رأي الذهبي وجهة نظر قابلة للنقاش- أن ابن حجر الذي ذكر وجهة النظر هذه كما تقدم قد نقل نصا من "الحيدة" في فتح الباري 13/ 452 في شرح باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شيء} فقد قال: وأشار ابن بطال إلا أن البخاري انتزع هذه الترجمة من كلام عبد العزيز بن يحي المكي فإنه قال في كتاب "الحيدة" سمى الله تعالى نفسه شيئا إثباتا لوجوده ونفيا للعدم عنه وكذا أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه ولم يجعل لفظ شيء من أسمائه بل دل على نفسه إنه شيء تكذيبا للدهرية ومنكري الإلهية من الأمم، وسبق في علمه إنه سيكون من يلحد في أسمائه ويلبس على خلقه ويدخل كلامه في الأشياء المخلوقة فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فأخرج نفسه وكلامه من الأشياء المخلوقه ثم وصف كلامه بما وصف به نفسه فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فدل على كلامه بما دل على نفسه ليعلم أن كلامه صفة من صفات ذاته فكل صفة تسمى شيئا بمعنى أنها موجودة1. فعمل ابن حجر هذا يبين لنا أنه لو كان موافقا للذهبي في وجهة نظره لما نقل هذا النص الذي أشار فيه ابن بطال إن البخاري انتزع هذه الترجمة من كلام عبد العزيز المكي من "كتاب الحيدة". 7- وقد أشار إلى هذه المناظرة ابن الجوزي في المنتظم2 8/ 41 حيمسا قال: "وفي سنة أربعمائة وعشرين في عهد القادر، في يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمع القضاة والشهود والفقهاء والوعاظ والزهاد إلى دار الخلافة وقريء عليهم كتاب طويل جدا يتضمن ذكر أبي بكر وعمر وفضائلهما إلى أن قال: وأعيد فيه ما جرى بين بشر المريسي وعبد العزيز المكي في ذلك". اهـ 8- ويقول: ابن العماد في شذرات الذهب2/ 95 في وفيات سنة 240 هـ وفيها توفي عبد العزيز بن يحي الكنافب المكي، سمع سفيان بن عيينة وناظر

_ 1 انظر هذا النص ورقة 10/ ب، 11/2 وص 27، 28 من هذه الرسالة لمطابقتها لما نقله ابن حجر في فتح الباري 13/402. 2 المنتظم/ لابن الجوزى الطبعة الأولى دائرة المعارف حيدر آباد سنة 1359 هـ

يقول ابن حجر في لسان الميزان 5/128 في ترجمة محمد بن الأزهر: محمد بن الحسن بن الأزهر الدعاء. عن عباس الدوري اتهمه أبو بكر بن الخطيب بأنه يضع الحديث. قلت: هو الذي انفرد برواية كتاب الحيدة، رواه عنه أبو عمر بن السماك، ورأيت له حديثا رجاله ثقات سواه، وهو كذب في فضل عائشة. ويغلب على ظني أنه هو الذي وضع كتاب الحيدة، فإني لأستبعد وقوعه جدا. ثم قال ابن حجر: "ووجه استبعاد المصنف كتاب الحيدة، إنه اشتمل على مناظرات أقيمت فيها الحجة لتصحيح مذهب أهل السنة عند المأمون والحجة قول صاحبها. نجلو كان الأمر كذلك ما كان المأمون يرجع إلى مذهب الجهمية ويحمل الناس عليه ويعاقب على تركه ويهدد بالقتل وغيره كما هو معروف في أخباره في كتب المحنة. اهـ هذه وجهة نظر الذهبي، وهي مبنية على أمرين: الأول: انفراد محمد بن الحسن بن الأزهر برواية الكتاب، ومعناه أنه إذا وجدنا إسنادا آخر للكتاب، صحت النسبة ولا اعتراض عليه. وبحمد الله- قد وجدنا إسناد ابن بطة في الإبانة وسنورده بعد هذا، وبذلك يذهب الاعتراض. الأمر الثاني: وجهة نظر عقلية- وهي مبنية على أنه إذا كانت هذه المناظرة حدثت، فكيف يبقى المأمون على اعتقاده. فهل هذه الوجهة تكفي لرد هذا الكتاب الذي اشتهر أمره بين العلماء وتداولوه في كتبهم، ومنهم الإمام الذهبي نفسه فقد ذكره في كتابيه، العبر، ودول الإسلام كما سيأتي. وحيث إن وجهة النظر هذه مبنية على إسناد الكتاب الذي انفرد به محمد بن الأزهر فإليك الإسناد الآخر للكتاب من الإبانة لابن بطة: يقول ابن بطة في الإبانة ورقة 160 مخطوط بالجامعة الإسلامية: باب ذكر مناظرات الممتحنين بين يدي الملوك الجبارين الذين دعوا الناس إلى هذه الضلالة.

ثم قال: مناظرة عبد العزيز بن يحي المكي لبشر بن غياث المريسي بحضرة المأمون. حدثنا أبو حفص محمد بن عمر بن محمد بن رجاء قال ثنا أبو أيوب عبد الوهاب بن عمرو النزلي قال حدثني أبو القاسم العطاف بن مسلم قال حدثني الحسين بن بشر ودبيس الصائغ ومحمد بن فرقد قالوا: قال لنا عبد العزيز بن يحي المكي الكناني: "أرسل إلي المأمون أمير المؤمنين وأحضرني وأحضر بشر" ... الخ. ثم ذكر نماذج من كتاب الحيدة استغرق من ورقة 160/ ب سطر 12 إلى ورقة 165/ أسطر 17 لأن الصفحة تشمل 23 سطرا ثم اتبعها بقوله: باب ذكر محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله لابن1 داود وأصحابه بحضرة المعتصم ... الخ. فهذا إسناد للكتاب غير الإسناد الذي انفرد به محمد بن الحسن بن الأزهر الذي يرى الذهبي انه انفرد بروايته، فطعن فيه من أجله، ومع ذلك فإننا سنناقش وجهة النظر هذه، وهي لماذا بقي المأمون على عقيدته إن كانت هذه المناظرة حصلت على هذا الوجه. فهذه الوجهة العقلية هي التي بنى عليها الإمام الذهبي حكمه حيث قال: "ويغلب على ظني أنه هو الذي وضع كتاب الحيدة، فإنني لاستبعد وقوعه جدا. فحكم الذهبي رحمه الله كما ترى هو بغلبة الظن- لا بالقطع والإجابة على غلبة الظن هذه بالأمور التالية: الأول: أننا قد وجدنا إسنادا آخر للكتاب غير الإسناد الذي انفرد به محمد ابن الأزهر، وهو الذي قال الإمام الذهبي فيه هذا الكلام- أي يغلب على ظنه أن محمد بن الأزهر هو الذي وضع هذا الكتاب وقد سبق ذكر الإسناد عن الإمام ابن بطة من كتاب الإبانة.

_ 1 لعله. مع أبي داود وأصحابه بحفره المعتصم.

الثاني: أن المناظرة بين الكناني وبشر المريسي ثابتة كحادثة تأريخية بين يدي المأمون لم يشك في وقوعها أحد لا الذهبي ولا السبكي، فكلاهما يثبتها، بل إن الذهبي أثبت إضافة إلى المناظرة كتاب الحيدة في كتابيه العبر، ودول الإسلام. الثالث: كون المأمون بقي بعد تلك المناظرة على رأيه، لا ينهض دليلا على عدم وقوع المناظرة، ولا طعنا في كتاب "الحيدة" الذي هو حصيلة تلك المناظرة، لأن الشبهة التي ليس بها الجهمية على المأمون كانت قوية بحيث أصبحت عند المأمون عقيدة يرى أن مخالفها كافر مرتد يستحق العقوبة بالقتل، فكم من مناظرة قد أقيمت بين يديه، وكم من عالم حبس وضرب، بل وقتل، فمن أجل هذه الشبهة القوية لم يستطع المأمون التخلص منها، ويدل لذلك أن بشرا وأتباعه لازالوا بعد المناظرة يستغلون الفرص المناسبة للطعن على الكناني عند المأمون، وقد ذكر ذلك الكناني نفسه في هذه الرسالة، فقد قال يا ورقة 36/ ب من المخطوطة ص 120 من الرسالة- قال: فسر المسلمون جميعا بما وهبه الله لهم من إظهار الحق وقمع الباطل وجعل الناس يجيؤون إلي أفواجا حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفا على نفسي وعليهم من مكروه يلحقنا فقالوا: لابد أن تملي علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فتهيبت ذلك وتخوفت سوء عاقبته فلما ألحوا في قلت لهم: "أذكر لكم بعض ما جرى مما لا يكون علي حجة في ذكره فرضوا بذلك فأمليت عليهم أوراقا يسيرة مقدار عشر أوراق مختصرة مما جرى لأقطعهم بها عني وعن ملازمة بابي"، ولم يتهيأ لي شرح هذا كله، لما تخوفت على نفسي مما قد يلحقني بعضه، وأنا أذكر بعد هذا المجلس ما جرى، بسبب تلك الأوراق التي كتبها الناس عني في كتاب مفرد بعد هذا إن شاء الله. فيؤخذ من كلام الكناني هذا أنه قد بدأ بكتابة هذه المناظرة بنفسه، فقد كتب مقدار عشر أوراق، ويظهر من هذا أنه أكمل الباقي بعد ذلك لأن الكتاب كله يتكون من سبع وثلاثين ورقة. وأن بشرا وأتباعه مازالوا يلبسون على، المأمون، ويحثونه على إيذاء المخالفين لهم لاسيما عبد العزيز الكناني في هذا الم لمحت الذي انتشر فيه خبر المناظرة، كما أشار الكناني إلى ذلك.

بشرا المريسي في مجلس المأمون بمناظرة عجيبة غريبة فانقطع بشر وظهر عبد العزيز، ومناظرتهما مشهورة مسطورة، وعبد العزيز هو صاحب "الحيدة" وهو معدود في أصحاب الشافعي. وابن أبي العز الحنفي في كتابه شرح الطحاوية. 9- فقد قال في ص 122-123 الطبعة الثانية تحقيق زهير الشاوش قال: وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشرا المريسي بين يدي المأمون، بعد أن تكلم معه ملتزما أن لا يخرج عن نص التنزيل وألزمه الحجة، فقال بشر: "يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال". قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: اسأل أنت، وطمع فيّ فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها إما أن تقول: إن الله خلق القرآن، وهو عندي أنا كلامه- في نفسه أو خلقه قائما بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره"؟ قال: "أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها". وحاد عن الجواب. فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشرا فقد انقطع. فقال عبد العزيز؟ إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لأن الله لا يكون محلا للحوادث المخلوقة، ولا يكون فيه شيء مخلوق. وإن قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس إن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه. فهو محال أيضا لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره- هو كلام الله ... إلى أن قال: هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في "الحيدة" انظره في الحيدة ص وبهذا يتضح أنه ليس عند الذهبي رحمه الله في رد الكتاب إلا وجهة نظر ذكرها في لسان الميزان، وبسببها استبعد وقوع هذه المناظرة وهي عدم رجوع المأمون عن رأيه في خلق القرآن، وقد عرفنا إن الشبهة كانت قوية، وأن بشرا وإتباعه لا زالوا يتابعون الكناني ويستثيرون المأمون عليه، كما أشار هو لذلك. ثم إن الذهبي رحمه الله نفسه أثبت نسبة الحيدة- للكناني في كتابيه العبر، ودول الإسلام، وكذلك العلماء الآخرون قبله وبعده كالخطيب، وابن النديم،

وأبو إسحاق الشيرازي، وابن كثير، وكذلك السبكي فإنه أثبت المناظرة، أما ما أشار إليه من الأمور المستشنعة في الرسالة- فإنه لم يوضح ذلك ولو بمثال واحد كما سبق ذلك. كل ذلك يجعلنا نطمئن إلى أن كتاب "الحيدة" هو من تأليف عبد العزيز الكناني وقد نصر فيه السنة، وقمع البدعة، وقد استفاد من هذا الكتاب أناس كثيرون. غير المأمون الذي لم يستفد من تلك المناظرة ومعلوم أن المأمون لا يريد إلا الحق، ولكنه لم يهتد إليه- ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 12/ 488. "فإن الإمام أحمد قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل من الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو ... إلى أن قال: ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون القرآن مخلوق"، كما ذكر في ص 501: إن من ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة. اهـ ومن هنا نقول: إن هذه المناظرة وإن قامت فيها الحجة للكناني على بشر المريسي أمام المأمون إلا أن الشبهة على المأمون أن كانت قوية، فلم تزل عنه بتلك المناظرة. ثالثا: مسألة خلق القرآن إن القول بخلق القرآن فكرة يهودية أراد بها أصحابها الطعن في ذات الله وأسمائه وصفاته لأن أول قائل بها يهودي زنديق. وذلك لأن القرآن الكريم كلام الله، وكلامه صفة من صفاته، والله بأسمائه وصافاته واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ونم يكن له كفوا أحد، وقد نزلت سورة

الإخلاص جوابا لسؤال المشركين واليهود الموجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصف لهم ربه. فالقول بأن القرآن مخلوق طعن في صفاته تعالى وأنها مخلوقة، وهذا القول كفر ومن هنا حكم العلماء على أن من أزيلت عنه الشبهة وأقيمت عليه الحجة في هذه المسألة وبقي معاندا فإنه كافر. أما إن هذه الفكرة يهودية فإليك بيانها: يقول ابن الأثير في الكامل 7/ 75 وفي سنة أربعين ومائتي توفي القاضي أبو عبد الله أحمد بن داود في المحرم بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوما، وكان داعية إلى القول بخلق القرآن وغيره من مذاهب المعتزلة، وأخذ ذلك عن بشر المريسي، وأخذه بشر من الجهم بن صفوان، وأخذه جهم من الجعد بن درهم، وأخذه الجعد من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وختنه، وكان لبيد يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان زنديقا فأفشى الزندقة. اهـ. هذا أصل فكرة القول بخلق القرآن، وهذا منشؤها، وهذه أهداف القائلين بها، فالذين حملوا راية هذه البدعة عن الجهمية ورئيسهم الجهم بن صفوان الذي قتل عام 128 هـ المعتزلة، وقد أثروا على الخليفة العباسي المأمون، الذي كان صاحب همة وولع بالمعرفة، وقد أنشأ ما عرف في زمن خلافته ببيت الحكمة، وحدث باعتناقه لهذه الفكرة بلاء عظيم على الإسلام وعلماء السنة، وقد عرفت تلك الفترة بمحنة القول بخلق القرآن، وقد قتل فيها من قتل وحبس من حبس وجلد من جلد حتى رفع الله هذه المحنة في خلافة المتوكل وعاد الأمر إلى أهل السنة وأشهر القول ببدعة القول بخلق القرآن وأعلن مذهب أهل السنة في القرآن وإنه كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. ولكن قول المعتزلة هذا تسرب إلى الأشاعرة الذين نجد في ظاهر كلامهم معاداتهم للمعتزلة والرد عليهم ولكن أفكار المعتزلة دخلت عليهم, وقد عرف عن الأشاعرة إثباتهم لسبع صفات ومنها صفة الكلام، فيا ترى هل يقولون بأن هذا القرآن الموجود بين أيدينا هو كلام الله وصفة من صفاته منه بدأ وإليه يعود، أو إن هذا النظم الموجود في المصحف مخلوق.

الجواب:- أن الأشاعرة القدامى منهم والمعاصرون يقولون: إن هذا القرآن الموجود في المصحف مخلوق، وإنما هو عبارة أو حكاية- عن كلام الله الذي عرفوه- أعني- الكلام- أنه معنى قائم بالنفس وهذا الموجود هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، ولم يبينوا من الذي عبر أو حكى كلام الله هل هو جبريل عليه السلام أو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نفى الله عن كلامه هذا، أي القرآن الكريم أن يكون من كلام البشر، أو كلام جبريل كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وهذا الكلام الذي يسمعه المشرك المستجير، هو الموجود في المصحف، وليس الكلام النفسي القائم بالذات. أما كون الأشاعرة يقولون-أن القرآن مخلوق فإليك بيان ذلك عن السابقين واللاحقين: 1- من القدامى يقول صاحب جوهرة التوحيد ص 54 ونره القرآن أفي كلامه ... عن الحدوث وأحذر انتقامه ويقول الشارح للجوهرة البيجوري بعد أن رد على المعتزلة قولهم: إن القرآن مخلوق، قال: ومذهب أهل السنة- ويعني بهم الأشاعرة- أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق، لكن يمتنع أن يقال القرآن مخلوق ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق. أي الكلام النفسي. اهـ. أما الكاتب المعاصر الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فيقول في كتابه "كبرى اليقينات الكونية" الطبعة الثامنة سنة 1402هـ ص 126 في حديثه عن صفة الكلام قال: إذا تأملت فيما ذكرناه أدركت النقطة الخلافية بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة- ويعني بأهل السنة والجماعة- الأشاعرة، وهي أن هناك معنى لألفاظ القرآن يتكون فيه الأمر والنهي والأخبار المتوجه إلى الناس، وهو قديم. فما اسم هذا المعنى؟. المعتزلة: اسمه العلم إذا كان أخبارا، والإرادة إذا كان أمرا ونهيا. الجمهور: اسمه الكلام النفسي، وهو صفة زائدة على كل من العلم والإرادة قائم بذاته تعالى.

وأما الكلام الذي هو اللفظ، فاتفقوا على أنه مخلوق، وعلى أنه غير قائم بذاته سبحانه. باستثناء أحمد بن حنبل وبعض أتباعه، فقد ذهبوا إلى أن هذه الحروف والأصوات أيضا قديمة بذاتها، وإنها هي المعنى بصفة الكلام. ثم قال: ولا تدخل- بعد أن عرفت نقطة الوفاق والخلاف- في شيء من المناقشة والجدال اللذين قاما حول هذا البحث، لاعتقادنا بأن الخطب أيسر من ذلك، وإن كنا نعتقد ما ذهب إليه الجمهور من أن المعنى الذي هو مدلول العبارات اسمه الكلام النفي، وأنه صفة زائدة على كل من صفتي العلم والإرادة ... إلى أن قال: ومعظم ما تسمعه من الأصداء الرهيبة للخلاف التاريخي في هذه المسألة، إنما منشؤه الخلاف بين أحمد بن حنبل رضي الله عنه والفرق الأخرى كالجهمية والمعتزلة. هذا كلام البوطي المعاصر فهو يقرر أن هذا القرآن بين أيدينا مخلوق، وأنه لا فرق بين- جمهور أهل السنة- والمقصود بهم الأشاعرة- وبين المعتزلة في ذلك. ثم إنه يقلل من المحنة التي ثبت فيها الإمام أحمد بن حنبل وأظهر الله الحق على يديه بعد أن تعرض للضرب والحبس والإهانة في هذه المسألة- فيقول بهذا الكلام الساخر: ومعظم ما تسمعه من الأصداء الرهيبة للخلاف التاريخي في هذه المسألة إنما منشؤه الخلاف بين أحمد بن حنبل ... الخ ولم يقل حتى- الإمام. هكذا يرى أن هذا الخلاف لا قيمة له، ما دام الأشاعرة والمعتزلة متفقون على أن القرآن مخلوق. ونحن نوضح هذا للشباب الذي يتمسك بمنهج السلف الصالح، ليكون على بينة من أن الأفكار القديمة التي فرقت كلمة الأمة الإسلامية وحاربها علماء الأمة دفاعا عن الدين والعقيدة السليمة لازالت سارية يعتنقها الكثيرون ويروجون لها ويطعنون ويهونون من تضحيات أولئك الذين وقفوا ضد محنة القول بخلق القرآن، وقد قتل فيها من قتل، وسجن من سجن، وضرب من ضرب كالإمام أحمد بن حنبل الذي أيد الله أهل السنة والجماعة بثباته في تلك المحنة.

والبوطي كما ترى يقلل من تلك المحنة، بل إن العلماء الذين قتلوا وعذبوا كانوا على غير صواب، لأن القرآن الموجود بين أيدي المسلمين مخلوق. موضوع الكتاب أما موضوع الكتاب- فهو الرد على القائلين بأن القرآن مخلوق وقد ذكر ذلك في مقدمة الكتاب حيث قال: "اتصل بي وأنا بمكة ما قد أظهر بشر بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن، ودعائه الناس إلى موافقته على قوله ومذهبه وتشبيهه على أمير المؤمنين المأمون، وعامة الناس، وما قد دفع الناس إليه من المحنة والأخذ في الدخول في هذا الكفر والضلالة، ورهبة الناس وفزعهم من مناظرته وإحجامهما. عن الرد عليه ... واستتار المؤمنين في بيوتهم وانقطاعهم عن الجُمعات والجماعات وهربهم من بلد إلى بلد خوفا على أنفسهم وأديانهم وكثرة موافقة الجهال والرعاع من الناس لبشر على مذهبه وكفره وضلالته ... والانتحال لمذهبه رغبة في الدنيا ورهبة من العقاب الذي كان يعاقب به من خالفه على مذهبه " وقد جرت المناظرة بين بشر المريسي وعبد العزيز الكناني في هذه المسألة وقد أورد الكناني في هذه المناظرة الأدلة القاطعة الدامغة لمن ينتحل هذه الفكرة بأسلوب أدبي علمي عجيب دل على سعة علم الكناني ومعرفته لكتاب الله وسنة رسوله فقد انتزع منه الحجج القطعية التي أبطل بها مذهب الجهمية والمعتزلة ومن يقول بقولهم من أن القرآن مخلوق. وقد أصلت المناظرة على الاحتجاج بنص التنزيل والرجوع عند الاختلاف إلى كتاب الله أو سنة رسوله، ولما عجز بشر عن ذلك طلب المناظرة بالنظر والقياس, فأجابه الكناني لذلك، ثم أبطل حجته. وهي رسالة جديرة بالقراءة، ومن قرأها مرة فلابد أن يعود إليها مرة أخرى لما حوته من معلومات قيمة وأسلوب أدبي علمي رفيع.

النص المحقق

النص المحقق ... بسم الله الرحمن الرحيم وعلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (3/أ) ذكر ما جرى بين عبد العزيز بن يحيى رحمه الله وبين بشر المريسي قرأت على أبي عمر أحمد بن خالد في ربيع الآخر عام اثنين وخمسين وثلاثمائة، حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله بن السماك قال ثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن أزهر بن حسين القطايعي، قال: حدثني أبو عبد الله العباس ابن محمد بن فرقد، قال: حدثني أبي محمد بن فرقد بهذا الكتاب من أوله إلى آخره، قال: قال عبد العزيز بن مسلم الكناني1: اتصل بي وأنا بمكة ما قد أظهره بشر بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن، ودعائه الناس إلى موافقته على قوله ومذهبه وتشبيهه على أمير المؤمنين المأمون وعامة الناس وما قد دفع الناس إليه من المحنة، والأخذ في الدخول في هذا الكفر2 والضلالة، ورهبة الناس وفزعهم من مناظرته، وإحجامهم عن الرد عليه بما يكسرون به قوله، ويدحضون به حجته ويبطلون به مذهبه، واستتار المؤمنين في بيوتهم وانقطاعهم عن الجُمعات والجماعات، وهريهم من بلد إلى بلد، خوفا على أنفسهم وأديانهم، وكثرة موافقة الجهال والرعاع من الناس لبشر على مذهبه وكفره وضلالته، والدخول في بدعته، والانتحال لمذهبه، رغبة في الدنيا ورهبة من العقاب الذي كان يعاقب به من خالفه على مذهبه. قال عبد العزيز بن يحي: فأزعجني ذلك وأقلقني وأسهر ليلي وأطال غمي

_ 1 أما إسناد الإمام ابن بطه في كتاب الإبانة ورقة 160/ ب، المرفقة قال: باب ذكر مناظرات الممتحنين بين يدي الملوك الجبارين الذين دعو الناس إلى هذه الضلالة. قال: مناظرة عبد العزيز بن يحي المكي لبشر بن غياث المريسي بحضرة المأمون- حدثنا أبو حفص محمد ابن رجاء قال ثنا أبو أيوب عبد الوهاب بن عمرو النزلي قال حدثني أبو القاسم العطاف بن مسلم قال حدثني الحسين بن بشر دبيس الصائغ ومحمد بن فرقد قالوا: "قال لنا عبد العزيز بن يحي المكي الكناني ... الخ. 2 ذلك لأن القول بخلق القرآن كفر لأن القرآن كلام الله وهو صفة من صفاته، وصفاته من ذاته. ولكن علماء السلف يفرقون بين القول والقائل، فالقول قد يكون كفرا، أما القائل المعين فلا يحكم بكفره إلا بعد قيام الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه، ومن هنا نجد إن العلماء حكموا على الجهم بن صفوان بالكفر لقيام الحجة عليه، وكذلك الحكم على غيره ممن قامت عليهم الحجة، وانظر هذه القاعدة العظيمة في هذا الباب من قول شيخ الإسلام ابن تيمية الفتاوى 12/ 466.

وهمي فخرجت من بلدي متوجها إلى ربي عزوجل أسأله سلامتي وتبليغي، حتى قدمت بغداد فشاهدت من غلظ الأمر واحتداده أضعاف ما كان يصل إلي، ففزعت إلى ربي أدعوه وأتضرع إليه راغبا وراهبا، واضعا له خدي، وباسطا إليه يدي، أسأله إرشادي وتسديدي، وتوفيقي ومعونتي، والأخذ بيدي وأن لا يسلمني ولا يكلني إلى نفسي، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي، وأن يطلق لشرح بيانه لساني، وأخلصت لله عزوجل نيتي ووهبت له نفسي، فعجل تبارك وتعالى إجابتي، وثبت عزمي، وشجع وفتح لفهم كتابه قلبي، وأطلق به لساني، وشرح به صدري، فأبصرت رشدي بتوفيقه إياي، وأنست إلى معونته ونصره وتأييده ولم أسكن إلى مشاورة أحد من خلق الله في أمري، وجعلت أستر أمري وأخفي خبري عن الناس جميعا ((خوفا)) من أن يشيع خبري، ويعلم بمكاني، فأقتل قبل أن تسمع كلامي، فأجمع رأي على إظهار نفسي وإشهار قولي ومذهبي على رؤوس الخلائق والأشهاد، والقول بمخالفة أهل الكفر والضلال والردة عليهم وذكر كفرهم وتبيين ضلالتهم، وأن يكون ذلك في مسجد الجامع في يوم الجمعة، وأيقنت أنهم لا يحدثوا علي حادثة، ولا يعجلون علي بقتل وغيره من العقوبة بعد إشهاري نفسي، والنداء بمخالفتهم على رؤوس الخلائق إلا بعد مناظرتي والاستماع مني. (وكان ذلك كله بتوفيق الله عز وجل لي، ومعونته إياي) . قال عبد العزيز بن يحي: "وكان الناس في ذلك الزمان وذلك الوقت في أمر عظيم، قد منع الفقهاء والمحدثون والمذكرون والداعون من القعود في الجامعين ببغداد وفي غير هما من سائر المواضع، إلا بشر المريسي وابن الجهم، ومن كان موافقا لهما على مذهبهما، فإنهم كانوا يقعدون يعني (الجهم بن صفوان الذي به تعرف الجهمية،1 يجتمع الناس إليهم فيعلمونهم الكفر والضلال، وكل من

_ 1 هكذا في الأصل وجهم بن صفوان أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي الكاتب المتكلم أس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال كتب للأمير حارث بن سريج التميمي وكان ينكر الصفات وينزه الباري عها بزعمه، فلقول بخلق القرآن ولقول إن الله في الأمكنة كلها، قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم وكان يقول: الأيمان عقد بالقلب وإن تلفظ بالكفر، قيل: إن مسلم بهن أحوز قتل الجهم لإنكاره أن الله كلم موسى، سنة 128 هـ سير أعلام النبلاء6/ 26، ميزان الاعتدال 1/426، الملل والنحل 1/ 199، الفصل 4/ 204، الكامل 5/ 352، الخطط للمقريزي 2/ 249، 351، ولعل الصواب: ابن الجهم، كما ذكر في السطر السابق فإنه وبشر المريسي ومن وافقهما يعلمون الناس مذهب الجهم بن صفوان ... الخ.

أظهر مخالفتهم، وذم مذهبهم، أو اتهم بذلك أحضر، فإن وافقهم ودخل في كفرهم، وأجابهم إلى ما يدعونه إليه وإلا قتلوه سرا، وحملوه من بلد إلى بلد، فكم من قتيل لم تعلم به، وكم فين مضروب قد ظهر أمره وكم ممن قد أجابهم واتبعهم على قولهم من العلماء خوفا على أنفسهم لما عرضوا على السيف والقتل أجابوا كرها، وفارقوا الحق عيانا، وهم يعلمون لما حذروا، من بأسهم والوقوع بهم. قال عبد العزيز: فلما كان في الجمعة التي اعتزمت فيها على إظهار نفسي، وإشهار قولي، واعتقادي، صليت الجمعة بالمسجد الجامع بالرصافة من الجانب الشرقي بحيال القبلة والمنبر بأول صف من صفوف العامة، فلما سلم الإمام من صلاة الجمعة، وثبت قائما على رجلي ليراني الناس وسمعوا كلامي، ولا تخفى عليهم مقالتي، وناديت بأعلى صوتي لابني، وكنت قد أقمت ابني بحيالي عند الاسطوانة الأخرى، فقلت له: يا ابني ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق".. قال عبد العزيز: "فلما سمع الناس كلامي، ومسألتي لابني وجوابه إياي، هربوا على وجوههم خارجين من المسجد إلا يسير من الناس خوفا على أنفسهم، وذلك أنهم سمعوا ما لم يكونوا يستمعون، وظهر لهم ما كانوا يخفون ويكتمون، فلم يستتم ابني الجواب حتى أتاني أصحاب السلطان، واحتملوني وابني فأوقفوني بين يدي عمرو بن مسعدة1 وكان قد جاء ليصلي الجمعة، فلما نظر إلى وجهي، وكان قد سمع كلامي ومسألتي لابني، وجواب ابني إياي، فلم يحتج أن يسألني عن كلامي، فقال لي: أمجنون أنت؟ قلت،: لا. قال: فموسوس أنت؟ قلت: لا. قال: أفمعتوه أنت؟ قلت: لا. إني لصحيح العقل جيد الفهم ثابت المعرفة والحمد لله كثيرا. قال: فمظلوم أنت؟ قلت: لا. فقال لأصحابه ورجاله: مروا بهما إلى منزلي". قال عبد العزيز: "فحملنا على أيد الرجال حتى أخرجنا من المسجد ثم جعلوا يتعادون بنا سحبا شديدا وأيدينا في أيد الرجال يمنة ويسرة، وسائر أصحابه خلفنا وقدامنا، حتى صرنا إلى منزل عمرو بن مسعدة على تلك الحال

_ 1 عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول الكاتب كنيته أبو الفضل، أحد وزراء المأمون توفي سنة سبع عشرة ومائتين. تاريخ بغداد 12/203 وفيات الأعيان 2/ 475.

العنيفة الغليظة، فوقفنا على بابه حتى دخل، وأمر بنا فأدخلنا عليه وهو جالس في صحن داره على كرسي حديد، ووسادة عليه، فلما صرنا بين يديه، أقبل في فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك"؟ قلت: "طلب القربة إلى الله عز وجل وطلب الزلفة لديه". قال: "فهلا فعلت ذلك سرا من غير نداء ولا إظهار لمخالفة أمير المؤمنين، أطال الله بقاه. ولكنك أردت الشهرة والرياء والتسوق لتأخذ أموال الناس. فقلت: ما أردت من هذا شيئا، ولا أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه لا غير ذلك. فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت: نعم. ولذلك قصدت وبلغت بنفسي ما ترى بعد خروجي من بلدي وتغريري بنفسي مع سلوكي البراري أنا وولدي، رجاء تأدية حق الله عز وجل فيما استودعني من الفهم والعلم وما أخذ علي وعلى العلماء من البيان". فقال: "إن كنت إنما جعلت هذا سببا لغيره إذا وصلت إلى أمير المؤمنين فقد حل دمك بمخالفتك أمير المؤمنين". فقلت له: "إن تكلمت في شيء غير هذا، أو جعلت هذا ذريعة إلى غيره فدمي حلال لأمر المؤمنين". قال عبد العزيز: "فوثب عمرو قائما على رجليه، وقال: أخرجوه بين يدي إلى أمير المؤمنين. قال: فأخرجت، وركب من الجانب الغربي وأنا بين يديه وولدي يعدي بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيدي الرجال حتى صار إلى أمير المؤمنين من الجانب الشرقي، فدخل وأنا في. الدهليز قائم على رجلي، فأطال عند أمير المؤمنين، ثم خرج فقعد في حجرة له، وأمر بي فأدخلت عليه، فقال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين أطال الله بقاه بخبرك وما فعلت، وما قلت وما سألت من الجمع بينك وبين مخالفيك من المناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاه، بإجابتك إلى ما سألت وجمع المناظرين عن هذه المقالة إلى مجلسه أعلاه الله في يوم الاثنين الآتي وتحضر معهم ليناظروا بين يديه أيده الله ويكون هو الحاكم بينكم. قال عبد العزيز: فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته وأظهرت الشكر والدعاء لأمير المؤمنين، فقال لي عمرو بن مسعدة: أعطنا كفيلا بنفسك حتى تحضر معهم يوم الاثنين وليس بنا حاجة إلى حبسك". فقلت له: "أعزك الله أنا رجل غريب ولست أعرف في هذا البلد أحدا ولا يعرفني من أهله أحد، فمن أين لي من يكفلني، وخاصة مع إظهار مقالتي

لو كان الخلق يعرفوني لتبرؤا مني، وهربوا من قربي وأنكروا معرفتي، قال: فنوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم، وتنصرف فتصلح من شأنك وتفكر في أمرك فلعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك فيصفح أمير المؤمنين عن جرمك، فقلت ذلك إليك أعزك الله فافعل ما رأيت". قال عبد العزيز: "فوكل بي من يكون معي في منزلي وانصرفت". قال عبد العزيز: "فلما كان يوم الاثنين، صليت الغداة في مسجدي الذي كان على باب منزلي، فلما فرغت من الصلاة إذ بخليفة عمرو بن مسعدة قد جاء ومعه خلق كثير من الفرسان والرجال فحملوني مكرما على دابة حتى صاروا بي على باب أمير المؤمنين فأوقفوني حتى جاء عمرو بن مسعدة فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها، ثم أذن لي بالدخول عليه فدخلت.. فلما صرت بين يديه أجلسني" ثم قال لي: "أنت مقيم على ما كنت عليه"، أو قد رجعت عنه، فقلت: "بل مقيم على ما كنت وقد ازددت بتوفيق الله إياي بصيرة في أمري"، فقال لي عمرو: "أيها الرجل قد حملت نفسك على أمر عظيم وبلغت الغاية في مكروهها وتعرضت لما لا قوام لك به، من مخالفة أمير المؤمنين أطال الله بقاه، وادعيت ما لا يثبت لك به حجة على مخالفيك ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف، فانظر لنفسك وبادر أمرك قبل أن تقع المناظرة، وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة، ولا تقبل لك معذرة، ولا تقال لك عثرة، فقد رحمتك وأشفقت عليك مما هو نازل بك، وأنا استقبل أمير المؤمنين أطال الله بقاه وأسأله الصفح عن جرمك وعظيم ما كان منك، إن أظهرت الرجوع عنه، والندم على ما كان منك، وآخذ لك الأمان منه أيده الله والجائزة، وإن كانت لك ظلامة أزلتها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلست رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه، ورجوت أن يخلصك الله على يدي من عظيم ما أوقعت بنفسك فيه"، فقلت له: "ما ندمت أعزك الله ولا رجعت، ولا خرجت عن بلدي، وغررت بنفسي إلا في طلب هذا اليوم، وهذا المجلس رجاء أن يبلغني الله ما أؤمل من إقامة الحق فيه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل".

قال محمد بن الحسن1 سمعت أبا عبد الله2 يقول: قال لي أبي3 جاء عبد العزيز إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهو في الحبس فقال: "إن هذا الأمر الذي أنت فيه ليس تطيقه على دقته، فاذكرني فبعث إليه أبو عبد الله أنا قد وقعت، وأخاف أن أذكرك فأشيط بدمك، فيكون قتلك على يدي، فأقتل أنا أحب إلي، فانصرف بسلام". قال عبد العزيز: "فقام عمرو بن مسعدة على رجليه، وقال: "قد حرصت في كلامك جهدي، وأنت حريص مجتهد في سفك دمك وقتل نفسك، فقلت له: معونة الله أعظم، والله عزوجل ألطف من أن يسلمني ويكلني إلى نفسي، وعدل أمير المؤمنين أطال الله بقاه أوسع من أن يقصر عني، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". قال عبد العزيز: "وأمر بي فأخرجت إلى الدهليز الأول، ومعي جماعة موكلون بي، وكان قد تقدم إلى سائر بني هاشم ممن يحضر مجلس أمير المؤمنين أطال الله بقاه، أن يركبوا ووجه إلى الفقهاء والقضاة والموافقين لهم على مذهبهم. وسائر المتكلمين، والمناظرين أن يحضروا دار أمير المؤمنين، فأمر القواد والأمراء أن يركبوا في السلاح كل ذلك ليرهبوني بهم. ومنع الناس من الانصراف إلى أن ينقضي المجلس، فلما اجتمع الناس وتأهبوا ولم يتخلف منهم أحد ممن يعرفون بالكلام والجدال، أذن لي في الدخول، فلم أزل أنقل من دهليز إلى دهليز حتى صرت إلى الحاجب "صاحب " الستر الذي على باب الصحن، فلما رآني أمربي فأدخلت إلى حجرته، ودخل معي فقال لي: إن احتجت إلى أن تجدد طهرا فافعل، فقلت: لا حاجة لي بذلك، فقال: صل ركعتين قبل دخولك، فصليت أربع ركعات ودعوت الله وتضرعت إليه، فلما فرغت، أمر من كان بحجرته فخرج من الحجرة، ثم تقدم إلي فقال لي وهو يسارني: يا هذا إن أمير المؤمنين بشر مثلك رجل من ولد

_ 1 هو ابن الأزهر. 2 أبو عبد الله، هو العباس بن محمد بن فرقد. 3 هو محمد بن فرقد، وهؤلاء جميعا ورد ذكرهم في إسناد الكتاب.

آدم، وكذلك كل من يناظرك بحضرته فهو بشر مثلك، فلا تتهيبهم، واجمع فهمك وعقلك لمناظرتهم، وإياك والجزع، واعلم علما يقينا أنه إن ظهرت حجتك عليهم انكسروا وانقطع كلامهم عنك، وأذللتهم وغلبتهم ولم يقدروا على ضر ولا مكروه وصار أمير المؤمنين أطال الله بقاه وسائر الأولياء والرعية معك عليهم، وإن ظهرت حجتهم عليك أذلوك وقتلوك وأشهروك وجعلوك للخلق عبرة، فاجمع همتك ومعرفتك ولا تدع شيئا مما تحسنة وتحتاج إليه أن تتكلم به خوفا من أمير المؤمنين أو من أحد غيره وتوكل على الله واستخر الله، وقم فادخل". فقلت له: "جزاك الله خيرا فقد أديت النصيحة وسكنت الروعة وآنست الوحشة، وخرج، وخرجت معه إلى باب الصحن". قال عبد العزيز: "فشال الستر، وأخذ الرجال بيدي وعضدي وجعل أقوام يتعادون بي، وأيديهم في ظهري وعلى عنقي، فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يقول: خلو عنه خلو عنه، وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح والرجال، وقد انبسطت الشمس عليهم، وملأ الصحن صفوفا، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا دخلتها، فلما صرت على باب الإيوان، وقفت هناك فسمعته يقول: قربوه قربوه، فلما دخلت من باب الإيوان وقعت عيني عليه، وقبل ذلك لم أتبينه لما كان على باب الإيوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: أدن مني، فدنوت منه، ثم قال: أدن مني زاده تكرارا، وأنا أدنو منه خطوة خطوة، حتى صرت في الموضع الذي يجلس فيه المناظرون، ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما انتهيت إلى الموضع. قال لي المأمون: اجلس فجلست". قال عيد العزيز: "فسمعت رجلا من جلسائه يقول وقد دخلت من الإيوان": يا أمير المؤمنين يكفيك من كلام هذا قبح وجهه، لا والله ما أريت خلق الله قط أقبح وجها منه، فسمعته يقول هذا وفهمت كلامه كله ورأيت شخصه على ما بي من الروعة والجزع والخوف، وجعل ينظر إلي وأنا أرتعد وأنتفض، فأحب أن

يؤنسني وأن يسكن عني ما قد لحقني وأن ينشطني، فجعل يكثر كلام جلسائه ويكلم خليفته عمرو بن مسعدة، ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج أن يتكلم بها يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر إلى الإيوان، ويدير طرفه فيه، فوقعت عينه على موضع من نقش الجص قد انتفخ، فقال: يا عمرو أما ترى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش، وسيقع فبادره في يومنا هذا، فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا. قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون فقال لي: "الاسم"، فقلت: "عبد العزيز". فقال لي: "ابن من"؟ فقلت: "ابن يحي"قال: "ابن من"؟ قلت: "ابن عبد العزيز"، قال لي: "ابن من"؟ قلت: "ابن مسلم." قال: "ابن من"؟ قلت: "ابن ميمون الكناني". قال: "وأنت من كنانة". قلت: "نعم،" يا أمير المؤمنين، فتركني ولم يكلمني هنيهة، ثم أقبل علي فقال: "من أين الرجل"، قلت: "من الحجاز"، قال: "من أي الحجاز"، قلت: "من مكة"، قال: "ومن تعرف من أهلهاط، قلت: "يا أمير المؤمنين كل من بها من أهلها أعرفه إلا رجلا ضوى إليها وجاور بها من الغرباء فإني لا أعرفه، قال: فهل تعرف فلانا، هل تعرف فلانا حتى عد جماعة من بني هاشم كلهم أعرفهم حق معرفتهم، فجعلت أقول: نعم أعرفه، وسألني عن أولادهم وأنسابهم فأخبره من غير حاجة به إلى شيء من ذلك، ولا مما تقدم من مسألتي وإنما يريد به إيناسي وبسطي للكلام، وتسكين روعتي وجزعي، فذهب عني ما كان لحقني من الجزع، وجاءت المعونة من الله عزوجل، فقوى بها ظهري، واشتد بها قلبي، واجتمع بها فهمني، وعلا بها جدي، وانشرح بها صدري، وانطلق بها لساني، ورجوت بها النصر على عدوي". قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: "يا عبد العزيز إنه اتصل بي ما كان منك في قيامك في المسجد الجامع، وقولك إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبحضرة الخلق على رؤوس الأشهاد، ومسألتك بعد ذلك الجمع بينك وبين مناظريك على هذه المقالة بحضرتي وفي مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعتك والمخالفين لك لتتناظروا بين يدي وأكون آنا الحكم فيما بينكم فإن تكن لك الحجة والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك. ثم أقبل المأمون على بشر المريسي" فقال: "يا بشر قم إلى عبد العزيز نناظره وأنصفه".

قال عبد العزيز: "فوثب إلي بشر من موضعه الذي كان فيه كالأسد يثب إلى فريسته، فجاء فانحط علي، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، فكاد أن يحطمها، واعتمد علي بقوته كلها. فقلت له: مهلا فإن أمير المؤمنين أطال الله بقاه لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي، وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى باعده مني". قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز ناظره على ما تريد واحتج عليه، ويحتج عليك، وسله ويسألك، وتناصفا في كلامكما، وتحفظا ألفاظكما، فإني مستمع إليكما ويحفظ ألفاظكما". قال عبد العزيز: "فقلت السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، ولكني أقول شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أبقاه الله تعالى أن يأذن لي في ذلك فعلت. فقال: قل ما تريد. فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إني رجل عربي، وفي كلامي دقة، ولم يسمع أمير المؤمنين أطال الله بقاه من كلامي شيئا قبل هذا الوقت، فجليل كلامي في سمع أمير المؤمنين دقيق، وبشر يا أمير المؤمنين كثير سماع أمير المؤمنين دقيق كلامه، فصار في سمع أمير المؤمنين جليلا، فإن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاه أن يأذن لي فأقدم شيئا من كلامي في هذا المجلس ليقيس ما يدق بعده من كلامي على ما تقدم، ويعرف مذهبي في كلامي، ثم يجمعني ومن أحب لمناظرتي بعد هذا في أي وقت شاء". قال المأمون: "أنا مشغول عن هذا بما يلزمني من أمر المسلمين، وإنما جمعتك ومخالفيك لما أظهرت من مخالفتك إياهم وذمك لمذهبهم، وادعائك الرد عليهم، ومسألتك الجمع "بينك " وبينهم ولست أجمعك وإياهم بعد هذا المجلس إلا عن مناظرة تجري بينك وبينهم فتحتاجون إلى عودة لاستمام ما بقي عليكما من المناظرة فأجمعكما لذلك". قال عبد العزيز: "فقلت في نفسي، هذا الذي سألت الله عز وجل أن يبلغنيه وعاهدته لأن بلغني لأقومن بحقه ولأذبن عن دينه بما يلهمني بتوفيقه صابرا محتسبا وإن عرضت على السيف والقتل حتى إذا بلغني الله ما أملته وأعطاني ما سألته، وأيدني بالمعونة، وكفاني المؤونة وعطف قلوب عباده علي، وصرف عتي ما كنت أحاذر من سوء بادرة تكون قبل قيامي بحق الله تعالى، أأنقض عهده، وأخلف

وعده، وأكفر نعمه، فيسخط علي ويخذلني ويكلني إلى نفسي، والله والله لا فعلت ولو تلفت نفسي". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنة إني لم أتهيب المناظرة ولم أعجز عنها، وإنما أحببت أن أقدم في هذا المجلس شيئا من كلامي ليقف من بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاه ومن في مجلسه على معنى كلامي ودقته فلا يخفى عليهم بعض ما يجري بيننا". قال: فقال أمير المؤمنين المأمون لبشر: "ناظر صاحبك على ما تريد". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشيء قد شغل قلبي قبل مناظرتي لبشر. فقال لي: تكلم بما شئت فقد أذنت لك". فقلت: "أسألك بالله يا أمير المؤمنين من بلغك إنه كان أجمل ولد آدم صلى الله عليه وسلم. فأطرق مليا، ثم رفع رأسه" فقال: "يوسف عليه السلام". فقلت: "صدقت يا أمير المؤمنين- فوالله ما أعطي يوسف على حسن وجهه بعرتين، ولقد سجن وضيق عليه من أجل حسن وجهه بعد أن وقف على براءته بالشاهد الذي أنطقه الله عز وجل بتصديقه وبيان قوله وبعد إقرار امرأة العزيز إنها هي راودته عن نفسه فاستعصم فحبس بعد ذلك كله لحسن وجهه، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 1 فدل بقوله عز وجل إنه سجن بغير ذنب لعلة حسن وجهه وليغيبوه عنها وعن غيرها، فطال في السجن حبسه حتى إذا عثر الرؤيا ووقف الملك على علمه ومعرفته اشتاق إليه، ورغب في صحبته فقال عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} 2 فكان هذا القول من الملك عندما وقف عليه من علم يوسف ومعرفته قبل أن يسمع كلامه، فلما دخل عليه وسمع كلامه وحسن عبارته صيره على خافي خزائن الأرض، وفوض إليه

_ 1 سورة يوسف آية 35. 2 سورة يوسف آية 54.

الأمور كلها وتبرأ منها وصار كأنه من تحت يده، فكان هذا الذي بلغه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه لا بجماله، قال عز وجل: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} 1 ولم يقل إني حسن جميل، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} 2 فوالله يا أمير المؤمنين ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو، وإني أحسن من الفهم والعلم أكثر مما أحسن". قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون وأي شيء أردت بهذا القول، وما الذي دعاك إلى ذكر هذا؟ فقلت سمعت بعض من هاهنا يقول لأمير المؤمنين: يفيك من كلامه قبح وجهه، فما يضرني قبح وجهي مع ما رزقني الله عزوجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك فقد رأيتك تنظر إلى هذا النقش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت عمرا يعيب ذلك ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص، ولا يدعو عليه، فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع. قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لم خلقني قبيحا فازداد تبسما حتى ظهرت (ثناياه) ". قال عبد العزيز: "فأقبل علي المأمون" وقال: يا عبد العزيز: "ناظر صاحبك فقد طال المجلس بغير مناظرة"، فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، كل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شيء من الفروع، فهما كالسائر على غير الطريق، لا يعرف الحجة فيتبعها ويسلكها وهو لا يعرف الموضع الذي يريد فيقصده، ولا يدري من أين جاء فيرجع يطلب الطريق فهو على ضلال أبدا. ولكننا نؤصل بيننا أصلا، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلاّ رمينا به ولم نلتفت إليه". قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: "نعم ما قلت، فاذكر الأصل الذي تريد أن يكود بينكما، ويذكر أيضا هو مثله حتى تتفقا على الأصل فتؤصلاه بينكما".

_ 1 سورة يوسف آية 55. 2 سورة يوسف آية 56.

قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك: أو أصل بيني وبينه ما أمرنا الله به واختاره لنا وأدبنا به وعلمنا ودلنا عليه عند التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى اختيارنا". فقال المأمون: "وذلك موجود عن الله عز وجل"؟ قلت: "نعم يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1 وهذا تعليم الله عز وجل وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين وهو خير وأحسن ما أصله المتنازعون بينهم، وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلاّ رددناه إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن وجدناه فيها وإلاّ ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه". فقال بشر: "وأين أمرنا الله أن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم" قلت: "كأنك لم تسمع ما جرى وما ابتدأت به، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. قال بشر: "فإنما أمر الله أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز وإلى سنة نبيه عليه السلام". قال عبد العزيز: "هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سنته، وإنما يشك في هذا الملحد لأن، وقد روى هذا بهذا اللفظ عن ابن عباس3 وعن جماعة من الأئمة4 الذين اخذ العلم عنهم رحمة الله عليهم". قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون: فافعلا وأصلا بينكما يا عبد العزيز أصلا واتفقا عليه وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى".

_ 1 سورة النساء آية 59 2 سورة النساء آية 59 3 ابن كثير التفسير 3/ 304. 4 مصدر السابق.

قال عبد العزيز. فقلت يا أمير المؤمنين: "إنه من الحد في كتاب الله عز وجل جاحدا أو زائدا لم يناظر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث". فقال المأمون: "وبأي شيء تناظره"، قلت: "بنص التنزيل كما قال الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1 وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 2 وقال حين ادعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} 4. فإنما أمر الله نبيه بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وأما من الحد في التنزيل فكيف يناظر بتأويله. فقال لي المأمون: ويخالفك في التنزيل؟ قلت: نعم ليخالفني، أو ليدع قوله ومذهبه ويوافقني". قال عبد العزيز: "ثم أقبلت على بشر فقلت: يا بشر ما حجتك إن القرآن مخلوق، وانظر إلى أحذ سهم في كنانتك فارمني به، ولا تحتاج إلى معاودتي بغيره. فقال: تقول القرآن شيء أم غير شيء، فإن قلت إنه شيء أقررت إنه مخلوق إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل، وإن قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه وإن حجة الله ليس بشيء". قال عبد العزيز: "فقلت لبشر ما رأيت أعجب من هذا تسألني وتجيب نفسك عني وتكفرني ولم تسمع كلامي ولا قولي فإن كنت سألت لأجيبنك، فاسمع مني فإني أحسسن أن أجيب عن نفسي وأحتج عن مقالتي ومذهبي، وإن كنت إنما تريد أن تخطئني وتتكلم لتدهشني وتنسيني حجتي فلن أزداد بتوفيق الله إياي إلا بصيرة وفهما، وما أحسبك إلا وقد تعلمت شيئا أو سمعت قائلا يقول هذه المقالة التي قلتها أو قرأتها في كتاب فأنت تكره أن تقطعها حتى تأتي على آخرها".

_ 1 سورة الرعد آية 30. 2 سورة الأنعام آية 151. 3 سورة آل عمران آية 93. 4 سورة النمل آية 92

قال عبد العزيز: فأقبل المأمون: على بشر فقال: "صدق عبد العزيز، اسمع منه جوابه ورد عليه بعد ذلك بما شئت من الكلام، ثم قال لي: تكلم يا عبد العزيز وأجب عما سألك عنه". قال عبد العزيز: "سألت عن القرآن أهو شيء أم غير شيء، فإن كنت تريد هو شيء إثباتا للوجود ونفيا للعدم1 فهو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فلا". فقال بشر: "ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله ولا أسمعه، ولابد من جواب يفهم ويعقل أنه شيء يعقل أو غير شيء". قال عبد العزيز: "صدقت إنك لا تفهم ولا تعقل ولا تسمع ما أقول ولقد وصفت نفسك بأقبح الصفات، واخترت لها أذم الاختيارات، ولقد ذم الله عز وجل في كتابه من قال مثل ما قلت: أو كان بمثل ما وصفت به نفسك، فقال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2 وقال عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3 وقال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ... إلى قوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 4. ومثل هذا في القرآن كثير جدا، ولقد امتدح الله عز وجل في كتابه أقواما بحسن الاستماع وأثنى عليهم أحسن الثناء فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} 5 وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} 6 وقالت عز وجل: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 7 وقال عز وجل:

_ 1 فتح الباري 13/ 402 2 سورة الأنفال آية 22-23. 3 سورة الزخرف آية 40. 4 سورة البقرة آية 16-17. 5 سورة الزمر آية 18. 6 سورة المائدة آية 83. 7 سورة البقرة آية 285.

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} 1 ومثل هذا في القرآن كثير، فما اخترت لنفسك ما اختاره الرسول، ولا ما اختاره المؤمنون، ولا ما اختاره أهل الكتاب، ولا ما اختاره الجن لأنفسهم. قال عبد العزيز: قال المأمون: دع هذا يا عبد العزيز وارجع إلى ما كنت فيه، وبين ما كنت فيه، واشرحه، واحتج لنفسك، فقلت: يا أمير المؤمنين: إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يتسم بالشيء ولم يجعل الشيء اسما من أسمائه ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتا للوجود ونفيا للعدم2، وتكذيبا منه للزنادقة، والدهرية، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} 3 فدل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء، وأنزل في ذلك خبرا خاصا مفردا لعلمه السابق أن جهما وبشرا ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأسماء المخلوقة، قال عزوجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبا لمن الحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه، قال عزوجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5 ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسم بالشيء ولم يجعله اسما من أسمائه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحضاها دخل الجنة" 6 ثم عدها فلم نجده جعل الشيء اسما لله عزوجل، ثم ذكر جل ذكره كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بمثل ما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه من ذاته وأنه صفة من صفاته، فقال الله.

_ 1 سورة الأحقاف آية 29- 35. 2 فتح الباري 13/ 402. 3 سورة الأنعام آية 19. 4 سورة الشورى آية 11. 5 سورة الأعراف آية 180. 6 خ / الدعوات، فتح الباري 11/ 214 ح 6410، والتوحيد فتح الباري 13/377 ح 7392.

عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} 1 فذم الله اليهودي حين نفى أن تكون التوراة شيئا، وذلك أن رجلا من المسلمين ناظر رجلا من اليهود بالمدينة، فجعل المسلم يحتج على اليهودي من التوراة بما علم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نبوته فيها حتى أثبت نبوته صلى الله عليه وسلم من التوراة فضحك اليهودي وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل تكذيبه، وذم قوله، وأعظم فريته حين جحد أن يكون كلام الله شيئا، ودل بذلك على أن كلامه شيء ليس كالأشياء، كما دل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء ثم قال في موضع آخر: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} 2 فدل بهذا الخبر أيضا على أن الوحي شيء بالمعنى، وذم من جحد أن كلام الله شيء، فلما أظهر الله عزوجل اسم كلامه لم يظهره باسم الشيء فيلحد الملحدون في ذلك ويدخلونه في جملة الأشياء المخلوقة، ولكنه أظهره عز وجل باسم الكتاب والنور والهدى ولم يقل قل من أنزل الشيء الذي جاء به موسى، فيجعل الشيء اسما لكلامه، وكذلك سمى كلامه بأسماء ظاهرة يعرف بها، فسمى كلامه نورا وهدى، وشفاء، ورحمة، وحقا، وقرآنا، وأشباه ذلك لعلمه السابق في جهم وبشر ومن يقول بقولهما إنهم سيلحدون في أسمائه وصفاته التي هي من ذاته وسيدخلونها في الأشياء المخلوقة". فقال بشر: "يا أمير المؤمنين قد أقر عبد العزيز إنه شيء، وإنه لا كالأشياء فليأت بنص التنزيل كما أخذ علي وعلى نفسه، أنه ليس كالأشياء، وإلاّ فقد بطل ما ادعاه وصح قولي إنه مخلوق، إذ كنا قد أجمعنا واتفقنا إنه شيء، وقلت أنا هو شيء كالأشياء وداخل في الأشياء، وقال هو ليس هو شيء كالأشياء ولا داخل لا الأشياء، فليأت بنص التنزيل على ما ادعاه، وإلا فقد ثبتت الحجة عليه بخلقه إذ كان الله عز وجل قد أخبرنا بنص التنزيل إنه خالق كل شيء". قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون هذا يلزمك يا عبد العزيز، وجعل محمد بن الجهم وغيره يصيحون "يقولون " ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق

_ 1 سورة الأنعام آية 91 2 سورة الأنعام أية 93.

الباطل وطمعوا في قتلي، وجثا بشر على ركبتيه وجعل يقول: أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن، فأمسكت فلم أتكلم حتى قال لي المأمون: مالك لا تتكلم يا عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، قد تكلم بشر وطالبني بنص التنزيل على ما قلت وهو المناظر لي فضجيج هؤلاء أي شيء هو وأنا لم أنقطع ولم أعجز عن الجواب وإقامة الحجة بنص التنزيل كما طالبني ولست أتكلم في هذا المجلس ويتكلم فيه غير بشر إلا أن ينقطع بشر عن الحجة فيعتزل ويتكلم غيره في مكانه، فصاح المأمون بمحمد بن الجهم وغيره فأمسكوا". قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون تكلم يا عبد العزيز فليس يعارضك أحد غير بشر". قال عبد العزيز: "قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1 وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2 وقالت عز وجل: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3 فدل عز وجل بهذه الأخبار كلها وأشباه لها كثيرة على أن كلامه ليس كالأشياء وأنه غير الأشياء، وأنه خارج عن الأشياء، وأنه إنما تكون الأشياء بقوله وأمره، ثم ذكر خلق الأشياء كلها فلم يدع منها شيئا إلا ذكره، وأخرج كلامه وقوله وأمره منها ليدل على أن كلامه غير الأشياء وخارج عن الأشياء المخلوقة، فقال عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} 4. فجمع في هذه اللفظة الخلق كله، ثم قال: والأمر، يعني الأمر الذي كان به هذا الخلق، ففرق عز وجل بين خلقه وبين أمره، فجعل الخلق خلقا والأمر أمرا، وجعل هذا غير هذا، وهذا غير هذا، فقال عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 5 يقول إذا أردت شيئا فإنما هو كلمح

_ 1 سورة النحل آية 40. 2 سورة يس آية 82. 3 سورة البقرة آية 117. 4 سورة الأعراف آية 54. 5 سورة القمر آية 50.

البصر يقول له كن كما أريد فيكون كلمح بالبصر، وقال عز وجل: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 1 يقول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، ثم جمع عزوجل بين الأشياء المخلوقة في آيات كثيرة من كتابه، وأخبر عن خلقهما بقوله وكلامه، وأن كلامه وقوله غيرها وخارج عنها فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقّ} 2 وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} 3 وقال عز وجل: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} 4 وقال عز وجل: {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} 5 وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقّ} 6 وقال عز وجل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} 7 وقال عز وجل: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} "8. قال عبد العزيز: فقال لي المأمون بعض هذا يجزيك فاختصره، فقلت: "يا أمير المؤمنين قد أخبرنا الله عز وجل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما، فلم يدع شيئا من الخلق إلا ذكره، وأخبر عن خلقه، وأنه إنما خلقه بالحق، وأن الحق قوله وكلامه الذي به خلق الخلق كله، وأنه غير الخلق، وخارج عن الخلق، وهذا نص التنزيل على أن كلام الله غير الأشياء المخلوقة، وليس هو كالأشياء وإنما به تكون الأشياء".

_ 1 سورة الروم آية 4. 2 سورة الأنعام آية 73. 3 سورة الحجرات آية 85. 4 سورة العنكبوت آية 44. 5 سورة الأحقاف آية 1- 3 6 سورة الدخان آية 38-39. 7 سورة الروم آية 8. 8 سورة الجاثية آية 22.

فقال بشر: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك فقد ادعى أن الأشياء إنما تكون بقوله، ثم جاء بأشياء متباينات متفرقات فزعم أن الله عزوجل يخلق بها الأشياء فأكذب نفسه ونقض قوله ورجع عما ادعاه من حيث لا يدري، وأمير المؤمنين أطال الله بقاه الشاهد عليه الحاكم بيننا". قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: "يا عبد العزيز قد قال بشر كلاما قد قلته وتحتاج أن تصحح قولك ولا ينقض بعضه بعضا، وجعل بشر يصيح ويقول: لو تركناه يتكلم لجاءنا بألف لون مما خلق الله عزوجل بها الأشياء". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، ذهبت الحجج وانقطع الكلام، ورضي بشر وأصحابه بالضجيج والترويج إلى الباطل وقطع المجلس وطلب الخلاص ولإخلاص من الله عز وجل. قال: فصاح المأمون: يا بشر أقبل على صاحبك واسمع منه، ودع هذا الضجيج، وكان قد قعد منا مقعد الحاكم من الخصوم". قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون وقال: تكلم يا عبد العزيز. فقلت: يا بشر زعمت أني قد أتيت بأشياء متباينات متفرقات، فزعمت أن الله خلق بها الأشياء، فما قلت إلا ما قال الله عزوجل في كتابه، وما جئت بشيء غير كلام الله ولا قلت ولا أقول إلا أن "الله " خلق الأشياء بكلامه. قال بشر: "يا أمير المؤمنين، قد قال إنه خلق الأشياء بقوله وبأمره، وبكلامه، وبالحق، فقال المأمون: بلى قد قلت هذا يا عبد العزيز". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين قد قلت هذا، وما قلته إلا على صحته، ولا خرجت عن كتاب الله عزوجل ولا قلت إلا ما قال الله عزوجل، ولا أخبرت إلا بما أخبر الله عز وجل به أنه خلق "مما" يوافق بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وكل ما ذكر الله عزوجل إنه خلق ويخلق به الأشياء فهو شيء واحد له أسماء، هو كلام الله، هو قول الله، هو أمر الله، وهو الحق، فقول الله هو كلامه وكلامه هو الحق، والحق هو آمره، وأمره هو قوله، وقوله هو الحق، وهي أسماء شتى لشيء واحد، كما سمي كلامه نورا وهدى وشفاء ورحمة وقرآنا، وفرقانا، فهذا مثل ذلك، وذلك مثل هذا، وإنما أجرى الله عز وجل مثل هذا على

كلامه، كما أجراه على نفسه لأنه من ذاته، فسمى كلامه بأسماء كثيرة، وهي شيء واحد كما سمى نفسه بأسماء كثيرة وهو واحد أحد صمد فرد، وإنما ينكر بشر هذا وبستعظمه لقلة فهمه ومعرفته باللغة، ومعنى كلام العرب وألفاظها". قال بشر: "يا أمير المؤمنين قد أصل بيني وبينه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه لا يقبل إلا نص التنزيل فما لنا ولذكر لغة العرب وغيرها لست أقبل منه إلا نص التنزيل بما قال أن كلام الله هو قوله، وهو أمره، وهو الحق. فقال المأمون: ذلك يلزمك يا عبد العزيز لما عقدت علي نفسك من الشرط". قال عبد العزيز: فقلت: "صدقت يا أمير المؤمنين إن ذلك يلزمني وعلي أن آتي به من نص التنزيل"، قال: "هاته". قال عبد العزيز: فقلت: "قال الله عز وجل وقد ذكر كلامه فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} 1 يعني حتى يسمع القرآن، لأنه لا يقدر أن يسمع كلام الله من الله، وإنما غنى القرآن لا خلاف بين أهل العلم واللغة في ذلك. وقال عز وجل: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} 2 فسمى الله القرآن كلامه، وسماه قوله، وأخبر أن قوله هو كلامه بقوله عز من قائل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} 3 وقال الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} 4 فهذا خبر الله عن القرآن إنه الحق. وقال عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} 5 فأخبر عن القرآن إنه الحق، وقال عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 6 فهذا خبر الله عن القرآن إنه الحق، وقال عز وجل:

_ 1 سورة التوبة آية 6. 2 سورة الفتح آية 15. 3 سورة الفتح آية 15 4 سورة البقرة آية 91. 5 سورة الأنعام آية 66. 6 سورة يونس آية 94.

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} 1 فهذا خبر الله عن القرآن إنه الحق وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} 2 وقال عز وجل: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} 3 وقال: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} 4 وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} 5 وقال عز جل: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} 6، فهذه كلها وأمثالها في القرآن كثير، إخبار الله عن القرآن أنه الحق، فسماه باسم الحق، ثم ذكر عز وجل أن القرآن قوله وأن قوله هو الحق فقال عز وجل: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} 7 فهذا خبر الله عن قوله إنه الحق وإن الحق قوله، وقال عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 8 وقالت عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} 9 فهذه أخبار الله كلها عن الحق إنه قوله وان قوله هو الحق، ومثل هذا في القرآن كثير، ثم ذكر أن الحق كلامه وأن كلامه الحق فقال عز وجل: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 10 فأخبر عن كلام الله أنه الحق، وقال عز وجل: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 11 فأخبر عز وجل عن الحق أنه كلامه وأن كلامه هو الحق، وقال عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 12 فهذه أخبار الله عز وجل عن الحق أنه كلامه وإن كلامه هو الحق ثم ذكر عز وجل أن القرآن أمره، وهو كلامه فقال عز وجل: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} 13 يعني القرآن، فأخبر

_ 1 سورة هود آية 17. 2 سورة يونس آية 108. 3 سورة الرعد آية 1. 4 سورة السجدة آية 1-3. 5 سورة المائدة آية 83 6 سورة القصص آية 53. 7 سورة الأحزاب آية 4. 8 سورة السجدة آية 13. 9 سورة سبأ آية 23. 10 سورة يونس آية 33. 11 سورة يونس آية 82. 12 سورة الزمر آية 71. 13 سورة الدخان آية ا- 5.

الله أن القرآن أمره، وأن أمره القرآن، وقال عز وجل: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} 1 يعني القرآن فهذا خبر الله أن القرآن أمره وأن أمره القرآن، وإن هذه أسماء شتى لشيء واحد، وهو الشيء الذي به خلق الأشياء وهو غير الأشياء، وخارج عن الأشياء، وغيره داخل في الأشياء، ولا هو كالأشياء وبه تكون الأشياء، وهو كلامه، وهو قوله، وهو أمره، وهو الحق. وهذا نص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير". قال عبد العزيز: فقال المأمون: "أحسنت أحسنت يا عبد العزيز." فقال بشر: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، إنه يحب أن يخطب ويهذي بما لا أعقله، ولا أسمعه، ولا التفت إليه، ولا أتى بحجة، ولا أقبل من هذا شيئا. قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، من لا يعقل عن الله ما خاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما علمه لعباده المؤمنين في كتابه، ولا يعلم ما أراد الله بكلامه وقوله، يدعي العلم، ويحتج بالمقالات والمذاهب ويدعو الناس إلى البدع والضلالات"؟. فقال بشر: "أنا وأنت في هذا سواء، أنت تنتزع بآيات من القرآن لا تعلم تفسيرها ولا تأويلها، وأنا أرد ذلك وأدفعه حتى تأتي بشيء أفهمه وأعقله". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين، قد سمعت كلام بشر وتسويته فيما بيني وبينه، (ولقد فرق الله فيما بيني وبينه) وأخبر أنا على غير السواء، قال: وأين ذلك لك من كتاب الله عز وجل؟ قلت: قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} 2 فأنا والله يا أمير المؤمنين أعلم أن الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأومن به، وبشر يشهد على نفسه إنه لا يعلم ذلك ولا يعقله ولا يقبله ولا هو مما يقوم لي به عليه حجة، فلم يقل كما قال الله عزوجل، ولا كما علم نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله، ولا كما قال موسى عليه السلام، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال المؤمنون، ولا كما قال أهل الكتاب، ولقد أخبر الله عز وجل عن جهله, وأزال عنه التذكرة, وأخرجه عن جملة أولى الألباب، لكن أمير المؤمنين أطال الله بقاه لما خصه الله به من الفضل

_ 1 سورة الطلاق آية 5. 2 سورة الرعد آية 19.

والسؤدد، ورزقه من دقة الفهم وكثرة العلم والمعرفة باللغة عقل عن الله عز وجل قوله، وعرف ما أراد به وما عنى به فقبله واستحسنه ممن انتزعه بين يديه وأظهر قبوله والرضاء بقوله". فقال بشر: "يا أمير المؤمنين قد أقر بين يديك أن القرآن شيء، فليكن عنده كيف "شاء" فقد اتفقنا على أنه شيء، وقال الله عز وجل بنص التنزيل: إنه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1 وهذه لفظة لم تدع شيئا إلا أدخلته في الخلق ولا يخرج عنها شيء ينسب إلى الشيء لأنها لفظة استقصت الأشياء وأتت عليها مما ذكر الله تعالى ومما لم يذكرها فصار القرآن مخلوقا بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين علي أن أكسر قوله وأكذبه فيما قال بنص التنزيل حتى يرجع أو يقف أمير المؤمنين علي كسر قوله وكذبه وبطلان ما ادعاه. فقال: هات ما عندك يا عبد العزيز، فقلت: يا أمير المؤمنين، قال الله عزوجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} 2 يعني الريح التي أرسلت على عاد، فهل أبقت الريح يا بشر شيئا لم تدمره، قالت: لا لم يبق شيء إلا دمرته، وقد دمرت كل شيء كما أخبر الله تعالى لأنه لم يبق شيء إلا وقد دخل في هذه اللفظة. قلت: قد أكذب الله من قال هذا بقوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاّ مَسَاكِنُهُمْ} 3 فأخبر عنهم أن مساكنهم كانت باقية بعد تدميرهم، ومساكنهم أشياء كثيرة. وقال عز وجل: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 4 وقد أتت الريح على الأرض والجبال والمساكن والشجر وغير ذلك فلم يصر شيئا منها كالرميم وقال عز وجل: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 5 يعني بلقيس، فكأن بقولك يا بشر يجب أن لا يبقى شيء يقع عليه اسم الشيء إلا دخل في هذه اللفظة وأوتيته بلقيس، وقد بقي ملك سليمان وهو مائة ألف ضعف مما أوتيته لم يدخل في هذه اللفظة. فهذا كله مما يكسر قولك ويدحض حجتك، ومثل هذا في القرآن كثير مما يبطل قولك، ولكني أبدأ بما هو أشنع وأظهر فضيحة لمذهبك وأدفع لبدعتك، قال الله عز وجل: {وَلا

_ 1 سورة الأنعام آية 102. 2 سورة الأحقاف آية 25. 3 سورة الأحقاف آية 25. 4 سورة الذاريات آية 42. 5 سورة النمل آية 23.

يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} 1 وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} 2 وقال عز وجل: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 3 وقال عز وجل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِه} 4 فأخبر الله عز وجل بأخبار كثيرة في كتابه، أن له علما أفتقر يا بشر أن لله علما كما أخبرنا أو تخالف التنزيل"؟ قال عبد العزيز: "فحاد بشر عن جوابي وأبا أن يصرح بالكفر" فيقول: "ليس لله عليم، فيكون قد رد نص التنزيل فتتبين ضلالته وكفره، وأبى أن يقول: إن لله علما، فأسأله عن علم الله هل هو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا؟ وعلم ما أريد، وما يلزمه في ذلك من كسر قوله وإبطال حجته، فاجتلب كلاما لم أسأله عنه، فقال: معنى علمه إنه لا يجهل. فأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين لا يكون الخبر عن المعنى قبل الإقرار بالشيء، وإنما يكون الإقرار بالشيء ثم الخبر عن معناه، فليقر بشر أن لله علما كما أخبرنا في كتابه، فإن سألته عن معنى العلم وهذا مما لا أسأله عنه فليجبن أن الله لا يجهل، وقد حاد بشريا أمير المؤمنين عن جوابي". فقال بشر: "وهل تعرف الحيدة"؟ قلت: "نعم إني أعرف الحيدة في كتاب الله عز وجل وهي سبيل الكفار التي اتبعتها". فقال لي المأمون: "يا عبد العزيز هل تعرف الحيدة في كتاب الله عز وجل"؟ قلت: "نعم يا أمير المؤمنين وفي سنة المسلمين، وفي لغة العرب". فقال: "وأين هي من كتاب الله عز وجل". فقلت: "قال الله عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} 5 وإنما قال لهم إبراهيم هذا ليكذبهم فيعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم فعرفوا ما أراد بهم، وإنهم بين أمرين:

_ 1 سورة البقرة اية 255. 2 سورة النساء آية 166. 3 سورة هود آية 14. 4 سورة فاطر آية 11 5 سورة الشعراء آية 71-73.

إما أن يقولوا نعم يسمعوننا حين ندعو وينفعوننا ويضروننا، فيشهد عليهم بلغة قومهم إنهم قد كذبوا. أو يقولوا لا يسمعوننا حين ندعو ولا ينفعوننا ولا يضروننا فينفوا عن آلهتهم القدرة. وعلموا أن الحجة لإبراهيم عليه السلام في أي القولين أجابوه عليهم قائمة. فحادوا عن كلامه واجتلبوا كلاما من غير ما سألهم عنه فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 1 ولم يكن هذا جوابا لمسألة إبراهيم عليه السلام، وأما الحيدة في سنة المسلمين فيروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وقد قدم عليه فنظر إليه يكاد يتفقا شحما، فقال: يا معاوية ما هذه الشحمة لعلها من نومة الضحى ورد الخصوم، قال له معاوية: يا أمير المؤمنين رحمك الله علمني وفهمني، ولم يكن هذا جوابا لقول عمر رضي الله عنه إنما حاد عن جوابه لعلمه بما فيه، فاجتلب كلاما غيره فأجاب به. وأما الحيدة في كلام العرب فقول امرىء القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرء القيس فانزل فقلت لهاسيري وأرخي زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل2 ولم يكن هذا جوابا لكلامها، وإنما حاد عن جوابها واجتلب كلاما غيره"، قال: "فأقبل المأمون على بشر" فقال: "يأبي عليك عبد العزيز إلا أن تقر أن لله علما فأجبه ولا تحد عن جوابه". فقال بشر: "قد أجبته وأن معنى العلم لا يجهل وهذا جوابه ولكنه يتعنث". قال عبد العزيز: "فقلت يا أمير المؤمنين صدق أن الله لا يجهل، ولم تكن مسألتي إياه على هذا، إنما سألته أن يقر بالعلم الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه وأثبته لنفسه ولم أسأله عن الجهل فينفي الجهل عن الله تعالى فليقر أن لله علما، ولينفي أن الله لا يجهل". قال عبد العزيز: "ثم التفت إلى بشر فقلت: لابد من أن تقول أن لله علما كما أخبر، أو ترد أخبار الله بنص التنزيل، أو يقف أمير المؤمنين على حيدتك عن

_ 1 سورة الشعراء آية 74. 2 معلقة امرىء القيس.

جوابي، فجعل يقول: يا أمير المؤمنين إن نفي الجهل عنه هو جوابه وهو الذي عناه الله في كتابه وهو والذي يطالبني به واحد إلا أن اللفظين مختلفان". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين إن نفي السوء لا تثبت به المدحة" قال بشر: "وكيف ذلك"؟ قلت: "إن قولي هذه الاسطوانة لا تجهل ليس هو إثبات العلم لها". قال عبد العزيز: "ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إنه لم يمدح الله تعالى في كتابه ملكا ولا نبيا ولا مؤمنا بنمي الجهل ليدل على إثبات العلم، وإنما مدحهم بالعلم فقال عز وجل: {كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 1 ولم يقل لا يجهلون، وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 2 وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 3 ولم يقل الذين لا يجهلون فهذا قول الله تعالى ومدحته للملائكة وللنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين فمن أثبت العلم نفى الجهل، ومن نفى الجهل أيثبت العلم،- وعلى الخلق جميعا أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله، فما اختار بشريا أمير المؤمنين من حيث اختار الله لنفسه، ولا من حيث اختار للملائكة، ولا من حيث اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا من حيث اختار لعباده المؤمنين، فمن أجهل ممن اختار لنفسه غير ما اختار الله لنفسه ولملائكته ولأنبيائه ولعباده المؤمنين". قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: "فإذا قال بشر إن لله علما وأقر بذلك فيكون ماذا، قلت: اسأله يا أمير المؤمنين عن علم الله هل هو داخل في الأشياء المخلوقة حين احتج بقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4 فزعم إنه لم يبق شيء إلا وقد أتى عليه هذا الخبر. فإن قال: نعم فقد دخل في الأشياء المخلوقة فقد شبه الله يا أمير المؤمنين بخلقه الذين أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، وكل من تقدم (وجوده) قبل علمه فقد دخل عليه الجهل فيما بين وجوده إلى حدوث

_ 1 سورة الانفطار آية10- 11. 2 سورة التوبة آية 43. 3 سورة فاطر آية 28 4 سورة الأنعام آية 102

علمه، وهذه صفة المخلوقين، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يوصف بذلك أو ينسب إليه، ومن قال ذلك فقد كفر وحل دمه ووجب على أمير المؤمنين قتله، وإن قال إن علم الله خارج عن جملة الأشياء وغير داخل فيها، كما أن قوله خارج عن الأشياء وغير داخل فيها، فمن ثم ترك قوله وضل يا أمير المؤمنين وثبتت عليه الحجة فيها. فقال المأمون: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز، وإنما فر بشر أن يجيبك في هذه المسألة لهذا. ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز تقول إن الله عالم. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فتقول: إن الله سميع بصير. قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فتقول إن الله سمعا وبصرا. كما قلت إن له علم، فقلت: لا أطلق هذا هكذا يا أمير المؤمنين. فقال: أي فرق بين هذين؟ فأقبل بشر يقول: يا أمير المؤمنين يا أفقه الناس، ويا أعلم الناس يقول الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 1 قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين قد قدمت إليك فيما احتججت به إن على الناس كلهم جميعا أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله عنه، فأخبرنا الله عز وجل أن له علما بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه} 2 فقلت؟ إن له علما كما قال: وأخبرنا إنه سميع بصير بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3 فقلت: إنه سميع بصير كما قال. ولم يخبرنا أن له سمعا وبصرا4، فقلت: كما قال. وأمسكت عند إمساكه. فأقبل عليهم المأمون فقال: ما هو مشبه فلا تكذبوا عليه. فقال بشر: قد زعمت أن لله علما، فأي شيء هو علم الله، ومعنى علم الله فقلت له: هذا مما تفرد الله بعلمه ومعرفته وحجب عن الخلق جميعا علمه فلم يخبر به ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا علمه أحد قبلي، ولا يعلمه أحد بعدي لأن علم الله أكبر وأوسع وأعظم من أن يعلمه أحد من خلقه،

_ 1 سورة الأنبياء آية 18. 2 سورة هود آية 14. 3 سورة الشورى آية 11. 4 مذهب أهل السنة والجماعة، أن أسماء الله عز وجل كلها حسنى كما قال تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وذلك لأنها متضمنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهي إعلام وأوصاف، إعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني، فقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فالسميع- يتضمن إثبات السميع اسما لله عز وجل، وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه وهو انه يسمع السر والنجوى قال تعالى: { ... وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} فقد روى الإمام أحمد والبخاري تعليقا في كتاب التوحيد 13/ 372: عن عائشة رضي الله عنها قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية من البيت ما اسمع ما تقول"، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في تفسير الآيةج8/ 65. وهكذا اسمه تعالى البصير. والإمام الكناني من أهل السنة والجماعة وهو الناصر لمذهبهم بما جاء في الكتاب والسنة، فلا يخالف قولهم، وأما قوله: "ولم أقل إن له سمعا وبصرا وأمسكت عند إمساكه"، فلعل ذلك على سبيل المناظرة التي يتحاشا فيها الدخول في دقائق المسائل التي قد تخفى على الحضور، وكل ما في الأمر أنه أمسك مجتهدا ولم ينف الصفة. كما أنه أثبت صفة العلم، ولهذا قال المأمون لبشر وأصحابه: ما هو بمشبه فلا تكذبوا عليه. أما المعتزلة الذين ينفون الصفات التي تدل عليها الأسماء الحسنى، فيقولون: سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم.. وهكذا يسلكون قي نفي صفات الله تعالى.

ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ} 1 وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول} 2 وقال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3 وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 4 أتدري يا بشر ما معنى هذا؟ قال: وأي شيء هذا مما نحن فيه. فقال المأمون: قل يا عبد العزيز أنت ما معنى هذا. قلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك يقول: ولو أن ما في الأرض من جميع الشجر والخشب والقصب أقلام يكتب بها والبحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر بالمداد والخلائق كلهم يكتبون بهذه الأقلام من هذا الشجر ما نفدت كلمات الله، فمن يبلغ عقله أو فهمه أو فكره كنه عظمة الله عز وجل وسعة علمه وكثرة كلامه، قال عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً

_ 1 سورة البقرة آية 255. 2 سورة الجن آية 26-27. 3 سورة الأنعام آية 59. 4 سورة لقمان آية 27.

لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 1 فمن يحذ هذا أو يصفه أو يدعي علمه؟ وقد عجزت الملائكة المقربون عن علم ذلك واعترفوا بالعجز {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُْ} 2 وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3 فقال بشر: لابد أن تقول أي شيء هو علم الله أو يقف أمير المؤمنين أطال الله بقاه على حيدتك عن الجواب فأكون أنا وأنت يا الحيدة سواء. فقلت: إنما تأمرني بما نهاني الله عنه وحرم علي القول به، وتأمرني بما أمرني به الشيطان، ولست أعصى الله وأرتكب نهيه وأطيع الشيطان وأتبع أمره وأمرك إذ قد أمرتماني بمعصية الله وارتكاب نهيه. قال عبد العزيز: "فاشتد تبسم أمير المؤمنين من كلامي فقال: يا عبد العزيز أمرك بشر بما نهاك الله عنه وحرم عليك القول به، وأمرك بما أمرك به الشيطان"؟ فقلت: "نعم يا أمير المؤمنين، قال: ومن أين لك ذلك؟ قلت: من كتاب الله وكلامه بنص التنزيل. قال: ها ته. قلت: قال الله عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 4 فحرم الله على الخلق جميعا بهذا الخبر أن يقولوا على الله مالا يعلمون. وأمرهم الشيطان بضد ذلك، قال عز وجل: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 5 وهذا أمر الشيطان لنا أن نقول مالا نعلم، وقد اتبع يا أمير المؤمنين بشر سبيل الشيطان ووافقه على قوله، وأمرني بما نهيت عنه من أرتكاب نهي الله عز وجل وتحريمه حين قال: لابد أن تقول أي شيء علم الله، وقد أعلمته أني لا أعلمه ولا علمه أحد قبلي ولا يعلمه أحد بعدي". قال عبد العزيز: "فكثر تبسم المأمون حتى غطى فمه بيده وأطرق ينكث بيده على السرير.

_ 1 سورة الكهف آية 109. 2 سورة البقرة آية 32. 3 سورة لقمان آية 34. 4 سورة الأعراف آية 32. 5 سورة البقرة آية 168-169.

باب ذكر "علم " الله عز وجل" فقال لي بشر: "لو ورد عليك اثنان وقد تنازعا في علم الله عز وجل، فحلف أحد هما بالطلاق: إن علم الله هو الله. وخلف الآخر بالطلاق: إن علم الله غير الله، فقالا لك: أفتنا في أيماننا فما كان جوابك لهما. قلت: الإمساك عنهما وتركهما وجهلهما وصرفهما بغير جواب. قال بشر يلزمك ويجب عليك إذ كنت تدعي العلم أن تجيبهما عن مسألتهما وأن تخرجهما من أيمانهما وإلاّ فأنت وهما في الجهل سواء. قال عبد العزيز: فقلت لبشرة أو يجب علي أن أجيب كل من سألني عن مسألة لا أجد لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرا ولا علما قد جهل السائل عنها، وحمق الحالف عليها. قال بشر: يجب عليك أن تجيبه عن مسألته فإنه لابد لكل مسألة من جواب". قال عبد العزيز: فقلت: "هذا جهل من قائله. قال عبد العزيز: ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين سمعت ما قال بشر إنه يجب علي جواب من سألني عن مسألة وفتياه وإخراجه من يمينه بما لا أجده في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم". فلو ورد علي يا أمير المؤمنين ثلاثة نفر "قد تنازعوا" في الكوكب الذي أخبير الله عز وجل أن إبراهيم عليه السلام رآه بقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} 1 فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إنه المشتري وقال الآخر حلفت بالطلاق إنه الزهرة. "وقال الآخر حلفت بالطلاق إنه المريخ " فأفتنا في أيماننا وأجبنا في مسألتنا كان علي أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم، وذلك مما لم يخبرنا الله عز وجل به ولا رسوله. فقال المأمون: ما ذلك عليك بواجب ولا لك بلازم.

_ 1 سورة الأنعام آية 76.

قال عبد العزيز: فقلت له: فلو ورد علي يا أمير المؤمنين ثلاثة نفر قد تنازعوا في الأقلام التي أخبر الله عنها في كتابه بقوله: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 1 قال أحدهم: حلفت بالطلاق إن هذه الأقلام نحاسا، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إنها خشب، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إنها قصب، فأجبنا عن مسألتنا، وأجبنا عن أيماننا، وذلك مما لم يخبر الله به ولا رسوله ولا يوجد علمه في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كان في يا أمير المؤمنين أن أجيبهم عن مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم. فقال المأمون: لا ليس عليك إجابتهم ولا فتياهم. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، فلو ورد علي ثلاثة نفر قد تنازعوا المؤذن الذي يؤذن بين أهل الجنة والنار الذي أخبر الله عز وجل بقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2 فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الملائكة. وقال الآخر: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الإنس. وقال الآخر: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الجن. فأجبنا عن مسألتنا وافتنا في أيماننا، وذلك مما لا أجده في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا أخبرنا الله به ولا رسوله كان علي يا أمير المؤمنين أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم، فقال المأمون لا ليس عليك إجابتهم ولا فتياهم، فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين لا يجوز لي ولا لغيري بأن يقضي بينهم ولا يفتيهم إلا أن يكون الله عز وجل قد أخبر عن ذلك في كتابه أو على لسان نبيه خير، وإذا لم يجز هذا خلق من خلق الله فكيف يجوز الجواب عن علم الله، وهو مما لا يوجد في كتابه ولا في سنة نبيه، ولا أخبرنا الله به ولا رسوله، وقد أكذب الله بشرا على لسان أمير المؤمنين أطال الله بقاه فيما ادعاه من وجوب الجواب عليّ وفتوى من جهل يا مسألته وحمق في يمينه، فقال: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز. فقال بشر: واحدة بواحدة يا أمير المؤمنين، سألني عبد العزيز أن أقول لله علما فلم أجبه، وسألته ما علم الله فلم يجبني فقد استوينا في الحيدة عن الجواب، ونخرج عن هذه المسألة إلى غيرها، وندعها على غير حجة تثبت لأحدنا على صاحبه فيما قال.

_ 1 سورة آل عمران آية 44. 2 سورة الأعراف آية 44.

قال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن بشرا قد أفحم وانقطع عن الجواب ودحضت حجته وبقي بلا حجة يقيمها هذا المذهب الذي كان يدعو الناس إليه، فلجأ إلى أن يسألني عن مسألة محال يحتج بها في ليقول: سألني عبد العزيز عن مسألة فلم أجبه، وسألته عن مسألة فلم يجبني عنها، وقد قال ذلك، وأنا وبشر يا أمير المؤمنين على غير السواء في مسألتنا، لأني سألته عما أخبر الله به وشهد به على نفسه وشهدت له الملائكة به، وتعبد الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر الخلق بالإيمان به بقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَاب} 1 فوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الخلق جميعا الإيمان بما أنزل الله من كتاب، وبشر يا أمير المؤمنين يأبى أن يؤمن بذلك أو يقر به أو يصدقه. وسألني بشر عن مسألة ستر الله علمها عن الملائكة، وأهل ولايته جميعا، وعني وعن بشر وعن سائر الخلق جميعا، ممن مضى وممن هو آت إلى يوم القيامة فلم يعلمها أحد قبلنا ولا يعلمها أحد بعدنا، فلم يكن لي أن أجيبه عن مسألته، وإنما يدخل النقض علي يا أمير المؤمنين لو كان بشر يعلم ما سألني عنه أو غيره من العلماء، وكنت أنا لا أعلمه، فأما إذا اجتمعنا جميعا أنا وبشر وسائر الخلق في جهل هذه المسألة وقلة العلم بها، فليس الضرر بداخل في دونه، وهذه مسألة لا يحل أن يسأل عنها، ولا يحل لأحد يجيب فيها لأن الله عز وجل حرم ذلك عليه. قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: أنتما في مسألتكما على غير السواء، وقد صح قولك في هذه المسألة يا عبد العزيز وبان ووضح وظهرت حجتك على بشر فيها. قال عبد العزيز: ورأيت بشرا قد حار وانقطع وصح ما في يدي واستبان الحق ووضح لأمير المؤمنين ولسائر من بحضرته، فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك، أرجع إلى المسألة، وادع العلم فأكسر قول بشر وافضح مذهبه وأبطل قوله واحتجاجه. فقال لي المأمون: قد أصبت يا عبد العزيز بتركك الكلام فيما قد قطع المجلس من غير ان يرجع إليك عن مسألتك فيه جواب، وقد وقفنا من قولك على

_ 1 سورة الشورى آية 15.

ما يلزم بشرا في هذه المسألة لو أجابك عن مسألتك، فهات ما عندك من غير هذا. قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك على كل من اكتال بمكيال أن يوفي به، قال ذلك يلزمه. فقلت: يا بشر ألست تزعم أن قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 1 لفظه لا يخرج عنها شيء، لأن كل، كلمة تجمع الأشياء فلا تدع شيئا يخرج عنها وكل شيء داخل فيها. فقال بشر: هكذا قلت وهكذا أقول، وهكذا هو عند الخلق ولست أرجع عنه بكثرة خطبك وهذيانك، فقلت: أمير المؤمنين شاهد عليك بهذا. قال عبد العزيز: ثم قلت له: يا بشر قال الله عز وجل: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 2 وقال عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} 3 وقال جل ذكره: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} 4 وقال عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} 5 وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} 6 فقد أخبر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن له نفسا، أفتقر يا بشر أن لله نفسا كما أخبرنا عنها بهذه الأخبار كلها، قال: نعم7. قال عبد العزيز: فقلت له: قال الله عز وجل. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 8 أفتقول أن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت، فصاح المأمون بأعلى صوته وكان جهير الصوت، معاذ الله معاذ الله معاذ الله، فقلت:

_ 1 سورة الأنعام آية 102 2 سورة طه آية 41. 3 سورة آل عمران آية 30. 4 سورة الأنعام آية 12. 5 سورة الأنعام آية 54. 6 سورة المائدة آية 116. 7 في طبعة المجمع: تم الجزء الأول- ثم مال: الجزء الثاني- وعلق في الحاشية بقوله: في "ظ " ابتداء الجزء الثاني وهو ساقط من جميع النسخ. قلت. لكن الكلام في هذه النسخة متصل حيث قال: بعد قوله: نعم- قال عبد العزيز. الخ كما في الصفحة التالية. 8 سورة آل عمران 185.

إذا ورفعت صوتي معاذ الله معاذ الله أن يكون كلام الله داخلا في الأشياء المخلوقة، كما إن نفسه ليست بداخلة في الأنفاس الميته، وكلامه خارج عن الأشياء المخلوقة كما إن نفسه خارجة عن الأنفس الميتة. قال بشر: يا أمير المؤمنين قد سألني فليسمع كلامي وليدع الصياح والضجيج. فقلت له: تكلم بما شئت. فقال: إذا كانت نفس (الله) ضميرا أو توهما، فهي خارجة وليست بداخلة في هذه النفوس. فقلت له: كم ألقي عليك إني أقول بالخبر وأمسك عن علم ما ستر عني، وإنما قلت إن لله نفسا كما أخبرنا وقد أقررت بذلك فلتكن عندك على أي معنى شئت؟ وقل هي داخلة في هذه النفوس أو لا، ودع عنا كلام الخطرات والوساوس، فقال لي: أنت رجل متعنت تجاب عن مسألتك فتطلب غيرها، وليس عندي جواب غير هذا وانقطع. قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد كسرت قوله بقوله، ودحضت حجته بحجته وبطل ما كان يدعو إليه من بدعته، وبان لأمير المؤمنين قبح مذهبه وفحش قوله، فأقبل في المأمون فقال. يا عبد العزيز قد وضحت حجتك، وبان قولك، وانكسر قول بشر، وتحتاج أن تشرح هذه الأخبار التي في القرآن ومعانيها وما أراد الله عز وجل بها ليسمع من بحضرتنا، فقد جرت اليوم أشياء كثيرة يحتاج من سمعها إلى معرفتها وفهمها. قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل شرف العرب وكرمهم بأن أنزل القرآن بلسانهم وجعله مكتتبا على تبيان فقال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 1 وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. إلى قوله بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2 وقال عز وجل: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} 3 فخص الله عز وجل العرب بفهمه ومعرفته وفضلهم على غيرهم بعلم أخباره ومعاني ألفاظه وخصوصه وعمومه ومحكمه ومبهمه، وخاطبهم بما عقلوه وعلموه، ولم يجهلوه وقبلوه ولم يدفعوه، وعرفوه فلم ينكروه، إذ كانوا قبل نزوله عليهم يتعاملون بمثل ذلك في خطابهم ولغاتهم وكلامهم، فأنزل الله جل ذكره القرآن على أربعة أخبار

_ 1 سورة يوسف آية 2. 2 سورة الشعراء آية 192- 195. 3 سورة مريم آية 97.

خاصة، وعامة، فمنها خبر مخرجه مخرج الخصوص ومعناه معنى الخصوص، ومنها خبر مخرجه مخرج العموم ومعناه معنى العموم، فهذان خبران محكمان لا ينصر فان بإلحاد ملحد، ومنها خبر مخرجه مخرج العموم ومعناه معنى الخصوص، ومنها خبر مخرجه الخصوص ومعناه معنى العموم، ففي هذين الخبرين يا أمير المؤمنين دخلت الشبهة على من لا يعرف خاص القرآن وعامه. فأما الخبر الذي مخرجه العموم ومعناه معنى العموم، فهو قول عز وجل: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} 1 فجمع هذا الخبر الخلق والأمر، ولم يبق شيئا إلا وقد أتى عليه، لأن كل شيء هو له، مما هو مخلوق وغير مخلوق. فهذا خبر مخرجه مخرج العموم ومعناه معنى العموم. وأما الخبر الذي مخرجه مخرج الخصوص ومعناه معني الخصوص، فهو قوله عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 2 وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 3 فكان مخرج الخبر لآدم عليه السلام مخرج الخصوص، ومعناه معنى الخصوص، وكذلك كان مخرج الخبر لعيسى عليه السلام مخرجه مخرج الخصوص ومعناه معنى الخصوص. ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 4 والناس اسم يجمع آدم وعيسى ومن بينهما ومن بعد هما، فعقل المؤمنون عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر إنه لم يعن آدم وعيسى عليهما السلام في الناس الذين خلقهم من ذكر وأنثى لأنه قد قدم ذلك الخبر الخاص في آدم وعيسى عليهما السلام، وكان مخرج اللفظ عاما بهما وبغير هما ومعناه خاصا بالناس دونهما. وأما الخبر الذي مخرجه مخرج الخصوص ومعناه معنى العموم فهو قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 5 فكان مخرج الخبر خاصا ومعناه عاما.

_ 1 سورة النمل آية 91. 2 سورة ص 71، 72. 3 سورة آل عمران آية 59- 60. 4 سورة الحجرات آية 13. 5 سورة النجم آية 49.

وأما الخبر الذي مخرجه مخرج العموم ومعناه الخصوص، فهو قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1 فعقل المؤمنون عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر أنه لم يعن إبليس فيمن تسمعه الرحمة لما قدم فيه من الخبر الخاص قبل ذلك وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 2 فكان إبليس ومن تبعه خارجين بهذا الخبر الخاص من رحمته التي وسعت كل شيء، فصار معنى ذلك الخبر العام خاصا لخروج إبليس ومن تبعه من رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، فلما أنزل الله عز وجل هذه الأربعة الأخبار، خص العرب بفهمها ومعرفة معانيها وألفاظها وخصوصها وعمومها والخطاب بها، ثم لم يدعها اشتباها على خلقه فيجد الملحدون السبيل إلى الإلحاد في صفاته والطعن على أخباره والتشبيه علي خلقه من غير العرب الذين لم يعقلوا عنه ما أراد بخطابه حتى جعل فيها بيانا ظاهرا وعلما واضحا لا يخفى على من سمعه وتدبره وتفهمه من غير العرب، لمن لا يعرف الخاص، والعام، واسم، والمبهم، تفضلا منه وتكرما وإحسانا إلى خلقه وإثباتا منه للحجة على من ألحد في كتابه وصفاته وما هو من ذاته، فإذا أنزل الله تبارك وتعالى خبرا مخرج لفظه خاص ومعناه عام، أو خبرا مخرج لفظه عام ومعناه خاص لم يدعه إشكالا على خلقه حتى يجعل أحد بيانين، إما أن يستثني من الجملة شيئا يكون بيانا للناس جميعا، أو يقدم قبله خبرا خاصا، فإذا أنزل بعده خبرا عاما لم يتوهم أحد من العلماء إنه عنى ما خصه في الخبر الذي قدمه قبل نزول العام إذ كان قد خصه ونصه قبل ذلك. قال عبد العزيز: فأما الخبر الذي ينزل على لفظ العموم ثم يستثني من الجملة ما لم يعنه في العموم فهو قوله عز وجل في قصة نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} 3 فعقل المؤمنون عن الله عز وجل حين استثنى الخمسين سنة من الألف إن الألف لم يستكملها نوح في قومه أيام الطوفان قال: فكان ابتداء اللفظ عاما بالألف سنة، ومعناه خاصا بالاستثناء للخمسين سنة،

_ 1 سورة الأعراف آية 156. 2 سورة ص 85. 3 سورة العنكبوت آية 14

من الألف، ومثل هذا في القرآن كثير، ولكني أختصر من كل خبر مسألة واحدة ليقف من بحضرة أمير المؤمنين على ذلك كما أمر. وأما الخبر الذي ينزله على مخرج العموم وقد قدم قبله خبرا خاصا، فهو قوله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1 فكان مخرج الخبر باللفظ عاما، وكان معناه خاصا لما قدم قبله من الخصوص في إبليس ومن تبعه بقوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 2 وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3 فعقل المؤمنون عن الله تعالى أنه لم يعن هؤلاء الذين قدم فيهم الأخبار الخاصة لخروجهم عن الرحمة أنهم معمومون بالرحمة مع غيرهم بهذا الخبر العام، وكذلك قال عز وجل في قصة لوط عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} 4 وقال في موضع آخر: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} 5 فخص عز وجل المرآة بالهلاك وقدم فيها أخبارا خاصة بذلك، ثم أنزل عز وجل خبرا مخرجه مخرج العموم ومعناه معنى الخصوص فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} 6 فعقل المؤمنون عن الله عز وجل أنه لم يعن امرأة لوط بالنجاة، لما قدم فيها من الأخبار الخاصة بالهلاك، وكذلك حين قدم إلينا عز وجل في نفسه خبرا خاصا إنه حي لا يموت بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 7 ثم أنزل خبرا نحرجه مخرج العموم ومعناه معنى الخصوص فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 8 عقل المؤمنون عن الله عز وجل أنه لم يعن نفسه مع هذه النفوس الميتة لما قدم إليهم من الخبر الخاص في

_ 1 سورة الأعراف آية 156. 2 سورة ص 85. 3 سورة العنكبوت آية 23. 4 سورة العنكبوت آية 31، 32. 5 سورة العنكبوت آية 33. 6 سورة القمر آية 34. 7 سورة الفرقان آية 58. 8 سورة آل عمران آية 185

نفسه أنه حي لا يموت وكذلك حين قدم إلينا في كتابه خبرا خاصا فقال عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1 فدل على قوله باسم معرفة، وعلى الشيء باسم نكرة، فكانا شيئين مفترقين عند العرب وأهل اللغة، فقال: إذا أردناه، ولم يقل إذا أردناهما، (وقال: أن نقول له) ولم يقل أن نقول لهما، ففرق بين القول والشيء المخلوق والذي يقول له كن فيكون بالقول مخلوقا، ثم قال عز وجل: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2وفعقل المؤمنون عن الله عز وجل عند نزول هذا الخبر العام إنه أيعن كلامه وقوله في الأشياء المخلوقة لما قدم في ذلك من الخبر الخاص أن الأشياء المخلوقة إنما تكون بقوله، وإنما غلط بشر ومن قال بقوله وهلكوا وتاهوا وضلوا لجهلهم بالخاص والعام في القرآن العظيم، وإنما شرف الله العرب وفضلها بمعرفتها بخاص القرآن وعامه ومجمله ومبهمه. فقال المأمون: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز. قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين إن بشرا خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى لله عليه سلم وخالف إجماع أصحاب محمد صلى لله عليه وسلم". فقال لي المأمون: "خالف كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله وإجماع أصحاب محمد صلى لله عليه وسلم قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أوقفك عليه الساعة"، قال: قل. فقلت: يا أمير المؤمنين إن اليهود ادعت تحريم أشياء لم تحرم عليهم في التوراة وزعموا أنها في التوراة محرمة، فقال الله عز وجل لنبيه صلى لله عليه وسلم: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3 فإذا أتوا بالتوراة فتليت لم يوجد ما ادعوه محرما عليهم فيها، كان إمساك التوراة عند ذلك مكذبا لقولهم ومبطلا لدعواهم، وكذلك أقول لبشر: أتل قراءنا بما قلت، وإلاّ فإن إمساك القرآن عما تدعيه مكذب لك مبطل لدعواك. وكذلك ننظر في سنة الرسول عليه السلام فإن كان معه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال، وإلاّ فإمساك السنة مكذب لقوله مبطل لدعواه وهما الأصل الذي أصلناه بيننا وأشهدنا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه على أنفسنا به وشرطنا على أنفسنا إسقاط كل ما لم يوجد في كتاب الله وسنة رسوله صلى لله عليه وسلم.

_ 1 سورة النحل آية 40. 2 سورة الأنعام آية 102 3 سورة آل عمران آية 93.

أما خلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن أصحابه اختلفوا في الحلال والحرام ومخارج الأحكام، فلم يخطىء بعضهم بعضا، فهم من أن يكفر بعضهم بعضا أبعد. وبشر يا أمير المؤمنين ادعى على الأمة كلمة تأولها بغير علم منه لمعناها وبما أراد الله عز وجل بها ولم يجد لها في كتاب الله عز وجل ما ينصها ولا ما يدل على تأويلها، ثم زعم أن من خالفه عليها كافر حلال الدم فأباح دم الأمة جميعا على ذلك، فهو خارج عن إجماع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تسليما وشرف وكرم1. الكتاب الثاني بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فقال بشر: "قد خطبت وتكلمت وهذيت وتركتك حتى تفرغ مما ادعيت (من إبطال خلق القرآن) بنص التنزيل، ومعنا من كتاب الله آية لا يتهيأ لك معارضتها ولا دفعها، ولا التشبيه فيها، ولا الخطب عليها، كما فعلت في غيرها، وإنما أخرتها ليكون انقضاء المجلس عليها وسفك دمك بها". قال عبد العزيز: فقلت له: "فاتها فأنا أشهد أمير المؤمنين على نفسي إني أول من يتبعك عليها ويقول بها، ويرجع عن قوله، ويكذب نفسه ويتوب إلى الله إن كان معك نص التنزيل، وكل من خالف نص التنزيل فهو كافر، والله لو اجتمعت الأنس والجن على ما قلت أن يأتوا به لم يقدروا أن يأتوا به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا". قال بشر: "قال الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 2 قال عبد العزيز: فقلت له: "لا أعرف أحدا من المؤمنين إلا وهو يؤمن بهذا ويقول: إن الله جعل القرآن عربيا ولا يخالف ذلك. فأي شيء في هذا من الحجة لك والدليل على خلقه".

_ 1 قال الناسخ: تم الكتاب الأول بعون الله وتوفيقه وصلى أدته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، يتلوه الكتاب الثاني إن شاء الله. ثم بدأ به فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. 2 سورة الزخرف آية 3.

فقال بشر: "وهل في الخليقة أحد يشك في هذا أو يخالف علي فيه إن معنى جعلناه خلقناه". قال عبد العزيز: "يا أمير المؤمنين هات نص التنزيل الذي قال يأتي به ورجعنا إلى معناه وتأويله". فقال بشر: "ما هذا تأويل ولا تفسير ولا معنى، ولا هو إلا نص التنزيل". قال عبد العزيز: "فأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن القرآن منزل بلسانك وبلسان قومك، وأنت أفهم أهل الأرض بلغة العرب ومعاني كلامها، وبشر رجل من أبناء الأعاجم يتأول كتاب الله على غير ما عناه الله عز وجل ويحرفه عن مواضعه ويبدل معانيه، ويقول ما تنكره العرب ولا تتعارفه في كلامها ولغاتها، وأنت أعلم خلق الله بلغات قومه، وإنما يكفر بشر الناس ويبيح دماءهم بتأويل التنزيل". فجعل بشر يقول: "جاء الحق وزهق الباطل، تروح يا عبد العزيز إلى الكلام والخطب والاستغاثة بأمير المؤمنين أطال الله بقاه لينقطع المجلس قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 1 ثم ضرب بشر يده على فخذي وقال: أقبل علي فقد أتيت بما لا تقدر على دفعه ولا على التشبيه فيه لينقطع المجلس بثبات الحجة عليك وإيجاب العقوبة عليك، فإن يكن عندك شيء تتكلم به، وإلاّ فقد قطع الله مقالك وأدحض حجتك، وجعل يصيح، فرحناك في أول ما أردت فأين كلامك واحتجاجك إنه انقطع ذاك وجاء ما يخرس اللسان ويذهب العقل ويحل الدم. قال عبد العزيز: "فأقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز مالك قد أمسكت أجبه إن كان عندك جواب لمسألته، فقلت: ليس يدعني يا أمير المؤمنين أكلمه من ضجيجه وصياحه، فإن أمسك تكلمت وأجبته وكسرت قوله بإذن الله عز وجل، وإن أراد أن يهذي ويروج الكلام إلى قطع المجلس لم أتكلم، وكان أمير المؤمنين

_ 1 سورة البقرة آية 89.

أطال الله بقاه أعلا عينا بما يراه، فصاح به المأمون أمسك وأسمع الجواب منه عما سألت". قال عبد العزيز: "فأمسك، فقال لي المأمون: تكلم يا عبد العزيز بما تريد. فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ما خفي عليك حرف واحد مما جرى اليوم في مجلسك ولنعم الحاكم أنت جزاك الله عن رعيتك أفضل الجزاء، وبشر يقول: ما يخطر بباله من غير علم ولا حقيقة لقوله، فإن رأى أمير المؤمنين أن يتحفظ علينا ألفاظنا وما يجري بيننا في هذه المسألة ويشهد علينا بما نقول ويطالب كل واحد منا صاحبه بإقامة الشاهد على ما يقول، من الكتاب والسنة فعل. فقال: أنا أفعل ذلك منذ اليوم". قال عبد العزيز: "فأقبلت على بشر فقلت: أخبرني عن جعل هذا حرف محكم لا يحتمل غير الخلق، فقال بشر: نعم هو حرف محكم لا يحتمل معنى غير الخلق وما بين جعل وخلق فرق عندي ولا عند غيري من سائر الناس، ولا عند أحد من العرب، ولا من العجم، ولا يتعارفون الناس ولا يعقلون غير هذا في كلامهم ولغاتهم سواء عندهم قالوا: خلق أو جعل. فقلت لبشر: "أخبرني عن نفسك ودع ذكر العرب وسائر الناس فأنا من الناس ومن الخلق ومن العرب أخالفك على هذا وكذلك سائر العرب تخالفك". فقال بشر: "هذا باطل منك ودعوى تدعيها على العرب وغيرهم وليس يخالف في هذا أحد من خلق الله غيرك خوفا على نفسك مما هو نازل بك لا محالة". قال عبد العزيز: "أخبرني بإجماع الخلق بزعمك على أن جعل وخلق واحد لا فرق بينهما في هذا الحرف وحده أو في سائر القرآن من الجعل، قال. بل في سائر القرآن من ذلك وفي سائر الكلام والأخبار والأشعار". قال عبد العزيز: "فقلت: حفظ عليك أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ما قلت وشهد به عليك". فقال بشر: "أنا أعيد هذا القول عليك متى سألتني عنه ولا أخالفه ولا أرجع عنه".

قال عبد العزيز: فقلت لبشر: "زعمت أن معنى جعلناه خلقناه قرآنا عربيا، قال: نعم هكذا قلت وهكذا أقول أبدآ" فقلت: "الله عز وجل تفرد بخلقه ولم يشاركه فيه أحد، أو شاركه في خلقه أحد"، قال: "بل الله خلقه وتفرد بخلقه ولم يشاركه في خلقه أحد". قال عبد العزيز: "أخبرني عمن قال: إن بعض ولد آدم خلقوا القرآن من دون الله أمؤمن هو أم كافر؟ فقال: بل كافر حلال الدم. فقلت: وأنا أقول أيضا هكذا كافر حلال الدم. قلت: "فأخبرني عمن قال من أن التوراة خلقها اليهود من دون الله تعالى أمؤمن هو أم كافر"؟ قال: "بل كافر حلال الدم"، فقلت: "وأنا أقول أيضا هكذا كافر حلال الدم". قلت: "فأخبرني عمن قال1: إن بني آدم خلقوا الله، وأن الله أخبر بذلك. أمؤمن هو أم كافر"؟ قال: بل كافر حلال الدم قلت: "وأنا أقول أيضا مثل ذلك". فأخبرني يا بشر أليس الله خلق الخلق كلهم أجمعين؟ قال: بلى. قلت: فهل شاركه في خلقهم أحد؟ قال: لا. قلت: فمن قال إن بعرض بني آدم خلقوا الله أمؤمن هو أم كافر؟ قال: بل كافر حلال الدم. قلت: وأنا هكذا أقول". قال بشر: "قد قعدت تمتحنني وتشغلني حتى يؤذن الظهر وينقطع المجلس رجاء أن تنصرف سالما وهو مالا يكون عندك جواب لمسألتي وإلاّ فقد انقطع الكلام وأي شيء هذه الخرافات". قال عبد العزيز: "فقلت يا أمير المؤمنين ليس ينصفني فأمره أن يجيبني عما أسأله عنه، فإن الذي بقي أيسر، ثم أجيبه عن مسألته وعن كلامه، فقال له المأمون أجبه عن كلامه وما يسألك، قال الساعة يؤذن بالصلاة وينقطع المجلس، فقال المأمون: يؤخر الأذان بالصلاة إلى آخر الوقت وإن احتجتما إلى المجلس بعد الصلاة لتمام الكلام جلست لكما حتى تفرغا". قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون فقال: سله يا عبد العزيز عما تريد ولا

_ 1 في طبعة المجمع/ ص 87 والجامعة ص 45: عمن قال: إن بني آدم خلقوا الله كان الله تعالى أخبر بذلك. ثم أشار في الحاشية إلى أن هذا اللفظ جاء في ت وظ م.

تدع شيئا مما تحتاج إليه فإني متحفظ عليكما جميع ما يجري بينكما وشاهد عليكما"، فقلت له: "جزاك الله عني يا أمير المؤمنين خاصة وعن رعيتك عامة أفضل الجزاء فقد جلست منا اليوم مجلس الإمام العادل أحسنت إلي حين رأيتني جزعا فسكنت روعتي وآنست وحشتي وبسطت لساني بحجتي وتابعت الحق حين ظهر لك ودافعت وانتصرت له وشهدت لي بثبات الحجة، ودفعت أهل الباطل حين زهق واضمحل، وبانت فضيحته، وشهدت على بطلانه، وأنصفت في مجلسك، وكان ذلك كله منك بتوفيق الله تعالى وتأييده إياك فله الحمد والشكر على ما أولاك وأولى رعيتك فيك يجزيك الله أفضل ما جازى أحدا من الأئمة عن رعيته". فقال لي المأمون: "قد أبلغت يا عبد العزيز في القول والشكر ولك الزيادة مما ابتدأناك به، فارجع إلى مسألة بشر (واسأله) عما تريد". قال عبد العزيز: فأقبلت على بشر فقلت: "أخبرني عمن زعم إن بعض بني آدم خلقوا الملائكة من دون الله تعالى أمؤمن هو أم كافر؟ قال: بل كافر حلال الدم. فقلت: وأنا أقول هكذا أيضا. قلت: أخبرني عمن زعم إن بعض بني آدم خلقوا لله شركاء أمؤمن أم كافر؟ قال: بل كافر حلال الدم. قلت: وهكذا أقول أنا أيضا". قال عبد العزيز: فأقبلت على المأمون فقلت: "يا أمير المؤمنين قد أقر بشر إنه كافر حلال الدم، وكل من قال بقوله ووافقه على مذهبه، وعلمت إني قد أخطأت، وأطرق المأمون إطراق مغضب، نظر إليه بشر فقال: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك لم يكفرنا ويحل دماءنا بحضرتك وفي مجلسك بلا حجة ظهرت، وإنما سبب ذلك ليقول هذا". قال عبد العزيز: "فقلت له: قد شهد عليك أمير المؤمنين بما قلت. فقال لي المأمون: لقد افحشت القول وأعظمته واستشهدتني على ما لم أسمعه ولم أشهد على بشر به ولا على أحد يقول بقوله". قال عبد العزيز: "يا أمير المؤمنين اسمع قولي فإن "كنت " قلت حقا وإن بشرا قد كفر نفسه ومن قال بمقالته وأحل دمه ودماءهم وانتزعت على كل حرف من كلامي بآية من كتاب الله عز وجل، وإلاّ فدمي حلال وليأمر أمير المؤمنين بضرب عنقي الساعة على رؤوس الأشهاد وإن أتيت على ما قلت ولفظت به بنص

الكتاب والتنزيل في كل لفظة وأقمت الشهادة على بشر من كتاب الله وسعني عدل أمير المؤمنين". قال: "فقال لي: هات ما عندك ولا تطل الكلام بغير حجة". قال عبد العزيز: فقلت: "قال الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 1 وقد خلقتم الله عليكم كفيلا، لا معنى لذلك عنده غيره، وإنه ومن قال بقوله ومن خالفه وسائر العرب والعجم يقولون هذا. ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم، وقد كذب في القول الأول، وصدق في قوله إن من قال هذا حلال الدم بإجماع الأمة". وقال عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} 2 ولا تخلقوا الله عرضة لأيمانكم، لا معنى له عنده ولا عند من قال بقوله، ومن خالفه وسائر الخلق جميعا غير هذا أن الله قال لبني آدم، ولا تخلقوا الله، ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم، وأمير المؤمنين يشهد عليه بهذا اللفظ، وقد كذب في قوله، إن معنى ولا تجعلوا ولا تخلقوا، وصدق في قوله، إن من قال هذا فهو كافر حلال الدم بقوله وقولي وقول الناس جميعا. فقال المأمون: "ما أقبح هذا وأشنع وأعظم القول به". فقلت: "قال الله سبحانه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3 فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن بني آدم يخلقون لله البنات، ويخبر بذلك عن الله عز وجل وإنه هو قاله وشهد به على نفسه، ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم بإجماع الأمة". قلت: "وقال عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} 4 فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن معنى وجعلوا وخلقوا، ولا معنى له عنده ولا عند من قال بقوله غير هذا فزعم عن الله عز وجل إنه قال وخلقوا لله أندادا ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم بإجماع الأمة".

_ 1 سورة الخل آية 91. 2 سورة البقرة آية 224. 3 سورة النحل آية 57. 4 سورة إبراهيم آية 35.

وقال الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} 1 وخلقوا له شركاء الجن، لا معنى له عنده ولا عند من يقول بقوله ومن خالفه ولا عند سائر الناس إلا هذا، فزعم بشر أن الله عز وجل أخبر إنهم يخلقون له شركاء الجن، ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم، وقد كذب في قوله إن معنى وجعلوا وخلقوا، وصدق في قوله إن من قال هذا فهو كافر حلال الدم بقوله وقول الناس جميعا. وقوله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْل} 2 فزعم بشريا أمير المؤمنين إن معنى، وجعلوا، وخلقوا لله شركاء، لا معنى له عنده ولا عند من قال بقوله ولا من خالفه ولا عند العرب والعجم إلا هذا المعنى فزعم أن الله عز وجل أخبرهم، إنهم خلقوا له شركاء وكذب بشر يا أمير المؤمنين وقال الباطل والزور، ولقد نفى الله تعالى ذلك وأبطله، وأخبر إنه لا يعلم من هذا شيئا وأخبر إن من قال ذلك كافر ضال بقوله: "وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبؤونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول.. " وكما قال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 3 وقال عز وجل: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 4 لا معنى له عنده ولا عند من قال بقوله وعند الناس جميعا غير هذا، ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم، وكذب في الأول، وصدق في الآخر إنه كافر حلال الدم بإجماع الأمة، وقال عز وجل: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 5 فزعم بشر إن معنى أم جعلوا، أم خلقوا، لا معنى له عنده وعند من قال بقوله وعند الناس جميعا غير هذا، وزعم أن من قال هذا كافر حلال الدم، وكذب في قوله الأول وصدق في الآخر إنه حلال الدم كافر بإجماع الأمة.، وقال عز وجل: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ... } 6 فزعم بشر إن معنى قوله، وجعلوا، وخلقوا الملائكة،

_ 1 سورة الأنعام آية 100. 2 سورة الرعد آية 33. 3 سورة الرعد آية 33. 4 سورة الأعراف آية 190 5 سورة الرعد آية 16. 6 سورة الزخرف آية 19.

ثم قال: من قال هذا كافر حلال الدم، وكذب في الأول وصدق في الآخر إن من قال هذا فهو كافر حلال الدم بإجماع الأمة، وقال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا ... } 1 فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن معنى تجعلونه تخلقونه، يعني أن اليهود خلقوا التوراة، ومعنى خلق التوراة خلق كلام الله عز وجل، فزعم أن اليهود خلقت كلام الله تعالى وأنه لا معنى لذلك عنده ولا عند غيره ومن قال بقوله وعند سائر العرب والعجم غير ذلك، ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم، فكذب في الأول، وصدق في الآخر إنه كافر حلال الدم. ثم قال الله عز وجل: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} 2 فزعم بشر إن معنى قوله الذين جعلوا القرآن عضين، الذين خلقوا القرآن عضين، ثم قال: من قال هذا فهو كافر حلال الدم، وقد كذب في قوله، إن المقتسمين خلقوا القرآن، وصدق في قوله، إن من قال هذا فهو كافر حلال الدم بإجماع الأمة". قال عبد العزيز: "فأقبل علي المأمون فقال: حسبك يا عبد العزيز قد أقر بشر على نفسه بالكفر وإحلال الدم وأشهد على نفسه بذلك وقد صدقت في كل ما قلت، ولكنه قال ما قال وهو لا يعقل ولا يعلم ما عليه في ذلك وهذا شيء يلزمه في نفسه خاصة ولا يلزم غيره ممن لا يقر بمثل ما أقربه ولا يحكم به على غيره بمثل ما حكم به بشر على نفسه". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إنما قد خاطبت أمير المؤمنين بما قد حصل في يدي، وأقر بشر به واشهد أمير المؤمنين على نفسه، وعلمت أن أمير المؤمنين قد حفظ عليه كلامه، ولولا ذلك ما اجترأت على ذلك"، فقال لي المأمون: "كنت تقصد بشرا وحده بالكلام والمخاطبة دون سائر الناس"، قلت: "لم يدعني، جعلت أسأله في خاصة نفسه" فيقول: "هذا قولي وقول سائر الناس وقول العرب والعجم، فأجبته على حسب كلامه، وصدق أمير المؤمنين

_ 1 سورة الأنعام آية 91 2 سورة الحجر آية 95-91.

هذا يلزم من أقر به دون غيره إلا من قال مثل قوله وأقر بمثل ما أقر به" وهذا الذي عنيت بقولي الأول حين قلت: "ومن قال بقوله" فقال: "قد أحسنت يا عبد العزيز الانتزاع". قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون" فقال: "يا عبد العزيز تكلم في بيان هذا واذكر الجعل والخلق وفرق بينهما واشرح. ذلك ليقف عليه من بحضرتنا ويعرفه"، فقلت: "نعم يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك، ولكن إن رأيت أن تأذن لي فأقول قبل البيان والشرح أشياء في هذا المعنى مما أكسر به قول بشر وأدحض به حجته وأفضح به مذهبه وأبطل به اعتقاده فقال: لا يطول بنا المجلس فقلت: يا أمير المؤمنين إنما أدرسه درسا يا أمير المؤمنين، قال: قل ما تريد، ولا تخاطب بشرا أقبل علي ودعه. قلت: قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 1 وقال في موضع آخر لنبيه كلفه: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 2فزعهم بشريا أمير المؤمنين إن الله قال صلى الله عليه وسلم لا تخلق مع الله إلها آخر، فمن أقبح قولا من هذا أو أفحش منه. وقال الله عز وجل لنبيه عليه السلام: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 3 فزعم بشر إن الله قال لنبيه عليه السلام ولا تخلق يدك مغلولة إلى عنقك، فزعم أن الله خلقه وبعثه رسولا، وليس له يد، ثم خاطبه بعد الرسالة فقال: ولا تخلق يدك، والله سبحانه خلقه خلقا سويا، وما أقبح هذا القول وأشنعه وأبين كسره وقال الله عز وجل: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 4 فزعم بشريا أمير المؤمنين أن الله عزوجل قال لخلقه: لا تخلقوا دعاء الرسول بينكم، ما أقبح هذا من قول وأدحضه، وقال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 5 فالله يأمرها بعد ولادته والرضاع له أن تلقيه في اليم ويعدها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين. وبشر يزعم إنه

_ 1 سورة الاسراء آية 22 2 سورة الإسراء آية 39. 3 سورة الإسراء آية 29. 4 سورة النور آية 63. 5 سورة القصص آية 7.

وعدها أن يرده إليها ويخلقه، وهذا مالا يعقله الناس، كيف يخلقه وهو مخلوق، وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 1 وزعم بشر إنه يريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويخلقهم وهم مخلوقون مستضعفون في الأرض هذا مالا تعقله العرب ولا العجم. وقال عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} 2 فخاطبه بعد خلقه وبعد فهمه ومعرفته، وزعم بشر أن الله تعالى قال لداود: إنا جعلناك خليفة في الأرض، وهذا مما لو خوطب به داود عليه السلام ما عقله، وقال الله عزوجل مخبرا عن دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام حين قالا: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 3 فأخبر أنهما دعيا ربهما وهما مخلوقان، وزعم بشر أنهما دعيا ربهما إن يخلقهما مسلمين كان قد خلقهما، وقال الله عزوجل مخبرا عن دعاء إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} 4 وقد كانت مكة مخلوقة قبل آدم عليه السلام وقبل إبراهيم، فكيف يدعو إبراهيم بخلقها وهذا مما لا يعقله الناس، وقال الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} 5 فأخبر الله أنه ما جعل ذلك كله، وزعم بشر أن الله ما خلق البحيرة ولا السائبة ولا الوصيلة ولا الحام، وإنما خلقهما الكفار من دون الله تعالى ومن قال هذا فقد كفر بالله عزوجل". قال عبد العزيز: "فأقبل علي المأمون فقال: حسبك يا عبد العزيز فقد ثبتت حجتك في هذه المسألة كثباتها في المسألة الأولى وانكسر قول بشر فيها، وبطل دعواه، فارجع إلى بيان ما قد انتزعت به واشرحه (واذكر) معانيه وما أراد الله به وما هو من الجعل مخلوق وما هو غير مخلوق؟ وبيان الإعلام والشواهد، وما هو مخلوق، وما هو غير مخلوق، وما تتعامل به العرب في لغاتها وما تفرق به بين الجعلين في كلامها، ليسمع من في المجلس ذلك، ويقفوا على مذهب العرب في ذلك وما أراده الله عزوجل بقوله في ذلك".

_ 1 سورة القصص آية 5. 2 سورة ص 26. 3 سورة البقرة آية 128. 4 سورة إبراهيم آية 35. 5 سورة المائدة آية 153.

قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين، إن جعل في كتاب الله عز وجل يحتمل معنيين عند العرب، معنى خلق، ومعنى صير غير خلق، فلما كان خلق حرفا محكما لا يحتمل معنى غير الخلق، ولم يكن من صناعة العباد لم يتعبد الله به العباد فيقول لهم: اخلقوا أو لا تخلقوا، إذ كان الخلق ليس من صناعة المخلوقين وكان من شغل الخالق سبحانه وتعالى". ولما كان جعل على معنى صير لا على- معنى الخلق خاطب الله به العباد بالأمر والنهي فقال: اجعلوا ولا تجعلوا، ولما كان جعل كلمة تحتمل معنيين، معنى خلق ومعنى صير لم يدع الله في ذلك اشتباها على خلقه ولبسا على عباده فيلحد الملحدون في ذلك ويشبهون على خلقه كما فعل بشر وأصحابه حتى جعل على كل كلمة علما ودليلا فرق به بين الجعل الذي يكون على معنى الخلق، وبين الجعل الذي يكون على معنى التصيير، فأما الجعل الذي هو على معنى الخلق فإن الله عز وجل جعله من القول المفصل وأنزل القرآن به مفصلا وهو بيان لقوم يفقهون. والقول المفصل يستغني به السامع إذا أخبر"به قبل " أن توصل الكلمة بغيرها من الكلام إذ كانت قائمة بذاتها تدل على معناها، فمن ذلك قول الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1 فسواء عند العرب قال، وجعل، أو قال وخلق، لأنها قد علمت أنه أراد بهذا اجعل الخلق، لأنه أنزل من القول المفصل، وقال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 2 فعقلت العرب عنه أن معنى هذا وخلق لكم إذ كان قولا مفصلا. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} ، فعقلت العرب عنه أنه عنى بهذا الجعل الخلق، إذ كان من القول المفصل، وسواء عندها قال جعل أو قال خلق، لأنها قد علمت ما أراده وما عنى. ومثل هذا في القرآن كثير جدا، يا أمير المؤمنين، فهذا وما كان على مثاله من القول المفصل الذي يستغني المخاطب به والسامع له بكل كلمة عما بعدها. وأما جعل الذي هو بمعنى التصيير الذي هو غير خلق فإن الله عزوجل أنزله من القول الموصل الذي لا يدري المخاطب "به " حتى تصل الكلمة بالكلمة التي

_ 1 سورة الأنعام آية 1. 2 سورة النحل آية 72.

بعدها فيعلم ما أراد بها، وإن تركها مفصلة لم يصلها بغيرها من الكلام لم يعقل السامع لها ما أراد بها ولم يفهمها ولم يقف على معنى ما عنى بها حتى يصلها "بغيرها". فمن ذلك قول الله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} 1 فلو قال: إنا جعلناك، ولم يصلها بما بعدها لم يعقل داود عليه السلام ولا أحد ممن سمع هذا الخطاب ما أراد الله به. ولا ما عنى بقوله لأنه خاطبه بهذا القول وهو مخلوق، فلما وصلها بخليفة في الأرض، عقل داود وكل من سمع هذا الخطاب ما أراد الله بقوله وما عنى به، وكذلك حين قال الله عز وجل لأم موسى: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 2 فلو لم يصل جاعلوه بالمرسلين لم تعقل أم موسى ما خاطبها به ولا ما عنى بقوله، إذ كان خلق موسى عليه السلام قد تقدم لرده إليها، فلما وصل الكلمة بالمرسلين عقلت أم موسى ما أراد بخطابها، وكذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} 3 وقد كان الجبل قبل أن يتجلى له مخلوقا، فوصل الجعل بدكا، ولو لم يصله لم يعقل السامع له ما أراد الله بقوله، وكذلك قوله عز وجل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 4 فلو لم يصل الكلمة وفصلها لم يعقل أحد ممن سمع ما أراد بدعوتهما وقد كانا قبل دعوتهما مخلوقين فلما وصلها بمسلمين علم كل من سمع ذلك ما أراد بدعوتهما، وكذلك قول إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} 5 فوصله بآمنا، ولم لم يصله ما عقل أحد ممن سمع ذلك ما عنا بدعوته إذ كان بلد مكة مخلوقا قبل ذلك، فلما وصل بآمنا عقل السامع لذلك ما أراد إبراهيم عليه السلام بدعوته، ومثل هذا كثير في القرآن جدا يا أمير المؤمنين. والذي تتعارفه العرب وتتعامل به في لغاتها وخطابها ومعنى كلامها ومخارج ألفاظها هو الذي جرت به سنة الله عز وجل في كتابه إذ كان إنما أنزل بلسانها واكتئب على تبيانها فخاطبهم الله عز وجل بما عقلوه وعرفوه ولم ينكروه ولم يكونوا يعرفون سواه وهو القول الموصل والمفصل.

_ 1 سورة ص 26. 2 سورة القصص آية 7. 3 سورة الأعراف آية 143. 4 سورة البقرة آية 128 5 سورة البقرة آية 126.

فأرجع أنا وبشر يا أمير المؤمنين لما اختلفنا فيه من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 1 إلى سنة الله في كتابه في الجعلين جميعا، وإلى سنة العرب أيضا وما تتعارفه وتتعامل به، فإن كان من القول الموصل فهو كما قلت أنا إن الله جعله قرآنا عربيا، بأن صيره عربيا- أي- أنزله بلغة العرب ولسانها، ولم يصيره أعجميا فينزله بلغة العجم، وإن كان من القول المفصل فهو كما قال ولن يجد ذلك أبدا، وإنما دخل الجهل على بشر ومن قال بقوله يا أمير المؤمنين لأنهم ليسوا من العرب ولا علم لهم بلغة العرب ومعاني كلامها، فتناولوا القرآن على لغة العجم التي لا تفقه ما تقول، وإنما تتكلم بالشيء كما يجري على ألسنتها، فكل كلامهم ينقض بعضه بعضا لا ينتقدون ذلك من أنفسهم، ولا ينتقده عليهم غيرهم لكثرته". قال عبد العزيز: "وسمعت الأصمعي عبد الملك بن قريب، وقد سأله رجل أتدغم الفاء في الياء؟ فتبسم الأصمعي وقبض على يدي وكان لي صديقا، فقال لي أما تسمع، ثم أقبل على السائل وهو يتعجب من مسألته وقوله فقال له: "تدغم الفاء يا الياء في لغة إخواننا بني الأنباء- بني ساسان- يقولون: كيصبحت، فيدغمون الفاء في الياء، أما العرب فلا تعرف هذا". قال عبد العزيز: "فاشتد تبسم المأمون من قوله الأصمعي ووضع يده على فيه". قلت: "وهذا الذي يأتينا به بشر يا أمير المؤمنين من لغة أصحابنا بني الأنباء- بني ساسان". فقال بشر: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك يذمنا ويكفرنا وبقول إنا نحرف القرآن عن مواضعه، وهو قد وضع قدر القرآن وشأنه وسماه بأنقص اسم ووصفه بأخس صفة وأقلها ولقد خالف بقوله كتاب الله عزوجل وحرفه عن مواضعه لأن الله عز وجل سماه كتابا عزيزا، وسماه كريما، وأخبر عنه إنه تام كامل بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2. وسماه عبد العزيز موصلا ومفصلا، فخالف كتاب الله تعالى وصفته وذم ما مدح الله تعالى الموصل عند العرض والعجم وسائر

_ 1 سورة الزخرف أية 3. 2 سورة الأنعام آية 38.

الخلق دون التام الصحيح الكامل، إذ كان الموصل عندهم جميعا الملفق الذي قد وصل بعضه ببعض ولفق بعضه ببعض. فإذا أراد الرجل من العرب وغيرهم أن يضع من قدر الشيء قال: هو موصل وليس هو صحيح، فقد سمي كتاب الله اسما ناقصا وقال فيه إثما وبهتانا عظيما، ولو قلت أنا هذا وما هو دونه لكان قد خطب وكلم واستغاث بأمير المؤمنين وأخرجنا عن الإسلام وهو يقول العظام ويحيل على العرب، وأمير المؤمنين أطال الله بقاه يحلم عنه بفضله وهو يتقوى بحلمه علينا". قال عبد العزيز فقلت لبشر: "وهذا أيضا من جهلك بما في كتاب الله عز وجل، تذمني وتزعم إني سميت كتاب الله اسما ناقصا، وتغري بي أمير المؤمنين، وهو أعلم بما قلت وتكلمت مني ومنك وما قلت إلا ما قال الله عزوجل، وما نسبت إلا ما نسبه إليه وارتضاه له، وهو عند العرب الفصحاء كلام جيد صحيح مرتضى، وأنت تزعم أن كلام الله الذي هو من ذاته مخلوق وتشبهه بكلام المخلوقين من الشعر وقول الزور وغيره، وتنكر علي أن سميته يما سماه الله تعالى" فقال بشر: "وأين سماه الله موصلا ومفصلا. قلت: في كتابه من حيث لا تفهمه ولا تعلمه" فقال: "هاته". قال عبد العزيز فقلت: "قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1فهذه تسمية الله عز وجل لكلامه ووصفه له بنص التنزيل لا بتأويل ولا بتفسير وهو الذي اختاره لنفسه ولكلامه وارتضاه له، وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} 2 فامتدحهم بصلة ما وصل وأثنى عليهم في غير آية من كتابه ووعدهم على ذلك أحسن عدة وهي الجنة، وقالت عز وجل: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} 3 فهذه مدحة الله وهذا ثناء الله، وهذا جزاء الله لمن وصل ما وصل. ولقد ذم الله عز وجل الذين قطعوا ما أمر الله بصلته وذمهم ولعنهم وجعلهم من

_ 1 سورة القصص آية 51. 2 سورة الرعد آية 21. 3 سورة الرعد آية 22-24.

الخاسرين فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 1 فهذا ذم الله لمن قطع ما وصل الله وما أمر بصلته وهو وعيد الله لهم بالنار.، ثم ذكر الله ما في القرآن من المفصل فقال عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 2 وقال عزوجل: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 3 وقال عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 4 وقال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} 5 فهذا قول الله عز وجل وهذه أخبار الله وهذه تسمية الله وهذه نسبة الله عز وجل لكلامه وهذا اختيار الله عز وجل لكتابه ولكلامه وهذا ما ارتضاه الله ورضي به من قائله". قال عبد العزيز: "فأقبلت على أمير المؤمنين المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين يزعم بشر إني سميت كتاب الله اسما ناقصا مذموما وإني ذهبت بقدره وسميته بما لم يسمه الله عز وجل، وإني أتيت بذلك إثما وبهتانا عظيما ويدعي علي الدعاوى وأنا حاضر معه، وإنما ينبغي له إذا تكلمت بشيء يطالبني بإقامة الحجة والدليل على كل لفظة لفظت بها، فإن لم أفعل ذلك فليتكلم بما شاء ولقد أكذبه الله عز وجل في كتابه وذم قوله وأبطله بما أنزل الله في كتابه من ذكر الموصل والمفصل، وما قصد بشر يا أمير المؤمنين بقوله هذا إلا إلى تنقيص العرب كلها وذم كلامها ولغاتها، وما تتعامل به في خطابها، إذ كانت تسمي كلام الله تعالى موصلا ومفصلا، وتسمي كلامها مفصلا وموصلا، وتختار هذه الأسماء لكلامها وترتضيها، وهي عندنا جميلة حسنة صحيحة المعنى لا خلاف بينهم". قال بشر: "ما تعرف العرب من هذا شيئا، وما أنت أعرف بلغة العرب مني،

_ 1 سورة البقرة آية 27. 2 سورة هود آية 1. 3 سورة فصلت آية 1-3. 4 سورة الروم آية 30. 5 سورة الأنعام آية 98.

وكل شيء نسبته إلى العرب فهو مخالف لقولها ولغتها ومذهبها في كلامها". قال عبد العزيز: "فأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك أنت بيت اللغة وأعلم خلق الله بلغة العرب وكلامها وما تتعارفه وتتعامل به في خطابها وأنت الحاكم بيننا فإن أكن تزيدت على العرب منذ اليوم في ما حكيته عن العرب أو نسبته إليهم أو عدلت عن سنتهم أو حدث عنهم وعن مذهبهم وكلامهم وخطابهم ومخارج ألفاظهم فقد استحققت العقوبة من وجهين، أحدهما جرأتي على أمير المؤمنين أطال الله بقاه وقولي بين يديه، وحكايتي عن قومه ما يعلم خلافه مع علمي إنه أعلم خلق الله بذلك. والأخرى كذبي على سائر العرب وادعائي الباطل عليهم وأمير المؤمنين يشهد علي بكذبي وتزيدي وهو في حل وسعة من دمي ومن كل ما يعاقبني به، إن كان قد وقف على ذلك مني. وإن يكن بشر يا أمير المؤمنين قد تزيد في القول، وادعى علي الباطل كان أمير المؤمنين أعلا عينا بالرد عليه ومنعه من قول الزور والكذب". فقال المأمون: "ما قلت يا عبد العزيز منذ اليوم إلا ما تقوله العرب وما تتعارفه وتتعامل به، وما خرجت عن مذهبها، ولو عدلت عن ذلك ما سوغت1 لك الكذب عليها". قال عبد العزيز: فقلت: "الله أكبر الله أكبر كذب بشر والله بشهادة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه- لي عليه- أفلحت ورب الكعبة أفلحت ورب الكعبة وظهر أمر الله وهم كارهون". قال عبد العزيز: "فقال بشر وعلى الخلق أن يتعلموا لغة العرب2 وما تعبدنا الله بهذا، كل إنسان يقول بلغته وبقدر معرفته، وما كلف الله الخلق فوق طاقتهم، ولا طالب أولاد العجم بلغة العرب". قال عبد العزيز: فقلت لبشر: "وكلف الله الخلق أن يتكلموا بما لا يعلمون حيث ادعيت العلم وتكلمت في القرآن العظيم وتأولت كتاب الله على غير ما عناه الله، ودعوت الخلق إلى إتباعك، وكفرت من خالفك وأبحت دمه، والله قد نهى

_ 1 في الأصل ورقة 30/ ب سطر 8 سوغتك. 2 في طبعة المجمع ص 111: لغات العرب كلها ما تعبدنا الله بهذا.

الخلق جميعا فلم يحاش نبيا مرسلا ولا صديقا ولا عبدا مؤمنا أن يقولوا مالا يعلمون، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 1 وقال عز وجل لنوح عليه السلام: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 2 فقال نوح معتذرا إلى ربه معترفا بخطيئته مستغفرا منها: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3 وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ} 4 يذمهم الله بهذا الخبر وذم فعلهم وطريقهم التي سلكوا، فقال بشر: "اخطب حتى تشبع من الكلام ثم أخاطبك". قال عبد العزيز: "فقلت يا أمير المؤمنين إن بشرا قد تحير في ضلالته، وعمي عن رشده، وبانت فضيحة قوله ومذهبه، وانقطع فما يأتي بحجة". فقال بشر: "ما انقطعت ولا تحيرت ولا بانت فضيحة مذهبي، وأنا على بينة من أمري، وما دعوت الناس ولا أدعوهم إلا إلى سبيل الرشاد ولا أنا ولا هم الأعلى سداد وكل من خالفني فكافر حلال الدم". قال عبد العزيز: "فقلت يا أمير المؤمنين ما كان بقي على بشر غير هذا" قد قال كما قال فرعون، ولجأ إلى سبيل فرعون فاتبعها وإلى سبيله فسلكها. فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه ثم قال: "كيف قلت يا عبد العزيز"؟ فأعدت عليه القول فازداد تبسمه ثم قال: "كيف قال بشر ما قال فرعون ولجأ إلى سبيل فرعون"؟ فقلت له: "لما قرأت على بشر القرآن وأوضحت السبيل والبرهان ودللته على طريق النجاة، ونطقت بالحق الذي أنطقني الله به قال بشر إني لعلى بينة من ربي قال هو ما دعوت الناس إلا إلى سبيل الرشاد، وكذلك قال فرعون

_ 1 سورة الإسراء آية 36. 2 سورة هود آية 46. 3 سورة هود آية 47. 4 سورة آل عمران آية 7.

حين أنطق الله من وفقه لقول الحق قال عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} 1 قلت: قال هذا المؤمن الحق الذي أنطق الله به لسانه وسدد به قوله وسمعه فرعون وقومه قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} 2 وكذلك بشر يا أمير المؤمنين حين سمعني أقول الحق وفقني الله إليه وأنطق به لساني، فقال: إني لعلى بينة من ربي وما دعوت الناس إلا إلى سبيل الرشاد فأجاب بمثل ما أجاب به فرعون عند سماع الحق واتبع سبيله وما عدل عنها فبشر مرة يتبع سبيل الشيطان ويأمر بما أمر به الشيطان وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 3 ومرة يتبع سبيل اليهود في تحريف القرآن عن مواضعه، وقد قال الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} 4 إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} 5وقال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه} 6 ومثل هذا كثير، ومرة يتبع سبيل الكفار في التسوية بين الله وبين خلقه في خلق الأشياء، ومرة يتبع سبيل عبدة الأصنام في الحيدة عن الجواب وقد قال الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} 7 ومرة يتبع سبيل فرعون والقول بمثل قوله وقد قال الله عزوجل: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبَابٍ} 8 وقال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} 9 وقال عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 10. فقال بشر: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءكم إنما يتكلم ويخطب لينسي خصمه حجته ويشغله بغيرها، ولولا بسط أمير المؤمنين إياه لم يقدر يدير لسانه في فمه ولكنت ظاهرا عليه، ثم أقبل بشر علي" وقال: "لو خطبت إلى غد ما تركت مطالبتك

_ 1 سورة غافر آية 28-29. 2 سورة غافر آية 29 3 سورة النساء آية 76. 4 سورة النساء آية 46. 5 سورة النساء آية 52. 6 سورة البقرة آية 61. 7 سورة غافر آية 25. 8 سورة غافر آية 37. 9 سورة الأنبياء آية 18. 10 سورة الإسراء آية 81

بما قلت فدع عنك الهذيان وأقبل علي". قال عبد العزيز: فقلت له: "تكلم بما شئت حتى أجيبك". فقال بشر: "تعبد الله الخلق أن يعرفوا الموصل والمفصل وما يضر الخلق أن لا يعرفوا ذلك ولا يتعلمونه". فقال له المأمون: "قد رجعنا إلى الكلام الأول". فقال بشر: "أدهشني بكلامه وخطبه عن تمام الكلام في هذا وهو يتوهم أنه كسر قولي بهذا المفصل والموصل الذي لا يحتاج إلى معرفته (أ/32) ولا يطالب أحد به". قال عبد العزيز: "فقلت لبشر بل قد تعبد الله الخلق أن يعرفوا ذلك ويتعلمونه لئلا يصلوا ما فصل الله ويفصلوا ما وصل الله عزوجل". قال: "ما الحجة في ذلك والدليل على صدق قولك". قال عبد العزيز: "فقلت له أما سمعت ما قرأت عليك من كتاب الله وما تلوت عليك من الآيات المحكمات فيمن وصل ما أمر الله به أن يوصل ومن قطع ما أمر الله به أن يوصل وما وعد الله هؤلاء من حسنى وعقبى الدار، وما توعد الله به هؤلاء من اللعنة والعذاب وسؤ الدار". فقال بشر: "دع ذكر ما مضى فمالك فيه حجة واحتج الساعة بشيء أفهمه". قال عبد العزيز: "فقلت له صدقت أنك ما فهمت ما مضى ولو فهمت ما قلت ما قلت، وأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إن في بعض ما مضى لكفاية وبلاغ ولكن بشر يزعم أنه لم يفهم شيئا مما مضى وأنا أتكلم في ذكر المفصل والموصل من القرآن وأحتج للعرب في صحة لغاتها ومذاهبها في كلامها وخطابها". قال عبد العزيز فقال المأمون: "إن كان بشر لم يفهم ما مضى فكذلك لا يفهم إعادة ما يأتي فدع إعادة شيء قد مضى وظهرت لك الحجة فيه فإن هذا وقت الصلاة". فقلت: "يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشيء لم أتكلم به في هذا المعنى أقيم به الحجة على بشر وأرجو أن يستحسنه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من غزير إطالة الكلام". فقال: "تكلم وأوجز". قال عبد العزيز: "فأقبلت على بشر فقلت: زعمت يا بشر إن الله لم يتعبد

الخلق بمعرفة الموصل والمفصل فمن زاد فيه شيئا أو نقص منه كان كافرا". قال بشر: "ما قلت هذا يا أمير المؤمنين وهو يدعيه علي". فقلت له: "أخبرني عمن قال إن الله عز وجل لم يتعبد الخلق بمعرفة لشيء، من هذا أو غيره أو زاد فيه أو نقصه كان كافرا، أيكون صادقا أو كاذبا"؟ فقال: "كاذبا وإنما أقول كل شيء إذا زيد فيه أو نقص منه أو غير عما هو عليه كان فاعل ذلك (32/ب) كافرا لأن الله تعبد الخلق، بمعرفته وعلمه". فقلت له: "قد وافقتني وأجبت نفسك عني وأقررت بما أنكرت". فقال بشر: "دع الكلام والتشبيه عنك وأقم الشاهد والدليل على ما تقول" قال عبد العزيز فقلت له: "قال الله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1 فأخبر الله عز وجل أنه لا إله إلا هو وشهد بذلك لنفسه وشهدت له الملائكة وأولو العلم بمثل ذلك فلو قال رجل شهد الله أنه لا إله وقطع الكلام والصلة عامدا كان كافرا لأنه زعم أن الله شهد أن لا إله وشهدت له الملائكة وأولو العلم بذلك ومن قال هذا عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه أعظ م على الله عز وجل الفرية وأبطل الربوبية وجحد أن يكون الله تعالى الها واستشهد ملائكته وأولو العلم على قوله، فإذا وصل الكلمة كما وصلها الله عز وجل فقال: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم كان صادقا وكان قد قال ما قال الله عز وجل وشهد به لنفسه وشهدت به الملائكة وأولو العلم وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 2 وكذلك كل ما في القرآن من التهليل فعلى هذا المعنى من فصله من صلته وزاد فيه أو نقص منه كان كافرا، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 3 لو أن رجلا قال: إن الله لا يستحي وقطع الكلام عامدا كان كافرا لأنه زعم أن الله لا يستحي، ومن قال هذا فقد أعظم الفرية إذ أخبر عن الله أنه أخبر عن نفسه أنه ا، يستحي فقد كفر وحل دمه بقوله هذا وكذلك

_ 1 سورة آل عمران آية 18. 2 سورة آل عمران آية 2، وسورة البقرة/ 255. 3 سورة البقرة آية 26.

قوله في سورة الأحزاب: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقّ} 1 فلو قال رجل: والله لا يستحي وقطع الصلة عامدا كان كافرا حتى يصل ما وصل الله في الحرفين فيقول في الأول أن يضرب مثلا ويقول في الآخر من الحق فيكون قد وصل ما وصل الله ولم يقطعه وإن لم يصله كان كافرا حلال الدم، وقال الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُو} 2 (33/أ) فلو قال رجل: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها وقطع الصلة عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه زعم أن الله لا يعلم الغيب، ومن زعم هذا فقد رد خبر الله عز وجل ورد قول الله عز وجل بشهادته لنفسه بعلم الغيب بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 3 وقوله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} 4 وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 5 فمن قال إن الله لا يعلم الغيب فقد كفر وحل دمه، فإذا وصل ما وصل الله عزوجل ولم يقطعه فقال: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو كان صادقا وكان قد قال ما قال الله عز وجل ووصل ما وصل الله عزوجل ومثل هذا في القرآن كثير". قال المأمون: "أحسنت يا عبد العزيز"، قال عبد العزيز فقلت لبشر: "استمع لما في مسألتك". فقال بشر: هاته، قال عبد العزيز: "وأما المفصل الذي لا يجوز صلته فقول الله عز وجل: (للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء) هاهنا تم الكلام ثم يبتدي القاري فيقول: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6 فلو قال رجل لفذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله وقطع الكلام عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه زعم أن لله مثل السوء وشبهه جل ذكره بالذين لا يؤمنون بالآخرة وأدخله معهم في المثل السوء، فإذا فصل الكلام كما فصله الله ولم يصله بما لم يصله الله به فقال: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء وقطع الكلام كان صادقا وكان

_ 1 سورة الأحزاب آية 53 2 سورة الأنعام آية 59. 3 سورة الرعد آية 9. 4 سورة الجن آية 26-27. 5 سورة فاطر آية 38. 6 سورة النحل آية 65.

قد وقف على تمام الكلام وفصل ما فصل الله عزوجل ولم يصل ما فصل الله قال الله عز وجل: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) هاهنا تم الكلام ثم يبتدي القاري فيقرأ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} 1 فلو قال رجل: "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله وقطع عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه قد أعظم الفرية على الله عز وجل وزعم أن الله قد أخبر أن كلمته سفلى مع كلمة الذين كفروا فشبه (33/ب) الله تعالى بالذين كفروا فإذا فصل الكلام من الصلة فقال وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ووقف على ذلك وقطع الصلة كان صادقا وكان فصل ما قد فصل الله عزوجل". قال عبد العزيز: "فأقبل علي المأمون" فقال: "أحسنت أحسنت يا عبد العزيز وقد أبلغت فلا تحتاج إلى زيادة، ثم أقبل على بشر" فقال: "يا بشر هل عندك شيء تحتاج تسأل عنه عبد العزيز أو تحتج به عليه فقد ظهرت حجته ووضح قوله عندنا. قال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك هذا يريد نص التنزيل بكل شيء يتكلم به أو يلفظ به وليس كل ما يتكلم به الناس ويحتجون به يجدونه في نص التنزيل وإنما يجدونه في التأويل وهذا لا يقبل التأويل ويبطل التفسير حتى كأنه كان يشاهد التنزيل وهذا مالا أسوغه أنا للمناظرين ولا أطيقه للمتكلمين إذ كان الناس لا يجدون علم ما يختلفون فيه ويتنازعون من أمر دينهم في كتاب الله عز وجل بنص التنزيل ولو كان هذا كما يقول عبد العزيز لبطل التفسير كله وبقي الناس في حيرة من أمر دينهم والناس جميعا يوافقوني على قولي ويخالفون عبد العزيز". قال عبد العزيز: "فقلت يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك كل ما يتكلم به الناس من علم دينهم وما يختلفون فيه ويتنازعون فيه فهو موجود في القرآن وفي غيره من كتبه لقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 وقوله: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3 فليس من شيء يحتاج إليه يا أمير المؤمنين إلا وهو موجود في القران عقله من عقله وجهله من جهله".

_ 1 سورة التوبة آية 40. 2 سورة الأنعام آية 38. 3 سورة الأعراف آية 144- 145.

قال عبد العزيز: "فجثى محمد بن الجهم على ركبتيه وقال يا عبد العزيز زعمت أن كل شيء يتكلم به الناس ويحتاجون إلى معرفته موجود في كتاب الله بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير فأوجدنا أن هذا الحصير مخلوق أو غير مخلوق في كتاب الله تعالى بنص التنزيل ووضع يده على حصير مرمي (34/أ) كان تحتنا مبسوطا في الإيوان" فقلت له: "نعم علي أن أوجدك ذلك". قال عبد العزيز فأقبلت عليه فقلت له: "أخبرني عن هذا الحصير أليس هو من سعف النخل وجلود الأنعام"؟ قال: "بلى". قلت: "فهل فيه شيء غير هذا"؟ قال: "لا". فقلت له: "هل هاهنا شيء غير هذا" قال: "لا". فقلت له بل هاهنا شيء صار به حصيرا يجلس عليه". قال: "وما هو"؟ قلت: "الإنسان الذي صنعه وألفه وأحكمه" قال: "نعم". قال عبد العزيز: "فقلت له قال الله عز وجل وقد ذكر الأنعام فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} 1 وأما السعف فإن الله ذكره فقال: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 2 وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} 3 فقد كمل خلق الحصير بنص القرآن بلا تأويل ولا تفسير، فهل عندك مثل هذا في خلق القرآن تذكره وتحتج به وإلاّ فقد بطل ما تدعونه في خلقه وصح ولم يزل صحيحا أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق من كل جهة. قال فصاح المأمون: يا محمد بن الجهم مالك وللكلام خل بين الرجل وصاحبه حتى يكلمه وأقبل على بشر فقال: يا بشر هل عندك شيء تناظر به عبد العزيز قبل أن نصرفه ونقوم فقد طال المجلس وصليت الظهر. فقال بشر: يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة فدمي حلال". فقال المأمون: "لهذا مجلس تناظرون فيه". قال عبد العزيز فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن رأيت أن تأذن لي فأناظره كما سأل على جهة النظر

_ 1 سورة النحل آية هـ. 2 سورة الواقعة آية 72. 3 سورة المؤمنون آية 12.

والقياس وأدع مطالبته بالقرآن ونص التنزيل ويكون أمير المؤمنين أطال الله بقاءه الشاهد علينا والمحتفظ لكلامنا فإن أقام بشر علي الحجة كما زعم وأقررت بشيء مما قال ورجعت عن شيء مما قلت (34/ب) فدمي حلال كما قال بشر وإن ثبتت الحجة عليه من القياس والنظر كما ثبتت عليه من القران والسنة وشهد عليه أمير المؤمنين بذلك فقد حل دمه بما شرط على نفسه". قال عبد العزيز: "فقال المأمون أنا الشاهد عليكما والحاكم بينكما فأوجزا واقتصرا ولا تطيلا فيخرج وقت الصلاة. قال عبد العزيز لبشر: أتسألني أم أسألك؟ فقال: سل أنت فطمع في هو وجميع أصحابه وتوهموا أني إذا خرجت عن التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره. قال عبد العزيز فقلت لبشر: تقول إن كلام الله مخلوق. فقال: إن القرآن مخلوق، قال عبد العزيز فقلت له يلزمك واحدة من ثلاث لابد أن تقول أن الله عز وجل خلق القرآن وهو عندي أنا كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائما بذاته ونفسه فقل ما عندك". قال بشر: "أقول إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها. قال عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين تركنا القرآن والسنن والأخبار عند هربه منها وناظرناه بالقياس والكلام لما ادعاه وذكر أنه يقيم الحجة علي به وإني أقر معه بخلق القرآن، فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع الكلام فإن كان يريد مناظرتي على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلاّ فأمير المؤمنين أعلا عينا في ما يراه في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيحيد عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح بذلك دمه". قال فأقبل عليه المأمون فقال: "أجب عبد العزيز عما سألك فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه". فقال بشر: "قد أجبته ولكنه يتعنت. فقال له المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث". قال: هذا شر من مطالبته بالتنزيل ما عندي غيرها أجبت به. قال عبد العزيز: "فأقبل (35/أ) علي المأمون فقال يا عبد العزيز تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة.

فقلت يا أمير المؤمنين سألته عن كلام الله عز وجل أمخلوق هو" قال: "نعم". فقلت له: "ما صح يلزمك في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لابد منها أن تقول إن الله خلق كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائما بذاته. فإن قال إن الله خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر معقول لأن الله عز وجل لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى أدته عن ذلك وجل وتعاظم. وإن قال:" خلقه في غيره فيلزمه في النظر والقياس أن يمل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل الشعر كلاما لله تعالى ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذم قائله كلاما لله عز وجل وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به لظهور الشناعة والفضيحة على قائله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا". وإن قال: "خلقه قائما بنفسه وذاته وهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا القدرة إلا من قادر ولا رئي ولا يرى كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته وهذا مالا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا ثبت أنه صفة لله عز وجل وصفات الله عزوجل كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر يا أمير المؤمنين من جهة النظر كما بطل من جهة القرآن والتنزيل". فقال المأمون: "أحسنت "يا عبد العزيز فقال بشر: "تسأل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج بيننا شيء يسمع فقلت نعم أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها (35/ب) " فقال: "سل يا عبد العزيز." قال عبد العزيز فقلت لبشر: "تقول إن الله كان ولا شيء، وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا". قال: "بلى". فقلت له: "بأي شيء حدثت الأشياء بعد إذ لم تكن شيئا أهي أحدثت أنفسها أم الله أحدثها"؟ قال: "الله أحدثها". فقلت له: "فبأي شيء أحدثها"؟ قال: "أحدثها بقدرته التي لم تزل". قلت له: "صدقت أحدثها

بقدرته أفليس تقول إنه لم يزل قادرا"؟ قال: "بلى. قلت له: فتقول إنه لم يزل يفعل"؟ قال: "لا أقول هذا. قلت له: فلابد من أن يلزمك أن تقول إنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة الله ولا يقال لصفة هي الله ولا هي غير الله". قال بشر: "ويلزمك أيضا أن تقول إن الله أيزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد أثبت أن المخلوق أيزل مع الله سبحانه وتعالى". قال عبد العزيز فقلت له: "ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل إذ لم أقل إنه لم يزل فاعلا يفعل فيلزمني مثل ما قلت وإنما قلت إنه أيزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة لله عز وجل يقدر علي ولا يمنعه منه مانع". قال بشر: "أنا أقول إنه أحدث الأشياء بقدرته فقل أنت ما شئت". قال عبد العزيز: "فقلت يا أمير المؤمنين قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء معه وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن الأشياء بقدرته، وقلت أنا إنه أحدثها بأمره وقوله عز وجل عن قدرته فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله بقول قاله أو بإرادة أرادها أو بقدرة قدرها فأي ذلك فقد ثبت إن هاهنا إرادة ومريد وقول وقائل ومقال وقدرة وقادر ومقدور عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل الخلق فليس هو من الخلق في شيء وكسرت والله يا أمير المؤمنين قول بشر ودحضت حجته بإقراره بلسانه فقد كسرت قوله بالقرآن والسنة واللغة العربية، والنظر والمعقول، ولم يبق إلا القياس، وأنا أكسره بالقياس إن شاء الله تعالى". قال عبد العزيز: "وكان المأمون قد جلس منا مقعد الحاكم من الخصمين". فقال: "هاته يا عبد العزيز وأوجز"، فقلت: "يا أمير المؤمنين، لو كان لبشر غلامان، وأنا لا أجد عليهما في أحد من الناس إلا من بشر، يقال لأحدنا خالد، وللآخر يزيد، وكان بشر غائبا عني فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها، ادفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب. وكتب إلي أربعة وخمسين كتابا "يقول في كل

كتاب "1 ادفع إلى يزيد، ولم يقل: يزيد غلامي، هذا الكتاب، ثم كتب إلي كتابا جمعهما فيه فقال: ادفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم يقل، يزيد غلامي. ثم قدم بشر من سفره، فقال: أليس تعلم أن يزيد هذا غلامي؟ فقلت له: قد كتبت إلي أربعة وخمسين كتابا "تقول في كل كتاب منها"2 ادفع هذا الكتاب إلى يزيد ولم تقل غلامي، ولم أسمعك تقول إنه أحد غلاميك، وأنا لا أجد علمه عن أحد غيرك. وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا- تقول في كل واحد منها- ادفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب فعلمت إنه غلامك، ثم كتبت إلي كتابا جمعتهما فيه فقلت: ادفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم تقل غلامي، فمن أين أعلم أن يزيدا غلامك وأنت لم تقل لي قبل هذا الوقت إنه كلامك وليس أعلم خبر هما من غيرك". فقال: "بشر فرطت، فحلفت أنا إن بشرا فرط، وحلف بشر إني أنا فرطت حيث لم أعلم إن يزيدا غلامه من كتبه، فأينا المفرط يا أمير المؤمنين". فقال: "بشر المفرط، فقال بشر وأي شيء هذا مما نحن فيه". قال عبد العزيز: "إن الله أخبر في كتابه عن خلق الإنسان في ثمانية عشر موضعا، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه. وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا من كتابه فلم يخبر عن خلقه في موضع منها ولا أشار إليه بشيء من صفات الخلق، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد وأخبر عن خلق الإنسان، ونفى الخلق عن القرآن. فقال عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ} 3 ففرق بين القرآن وبين الإنسان، فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن الله عزوجل فرط في الكتاب، وكان يجب عليه أن يخبر عن خلق القرآن، وقال الله عز وجل {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} 4 فهذا كسر قول بشر لا القياس والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".

_ 1 من طبعة المجمع ص 132 2 مصدر السابق 3 سورة الرحمن آية 1-3. 4 سورة الأنعام آية 38.

قال المأمون: "أحسنت يا عبد العزيز، ثم أمر لي بعشرة ألاف درهم، فحملت بين يدي وانصرفت من مجلسه على أحسن حال وأجملها، قد أعز الله دين الإسلام وعز أهله وأذل الكفر وأهله فلله الحمد والشكر على نعمه كلها وعلى مننه وتوفيقه وتسديده". قال عبد العزيز: "فسر المسلمون جميعا بما وهبهم الله من إظهار الحق وقمع الباطل، وانكشف عن قلوبهم ما كان قد اكتنفها من الغم والهم والحزن وجعل الناس يجيئون إلي أفواجا حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفا على نفسي وعليهم من مكروه يلحقنا، فقالوا: لابد أن تملى علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فتهيبت ذلك، وتخوفت سوء العاقبة، فلما ألحوا علي قلت: أنا أذكر بعض ما جرى مما لا يكون علي حجة في ذكره فرضوا بذلك، فأمليت عليهم أوراقا يسيرة مقدار عشر أوراق مختصرة مما جرى لأقطعهم بها عني وعن ملازمة بابي، ولم يتهيأ لي شرح هذا كله لما تخوفت على نف! حي مما يلحقني بعضه"، وأنا أذكر ما لحقني بعد هذا المجلس وما جرى بسبب تلك الأوراق التي كتبها الناس عني في كتاب مفرد بعد هذا إن شاء الله تعالى1 "آخر كتاب الحيدة". قال عبد العزيز الكناني: "وكان خلف ظهري وأنا في مجلس أمير المؤمنين المأمون أناظر بشرا المريسي على ما سأذكره في هذا الكتاب رجل ممن يعرف بالكلام والنظر، فجعل كلما سكت بشر وانقطع يحرضه على الكلام، وإذا أردت أنا أن أتكلم لا يزال يهذي خلفي ويقرب رأسه من أذني ليسمعني ويدهشني ويقطعني بذلك عن حجتي، فشكوت إلى أمير المؤمنين ذلك فصاح به وباعده عني، فلما قلت لبشر: ما من شيء كان أو هو كائن مما يحتاج الناس إلى معرفته وعلمه إلا وقد ذكره الله عز وجل في كتابه عقله من عقله، وجهله من جهله"، فإذا ذلك الرجل يضرب يده على فخذه ويقول: "يا سبحان الله تزعم أن كل ما هو كائن مما يحتاج إليه قد ذكره الله ما أعظم هذا وكيف يعلم ما هو كائن فيذكره"؟ قال عبد العزيز: "فالتفت إليه فقلت له أنت جهمي قدري أيضا وأنت تهذي دائما، ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن هذا الذي

_ 1 إلى هنا آخر طبعة مركز شئون الدعوة.

شكوت إليك أذاه منذ اليوم. هو جهمي قدري قد جمع الأمرين من جهتين، ينكر أن يكون الله يعلم ما يكون قبل أن يكون"، فقال المأمون؟ هذا قوله، فقلت له: "إن رأي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن يأذن لي حتى أكذبك وأكسر قوله وأدحض حجته وأبطل مذهبه بنص التنزيل الساعة". فقال المأمون: "لهذا وقت غير هذا ومجلس غير هذا تتكلم معه ومع غيره في القدر خاصة". قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين ليس أطول إنما أحتج عليه بآية واحدة. فقال المأمون: قل ما تريد". قال عبد العزيز فقلت له: "أتنكر أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون". قال: "نعم. أنا أنكر هذا". فقلت: "والله يا أمير المؤمنين لقد علم الله ما لم يكن، ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون. فصاح الرجل ما أجرأك على الكذب الحمد لله الذي أخذك بلسانك". فقال لي المأمون: "أعد هذا الكلام يا عبد العزيز. فقلت له: نعم والله لقد علم الله ما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون". فقال لي المأمون: "يا عبد العزيز هذا شيء تقوله من نفسك أو شيء تحكيه عن غيرك، فقلت له: هذا شيء أخبرنا الله به في كتابه الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم"، فقال لي المأمون: "وأين ذلك من كتاب الله عز وجل". قال عبد العزيز فقلت له: "قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 1 في قولهم هذا، وهذا ما لم يكن ولا يكون لأنهم لا تردون لا هم ولا غيرهم، فأخبر عز وجل بعلمه السابق فيهم أن لوردوا ما كانوا فاعلين، ولن تردوا أبدا، فهذا ما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف يكون".

_ 1 سورة الأنعام آية 26-27.

فقال لي المأمون: "أحسنت يا عبد العزيز، وما قلت في يومك هذا أحسن ولا أدق من هذا". فقلت: "قد أكذبت والله أهل هذه المقالة وكسرت قولهم ودحضت حجتهم وأبطلت مذهبهم بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير والحمد لله رب العالمين". تم كتاب الحيدة بعون الله تعالى وتوفيقه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وكان الفراغ من نسخه أواخر جماد الأولى سنة 1191 واحد وتسعين ومائة وألف. والله ولي التوفيق1.

_ 1 وقد أتممت نسخ 9 الحيدة! مساء الأحد 7/ 1/ 411 اهـ بمدينة اسطنبول بتركيا في الدورة الثانية التي تنظمها الجامعة الإسلامية لنشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية والحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... ثبت المراجع القرآن الكريم العبر للذهبي. الكويت سنة 1965 م تحقيق/ المنجد. الفهرست لابن النديم/ مطبعة الاستقامة بالقاهرة. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي/ طبعة دار الكتاب العربي. بيروت دول الإسلام للذهبي/ طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب العربي. بيروت. طبقات الفقهاء للشيرازي/ طبعة سنة 1970 م دار الرائد العربي. بيروت. طبقات الشافعية لابن كثير/ مخطوط مكتبة الشيخ حماد طبقات الشافعية للسبكي/ الطبعة الأولى سنة 1383 هـ. الحلبي الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية/ الطبعة الأولى عام 1381 هـ. مطابع الرياض الكامل لابن الأثير/ طبعة عام 1402 هـ. دار صادر. ميزان الاعتدال للذهبي/ الطبعة الأولى سنة 1382 هـ. الحلبي. فتح الباري لابن حجر/ المطبعة السلفية سنة 380 اهـ. تهذيب التهذيب لابن حجر/ دار صادر. بيروت. المنتظم لابن الجوزي/ الطبعة الأولى دائرة المعارف حيدر آباد سنة 1359 هـ شذرات الذهب لابن العماد/ المطبعة التجارية. بيروت. شرخ الطحاوية لابن أبي العز/ الطبعة الثانية/ تحقيق: زهير الشاوش

§1/1